جهل وكذب صريح !
  ومع كل هذه الكلمات للمراجع والمحققين وأهل العلم من الشيعة يأتي بعض الجهلة من الوهابية ك‍ ( عثمان الخميس ) ليقول بكل جرأة في شريطه :
  ( جل علماء الشيعة الذين أنكروا التحريف والذين يتظاهرون أكثر الشيعة باتباعهم يقولون بنسخ التلاوة ، وهم المرتضى والطبرسي والطوسي ، كل هؤلاء قالوا بنسخ التلاوة كل هؤلاء قالوا بنسخ التلاوة ، فعلى القول بأن نسخ التلاوة تحريف فجميع الشيعة يقولون بالتحريف ، لأن كل من لم يقل بالتحريف من علماء الشيعة يقول بنسخ التلاوة ).
  هكذا ! رمي للكلام على عواهنه ! ، في أول العبارة ( جل علماء الشيعة ) وفي نـهايتها ( كل علماء الشيعة ) !! أي جهل هذا ؟‍
  ثم أين ذهب اعترافه مسبقا بأن السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه أنكر تحريف القرآن ونسخ التلاوة ؟! ، والكلام عن السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه ليس إلا إلزام له بما اعترف به مع غض الطرف عن باقي العلماء والمحققين ومراجع الطائفة رضوان الله تعالى عليه ، وقد مرت كلمات بعضهم .
  ثم من قال إن قول الطوسي والطبرسي والمرتضى رضوان الله تعالى عليه ملزم للشيعة اليوم ؟! أم حسب المغفل أن الشيعة مثل الوهابية تلهج ليل نـهار ب‍ ( قال شيخ الإسلام ابن تيمية ) ! ، هذا إن سلمنا له بأن هؤلاء الأعلام رضوان الله تعالى عليهم قالوا بوقوع نسخ التلاوة لا بجوازه .
  وبعد كذبه على الشيعة بأن كل من لم يقل بالتحريف منهم قد قال بنسخ التلاوة نكص على عقبيه وكر راجعا يهدم ما بناه من استدلال وينقضه كاملا ، فيقول بعد بضع جمل :
  ( الشيعة يوافقوننا على جواز نسخ الحكم حتى الذين يقولون بالتحريف حتى الذين لا يقولون بالتحريف ، كل الشيعة يقولون نسخ الحكم نوافق عليه ولكن ينكرون نسخ التلاوة ، ويزعمون أن أهل السنة يقولون بالتحريف لأنـهم يقولون بنسخ التلاوة ).
  فها هو يقول ( كل الشيعة يقولون نسخ الحكم نوافق عليه ولكن ينكرون نسخ التلاوة ) فأي كلام نأخذ وأي كلام نترك ؟! ، ألا يعلم هؤلاء أن الكذب حبله قصير ؟!

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 427 _
  الخاتـمة
  وعلى أي حال فالشيعة اليوم من مشرق الأرض إلى مغربـها تنـزه الله عز وجل وكتابه من هذا النسخ المزعوم وهو المعتمد في بيان رأي الشيعة لأن باب الإجتهاد مفتوح عندهم ، أما جمهور علماء أهل السنة فيقولون بوقوع نسخ التلاوة ، وكما قلنا من قبل إن نسبة رأي لمذهب لا يعني إجماعهم عليه بل يكفي شهرته بينهم ، وقد ذكرنا من خالف هذا الرأي من أهل السنة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 428 _
القسم الثاني : تحريف القرآن الصريح عند أهل السنة
  الكلام هنا عن التحريف الصريح ويشتمل على عدة أنواع أولها دعوى تحريف سور القرآن بزيادة ونقصان سور كاملة عن المصحف ، ثانيها دعوى تحريف آيات القرآن بزيادة ونقصان بعض الآيات المزعومة عن المصحف ، ثالثها التلاعب في مفردات الآية الواحدة ، وبعض هذه الموارد قد تؤول بنسخ التلاوة وقد خلصنا فيما سبق أنه لا يوجد دليل واحد يمكن التمسك به لإثبات وقوع نسخ للتلاوة ، ومحض الادعاء لا يؤخذ به في أمورنا الدنيوية فكيف بالقرآن وهو ناموس الشريعة وركنـها ؟!
  ونزيد عليه ، أنه لو سلمنا جدلا بوقوع نسخ لتلاوة بعض آيات القرآن ، فهذا لا يـجوّز لنا قبول ادعاء أي مدع ينسب للقرآن جملة زعم نسخها ! ، وهذا الحكم فضلا عن كونه معروفا ومشهورا بين علماء الأصول فإن العقل قاض به ، لذلك اشترط علماء الأصول عند أهل السنة في المنسوخ أن ينقل متواترا ، فالمستفيض ـ فضلا عن خبر الواحد ـ لا يركن إليه لإثبات النسخ ، وقد مرّت كلمات جملة من علمائهم في مبحث نسخ التلاوة .
  وعليه فالموارد الآتية لا يمكن أن تكون من منسوخ التلاوة لأنـها بأجمعها تفقد هذا التواتر الذي هو شرط لتحقق النسخ ، وحيث لا تواتر فلا نسخ .
  هذا مع العلم أن أهل السنة لا تأويل عندهم لهذه الموارد غير نسخ التلاوة ، قال البيهقي في السنن الكبرى : ( بسنده عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت نزلت ( فعدة من أيام أخر متتابعات ) فسقطت : ( متتابعات ) ، قال البيهقي : قولها سقطت تريد : نُسخت ، لا يصح له تأويل غير ذلك ) (1) .
  وهذه الموارد لم تتواتر فليست بمنسوخة وحيث لا تأويل لها غير النسخ فهو تحريف صريح للقرآن بسقوط هذه الآيات ، ومن يدعي نسخ أي جملة من الجمل التي نسبها الصحابة للقرآن فعليه أن يثبت وقوع نسخها بالتواتر ، ودونه خرط القتاد .

--------------------
(1) السنن الكبرى للبيهقي ج4ص258ح8023 (باب قضاء شهر رمضان إن شاء متفرقا وإن شاء متتابعا ) .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 429 _
  ونزيد عليه بأن إقرار أهل السنة بنسخ تلك الجمل تـهربا من نسبة التحريف للقرآن أو لمعتقد الصحابة مبتنٍ على تسليمهم المسبق بقرآنية ما ادعاه الصحابي وهذا بعينه تحريف للقرآن بالزيادة ، لأن إثبات قرآنيتها في الرتبة السابقة يحتاج إلى تواتر نقلها كقرآن كما مرت كلماتـهم سابقا ، فكيف أثبتوا قرآنيتها بدعوى أحد الصحابة ؟! ، وهاك الإشكال بصورته الدقيقة :
دليل لإثبات التحريف الصريح لمن يدعي النسخ تلاوةً
  بـهذا الإشكال ذي الشقين يثبت تحريف القرآن لأهل السنة ثبوتا قطعيا سواء قالوا بشيء اسمه نسخ التلاوة أم لا ، ونحتاج لتقديم مقدمة فنقول : أجمع علماء أهل السنة على أمرين :
  1 ـ آيات القرآن لا تثبت إلا بالتواتر ، فأي جملة نسبت للقرآن ولم يتواتر نقلها كقرآن فهي عندهم ليست من القرآن قطعا (1) .
  2 ـ نسخ أية آية من القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، وما لم يتحقق التواتر فليست بمنسوخة قطعا .
  واتفقوا أيضا على أن وجوه الصحابة ادعوا قرآنية بعض الجمل والمقاطع التي ورد بعضها في صحيحي البخاري ومسلم ، وقال أهل السنة إن تلك الجمل قرآن نزل من السماء وبعد أن قرأه الناس وتعبدوا به رفعه الله عز وجل ونسخت تلاوة تلك الآيات ، وعلى هذا نقول :
  1 ـ كيف أثبت أهل السنة بـأخبار آحاد قرآنـية هذه السور والجمل الآتية مع أنـها ليست من القرآن في نظرهم بعد أن كانت من أخبار الآحاد التي لا يثبت بـها القرآن قطعا ؟!

--------------------
(1) وقد مرت كلماتـهم في قراءات الشاذة فراجع .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 430 _
فهذا إذن تحريف للقرآن بالزيادة لأنـهم قالوا بقرآنية ما ليس بقرآن .
  2 ـ سلمنا جدلا أن أهل السنة أثبتوا قرآنية كل تلك الجمل بالتواتر ـ ولن يثبتوا ـ فلماذا لم تكتب في المصحف ؟! فإن قيل : نسخت تلاوته ! ، نقول : أين تواتر نسخها الذي هو شرط لوقوع النسخ ؟!
  وحيث أن شرط النسخ غير متحقق فيثبت تحريف القرآن بالنقيصة ، لأن مصحفنا اليوم لا يحوي تلك الجمل التي ادعى الصحابي قرآنيتها .
  وعلى العادة نعقب كلامنا بما يؤيده من كلمات أهل السنة ، وهذا ما قاله أحدهم وهو الأستاذ محمد سعاد :
  ( لا نستطيع الاقتناع بصحة وجود المنسوخ تلاوة الثابت حكما لأن صفة القرآنية لا تثبت لنصّ إلا بدليل قطعي ، والنسخ الوارد على القطعي لا بد أن يكون قطعياً ، فلابد لإثبات كون النصوص المذكورة قرآنا منسوخا من دليلين قطعيين ،
  أحدهما : دالّ على ثبوت القرآنية للنّص .
  وثانيهما : دال على زوال هذه الصفة .
  وواحد من الدليلين لم يقم لواحد من تلك النصوص ، فلا يتم كونه قرآنا منسوخا فلا يصح عندنا في موضع الخلاف إلا القول بثبوت النسخ في الحكم دون التلاوة ) (1) .
  فنخلص إلى أن التحريف ثابت لأهل السنة سواء قالوا بنسخ التلاوة أم لا ، لأن مجرد قبولهم الروايات التي فيها ادعاء الصحابي قرآنية ما ليس في مصاحفنا يلزمهم التحريف بالزيادة أولا لأنـهم أدخلوا في القرآن ما لم يتواتر نقله كقرآن ، وهو شرط لثبوت القرآنية .
  ولو أثبتوا قرآنيتها بالتواتر ـ ولن يثبتوا ـ ، فيقال لهم أين ذهبت هذه الآيات ؟ فإن ادعوا نسخ تلاوتـها تـهربا من القول بنقص القرآن ، فنقول لهم إن هذه الدعوى باطلة لأن وقوع نسخ التلاوة للآية إنما يثبت بالتواتر وحيث أن نسخ تلك الآيات لم يتواتر فلم تنسخ ، فلا مفر لهم إلا القول بفقدانـها من المصحف ، وهذا عين التحريف بالنقيصة ، لذا فالموارد الآتية تثبت التحريف بلا أدنى شبهة ، فاحفظ هذا الاستدلال بشقيه ، ولا داعي لتكراره في كل مورد (2).

--------------------
(1) صيانة القرآن من التحريف ص30 .
(2) واتضح إلى هنا أن نسخ التلاوة بالإضافة لكونه مبنى هشا متآكلا كما مر في مبحثه ، لا ينفي التحريف بل يثبته ، فلا ضرورة للإطالة السابقة في مناقشة نسخ التلاوة لإثبات تحريف القرآن عند أهل السنة ، إذ هوثابت سواء قلنا بنسخ التلاوة أو لم نقل .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 431 _
  ( قسم السور )
أولا : زيادة سورتي الحفد والخلع للقرآن !
  هذا نص سورة الخلع المزعومة :
   ( اَللّهُمّ إِنّا نَسْتَعِيْنُك وَنَسْتَغْفِرُكَ ونُثْنِيْ عَلَيْكَ اَلْخَيْرَ ولا نَكْفُرُك ونَخْلَعُ ونـَــتـْرُكُ مَنْ يَفْجُرُك )
  وهذا نص سورة الحفد المزعومة :
   ( اَللّهُمّ إيّاكَ نَعْبُدُ ولَكَ نُصَلِّي ونَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى ونَحْفِدُ نَرْجُوْ رَحْمَتَكْ ونَخْشَى عَذَابَكَ اَلْجَد إِن عَذَاْبَكَ بِالكُفّاْرِ مُلْحِقٌ )   * روايات أهل السنة القائلة أنـهما قرآن منـزل :
  لنستعرض بعض رواياتـهم التي تدل على أنـهما سورتان كغيرهما من سور القرآن ، وهذا يتم من ناحيتين ، فتارة تنص تلك الروايات على أنـهما سورتان وأن بعض الصحابة كان يقرأ بـهما في صلاته بل ومنهم من يحلف بالله أنـهما نزلتا من السماء ، وتارة أخرى تدعي الروايات أن بعض الصحابة كانوا يكتبون السورتين بين سور مصاحفهم ، وهاك نبذة منها :

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 432 _
  * النص على كونـهما سورتين :
  ( وأخرج محمد بن نصر والطحاوي عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يقنت بالسورتين ( اللهم إياك نعبد ) ( واللهم إنا نستعينك ) .
  وأخرج محمد بن نصر عن عبد الرحمن بن أبزى قال : قنت عمر رضي الله عنه بالسورتين ، وأخرج محمد بن نصر عن عبد الرحمن بن أبى ليلى أن عمر قنت بـهاتين السورتين : ( اللهم إنا نستعينك ) و ( اللهم إياك نعبد ) ) (1) .
  ( وأخرج ابن أبى شيبة عن عبد الملك بن سويد الكاهلي أن عليا قنت في الفجر بـهاتين السورتين : ( اللهم إنا نستعينك … ) ) (2) .
  ( وأخرج محمد بن نصر عن سفيان قال : كانوا يستحبون أن يجعلوا في قنوت الوتر هاتين السورتين : ( اللهم إنا نستعينك ) و ( اللهم إياك نعبد ) ، وأخرج محمد بن نصر عن إبراهيم قال يقرأ في الوتر السورتين : ( اللهم إياك نعبد ) ( اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ) ).
  ( وأخرج محمد بن نصر عن الحسن قال : نبدأ في القنوت بالسورتين ثم ندعو على الكفار ثم ندعو للمؤمنين والمؤمنات ).
  ( وأخرج محمد بن نصر عن خصيف قال : سألت عطاء بن أبى رباح أي شئ أقول في القنوت قال : هاتين السورتين اللتين في قراءة أُبـي : ( اللهم إنا نستعينك ) و ( اللهم إياك نعبد ) ).

--------------------
(1) الدر المنثور ج6ص420 ( ذكر ما ورد في سورة الخلع وسورة الحفد ) أقول : قد يتبادر إلى الذهن أن القنوت بـهما يدل على كونـهما دعاء ، وليس كذلك ، فإن القرآن يصح أن يقرأ كدعاء مثل قوله تعالى ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ( آل عمران / 8 ).
(2) ن.م .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 433 _
  ( وأخرج ابن أبى شيبة ومحمد بن نصر عن ميمون بن مهران قال في قراءة أبى بن كعب : ( اللهم إنا نستعينك ) ) (1) .
  ( عن أبي اسحاق قال : أمّـنـا أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بخراسان فقرأ بـهاتين السورتين (إنا نستعينك ) و (نستغفرك ) ) (2) .
  (وأخرج محمد بن نصر عن عطاء بن السائب قال كان أبو عبد الرحمن يقرئنا ( اللهم إنا نستعينك ) زعم أبو عبد الرحمن أن ابن مسعود كان يقرئهم إياها ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم كان يقرئهم إياها ) (3) .
  ( وأخرج أبو الحسن القطان في المطولات عن أبان بن أبي عياش قال سألت أنس بن مالك عن الكلام في القنوت فقال : ( اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ) قال أنس : والله إن أنزلتا إلا من السماء ‍!) (4) .
  ( وأخرج محمد بن نصر عن يزيد بن أبى حبيب قال بعث عبد العزيز بن مروان إلى عبد الله بن رزين الغافقي فقال له : والله إني لأراك جافيا ما أراك تقرأ القرآن ! قال : بلى والله إني لأقرأ القرآن وأقرأ منه مالا تقرأ به ، فقال له عبد العزيز : وما الذي لا أقرأ به من القرآن ! قال : القنوت حدثني على ابن أبى طالب أنه من القرآن ) (5) .
--------------------
(1) ن.م ج6ص422.
(2) مجمع الزوائد ، المجلد السابع ص157 ( باب فيما نسخ ) وعلق عليه ب‍ ( رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ) وعن الإتقان في علوم القرآن ج1ص65 ، أقول : واضح أن الصلاة لا تتم بقراءة غير القرآن .
(3) الدر المنثور ج6ص422.
(4) الدر المنثور ج6ص420 ( ذكر ما ورد في سورة الخلع وسورة الحفد ).
(5) ن.م .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 434 _
  ولا أرى نصوصا هي أوضح وأجلى مما سبق لإثبات جزئيتهما من القرآن في نظر سلفهم الصالح ، أما في مذهب أهل البيت عليهم السلام الذي يدين به الشيعة فإن كل تلك الروايات وغيرها التي تفيد المعنى المزبور مرفوضة وعرض الجدار مضربـها .

* دمج بعض الصحابة لـهما في المصحف على أنـهما سورتان :
  ( قال ابن الضريس في فضائله أخبرنا موسى بن إسماعيل أنبانا حماد قال قرأنا في مصحف أبى بن كعب (اللهم إنا نستعينك وتستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ) قال حماد : هذه الآن سورة، واحسبه قال : (اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونجد وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق) )(1).
  ( وفي مصحف ابن عباس قراءة أبـيّ وأبى موسى ( بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ) ، وفي مصحف حجر ( اللهم إنا نستعينك ) ) (2) .
  ( أخرج البيهقي أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال : ( بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك …) قال ابن جريج : حكمة البسملة أنـهما سورتان في مصحف بعض الصحابة ).
  ( وأخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين فذكرهما وأنه كان يكتبهما في مصحفه ) (3) .
  ( وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين ، وفي مصحف أُبيّ ست عشر لأنه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع ) (4) .

--------------------
(1) ن.م .
(2) ن.م .
(3) الإتقان في علوم القرآن ج1ص65 ط الحلبي الثالثة .
(4) ن.م .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 435 _
  ( وأخرج ابن أبى شيبة في المصنف ومحمد بن نصر والبيهقي في سننه عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال ( بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك … ) وزعم عبيد أنه بلغه انـهما سورتان من القرآن من مصحف ابن مسعود ) (1) .
* شـبهة !
  قد يقال إن تلك الروايات التي تحكي كتابة السورتين في مصحف كل من أَبي بن كعب وابن مسعود (2) وابن عباس لا يستفاد منها إلحاقها كسورتين مثل بقية سور القرآن وإنما كتبتا كذكر ودعاء في آخر المصحف حتى يسهُل إيجادهما وقراءتـهما ، فليس كل ما يضاف في آخر المصحف يعتبر من القرآن المنـزل ، وهذا أشبه بما يفعل اليوم من دمج دعاء ختم القرآن في آخره وهذا لا يعني أنه دمج كسورة في المصحف .
  وهذا الكلام غير صحيح لأن الروايات صريحة في كونـهما سورتين ولم يعهد التعبير عن الدعاء بالسورة ، ثم إن رواياتـهم بينت محل السورتين في مصحف بعض الصحابة وكيفية وضعها فيه :
  ( فائدة : قال ابن أشته في كتاب المصاحف : أنبأنا محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو داود حدثنا أبو جعفر الكوفي قال : هذا تأليف مصحف أُبيّ : الحمد ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة ثم يونس ثم الأنفال ـ إلى أن يقول ـ ثم الضحى ثم ألم نشرح ثم القارعة ثم التكاثر ثم العصر ثم سورة الخلع ثم سورة الحفد ثم ويل لكل همزة … إلخ ) (3) .
  وقال النديم في الفهرست : ( باب ترتيب القرآن في مصحف أبي بن كعب : … الصف ، الضحى ، ألم نشرح لك ، القارعة ، التكاثر ، الخلع ثلاث آيات ، الحفد ست آيات اللهم إياك نعبد وآخرها بالكفار ملحق ، اللمز ، إذا زلزلت ، العاديات ، أصحاب الفيل ، التين ، الكوثر ، القدر ، الكافرون ، النصر ، أبي لهب ، قريش ، الصمد ، الفلق ، الناس ، فذلك مائة

--------------------
(1) الدر المنثور ج6ص421 .
(2) هذه النسبة لمصحف ابن مسعود وقعت محل كلام وخلاف .
(3) الإتقان في علوم القرآن ج1ص64 ط الحلبي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 436 _
  وستة عشر سورة قال إلى هاهنا أصبحت في مصحف أبي بن كعب وجميع آي القرآن في قول أبي بن كعب ستة آلاف آية ومائتان وعشر آيات وجميع عدد سور القرآن ) (1) .
  وعليه فالسورتان المزعومتان وقعتا بين السور ، وترتيبهما بـهذا النحو في مصحف أبي بن كعب شاهد على أنـهما دمجتا كسورتين من سور المصحف لا كدعاء ألحق في آخر صفحاته ! بل إن راوي الرواية قد صرّح بكونـهما سورتين ، فجزئيتهما واضحة لا غبار عليها ، ومما يزيد الأمر وضوحا هذه الرواية :
  وأخرج محمد بن نصر عن الشعبي قال : ( قرأت أو حدثني من قرأ في بعض مصاحف أُبيّ بن كعب هاتين السورتين : ( اللهم إنا نستعينك ) ، والأخرى ، بينهما ( بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) قبلهما سورتان من المفصل وبعدهما سور من الفصل ) (2) .
  وواضح من موضع السورتين في المصحف أن دمجهما كان باعتبار قرآنيتهما وإلا لو كانتا دعاءً لما صح أن توضعا بين السور بل توضعا في آخر المصحف أو في هامش الصفحات ، وهذا التقريب ليس بذاك الشيء بعد صراحة الروايات السابقة ونصها على أنـهما سورتان .
من عدهما سورتين من الصحابة والتابعين
  يمكن أن تزودنا نظرة عابرة في رواياتـهم بقائمة كبيرة من أسماء سلفهم الصالح الذين كانوا يقولون بقرآنيتهما ، وهم : أبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، وأبو موسى الأشعري ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن مسعود ، وإبراهيم النخعي ، وسفيان الثوري ، والحسن البصري ، وعطاء بن رباح ، وأبو عبد الرحمن بزعم عطاء بن السائب ، وقد قال ابن عباس وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن أبزى وعبيد بن عمير : أن عمر بن الخطاب كان يقرأ هاتين السورتين في الصلاة .
  وسيأتي ذكر كلمات علماء أهل السنة الذين صرحوا بأن هذين المقطعين سورتان في مصاحف بعض الصحابة كبقية سور القرآن .

--------------------
(1) الفهرست ج1ص40.
(2) الدر المنثور ج6ص420 ، وللزيادة تراجع روايات سورتي الخلع والحفد في الدر المنثور .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 437 _
  ومن الغريب أن علاّمتهم جلال الدين السيوطي قد وضع هذه الجمل التي لا ترقى لمستوى البلاغة القرآنية في آخر تفسيره الدر المنثور بعد المعوذتين إيمانا منه بأنـهما سورتان من القرآن ! ولا أدري كيف خفي عليه وهو رجل أدب وحليف لغةٍ وبلاغة ما لأسلوبـها من اضمحلال وضعف عن رونق الإعجاز القرآني ، وليت شعري كيف نحتج باعجاز القرآن وبلاغته على غير أهل ملتنا مع تجويز دخول تلك العبارات في حريم القرآن ، أفلا ينفيها إعجازه البلاغي ؟!
* أين ذهبت ؟!
  السؤال المهم الذي على أهل السنة الإجابة عنه هو أين ذهبت هاتان السورتان ؟ ، ولماذا لم تكتبا في المصحف زمن عثمان ؟ خاصة وأن الصحابة كانوا يقرؤونـها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمدة طويلة بعد زمن عثمان ، وكتبوهما في مصاحفهم ، بل كان الخليفة وغيره من التابعين يؤمّون الناس بـهما في الصلاة ولا من نكير أو معترض!

ثانيا : إخراج سورتي الفلق والناس عن حريم القرآن !
  هذا نوعٌ آخر من التحريف وهو إنكار المسلّم الثابت ضرورة بإجماع المسلمين ، فبعض كبار الصحابة أنكر هذا الضروري وقال بنفي قرآنية المعوذتين ، بل ادعى نزولهما من السماء كعوذتين عوّذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـهما الحسنين سيدي شباب أهل الجنة عليهما السلام ، وكان هذا الصحابي متجاهرا بذلك يجادل فيه أهل لا إله إلا الله الذي اجمعوا على خلافه ، بل ويحكّها من المصحف بدعوى أنـها ليست منه ! وهذا ما نصت عليه أصح الروايات عند أهل السنة وكذا ذكرته روايات الشيعة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 438 _
* من هو ابن مسعود ؟
  عبد الله بن مسعود الصحابي غني عن التعريف ، ولنقتصر في الكلام عنه بما جاء في الإصابة لابن حجر : ( عبد الله بن مسعود ، أحد السابقين الأولين ، أسلم قديما وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها ولازم النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وكان صاحب نعليه وحدث عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بالكثير ، وآخى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بينه وبين الزبير وبعد الهجرة بينه وبين سعد بن معاذ ، وقال له في أول الإسلام : إنك لغلام معلم .
  وأخرج البغوي من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال قال عبد الله : لقد رأيتني سادس ستة وما على الأرض مسلم غيرنا ، وبسند صحيح عن ابن عباس قال : آخى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بين أنس وابن مسعود ، وقال أبو نعيم : كان سادس من أسلم وكان يقول : أخذت من في رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم سبعين سورة .
  أخرجه البخاري ، وهو أول من جهر بالقرآن بمكة ذكره ابن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه ، وقال النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : من سره أن يقرا القرآن غضا كما نزل فليقرأ على قراءة بن أم عبد ، وكان يلزم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ويحمل نعليه ، وقال علقمة قال : لي أبو الدرداء أليس فيكم صاحب النعلين والسواك والوساد ، يعني عبد الله ، وقال له رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : إنك على أن ترفع الحجاب وتسمع سوادي حتى أنـهاك ، أخرجهما أصحاب الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : تمسكوا بعهد ابن أم عبد .
  أخرجه الترمذي في أثناء حديث ، وأخرج الترمذي أيضا من طريق الأسود بن يزيد عن أبي موسى قال : قدمت أنا وأخي من اليمن ، وما نرى ابن مسعود إلا أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، وعند البخاري في التاريخ بسند صحيح عن حريث بن ظهير جاء نعي عبد الله بن مسعود إلى أبي الدرداء فقال : ما ترك بعده مثله ) (1) .
  وقد قتل على يد جلاوزة ابن عفان حينما أمر عثمان بحمله ورميه خارج المسجد فأخذ وحُمل ودُقّ بالأرض فتكسّرت أضلاعه ، ومن قبلها عزله عثمان عن عمله بعد أن كان خازنا

--------------------
(1) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ج4ص233ت4957 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 439 _
  لبيت مال المسلمين في الكوفة ، وحرمه عطاءه ودفن ليلا بوصية منه لعمار رضوان الله تعالى عليه بعد أن استشهد بسبب كسره ، وكان مما أوصى به عمار أن لا يشهد عثمان جنازته وقد فعل عمار رضوان الله تعالى عليه ذلك .
مكانة ابن مسعود من القرآن عندهم
  روايات أهل السنة تصور لنا ابن مسعود القارئ الأوحدي للقرآن ، وقد اعتنى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيما اعتناء حتى أخذ ابن مسعود من فيـه صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورة ، وقد ذكرت رواياتـهم أن : من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن مسعود ، وذكرت أيضا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة بأن يأخذوا القرآن من أربعة وشيخهم المتربع على عرشهم هو ابن مسعود ، وهذه من تلك الروايات :
  أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة باستقراء القرآن من أربعة أولهم ابن سعود : " قال عبد الله بن عمرو : إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً ، وقال : إن احبكم إليّ أحسنكم أخلاقاً ، وقال : استقرئوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ) (1) .
  وفي مسلم أن ابن مسعود رد نصيحة من نصحه بالقراءة على قراءة زيد قائلا : ( على قراءة من تأمروني أن أقرأ ؟! فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضعاً وسبعين سورة ، ولقد عَلِم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنيّ أعلمهم بكتاب

--------------------
(1) صحيح البخاري (كتاب فضائل الصحابة ) باب مناقب عبد الله بن مسعود ج4ص199.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 440 _
  الله ولو أعلم أن أحداً أعلم مني لرحلت إليه ، قال شقيق : فجلست في حَلَق أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما سمعت أحدا يردُّ ذلك عليه ولا يعيبه ) (1) .
  فتدل هذه على أن ابن مسعود لا يرى أحدا أعلم بالقرآن منه ! وهو مفاد رواية أخرى أخرجها مسلم : ( والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلّا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلّا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغُه الإبل لركبت إليه ) (2) .

--------------------
(1) صحيح مسلم ج7ص148 ، لعل شقيقا هذا لم يجلس عند معلم الكل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الإمام علي عليه السلام .
(2) ن.م ، أقول : مما لا ريب فيه أن هذا الكلام باطل ، ويكاد يغلب على ظني أنـها من نسج بني أمية الذين عمدوا لفضائل وأقوال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فنسبوها لغيره من الصحابة ، والقول السابق مشهور عنه عليه السلام ، قال العلامة الأميني رضوان الله تعالى عليه في الغدير ج6ص193ـ195 : ( … ويرفع عقيرته على صهوات المنابر بقوله سلام الله عليه : سلوني قبل أن لاتسألوني ولن تسألوا بعدي مثلي ، ( أخرجه الحاكم في المستدرك ج2ص466 وصححه هو والذهبي في تلخيصه ) وقوله عليه السلام : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا سنة عن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إلا أنبأتكم بذلك ( أخرجه ابن كثير في تفسيره ج4ص231 من طريقين وقال : ثبت أيضا من غير وجه )
  وقوله عليه السلام : سلوني والله لا تسألوني عن شئ يكون إلى يوم القيامة إلا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أ بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل ، ( أخرجه أبو عمر في جامع بيان العلم ج1ص114 ، والمحب الطبري في الرياض ج2ص198 ، ويوجد في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص124 ، والإتقان ج2ص319 ، تـهذيب التهذيب ج7ص338 ، فتح الباري ج8ص485 ، عمدة القاري ج9ص167 ، مفتاح السعادة ج1ص400 )
  وقوله عليه السلام : ألا رجل يسأل فينتفع وينفع جلسائه ، (أخرجه أبو عمر في جامع بيان العلم ج1ص114 ، وفي مختصره ص57 )
  وقوله عليه السلام : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت ، وأين أنزلت ، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا ، ( أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ج1ص68 ، وذكره صاحب مفتاح السعادة ج1ص400 )
  وقوله عليه السلام : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ، وما من آية إلا وأنا أعلم حيث أنزلت بحضيض جبل أو سهل أرض ، وسلوني عن الفتن فما من فتنة إلا وقد علمت من كسبها ومن يقتل فيها ، ( أخرجه إمام الحنابلة أحمد وقال : روي عنه نحو هذا كثيرا ( ينابيع المودة ص 274 ) )
  وقوله عليه السلام وهو على منبر الكوفة وعليه مدرعة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهو متقلد بسيفه ومتعمم بعمامته صلى الله عليه واله وسلم ، فجلس على المنبر وكشف عن بطنه فقال : سلوني قبل أن تفقدوني فإنما بين الجوانح مني علم جم ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه واله وسلم زقا زقا ، فو الله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتـهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتى ينطق الله التوراة والإنجيل فيقولان : صدق علي قد أفتاكم بما انزل في وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ، ( أخرجه شيخ الإسلام الحمويني في فرائد السمطين عن أبي سعيد ) وقال سعيد بن المسيب : لم يكن أحد من الصحابة يقول : سلوني ، إلا علي بن أبي طالب وكان إذا سئل عن مسألة يكون فيها =>

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 441 _
  والأهم من هذا كله أن ابن مسعود كان آخر الصحابة عهدا بالوحي وعرضة القرآن الأخيرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولسان الرواية يقول أن ابن مسعود علم ـ بزعمهم ـ ما نُسخ وما بُدّل من الآيات ، وعليه فابن مسعود في رواياتـهم أعلم الصحابة بالقرآن ، ويحتم علينا الرجوع له في معرفة نصوصه لأن قراءته هي القراءة التي استقر عليها كتاب الإسلام ، وهي طبق الأصل من العرضة الأخيرة للقرآن إذ اختص من دون الصحابة بما نسخ وما بدل بشهادة حبر الأمة ابن عباس .
   => كالسكة المحماة ويقول :

إذا الـمشكلات تـصدين iiلي      كـشـفت حـقائقها بـالنظر
فإن برقت في مخيل الصواب      عـمياء  لا يـجتليها iiالبصر
مـقـنعة  بـغيوب الأمـور      وضعت  عليها صحيح iiالفكر
لـسانا  كـشقشقة الأرحـبي      أو كـالحسام الـيماني iiالذكر
وقـلبا إذا اسـتنطقته iiالفنون      أبــر عـلـيها بـواه iiدرر
ولـست  بـإمعة في iiالرجال      يـسائل هـذا وذاما الخبر ii؟
ولـكنني مـذرب iiالأصغرين      أبـين مع ما مضى ما غبر .
  ( أخرجها أبو عمر في العلم 2 ص 113 ، وفي مختصره ص170 ، والحافظ العاصمي في زين الفتى شرح سورة هل أتى ، والقالي في أماليه ، والحصري القيرواني في زهر الآداب ج1ص38 ،والسيوطي في جمع الجوامع كما ترتيبه ج5ص242 ، والزبيدي الحنفي في تاج العروس ج5ص268 نقلا عن الأمالي ، وذكر منها البيتين الاخيرين الميداني في مجمع الأمثال ج2ص358 )اه ، وهو في تفسير القرطبي ج1ص35، فتح الباري ج8ص599 ، تـهذيب التهذيب ج7ص297، تـهذيب الكمال ج20ص487 ، الطبقات الكبرى ج2ص339 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 442 _
موقف ابن مسعود من المعوّذتين
  بلغ موقف ابن مسعود من المعوذتين شهرة أغنتنا عن تكلف ذكر أدلته ، فأمره واضح لا يحتاج إلى بيان ، ومن جاس خلال الديار يعلم أن روايات أهل السنة الصريحة المتظافرة الصحيحة كانت سببا كافيا لـجزم كثير من علماء أهل السنة بإنكاره لقرآنية المعوذتين كما سيأتي نقل كلماتـهم بإذنه تعالى ، وهذه الصراحة ينفر عنها التأويل والتحوير ، وهاك غيضا من فيض نسكن به نفوس البعض :
  عن مسند الحميدي : ( قال ثنا سفيان قال ثنا عبدة بن أبي لبابة وعاصم بن بـهدلة أنـهما سمعا زرّ بن حبيش يقول : سألت أبي بن كعب عن المعوذتين ، فقلت : يا أبا المنذر! إن أخاك ابن مسعود يحكـّها من المصحف ! ، قال : إني سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : قال لي : قل ، فقلت : فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ) (1) .
  ومن مجمع الزوائد : ( عن زر قال : قلت لأبيّ : إن أخاك يحكهما من الصحف ! ، قيل لسفيان ابن مسعود فلم ينكر ، قال سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : فقيل لي ، فقلت ، فنحن نقول كما قال رسول الله ) (2) .
  ( وعن عبد الرحمن بن يزيد يعني النخعي قال : كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول : إنـهما ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى ) (3) .
  ( وعن عبد الله ، أنه كان يحك المعوذتين من الصحف ، ويقول : إنما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعوذ بـهما وكان عبد الله لا يقرأ بـهما ) (4) .

--------------------
(1) المسند للحميدي ج1ص185ح374.
(2) مجمع الزوائد المجلد السابع ص149 ( باب ما جاء في المعوذتين ) ، وعلق عليه ( قلت : هو في الصحيح خلا يـحكهما من المصحف ، رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح ).
(3) ن.م ، وعلق عليه ابن حجر ( رواه عبد الله بن أحمد والطبراني ورجال عبد الله رجال الصحيح ورجال الطبراني ثقات ) .
(4) ن.م ، وعلق عليه ابن حجر ( رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات ) .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 443 _
  وعن المصنّف لابن أبي شيبة : ( حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد قال : رأيت عبد الله مـحا المعوذتين من مصاحفه ، وقال : لا تخلطوا فيه ما ليس منه ) (1) .
  وعنه أيضا : ( حدثنا وكيع عن ابن عون عن ابن سيرين قال : كان ابن مسعود لا يكتب المعوذتين ) (2) .
  وعند الشافعي في الأم : ( أخبرنا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحق عن عبد الرحمن بن يزيد قال : رأيت عبد الله يحك المعوذتين من المصحف ويقول لا تخلطوا به ما ليس منه ) (3) .
  مسند أحمد : ( حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا سفيان بن عيينة عن عبدة وعاصم عن زر قال قلت : لأبي إن أخاك يحكهما من المصحف ! فلم ينكر ، قيل لسفيان بن مسعود ، قال : نعم ، وليسا في مصحف ابن مسعود كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ بـهما الحسن والحسين ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته فظن أنـهما عوذتان وأصر على ظنه وتحقق الباقون كونـهما من القرآن فأودعوهما إياه ) (4) .
  وقال ابن جحر العسقلاني في فتح الباري : ( وقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي ) قال : ( كان ابن مسعود يحك المعوذتين من مصاحف ويقول إنـهما ليستا من كتاب الله ) (5) .

--------------------
(1) المصنّف لابن أبي شيبة ج10ص538ح10254.
(2) مصنف ابن أبي شيبة ج6ص147ح30212.
(3) الأم ج7ص189.
(4) مسند أحمد ج5 ص130ح21227
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج8ص743 ، ومجمع الزوائد المجلد السابع ص149 وعلق عليه (رواه عبد الله بن أحمد والطبراني ورجال عبد الله رجال الصحيح ورجال الطبراني ثقات ) ، راجع : مشكل الآثار ج1ص33و34 ، التفسير الكبير للرازي ج1ص213 ، فواتح الرحموت بـهامش المستصفى ج2ص9 ، الجامع لأحكام القرآن ج20ص251 ، شرح الشفا

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 444 _
  وقال السيوطي في الإتقان : " وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين ، وفي مصحف أُبيّ ست عشر لأنه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع .
  وأخرج أبو عبيد عن ابن سيرين قال : كتب أُبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين و ( اللهم إناّ نستعينك ) و ( اللهم إياك نعبد ) وتركهن ابن مسعود وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين ) (1) .
   للقاري ج2ص315 ، مناهل العرفان ج1ص268 ، صحيح البخاري ج3ص144 ، مسند أحمد ج5ص129ـ130 بأسانيد متعددة ، الفقه على المذاهب الأربعة ج4ص258 ، روح المعاني ج1ص24، كنـز العمال ج2ص356ـ373 ، إرشاد الساري7ص242 وغيرها من المصادر .

البخاري ذكر إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين في صحيحه
  ويكفينا أن إنكار ابن مسعود للمعوذتين أخرجه البخاري في صحيحه في ( باب تفسير سورة قل أعوذ برب الناس ) : ( عن زر قال : سألت أبي بن كعب قلت : يا أبا المنذر ! إن أخاك ابن مسعود يقول : كذا وكذا ، فقال أبي : سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فقال لي : قيل لي ، فقلت ، قال : فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ) (2) .
  وكما ترى فقد حاولت رواية البخاري ستر رائحة التحريف التي تزكم الأنوف ، ولكن دون جدوى لأن ما أبـهمته ب‍ (كذا وكذا) قد بيّنه كثير من علماء وحفاظ أهل السنة كما مر ، ونص على حقيقة ما في صحيح البخاري رواة الأخبار والمحدثين ، فهذا البيهقي يقول بعد ذكر هذه الرواية : ( وأنبأ أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو بكر بن إسحاق أنبأ بشر بن موسى ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عبدة بن أبي لبابة وعاصم بن بـهدلة أنـهما سمعا زر بن حبيش يقول : سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقلت : يا أبا المنذر أن أخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف ! قال :

--------------------
(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج1ص65.
(2) صحيح البخاري ج4ص1904ح4693 ، ح4692.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 445 _
  إني سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، قال : فقيل لي ، فقلت ، فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، رواه البخاري في الصحيح عن قتيبة وعلي بن عبد الله عن سفيان ) (1) .
  وكذا قال الحافظ ابن حجر الهيثمي في مجمع الزوائد عندما علق على الرواية السابقة : ( هو في الصحيح ـ أي صحيح البخاري ـ خلا (حكهما من المصحف) ، رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح ) (2) .
  وكذلك علق المحدث حبيب الرحمن الأعظمي على الرواية السابقة في تحقيقه لمسند الحميدي بقوله : ( أخرجه البخاري من طريق قتيبة وعلي بن المديني عن سفيان (ج8ص524) ولم يصرح بما كان يصنع ابن مسعود ) (3) .
  وستأتي بإذنه تعالى كلمات شراح البخاري كالكرماني والقسطلاني والعيني التي تكشف لنا حقيقة ما حاولت رواية البخاري تدليسه والستر عليه !
  وابن حجر العسقلاني اعترف بـهذا التدليس والتعمية للفضيحة لكنه حاول إبعاد البخاري عن هذا التدليس والإبـهام بقوله :
  ( قوله ( يقول كذا وكذا ) هكذا وقع هذا اللفظ مبهما ، وكان بعض الرواة أبـهمه استعظاما له ، وأظن ذلك من سفيان فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك على الإبهام ، وكنت أظن أولا أن الذي أبهمه البخاري لأنني رأيت التصريح به في رواية أحمد عن سفيان ولفظه ( قلت لأبي : إن أخاك يحكها من المصحف )

--------------------
(1) سنن البيهقي الكبرى ج2ص394ح3851 .
(2) مجمع الزوائد للهيثمي ج7ص149.
(3) المسند للحميدي ج1ص185ح374.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 446 _
  وكذا أخرجه الحميدي عن سفيان ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج ، وكأن سفيان كان تارة يصرح بذلك وتارة يبهمه ) (1) .
  وملخص كلام ابن حجر هو أن البخاري أخرج الرواية ولكنه لم يبهمها ، بل الراوي كان يصرح تارة ويبهم أخرى استعظاما لقول ابن مسعود ، بدليل أن الرواية وردت مبهمة عند غير البخاري أيضا وهو الإسماعيلي ، ولكنه على أي حال يعترف بأن ما أبـهم في صحيح البخاري هو إنكار ابن مسعود للمعوذتين ، وهذا كاف لنا .
  ويمكن التأمل فيما أفاده ابن حجر ، لأن ما ذكره لا يبعد البخاري عن مرمى السهام ولا يكفي لرمي غير البخاري بتـهمة الإبـهام والتعمية ، لأمور :
  1 ـ ورود الرواية مبهمة عند الحافظ أبي بكر الإسماعيلي لا يعني أن الإسماعيلي لم يتّبع بذلك ابـهام البخاري ، لأن الإسماعيلي ـ المتأخر زمانا عن البخاري ـ قام بتخريج أحاديث صحيح البخاري ، وكان مفتونا به مقلدا متبعا لما في صحيح البخاري ، حتى اعترض عليه لذلك بعض معاصريه ، فيكون اتباعه وتقليده لما في الصحيح من إبـهام للرواية أمرا متوقعا جدا (2) ، فلا تجدي هذه الموافقة ، لرفع البخاري عن تـهمة التعمية .

--------------------
(1) فتح الباري ج8ص742ح4693.
(2) قال الذهبي في تذكرة الحفاظ ج3ص948ـ949 : ( قال حمزة بن يوسف وسمعت أبا محمد الحسن بن علي الحافظ بالبصرة يقول : كان الواجب للشيخ أبي بكر أن يصنف لنفسه سننا ويختار ويجتهد فإنه كان يقدر عليه لكثرة ما كان كتب ولغزارة علمه وفهمه وجلالته وما كان ينبغي له أن يتقيد بكتاب محمد بن إسماعيل فإنه كان أجل من أن يتبع غيره ) ، ونقل أيضا : ( فكنت أخبره بما صنف ـ الإسماعيلي ـ من الكتب وجمع من المسانيد والمقلين وتـخريـجه على كتاب البخاري وجميع سيرته فيعجب من ذلك ).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 447 _
  2 ـ المعروف عن البخاري أنه لم يكن يلتزم نقل الرواية كما سمعها من الراوي ، بل كان ينقل بالمعنى (1) ، وهذه المنهجية التي كان يسير عليها البخاري لا تحتم عليه نقل الرواية كما سمعها ، فاحتمال تلاعبه بـهذا المقطع ( يحكها من المصحف ) أمر وارد .
  3 ـ إن كان الاستعظام هو السبب لإبـهام الراوي لكلام ابن مسعود فلماذا كان يصرح تارة ويبهم أخرى ؟!
  وعلى أي حال فإن غرضنا هنا هو إثبات تخريج البخاري لهذه الرواية في صحيحه ، سواء كان هو الذي أبـهم كلام ابن مسعود ب‍ ( كذا وكذا ) أم غيره .
  فتمويه رواية البخاري لم ينطل على أحد ، ولا أدري لماذا انتخب البخاري هذه الرواية بالذات للحديث عن المعوذتين مع أنـها لا تثبت قرآنية المعوذتين بل تشكك في قرآنيتهما أكثر ؟! ، بل إن رواية البخاري تشعر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه لم يكن متيقنا من أن المعوذتين نزلتا كقرآن ! فما علمه صلى الله عليه وآله وسلم عن المعوذتين هو أنه أُمر قراءتـهما وكما تعبر الرواية ( قيل لي ، فقلت ) ، أما كونـهما مجرد كلمات للدعاء والتعوذ أم سورا قرآنية فهذا ما لا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! ، وهذا بعينه قول كبار علماء أهل السنة مثل ابن حجر العسقلاني حيث قال في فتح الباري :
  ( وليس في جواب أُبـي تصريح بالمراد ، إلا أن في الإجماع على كونـهما من القرآن غنية عن تكلف الأسانيد بأخبار الآحاد ) (2) .

--------------------
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي ج12ص411 : ( وقال أحيد بن أبي جعفر والي بخارى : قال محمد بن إسماعيل يوما رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ، فقلت له : يا أبا عبد الله بكماله ؟! قال : فسكت ) ، وهو في مقدمة فتح الباري ج1ص487 ، تغليق التعليق ج5ص417 ، تدريب الراوي ج1ص95 وصححه .
(2) فتح الباري ج8ص743.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 448 _
  وكذا قال الإمام يوسف الحنفي أبو المحاسن : ( عن زر أنه سأل أبي بن كعب عن المعوذتين وقال : إن أخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف ! فقال أبي : سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : قيل لي ( قل ) ، فقلت ـ أي أبي بن كعب ـ فنحن نقول كما قال الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم ، ففي هذا الجواب لا دلالة على كونـهما من القرآن ولا نفيهما عنه ) (1) .
  ولا ريب أن اختيار البخاري لهذه الرواية المشينة لمقام الرسالة يعتبر نقطة سوداء مخزية تسجل على البخاري .
  ولنرجع لصلب الموضوع ، اتضح إلى هنا أن الروايات صريحة في إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين ، بل إن بعضها يفيد أن موقف ابن مسعود كان معروفا ومشهورا بين الصحابة والتابعين .

--------------------
(1) معتصر المختصر ج2ص201.
  موقف علماء أهل السنة :
  افترق المساكين إلى فرقتين ، فمنهم من خضع دون مكابرة وأقرّ ما جاء به صحيح البخاري وغيره من المصنفات ، ومنهم من كابر ورفض الفكرة من الأساس وقال بكذب تلك المرويات وعاند بلا دليل وقال ( هذا غير معقول ! ) ، ولا أرى وجها للاستحالة عند هؤلاء إلا أن ابن مسعود معصوم عن الخطأ !
  ثم انقسم من أقر بما جاء به الأثر الصحيح إلى قسمين قسم يُؤول ما فعله ابن مسعود ، وسيتضح أن تأويلهم بعيد كل البعد عن الواقع مع صراحة الروايات ، وقسم آخر أقر واستسلم للأمر الواقع وطفق يقلب كفيّه !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 449 _
  * التفصيل :
  ذهب القاضي الباقلاني والنووي وابن حزم وقيل هو رأي الفخر الرازي إلى أن ما ذكر عن ابن مسعود باطل مكذوب لا يلتفت إليه ، لأن من أنكر شيئا من القرآن فقد كفر ولو صح عن ابن مسعود هذا لكان كافراً وللزم أن بعض القرآن لم يثبت بالتواتر وهذا في غاية الإشكال ، لذا أراد هؤلاء نفي تلك النسبة عن ابن مسعود حتى يبعدوه عن الكفر ، فمنهم من رد الروايات بلا تعليل وحكم ببطلانـها وكذبـها شاء الواقع أم أبى ! ، وتصدى لهم العسقلاني وردّ عليهم القول بعدم إمكان تكذيب الروايات الصحيحة بالمزاج ، ومنهم من قال إن التأويل مقبول والطعن في الروايات مرفوض كابن حجر نفسه ، ولكنه ولم يأت بتأويل مقبول ! قال :
  ( وأما قول النووي في شرح المهذب ( أجمع المسلمون على أن المعوّذتين والفاتحة من القرآن ، وأن من جحد منهما شيئا كفر ، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح ) ففيه نظر ، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلى ( ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنيّة المعوذتين فهو كذب باطل ) وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره ( الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل ) ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل مقبول ، والإجماع الذي نقله إن أراد شـموله لكل عصر فهو مخدوش ، وأن أراد استقراره فهو مقبول ) (1) .‌
  وكذا رجّح السيوطي في الإتقان كلام ابن حجر لأن ما ورد عن ابن مسعود صحيح ولا مجال لإنكاره ، ولم يقبل ما ذهب له الفخر الرازي والقاضي أبو بكر والنووي وابن حزم من تكذيب الروايات ، ويتضح من إشكال الفخر الرازي أن المشكلة لا تكمن في سند الروايات وإنما فيما يلزم من قبول تلك الروايات وإن كانت صحيحة ، قال الرازي :

--------------------
(1) فتح الباري ج 8ص743 ط دار المعرفة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _450 _
  ( إن قلنا أن كونـهما ـ المعوّذتين ـ من القرآن كان متواترا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرها ، وان قلنا إن كونـها من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعـض الـقرآن لم يتواتـر، قال : وهذه عقدة صعبة ) (1) .
  إذن ، فالذي أجبرهم على ردها هو ما يلزم منها من الحكم بالتكفير أو عدم التواتر ، فالروايات من حيث السند والدلالة لا يمكن ردّها أو التغلّب على صراحتها بالتأويل ولو أمكن لما استصعب على الفخر الرازي حل عقدتـها .
  وهنا وجه آخر لرد هذه النسبة لابن مسعود وهو كلام ابن حزم الذي أكثر ترديده بعض الوهابية ، ومفاده أن بعض شيوخ القراءة قرؤوا على ابن مسعود ، وهؤلاء أثبتوا المعوذتين في مصاحفهم ، فلو كان ابن مسعود ينكر المعوذتين لاقتفوا أثره في ذلك ، قال في المحلى :
  ( وكل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتان ) (2) .
  غاية هذا الكلام أن ابن مسعود ما أنكر المعوذتين ! ، وهذا الكلام تافه للغاية ويرده رواياتـهم الصريحة الصحيحة ، وعلى أي حال فلا بأس بالتعقيب على هذا كلام المتهالك الباطل صغرويا وكبرويا ، بأمور :
  1 ـ إن وظيفة القارئ هي اقتفاء أثر الشيخ في نحو القراءة وكيفية إخراج الحروف لا أن يحذف ويزيد سورا !!
 2 ـ سلمنا ، ولكن من قال إن القارئ يجب عليه اقتفاء أثر شيخه فيما علم خطؤه به ؟!

--------------------
(1) ن.م .
(2) المحلى ج1ص13 .