واثنان ـ هما : ابن كثير المكّي ونافع المدني ـ مستورا الحال ، ولكن نسبتهما إلى فارس بالخصوص ربما تنم عن موقفهما من مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) لأنّهم أسبق من عرف الحق و لمسه في هذا الاتجاه ) (1) .
  وعند تتبع سلسلة إسناد قراءة كل من الأربعة المشار لهم آنفا نجد أن لقراءتـهم طرقا شيعية ، صافية لا شائبة فيها ، وهذا بشهادة علماء أهل السنة :
  قالا في معجم القراءات القرآنية : ( ولمصحف علي قيمة تاريخية من جانب أن علياً ( عليهم السلام ) كان من القراء فقراءته يمثلها مصحفه ، وقيمته التاريخية ترجع إلى أن قراءات أربعة قراّء من القراء السبعة تنتهي إلى قراءة علي كرم الله وجهه ، وأمّا هؤلاء القراء الأربعة فهم :
  1 ـ أبو عمرو بن العلاء : ـ قرأ على نصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر ، وكلاهما على أبي الأسود ، وأبو الأسود قرأ على رضي الله عنهما .
  2 ـ عاصم بن أبي النجود : ـ قرأ على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب بن ربيعة السّلمي الضرير الذي قرأ على عليّ كرّم الله وجهه .
  3 ـ حمزة الزيات : ـ قرأ على أبي عبد الله جعفر الصادق الذي قرأ على أبيه محمد الباقر ، وقرأ الباقر على أبيه زين العابدين و قرأ زين العابدين على أبيه سيد شباب أهل الجنّة الحسين و قرأ الحسين على أبيه علي بن أبي طالب ، (عليهم السلام)
  4 ـ الكسائي : ( قرأ على حمزة و عليه اعتماده ) (2) .
  وكل هذه الطرق شيعية خالصة ، وهكذا يتضح أن الشيعة كانوا لبنة أساسية في أسانيد تلك القراءات ، وأضاف الصدر رضوان الله تعالى عليه في تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام أن هناك دورا بارزا لبعض القراء الشيعة في عالم القراءات غير هؤلاء الأربعة وذكر عدة منهم كابن مسعود ، وأُبيّ بن كعب ، وأبي الدرداء ، والقداد ، وابن عباس ، وأبي الأسود ، وعلقمة ، وابن السائب ، والسلمي ، وزرّ بن حبيش ، وسعيد بن جبير ، ونصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر ، وحمران بن أعين ، وأبان بن تغلب ، والأعمش ، وابن عياّش ، وحفص بن سليمان ، ونظرائهم من أعاظم القراء في دنيا القرآن (3) .

--------------------
(1) تلخيص التمهيد في علوم القرآن ص327ـ328 .
(2) معجم القراءات القرآنية ج1ص14.
  أقول : هذا لا يعني أن قراءة كل منهم تتطابق مع الآخر ، إذ أن منهم من كان يضيف من عنده ويقرأ بطريقته الخاصة ، ما عدا عاصم بن أبي النجود الذي نسبت له القراءة المتواترة بين الناس وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي الذي أخذها عن علي عليه السلام .
  قال الإمام الذهبي في معرفة القراء الكبير ج1ص77 : ( وأعلى ما يقع لنا من القرآن العظيم فهو من جهة عاصم ـ ثم ذكر إسناده متّصلا إلى حفص ، عن عاصم ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ( عليهم السلام ) وعن زر وعن عبد الله ، وكلاهما عن النبي ( عليهم السلام ) عن جبرائيل ( عليهم السلام ) عن الله عز وجل ).
(3) راجع كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ، والإنصاف أن بعضهم يتأمل في نسبته للتشيع .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 352 _
   الشيعة هم إسناد قراءة المسلمين اليوم
  هذه القراءة المشتهرة المتواترة بين المسلمين المعروفة بقراءة عاصم برواية حفص ذكر أهل السنة إسنادا لها كل رجاله من الشيعة ، فمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشيعة واحدا عن واحد ، ولم يقع رجل واحد من أهل السنة في إسنادها ، وقد تسالم الكل على أنـها أصح القراءات .
  فرأس سلسلتها هو الإمام علي عليه السلام وقرأ عليه أبو عبد الرحمن السلمي وهو شيعي ، وقرأ عليه عاصم بن بـهدلة وهو شيعي كما مر ، وقرأ عليه تلميذه حفص بن سليمان وهو شيعي ، فكلهم من الشيعة .
  حفص بن سليمان من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام وقد أسند عنه ، وقد ذكره العلامة السيد الأمين رضوان الله تعالى عليه ضمن أعيـان الشـيعة : ( حفص بن سليمان أبو عمرو الأسدي الغاضري المقري البزاز الكوفي ، ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الصادق عليه السلام و قد أسند عنه ) (1) .
  وقد أطرى علماء أهل السنة على تثبّت حفص بن سليمان في نقل قراءة عاصم بن أبي النجود (2) .
  وهكذا يتضح أن شيخ حفص بن سليمان الذي أخذ منه القراءة المتداولة هو عاصم بن أبي النجود وقد ذكره العلامة السيد محسن الأمين رضوان الله تعالى عليه ضمن أعيان الشيعة :

--------------------
(1) أعيان الشيعة ج6 ص 201 ، وبمثلها ترجم في معجم رجال الحديث ، راجع رجال الطوسي قدس سرّه ص 176 .
(2) هذه جملة من كلماتـهم ، قال في ميزان الاعتدال للذهبي ج1ص508 ت2121 : ( وكان شيخاً في القراءة واهياً في الـحديث لأنه كان لا يتقن الحديث ويتقن القرآن ويجوّده ، وإلاّ فهو في نفسه صادق ) .
  معجم البلدان ج10ص215ـ216 : ( وهو الإمام القارئ ، راوي عاصم بن أبي النجود ، وكان ربيب عاصم ـ ابن زوجته ـ فأخذ عنه القراءة عرضاً وتلقيناً ، قال حفص : قال لي عاصم : القراءة التي أقرأتك بـها فهي التي قرأتـها عَرْضاً على أبي عبد الرحمن السلمي عن عليٍّ ، والتي أقرأتـها أبا بكر بن عياش فهي التي كنت أعرضُها على زرِّ بن حُبيش عن ابن مسعود … قال يحيى بن معين : الرواية الصحيحة من قراءة عاصم رواية حفص ، وكان أعلمهم بقراءة عاصمٍ ، وكان مرجّحاً على شُعْبة بضبط القراءة ).
  طبقات القرّاء ج1 ترجمة حفص : ( أما القراءة فثقةٌ ثبتٌ ضابطٌ لـها بخلاف حاله في الحديث ، قال ابن المنادي : قرأ على عاصم مراراً ، وكان الأولون يعدونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش ويصفونه بضبط الحروف التي قرأها على عاصم ، وأقرأ الناس دهراً وكانت القراءة التي أخذها عن عاصم ترتفع إلى علي رضي الله عنه ) ، تاريخ بغداد ج8ص196ت4312 : ( وهو صاحب عاصم في القراءة وابن امرأته ، وكان ينـزل معه في دار واحدة ، فقرأ عليه القرآن مرارا ، وكان =>

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 353 _
  ( عاصم بن أبي النجود : بـهدلة الكوفي ، أحد القراء السبعة قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي الذي قرأ على أمير المؤمنين عليه السلام ومن أصحابه ، ونقل عن المنتهى للعلامة أنه قال : أحب القراءات إليّ قراءة عاصم من طريق أبي بكر بن العياش وقرأ أبان بن تغلب الذي هو شيخ الشيعة على عاصم ولعاصم روايتان الأولى رواية حفص بن سليمان البزاز كان ابن زوجته الثانية ورواية أبي بكر بن عياش ، وعاصم من الشيعة بلا كلام نص على ذلك القاضي نور الله والشيخ عبد الجليل الرازي المتوفى سنة 556 شيخ ابن شهرآشوب في كتاب نقض الفضائح أنه كان مقتدى الشيعة ) (1) .
  ومقام عاصم الكوفي عند علماء أهل السنة لا يخفى على من راجع ترجمته في كتبهم (2) ، ويستفاد منها أن عاصما كان رأسا في القراءة وسيدا في ميدانـه لا يبلغ إتقانه أحد ، ولكنه في الحديث غير متقن عندهم ، وله أوهام وأغلاط يسيرة .
  => المتقدمون يعدّونه في الحفظ فوق أبي بكر بن أبي عيّاش ، ويصفونه بضبط الحرف الذي قرأ به على عاصم ) ، شذرات الذهب ج1ص293 أحداث سنة ثمانين ومائة : ( حفص بن سليمان الغضائري الكوفي قاضي الكوفة وتلميذ عاصم وقد حدث عن علقمة بن مرثد وجماعة وعاش تسعين سنة وهو متروك الحديث حجة في القراءة قاله في العبر ).
  تحرير تقريب التهذيب ج1ص312ت1405 حفص بن سليمان الأسدي : ( متروك الحديث مع إمامته في القراءة ).
  معجم حفاظ القرآن ج1ص210ت92 : ( الإمام الحجّة الثقة الثبت ، صاحب الرواية المشهورة في الآفاق ، ويقرأ بـها إلى الآن معظم المسلمين في شتى أنحاء العالم ، وهو حفص بن سليمان بن المغيرة أبو عمرو بن أبي داود الأسدي الكوفي ولد حفص سنة تسعين من الهجرة وقد أخذ القراءة عرضًا وتلقيناً على عاصم بن أبي النجود الإمام الخامس من الأئمة العشرة .
  قال الداني : وقد أخذ حفص قراءة عاصم تلاوة ، ونزل بغداد فأقرأ بـها ثم رحل إلى مكة وجاور بـها فأقرأ الناس بقراءة عاصم ولازال المسلمون حتى الآن يتلقون قراءة حفص بالرضا والقبول ، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إن قراءة حفص من أشهر الروايات في شتى بقاع الدنيا ، ومما تجدر الإشارة إليه أن قراءة حفص صحيحة متصلة السند بالهادي البشير عليه الصلاة والسلام ، لأنـها ترتفع إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ) .
  الطبقات لابن الجزري ج1ص254 : (قال أبو عمرو الداني : حفص هو الذي أخذ قراءة عاصم على الناس تلاوة ، ونزل بغداد فأقرأ بـها ، وجاور بمكة فأقرأ بـها ) .

--------------------
(1) أعيان الشيعة ج7ص407 ترجمة رقم1415 .
(2) شذرات الذهب ج1ص175 سنة ثمان وعشرين ومائة : ( وعاصم بن أبي النجود الكوفي الأسدي مولاهم ، أحد القراء السبعة وكان حجة في القراءات صدوقاً في الحديث قرأ على أبي عبد الرحمان السلمي وغيره )
  تاريخ الإسلام للذهبي ج5ص139: ( قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش ، وروى عنهما … قال أبو بكر : قال لي عاصم : ما أقرأني أحدٌ حرفاً إلاّ أبو عبد الرحمن السلمي كان قد قرأ على عليّ رضي الله عنه فكنت أرجع من عنده أعرض على زر … وقال أبو بكر بن عياش : لا أحصي ما سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول : ما رأيت أحداً أقرأ من عاصم ، ما أستثني أحداً من أصحابه ) .
  تـهذيب الكمال ج13ص473 وما بعدها ت3002 : ( قال عبد الله ابن أحمد بن حنبل : سألت أبي عنه فقال : كان رجلاً صالحاً قارئاً للقرآن ، وأهل الكوفة يختارون قراءته وأنا أختار قراءته ، وكان خيّراً ثقةً ، والأعمش أحفظ منه ، وكان شعبة يختار الأعمش عليه ، في تثبيت الحديث ، وقال عبد الله أيضا : سألت أبي عن حماد بن أبي سليمان و عاصم ، فقال : عاصم أحب إلينا ، عاصم صاحب قرآن ، وحمّاد صاحب فقه، وقال أحمد بن عبد الله العجلي : عاصم صاحب سُنة و قراءة للقرآن ، وكان ثقة ، رأسا في القراءة ، ويقال : أن الأعمش قرأ عليه وهو حَدَث ، وكان يختلف عليه في زرّ وأبي وائل ).
  كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد ص69 : ( وكان أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن ، وعرض على زرّ بن حبيش ، فيما حدثني به عبد الله بن حمد بن شاكر ، قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال لي عاصم : ما أقرأني أحد حرفاً إلا أبو عبد الرحمن السلمي ، وكان أبو عبد الرحمن قد قرأ على عليّ رضي الله تعالى عنه ، وكنت أرجع من عند أبي عبد الرحمن ، =>

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 354 _
  وقد قرأ القرآن كاملا على أبي عبد الرحمن السّلمي ولم يقرأ على أحدٍ سواه ، ولكنه مع ذلك كان يعرض هذه القراءة التي أخذها من السلمي على زرّ بن حبيش رضوان الله تعالى عليه وقد أخذها هو الآخر عن ابن مسعود ، وكان غرضه من عرضها عليه زيادة التثبّت والإتقان ومعرفة أوجه الاختلاف والتبصرة في تنوّع القراءات ، فكانت قراءته على أبي عبد الرحمن السلمي هي العمدة عند عاصم بن أبي النجود ، وقالوا أنه اعتبرها الأكمل والأسلم لأنـها قراءة سيده ومولاه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام ، فيكون بينه وبين المنبع الأصيل واسطة واحدة ، فأقرأ عاصم حفص بن سليمان قراءة أمير المؤمنين عليه السلام ، وأقرأ أبا بكر بن عياش قراءة ابن مسعود بواسطة زر بن حبيش .
  وأما أبو عبد الرحمن السّلمي فمعروف بتشيّعه لأمير المؤمنين عليه السلام وملازمته له في حروبه التي ذكرها التاريخ ونص على ذلك كتاب التراجم ، فقد ذكره السيد حسن الصدر رضوان الله تعالى عليه في كتابه القيّم تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام بما يلي :
  ( أبو عبد الرحمن السلمي : ومنهم أبو عبد الرحمن السلمي ، عبد الله بن حبيب شيخ قراءة عاصم ، قرأ عليه عاصم وعليه تخرج ، قال ابن قتيبة : كان من أصحاب علي ، وكان مقرئاً ويحمل عنه الفقه انتهى (1) ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على أمير المؤمنين كما في مجمع البيان وطبقات القرّاء ، قال ابن حجر في التقريب : … أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي المقرئ مشهور بكنيته ، ولأبيه صحبة ،
  => فأعرض على زرّ بن حبيش وكان زرّ قد قرأ على عبد الله ، قال أبو بكر بن عياش فقلت لعاصم : لقد استوثقت ).
  من مقدمة الحافظ القارئ محمد غوث الندوي على كتاب التبصرة في القراءات السّبع لمكي بن أبي طالب ص84 : ( وهو الإمام الذي انتهت إليه رئاسة القراءة بالكوفة بعد أبي عبد الرحمن السّلمي في موضعه ، جمع بين الفصاحة والإتقان ، و التحرير والتجويد ، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، روى عن رفاعة التميمي و الحارث البكري و كانت لـهما صحبة ، وأخذ القراءة عرضاً عن أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش وفضائله كثيرة ، توفي آخر سنة سبع وعشرين ومائة على الاختلاف ، وكفى به شرفاً أنه أستاذ إمام الأئمة أبي حنيفة النعمان ، وأما عاصم فله راويان : حفص وشعبة ، سيدنا حفص رحمه الله : هو حفص سليمان الكوفي ، أخذ القراءة عرضاً وتلقيناً عن عاصم قال يحيى بن معين : الرواية الصحيحة من قراءة عاصم رواية حفص ، وكان مرجحاً على شعبة بضبط القراءة )
  وقال السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه في ترجمته من معجم رجال الحديث : ( عاصم بن بـهدلة : أبي النجود الكوفي : أحد القراء السبعة و قراءته عن طريق حفص معروفة مشهورة و كل ما رأيناهن من المصاحف القديمة و الحديثة قد رسم خطه على طبق قراءته ، قال حفص : قال لي عاصم : ما كان من القراءة التي أقرأتك بـها هي القراءة التي قرأت بـها على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عليه السلام ، و ما كان القراءة التي أقرأتـها أبا بكر بن عياش فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود ).

--------------------
(1) المعارف لإبن قتيبة ص 528 ، ط الثانية ، دار المعارف بمصر .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 355 _
  ثقة ثبت من الثانية ، مات بعد السبعين انتهى ، وفي رجال البرقي في خواص علي عليه السلام من مضر أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السّلمي ) (1) .
  وقد قرأ على أمير المؤمنين عليه السلام ، وهي القراءة التي أخذها أمير المؤمنين عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرائيل عن الباري عز وجل ، وقد اتضح ذلك مما سبق عند الكلام عن نصر بن سليمان ، وعاصم بن أبي النجود .
  وعليه فالقراءة المشهورة والمتداولة بين المسلمين لم يسندها أهل السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا عن طريق رجال الشيعة وبلا منازع ، كابر عن كابر ، فمن أبي عبد الرحمن السلمي وهو شيعي إلى عاصم بن أبي النجود وهو شيعي إلى حفص بن سليمان وهو شيعي ، ورأس السلسلة أمير المؤمنين عليه السلام سيد الشيعة وإمام الشريعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
  قال في تلخيص التمهيد : ( أماّ القراءة الحاضرة ـ قراءة حفص ـ فهي قراءة شيعيّة خالصة ، رواها حفص ـ وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ـ عن شيخه عاصم ـ وهو من أعيان شيعة الكوفة الأعلام ـ عن شيخه السّلمي ـ وكان من خواصّ عليّ عليه السلام ـ عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله عز وجل ) (2) .
  ومع هذا كله مازلنا نبتلى ببعض نفر من تلامذة الوهابية يقومون بنقل أسانيد القراء السبعة ويقولون هذا تواتر القرآن عندنا فأين تواتر القرآن عند الشيعة ! ، ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ( الحجر / 3 ) .

--------------------
(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ص 342 ، وذكر الطبري في تاريخه أن أبا عبد الرحمن السلمي كان في جيش الإمام علي عليه السلام في صفين ضد الطليق بن الطليق معاوية بن أبي سفيان .
(2) تلخيص التمهيد ص337 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 356 _
موقف الأعلام من التعبّد بالقراءات التي كانت في عهد الأئمة عليهم السلام :
  الشيعة يرون أئمة أهل البيت عليهم السلام المنبع الصافي لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإقرار أهل البيت عليهم السلام لأمرٍ ما دال على جوازه ، وقد وردت روايات عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تدل على جواز التعبّد بما يقرأ به عامة الناس ، وكلمات علمائنا واضحة في جواز التعبد بتلك القراءات المشهورة في زمن الأئمة عليهم السلام لعدم ورود الردع بل وردت روايات عنهم عليهم السلام تجوّز العمل بأية قراءة كانت في زمانـهم وحكموا بأنـها مجزيه ،
   ففي الكافي : ( عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله عليه السلام وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس ) (1) .
  ويجب الالتفات إلى أنه لا ملازمة بين جواز التعبد بـها وبين أن القرآن واحد له قراءة واحدة ، وهذا صريح ما ذكره المحقق النجفي رضوان الله تعالى عليه في الجواهر : ( بل الزمخشري صرح بما في أخبارنا من أن قراءة النبي صلى الله عليه وآله واحدة وأن الاختلاف إنما جاء من الرواية ولذلك أوجب على المصلي كل ما جاء من الاختلاف للمقدمة واستحسنه بعض من تأخر من أصحابنا لولا مجيء الدليل بالاجتزاء بأي قراءة ) (2) .
  والقراءة المتيقن من الاجتزاء بـها من بين القراءات هي تلك التي كان يقرأ بـها في زمان المعصوم عليه السلام لا القراءات السبع بعينها ، إذ أن زمن صدور الروايات المجوّزة يمنع من تعلقها بالسبع فقط على وجه الخصوص .
  قال السيد الحكيم رضوان الله تعالى عليه في مستمسك العروة الوثقى : ( ومن هذا كله يظهر لك الإشكال في حمل النصوص المذكورة وغيرها على خصوص قراءة السبعة أو أنـها القدر المتيقن منها لصدورها عن الصادق عليه السلام والكاظم عليه السلام قبل حدوث بعض هذه القراءات أو قبل اشتهاره ولاسيما قراءة الكسائي فكيف يحتمل أن تكون مرادة بـهذه النصوص بل مقتضى النصوص اختصاص الجواز بما كان يقرؤه الناس في ذلك العصر لا غير فيشكل الشمول لبعض القراءات السبع إذا لم يعلم أنـها كانت متداولة وقتئذ ؟ ).
  ( لكن يجب الخروج عن ذلك بالإجماع المتقدم عن التبيان ومجمع البيان المعتضد بالسيرة القطعية في عصر المعصومين عليهم السلام على القراءة بالقراءات المعروفة المتداولة في الصلاة وغيرها من دون تعرض منهم عليهم السلام للإنكار ولا لبيان ما تجب قراءته بالخصوص الموجب للقطع برضاهم عليهم السلام بذلك كما هو ظاهر ) (3).

--------------------
(1) الكافي ج2ص633 كتاب فضائل القرآن باب النوادر .
(2) جواهر الكلام ج9ص239 ط دار الكتب الإسلامية .
(3) مستمسك العروة الوثقى للسيد الحكيم رضوان الله تعالى عليه ج 6 ص244ـ245 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 357 _
  ولو لم يرد الجواز والاكتفاء بأي قراءة كانت في زمانـهم عليهم السلام (1) لكان من اللازم إبراء الذمة في الصلاة بقراءة ما يتيقن عدم حصول التلاعب فيه من قبل القراء مادةً وهيئة ، كالاقتصار على سورة التوحيد في الصلاة والإتيان بكل هيئات الكلمة التي اختلف القرّاء في قراءتـها ، قال السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه :
  ( والحق أن الذي تقتضيه القاعدة الأولية هو عدم جواز القراءة في الصلاة بكل قراءة لم تثبت القراءة بـها من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أو من أحد أوصيائه المعصومين عليهم السلام ، لأن الواجب في الصلاة هو قراءة القرآن فلا يكفي قراءة شيء لم يحرز كونه قرآناً ، وقد استقلّ العقل بوجوب إحراز الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمة ، وعلى ذلك فلا بد من تكرار الصلاة بعدد القراءات المختلفة أو تكرار مورد الاختلاف في الصلاة الواحدة ، لإحراز الامتثال القطعي ، ففي سورة الفاتحة يجب الجمع بين قراءة ( مالك ) وقراءة ( ملك ) .
  أما السورة التامة التي يجب قراءتـها بعد الحمد ـ بناءً على الأظهر ـ فيجب لها إما اختيار سورة ليس فيها اختلاف في القراءة ، وإما التكرار على النحو المتقدم ، و أما بالنظر إلى ما ثبت قطعياً من تقرير المعصومين عليهم السلام شيعتهم على القراءة ، بأية واحدة من القراءات المعروفة في زمانـهم ، فلا شك في كفاية كل واحدة منها ، فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانـهم ، ولم يرد عنهم أنـهم ردعوا عن بعضها ، ولو ثبت الردع لوصل إلينا بالتواتر ، ولا أقل من نقله بالآحاد ، بل ورد عنهم عليهم السلام إمضاء هذه القراءات بقولـهم : ( اقرأ كما يقرأ الناس ، إقرؤا كما عُلّمتم ).
  وعلى ذلك فلا معنى لتخصيص الجواز بالقراءات السبع أو العشر ، نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة ، غير ثابتة بنقل الثقات عند علماء أهل السنة ، ولا موضوعة ، أما الشاذة فمثالها قراءة ( مَلَك يومَ الدين ) بصيغة الماضي ونصب يوم ، و أما الموضوعة فمثالها قراءة ( إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ ) برفع كلمة الله ونصب كلمة العلماء على قراءة الخزاعي عن أبي حنيفة ، وصفوة القول : أنه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيت عليهم السلام ) (2) .
  واحتاط الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه في المسألة بقوله : ( الأحوط عدم التخلف عن إحدى القراءات السبع ، كما أن الأحوط عدم التخلف عما في المصاحف الكريمة الموجودة بين أيدي

--------------------
(1) من المؤكد أن القراءة التي كانت مشتهرة في زمانـهم هي قراءتنا اليوم ، المتواترة على مرّ الزمان ، فقوله عليه السلام ( اقرأ كما يقرأ الناس ) إن لم نقل أنـها هي المقصودة ، فلا ريب في شمول الأمر لها .
(2) البيان ص167-168 ، ط انتشارات كعبه .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 358 _
  المسلمين ، وإن كان التخلف في بعض الكلمات مثل ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) و ( كُفُواً أحَدْ ) غير مضر ، بل لا يبعد جواز القراءة بإحدى القراءات ، يجوز قراءة ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) و ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ولا يبعد أن يكون الأول أرجح ، وكذا يجوز في (الصراط) أن يقرأ بالصاد والسين والأرجح بالصاد ، وفي (كفواً أحد) وجوه أربعة : بضم الفاء و سكونه مع الهمزة أو الواو ، ولا يبعد أن يكون الأرجح بضم الفاء مع الواو ) (1) .
  وقال السيد السيستاني حفظه الله تعالى : ( الأنسب أن تكون القراءة على طبق المتعارف من القراءات السبع وإن كان الأقوى كفاية القراءة على النهج العربي وإن كانت مخالفة لها في حركة بنية أو إعراب ، نعم لا يجوز التعدي عن القراءات التي كانت متداولة في عصر الأئمة عليهم السلام فيما يتعلق بالحروف و الكلمات ) (2) .
  وقد اقتصرنا على ما ذكر لأن فيه الكفاية ، ومن أراد الزيادة فليراجع .
  * الخلاصة
  اتضح إلى هنا أن الشيعة ترى أن القرآن واحد نزل من عند الواحد لكن هذا الاختلاف والتغاير في القراءات جاء من قبل القراء كل باجتهاده ، وهذا المصحف بين أيدينا متواتر جملة وتفصيلا بنقل الكافة عن الكافة ، وكذا أهل السنة يعتقدون بتواتره جملة وتفصيلا ، لكنهم متذبذبون في أمر القراءات فبعضهم يقول متواترة وأهل الخبرة منهم يقولون غير متواترة ، وتذبذبـهم على أشده في القراءات الشاذة إذ قالوا أنـها ليست من القرآن وخاصة تلك التي تخالف رسم المصحف مع أن سلفهم الصالح كان يقول بقرآنيتها ! ، والبعض يشك في أنـها من القرآن ، أي لعلها منه ولكنها حذفت من المصحف !
  والعاقل المنصف يعلم أي من النظرتين تصون القرآن من شبهة التحريف .

--------------------
(1) تحرير الوسيلة ج1ص166ـ167.
(2) منهاج الصالحين ج1ص208 مسألة 616 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 359 _
المبحث الرابع : نـسـخ التــلاوة
  تصدى بعض علماء الشيعة رضوان الله تعالى عليهم لرد فرية تحريف القرآن التي أثارها بعض المأجورين ، وبالأثناء نقلوا روايات من مصادر أهل السنة تفيد أن القرآن قد حرف وتلوعب به ، وكان غرضهم من ذلك التنبيه إلى أن وجود شخصيات أو روايات عند أهل السنة تصرح بتحريف القرآن لا يعني أن أهل السنة يعتقدون تحريف القرآن والأمر بالمثل عند الشيعة ، فلا داعي للتهويل والتشنيع على الشيعة بما هو موجود في كتب غيرهم ، هذا كل شيء .
  ولكن وجدنا أن بعضا من الوهابية اتخذ إثبات تحريف القرآن عند الشيعة هدف الحياة سواء أكان هذا الإثبات حقا أم باطلا ، والمضحك أن أولئك الذين ما وجدوا للإيمان حلاوة في قلوبـهم قد أخذوا بتأويل تلك الروايات التي نقلها الشيعة من كتب أهل السنة فقالوا إن تلك الروايات تتكلم عن الآيات التي نسخت تلاوة ـ بزعمهم ـ لا أن القرآن محرف ! ، مع أن الشيعة ما أرادوا إثبات تحريف القرآن عند أهل السنة ! وإنما نقلوا تلك الروايات من كتب أهل السنة لبيان أن عقيدة المسلمين في القرآن لا تتزلزل ببعض الأشخاص أو الروايات موجودة عند الطرفين ، ولكن في المقابل تمسك الوهابية بنسخ التلاوة حتى يتهربوا من رواياتـهم وتبقى الكرة في ملعب الشيعة ! وشر البلية ما يضحك !
  ووجدنا أن القضاء على هذا الخزعبل الذي تستروا بـه والملجأ الذي فروا إليه خوفا مما تثبته رواياتـهم الصحيحة من تحريف القرآن أصبح ضرورة حتمية نبين فيها زيف هذا الستر وأن الفضيحة لا يغطيها الركون إلى المبتدعات والسنن المفبركة ، فنجرهم قهرا إلى مقصد الشيعة الأول وهو رفع القرآن عن مرمى سهامهم والكف عن لوك قداسته بألسنتهم .
  *بـين يـدي البحـث
  * ما هو النسخ ؟
  النسخ في الشريعة هو رفع تشريعٍ وحكم سابق كان يعتقد دوامه بتشريع آخر ، فيبطل العمل بالسابق بانتهاء أمده المكتوب والمعلوم مسبقا عن الله عز وجل ويحل محلّه اللاحق ، وهذا ما قرره علماء الشيعة وعلماء أهل السنة ، قال المحقق معرفة حفظه الله في التمهيد : ( هو رفع تشريع سابق ـ كان

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 360 _
  يقتضى الدوام حسب ظاهره ـ بتشريع لاحق ، بحيث لا يمكن اجتماعهما معاً ، إما ذاتا ، إذا كان التنافي بينهما بيناً ، أو بدليل خاص ، من إجماع أو نص صريح ) (1) .
  وقال الخضري في تاريخ التشريع الإسلامي : ( إبطال الحكم المستفاد من نص سابق بنص لاحق ومثاله ما ورد في حديث كنت نـهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ، بالنص الأول يطلب الكف عن الزيارة والنص الثاني يرفع ذلك النهي ويحل محله الإباحة والطلب ) (2) .
  ومفاد النسخ أن الله عز وجل كان يعلم برفع هذا التشريع المعين بعد فترة من الزمن وإحلال غيره محله لفائدة ولغاية يعلمها هو سبحانه وتعالى (3) .
  * أقسام النسخ في القرآن :
  قسم علماء المسلمين النسخ المتصور والمفترض الوقوع في القرآن إلى ثلاثة أنواع :
  1 ـ نسخ الحكم دون التلاوة : بأن تبقى الآية المنسوخ حكمها ثابتة في القرآن الكريم متلوّة ، وهذا أقرّه علماء الإسلام أجمع إلا ما ندر .
  2 ـ نسخ التلاوة دون الحكم : بأن تنسخ تلاوة الآية ولفظها ويبقى الحكم الذي كان يحويه ثابتا في الشريعة ، ومثّلوا له بما يسمى بآية الرجم ولها صيغ متعددة منها ( والشيخ والشيخة فارجموهما نكالا من الله البتة ) ، فنسخت تلاوتـها ولكن حكمها مازال معمولا به في الشريعة .

--------------------
(1) التمهيد في علوم القرآن للمحقق محمد هادي معرفة ج 2 ص 270 ، ط مهر ، قم المقدسة .
(2) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري بك ص21 .
(3) وهذا ما أقرّه علماء السنّة ، فقد قال أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع ج1ص483 : ( قالوا ولأن جواز النسخ يؤدي إلى البداء على الله تعالى ! وذلك لا يجوز عليه ، والجواب أن البداء إظهار لشيء بعدما كان خافياً عليه من قولهم (بدا له الصبح) إذا ظهر ، ونحن لا نقول : إن الله تعالى كان قد خفي عليه شيء في الأول وظهر في الثاني ، وإنما نقول : أنه خاطب بـهذا الخطاب وهو عالم بأنه يسقطه عنه بعد زمان وهذا ليس ببداء )اه ، أقول : وما ذكره أهل السنة في هذا المورد هو نفس عقيدة البداء عند الشيعة الإمامية بلا فرق ، ولكن الوهابية ـ كالجاهل السابق ( عثمان الخميس ) في أحد أشرطته ـ يفترون على الشيعةَ بأن من عقيدتـهم أن الله عز وجل يجوز عليه البداء بمعنى أنه يعلم بعد جهل ! ، مع أن الشيعة تكفر من يعتقد بـهذا الاعتقاد ، وهذا الافتراء ليس بجديد منهم ، والذي ساعدهم على بثه بين البسطاء والسذج كلمة ( بدا ) التي يتبادر لمن يسمعها المعنى المحذور ، لذلك تجدهم عندما يتكلمون عن عقيدة البداء عند الشيعة يقتصرون على نقل كلمات أهل اللغة في معنى الكلمة ، ولا ينقلون كلمات علمائنا في معناها ، فتنبه لذلك .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 361 _
  3 ـ نسخ الحكم مع التلاوة : بأن تنسخ تلاوة الآية وينسخ حكمها معها ، ومثلوا له بما يسمى بآية الرضاع التي أخبرت عنها عائشة في قولها : ( كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وهن مما يقرأ من القرآن ) (1) .
  والنوعان الأخيران من النسخ لم يصحح وقوعه جملة من علماء أهل السنة وكذا جل الشيعة الإمامية إن لم نقل كلهم وإن قسموا النسخ في القرآن على مستوى التصور والإفتراض إلى تلك الأقسام الثلاثة ، وأما النوع الأول من النسخ فواقع في القرآن الكريم وأجمع عليه المسلمون إلا من شذ ، وقد نسخ حكم بعض الآيات الكريمة وشهد القرآن الكريم والسنة النبوية بذلك فلا نحتاج هنا للتدليل على وقوعه ، ونذكر مثالا واضحا وهو آية النجوى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( المجادلة / 12 ) ، ثم نسخت بعد ذلك وخفف الله عن هذه الأمة بفعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قدم بين يدي نجواه صدقة ، فكان يقول عليه السلام : ( بي خفف الله عن هذه الأمة ) (2)
  وقال ابن عمر : ( لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حُمُر النعم ، تزويجه فاطمة ( عليهم السلام ) ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى ) (3) .
  فأنزل الله عز وجل الآية الناسخة للحكم وهي ( أ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المجادلة / 13 ) ، وأما نسخ التلاوة بشقيه فقد رفض علماء الإمامية التسليم بوقوعه وكثير من علماء أهل السنة لأسباب يأتي ذكرها بإذنه تعالى .

--------------------
(1) صحيح مسلم كتاب الرضاع حديث رقم 24 ، وستأتي بقية مصادره إن شاء الله تعالى .
(2) تفسير القرطبي ج17ص302 نقلا عن الترمذي .
(3) ن.م.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 362 _
  أولا : أهل السنة ونسخ التلاوة
  تـحرير محل النـزاع
  اتضح مما سبق أن أهل السنة يتفقون مع الشيعة على جواز وقوع ضروب النسخ الثلاثة في القرآن ، وتصورها فيه أمر ممكن ، ولكن أهل السنة افترقوا عن الشيعة بقولهم أن نسخ التلاوة سواء مع الحكم أو بدونه قد وقع في القرآن الكريم ، بخلاف الشيعة الذين لا يقولون بوقوعهما وإن كانا جائزين عقلا ، فمحل النـزاع بين القوم هو الوقوع وعدمه
  * هل وقع نسخٌ لتلاوة بعض آيات القرآن الكريم ؟
  من الأمور التي لا يتهاون فيها نسبة آية من الآيات إلى قائمة المنسوخ ، لذا فإن مبحث نسخ التلاوة الذي به تنفى آيات من القرآن أو على الأقل يشك في بقائها أو حذفها أمر مهم جدا ، ناهيك عما ينتج عنه من فتح باب التلاعب والتقول بأحكام ليس لها في الإسلام نصيب بدعوى أنـها كانت ضمن آيات نسخت نسخ تلاوة مع بقاء الحكم ! ، وعليه فمن الأهمية بمكان معرفة وقوع هذا النوع من النسخ في آيات القرآن من عدمه.
  قال في التفسير القرآني للقرآن : ( فإذا ساغ أن ينـزل قرآن ، ويتلى على المسلمين ، ثم يُرفع ، ساغ لكل مُبطل أي قول ، ثم يدّعي له أنه كان قرآنا ثم نسخ … وهكذا تتداعى على القرآن المفتريات والتلبيسات ، ويكون لذلك ما يكون من فتنة وابتلاء ) (1) .
  وحتى لو لم تكن هناك أحكام مبتدعة تدخل وتنسب للدين بالباطل عن طريق هذا النوع من النسخ فإن مجرد القول بقرآنية جملة بلا بينة أمر عظيم ، لذلك يجب تحديد موقفنا من وقوع هذا النوع الخطر من النسخ في القرآن ، فلو ثبت وجود آيات تنص على وقوع هذا النسخ ، أو لا أقل تواترت الأخبار بذلك فحينها نجزم بوقوع نسخٍ لتلاوة بعض آيات القرآن ، فلننظر إذن فيما يمكن للأدلة إثباته .
  * الإثبات من ناحيتين
  1 ـ الآيات القرآنية الدالة على وقوع نسخ التلاوة .
  2 ـ الأحاديث النبوية الشريفة الدالة عليه .
  أولا : الآيات القرآنية
  لا توجد آية واحدة ولا حتى جزء من آية يصرّح بوقوع نسخ لتلاوة القرآن ، نعم ذكروا آيات تدل على جوازه وإمكانه مثل ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة/106 ) ،

--------------------
(1) التفسير القرآني للقرآن ج1 ص 122 لعبد الكريم الخطيب ط ، دار الفكر العربي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 363 ـ
  والإمكان أعم من الوقوع كما هو معلوم بالبداهة، فكم من أمرٍ ممكن في نفسه ولكنه لم يقع ، ولا خلاف بين المسلمين شيعة وسنة على أن الله عز وجل يمكنه أن ينـزل آية ويرفع تلاوتـها كما ذكرنا سابقا ، وإنما الكلام في وقوع مثل هذا الشيء ، فالاستدلال بـهذه الآية على الوقوع غير صحيح البتة ، لأنـها تبدأ ب‍ ( ما ) التي تفيد الشرط ، وغاية ما يستفاد منها هو وجوب تحقق الجزاء عند تحقق الشرط .
  ولننقل كلمات علماء السنة في هذا الأمر ، قال الفخر الرازي في تفسيره الكبير : ( واعلم أن بعد أن قررنا هذه الجملة في كتاب المحصول في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة / 106 ) والاستدلال به ضعيف أيضاً لأن ( ما ) هاهنا تفيد الشرط والجزاء وكما أن قولك ( ومن جاءك فأكرمه ) لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام ، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه ) (1) .
  وقال في مباحث في علوم القرآن : ( ومعنى هذا أن النسخ الذي أشارت إليه الآية الكريمة ، ليس لازماً أن يقع ، وإنما وقوعه أمر احتمالي ، يشهد له الواقع أو لا يشهد ، فإن شهد له اعتُبر وإلاّ فلا ) (2) ، فأساليب الشرط في القرآن قد لا يراد وقوعها ، أو تحقيق جوابـها ، ومن ذلك قوله سبحانه ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) ( الحاقة / 44 ـ 46 ) (3) .
  وقال في قضايا القرآن عند كلامه حول آية النسخ : ( وإذ ننظر في وجه الآية الكريمة ننظر أولاً : هل إذا جاء شرط في القرآن الكريم ، أيجب أن يقع هذا الشرط وأن يتحقق تبعاً لذلك جوابه ؟ الجواب على هذا : أن ليس من الـحتم اللازم أنه إذا ورد في القرآن أسلوب شرطي أن يقع هذا الشرط وإنما الـحتم اللازم هو أنه إذا وقع الشرط فلا بدّ من أن يقع ويتحقق الجواب المعلق على وقوع هذا الشرط فما أكثر ما وردت أساليب شرطية في القرآن غير مراد وقوعها وتحقيق جوابـها ، ومن ذلك قوله تعالى لنبيه الكريم : ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ( الأنعام / 116 ) ، وقوله تعالى عن نبيه الكريم أيضاً : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ

--------------------
(1) التفسير الكبير ج3 ص 229 ، ط دار الكتب العلمية الثانية .
(2) من قضايا القرآن ص24 .
(3) مباحث في علوم القرآن ص 254.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 364 _
  بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) ( الحاقة / 44 ـ 46 ) وقوله تعالى خطاباً له ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) ( الزمر / 65 ) ، فلم يقع شرط أي آية من هذه الآيات ولم يقع جوابـها كذلك وعلى هذا يجوز في الآية الكريمة : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة / 106 ) ، يجوز ألا يقع شرطها وجوابـها ، وتكون من قبيل القضايا الفرضية ، التي يراد بـها العبرة والعظة ، والذي نأخذه من هذا هو أن النسخ الذي أشارت إليه الآية الكريمة ليس لازماً أن يقع ، وإنما وقوعه أمر احتمالي ، يشهد له الواقع ، أولا يشهد ، فإن شهد له أعتبر وإلا فلا ) (1) .
  قال ابن تيمية : ( أنه تعالى إنما وعد أنه إذا نسخ آية أو نسأها أتى بخير منها أو مثلها لما أنزل هذه الآية قوله (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة / 106 ) ، فإن هذه الآية شرطية تضمنت وعده أنه لابد أن يأتي بذلك وهو الصادق الميعاد فما نسخه بعد هذه الآية أو أنسأ نزوله مما يريد إنزاله يأت بخير منه أو مثله وأما ما نسخه قبل هذه أو أنسأه فلم يكن قد وعد حينئذ أنه يأتي بخير منه أو مثله ) (2) ، فهو إذن وعد ليس إلا .
  قال في النسخ في القرآن الكريم : ( ولابد من وقفة هنا ، عند النوع الثالث للنسخ ذكره الأصوليون ، واعتمدوا فيه على آثار لا تنهض دليلاً له ، مع أن الآيتين اللتين تتحدثان عن النسخ في القرآن الكريم لا تسمحان بوجوده إلاّ على تكلّف ) (3) .
  ونذكر هنا كلمات لبعض علماء الشيعة رضوان الله تعالى عليهم ، قال الشيخ المظفر رضوان الله تعالى عليه في أصول الفقه : ( ولكن باختصار نقول : إنّ نسخ التلاوة في الحقيقة يرجع إلى القول بالتحريف لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدليل القطعي سواء كان نسخاً لأصل التلاوة أو نسخاً لها ولما تضمّنه من حكم معاً وإن كان في القرآن الكريم ما يشعر بوقوع نسخ التلاوة ، كقوله تعالى ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ) ( النحل / 101 )، وقوله تعالى ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ

--------------------
(1) من قضايا القرآن ص23ـ24 .
(2) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج17ص194.
(3) النسخ في القرآن الكريم د. مصطفى زيد ج1ص283ـ284 مسألة رقم 388 وما بعد.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 365 _
  أَ وْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة / 106 ) ، ولكن ليستا صريحتين بوقوع ذلك لا ظاهرتين وإنما أكثر ما تدل عليه الآيتان على إمكان وقوعه ) (1) .
  وقال الشيخ محمد جواد مغْنـِيـة رضوان الله تعالى عليه في التفسير الكاشف : ( ومهما يكن فإن الآية بدليل وجود ( ما ) الشرطية لا تدل على وقوع النسخ بالفعل ، بل تدل على أنه لو افترض وقوعه لأتى الله بخير من المنسوخ ) (2) .
  فالشيعة والمدققون من أهل السنة اتفقوا على أن الآية غاية ما تدل عليه جواز وقوع النسخ وأن الجزاء يتحقق بتحقق الشرط والآية واضحة لا تحتاج إلى بيان زائد ، ومع كل ذلك نجد محمد بن عثيمين أحد شيوخ الوهابية يقول في كتيّبه الأصول من علم الأصول :
  " والنسخ جائز عقلا وواقع شرعا ، أما جوازه عقلا : … الخ ، وأما وقوعه شرعا فلأدلة منها : قوله تعالى ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة / 106 ) ) (3) أقول : انظر كيف جعل الآية دالة على وقوع النسخ !! ، ما عشت أراك الدهر عجبا !
  ولعل الوهابي كان في كلامه هذا عيالا على ابن حجر حيث قال في فتح الباري : ( واستدل بالآية المذكورة على وقوع النسخ خلافا لمن شذ فمنعه وتعقب بأنـها قضية شرطية لا تستلزم الوقوع وأجيب بأن السياق وسبب النـزول كان في ذلك لأنـها نزلت جوابا لمن أنكر ذلك ) (4) .

--------------------
(1) أصول الفقه ج2 ص 53 .
(2) التفسير الكاشف ج1 ص 169 .
(3) الأصول من علم الأصول لابن عثيمين ص60 ط دار عالم الكتب أقول : وكثير من الوهابية اغتروا بكلمات علمائهم وصاروا ينقلون الآية كدليل على نسخ التلاوة منهم الوهابي ( عثمان الخميس ) في شريطه (الشيعة والقرآن) الذي قال في معرض رده على الشيعة الذين ينكرون وقوع نسخ للتلاوة : ( أما الأدلة على نسخ التلاوة ، منها قوله تعالى ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة / 106 ) ، وقوله تعالى ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( النحل / 101 ) ، آيات صريحة في أن الله تبارك وتعالى يبدل ما يشاء جل وعلا )
  أقول : ما دخل هذا الكلام بمحل النـزاع وهو وقوع نسخ التلاوة ؟! ، وأكمل قائلا : ( الشيعة يوافقوننا على جواز نسخ الحكم حتى الذين يقولون بالتحريف حتى الذين لا يقولون بالتحريف ، كل الشيعة يقولون نسخ الحكم نوافق عليه ولكن ينكرون نسخ التلاوة ، ويزعمون أن أهل السنة يقولون بالتحريف لأنـهم يقولون بنسخ التلاوة ، ولا شك أن هذا تحكم ! ، يعني أن الله يقول ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ) وقوله تبارك وتعالى ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قلنا هذا الحكم دون التلاوة ، هذا تحكم ، ما الذي جعله في الحكم دون التلاوة ؟ لو جاء جاءٍ وقال لا هو في التلاوة دون الحكم ، هذا تحكم ، ولذلك قال الجصاص إن عموم اللفظ يقتضي الأمرين ـ يعني الحكم والتلاوة ـ ومن حمله على أحد الوجهين دون الآخر بغير دليل فهو متحكم قائل بغير علم ).
  أقول : هذا تمام هرجه وتقليده الأعمى لأسياده ! ، فما علاقة محل النـزاع وهو وقوع نسخ التلاوة بما ذكره هذا الوهابي ؟! ، أفتونا مأجورين !
(4) فتح الباري ج8ص167ـ168.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 366 _
  أقول : أما السياق فلا شيء فيه يدل على وقوع النسخ ، والمقام لا يحتمل الدعاوى الفارغة ، وأما قوله أن سبب النـزول يفيد دلالتها على وقوع النسخ ، فمغالطة لأن البحث منذ البداية مقتصر على دلالة لفظ الآية بغض النظر عن القرائن الخارجية ، والسؤال منذ البداية هو : هل أن لفظ الآية يدل على وقوع النسخ أم لا ؟ وواضح أنه لا يدل وهذا كل شيء .
  وأما سبب النـزول فلم تنـزل الآية في خزعبل نسخ التلاوة ! ، وهذه الدعوى غريبة من ابن حجر !
  * سبب نزول الآية الكريمة
  وإرضاء لـخاطر ابن حجر ومن دار في فلكه نضع بين أيديهم كلمات علماء أهل السنة التي تنص على أن الآية نزلت ردا على اليهود الذين أنكروا وقوع النسخ في الشرائع والأحكام ، وأن سبب النـزول لا يمس نسخ التلاوة لا من قريب ولا من بعيد .
  قال ابن جرير الطبري : ( فتأويل الآية ألم تعلم يا محمد ـ اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ـ أن لي ملك السموات والأرض وسلطانـهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء وأنـهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بـها في عبادي بما أشاء إذ أشاء وأقر فيهما ما أشاء ، ثم قال : وهذا الخبر وإن كان خطابا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لـمجيئهما بـما جاءا به من عند الله بتغير ما غير الله من حكم التوراة فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانـهما وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونـهيه وأن له أمرهم بما يشاء ونـهيهم عما يشاء ونسخ ما يشاء وإقرار ما يشاء وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونـهيه ) (1) .
  وقال القرطبي : ( وهذه آية عظمى في الأحكام وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك وقالوا : إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه فما

--------------------
(1) تفسير ابن كثير ج1ص152.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 367 _
  كان هذا القرآن إلا من جهته ولهذا يناقض بعضه بعضا فأنزل الله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) ( النحل / 101 )، وأنزل ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ( البقرة / 106 ) ) (1) .
  وقال البغوي : ( قوله عز وجل : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ) ، وذلك أن المشركين قالوا : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلاف ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ، كما أخبر الله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ )، وأنزل ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ) فبين وجه الحكمة في النسخ بـهذه الآية ) (2) .
  وقال ابن حيان الأندلسي : ( (مَا نَنسَخْ منْ آيَةٍ) سبب نزولها فيما ذكروا أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه للكعبة وطعنوا في الإسلام قالوا إن محمدا يأمر أصحابه بأمر اليوم وينهاهم عنه غدا ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غدا ما هذا القرآن إلا من عند محمد وأنه يناقض بعضه بعضا ) (3) .
  وقال ابن الجوزي : ( سبب نزولها أن اليهود قالت : لما نسخت القبلة إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء ويحرم عليهم إذا شاء فنـزلت هذه الآية ) (4) .
  وقال النسفي : ( لما طعنوا في النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ، نزل ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا )) (5) .
  وقال الثعالبي : ( ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما شاء ويثبت ما شاء ويفعل في أحكامه ما شاء هو قدير على ذلك وعلى كل شيء ، وهذا لإنكار اليهود النسخ ) (6) .

--------------------
(1) تفسير القرطبي ج2ص61.
(2) تفسير البغوي ج1ص103.
(3) تفسير البحر المحيط ج1ص341. (4) زاد المسير ج1ص127.
(5) تفسير النسفي ج1ص63.
(6) تفسير الثعالبي ج1ص97.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 368 _
  وقال ابن كثير : ( وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا ).
  وقال ( ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ردا على اليهود عليهم لعنة الله حيث قال تعالى ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض الآية فكما أن له الملك بلا منازع فكذلك له الحكم بما يشاء ألا له الخلق والأمر وقرئ في سورة آل عمران التي نزل في صدرها خطابا مع أهل الكتاب وقوع النسخ في قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه الآية كما سيأتي تفسيره ) (1) .
  وقال الآلوسي : ( نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة والسلام يقوله من تلقاء نفسه وهو كلام يناقض بعضه بعضا ) (2) .
  وقال البيضاوي : ( نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه ) (3) .
  وقال أبو السعود : ( قيل نزلت حين قال المشركون أو اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه ) (4) .
  وعليه فنـزول الآية الكريمة كان في نسخ الأحكام والشرائع ، قال السيد الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه في تفسير الميزان : ( وكيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بـها من التعليل في الآية بقوله تعالى : (ألم تعلم … إلخ ) أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية ، من حيث أنـها

--------------------
(1) تفسير ابن كثير ج1ص152.
(2) روح المعاني ج1ص351 .
(3) تفسير البيضاوي ج1ص377.
(4) تفسير أبي السعود ج1ص142ـ143.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 369 _
  آية ، أعني إذهاب كون الشيء آية وعلامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله وهذا هو المستفاد من اقتران قوله (ننسها) بقوله (ما ننسخ) ) (1) .
  وقال رضوان الله تعالى عليه في موضع آخر : ( ومحصل ما استفيد منها إن النسخ قد يكون في الحكم كالآيات المنسوخة المثبتة في المصحف وقد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها وقد تقدم في تفسير قوله ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ) ( البقرة / 106 ) ، وسيأتي في قوله : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) ( النحل / 101 ) أن الآيتين أجنبيتان عن الانساء بـمعنى نسخ التلاوة وتقدم أيضا في الفصول السابقة أن هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على روايات التحريف وطرح القبيلين جميعا ) (2) .
  قال السيد جعفر مرتضى حفظه الله في معرض رده على استدلالهم بالآية لإثبات نسخ التلاوة : ( إن لفظ ( آية ) في قوله : ( مَا نَنسَخْ منْ آيَةٍ ) إذا ورد في القرآن الكريم بصيغة المفرد ، فإنما يراد به الأمر العظيم ، الخارق للعادة الآتي من قبل الله سبحانه ، كالذي أشير إليه في قوله تعالى : ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ) ( الإسراء / 59 )، ونحو ذلك (3) ، أما الآية بمعنى الفقرة القرآنية ، فلم يثبت : أن القرآن استعملها بلفظ المفرد ، وأراد بـها ذلك ، ولو سُلّم ، فإننا نقول : إن قوله تعالى : ( مَا نَنسَخْ منْ آيَةٍ ) .
  قد ورد في مقام التعريض بأهل الكتاب والمشركين ، فلا بد وأن يراد به نسخ ما ورد في الشرايع السابقة ، لأجل هذه القرينة فلا يبعد على هذا : أن يكون المراد نوع آخر من النسخ ، إذ قد ذيلت الآية بما يشير بوضوح إلى أن المراد بكلمة (آية) أمر سماوي ، يحتاج إلى قدرة وسلطان ، وملكية مطلقة ، وحقيقة للسماوات والأرض ، إلى حد أنه لا يستطيع أحد : أن يجد له ولياً أو نصيراً من دون الله سبحانه ، يمكنه أن يمنع من إصابته بتلك الآية .
  ثم هو يوبّخهم بأنـهم يريدون أن يسألوا رسولهم ، كما سأل بنو إسرئيل نبي الله موسى من قبل : أن يريهم الله جهرة ونحو ذلك ، وكل ذلك قرينة على أن المراد بلفظ (آية) في هذا المورد ، هو الأمر العظيم الخارق للعادة ، والآتي من قبل الله سبحانه ، فانظر إلى سياق الآيات ، فإنـها كما يلي : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ، ألم تعلم :

--------------------
(1) تفسير الميزان ج1ص250.
(2) ن.م ج12ص133.
(3) وقد أشار إلى ذلك بعض المحققين أيضا .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 370 _
  أن الله على كل شيء قدير ؟! ألم تعلم : أن الله له ملك السماوات والأرض ، وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير ؟! أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئِل موسى من قبل ؟ ) (1) .
  وهكذا سبب النـزول يعد قرينة قوية جدا على أن النسخ المقصود في الآية الكريمة هو نسخ الأحكام والشرائع لا نسخ الآيات والألفاظ كما زعم ابن حجر ومن تبعه من المقلدة (2) .
  والآية الكريمة الأخرى ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( النحل / 101 ) ، حالها كحال أختها ، سبب النـزول هو تبديل الأحكام ونسخها ، قال السيد الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه في تفسير الميزان : " قوله تعالى : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( النحل / 101 ) ، إشارة إلى النسخ وحكمته وجواب عما اتـهموه صلى الله عليه وآله وسلم به من الافتراء على الله والظاهر من سياق الآيات أن القائلين هم المشركون وان كانت اليهود هم المتصلبين في نفى النسخ ومن المحتمل أن تكون الكلمة مما تلقفه المشركون من اليهود فكثيرا ما كانوا يراجعونـهم في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) (3) .
  وعلى أي حال ، فالعمدة في المقام أن أداة الشرط (إذا) غاية ما تدل عليه تحقق الجزاء حال تحقق الشرط ولا دليل على الوقوع ، فنتوصل إلى خلو القرآن من أية آية تثبت وقوع هذا النوع من النسخ .

--------------------
(1) حقائق هامة حول القرآن الكريم ص314 ـ 315 .
(2) وقد مر ذكر أحد أولئك المقلدة وهو شيخ الوهابية ابن عثيمين ، وحتما وبكل سهولة ويسر سنضم إلى قائمة المقلدين ذلك الجاهل السابق ( عثمان الخميس ) الذي استدل في شريطه (الشيعة والقرآن) على وقوع النسخ بالآية الكريمة !! ، ومن العجب ألا تجد لهذا الوهابي أي مطلب سليم من الخداع أو الخطأ والغلط !!
(3) تفسير الميزان ج12ص345.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 371 _
ثانيا : السنّة النبوّية الشريفة :   أما السنة النبوية فلا يكفي لإثبات وقوع النسخ في القرآن وجود حديث واحد أو ما يعد على الأصابع من الأحاديث النبوية الصحيحة ، فهذا لا يقبله أهل العلم ، لأن النسخ في القرآن يشترط فيه التواتر بلا خلاف ، خاصةً إذا اقترنت بعض تلك الروايات بمعجزة إلهية والتي من شأنـها التواتر ، وهذا كله تفتقده الروايات التي تحكي وقوع هذا النسخ فهي لا تعدو روايات آحاد ، ووجدنا أن الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال لم تتجاوز الرواية الواحدة :
  ( أخرج الطبراني عن ابن عمر قال : قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأها رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، وكانا يقرآن بـها فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان ، فلم يقدرا منها على حرف ، فاصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : إنـها مما نسخ أو نسئ فالهوا عنه ) (1) .
  ( وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبو ذر الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف : أن رجلا كانت معه سورة فقام من الليل فقام بـها فلم يقدر عليها ، وقام آخر بـها فلم يقدر عليها ، وقام آخر فلم يقدر عليها ، فاصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فاجتمعوا عنده فاخبروه ، فقال : إنـها نسخت البارحة ) (2) .
  ( وأخرج أبو داود في ناسخه والبيهقي في الدلائل من وجه آخر عن أبي أمامة أن رهطا من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أخبروه : أن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها فلم يقدر منها على شئ إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، ووقع ذلك لناس

--------------------
(1) الدر المنثور ج1ص104 ط دار المعرفة ، أقول : لم أجد هذه الرواية في الطبراني عن ابن عمر وإنما عن سالم عن أبيه ، المعجم الكبير ج12ص223ح13141 : ( قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وكان يقرآن بـهما ، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف ، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرا له ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : إنـها مما نُسخَ ) ، وفي إسناده سليمان بن أرقم
  قال في تـهذيب الكمال ج11ص351ـ354: ( سليمان بن أرقم أبو معاذ البصري … قال أبو بكر بن خيْثمة عن أحمد بن حنبل : أبو معاذ الذي روى عنه سفيان الثوري عن الحسن اسمه سليمان بن أرقم ، ليس بشيء ، و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه : لا يسوى حديثه شيئاً ، ولا يروى عنه الحديث ، وقال عباس الدّوريّ عن يحيى بن معين : ليس بشيء ليس يسوى فلساً ، وقال عثمان بن سعيد عن يحيى : ليس بشيء ، وقال عمرو بن علي : ليس بثقة ، روى أحاديث منكرة ، قال : وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: كانوا ينهونا ونحن شباب عنه ، وذكر عنه أمراً عظيماً ، وقال البخاري : تركوه ، وقال أبو عبيد الآجري : سألت أبا داود عن سليمان بن الأرقم ، فقال : متروك الحديث ، قلت لأحمد : روى سليمان بن أرقم عن الزهري ، عن أنس في التلبية ، فقال : لا نُبالي روى أو لم يروِ ، وقال أيضا : سألت أبا داود عن حديث الصدقات حديث الحكم بن موسى السّمسار في الصدقات ، قال : لا أحدّث به ، حدّثني أبو هبيرة محمد بن الوليد الدمشقي قال : قرأت هذا الحديث في أصل يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري ، وقال أبو حاتم والترمذي والنسائي وعبد الرحمن بن يوسف خِراش ، وغير واحد : متروك الحديث ، وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث ، ذاهب الحديث ، وقال إبراهيم بن يعقوب الجُوزْجانيُّ : ساقط ، وقال أبو أحمد بن عَدِي : عامة ما يرويه لا يُتابع عليه ) .
(2) الدر المنثور ج1ص104.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 372 _
  من أصحابه ، فاصبحوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم عن السورة ، فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا ، ثم قال : نسخت البارحة ، فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه ) (1) .
  والمحصلة إن لهذه الرواية ـ على ما فيها من اضطراب في النقل ـ ثلاثة طرق وكلها لا يعبأ بـها حيث ينتهي سند اثنين منها إلى أبي أمامة فهما معلولتان بالإرسال لأنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والرواية الثالثة في سندها كذاب ! ، وحتى لو تغاضينا عن السند فلا يمكن قبولها لأن إثبات نسخ القرآن لا يثبت إلا بالتواتر كما مر سابقا في مبحث القراءات ، ناهيك عن أن الروايات تضمنت معجزة وهي مدعاة للنقل المتواتر ، وهو مفقود .
  ولغرابة رواية أبي أمامة علق عليها محقق كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه لابن الجوزي بقوله : ( وأن تنـزل سورة كاملة للدعوة والإرشاد أو لتقرير ما هو ضروري وأساسي من القواعد لبناء مجتمع القرآن ثم تنسخ بكاملها من الصدور ومن كل شيء كانت فيه فأمر غير مقبول لأنه من غير الجائز أن يسلب النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم شيئا من القرآن بعدما أنزل إليه والله تعالى يمتن عليه ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة العظيمة في تنـزيله إذ يقول ( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) ( الإسراء / 86 ).
  والذي نذهب إليه ـ سائلين الله الرشاد ـ أن قبول هذا الحديث وأمثاله فتحٌ لأبواب فتن يدخل منها الحاقدون بضروب من الأقاويل التي عرفوها من التشويه والتبديل والتحريف ـ وقد أصابت كتبهم ـ يسقطون ذلك على كتابنا المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه (تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الواقعة / 80 )(2) .

--------------------
(1) ن.م ج1ص104ـ105 أقول : أن أسعد المكنى بأبي أمامة لم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة وإنما ولد قبل وفاة النبى صلى الله عليه وآله وسلم ومن غير المعقول أن يروي هذه الواقعة ، وهذه ترجمته في الإصابة ح1ص181ت414 لابن حجر : ( أسعد بن سهل بن حنيف بن واهب الأنصاري أبو إمامة مشهور بكنيته ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بعامين وأتى به النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فحنكه وسماه باسم جده لأمه أبي أمامة أسعد بن زرارة وقد روى عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أحاديث أرسلها وروى عن جماعة من الصحابة كعمر وعثمان وزيد بن ثابت وأبيه وعمه عثمان وغيرهم وأنكر أبو زرعة سماعه من عمر وقال البخاري أدرك النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ولم يسمع منه وكذا قال البغوي وابن السكن وابن حبان وغيرهم وقال بن أبي داود صحب النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وبايعه وأنكر ذلك عليه وابن منده وقال قول البخاري أصح وقال الباوردي مختلف في صحبته الا أنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وقال أحمد بن صالح أخبرنا عنبسة عن يونس عن بن شهاب حدثني أبو أمامة بن سهل وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وسماه حنكة وقال الطبراني له رؤية وقال خليفة وغيره مات سنة مائة وقال ابن الكلبي تراضى الناس أن يصلي بـهم وعثمان محصور ) .
(2) هامش ناسخ القرآن ومنسوخه لابن الجوزي ص137 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 373 _
  وهناك بعض الروايات جاءت عن الصحابة ، وهذه الآثار لا تفيد شيئا في إثبات وقوع هذا النسخ لما فيه من أهمية بالغة تقتضي ورود تلك الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ القرآن ، لا أن يجتهد الصحابة فيها من عند أنفسهم ، وعلى أي حال لسنتعرض تلك الروايات :
  الأولى : وردت في البخاري رواية عن أنس بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لـحيان فزعموا أنـهم قد أسلموا ، واستمدوه على قومهم ، فأمدهم النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بسبعين من الأنصار ، قال أنس : كنا نسميهم القراء يحطبون بالنهار ويصلون بالليل ، فانطلقوا بـهم حتى بلغوا بئر معونة غدروا بـهم وقتلوهم ، فقنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وبني لـحيان قال قتادة : وحدثنا أنس أنـهم قرؤوا بـهم قرآنا ( ألا بلغوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) ثم رفع ذلك بعد ) (1) .
  والاعتماد على هذا الخبر لإثبات وقوع نسخ التلاوة فاسد ، لأمور :
  أولا : لأنه خبر آحاد لا يثبت بـه قرآنية تلك الجملة ، فضلا عن نسخها .
  ثانيا : يناقض روايات أخرى وردت في صحيح البخاري ومسلم .
  فالرواية السابقة تذكر أن الجملة كانت آية ثم نسخت ، وعند مقارنتها بالروايات الأخرى التي تذكر نفس الحادثة تنعكس القضية بحيث تصبح تلك الآية المزعومة قولا للشهداء لا قولا لله عز وجل !
  فعن أنس بن مالك قال : ( جاء ناسٌ إلى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فقالوا أن ابعث معنا رجلاً ـ إلى أن يقول ـ فبعثهم النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا : ( اللهم بلّغ عنّا نبيّنا انّا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنّا ) ، قال : وأتى رجلٌ حراماً خال أنسٍ من خلفه فطعنه برمحٍ حتى أنفذه فقال حرامٌ : فزت ورب الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم لأصحابه : إنّ إخوانكم قد قتلوا وإنّـهم قالوا : ( اللهم بلّغ عنا نبينا انّا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنّا ) ) (2) .
  وكذا الحال في رواية أحمد : ( عن عبد الله بن مسعود قال : إياكم أن تقولوا مات فلان شهيداً أو قتل شهيدا فإن الرجل يقاتل ليغنم ويقاتل ليُذكر ويقاتل ليرى مكانه فإن كنتم شاهدين لا محالة

--------------------
(1) صحيح البخاري ج3ص115ح2899 وج4ص150ح3862 .
(2) صحيح البخاري ج3ص20 ، وصحيح مسلم ج6 ص45 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 374 _
  فاشهدوا للرهط الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقتلوا فقالوا : ( اللهم بلغ نبيّنا صلى الله عليه (وآله) وسلم انا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا ) ) (1) .
  وكذا في تفسير الطبري عن الضحاك قال : ( لما أصيب الذين أصيبوا يوم أحد لقوا ربـهم فأكرمهم فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب ، قـالوا : يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلّغهم : ( أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) ، فقال الله : أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم فأنزل الله ، ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ ـ إلى قوله ـ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( آل عمران / 169-170 ) .
  ثالثا : بلاغة القرآن وفصاحته دليل دامغ على أن هذه الجملة ليست من جنس القرآن ولا تمت له بأي صلة ، فأن القرآن ببلاغته لا يمكنه أن يمتزج بـهذه الجملة مع وهنها وضعف أسلوبـها ، والذوق السليم المنصف شاهد على ما نقول .
  الثانية : ما أخرجه مسلم : " عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال : نزلت هذه الآية ( حافظوا على الصلوات وصلاة العصر ) فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله ، فنـزلت ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى ) ( البقرة / 238 ) ، فقال رجل كان جالسا عند شقيق له : هي إذن صلاة العصر ؟ فقال البراء : قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله والله أعلم ) (2) .
  ولا يمكن الاعتماد عليها لإثبات وقوع النسخ ، لأمور :
  أولا : لأنـها من الآحاد التي لا يثبت بـها قرآنية (صلاة العصر) .
  ثانيا : ولو سلمنا بقرآنية المقطع ، فلا تثبت نسخ هذا المقطع ( صلاة العصر ) للعلة نفسها .
  ثالثا : هذا المقطع من الآية كان محلا لاجتهاد الصحابة والتابعين ، ولو قلنا بثبوته عن البراء فلعله اجتهد برأيه كما اجتهد غيره فيها ، خاصة أنـه لم يسند هذا الرأي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

--------------------
(1) مسند أحمد بهامشه منتخب الكنـز ج1 ص 416 .
(2) صحيح مسلم ج1ص438ح630 عُلق عليه : قال مسلم ورواه الأشجعي عن سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال قرأناها مع النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم زمانا بمثل حديث فضيل بن مرزوق .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 375 _
  رابعا : البراء لم يكن متيقنا من أن هذه الزيادة كانت من خصوص هذه الآية أم من غيرها ! وهذا يدل على أن كلامه لم يكن على وجه الضبط والدقة ، ويدل عليه هذه الرواية :
  ( أخرج البيهقي عن البراء قال : قرأناها مع رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم أياما ( حافظوا على الصلوات وصلاة العصر ) ثم قرأناها ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى ) ( البقرة / 238 ) فلا أدرى ، أهي هي ؟ أم لا ؟ ) (1) ، فشكه فيها يمنع من الاعتماد على قوله .
  خامسا : إن الصحابة ومن بعدهم وقع الخلاف بينهم على أشده في تفسير معنى قوله سبحانه ( وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى )، ولو كانت تلك الزيادة ( صلاة العصر ) من القرآن حقا ثم نسخت لتواترت الزيادة ككل الآيات أولا ، ولتواتر نسخها ثانيا أي للزم تكرار تواترها ! ولما وجدنا أقوالا متعارضة بين الصحابة في تفسير الآية ، ولفُضّ النـزاع وعُلم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر (2) .
  سادسا : من غير المعقول أن ينسخ مقطع الآية المزعوم ( صلاة العصر ) الذي يبين مجملها فيتركها على الإبـهام حتى يحتار فيها الصحابة ، فهل أن الغرض من النسخ هو الإبـهام والتعقيد ؟!
  سابعا : الجمع بين رواياتـهم يفيد أن هذه الزيادة (صلاة العصر) إنـما هي تفسير للآية قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وقعة الأحزاب فاشتبه الأمر على البراء فحسب أن هذا من القرآن (3) .

--------------------
(1) الدر المنثور ج1 ص302 .
(2) لو كانت هذه الزيادة من القرآن ثم نسخت لما تخبط الصحابة ومن بعدهم في تحديد معنى الصلاة الوسطى ، وهاتان الروايتان تحكيان لنا علم سلفهم بتفسير هذه الآية : ( أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه ) ! ، وتحكي لنا هذه الرواية ضجر ابن عمر من كثرة اختلافهم في تفسيرها : ( أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عمر انه سئل عن الصلاة الوسطى فقال : هي فيهن فحافظوا عليهن كلهن )، راجع الدر المنثور ج1ص300 وللزيادة راجع ما بعدها من الصفحات .
(3) يدل على أنـها نزلت من السماء بلا إضافة ( صلاة العصر ) بل نزلت كما هي في القرآن ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) ( البقرة / 238 ) ما أخرجه البخاري في صحيحه ج4ص164ح4260 : ( عن زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم أحدنا أخاه في حاجته حتى نزلت هذه الآية : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) فأمرنا بالسكوت )
  وفي الدر المنثور ج1ص301 : ( وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود وابن جرير والطحاوي والروياني وأبو يعلى والطبراني والبيهقي من طريق الزبرقان عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم كان يصلى الظهر بالهاجرة وكانت أثقل الصلاة على أصحابه فنـزلت ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى ) قال : لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ، وأخرج أحمد وابن المنيع والنسائي وابن جرير والشاشي والضياء من طريق الزبرقان أن رهطا من قريش مر بـهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال : هي الظهر ، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال : هي الظهر ، إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم كان يصلى الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان والناس في قائلتهم وتجارتـهم فـأنزل الله =>