ولا ريب أن عمر بن الخطاب بتصريحه هذا وما تضمن من أنه لا يخاف الله في إلحاق الآية في المصحف ولكنه يخالف كلام الناس فقط قد ألقى ضلالا كثيرة من الشك على تمامية القرآن وصيانته من التحريف ، ولو أحسن العاقل الظن به لسأل نفسه أليس من الأمر الجسيم المضر بالقرآن وأهله إصراره المتواصل وعلى المنبر أمام الملأ بأن هذه الآية سقطت وفقدت من القرآن بلا أن يذكر سبب ذلك ؟!
  والصحيح أن ابن الخطاب ـ وهو ظاهر كلامه ـ كان معتقدا بقرآنية تلك الجملة وبوجوب دمجها مع البقية الآيات في المصحف ولكن كلام الناس هو الذي منعه من إصلاح هذا التحريف الذي وقع في القرآن بإسقاط هذه الآية ، وهذا كلامه الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما : ( وأيم الله ! لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها ) ، فهذا يعني أنـها من نفس القرآن المدون في المصحف في نظر عمر !
   => وكذا : ( أخرج نصر في الحجة وابن عساكر عن زرعة قال : رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحلقة ويجلس وهم لا يعرفونه فتناديهم الحلقة الأخرى : عزمة أمير المؤمنين عمر ، فيقومون ويدعونه )
  وكذا : ( أخرج نصر في الحجة عن أبي إسحاق أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري : أما بعد فإن الأصبغ تكلف ما يخفى وضيع ما ولي فإذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه وإن مرض فلا تعودوه إن مات فلا تشهدوه )
  وكذا : ( أخرج الهروي في ذم الكلام عن الأمام الشافعى رضي الله عنه قال : حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بـهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام )
  وفي شرح الزرقاني ج3ص33 : ( وروى الدارمي عن سليمان بن يسار ونافع قالا : قدم المدينة رجل فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وأعد له عراجين النخل ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبيغ ، قال : وأنا عبد الله عمر ! فضربه حتى دمي رأسه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي ، ثم نفاه إلى البصرة .
   رواه الخطيب وابن عساكر عن أنس والسائب بن يزيد وأبي عثمان النهدي وزادوا عن الثالث : وكتب إلينا عمر لا تجالسوه فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا ، وروى إسماعيل القاضي عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر إلى أبي موسى لا تجالس صبيغا وأحرمه عطاءه ، وأخرج ابن الأنباري وغيره بسند صحيح عن السائب بن يزيد قال : جاء صبيغ التميمي إلى عمر فسأله عن الذاريات … الحديث.
  وفيه : فأمر عمر فضرب مائة سوط فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى ثم حمله على قتب وكتب إلى أبي موسى حرم على الناس مجالسته فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له أنه لا يجد في نفسه شيئا فكتب إلى عمر أنه صلح حاله فكتب إليه خل بينه وبين الناس فلم يزل صبيغ وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم ).
  أقول : كل هذا لأنه سأل عن معنى الذاريات ذروا ‍‍!! ، قارن بين فعل عمر وفعل أمير المؤمنين عليه السلام كما أخرجه الطبري في تفسيره ج26ص186: ( عن أبي الصهباء البكري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وهو على المنبر : لا يسألني أحد عن آية من كتاب الله إلا أخبرته ، فقام ابن الكواء وأراد أن يسأله عما سأل عنه صبيغ عمر بن الخطاب فقال : ما الذاريات ذروا ؟ قال علي ( عليه السلام) : الرياح ) ، وهكذا بلا أي معاناة ! ومحل الكلام من كل هذا أنه لأجل سؤال عن كلمة واحدة فعل به عمر ما فعل ، فيتضح أن عدم الإنكار والاعتراض على شخص عمر وهو بـهذه العصبية والغلظة لا يعني موافقة الناس ورضاهم ، ولا نظن أن الكل كان راضيا عن فعل عمر حينما أمر بجمع الحطب لإحراق بيت فاطمة عليها السلام ، ولكن الغلظة وبعض كبار المنافقين من وجوه الصحابة وكذا بنو أسلم الذين كانوا يأتمرون بأمر عمر كانت بأجمعها أسبابا لسكوت البسطاء من الناس .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 477 _
  لذلك احتار بعض علماء أهل السنة في توجيه هذه الجملة وما فيها من ملازمة بين الكتابة ومخافة قول الناس ! قال السبكي في الإبـهاج :
  ( وأنا لا يبين لي معنى قول عمر : لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها ، إذ ظاهر هذا أن كتابتها جائزة وإنما منعه من ذلك قول الناس ، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه ، وإذا كانت كتابتها جائزة لزم أن تكون التلاوة باقية لأن هذا شأن المكتوب ، وقد يقول القائل في مقابلة هذا لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر إلى كتابتها ولم يعرج على مقال الناس لأن مقال الناس لا يصلح مانعا من فعل هذا الواجب ، وبالجملة لا يبين لي هذه الملازمة أعني ( لولا قول الناس لكتبت ) ولعل الله أن ييسر علينا حل هذا الأثر بمنه وكرمه ، فأنا لا نشك في أن عمر إنما نطق بالصواب ولكنا نتهم فهمنا ) (1) .
  وهكذا ، نسخّف عقولنا لأن فلانا من الناس لا يُحتمل أن يخطئ ! ، فكل ما يقوله صواب في صواب مع أنـهم يقولون بعدم عصمته ! ، ولا أدري كيف يدعون عدم عصمته مع أنـهم يعاملونه معاملة المعصوم ؟!
  وعلى أيّة حال فإن الله عز وجل تكفّل بكتابه حافظا صائنا وقد قال تعالى في كتابه المجيد ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 ) ، ومن أصدق من الله حديثا ؟
  * عمر يعتقد أن الله أخطأ في إنزال آية الرجم لذا كره النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابتها !
  جاء بسند صحيح في مسند أحمد : ( حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت قال : كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف ، فمروا على هذه الآية ، فقال زيد : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة ، فقال عمر : لما أنزلت هذه أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : أكتبنيها ؟ ـ قال شعبة : فكأنه كره ذلك ـ فقال عمر : ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد وإن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم ؟! " (2) .

--------------------
(1) الإبـهاج في شرح المنهاج للسبكي ج2ص242 .
(2) مسند أحمد ج5ص183ح21636 ، سنن البيهقي الكبرى ج 8 ص 211 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 478 _
  الرواية تدعي أن زيد بن ثابت ذكر هذه الجملة على أنـها قول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل أنـها قول لله عز وجل حتى تكون قرآنا في نظره (1) ، نعم قول عمر نص صريح في أنـها قرآن في نظره ، ولكن قول عمر هو الكفر أقرب منه للإيمان ، إذ ادعى أن هذه الآية المزعومة حينما نزلت جاء عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأراد كتابتها فكره النبي صلى الله عليه وآله سلم ذلك ! (2) ، فعلل عمر لزيد سبب كراهية النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابة هذه الأية التي تنص على أن الشيخ والشيخة إذا زنيا يرجمان مطلقا ، بأن الزاني إن لم يكن محصنا لا يرجم في الإسلام حتى وإن كان شيخا ! ، فقول عمر هذا صريح في أنه يرى أن الله عز وجل أخطأ في هذه الآية وخالف حكمه المعروف في الشيخ الزاني غير المحصن الذي يجلد ولا يرجم ، ولا ريب أنا لا نقبل ما نسبه عمر لله تعالى الله عن قوله علوا كبيرا ، لأن العقيدة الإسلامية تتناقض مع نسبة الخطأ والغلط لله عز وجل .
  والأعجب من ذلك أن زيد بن ثابت المتفاني في تقليد سيده عمر أخذ بـهذا الكفر كما في رواية البيهقي بسنده :
  ( عن محمد قال نبئت عن ابن أخي كثير بن الصلت قال : كنا ثم مروان وفينا زيد بن ثابت قال زيد : ثم كنا نقرأ ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) ، قال فقال مروان : أفلا نجعله في المصحف ؟ ، قال : لا ! ألا ترى الشابين الثيبين يرجمان ؟! ، قال وقال : ذكروا ذلك وفينا عمر بن الخطاب قال : أنا أشفيكم من ذاك ، قال : قلنا : كيف ؟ قال آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأذكر كذا وكذا فإذا ذكر الرجم ، أقول يا رسول الله أكتبني آية الرجم ؟ قال : فأتيته فذكرته ، قال : فذكر آية الرجم ، قال : فقال : يا رسول الله أكتبني آية الرجم ؟ قال : لا أستطيع ذاك ) (3) .
  وهذه الرواية يدعي فيها عمر أنه جاء مرة أخرى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن آية الرجم ، ولكن هذه المرة كان سؤال عمر استدراجي وبطريقة غير مباشرة !

--------------------
(1) لذا لا يمكن قبول دعوى أن هناك من نسب هذه الجملة للقرآن قبل أن يتفوه عمر بـها ، لأن هذا الرأي لا ينسجم مع عدم وجود شاهد آخر يشهد مع عمر على أنـها من القرآن ، خاصة وأن نفس زيد هذا هو الكاتب الذي طلب من عمر الشاهد الثاني ، فكيف يعلم زيد بقرآنيتها ثم يمتنع عن كتابتها لعدم وجود شاهد آخر مع عمر ؟! ، نعم قد يوجد من يقول بذلك تقليدا لعمر .
(2) هل من المعقول أن يكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابة آية نزلت لتوها ؟! ، ولماذا ؟ ، هل لأن الله نسخها فور نزولها ؟!! ، أم أنـها نزلت منسوخة ؟!! ، فما نسبه عمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر لا يمكن تصديقه .
(3) سنن البيهقي الكبرى ج 8 ص 211 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 479 _
ملاحظة مهمة : ( بآية الرجم )
  هذه الجملة المتهالكة والمسماة بآية الرجم وردت في كتب الشيعة الروائية وأقر الإمام جعفر الصادق عليه السلام بوجودها في القرآن ، ولا غرابة في ذلك ، لأن إنكاره لقرآنية هذه الجملة يعتبر رميا لنفسه في التهلكة ، إذ كلما ذكرت هذه المزعومة في محفل اقترن ذِكرها بذكر ابن الخطاب مرسي قواعد الخلافة المناهضة لأهل البيت عليهم السلام والذي كان موضع اعتزاز وتقدير عند أعداء أهل البيت من الخلفاء الأمويين والعباسيين على حد سواء ، فيكون إنكاره عليه السلام لوجود مثل هذه الجملة ضمن آيات القرآن اتـهاما صريحا لابن الخطاب بالكذب والافتراء على الله عز وجل وهذا مدعاة لتناقل الغوغاء : إن جعفر بن محمد زعم أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ممن قال الله فيهم : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) ( الأنعام / 93 ) ، وهذه حينئذ فرصة لا تفوت وذريعة جيدة لتخلص خلفاء الجور ممن تلتف المعارضة حوله ، وتربص خلفاء الجور بأئمة أهل البيت عليهم السلام لا يمكن إنكاره ، وهو ما اضطرهم للعمل بالتقية في أقل الأحكام كأحكام الحيض والنفاس حتى لا يقال ( فلان بن فلان شقّ عصا المسلمين ‍! ) ، فلا غرابة إذن إن سئل عنها ولم ينف كونـها من القرآن .
  وهذا نص الرواية كما وردت في الكافي : ( عن عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : الرجم في القرآن قول الله عز وجل : ( إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنـهما قضيا الشهوة ) ) (1) .
  وفي وسائل الشيعة : ( عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام :- في القرآن رجم ؟ قال : نعم ، قلت كيف ؟ قال : ( الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة فانـهما قضيا الشهوة ) ) (2) .
  وننقل هنا كلمات العلماء ومراجع الشيعة العظام رضوان الله تعالى عليه في بيان وجه صدور هذه الرواية ، قال السـيد الخوئـي رضوان الله تعالى عليه حال حديثه عن تينك الروايتين :
  ( فهما وإن كانتا تدلان على ثبوت الرجم على الشيخ والشيخة مع عدم الإحصان أيضا إذ مع تخصيصهما بالإحصان لا تبقى خصوصية لـهما ، إلا أنه لا قائل بذلك منّـا ، ولا شك في أنـهما

--------------------
(1) الكافي ج 7 ص 177 ، التهذيب ج10 ص 3 رقم 7 ، من لا يحضره الفقيه ج4 ص26 رقم 4948 .
(2) وسائل الشيعة للحر العاملي ج 18 ـ القضاء ص350 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 480 _
  وردتا مورد التقية فان الأصل في هذا الكلام هو عمر بن الخطاب فإنه ادعى أن الرجم مذكور في القرآن وقد وردت آية بذلك ، ولكن اختلفت الروايات في لفظ الآية المدعاة فانـها نقلت بوجوه : (فمنها) ما في هاتين الصحيحتين و( منها ) غير ذلك وقد تعرضنا لذلك في كتابنا ( البيان ) في البحث حول التحريف وأن القرآن لم يقع فيه تحريف ) (1).
  وقال السيد عبد الأعلى السبزواري رضوان الله تعالى عليه : ( ثم إن مقتضى صحيح عبد الله بن سنان أن ما ذكره عليه السلام كان آية من القرآن فحذفت ، ولكن أثبتنا في تفسيرنا مواهب الرحمن بطلان التحريف في القرآن بجميع الصور المتصورة فيه ) (2) .
  قال السيد الگلپايگاني رضوان الله تعالى عليه في در المنضود بعد ذكره للروايتين : ( فمقتضى الأخيرتين هو وجوب الرجم فقط بخلاف الروايات المتقدمة عليهما فإنـها صريحة في الجمع بين الجلد والرجم ، ولا يـخفى لأن روايتي عبد الله بن سنان وسليمان بن خالد ظاهرتان في وقوع التحريف في القرآن الكريم ، ولكن الأقوى والمستظهر عندنا عدم تحريف فيه حتى بالنقيصة ، خصوصا وان هذه العبارة المذكورة فيهما بعنوان القرآن لا تلائم آياته الكريمة التي قد آنسنا بـها ، هذا مع أن الأصل في هذا الكلام عمر بن الخطاب ) (3) .
  وكلامه رضوان الله تعالى عليه واضح في أنه لا يقبل مضمون الروايتين لأنـهما تدلان على أمر مرفوض وهو تحريف القرآن ، وقد أشار بالجملة الأخيرة إلى التقية .
  وقال الـميرزا جواد التبـريـزي حفظه الله في حديثه عنهما : ( فإن مقتضى التعليل فيهما عدم اختصاص الرجم بصورة الإحصان مع كون الزاني شيخا أو الزانية شيخة ، ولكن يتعين حملها على التقية ، حيث إن الأساس في كون رجمهما من القرآن هو الثاني (4) ، وعدم الذكر في القرآن لنسخ التلاوة من توجيهاتـهم ، ولعله يشير إلى ذلك تركه عليه السلام الذيل المروي … نكالا من الله ولله

--------------------
(1) مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 195 ط دار الزهراء .
(2) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام ج 27 ص 274.
(3) در المنضود ج1ص283.
(4) أي عمر بن الخطاب .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 481 _
  عزيز حكيم (1) …ووجه الإشارة أن الكلام المزبور لا يشبه في السبك ألفاظه بالقرآن المجيد ، والذيل المروي الذي أريد به إعطاء الشباهة له لم ينقل في كلامه ليعطي صورة ما جرى ) (2) .
  وقال الشيخ الفاضل اللنكراني حفظه الله : ( ثم إنه يظهر من رواياتنا أيضا ثبوت الرجم في القرآن مثل ما رواه عبد الله بن سنان ـ الحديث ـ ورواية سليمان بن خالد ـ الحديث ـ ولكن بعد قيام الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على عدم وقوع التحريف في الكتاب وإن ما بأيدينا مطابق لما أنـزل إلى الرسول بعنوان القرآنية لا يبقى مجال لمثل هذه الروايات بل لا بد من حملها على التقية أو على أن المراد بالقرآن هو القرآن المشتمل على الخصوصيات الأخرى أيضا من الشرح والتفسير والتأويل وشأن النـزول وأمثالها كقرآن أمير المؤمنين عليه السلام (3) مع أنه يرد على تعبير الروايتين الإشكالات المتقدمة كلاًّ أو جُلاًّ كما لا يخفى وقد انقدح من جميع ما ذكرنا عدم ثبوت الرجم في القرآن بل الدليل عليه هي السنة المستفيضة بل المتواترة ) (4).
  إن رفض كل عالم من علماء الشيعة لقرآنية هذه المزعومة يعني إقرارا غير مباشر بأن هاتين الروايتين صدرتا تقية ، لأن الشيعة يتعبدون بكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن يفرغ عنه وهم أهل بيته عليهم السلام فمن غير المعقول أن يعتقد صدور تلك الروايات على غير التقية ومع ذلك يرفض مضمونـها ، وكمثال واحد نذكره لمن رفض قرآنيتها ، قال الشيخ محمد رضا الأنصاري محقق كتاب عدة الأصول :
  ( والتدقيق في هذه الآية المزعومة ـ آية الرجم ـ ومقارنتها مع سياق بقية الآيات القرآنية ونفسها وأسلوبـها يؤدي إلى إنكار كونـها قرانا ، هذا فضلا عن أن عليا عليه السلام قد أنكر بالملازمة وليس بالصراحة كونـها آية قرآنية ، فإنه عليه السلام لما جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال : ( حددتـها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) (5) ، فلو كان عليه السلام يرى أن حكم الرجم ثابت بآية قرآنية قد نسخت تلاوتـها كما رأى عمر لم يقل ذلك ) ، ورفض علمائنا سددهم الله لهذه المزعومة أشهر من أن يمثل له بمثال (6) .

--------------------
(1) يقصد حفظه الله وسدد خطاه ، أن ما يشعِر بصدور هذه الرواية على نحو التقية أن الإمام عليه السلام ترك هذا المقطع ولم يذكره لأجل مشابـهته للسبك القرآني فيقرب التصديق بمضمون الرواية لذلك لم يذكر عليه السلام هذا المقطع فيها خلافا للعامة .
(2) أسس الحدود والتعزيرات ص 109.
(3) سيأتي عدم دقة هذا الاحتمال .
(4) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة ـ كتاب الحدود ص129 .
(5) انظر جواهر الكلام ج41ص30 ، عوالي اللآلئ ج2ص152 و ج3ص553 ، ورواه أحمد والبخاري والنسائي والحاكم وغيرهم
(6) هامش كتاب عدة الأصول للشيخ الطوسي ج2ص516.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 482 _
أقوال من أنصف القرآن من أهل السنة
  قلنا إن مضامين هذه الروايات يضرب الشيعة بـها عرض الجدار لبداهة أن قبولها يعني تحريف القرآن بالزيادة فيه أو النقص منه كما بينا سابقا ، ناهيك عن ركاكة نظمها وضعف أسلوبـها الذي ينادي بـه القرآن ( إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدثر / 25 ) ، وللأسف فإن أغلب أهل السنة يرونـها قرآنا منـزلا ، وبعض من حكمّ عقله منهم ذهب إلى ما ذهب له الإمامية وقد مرت بعض كلماتـهم في مبحث نسخ التلاوة .
  قال في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة : ( أما ما نقله البخاري تعليقاً من أن الذي كان في كتاب الله ورفع لفظه دون معناه ، فهو ـ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة الخ ـ فإنني لا أتردد في نفيه لأن الذي يسمعه لأوّل وهلة يـجزم بأنه كلام مصنوع لا قيمة له بجانب كلام الله الذي بلغ النهاية في الفصاحة والبلاغة ، فضلاً عن كونه لا ينتج الغرض المطلوب فإن الرجم شرطه الإحصان والشيخ في اللغة من بلغ الأربعين فمقتضى هذا أنه يرجم ولو كان بكر لم يتزوج وكذا إذا زنى الفتى في سن العشرين مثلاً وهو متزوج فانه لا يرجم ، مثل هذه الكلمة لا يصح مطلقًا أن يقال : أنـها من كتاب الله … فالخير كل الخير في ترك مثل هذه الروايات ، أما الأخبار التي فيها أن بعض القرآن المتواتر ليس منه ، أو أنّ بعضاً منه قد حذف فالواجب على كل مسلم تكذيبها بتاتاً ، والدعاء على راويها بسوء المصير، لأن إدخال شيء في كتاب الله ليس منه ، وإخراج شيء منه رِدّة نعوذ بالله منها ) (1) .
  وقال آخر في فتح المنان : ( إن الحق أن هذا النوع من النسخ غير جائز ، لأن الآثار التي اعتمدوا عليها لا تنهض دليلاً لهم ، والآيتان ( الرجم والرضاع ) لا تسمحان بوجوده إلاّ على التكلّف ، ولأنّه يخالف المعقول والمنطق ، ولأن مدلول النسخ وشروطه التي اشترطها العلماء فيه لا تتوفّر ، ولأنّه يفتح ثغرة للطاعنين في كتاب الله تعالى من أعداء الإسلام الذين يتربّصون به الدوائر وينتهزون الفرصة لـهدمه وتشكيك الناس فيه ، والعجيب أنّه قد وردت رواية عن عمر : ولولا أن يقال زاد عمر في

--------------------
(1) كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ج4ص257–259 ط الاستقامة السادسة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _483 _
  المصحف لكتبتها ، فهذا الكلام يدلّ على أنّ لفظها موجود لم ينسخ ، فكيف يقال إنّها ممّا نسخ لفظه وبقي حكمه ! وهي موجودة ومسطّرة ومحفوظة على قولـهم ، ولو كانت آية من القرآن وتحقّق منها عمر لأثبتها من غير تردّد ولا وجل ) (1) .
  وقال في كتاب النسخ في القرآن الكريم : ( على أنه قد ورد في الرواية عن عمر قوله بشأن آية حد الرجم فيما زعموا ( ولولا أن يقال زاد عمر في المصحف لكتبتها ) ، وهو كلام يوهم أنه لم ينسخ لفظها أيضاً مع أنـهم يقولون أنـها منسوخة اللفظ باقية الحكم ! كذلك ورد نص الآية في الروايات التي أوردته بعبارات مخـتلفة ، فواحدة منها تذكر قيد الزنا بعد ذكر الشيخ والشيخة ، وواحدة لا تذكره ، وثالثة تذكر عبارة ( نكالاً من الله ) ، ورابعة لا تذكرها ، وما هكذا تكون نصوص الآيات القرآنية ولو نسخ لفظها ! وفي بعض هذه الروايات ، جاءت بعض العبارات التي لا تتفق ومكانة عمر ولا عائشة مما يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ، ودسّها على المسلمين ) (2) .
  وقال في كتاب القرآن نظرة عصرية جديدة عن هذه الآية المزعومة : ( أما أن تنسخ التلاوة ويبقى الحكم فقد قال به بعضهم محتجاً بأنه كانت هناك آية قيل إن نصها كان ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) ولا أميل شخصياً إلى القول بـهذا الرأي وأرى أن حكم الرجم للزاني المحصن ثبت بالحديث الشريف والإجماع ) .
  وقال ( أنه بالنظر في هذه العبارة التي زعموا أنـها كانت آية من القرآن لا أحس بأن بـها نسج القرآن ولا روعته فقد وردت بـها كلمة البتّة ولا أرى أن هذه الكلمة قرآنية ، وهي لم ترد في القرآن أبداً وليس لها جمال ألفاظ القرآن واستعملت فيها كلمة الشيخ والشيخة بقصد الرجل والمرأة المتزوجة ، وهو استعمال فيه تكلّف ، فالشيخ في اللغة هو الطاعن في السن ولا يلزم أن يكون شيخاً بل كثيراً ما يكون شاباً ، وللقرآن تعبير جميل عن الرجل المتزوج أو المرأة المتزوجة وهو المحصن والمحصنة ، أما كلمة شيخ فاستعمالها في القرآن محدود بكبر السن ، وقد وردت في القرآن

--------------------
(1) فتح المنان في نسخ القرآن للشيخ علي حسن العريض مفتّش الوعظ بالأزهر ص230 .
(2) النسخ في القرآن الكريم ـ دراسة تشريعية تاريخية نقدية ـ ج1ص284 مسألة رقم 389.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 484 _
   في ثلاث مواضع نعرضها لنبيّن اتجاه القرآن في استعمال هذه الكلمة اتجاهاً لم يختلف وهو لا شك متفق مع ذوق اللغة أو هو قدوة للاستعمال العربي السليم ، ـ ثم ذكر تلك الآيات ـ ) (1) .
  وأنصف الشيخ محمود أبو ريّة في كتابه القيم أضواء على السنّة المحمّدية عندما استنكر ما تفعله الروايات في كتاب الله عز وجل ، وهاك مقتطفات منه : ( ولم يقف فعل الرواية عند ذلك بل تمادت إلى ما هو أخطر منه من ذلك حتى زعمت أن في القرآن نقصاً ولحـناً وغير ذلك مما أورد في كتب السنّة ، ولو شئنا أن نأتي به كله هنا لطال الكلام ـ ولكنا نكتفي بمثالين مما قالوه في نقص القرآن ، ولم نأت بـهما من كتب السنة العامة بل مما حمله الصحيحان ، ورواه الشيخان البخاري ومسلم .
  أخرج البخاري وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال ـ وهو على المنبر : إن الله بعث محمداً بالحق نبـيّا وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما أجد آية الرجم في كتاب الله فيضل بترك فريضة أنزلها الله ـ والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، ثم إنا كنا نقرأ فيما يقرأ في كتاب الله ، ( ألا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) .
  وأخرج مسلم عن أبي الأسود عن أبيه قال : بعث أبو موسى الأشعري ، إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم ، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ـ وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول ببراءة فأنسيتها ، غير أني قد حفظت منها ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) ، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ) (2) ، نجتزئ بما أوردنا وهو كاف هنا لبيان كيف تفعل الرواية حتى في الكتاب الأول للمسلمين وهو القرآن الكريم ‍ ! ولا ندري كيف تذهب هذه الروايات التي تفصح بأن القرآن فيه نقص وتحمل مثل هذه المطاعن مع قول الله سبحانه ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 )، فأيهما نصدّق ؟! اللهم إن هذا أمر عجيب يجب أن يتدبره أولو الألباب ) (3) .

--------------------
(1) من مقالة للدكتور أحمد شلبي في كتاب القرآن نظرة عصرية جديدة ص154 ـ 155 .
(2) وسيأتي الكلام عنها ، بإذن الله تعالى .
(3) أضواء على السنّة المحمّدية ص 256 ـ 257 ط الأعلمي الخامسة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 485 _
كلام من فضحه الله !
  بعد أن ذكرنا كلام المنصفين من أهل السنة لا بأس بذكر كلمة لمن فضحه الله تعالى عندما حاول أن ينال من الشيعة في شريطه ( الشيعة والقرآن ) وهو الوهابي ( عثمان الخميس ) ، قال هذا المسكين :
  ( أمثلة من الآيات المنسوخة تلاوتـها : آية الرجم وهي قوله تعالى أو ما يذكر فيها ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فراجموهما البتة ) فهذه أولا قراءة آحادية شاذة لم تثبت قرآنا ) (1) .
  فهو يعترف أولا أنـها آية منسوخة ، ثم يرجع ويقول بعدم ثبوت قرآنيتها ! ، فكيف هي آية منسوخة ولم تثبت قرآنيتها ؟! ، ثم من أين جاءنا ب‍ ( قراءة آحادية شاذة ) ؟! ، آية الرجم عند أهل السنة من المنسوخ تلاوة وليست قراءة شاذة ! وهذا أمر واضح لأن القراءة الشاذة تتغير فيها أحرف أو بعض مفردات الآية ولا تكون بإضافة آية كاملة للقرآن ! وإلا لما كان هناك معنى للشذوذ ، لأن الشذوذ يتحقق عندما يتخالف الشاذ مع الأصل ، وآية الرجم لا يوجد أصل لها حتى تخالفه ! ، وكل هذه الموارد تدل على أن هذا الوهابي ( عثمان الخميس ) جاهل بكل ما للكلمة من معنى .
‌‌‌آية الرجم جاء بـها عمر من توراة اليهود !
  كنت دائما أتسال من أين جاءنا عمر بـهذه الجملة ؟! هل هي من نسج خياله ؟ أم هي جملة سمعها فأعجبته كما أعجبته ( الصلاة خير من النوم ) التي حشرها في الأذان ؟! ، فاتضح لي أن هذه الجملة مقتبسة من توراة اليهود ! ولا أدري على أي أساس أراد ابن الخطاب إدخال شيء من كتاب اليهود المحرف في القرآن ؟!
  فقد أخرج الطبري بسنده رواية مطولة تتحدث عن حد الزاني في شريعة اليهود المحرفة إلى أن تقول : ( وكان النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال لهم : من أعلمكم بالتوراة ؟ فقالوا : فلان الأعور ، فأرسل عليه فأتاه فقال : أنت أعلمهم بالتوراة ؟ قال : كذلك تزعم يهود ، فقال النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء ما تجد في التوراة في الزانيَين فقال : يا أبا القاسم يرجمون الدنيئة ويحملون الشريف على بعير ويحممون وجهه ويجعلون وجهه من قبل ذنب البعير ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة ويفعلون بـها هي ذلك ، فقال له النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم :

--------------------
(1) الوجه الثاني من شريط ( الشيعة والقرآن ) .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _486 _
  أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء ما تجد في التوراة ؟! فجعل يروغ والنبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ينشده بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء ، حتى قال : يا أبا القاسم ، ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : فـهـو ذاك ، اذهبوا بـهما فارجموهما ) (1) .
  وقد أخرج هذه الحادثة البخاري في خمسة مواضع من صحيحه وهذا نصه : " عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا نفضحهم ويجلدون ، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آيـة الرجـم فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بـهما رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فرجما ، قال عبد الله : فرأيت الرجل يحنأ على المرأة يقيها الحجارة ) (2) .
  ومما يدل على أن الرجم لم ينـزل فيه شيء من القرآن ما أخرجه ابن الضريس والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : " من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، قال تعالى ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ ) ( المائدة / 15 ) ، قال : فكان الرجم مما أخفوا ) (3) .
  ومن كلام ابن عباس يتضح عدم نزول آية في القرآن تحكي الرجم صريحا ، وإلا لكان الأولى لابن عباس وهو جبل التفسير أن يذكرها لا أن يستدل بآية غير ظاهرة فيه !

--------------------
(1) تفسير الطبري ج6ص157 ط دار المعرفة الثالثة .
(2) صحيح البخاري ج3ص1330ح3436 ، ج4ص1660ح4280 باب( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) ، ج6ص2499ح6433 باب الرجم في البلاط ، ج6ص2510ح6450 ، ج6ص2742ح7104.
(3) الدر المنثور ج2ص269 ط دار المعرفة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 487 _
  بل هناك رواية أظهر من هذه وردت في صحيح البخاري وهي : ( حدثنا سلمة بن كهيل قال : سمعت الشعبي يحدث عن علي رضي الله عنه حين رجم المرأة يوم الجمعة وقال : قد رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم )(1)
  ولو كانت آية الرجم في القرآن وقد رفعت تلاوتـها وبقي حكمها لقال عليه السلام إن رجمها بكتاب الله ، أو لا أقل أن يقول عليه السلام رجمتها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا أن يغفل أمر القرآن .
  وهذه الرواية نص في ثبوت الرجم بالسنة لا بالقرآن ، وقد أخرجها عبد الرزاق الصنعاني في المصنف : ( عن ابن التيمي عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر قال : قال علي ( عليه السلام) في الثيب : أجلدها بالقرآن ، وأرجمها بالسنة ، قال : وقال أبي بن كعب مثل ذلك ) (2) .
  وبعد هذا لنتساءل ، هل جهل الإمام علي عليه السلام ـ والعياذ بالله ـ وهو باب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيد القراء أبي بن كعب ، وحبر الأمة ابن عباس عن نـزول آية في القرآن تحكي الرجم ؟! ، ناهيك عن إجماع أهل السنة بأن الرجم قد ثبت بالسنة لا بالقرآن !
  وليس بعزيز على ابن الخطاب أن يأخذ هذه الجملة من توراة اليهود ، فعلاقته كانت قوية معهم حتى أنه كان يتعلم شيئا من التوراة منهم ويعلمونه ، ويوما ما اقترح على الرسول صلى الله عليه وآله تعليمه للمسلمين فغضب منه صلى الله عليه وآله وسلم حتى احمرت وجنتاه واجتمعت الأنصار شاكةً بالسلاح وأمر بالصلاة جامعة لهول ما قاله عمر !
  " أخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن أبى حاتم ونصر المقدسي في الحجة والضياء في المختارة عن خالد بن عرفطة قال : كنت جالسا عند عمر … فقال ـ عمر ـ : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ما هذا في يدك يا عمر ؟ فقلت : يا رسول الله كتاب نسخته لنـزداد به علما إلى علمنا ، فغضب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة فقالت الأنصار : (أغضب نبيكم ، السلاح !) فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : يا أيها الناس إني قد

--------------------
(1) البخاري ج 8 ص21.
(2) مصنف عبد الرزاق الصنعاني ج7ص328ح13356.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _488 _
  أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا ولقد أتيتكم بـها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون قال عمر رضي الله عنه فقمت ، فقلت : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبك رسولا ثم نزل رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ) (1) .
  ولم ينته عمر عن الأخذ عنهم لا سيما في زمن تأمره على الناس ، وقصصه وحكاياته مع كعب الأحبار أشهر من أن تذكر أو تنقل ، فمن شاء الإطلاع فليراجع المصادر (2) .
  فلا يُستبعد اقتباس عمر بن الخطاب لهذه الجملة من توراة اليهود ، أو على أحسن التقادير أنه كان متواجدا في الحادثة السابقة وعلقت تلك الجملة في رأسه .

--------------------
(1) الدر المنثور ج4ص3 ، وجاء هذا المعنى أيضا في ج5ص148ـ149 : ( وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن الضريس والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : دخل عمر بن الخطاب (رض) على النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال : هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط فقال عبد الله بن الحارث لعمر (رض) أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ؟! فقال عمر (رض) : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فسري عن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، وقال : لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم )
  وكذا : ( أخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب (رض) مر برجل يقرأ كتابا فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال : للرجل اكتب لي من هذا الكتاب ، قال : نعم ، فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فجعل يقرؤه عليه وجعل وجه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يتلون فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب وقال : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ! أما ترى ووجه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب فقال النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم عند ذلك : إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون )
  وكذا : ( أخرج ابن الضريس عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها فقال : يا ابن الخطاب !! أمتهوكون أنتم كما تـهوتكت اليهود والنصارى ؟! أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بـها بيضاء نقية ولكني أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصارا )
  وكذا في مجمع الزوائد ج1ص174 : ( وعن أبي الدرداء قال : جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : يا رسول الله جوامع من التوراة أخذتـها من أخ لي من بني زريق ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فقال عبد الله بن زيد الذي أري الأذان : أمسخ الله عقلك ؟! ألا ترى الذي بوجه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ؟! فقال عمر : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما فسري عن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالا بعيدا أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين )
  وعلق عليه الهيثمي : ( رواه الطبراني في الكبير وفيه أبو عامر القاسم بن محمد الأسدي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله موثقون ).
  أقول : بعد أن نقل ابن حجر العسقلاني هذه الروايات قال في فتح الباري ج13ص525 : ( وهذه جميع طرق هذا الحديث وهي وان لم يكن فيها ما يحتج به لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا ).
(2) راجع مشورة عمر لكعب الأحبار وأخذه بآرائه وتنبؤاته ، مسند أحمد ج1ص42، تاريخ المدينة ج3ص891 ، تاريخ الطبري ج1ص323 ، مجمع الزوائد ج9ص65 وج10ص331 ، كنـز العمال ج12ص561وص567 ، الدر المنثور ج4ص57وص347 وج6ص257 ، وغيرها من المصادر .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 489 _
* النتيجة :
  بعدما صحّ عند أهل السنة نسبة هذه الجملة إلى عمر بن الخطاب وأنه أول من تفوّه بـها ونشرها بين المسلمين من أي مصدر كان التوراة أم غيره ، فيكون أمامنا ثلاثة خيارات لا رابع لها :
  إما أن نقول إن بكفر عمر بن الخطاب لأن أضاف للقرآن شيئا ليس منه فمصحف المسلمين محرف في نظره
  أو إن صحيح البخاري وغيره فيه روايات موضوعة قد نسبت للخليفة الأكاذيب والمدسوسات تريد النيل منه
  أو إن القرآن محرف حقا وقد سقط منه آية الرجم .
  والاحتمال الأول يؤيّده ما مرّ من قول عمر في التحريف الإجمالي لآيات القرآن وادعائه أن القرآن كان ألف ألف آية وسبعة وعشرين ألف آية ، وعلى أي حال فالاختيار كله لأهل السنة !
آية الرضاع !
  أخرج مسلم في صحيحه أن عائشة قالت : ( كان فيما أنزل من القرآن ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) ثم نسخن ب‍ ( خمس معلومات ) ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن ) (1) .
  وأخرج عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه بسند صحيح : ( أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال : سمعت نافعا يحدث أن سالم بن عبد الله حدثه : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت به إلى أختها أم كلثوم ابنة أبي بكر لترضعه عشر رضعات ليلج عليها إذا كبر فأرضعته ثلاث مرات ثم مرضت فلم يكن سالم يلج عليها ، قال : زعموا أن عائشة قالت : لقد كان في كتاب الله عز وجل عشر رضعات ثم رد ذلك إلى خمس ، ولكن من كتاب الله ما قبض مع النبي صلى الله عليه وسلم ) (2) .

--------------------
(1) صحيح مسلم ج4ص167 ، سنن الدارمي ج2ص157 ، المصنف للصنعاني ج7ص467وص470 ، سنن الترمذي ج3ص456 ، السنن الكبرى للبيهقي ج7ص454ح 15397، مشكل الآثار للطحاوي ج3ص6 ، النسائي ج6ص100 ، سعيد بن منصور ص976 ، المحلى لابن حزم 11ص191 ، موطأ مالك ج2ص117 ، مسند الشافعي ج1ص220 وغيرها .
(2) مصنف عبد الرزاق ج7ص469ح 13928 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 490 _
  هنا تدعي عائشة أن جملة ( خمس معلومات يحرمن ) كانت إلى ما بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من جنس القرآن المقروء كغيرها من آيات القرآن ، وهذه الدعوى من عائشة طامة كبرى ! لأنـها تزعم ـ وبكل صراحة ـ أن سبب سقوط الآية المزعومة وعدم كتابتها في القرآن الكريم هو موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يعني أنه الوحيد الذي كان يحفظها دون المسلمين ، ولم يعلم بـهذه الآية المزعومة سوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة التي كانت تحتفظ بنصها في صحيفة تحت سريرها ! ، وقد اختفت الصحيفة ! ولكن أين ؟!
* في بطن السخلة !
  وخير من يخبرنا عن أمر هذا القرآن المفقود هي عائشة نفسها ، فقد ذكرت أن الآية المزعومة كانت في صحيفة تحت سريرها فدخلت سخلة وأكلتها حين تشاغلوا بدفن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (1) ، وهكذا انتفت هذه الآية من الوجود بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي اختص بحفظها ولأكل الداجن المعجزة للصحيفة !
 قال ابن حزم في المحلى : ( ثم اتفق القاسم بن محمد وعمرة كلاهما عن عائشة أم المؤمنين قال : لقد نزلت آية الرجم والرضاعة فكانتا في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها ، قال أبو محمد ـ ابن حزم ـ : وهذا حديث صحيح ) (2) .
  وفي سنن ابن ماجة عن عائشة : ( لقد نزلت آية الرجم ، ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها ) (3) .
  قال الطبراني في المعجم الأوسط : ( عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت : نزلت آيه الرجم ورضاع الكبير عشرا فلقد كان في

--------------------
(1) من أين يأتيها التشاغل وما شاركت بتغسيله ولا بتكفينه صلى الله عليه وآله وسلم ؟! ، ولا حتى أبوها الذي أخذته الدنيا وزبرج الملك والإمارة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال في المغتسل لم يوار بعد !
(2) المحلى بالآثار لابن حزم الأندلسي ج11ص235ـ236 رجم المحصن .
(3) سنن ابن ماجة ج1ص 625ـ626ح1944.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 491 _
  صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم تشاغلنا بـموته فدخل داجن فأكلها ) (1) .
  ورواية صحيح مسلم إما أن يقبلها أهل السنة فيعتقدوا تحريف القرآن ، وإما أن يكفروا عائشة لأنـها كانت تدعي تحريف القرآن ، وإما أن يرفضوا الرواية ويجزموا ببطلانـها ، واعتقد أن الأسلم عند الجميع هو الطريق الثالث إلاّ عند من يقدّس صحيح مسلم أكثر من القرآن ، ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) ( يوسف / 103 ).

* بعض علماء أهل السنة يقبل الرواية على علاتـها !
 عانى كثيرٌ من علمائهم من هذه الرواية التي أخرجها مسلم في صحيحه ، فوجد هؤلاء الذين أجبروا على قبول الرواية أنه لا مفر لهم إلا بتأويلها وتوجيهها بوجه لا يلزم منه القول بتحريف القرآن ولا رمي عائشة به ، فصاروا يتصيدون لها المخارج ويقلبوا لها الوجوه ـ كالعادة ـ حتى عثروا عليه وهو تأُويل هذا المقطع المشكل ( توفي ، وهن فيما يقرأ من القرآن ) بأن تلك الآية نسخت تلاوةً (!) في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبلغ بعض الصحابة نسخها فكانوا يقرؤونـها كقرآن إلى ما بعد رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربّه !!
  قال النووي في شرحه على صحيح مسلم : ( وقولها فتوفى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وهن فيما يقرأ هو بضم الياء من يقرأ ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدا حتى أنه صلى الله عليه (وآله) وسلم توفى وبعض الناس يقرأ ( خمس رضعات ) ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه السنخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى ) (2) ، وقلده كثير في تأويله هذا .

--------------------
(1) المعجم الأوسط ج8ص12ح7805 ، مسند أبي يعلى ج8ص64ح4588 ، سنن الدارقطني ج4ص179ح22.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم ج10ص29.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 492 _
نسخ أغرب من الخيال !
  وقبل الخوض في مناقشة الرواية ومصداقية تأويلها بأسطورة نسخ التلاوة علينا بيان ما قصدوه من النسخ هنا ، فنقول :
  إن نسخ التلاوة المدعى في هذا المورد هو نوعٌ آخر من النسخ غير النسخ المدعى لآية الرجم ، لأنه نسخ للتلاوة مع الحكم بخلاف نسخ آية الرجم الذي زعموا أنه للتلاوة دون الحكم ، وعليه يكون معنى قول عائشة هو أن الله عز وجل قد أنزل قرآنا في عدد الرضعات المحرِّمة وهي عشر رضعات ، ثم نسخ الله تلك الآية فرفع تلاوتـها ورفع حكمها أيضا ، ثم مرة ثانية أنزل عز وجل آية على غرار الآية السابقة آيةً تتضمن عدد الرضعات المحرِّمة وهي خمس رضعات فقط ، ثم جاء مرة ثالثة فرفع الله عز وجل تلاوة آية الخمس رضعات كما فعله في آية العشر السابقة !!
  وأما بالنسبة لحكمها فترددوا في نسخه ، فعلى ما ذهب له الشافعي لم ينسخ الله عز وجل في هذه المرة حكم الآية وإنما نسخت تلاوتـها فقط مستندا في ذلك لرأي عائشة في عدد الرضعات المحرمة ، وفي نسبته لعائشة نظر كما سيأتي ، أما جمهور فقهائهم الذين صححوا الرواية فقد ذهبوا إلى أن الله عز وجل حينما رفع آية الخمس رضعات رفع حكمها أيضا .
  ( وقد يكون النسخ نسخاً للحكم والتلاوة معاً مثل : كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخت هذه الآية بخمس معلومات ثم نسخت الخمس أيضاً تلاوة وحكماً عند الإمام مالك ، وتلاوة فقط عن الشافعي ) (1) .
  لمتابعة موضوع آية الرضاع اضغط على الصفحة التالية أدناه
--------------------
(1) اختلاف الفقهاء والقضايا المتعلقة به في الفقه الإسلامي المقارن ص34 ، د. أحمد محمد الحصري .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 493 _
  قول عائشة في صحيح مسلم لا يمكن قبوله لعدة جهات
  هناك جهات عدة تمنع المنصف المتدبر من قبول قول عائشة وتقف دون احتمال اخبارها عن الواقع :

أولا : الفقه المأثور عن عائشة في مسألة الرضاع مضطرب جدا ولا يمكن التعويل على هذه الرواية لأنـها معارضة.
  فقد وروى البيهقي في سننه الكبرى بسنده : ( حدثنا الربيع حدثنا الشافعي حدثنا مالك عن نافع أن سالم بن عبد الله أخبره أن عائشة رضى الله عنها زوج النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أرسلت به وهو يرضع إلى أختها أم كلثوم فأرضعته ثلاث رضعات ثم مرضت فلم ترضعه غير ثلاث رضعات فلم أكن أدخل على عائشة رضى الله عنها من أجل أن أم كلثوم لم تكمل لي عشر رضعات ) (1) .
  أقول : وسيتضح أن عائشة لا تجيز دخوله إلا بعشر رضعات ، فلو كان ما نسبته عائشة للقرآن في رواية مسلم صحيحا لما خالفته وصارت لغيره ، ولا مجال للقول بأن رأيها في عشر رضعات كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد أن نسخ في آخر حياته صلى الله عليه وآله وسلم عملت بخمس رضعات ، وذلك لأن الروايات تحكي رضاع سالم في ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن سالما ولد في زمن تأمر عثمان على الناس ، قال الذهبي : ( سالم بن عبد الله ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب … وأمه أم ولد ، مولده في خلافة عثمان ) (2) .
  فلا يحتمل حينئذ أن تأمر عائشة أختها بأن ترضعه في آخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يقال إن ذلك قبل أن ينسخ الحكم بخمس رضعات .
  وروى أيضا بسنده : ( حدثنا إبراهيم بن عقبة أنه سأل عروة بن الزبير عن المصة والمصتين قال : كانت عائشة رضى الله عنها لا تحرم المصة ولا المصتين ولا تحرم إلا عشرا فصاعدا ) (3) .
  وفي كتاب السنن : ( حدثنا سعيد قال نا عبد العزيز بن محمد عن إبراهيم بن عقبة أنه سأل عروة بن الزبير عن الرضاع قال : كانت عائشة لا ترى المصة ولا المصتين شيئا دون عشر رضعات فصاعدا ) (4) .
  وفي مصنف ابن أبي شيبة : ( حدثنا ابن علية عن أيوب عن نافع قال : كانت عائشة إذا أرادت أن يدخل عليها أحد أمرت به فأرضع فأمرت أم كلثوم أن ترضع سالما عشر رضعات فأرضعته ثلاثا فمرضت فكان لا يدخل عليها وأمرت فاطمة بنت عمر أن ترضع عاصم بن سعيد مولى لهم فأرضعته عشر رضعات فكان يدخل عليها ) (5) .

--------------------
(1) السنن الكبرى للبيهقي ج7ص 457 .
(2) سير أعلام النبلاء ج4ص458ت176.
(3) السنن الكبرى ج7 ص458ـ459 .
(4) كتاب السنن ج1ص276ح968.
(5) مصنف ابن أبي شيبة ج3ص548ح17031.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 494 _
  وقد قال ابن حجر في فتح الباري : ( ثم اختلفوا فجاء عن عائشة عشر رضعات أخرجه مالك في الموطأ وعن حفصة كذلك وجاء عن عائشة أيضا سبع رضعات أخرجه بن أبي خيثمة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير عنها وعبد الرزاق من طريق عروة كانت عائشة تقول لا يحرم دون سبع رضعات أو خمس رضعات وجاء عن عائشة أيضا خمس رضعات فعند مسلم عنها كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخت بخمس رضعات معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وهن مما يقرأ وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عنها قالت لا يحرم دون خمس رضعات معلومات ) (1) .
  ثم ذكر أن حديث صحيح مسلم لا يمكن الاحتجاج به لأنه يثبت قرآنا والقرآن يحتاج إلى التواتر ، وهذا سنذكره فيما بعد بإذنه تعالى .
  وقال إمامهم ابن التركماني في الجوهر النقي معلقا على حديث عائشة : " قد ثبت أن هذا ليس من القرآن الثابت ولا تحل القراءة به ولا إثباته في المصحف ومثل هذا عند الشافعي ليس بقرآن ولا خبر وقد ذكرنا ذلك غير مرة فيما مضى وفي موطأ مالك عن نافع أن سالم بن عبد الله حدثه أن عائشة أرسلت به إلى أختها أم كلثوم بنت أبى بكر فقالت : أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل على فأرضعتني ثلاث رضعات ثم مرضت فلم ترضعني غير ثلاث مرات فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشر رضعات ، وذكره البيهقي في آخر هذا الباب وذكره أيضا صاحب التمهيد ثم قال فلأجل هذا الحديث قال أصحابنا : أنـها تركت حديثها ، وفعلها هذا يدل على وهن ذلك القول لأنه يستحيل أن تدع الناسخ وتأخذ بالمنسوخ وأسند ابن حزم عن إبراهيم بن عقبة سألت عروة عن الرضاع فقال : كانت عائشة لا ترى شيئا دون عشر رضعات فصاعدا ثم ذكر عنها قالت إنما تحرم من الرضاع سبع رضعات ـ قال ابن حزم : الأول عنها أصح وهذا كله يدل على أن مذهبها مخالف لـهذا الخبر وأنـها لا تعتبر في التحريم خمس رضعات ) (2) .
  والسؤال هو : لماذا نسبت عائشة للقرآن ما لا تعمل به ؟! هذا تجيب عنه عائشة .

--------------------
(1) فتح الباري ج9ص146ـ147.
(2) الجوهر النقي لابن التركماني ج7ص454 ط دار الفكر .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 495 _
  وعلى أي حال فهذه الرواية معارضة لا يمكن قبولها والتسليم بمضمونـها ، خاصة وأن فيها ما هو معلوم البطلان وهو قرآنية ما لم يتواتر ، فهي معلولة من الجهتين .

ثانيا : حتى لو تنـزلنا عن اشتراط التواتر للنسخ فإن هذا النوع من النسخ مما تتوفر الدواعي لنقله متواترا ، لغرابته الشديدة فلا نعقل أن تنفرد عائشة بنقله ويغفل عنه الصحابة .
  إذ أن نزول آية بحكم ما وبعد ذلك ترفع الآية مع حكمها ثم تنـزل آية أخرى ناسخة بحكم جديد ومن ثم ترفع هذه الآية ويبقى من يقرأ بـها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وينسخ حكمها أو يبقى ـ على الخلاف ـ أمر غريب جدا ! ، ولو وقع وحصل مثله من النـزول والنسخ والنـزول والنسخ في حكم وأمر واحد لذاع وانتشر أمره بين أعداء دين الله قبل محبيه ولتناقلته الألسنة من السلف إلى الخلف ولكنه لم يحدث ، فلا يمكن التصديق بوقوع ما تدعيه عائشة .

ثالثا : كيف يتصور نزول آية لا يعلم نصّها أحد من الناس إلا عائشة ومن ثم يأتي داجن ويأكلها وتفقد إلى الأبد ؟‍! ، كيف اختصت عائشة بالآيتين الناسخة والمنسوخة من دون الناس ؟! ، أين كان الصحابة ؟! ، ألم يكن هناك كتبة للوحي وحفظة للقرآن ؟ ، أم أن الوحي نزل هذه المرّة في مرط عائشة وأبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآية لعائشة وبعد أن أخذتـها وكتبتها في الصحيفة عاد الله ونسخها ؟!
  قال في مباني المعاني : ( فإن قيل أليس قد روي عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عائشة أنـها قالت : كان فيما يقرأ من القرآن فسقط ، يحرّم من الرضاع عشر رضعات ، ثم نسخن إلى خمس معلومات ، وقد روى في غير هذه الرواية : فكانت في جُليد فأكله الدَّاجن لاشتغالنا بموته ، تعني موت النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ) .
  وقال : ( لو كان من القرآن المتلوّ المكتوب في المصاحف لما بطل بأكل الداجن ، ولما سقط بالنسخ ، والله يقول : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 )، وقال تعالى : ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصلت / 42 )، ولو كان من القرآن لما اجتمع النسخ والمنسوخ في آية واحدة بل كانت الآية الناسخة تتأخر ، كما لا يجوز أن يجتمع حكمان مختلفان في وقت واحد وحالٍ واحدة كيف يجوز أن يكون قرآن يتلى على عهد الرسول

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 496 _
  صلى الله عليه (وآله) وسلم على ما أخبرت به عائشة رضي الله عنها ، ولا يحفظه واحد من الصحابة ؟ ولا كاتب الوحي الذي جمع القرآن في زمن أبي بكر ، وعثمان وهو زيد بن ثابت رضي الله عنهم ، ولو كان من القرآن لما احتمل ما يذكرون حدوثه فيه من السهو والإغفال والتفريط حتى أكله الداجن ، أو سقط من المصحف مع شدة حرص الصحابة رضي الله عنهم على جمعه وحفظه ) (1) .
  رابعا : من غير المعقول أن يشرع الله عز وجل حكما ثم ينسخه من قبل أن يعلم الناس به ويقتصر العلم به على عائشة ! ، وعلماء الأصول يرفضون فكرة نزول حكم يُنسخ قبل أن يعمل الناس به ، فلماذا نزل إذن ؟! والكثير الكثير من الإشكالات التي تراود الذهن عند تصور هذا النسخ العجيب .
  خامسا : ما ذكره أحد علمائهم وهو شيخ الأزهر صاحب تفسير المنار حيث قال اعتراضا على رواية عائشة : ( وإذا قال السائل إذا صح هذا فما هي حكمة نسخ العشر بالخمس عند عائشة ومن عمل بروايتها ونسخ النسخ أيضاً عند من قبل روايتها وادعى أن الخمس نسخت أيضاً بنسخ تلاوة لأنه الأصل ولم يثبت خلافه ؟ لعل أظهر ما يمكن أن يجاب به عن هذا هو أن الحكمة في هذا هي التدرج في هذا التحريم كما وقع في تحريم الخمر لا يخطر في البال شيء آخر يمكن أن يقولوه ، وإذا انصفوا رأوا الفرق بين تحريم الخمر وتحريم نكاح الرضاع واسعاً جداً فإن شارب الخمر يؤثر في العصب تأثيراً يغري الشارب بالعودة إليه حتى يشق عليه تركه فجأة ولا كذلك ترك نكاح المرضعة أو أبنتها مثلا ) (2) .

--------------------
(1) مقدمتان في علوم القرآن ص87ـ88.
(2) تفسير المنار ج4 ص 473 للأستاذ محمد رشيد رضا ط دار المنار 1365 ه‍‌ . أقول : وفيما ذكره نظر ، لأنه يمكن الجواب عنه بأن مناطات الأحكام لا يمكن الوقوف عليها ، وليس لنا معرفة علل الأحكام وسبب نزولها فلو كان الحكم دائرا مدار العلم بالعلة لفسدت كثير من أحكام الشريعة غير معلومة المدرك .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 497 _
لا معنى لتأويلها بقراءة الصحابة للمنسوخ تلاوة !
  ومع هذا كله فإن البعض يرفض العقل والمنطق الذي يدافع عن قداسة القرآن لئلا تتعرض قداسة عائشة أو صحيح مسلم لأي خدش ! ، وهؤلاء القوم يلزمهم القول بالتحريف الصريح لأن عائشة تدعي أن آية خمس رضعات بقيت إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله وسلم فيما يقرأ القرآن وهي غير موجودة في مصحفنا ، وتأويل كلامها بأن تلك الآية نسخت في آواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبقي بعض الصحابة على قراءتـها إلى ما بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم جهلا منهم بنسخها ، أمر فاسد لأمور :
  أولا : هذا التأويل قائم على نقطة واحدة وهي أن بعض الصحابة كانوا يعلمون بنصها إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا يناقض بيان عائشة الآخر الذي أخرجه الصنعاني في المصنف بسند صحيح عن سالم بن عبد الله :
  ( أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت به إلى أختها أم كلثوم ابنة أبي بكر لترضعه عشر رضعات ليلج عليها إذا كبر فأرضعته ثلاث مرات ثم مرضت فلم يكن سالم يلج عليها ، قال : زعموا أن عائشة قالت : لقد كان في كتاب الله عز وجل عشر رضعات ثم رد ذلك إلى خمس ، ولكن من كتاب الله ما قبض مع النبي صلى الله عليه وسلم ) (1) .
  وهذه الرواية واضحة في أن بعض القرآن ومنه هذه الآية المزعومة قد ذهب مع وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف يقال أن بعض الصحابة كانوا يقرؤون الآية إلى ما بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
  ورواية المصنف لا يمكن تأويلها بأي تأويل غير التحريف كنسخ التلاوة أو المنسأ ، لأن نسخ التلاوة أو المنسأ إن وقع في هذه الآيات فيجب أن يأتي الله بخير منها أو مثلها بمفاد الآية التي احتج بـها أهل السنة على الوقوع (!) ، وهي ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة / 106 ) ، وهذه الرواية تقول إن بعض القرآن قد قبض مع قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ! فلا معنى لنسخ التلاوة أو المنسأ هنا لأنه لم ينـزل قرآن هو خير منها أو مثلها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هو معلوم بالبداهة !
  ثانيا : حتى لو تجاوزنا رواية المصنف ، فإن هذا التأويل لقولها ( وهن فيما يقرأ من القرآن ) خلاف ظاهر اللفظ والمتبادر منه ، لأن المتبادر منه أن تلك الآية كانت كغيرها من آيات القرآن لا أنـها كانت من غير القرآن لكن الصحابة ألحقوها في القرآن لجهلهم !!

--------------------
(1) مصنف عبد الرزاق ج7ص469ح 13928 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _498 _
  وواضح أن تأويل الكلام إلى خلاف ظاهره يحتاج إلى دليل يدل عليه ، وإلا لفسد الدين بل لفسدت كل أقوال العقلاء .
  وقد قال شيخهم صاحب تفسير المنار : ( وإذا سأل سائل لماذا لم يثبتوها حينئذ في القرآن ؟ أجابه الجامدون على الروايات من غير تمحيص لمعانيها بجوابين : … ثانيهما : انـهم لم يثبتوها لعلمهم بأنـها نسخت وقول عائشة أنـها كانت تُقرأ يراد به أنه كان يقرأها من لم يبلغه النسخ وهذا الجواب أحسن وأبعد عن مثار الطعن في القرآن برواية آحدية ، ولكنه خلاف المتبادر من الرواية ) (1) .
  لذا فمن يؤول الكلام ويحمله على خلاف ظاهره مطالب بالدليل ، وحيث لا دليل فظاهر الكلام هو المعتمد ، وهذا في حال عدم وجود دليل على بطلان تأويلهم فكيف لو كان هناك دليل على بطلان هذا التأويل وهي رواية المصنف ؟!
  ثالثا : لو صح تأويلهم هذا من أن بعض الصحابة كان يقرأ بـها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لما انفردت عائشة بنقل هذه الآيات المزعومة .
  رابعا : إن كان تأويلهم صحيحا ، فلماذا لم تنقل لنا رواية واحدة تحكي قراءة فلان من الصحابة لـهذه الآية كما نقلوا شواذ القراءات عن الكثير من الصحابة بأقل من هذا المورد ، كما سيأتي .
  خامسا : لا معنى لطرح نسخ التلاوة كتأويل لما قالته عائشة ، لأن نسخ التلاوة يثبت التحريف ولا ينفيه كما بينا سابقا ، فإن إدعاءه يعني التسليم المسبق بقرآنية الآيتين ، وحيث لا تواتر على قرآنيتهما فيعني أنـهم أدخلوا في القرآن آيتين ليستا منه ، ولو حصلّوا التواتر ـ ولن يفعلوا ـ يلزمهم لإثبات نسخهما وعدم ضياعهما من المصحف تواتر آخر وهذا مفقود قطعا .
  ولذا فإن من يصحح الرواية عن عائشة يلزمه على أحسن التقادير أن يقول إن عائشة كانت ترى تحريف القرآن اشتباها وخطأ .

--------------------
(1) تفسير المنار ج4ص473 للأستاذ محمد رشيد رضا ط دار المنار 1365ه‍ .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 499 _
من طعن في مضمون رواية صحيح مسلم من علماء أهل السنة .
  وحيث أنه لا يمكن تأويل هذه الرواية بلا دليل فقد ذهب بعض علماء أهل السنة إلى رفض الرواية والحكم بكذبـها لأنـها تطعن في صميم القرآن وقداسته ، والبعض منهم رفض مضمونـها فقط دون التعرض لأصل الرواية ! مع أن رفض المضمون مع القول بصحتها هو تكذيب أو تخطئة من صح إليه الإسناد وهي عائشة ! :
  قال الإمام السرخسي : ( والشافعي لا يظن به موافقة هؤلاء في هذا القول ولكنه استدل بما هو قريب من هذا في عدد الرضعات ، فإنه صحح ما يروى عن عائشة : وان مما أنزل في القرآن (عشر رضعات معلومات يحرمن) ، فنسخن بخمس رضعات معلومات وكان ذلك مما يتلى في القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله .
  والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 )، والمعلوم أنه ليس المراد الحفظ لديه تعالى ، فانه يتعالى من أن يوصف بالغفلة أو النسيان ، فعرفنا أن المراد الحفظ لدينا … وقد ثبت أنه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينـزل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ولو جوزنا هذا في بعض ما أوحي إليه لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه ، فيؤدي ذلك إلى القول بأن لا يبقى شيء مما يثبت بالوحي بين الناس في حال بقاء التكليف .
  وأي قول أقبح من هذا ؟! ومن فتح هذا الباب لم يأمن أن يكون بعض ما بأيدينا اليوم أو كله مخالفاً لشريعة رسول الله صلى الله عليه وآله بأن نسخ الله ذلك بعده … وبه يتبيّن أنه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته ، وما ينقل من أخبار الآحاد شاذ لا يكاد يصح شيء منها .
  وحديث عائشة لا يكاد يصح لأنه ـ الراوي ـ قال في ذلك الحديث : وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وآله فدخل داجن البيت فأكله ، ومعلوم أنه بـهذا لا ينعدم حفظه من القلوب ، ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أخرى فعرفنا أنه لا أصل لهذا الحديث ) (1) .

--------------------
(1) أصول السرخسي ج 2 ص 78ـ80 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 500 _
  وقال في المبسوط : ( أما حديث عائشة رضى الله تعالى عنها فضعيف جدا لأنه إذا كان متلوا بعد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ونسخ التلاوة بعد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم لا يجوز فلماذا لا يتلى الآن وذكر في الحديث فدخل داجن البيت فأكله ) (1) .
  وقال القرطبي : ( واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين أحدهما خمس رضعات لحديث عائشة قالت : كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات وتوفى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وهن مما يقرأ من القرآن موضع الدليل منه أنـها أثبتت أن العشر نسخن بخمس فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخا للخمس ، ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس لأنه لا ينسخ بـهما ) (2) .
  وقال ابن حجر العسقلاني : ( فقول عائشة عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فمات النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وهن مما يقرأ لا ينتهض للاحتجاج على الأصح من قولي الأصوليين لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر فلم يثبت كونه قرآنا ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه ) (3) .
  وقال ابن عبد البر : ( قال أبو عمر أما حديث عائشة في الخمس رضعات فرده أصحابنا وغيرهم ممن ذهب في هذه المسألة مذهبنا ودفعوه بأنه لم يثبت قرآنا وهي قد أضافته إلى القرآن وقد اختلف عنها في العمل به فليس بسنة ولا قرآن ) (4) .
  وقال ابن التركماني : ( قد ثبت أن هذا ليس من القرآن الثابت ولا تحل القراءة به ولا إثباته في المصحف ومثل هذا عند الشافعي ليس بقرآن ولا خبر ) (5) .

--------------------
(1) المبسوط للسرخسي ج5ص134 .
(2) تفسير القرطبي ج15ص109.
(3) فتح الباري ج9ص147.
(4) التمهيد لابن عبد البر ج8ص268ـ269.
(5) الجوهر النقي لابن التركماني ج7ص454 ط دار الفكر .