3 ـ سلمنا ، ولكن من قال إن الذين قرؤوا على ابن مسعود لم يعترضوا على إنكاره للمعوذتين ؟! فهاهي الروايات صريحة في اعتراض زر بن حبيش عليه وابن مسعود شيخه في القراءة !
  فدفاع ابن حزم فاسد من رأسه إلى أخمص قدميه ، والوهابية الغرقى يلقون السمع لأي قائل ويتسمكون به ، والغريق يتمسك بقشه !
* ابتدأت معمعة التأويل !
  ولدفع إشكال الرازي ذكر ابن حجر جوابا عنه ، قال : ( وأجيب باحتمال أنه كان متواترا في عصر ابن مسعود لكن لم يتواتر عند ابن مسعود ، فانحلت العقدة بعون الله ) (1) .
  وللأسف ، فإن العقدة مازالت عالقة بل تعقدت أكثر ! ، لأمور :
  1 ـ ما ذكره ابن حجر ليس إلا احتمال لم يقم الدليل عليه وقد نص ابن حجر على كونه احتمالا .
  2 ـ من قال إن وجوه الصحابة الذين سمعوا آيات القرآن وعلموا بـها وجدانا يحتاجون لتواتر النقل لتثبت الآيات عندهم ؟! هذا خلاف المنطق ، لأن التواتر طريق إلى اليقين والحس المباشر هو عين اليقين ، ناهيك عما في يتضمنه هذا الكلام من تعذر اليقين بالقرآن لابتلائه بالدور ، حيث يحتاج كل صحابي للتواتر .
  3 ـ سلمنا ، ولكن من غير المعقول أن تتواتر سورتان بين الصحابة بعددهم الهائل الذي يصل قرابة مائة ألف صحابي وفي نفس الوقت يقصر التواتر عن ابن مسعود الذي بقي على قيد الحياة بينهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

--------------------
(1) فتح الباري ج 8ص743 ط دار المعرفة.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 452 _
  مدة أكثر من ثلاث عشرة سنة !! ، هذا أمرٌ لا يمكن تصوّره فضلا عن قبوله فابن مسعود لم يكن يسكن الوديان وكهوف الجبال حتى يتحقق التواتر عند الصحابة ولا يتحقق عنده !
  4 ـ ثم إن موقف ابن مسعود وكلامه ليس موقف من لم يثبت عنده قرآنية السورتين ، الذي من شأنه أن يتوقف في حكم المسألة ويكل أمرها إلى الله عز وجل ، لأن موقفه هو موقف الرافض المعارض للفكرة والمتشبث برأيه ، فقد قام بحكها من الصحف ودعا الناس لعدم خلطها بالقرآن لأن المعوذتين من غيره ، وأنـهما نزلتا كعوذتين وليستا كقرآن ، فأين هذا من ذاك ؟!!
  وعليه ، فمازالت الروايات سليمة وبعيدة عن الطعن والخدش في السند والدلالة وهذا يعني أن ما ذهب له الفخر الرازي وجماعته من تكذيب الروايات ليس بصحيح ، وما أشكله الفخر الرازي على بني جلدته ما زال قائما لم يدفعه تـهالك ابن حجر .
  ولتفاهة توجيه ابن حجر لم يقبله بعض الأساتذة فقال معرضا به : ( وقد أبى ابن حجر إلا تصحيح تلك الرواية (1) ، فقال في شرح البخاري (فقول من قال إنه كذب عليه مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل )، ثم لم يستطع تأويلا مقبولا ، والله يغفر لنا وله ) (2) .

--------------------
(1) كلامه يوهم أن تصحيح الروايات نبع من ابن حجر ! مع أن صحة السند هو القول الفصل في المسألة لا رأي فلان وفلان ! وليس ابن حجر هو الوحيد الذي صحح الروايات ، فقد صححها كثير غيره ، وصححها كل من التمس للروايات تأويلا ، وصححها كل من حكم بصحة كل ما أخرجه البخاري في صحيحه ، وكذا من أخذ بالروايات واعترف بأن ابن مسعود أنكر المعوذتين ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
(2) هامش إعجاز القرآن للباقلاني ص442 تحقيق أحمد صقر ط دار المعارف بمصر .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _453 _
  والذين ركبوا صعب ابن حجر كثيرون ، فقبلوا الروايات والتمسوا لـها الوجوه والتخريجات ، نحو هذا التأويل الذي شاع وذاع مع أنه أكثر تفاهة من السابق ، وقد ذكره القرطبي في تفسيره ثم رده في وجه صاحبه :
  ( وقال بعض الناس : لم يكتب عبد الله المعوِّذتين لأنّه أمن عليهما من النسيان فأسقطهما وهو يحفظهما كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه وما يُشكّ في حفظه وإتقانه لها ، فرُدّ هذا القول على قائله وأقبح عليه بأنّه قد كتب : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) و ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) وهنّ يجرين مجرى المعوذتين في أنـهن غير طوال والحفظ إليهن أسرع ونسيانـهن مأمون وكلّهن يخالف فاتحة الكتاب إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتـها وسبيل كل ركعة أن تكون المقدّمة فيها قبل أن يقرأ من بعدها فإسقاط فاتحة الكتاب من المصحف على معنى الثقة ببقاء حفظها والأمن من نسيانـها صحيح وليس من السور ما يجري في هذا المعنى مجراها ولا يسلك به طريقها وقد مضى هذا المعنى في سورة الفاتحة والحمد لله ) (1) .
  ثم ذكر القرطبي في موضع آخر من تفسيره تأويلا يتخلص به من إشكال الكفر الذي ذكره الفخر الرازي ، فعن يزيد بن هارون أنه قال : ( المعوّذتان بمنـزلة البقرة وآل عمران من زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم ، فقيل له : فقول عبد الله بن مسعود فيهما ؟ فقال : لا خلاف بين المسلمين في أن عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله ) (2) .
  وهذه أوهن من بيت العنكبوت ، لمناقضتها للأحاديث التي لا كلام عندهم في صحّتها من أن ابن مسعود كانت قراءته آخر قراءة ، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة باستقرائه القرآن ، بالإضافة إلى إن هذا القول لا يرفع شبهة الكفر ، إذ ليس من اللازم كي يحكم بكفر المنكر لآيات القرآن أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب ! فقد ينكر المرء سورة البقرة فيحكم بكفره وإن لم يكن حافظا لها ! ، ثم هل من المعقول ألا يحفظ ابن مسعود المعوذتين ؟!!

--------------------
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج20ص251.
(2) ن.م ج1ص53.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 454 _
* الغريق والقشة !
  وبقيت آخر ورقة عند القوم وهي أن ابن مسعود رجع عن إنكاره لقرآنية المعوذتين ، وقد ذهب له بعضهم كابن كثير في تفسير سورة الفلق ، والفخر الرازي في مقدمة تفسيره وقال إن هذا من باب حسن الظن بابن مسعود !
  وكلام هؤلاء يتضمن اعترافا صريحا بتحريف ابن مسعود للقرآن وأنه أنكر قرآنية المعوذتين ، ولكنهم من باب حسن الظن به قالوا برجوعه عن تحريفه ، ونحن نقبل ما قامت عليه الأدلة وهو ثبوت التحريف وقد اعترفوا به ، أما رجوعه عن التحريف فهذا لا دليل عليه إلا حسن الظن ! ، فنأخذ منهم ما قام عليه الدليل ونترك لهم حسن الظن ، ولو كان حسن الظن يجدي نفعا في المقام لقال الشيعة إن العلماء الشيعة الذين قالوا بتحريف القرآن تراجعوا عن أقوالهم وبنفس الدليل ، وتنتهي القضية .
* وشهِد شاهدٌ من أهلها :
  وبعد أن ذكرنا قول مَن قبل الروايات وحاول بتكلف تأويلها ، نذكر هنا بعض من اعترف بدلالتها الواضحة ، فصرح أن ابن مسعود أخطأ ولا يمكن القول بأن الصحابة كلهم أخطأوا وابن مسعود أصاب بمفرده ، وما شذ به ابن مسعود من القول بتحريف القرآن يلزمه وحده ، ومن هؤلاء العلماء ابن قتيبة الدينوري في تأويل مشكل القرآن والقرطبي في تفسيره ، والعلامة البزار في مسنده ، وغيرهم الكثير من علماء أهل السنة الآتية أسماؤهم وكلماتـهم في مقام آخر بإذنه تعالى .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 455 _
  قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن : ( وأما نقصان مصحف عبد الله بـحذفه أُمّ الكتاب والمعوذتين وزيادة أبي سورتي القنوت ، فإنا لا نقول : إن عبد الله وأُبـيًّا أصابا وأخطأ المهاجرون والأنصار ، ولكن عبد الله ذهب فيما يرى أهل النظر إلى أن المعوذتين كانتا كالعُوذَةِ والرُّقية وغيرها ، وكان يرى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يُعَوّذ بـهما الحسن والحسين وغيرهما ، كما كان يُعوّذ بكلمات الله التامة ، وغير ذلك ، فظن أنـهما ليستا من القرآن ، وأقام على ظنّه ومخالفته الصحابة ) (1) .
  واعترف القرطبي في تفسيره بالطامة التي جاء ابن مسعود بـها خارقا إجماع الصحابة وأهل البيت عليهم السلام ، فقال : ( وزعم ابن مسعود انّهما تعوّذ به وليستا من القرآن وخالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت ) (2) .
  وكذا اعترف علامتهم البزّار في مسنده : ( لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أنه قرأ بـهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف ) (3) ، وبقية اعترافات علمائهم تأتي بإذنه تعالى في محل آخر .
  وكما ترى فإن رفض ابن مسعود لقرآنية المعوذتين ليس مجرد نقل محدّثين يروون الرواية كما يسمعونـها ، بل هو معتقد علمائهم .

--------------------
(1) تأويل مشكل القرآن ص33 ، لابن قتيبة تحقيق سيد أحمد صقر ط ، الحلبي .
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 20 ص251 .
(3) الدر المنثور ج4ص416 ط دار المعرفة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 456 _
* فذلكة البحث :
  يمكننا القول على ضوء ما تمليه علينا روايات أهل السنة ، أن التساهل في مدعى ابن مسعود والتغاضي عنه أمر غير صحيح ولا يمكن قبوله البتة ، وذلك لأمور :
  1 ـ ادعى أهل السنة أن ابن مسعود هو الوحيد الذي علم العرضة الأخيرة للقرآن وهي التي عرضها أمين الوحي على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في آخر حياته الشريفة .
  فهذا ما صح عن ابن عباس : ( قال : أي القراءتين ترون كان آخر قراءة ؟ قالوا : قراءة زيد ، قال : لا ! إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عليه عرضتين فكانت قراءة ابن مسعود آخرهن ) (1) .
  والمقصود من آخر قراءة هو القرآن الذي استقر عليه الإسلام ، فتكون قراءة ابن مسعود التي التزم بـها طيلة حياته هي القراءة التي نسخ منها ما نسخ ، وبُدّل منها ما بُدل من الآيات والسور ـ بزعمهم ـ ولا أحد يعلم بـها إلا ابن مسعود كما نص عليه ابن عباس سابقا ، ومثلها هذه الرواية :
  ( قال : أيّ القراءتـيّن تعدّون أوَّل ؟ قالوا : قراءة عبد الله ، قال : لا ! بل هي الآخرة ، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في كل عام مرّة ، فلمّا كان العام الذي قبض فيه عرض عليه مرّتين فشهد عبد الله ، فعلم ما نسخ وما بُدِّل ) (2) .
  وقال ابن حزم : ( حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : أي القراءتين تعدون أول ؟ قلنا : قراءة عبد الله ! قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه

--------------------
(1) المستدرك على الصحيحين ج2ص230 وقال الحاكم (صحيح الإسناد على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي .
(2) مسند أحمد بن حنبل ج5ص141ـ142ح3422 ، والمصنّف لابن أبي شيبة ج10ص559ح10337، ط دار المعارف ، وعُلّق عليه بالهامش (إسناده صحيح)، وراجع مسند أحمد ج1ص275ح2494 وص362ح3422 ، قال في مجمع الزوائد ج9ص288: (في الصحيح بعضه رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 457 _
  القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه فإنه عرض عليه مرتين فحضره عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل ) (1) .
  وقال ابن حجر العسقلاني : ( ومن طريق مجاهد عن ابن عباس قال : أي القراءتين ترون كان آخر القراءة ؟ قال : قراءة زيد بن ثابت ، فقال : لا ! إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل فلما كان في السنة التي قبض فيها عرضه عليه مرتين ، وكانت قراءة بن مسعود آخرهما ، وهذا يغاير حديث سمرة ومن وافقه ) .
  وقال : ( وعند مسدد في مسنده من طريق إبراهيم النخعي أن ابن عباس سمع رجلا يقول : الحرف الأول ، فقال : ما الحرف الأول ؟ قال : إن عمر بعث ابن مسعود إلى الكوفة معلما ، فأخذوا بقراءته ، فغير عثمان القراءة فهم يدعون قراءة ابن مسعود الحرف الأول ، فقال ابن عباس : إنه لآخر حرف عرض به النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم على جبريل ، وأخرج النسائي من طريق أبي ظبيان قال : قال لي بن عباس : أي القراءتين تقرأ ؟ قلت : للقراءة الأولى قراءة ابن أم عبد ، يعني عبد الله بن مسعود قال : بل هي الأخيرة ! إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم كان يعرض على جبريل ، الحديث ، وفي آخره فحضر ذلك ابن مسعود فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل ، وإسناده صحيح ) (2) .

--------------------
(1) الإحكام لابن حزم ج6ص266.
(2) فتح الباري ج9ص46 ، بـهذا تعلم قيمة ما ذكره ابن تيمية في مجموع فتاواه ج13ص395 : ( فإنه ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن جبريل عليه السلام كان يعارض الني صلى الله عليه (وآله) وسلم بالقرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره ) !! ، وابن تيمية وجد في كلمة (وغيره) مندوحة ، أو قل مهربا من المؤاخذة لأن ابن مسعود والصحابة وأنا وأنت ندخل في قوله (وغيره) ‍!! وأضف إلى ذلك أن عثمان كان يأمر كتبة المصحف حال اختلافهم مع زيد أن يذروا قراءة زيد ويكتبوه بلسان قريش ، فكيف يكون زيد هذا آخر الناس عهدا بعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟! ، قال ابن حجر في الفتح ج9ص20 : ( قال ابن شهاب : فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه ، فقال القرشيون التابوت وقال زيد التابوه فرفعوا اختلافهم إلى عثمان فقال : اكتبوه التابوت فانه نزل بلسان قريش ) ، فالظاهر أن ابن تيمية يرى مخيلته كافية للحكم والبت بأي شيء يعترضه !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 458 _
  أقول : فعلى هذا ما المانع أن تكون المعوذتان قد نُسختا بالعرضة الأخيرة للقرآن ، وأن ابن مسعود علم ذلك وحده لاستئثاره بالقراءة الأخيرة ، فكان يمحوها من المصحف ويقول لا تخلطوا فيه ما ليس منه لعلمه بما نسخ وما بُدّل ؟! ، بل هو الصحيح على مذهب أهل السنة .
  2 ـ اتفق البخاري ومسلم على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة أن يستقرئوا القرآن من ابن مسعود وأن يتلقوه منه :
  ( قال صلى الله عليه (وآله) وسلم : استقرئوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ).
  وكذا : ( عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن عمرو فذكرنا حديثا عن عبد الله بن مسعود فقال أن ذاك الرجل لا أزال أحبه بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يقوله سمعته يقول إقرؤا القرآن من أربعة نفر ، من ابن أم عبد فبدأ به ومن أبي بن كعب ومن سالم مولى أبي حذيفة ومن معاذ بن جبل ) (1) .

--------------------
(1) صحيح البخاري (كتاب فضائل الصحابة ) باب مناقب عبد الله بن مسعود ج4ص199 ، وباب مناقب سالم مولى أبي حذيفة وكذا مناقب معاذ بن جبل و مناقب أبي بن كعب ، و صحيح مسلم ج4ص913 .
  أقول : لم تعان المعوذتان من ابن مسعود فقط ، بل إن أبي بن كعب وهو الرجل الثاني الذي أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة باستقرائه القرآن يشك ـ بحسب رواياتـهم ـ في أن المعوذتين نزلت من السماء قرآنا أم لا ! ، حيث قال عندما سئل عن المعوذتين ( فقلت : يا أبا المنذر ! إن أخاك ابن مسعود يحكّها من المصحف ، قال : إني سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : قال لي : ( قل ) ، فقلت ، فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ).
  وكلام أبي بن كعب يعني أن النبي صلى الله عليه وآله لم يصرح بقرآنية المعوذتين ! بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( قال لي جبرئيل : قل أعوذ برب الفلق … قل أعوذ برب الناس … !! ) فلم يبين لـهم صلى الله عليه وآله وسلم أنـها منه ! ، والمتيقن عند أبي بن كعب أنـهما أنزلتا من السماء ولكنه يشك في نوع هذا التنـزيل ، أقرآن هو أم عوذتان !
  ويؤيد ذلك ما قاله ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ج3ص81 : ( واختلف على أبي بن كعب في إثبات المعوذتين ) وكل هذا يدعم ويؤيد ما ذهب له ابن مسعود من عدم وجود نص صادر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على قرآنيتهما ! ، بل إن المتأمل في ما حكته الرواية من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشعر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه لم يكن يعلم ماهية المعوذتين هل هي قرآن أم عوذتان !!

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 459 _
  بالإضافة للروايات التي تجعل قراءة ابن مسعود طبق الأصل من الكتاب الذي أنزله الله عز وجل : ( من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه من أم عبد ) (1) .
  فكل هذه النصوص تأخذ بأعناق أهل السنة بوجوب التمسك بقراءة ابن مسعود ، وعليه فيجب عليهم اتباعه في إنكار المعوذتين .
  3 ـ لو وقفت الروايات عند هذا الحد لهان الأمر لكن رواياتـهم ذهبت إلى أبعد من ذلك ، مما يجعل مخالفة ابن مسعود مساوية لسخط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأننا مأمورون بقبول ما حدثنا به ابن مسعود ، ومن باب أولى يجب علينا عدم مخالفته في القرآن الذي كان مرجعا فيه دون غيره ، وبز فيه الجميع .
  فقد جاء في مجمع الزوائد : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد وكرهت لأمتي ما كره لها ابن أم عبد ) (2) .
  وجاء في صحيح الجامع الصغير للألباني : ( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بـهدي عمار ، وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه ) (3) .
  فيجب على أهل السنة أن يقبلوا حديث ابن مسعود وما ادعاه من تحريف المصحف وزيادة عوذتين ليستا القرآن فيه .

--------------------
(1) مسند أحمد ج1ص7وص26و38و454 ، ج2ص446 ، ج4ص279 ، سنن ابن ماجة ج1ص49 ، السنن الكبرى ج1ص452 ، مجمع الزوائد ج9ص287و51و632 ، ج11ص710 ، ج13ص460و463 .
(2) مجمع الزوائد المجلد التاسع ص 290 وعلق عليه ( رواه الطبراني في الأوسط باختصار الكارهة ورواه في الكبير منقطع الإسناد وفي إسناد البزار محمد بن حميد الرازي وهو ثقة ، وفيه خلاف وبقية رجاله وثقوا ).
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني ج1ص254ح1144 ط المكتب الإسلامي . أقول : هذه الرواية وما يماثلها لا شك في كذبـها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن أول الرواية يناقض آخرها إذ كيف نـهتدي بـهدي عمار فنعتصم في بيت فاطمة عليها السلام ولا نبايع ابن أبي قحافة ، ومع ذلك نقتدي بابن أبي قحافة ، ثم لماذا لم يحتج بـها ابن أبي قحافة وابن الخطاب عندما صارت المشادة في سقيفة بني ساعدة وصار كل منهم يدلي بدلوه ويفتخر بما عنده ويذكر بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
  ولو فرضنا أنـهما نسيا أو لم يسمعا بـها فما بال الأنصار نسيت ولم تسمع به ؟! ، والحق إن هذين الرجلين لو قدر لهما وخرجا من قبريهما وقرآ هذه الروايات لما علما من المقصود من أبي بكر وعمر !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 460 _
* النتيجة :
  طبقا لما ألزموا به أنفسهم ، فإن أمامهم خيارين لا ثالث لهما فإما أن يقولوا أن المعوذتين ليستا من القرآن وأنـهما مجرد عوذتين عوّذ بـهما رسول الله صلى الله عليه وآله الحسن والحسين عليهما السلام ، وإما أنـهما من القرآن وابن مسعود أنكر سورتين من القرآن فهو كافر مرتد .
  ومقتضى أدلتهم الصحيحة المبينة قدر ومنـزلة ابن مسعود وعلمه بالعرضة الأخيرة للقرآن التي لا علم للصحابة بـها يلزمهم الأخذ بالشق الأول فيكون المسلمون كلهم من السلف إلى الخلف يتعبّدون بقرآن محرّف لأنـهم أدخلوا فيه عُوذتين .
  وباختصار إما أن ابن مسعود قال بتحريف القرآن لأنه أسقط منه سورتين فهو كافر (1) ، وإما أن ابن مسعود مصيب لاختصاصه بالعرضة الأخيرة ، فالقرآن محرّف بزيادة عوذتين .

ثالثا : فقدان سورتين إحداهما تعدل التوبة وأخرى المسبحات !
  أخرج مسلم في صحيحه : ( عن أبي الأسود ظالم بن عمرو قال : بَعثَ أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجلٍ قد قرءوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم ، فأتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنـّـا كنّـا نقرأ سورةً كنّـا نشبِّهـها في الطّول والشّدة ببراءة ، فأنْسيتُها ، غير أنّي قد حفظت منها : ( لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى وادياً

--------------------
(1) لا وجود لهذه اللغة في مذهب أهل البيت عليهم السلام ، لما مر من أن الحكم بالكفر لإنكار الضروري لا يصح مع الشبهة والالتباس ـ إن سلمنا أن سلامة القرآن من التحريف ضروري من الدين لما مرّ في محله ـ فما المانع أن يلتبس الأمر على ابن مسعود بعد أن سمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعوذ بـهما الحسن والحسين عليهما السلام فظن أنـهم أنزلتا من السماء كعوذتين لا كقرآن ؟ ، ولكنا نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 461 _
  ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ) وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبـّـهها بإحدى المسبِّحات فأنسيتها غير إنّي حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادةٌ في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيامة ) (1) .
  وعن الدر المنثور ( وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس عن أبي موسى الأشعري قال : نزلت سورة شديدة نحو براءة في الشدة ثم رفعت وحفظت منها ( إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ) ) (2) .
  وفي مجمع الزوائد ( عن أبي موسى الأشعري قال : نزلت سورة نحوا من براءة فرفعت فحفظت منها ( أن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ) ) (3) .
  ولا أدري هل شبيهة براءة في الروايتين الأخيرتين هي نفس الشبيهة الأولى أم غيرها ؟ ، وعلى أقل تقدير قد فقدنا سورتين من المصحف .
  والسؤال هنا : أين ذهبت هاتان السورتان ؟ ، ولماذا لم يذكرهما غير أبي موسى الأشعري ؟ وكيف أثبتوا ما ليس من القرآن فيه برواية آحاد ؟ أسئلة كثيرة لا جواب عنها إلا تحريف القرآن بالزيادة أو النقيصة ، كما مر .
  إلى هنا ثبت أن هناك ست سور مطروحة على طاولة التحريف عند أهل السنة وهي الفلق ، و الناس ، والحفد ، والخلع ، وعِدل براءة ، وعِدل المسبحات .

--------------------
(1) صحيح مسلم ج3ص100 كتاب (الزكاة باب كراهية الحرص على الدنيا) وبشرح النووي ج7ص139،140 ، وعن المسند الجامع ج11ص414 (أبو موسى الأشعري) ، وسيأتي الكلام عن الآيتين المزعومتين ، وعن الإتقان في علوم القرآن ج2ص25 (ذكر جزء الحديث الأخير فقط)
(2) الدر المنثور ج1ص105 .
(3) مجمع الزوائد ج5ص302 وعلق عليه ابن حجر الهيثمي : ( رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد وفيه ضعف ، ويحسن حديثه لهذه الشواهد ).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 462 _
  ( قسم الآيات )

أولا : التحريف بفقدان آيات كاملة من القرآن :
  بعد الفراغ من مبحث السور ننقل الكلام إلى مبحث الآيات ، وهذا المبحث ينقسم إلى قسمين ، المبحث الأول يتناول آيات مجهولة النص فقدت من القرآن وعددها كبير جدا كما تمليه رواياتـهم الآتية ولنسمه بالتحريف الإجمالي ، وهذا القسم عظيم الضرر على ما بين أيدينا من القرآن لأنه يرفع حجية العمل بكل آية في المصحف لاحتمال أن الناسخ أو المخصص أو المقيد قد سقط وحُرّف .
  وقسم آخر هي آيات معروفة النص ذكرها بعض الصحابة وليست موجودة في مصحفنا ، ولنسمه بالتحريف التفصيلي ، هذا فقط بالنسبة لتحريف الآيات الكاملة ، وسيأتي بإذنه تعالى الكلام عن تحريف كلمات الآية الواحدة .
  (1) التحريف الإجمالي :
* يوم اليمامة ضياع القرآن !
  قد مر عندما تكلمنا عن جمع القرآن الأول في زمن أبي بكر أن روايات أهل السنة ـ على ما فيها من التناقض ـ تذهب إلى أن ما دعاهم لجمع القرآن هو قتل كثير من قرّاء القرآن في يوم اليمامة أثناء محاربة مسيلمة الكذاب ، وقد جاءتنا روايات صحيحة صريحة عن أكابر أهل السنة تحكي ضياع آيات من القرآن ، ولا يمكن تأويل هذه الروايات بأي وجه حيث أن هذا الفقدان كان بعد زمن النبوة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 463 _
  وهذا ما رواه أبو بكر بن أبي داود بسند صحيح في المصاحف : ( حدثنا أبو الربيع ، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ـ الزهري ـ قال : بلغنا أنه كان قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب فلما جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن ولم يوجد مع أحد بعدهم ) (1) .
  قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد : ( وروى أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا سيف عن مجاهد قال : كانت الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول ، ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآن كثير ، ولم يذهب منه حلال ولا حرام ) (2) .
  قال الحافظ عبد الرزاق الصنعاني في المصنف : ( قال سفيان الثوري : وبلغنا أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم كانوا يقرؤون القرآن أصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من القرآن ) (3) .
  ولا شك أنا نبرأ إلى الله من هذه الأقوال ، ونعوذ بالله منها ، وستأتي ترجمة كل واحد من هؤلاء الذين قالوا بـهذا الكفر ـ بزعم الوهابية ـ لبيان أن هؤلاء من أكابر العلماء عند أهل السنة وأرفع سادات سلفهم الصالح .
عمر يعترف أن القرآن كان أضعاف هذا الموجود !
  في الدر المنثور : ( أخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف فمن قرأه صابرا محتسبا فله بكل حرف زوجة من الحور العين ) (4) .

--------------------
(1) المصاحف لأبي بكر بن أبي داود ص31 ونقله عنه في منتخب كنز العمال المطبوع بـهامش مسند أحمد ط 1ج2ص50.
(2) التمهيد في شرح الموطأ ج4ص275 شرح حديث21.
(3) المصنف للصنعاني ج7ص330 ذيل حديث 13363.
(4) الدر المنثور ج6ص422 ، الإتقان في علوم القرآن ج2ص70 ، ملاحظة : هذه الرواية عن عمر ذكرها الدكتور محمد سالم محيسن في كتابه رحاب القرآن الكريم ص132 لبيان عدد حروف القرآن الكريم ، واقتصر عليها ولم يعلّق عليها بكلمة ، ولم يشر إلى أن القرآن الموجود بين أيدينا اليوم أقل من هذا الرقم بكثير ، وهذا الأمر لو صدر من عالم من علماء الشيعة لكان في نظر الوهابية ممن يقول بتحريف القرآن جزما ولطبلوا ولزمروا ولرموا الشيعة كلهم بتـهمة تحريف القرآن ، وحتى لو تأسف وأقر بخطئه وقال هذا من سهو القلم ، لقالوا : إنـها التقية ! ، فلا يقف تـهريج الوهابية عند حد !.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 464 _
  وما نسبه عمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضح بسقوط أكثر من ثلثي القرآن الكريم لأن عدد أحرف القرآن الموجود بين أيدي المسلمين اليوم هو ثلاثمائة ألف وثلاثة وعشرون حرفا وستمائة وواحد وسبعون حرفا ! وسيتضح أن عمر حاول تأكيد فكرة وقوع التحريف في آيات القرآن بمقولات كثيرة ستأتي بإذنه تعالى ، ومنها ما أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في المصنّـف :
  ( عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس يقول : أمر عمر بن الخطاب مناديا ، فنادى : إن الصلاة جامعة ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أيها الناس لا يجزعن من آية الرجم فإنـها آية نزلت في كتاب الله وقرأناها ولكنها ذهبت في قرآن كثير ذهب مع محمد ! ) (1) .
  فأين ذهبت كل هذه الجموع من الآيات التي اختص الله علمها بابن الخطاب ؟ ، وكيف ذهب قرآن كثير حينما ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يحفظه غيره حتى فُقد قدر مجلدين وبقي مجلد واحد وهو مصحفنا ؟!
  ملاحظة : لا مجال هنا للقول بخزعبل نسخ التلاوة كما ذهب له بعض علماء أهل السنة ، وهو ما ذكره السيوطي : ( قال بعض العلماء : هذا العدد باعتبار ما كان قرآنا ونسخ رسمه وإلا فالموجود الآن لا يبلغ هذه العدة ) (2) .
  فهذه الموارد خارجة عن نسخ التلاوة ، إذ أن نسخ التلاوة يعني رفع آية وإحلال آية أخرى محلّها لصريح ما استدلوا به من قوله تعالى (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَو

--------------------
(1) المصنف للصنعاني ج7ص345ح13329 .
(2) الدر المنثور ج6ص422 ، أقول : وهذا يدل على أن الرواية معتمدة عند هؤلاء العلماء ولكن الذهبي تفرد بخدش الراوي على مزاجه ، وهذا التفرد أشار له ابن حجر كما قلنا .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 465 _
   مِثْلِهَا ) ( البقرة / 106 ) وواضح أن هذا العدد الذي ذكره عمر لم يحل محله آخر وإلا لما نقص (1) ، فأين ذهبت ؟! * القرآن ذهب منه الكثير !
  وبسند صحيح عن ابن عمر قال : ( لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كلّه وما يدريه ما كلّه ! قد ذهب منه قرآن كثير ، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر ) (2) .
  وكلام ابن عمر هذا نصٌ صريح في سقوط كثير من آي القرآن وفقدانـها ، وهو التحريف المقصود بحدّه وحدوده .
  ولكن بعض علماء أهل السنة حاول ستر ريح ما جاءهم به ابن عمر فقالوا مؤولين متلكئين : إنه قصد بالذي ذهب من القرآن منسوخ التلاوة !
  وهذا الكلام باطل بلا ريب ، لأمور :
  1 ـ قوله ( وما يريه ما كله؟! ) هو استفهام استنكاري يفيد النفي والتعجب من قول من يقول إنه قد أخذ القرآن كاملا وهذا لا يمكن تفسيره بنسخ التلاوة ، لأن الله عز وجل في نسخ التلاوة ـ كما زعموا ـ يلغي الآية وينسخها فيحل محلها ويسد نقصها بآية أخرى مكانـها فلا ترفع آية أو تمحى إلا وتنـزل مثلها أو خير منها تقوم مقامها لذا لا تنقص الآيات

--------------------
(1) وأنا إنما أذكر هذه التأويلات السخيفة والفاسدة حتى يتضح لدى القارئ الكريم أن لدى أهل السنة مهمة رئيسية وحاجة ملحة تشغل حيزا كبيرا من فكرهم وعقائدهم وهي التأويل والتوجيه للمصائب والرزايا التي ابتلوا بـها بسبب أفعال سلفهم الصالح وآرائهم في الدين ، فهم دائما يحاولون تقويم آرائهم وأفعالهم المعوجة ، وللأسف فإن هذا التقويم يكون في الغالب على حساب الدين .
(2) الدر المنثور ج2ص298.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 466 _
  وإنما تتبدل ، وهذا لم يقصده ابن عمر وإنما قصد النقص وذهاب كثير من القرآن وليس في نسخ التلاوة نقص للقرآن وإنما تبديل وإحلال .
  ولنذكر بعض كلمات علماء أهل السنة في هذا المجال ، قال الشنقيطي في مذكرة أصول الفقه : ( فالعجب كل العجب من كثرة هؤلاء العلماء وجلالتهم من المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم القائلين بجواز النسخ لا إلى بدل ووقوعه مع أن الله يصرح بخلاف ذلك في قوله تعالى ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة / 106 ).
  فقد ربط بين نسخها وبين الإتيان بخير منها أو مثلها بأداة الشرط ربط الجزاء بشرطه ومعلوم عند المحققين أن الشرطية إنما يتوارد فيها الصدق والكذب على نفس الربط ولا شك أن هذا الربط الذي صرح الله به بين هذا الشرط والجزاء في هذه الآية صحيح لا يمكن تخلفه بحال فمن ادعى إنفكاكه وأنه يمكن النسخ بدون الإتيان بخير أو مثل فهو مناقض للقرآن مناقضة صريحة لا خفاء بـها ومناقض القاطع كاذب يقيناً لاستحالة اجتماع النقيضين ، صدق الله العظيم وأخطأ كلام من خالف شيئاً من كلامه جل وعلا )
  وقال : ( وقول المؤلف ـ ابن قدامة ـ رحمه الله فأما الآية فإنـها وردت في التلاوة وليس للحكم فيها ذكر ، ظاهر السقوط كما ترى لأن الآية الكريمة صريحة في أنه مهما نسخ الآية أو أنساها أتى بخير منها أو مثلها ) (1) .
  وقال العلامة العضُد : ( والظاهر أن مراد القائلين بوجوب البدل في النسخ هو إثبات حكم آخر متعلق بذلك الفعل الذي ارتفع عنه الحكم المنسوخ كالإباحة عند نسخ الوجوب أو الحرمة على ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أن النسخ هو الإذهاب إلى البدل والإنساء هو الإذهاب لا إلى بدل واعترض عليه بأن الآية تدل على وجوب البدل فيهما جميعا ، والجواب أن المراد بالبدل حكم آخر متعلق بذلك الفعل والآية الأخرى لا يلزم أن تكون كذلك بل قد

--------------------
(1) مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الشنقيطي ص49 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 467 _
  تدل على ما لا تعلق له بذلك الفعل هذا والحق أنه يجوز النسخ بلا حكم بأن يدل الدليل على ارتفاع الحكم السابق من غير إثبات حكم آخر فلا يحتاج إلى تقييد البدل بالتكليف ) (1) .
  وقال الشيخ الخضري بك في أصول الفقه : ( احتج الذين حتموا أن يكون في النص الناسخ حكم شرعي بدلا عن الحكم المنسوخ بقوله تعالى ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة / 106 )، فلا بد إلا إذا أحللنا محلها آية من حكم هو خير ، والجواب أن المراد بالبدل إنما هو اللفظ يعني إنا لا نرفع آية هي خير منها في الفصاحة والبلاغة والإعجاز والآية مسماها لفظ لا حكم ، وليس النـزاع نسخ الألفاظ بلا بدل أو ببدل وإنما الكلام في نسخ الأحكام ) (2) .
  2 ـ لنغلق عقولنا ولنسلم جدلا بأن ابن عمر قصد نسخ التلاوة ، فهذا أيضا يدل على أنه يرى تحريف المصحف !
  لأنه يعتقد أن المصحف الكامل هو ما كان مشتملا على المنسوخ تلاوة ، مع أن أهل السنة يرون أن المنسوخ تلاوة ليس من القرآن ، بل هو ملغي لا يصلى به ولا يترتب عليه أحكام القرآن ويحرم قراءته كقرآن ، وعلى هذا فإما ابن عمر حرف القرآن لأنه زاد فيه ما ليس منه ، وإما أهل السنة أنقصوا من القرآن ما هو منه !
  3 ـ ظاهر اللفظ حجة وخلافه يحتاج إلى دليل ، فأين الدليل على أن ابن عمر قصد بقوله السابق منسوخ التلاوة ؟! ، لا دليل .

--------------------
(1) شرح العلامة العضد على مختصر المنتهى الأصولي ، وهي بـهامش حاشية العلامة التفتازاني وحاشية الهروي على حاشية الجرجاني ج2ص193 ،
(2) أصول الفقه ص259 ط إحياء التراث العربي لمفتش الأزهر الشيخ الخضري بك ،

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 468 _
الوهابية تتكلم من جديد !
  افترى أحد الوهابية في كتيبه على السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه وقال إن السيد الأمجد رضوان الله تعالى عليه قد نسب تحريف القرآن للسيوطي ! ، وكان دليل الوهابي على ذلك هو أن السيد رضوان الله تعالى عليه أخذ قول ابن عمر السابق من الإتقان للسيوطي وقال إن هذه الرواية ظاهرة في التحريف في حين أن السيوطي وضعها في مبحث نسخ التلاوة !
  وهذا مضحك ، لأن السيد رضوان الله تعالى عليه نظر للرواية وحكم بأنـها ظاهرة في التحريف ، هذا كل شيء وما زاد عليه من استنتاجات خيالية فهو من كيس الوهابي ! ، ولو كان الوهابي صادقا لأشار إلى رقم الصفحة من كتاب البيان لنرى متى خاطب السيد رضوان الله تعالى عليه السيوطي أو عناه بقوله أو حتى ألمح إلى شخصه فيه ؟!
  وكأن الوهابي الظريف حاول أن يعطينا قاعدة جليلة القدر عظيمة الفائدة ، وهي أن الرواية مادامت ذكرت في المصدر تحت عنوان معين أو في باب معين كان من المحتم على جميع العلماء أن يوقفوا عقولهم ولا يتجاوزوا حدود فهم المؤلف لدلالة الرواية ، لأن الرواية أخذت من مصنفه فيجب تقليده في معناها ! ، فلو ذكرها مثلا في نسخ التلاوة الخرافي يجب على الجميع أن يكونوا خرافيين مثله ! ، مع أن الجهلة يعلمون أن العلماء لا يقفون عند حدود فهم بعضهم للنصوص .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 469 _
سورة الأحزاب التي عرفها الصحابة أربعة أضعاف الموجودة !!
  أخرج أحمد بن حنبل في مسنده : ( حدثنا عبد الله ثنا خلف بن هشام ثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بـهدلة عن زر عن أبي بن كعب ) أنه قال : ( كم تقرؤون سورة الأحزاب ؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية ، قال : قط ! لقد رأيتها وأنّها لتعادل سورة البقرة وفيها آية الرجم ! قال زرّ : قلت وما آية الرجم ؟ قال : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) ) (1) .
  هذه الرواية صريحة في أن الأحزاب التي عرفها سيد القرّاء أبي بن كعب كانت ثلاثة أضعاف الموجود ، وأنه لم يعهد السورة بـهذا العدد القليل من الآيات فتعجب من سقوط أكثرها ، وكما ترى لو كان للضياع أصل يعوّل عليه لما خفي عن مثل سيد القراء أبي بن كعب ، وإلا فما معنى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة أن يستقرئوه القرآن بعد عبد الله بن مسعود ؟!
  وهنا رواية أشكل من سابقتها : ( عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن ) (2) .
  فإن بين طياتـها اتـهاما لعثمان بتحريف المصاحف وحذف أكثر من مئتي آية من سورة الأحزاب وهذا الكلام موافق لما تبناه أهل السنة من أن عثمان حذف ستة أضعاف القرآن (3) .

-------------------
(1) مسند أحمد ج5ص132ح21245 ، السنن الكبرى للنسائي (باب الرجم) ، الإتقان للسيوطي ج2ص25، ط الحلبي ، المسند الجامع ج1 أبي بن كعب (باب القرآن)ص 53 ـ 54 .
(2) الإتقان في علوم القرآن ج2ص25.
(3) إلا أن يتمسك بنسخ التلاوة الفاسد ، فيقال هل من المعقول أن عائشة والصحابة بقرينة ( لم نقدر منها ) لم يكونوا على علم بنسخ تلاوة إضعاف سورة الأحزاب طيلة ثلاث عشرة سنة على الأٌقل ؟! ، فمن خفي عليه أمر القرآن طيلة ثلاث عشرة سنة كان خفاء أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنه أحرى وأولى ! فمن يقبل بـهذا من أهل السنة !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 470 _
سورة براءة سقط منها الكثير !
  بعد تشكيك روايات أهل السنة في قرآنية آخر آيتين من سورة براءة كما أوضحناه في مبحث جمع القرآن الآن بدأ فصل تآكل أطرافها الأخرى ، ففي عدة من مصادر أهل السنة ذكر أن حذيفة بن اليمان رضوان الله تعالى عليه كان يتحسف من تسمية الناس لهذه السورة باسم سورة التوبة وهي في الأصل سورة العذاب لأن الناس يقرؤون ربعها فقط ولو علموا بأصلها لما سموها التوبة ! فالتي نزل بـها جبريل عليه السلام على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أضعاف الموجود ، وهذا ما أخرجه :
  ( ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه قال : التي تسمّونـها سورة التوبة هي سورة العذاب والله ما تركت أحداً إلا نالت منه ولا تقرؤون منها مما كنا نقرأ إلا ربعها ) (1) .
  وأخرج الحاكم في موضع آخر بسنده : ( عن حذيفة رضي الله عنه قال : ما تقرؤون ربعها يعني براءة وهي سورة العذاب ) (2) .
  وفي مجمع الزوائد : ( عن حذيفة قال : تسمون سورة التوبة وهي سورة العذاب وما تقرؤون منها مما كنا نقرأ إلا ربعها ) (3) .
  ويا ليت أمرها اقتصر على الروايات فقط ، بل تعداه إلى ما يعتقده القوم ! حتى ذهب إمام المالكية مالك بن أنس إلى أن سورة براءة ـ التوبة ـ سقط منها الكثير عندما سقطت البسملة محاولا بـهذا الرأي الفاسد تبرير علة فقدان البسملة من أول السورة ، وهذا ما ذكره الزركشي في البرهان عن إمامهم مالك بن أنس حين تعرضه لأسباب سقوط البسملة من أوّل براءة فقال الزركشي : ( وعن مالك أنّ أوّلـها لما سقط سقطت البسملة ) (4) .

-------------------
(1) الدر المنثور للسيوطي ج3ص208 ، المستدرك على الصحيحين ج3ص208 وعلق عليه (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) ، وعن المصنّف لابن أبي شيبة ج10ص509ح10143 ، ومجمع الزوائد المجلد السابع ص28 (سورة براءة) علق عليه (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات) ، وقد مر الكلام عن مضمون هذه الرواية في مبحث الشيعة وتحريف القرآن ، فراجع .
(2) المستدرك ج2ص330 علق عليه (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
(3) مجمع الزوائد ج7ص28 وعلق عليه ابن حجر (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات).
(4) البرهان في علوم القرآن ج1ص263 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 471 _
  وذكره السيوطي في الإتقان : ( وعن مالك أن أوّلـها لما سقط سقط معه البسملة فقد ثبت أنـها كانت تعدل البقرة لطولـها ) (1) .
  وهو رأي ابن عجلان وسيأتي الكلام عنه ، وقد وافق ابن حزم قول الشيعة حيث قال في الإحكام :
  ( وأيضا فقد روي عن البراء أن آخر سورة نزلت سورة براءة وبعث النبي بـها صلى الله عليه (وآله) وسلم فقرأها على أهل الموسم علانية ، وقال بعض الصحابة وأظنه جابر بن عبد الله ما كنا نسمي براءة إلا الفاضحة ، قال أبو محمد ـ ابن حزم ـ : فسورة قرئت على جميع العرب في الموسم وتقرع بـها كثير من أهل المدينة ومنها يكون منها آية خفيت على الناس ؟! هذا ما لا يظنه من له رمق وبه حشاشة ) (2) .
  وصدق ابن حزم في هذه ، ولكنه لم يصب كل الحقيقية لأننا قلنا فيما سبق أن سورة براءة نزلت من السماء مردفة بتفسيرها الناص على أسماء المنافقين ونواياهم ، فهي فاضحة ومزلزلة ولكن مع تنـزيلها أي تفسيرها السماوي لا النص القرآني بمفرده الذي لم يذكر فيه أسماء المنافقين ، وكذا الحال بالنسبة لسورة الأحزاب ، ولذلك كانت روايات أهل السنة والشيعة تركز على أن سورتي براءة والأحزاب قد نقص منهما الكثير وهذا صحيح لأن التنـزيل كان شديدا على القوم فيهما فما كان لينسى من أذهانـهم ، لذا قال صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان : ( ما تركت أحدا إلا ونالت منه ) .

-------------------
(1) الإتقان في علوم القرآن ج1ص65 ط الحلبي الثالثة
(2) الإحكام لابن حزم ج6ص266ـ268.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 472 _
(2) التحريف التفصيلي
  بعد الفراغ من التحريف الإجمالي للآيات ننقل الكلام إلى التحريف التفصيلي المشتمل على جمل معينة زعم وجوه سلفهم الصالح أنـها من القرآن ، والخبير بأسلوب القرآن وسبكه يعلم سخف عاد هذه الجمل من آياته ، إذ ركاكتها ونظمها القاصر يحول دون مقارنتها مع القرآن فضلا عن كونـها منه ! ، إلاّ بحالة واحدة وهي أن الرب الذي أنزلها هو غير ربنا الذي نعرفه ، سبحانه وتعالى عما يشركون .
  وقبل سرد آياتـهم المزعومة نذكّر بما أثبتناه مسبقا وهو أن التحريف بالزيادة يثبت لمن يدعي قرآنية جملة غير متواترة أو قل جملة غير قرآنية ، والتحريف بالنقيصة يلزم من يدعي رفعها ونسخها مع عدم تواتر نسخها ، وقد أثبتناه فيما سبق .
آية الرجم
  قد جاءت بألفاظ عدّة وهي :
  1 ـ إذا زنيا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم .
  2 ـ الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بـما قضيا من اللذة .
  3 ـ إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة .
  هذه الجمل التي ألصِقت بكتاب الله كل صيغها مسودّة كئيبة يدفعها القرآن بجماله وينفيها برونق نظمه وبيانه ، ولا يكاد ينقضي عجبي من هؤلاء المحتجين على غير أهل ملّتنا بإعجاز القرآن وانقطاع البشر كلهم عن أن يأتوا بمثله ، وهم مع ذلك ينسبون له سورا وآيات لو وضعت بين آيات القرآن لكانت كالفحم بين رواصع الألماس ولجين اللؤلؤ ، وقد أشار لهذا المعنى بعض المنصفين من علماء أهل السنة كما سيأتي ذكر كلماتـهم بإذنه تعالى .
  وإن كانت آية الكرسي سيدّة آي القرآن فإن آية الرجم سيدة آي التحريف حيث أخرجها البخاري في صحيحه في أكثر من موضع عن ابن الخطاب وقد ألـح عليها هذا في أكثر من موقف ومقام وأراد دمجها في المصحف الذي حاولوا إنجازه ليكون للمسلمين ملجأ ـ زعموا ـ ومصحفا رسميا للدولة في زمن أبي بكر ولكنهم فشلوا كما أوضحنا ، وحيث كان ابن الخطاب وحده لم يستطع دسها في القرآن وقد ذكرنا ذلك سابقا ، ونذّكر هنا بما أخرجه ابن اشته في المصاحف :

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 473 _
  ( عن الليث بن سعد قال : أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد…وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده ) (1) .
  ويا ليت محاولته اقتصرت على دسها في المصحف بل ظلت هذه الفكرة تراوده بين الحين والآخر ويتلهف لفشله في تنفيذ مخططه ، حتى قام خطيبا كاشفا عما يستره في صدره منذ أول زمن أبي بكر وزاد على ذلك أنه يريد الآن إلحاقها في القرآن ولكنه يخاف من أن يقول الناس إن ابن الخطاب زاد في كتاب الله عز وجل ! ، وهذا قول عمر : ( لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي ) ، فهو لم يكن يخاف من رب الناس في دسها في كتاب الله ، لأنه يرى أن تلك الآية من القرآن وإلحاقها فيه أمر مطلوب له عز وجل !
  قال الزيلعي في نصب الراية : ( قلت روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب خطب فقال : إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا من بعده ، وإني حسبت إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إن قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف ، وأيم الله ! لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها ) (2) .
  وأخرج النسائي في سننه الكبرى بسند صحيح : ( أخبرنا العباس بن محمد الدوري قال ثنا أبو نوح عبد الرحمن بن غزوان قال ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن عبد الرحمن بن عوف قال : خطبنا عمر فقال : ثم قد عرفت أن أناسا يقولون إن خلافة أبي بكر كانت فلتة ، ولكن وقى الله شرها ، وإنه لا خلافة إلا عن مشورة (3) ، وأيما رجل بايع رجلا مشورة لا

--------------------
(1) الإتقان في علوم القرآن ج1ص121، ط الحلبي ،
(2) نصب الراية للحنفي الزيلعي ج3ص318 ، وهي في صحيح البخاري ج 4 ص 122 ( باب رجم الحبلى من الزنا ) وص 115 ، وفي صحيح مسلم ج5ص116 كتاب الحدود ( باب رجم الثيب من الزنى )،
(3) وهل كانت خلافة عمر نفسه عن مشورة ؟! لا طبعا ، فإن أبا بكر هو الذي استخلفه بلا مشورة المسلمين بل كان بعض الصحابة معارضا استخلاف أبي بكر لعمر لأنه عتي وفظ وغليظ !! ، ففي فضائل الصحابة لابن حنبل ج1ص337ح 485بتحقيق وصي الله بن محمد عباس : ( قال حدثني القاسم بن محمد ثم ان أسماء بنت يزيد أخبرته أن رجلا من المهاجرين دخل على أبي بكر حين اشتكى وجعه الذي توفي فيه ، فقال : يا أبا بكر أذكرك الله واليوم الآخر !
فإنك قد استخلفت عن الناس رجلا فظا غليظا ، يزع الناس ولا سلطان لهم ، وان الله سائلك ! ، فقال : أجلسوني ، فأجلسناه ، فقال : أبالله تخوفوني ؟ إني أقول اللهم أني استخلفت عليهم خيرهم )، علق عليه =>

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 474 _
  يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا ، قال شعبة : قلت لسعد : ما تغرة أن يقتلا ؟ قال : عقوبتهما أن لا يؤمر واحد منهما ، ويقولون : والرجم ؟ وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا وأنزل الله في كتابه ، ولولا أن الناس يقولون زاد في كتاب الله لكتبته بخطي حتى ألحقه بالكتاب ) (1) .
  ( أخبرني الحسين بن إسماعيل بن سليمان قال ثنا حجاج بن محمد عن شعبة عن سعد بن إبراهيم قال سمعت عبيد الله بن عبد الله يحدث عن بن عباس عن عبد الرحمن بن عوف قال : ثم حج عمر فأراد أن يخطب الناس خطبته ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : أنه قد اجتمع عندك رعاع الناس وسفلتهم فأخر ذلك حتى تأتي المدينة ، قال : فلما قدم المدينة دنوت قريبا من المنبر ، فسمعته يقول :
   => المحقق : ( الأثر صحيح ، فقد أخرجه ابن سعد ... هذا إسناد حسن ، وبإسناد آخر ... وفيه فدخل عليه علي وطلحة فقالا من استخلفت ... نحوه ، هذا أيضا إسناد حسن ، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف ... وإسناده صحيح ).
  وقال ابن حجر العسقلاني في تلخيص الحبير ج4ص44-45 : ( حديث أن أبا بكر عهد إلى عمر هو صحيح مشهور في التواريخ الثابتة وفي البخاري عن ابن عمر أن عمر قال : إني إن استخلف فقد أستخلف من هو خير مني يعني أبا بكر الحديث ، ولمسلم مثله والبيهقي من طريق بن أبي مليكة عن عائشة قالت : لما ثقل أبي دخل عليه فلان وفلان ، قالوا : يا خليفة رسول الله ! ماذا تقول لربك غدا إذا قدمت عليه وقد استخلفت علينا ابن الخطاب ... الحديث ).
  المصنف لعبد الرزاق ج5ص449ح 9764 : ( عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد عن أسماء بنت عميس قالت : دخل رجل من المهاجرين على أبي بكر رحمه الله وهو شاكٍ ، فقال : استخلفت عمر ؟! وقد كان عتا علينا ولا سلطان له ! فلو قد ملكنا لكان أعتى علينا وأعتى !! فكيف تقول لله إذا لقيته ؟! فقال أبو بكر : أجلسوني ، فأجلسوه ، فقال : هل تفرقني إلا بالله فإني أقول إذا لقيته استخلفت عليهم خير أهلك قال معمر فقلت للزهري ماقوله خير أهلك قال خير أهلك مكة ).
  وعن مصنف ابن أبي شيبة ج7ص434 ح7056 ( حدثنا وكيع وابن إدريس عن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد بن الحارث –الحافظ الثقة- أن أبا بكر حين حضره الموت أرسل إلى عمر يستخلفه فقال الناس : تستخلف علينا فظا غليظا !! ولو قد ولينا كان أفظ وأغلظ !! فما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟!!! قال أبو بكر : أبربي تخوفونني ... )
  ح37057 : ( حدثنا وكيع بن الجراح ـ ثقة حافظ ـ عن إسماعيل بن أبي خالد ـ ثقة ثبت ـ عن قيس بن أبي حازم ـ ثقة ثبت ـ قال : رأيت عمر بن الخطاب وبيده عسيب نخل وهو يجلس الناس ، ويقول : اسمعوا لقول خليفة رسول الله ! قال : فجاء مولى لأبي بكر يقال له شديد بصحيفة فقرأها على الناس ، فقال : يقول أبو بكر : اسمعوا وأطيعوا لمن في هذه الصحيفة ، فوالله ما ألوتكم ! قال قيس : فرأيت عمر بن الخطاب بعد ذلك على المنبر ) .
  وفي سنن الترمذي ج4ص502ح 2225( حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال قيل لعمر بن الخطاب : ثم لو استخلفت ؟ قال : إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر ... ) وعلق عليه الترمذي : ( وفي الحديث قصة وهذا حديث صحيح قد روي وجه عن بن عمر )،
  أقول : فإن كانت الخلافة لا تصح إلا عن مشورة فلا خلافة لعمر ، وتأمره على الناس كان بغير حق هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن حكمه بقتل من بايع رجلا من غير مشورة وقتل المبايع له يلزم منه هدر دمه ودم أبي بكر عندما بايعه عمر في سقيفة بني ساعدة وقال له ( ابسط يدك يا أبا بكر ) بلا مشورة وقبل أن ينقضي الإختلاف ويهدأ اللغط الذي دار بينهم كما أخرجه البخاري في صحيحه ج6ص2506 : ( فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ! فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته ) ، فعند هذه اللحظة يهدر دم عمر وأبي بكر ، على فقه عمر نفسه .

--------------------
(1) السنن الكبرى ج4ص272ح7151.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 475 _
  إني قد عرفت أن ناسا يقولون إن خلافة أبي بكر كانت فلتة ، وأن الله وقى شرها ، إنه لا خلافة إلا عن مشورة ولا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا ، وأن ناسا يقولون : ما بال الرجم وإنما في كتاب الله الجلد ؟ وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، ولولا أن يقولوا أثبت في كتاب الله ما ليس فيه لأثبتها كما أنزلت ) (1) .
  وقد قال عمر من قبل أنـها ذهبت بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " عن ابن عباس قال : أمر عمر بن الخطاب مناديا فنادى : إن الصلاة جامعة، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس لا تخدعن عن آية الرجم فإنـها آية نزلت في كتاب الله وقرأناها ولكنها ذهبت في قرآن كثير ذهب مع محمد ( (2) .

--------------------
(1) السنن الكبرى ج4ص273ح7154 .
(2) المصنف للصنعاني ج7ص345ح13329 ، وعن الدر المنثور ج5ص179 أقول : قد يقال بأن عمر قال ذلك على المنبر فسكوت الصحابة عنه دليل على صحته ! ، وهذا ليس بشيء لأن السكوت أعم من الإنكار هذا أولا ، ثم لا دليل على أن الجميع قد شهد الحادثة ، ولو كان هذا كافيا حقا لاستطاع دمجها في المصحف لأنه يحتاج إلى شاهد آخر حتى تدمج ولو كانت دعواه محل إقرار الجميع لما رده زيد بن ثابت مسبقا ! ، ناهيك عن أن المتكلم هو صعب المراس الفضّ الغليظ ـ كما صرّحت به رواية البخاري في قول الجواري لعمر ( أنت أفض وأغلظ ) ـ وصاحب المقرعة والمخفقة والدرّة والعراجين !
  حتى أن ابن عباس كان ينتظر أوقات اعتدال مزاجه ليتسنى له الكلام معه ويصارحه مع تقديم المقدمات الطوال ، وقد كانت كلماته نافذة على أبي بكر في خلافته ويلغي أوامره ويحل ويعقد بمرأى منه ومسمع ولا ينكر عليه ، بل وتطاول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديبية ، وفي صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على عبد الله بن أبي سلول وودع النبي صلى الله عليه وآله وهو على فراش المرض بالطعن في عقله الشريف حينما اتـهمه بالهجر والهذيان والعياذ بالله وغيرها من الموارد
  فليس من العجيب أن يفضل البعض ـ من كان حاضرا وسمع قول عمر ـ الاعتراض عليه وهو من لم يعرف إلا لغة الضرب والجلد لمن أراد أن يتفقه في دينه خاصة علوم القرآن !!
  فهاك فعله بمن أراد أن يطلب معاني مفردات القرآن :
  ففي الدر المنثور ج2 ص7 ـ 8 : ( أخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل ، فقال من أنت ؟ فقال أنا عبد الله صبيغ ، فقال : وأنا عبد الله عمر ! فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى دمى رأسه فقال : يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي ) .
  وكذا ( أخرج الدارمي عن نافع أن صبيغا العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر فبعث به عمرو بن العاصي إلى عمر بن الخطاب فلما أتاه أرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بـها حتى ترك ظهره دبره ثم تركه حتى برئ ثم عادله ثم تركه حتى برئ فدعا به يعود له ، فقال صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا وان كنت تريد أن تداويني فقد والله برأت فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعرى أن لا يجالس أحدا من المسلمين )
  وكذا : ( أخرج ابن عساكر في تاريخه عن أنس أن عمر بن الخطاب جلد صبيغا الكوفي في مسألة عن حرف من القرآن حتى اطردت الدماء في ظهره )
  وكذا : ( وأخرج ابن الأنبارى في المصاحف ونصر المقدسى في الحجة وابن عساكر عن السائب بن يزد أن رجلا قال : قال لعمر إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن ، فقال عمر اللهم أمكني منه ! فدخل الرجل يوما على عمر فسأله ، فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ، ثم قال : ألبسوه تبانا ، واحملوه على قتب ، وأبلغوا به حيه ثم ليقم خطيب فليقل : إن صبيغا طلب العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم )
  وكذا : ( أخرج نصر المقدسي في الحجة وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا يجالسوا صبيغا ، قال : فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا ) وكذا : ( أخرج ابن عساكر عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : أن لا يجالس صبيغا وأن يحرم عطاءه ورزقه ) =>