الثالثة : أورد البخاري قولا لعمر : ( أقرؤنا أبي وأقضانا علي ( عليهم السلام ) وإنا لندع من قول أبي وذاك أن أبيا يقول لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وقد قال الله تعالى ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) ( البقرة / 106 ) ) (1) .
  واجتهاد عمر هذا لا يعتمد عليه ، ويدل عليه أمور :
  أولا : أن معرفة المنسوخ وغيره لا تأتي إلا عن طريق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلا معنى لأن يعيب ابن الخطاب على أبي بن كعب رضي الله عنه بأنه لا يترك شيئا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! ، فهل كان عمر يعلم بالمنسوخ من الله عز وجل مباشرة ؟!
  ثانيا : إن كثيرا من المشادات التي حصلت بين عمر وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنه كانت حول نفس الآيات التي ادعى أهل السنة نسخها ، ومع ذلك نجد عمر يرضخ لرأي أبي بن كعب في إثبات تلك الآيات للقرآن ! ، وسيأتي ذكرها بإذنه تعالى .
   =>( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتـهم ) وكذا في ص302 : ( وأخرج النسائي والطبراني من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال : كنت مع قوم اختلفوا في صلاة الوسطى وأنا أصغر القوم فبعثوني إلى زيد بن ثابت لأسأله عن الصلاة الوسطى فأتيته فسألته فقال : كان رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والناس في قائلتهم وأسواقهم فلم يكن يصلى وراء رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إلا الصف والصفان فانزل الله ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : لينتهين أقوام أو لأحرقن بيوتـهم ).
  والرواية الآتية تدل على أن الآية نزلت من السماء بلا ذكر لمعنى الصلاة الوسطى وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عرفها ، في الدر المنثور ج1ص302 : ( أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن زر قال : قلت لعبيدة : سل عليا عن صلاة الوسطى فسأله ، فقال : كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يقول يوم الأحزاب شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا ) وهي في السنن الكبرى ج1ص152ح360 ، مسند أحمد ج1ص122ح990 )
  وكذا : ( أخرج ابن جرير من وجه آخر عن زر قال : انطلقت أنا وعبيدة السلماني إلى علي فأمرت عبيدة أن يسأله عن الصلاة فسأله فقال : كنا نراها صلاة الصبح فبينا نحن نقاتل أهل خيبر فقاتلوا حتى أرهقونا عن الصلاة وكان قبيل غروب الشمس قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : اللهم املأ قلوب هؤلاء القوم الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى وأجوافهم نارا ، فعرفنا يومئذ أنـها الصلاة الوسطى ، وأخرج أحمد وابن جرير والطبراني عن سمرة إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وسـماها لنا وإنما هي صلاة العصر ، وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إن نحافظ على الصلوات كلهن وأوصانا بالصلاة الوسطى ونبأنا أنـها صلاة العصر )، وعلى هذا فلا مجال للقول بأن هذه الزيادة كانت قرآنا نسخ تلاوته .

-------------------
(1) صحيح البخاري ج4ص1628ح4211 باب قوله ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها )، صحيح البخاري ج4ص1913ح4719 : ( عن بن عباس قال قال عمر :أبي أقرؤنا وإنا لندع من لحن أبي ، وأبي يقول أخذته من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلا أتركه لشيء ، قال الله تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) ) ، راجع المستدرك على الصحيحين ج3ص345ح5328 ، السنن الكبرى ج6ص289ح10995 ، مسند أحمد ج5ص113ح21122 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _377 _
  ثالثا : لماذا لم يواجه عمر أبيا ولو في واحدة من تلك هذه المشاجرات ويقول له إن هذه الآيات نسخت تلاوتـها ؟! هل كان خائفا منه ؟! أم أن اجتهادات عمر لم تكن لتنطلي على سيد القراء ؟
  رابعا : لو كان هذا الاجتهاد صحيحا لما غفل عنه أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم من رؤوس القراء في ذلك الوقت ، فما دام قد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة أن يستقرئوا القرآن من ابن مسعود وأبي بن كعب على ما جاء في البخاري ، ومادام عمر قد اعترف بأن أبيا هو أقرؤهم للقرآن ، فالأحرى أن يغفل عنه عمر الذي كان يلهيه الصفق بالأسواق لا أبي بن كعب !
  خامسا : لا يمكن لأهل السنة الاعتماد على قول عمر فضلا عن الشيعة ، لأن بعض آيات مصحفنا كانت في نظر عمر من المنسوخ تلاوة مع أنـها لم تنسخ بإجماع أهل القبلة ! ، فدعوى عمر نسخ بعض الآيات إنـما هو اجتهاد منه ، وهو اجتهاد خاطئ لا يلتفت إليه ، ويدل عليه ما أخرجه أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن خرشة بن الحر قال : رأى معي عمر بن الخطاب لوحا مكتوبا فيه ( إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) ( الجمعة / 9 ) ، فقال من أملى عليك هذا ! قلت : أبي ابن كعب ! قال : إن أبيا أقرؤنا للمنسوخ قرأها ( فامضوا إلى ذكر الله ) ).
  وكذا ( أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال : قيل لعمر إن أبيا يقرأ ( فاسعوا إلى ذكر الله ) قال عمر : أبي أعلمنا بالمنسوخ وكان يقرؤها ( فامضوا إلى ذكر الله ) ) (1) .
  لذا قد يكون المنسوخ الذي قصده عمر في رواية البخاري من هذا القبيل ، فتسقط هذه الرواية عن الحجية لو فرضت.

--------------------
(1) الدر المنثور ج6ص219 ط دار المعرفة ، وسيأتي المزيد منها في مبحث القراءات الشاذة إن شاء الله .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 378 _
  سادسا : لو سلمنا بكل ما سبق ، فإن قول عمر هذا لا يفيد علما ولا عملا ، فما فائدة قول أحدهم إن من القرآن ما نسخ تلاوة ؟! ، لا شيء لأن القول بنسخ أي جملة من القرآن يفتقر إلى التواتر سواء أدعي على نحو الإجمال وقوع النسخ أم لا ، فادعاء عمر السابق لا يفيد شيئا .
  وإلى هنا نتوصل إلى أنه لا توجد حتى رواية واحدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحكي وقوع هذا النسخ في آيات القرآن ولو وجدت فهي روايات آحاد لا يعبأ بـها فكيف إن كانت ضعيفة السند ! ، وأما الآثار التي جاءت من عند غير من أمرنا الله عز وجل باتباعه فالشقي كل الشقي من يعول عليها في إضافة جمل ليست من كتاب الله عز وجل فيه ، والمتجرئ من يقول إن الله عز وجل جعل هذه الكلمات من القرآن ثم يأتي بعد ذلك فيدعي أن الله عز وجل قد نسخها ! ناهيك عن أنـها روايات آحاد ومعلولة المتن كما أوضحنا .
  * الخلاصة :
  لا يوجد دليل يعتمد عليه لإثبات وقوع نسخ التلاوة لا من قرآن ولا من سنّة ، ومن غير اللائق تأسيس مثل هذا الأصل الخطر على كتاب الله لأنه يفتح المجال للمتلاعبين والمتقولين على الله عز وجل فينسب لساحته المقدسة كلام لم يقله .
  وعلى أي حال فالأصل عدم وقوع النسخ وخلافه يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، بل الدليل على خلافه قائم كما سيأتي بإذنه تعالى ، وقد يعجب العاقل من تمسك أهل السنة بشيء لا أصل له في الدين يزاد به في كتاب الله عز وجل وينقص منه بلا بينة ولا برهان ، ولكنها تزول بعد العلم بمنشأ تمسكهم بنسخ التلاوة هذا ، الذي لا وجود له إلا في مخيلتهم .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 379 _
  ما هو منشأ القول بوقوع نسخ التلاوة ؟
  اتضح مما سبق أنه لا أصل للقول بوقوع نسخ التلاوة ، وبالتالي يتولد منه سؤال وهو ما هو دافع أهل السنة للقول بنسخ التلاوة مع علمهم بفساد أدلته ؟
  هنا نحتاج إلى تقديم مقدمة وهي أن أهل السنة ألزموا أنفسهم منذ البداية بجملة من المباني والأصول التي تسالموا -إلاّ القليل منهم- على قبولها وحصانتها من النقد والتشكيك وبعض هذه الأصول هي من المشهور الذي لا أصل له ، وسنتكلم هنا عن بعض تلك الأصول والمباني التي تتعلق بمبحثنا .
  منها : الحكم بصحة كل ما أخرجه البخاري ومسلم وقبوله قبولا أعمى بلا مناقشة للمتن ولا للسند ، حتى لو كانت الرواية مخالفة للمنقول والمعقول .
  منها : القول بعدالة كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومات على الإسلام وحسن الظن المطلق به ، وقد كان عددهم مائة ألف واثني عشر ألف شخص كلهم عدول مؤمنون مخلصون لا يكذبون ولا يتعاركون ولا يتقاطعون ولا يؤذي جارٌ جاره ولا ينتقص أحدهم غيره ، وهذه حالهم على الوئام طيلة حياتـهم إلى أن يتوفاهم الله ، ولو ثبت عن أحدهم الفسق وشرب الخمر قالوا بتوبته ورجوعه قبل موته ، لذا إذا ثبتت الرواية عن أحدهم فهي الحق الذي لا مرية فيه .
  وهنا أصل مشهور ومتفق عليه بين أركان المذاهب الإسلامية وهو تكفل الله عز وجل بصيانة القرآن من التحريف وعدم تعرّضه للنقص أو للزيادة .
  وبعد ، كان من المحتم على أهل السنة قبول مضمون أي رواية وردت في صحيحي البخاري ومسلم ، حتى لو ورد فيهما روايات رواها أكابر الصحابة تنص على وجود آيات غير موجودة في مصحفنا كآية الرجم وآية الرضاع وغيرهما من الجمل الغريبة ، والفهم البسيط لهذه الروايات هو اعتقاد هؤلاء الصحابة تعرض القرآن للتحريف والنقص بفقد هذه الآيات وأن الموجود في مصاحفنا اليوم ليس هو كل القرآن .
  وحيث ثبت قول بعض الصحابة بتحريف القرآن الذي لا يمكن التزامه ، وجد علماء أهل السنة أنفسهم بين عدّة خيارات :
  الخيار الأول : رفض تلك الروايات والحكم بكذبـها على الصحابة وأنـهم أجل وأرفع من أن يدّعوا نقصان القرآن وتعرّضه للتحريف .
  وهذا يخدش بما تسالموا عليه من الحكم بصحّة جميع ما في البخاري ومسلم من روايات ، فلا يمكنهم قبوله !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 380 _
  الخيار الثاني : قبول تلك الروايات وتوجيه الطعن للصحابة وأن أكابرهم كعمر وعائشة وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وغيرهم ادعوا تحريف القرآن كذبا على الله عز وجل الذي تكفل بحفظ كتابه ، أو أنـهم على أحسن التقادير قد أخطؤوا في ذلك خطأ فاحشا لا عذر فيه .
  وهذا الخيار أشكل من سابقه ولا يمكنهم قبوله بأي حال من الأحوال .
  الخيار الثالث : الأخذ بمسلمات مذهبهم من عدالة الصحابة وعصمة البخاري ومسلم من الخطأ في كتابة المجلدات ، فينتج أن القرآن محرّف وقد أسقط منه آيات ذكرها الصحابة العدول وأخرجتها أصح الكتب فلا يمكن التشكيك بعدالة الصحابة ورميهم بالكذب والافتراء ولا يسعهم القول بعدم صحّة جميع ما في البخاري ومسلم وقد تسالموا عليه .
  والإشكال في هذا الخيار واضح إذ فيه التزام بعدم صيانة القرآن من التحريف وأن التهاون والتضييع للقرآن قد حصل من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما أدّى إلى تحريف الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وبالنتيجة سيرجع الطعن إلى الصحابة لأن الصحابة ـ بزعمهم ـ هم أول من جمع القرآن .
  وعليه فلا مجال لهم مع التسليم بمبانيهم السابقة إلا أن يلتزموا بالتحريف ، فلذا اضطروا وألجـئوا على إيجاد مخرج ومنفذ شرعي يصححون به كل ما في البخاري ومسلم وتسلم به عدالة الصحابة من الخدش ، فما كان لهم إلا أن قبلوا قول الصحابة بفقدان بعض الآيات من المصحف وحيث أنه يناقض الإيمان بسلامة القرآن من التحريف صاروا لاختراع مبدأ يعالج مشكلة التعارض بين القول ان هناك آيات قرآنية لم تكتب في المصحف وبين سلامة القرآن من التحريف ، فكان مفاد هذا المبدأ – المخترع - هو نسبة نقص الآيات وإسقاطها من المصحف إلى نفس من أنزل القرآن وهو الله عز وجل !! ، فكما أن الله عز وجل أنزل آيات القرآن كذلك هو سبحانه رفع بعض الآيات منه ، فاخترع شيءٌ اسمه نسخ التلاوة وابتدع كأصلٍ يمكنهم على ضوئه الخروج من مأزق التنازل عن أي من تلك المسلمات والمباني التي نصبت إلا ليقوم على أعوادها مذهبهم (1) .

--------------------
(1) يعلم أهل السنة أن روايات الآحاد لا تجدي نفعا في المقام ، لذا لا يقال إن صحابيا قال بنسخ بعض آيات من القرآن فاقتفى أهل السنة أثره ! نعم قد يذكرون قوله كشاهد لا كدليل ، وأما لو حصل وذكروه كدليل فعناه أن أهل السنة رفعوا الشاهد الذي لا يعتمد عليه إلى مستوى الدليل المتواتر المعتمد باعتباره المخرج الوحيد لهم من تلك الخيارات المحرجة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 381 _
  والذي يدل على أنـهم اختراعوا نسخ التلاوة من عند أنفسهم ، هو عدم وجود أي دليل ومستند شرعي يدل على وقوع نسخ التلاوة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فهذا دليل واضح على أنه أمرٌ حادث لا أصل له .
  وأما لماذا نشأ نسخ التلاوة من خصوص تلك المسلمات ، فيتضح ذلك عندما نلاحظ حال علماء أهل السنة الذين رفضوا مبدأ نسخ التلاوة ، فهؤلاء بمجرد أن تتزعزع عندهم قدسية الصحيحين أو يضعف حسن الظن الساذج بكل الصحابة واستبعاد غلطهم وخطئهم نجد أن من بين الضحايا التي تطفو على السطح هو نسخ التلاوة ، فمثلا بعض علماء السنة يرفض مبدأ نسخ التلاوة لأن قداسة الصحيحين تزلزلت عندهم ، وهي التي لم يجرأ أحد ـ إلا النادر ـ أن يقلل من شأنـها أو ينفيها (1) ، وسنذكر جملة من أقوال المنكرين لنسخ التلاوة من أهل السنة وسنجد أن هذا الرأي وهو عدم سلامة البخاري ومسلم من الخطأ واضح في كلماتـهم ، فيتضح أن هذا المسلّم أحد الركائز التي قام عليها نسخ التلاوة .
  وكشاهد نذكر قول أحد علمائهم الذي لم يقنع بعصمة البخاري ومسلم حيث شنع على رواياتـهما التي تنص على وقوع التحريف في القرآن وتبرأ إلى الله منها وهذا يعني أنه لا يصحح تأويلها بأي وجه ، قال الشيخ محمود أبو رية :
  ( ولم يقف فعل الرواية عند ذلك بل تمادت إلى ما هو أخطر منه من ذلك حتى زعمت أن في القرآن نقصاً ولحـناً وغير ذلك مما أورد في كتب السنّة ، ولو شئنا أن نأتي به كله هنا لطال الكلام ـ و لكنا نكتفي بمثالين مما قالوه في نقص القرآن ، ولم نأت بهما من كتب السنة العامة بل مما حمله الصحيحان ، ورواه الشيخان البخاري ومسلم .
  أخرج البخاري وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال ـ وهو على المنبر : إن الله بعث محمداً بالحق نبـيّا وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما أجد آية الرجم في كتاب الله فيضل بترك فريضة أنزلها الله ـ والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، ثم إنا كنا نقرأ فيما يقرأ في كتاب الله ، (ألا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) .

--------------------
(1) وذلك لأسباب سياسية حيث كانت تـهمة الزندقة بالمرصاد لكل من تسوّل له نفسه العبث بـهذه المسلمات حتى أن بعضهم قال بابتداع كل من هوّن قدر روايات البخاري ومسلم ! قال الدهلوي في حجة الله البالغة : ( وأمّا الصحيحان فقد اتفق المحدّثون على أنّ جميع ما فيها من المتّصل المرفوع صحيح بالقطع وأنّهما متواتران إلى مصنّفيهما وأنّ كلّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين ).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 382 _
  وأخرج مسلم عن أبي الأسود عن أبيه قال : بعث أبو موسى الأشعري ، إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم ، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ـ وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول ببراءة فأنسيتها ، غير أني قد حفظت منها ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) ، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ) (1)
  " نجتزئ بما أوردنا وهو كاف هنا لبيان كيف تفعل الرواية حتى في الكتاب الأول للمسلمين وهو القرآن الكريم ‍ ! ولا ندري كيف تذهب هذه الروايات التي تفصح بأن القرآن فيه نقص وتحمل مثل هذه المطاعن مع قول الله سبحانه ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 ) ، فأيهما نصدّق ؟! اللهم إن هذا أمر عجيب يجب أن يتدبره أولو الألباب ) (2) .
  أما بالنسبة لعدالة الصحابة فإن مجرد احتمال خطئهم يكفي للقول ببطلان نسخ التلاوة عند بعض علمائهم ، فما ظنك لو شكك أحدهم بعدالة فلان من الصحابة الذي رويت عنه روايات التحريف ! فلا شك أنه سيرفس نسخ التلاوة برجله ويرمي به بريئا ، وهذا ما ذكره الدكتور مصطفى صادق الرافعي حيث قال في معرض استدلاله على بطلان القول بنسخ التلاوة :
  ( ولا يتوهمن أحد أن نسبة بعض القول إلى الصحابة نصٌ في أن ذلك المقول (3) صحيح البتة فإن الصحابة غير معصومين ، وقد جاءت روايات صحيحة بما أخطأ فيه بعضهم من فهم أشياء من القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وذلك العهد هو ما هو ، ثم بما وَهِلَ عنه بعضهم مما تحدثوا في أحاديثه الشريفة ، فأخطأوا في فهم ما سمعوا ، ونقلنا في باب الرواية من تاريخ آداب العرب أن بعضهم كان يرد على بعض فيما يُشَبِّه لهم أنه الصواب خوف أن يكونوا قد وهموا (4) .
  وثبت أن عمر رضي الله عنه شك في حديث فاطمة بنت قيس ، بل شك في حديث عمار بن ياسر في التيمم لخوف

--------------------
(1) وسيأتي الكلام عنها ، بإذن الله تعالى .
(2) أضواء على السنّة المحمّدية ص 256 -257 ط الأعلمي الخامسة
(3) ذهاب شيء من القرآن بنسخ التلاوة .
(4) غلط أو نسي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 383 _
  الوهم ، مع أن عماراً ممن لا يتهم بتعمد الكذب ، ولا بالكذب وهْلةً ، لصحبته وسابقته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك أذن له عمر في رواية الحديث مع شكه هو في صحته ) (1) .
  وعليه فأي خدش وزعزعة لبعض مسلماتـهم كالقول بأن الصحابي لا يتكلم إلا حقا وصدقا ، أو الحكم بصحة جميع ما أخرجه البخاري ومسلم سيؤدي إلى التنازل عن مبدأ نسخ التلاوة بكل سهولة ويسر ، وكلمات من رفض نسخ التلاوة من علمائهم دالة على ذلك وستأتي بقية كلماتـهم التي تثبته إن شاء الله تعالى .

-------------------
(1) إعجاز القرآن ص 43-44 ط الاستقامة الخامسة أقول : كلام الرافعي هنا فيه من المداراة واللف والدوران الشيء الكثير ، فالقول بأن كل تلك الموارد التي قال أكابر الصحابة بقرآنيتها كانت من باب الخطأ والاشتباه ، أمر غير معقول ، وعلى أي حال فقد حام الرافعي حول الحدود الحمراء التي حرّموا الدخول فيها وهي عدالة كل الصحابة وأن كل واحد منهم يعبر عن الواقع بقوله ، فآثر الرافعي القول بأن كل تلك الموارد التي تقدر بعدد من العشرات جاءت من باب الخطأ والسهو !!

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 384 _
  الأدلة التي تنفي وقوع نسخ التلاوة :
 1 ـ مناقضته لآيات القرآن الكريم
  قال العلامة السيد الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه : ( أو أن هذه الآيات ـ وقد دلت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة-كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من أهل السنة حفاظاً لما ورد في بعض رواياتـهم أن من القرآن ما أنساه الله ونسخ تلاوته ، فما معنى إنساء الآية ونسخ تلاوتـها ؟ أكان ذلك لنسخ العمل بـها ؟! فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة وآية نكاح الزانية والزاني وآية العدة وغيرها ؟ وهم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة والعمل معاً ومنسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم .
  أم كان ذلك لكونـها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتى أبطلها الله بإمحاء ذكرها وإذهاب أثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟! ولا منـزه من الاختلاف ؟! ولا قولاً فصلاً ولا هادياً إلى الحق وإلى طريق مستقيم ؟! ولا معجزاً يتحدى به ؟! ولا ؟! ولا ؟! فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنه في لوح محفوظ ، وأنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه قول فصل ، وأنه هدى ، وأنه نور ، وأنه فرقان بين الحق والباطل ، وأنه آية معجزة ، وأنه ، وأنه ؟! فهل يسعنا أن نقول : إن هذه الآيات على كثرتـها وإباء سياقها عن التقييد مقيدةٌ بالبعض ؟! فبعض الكتاب فقط وهو غير المنسي ومنسوخ التلاوة لا يأتيه الباطل وقول فصل وهدى ونور وفرقان ومعجزة خالدة ؟!
  وهل جعلُ الكلام منسوخ التلاوة ونسياً منسياً غير إبطاله وإماتته ؟ وهل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد ولا يصلح شأناً مما فسد غير إلغائه وطرحه وإهماله ؟ وكيف يجامع ذلك كون القرآن ذكراً ؟!
  فالحق أن روايات التحريف المروية من طريق الفريقين وكذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية ) (1) ، انتهى كلامه أعلى الله مقامه .
  2 ـ السيرة النبوية مكذبة لوقوع نسخ التلاوة اهتم الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أشد اهتمام بتبليغ آيات القرآن الكريم ونشرها وبثّها بين المسلمين ، فكان يرسل الرسل والجماعات لتعليم الناس القرآن وتعريفهم بأمور دينهم حتى

--------------------
(1) الميزان في تفسير القرآن ج12ص117 ط الأعلمي الثانية .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 385 _
  أرسل إلى اليمن وغيرها من يبلغهم القرآن ، وقصة شهداء بئر معونة المشهورة شاهد على ذلك ، ومن باب الأمانة في التبليغ وحذرا من التفريط في أمر الرسالة وتحرزا من عدم تأديتها على أكمل وجه كان من المحتم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن بلغ للناس آيات القرآن أن يرسل الرسل مجددا ليبلغهم نسخها وإلغاء العمل بـها ومنع قراءتـها الذي كان بأمر من الله عز وجل حتى ينشغلوا عنها ويهملوا أمرها وإلا لكان تفريطا وإهمالا منه ـ حاشاه (صلى الله عليه وآله وسلم) .
  فأين هذه الرسل الذين أوعزت إليهم مهمة تبليغ القبائل وإعلامهم بإلغاء الله عز وجل تلاوة بعض الآيات ونسخها ؟ ولماذا لم ينقل لنا التاريخ رواية واحدة تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث فلانا وفلانا ليبلغوا الناس أن هناك الآيات من القرآن قد نسخت تلاوتـها لئلا يهتموا بـها وليتركوا التنقيب عنها ويذروا العمل بمضمونـها وقراءتـها في الصلاة ؟! (1) .
  3 ـ عدم تعرّض علماء القرآن من الصحابة لذكر هذا الأصل المهم إن موضوع نسخ التلاوة ليس بالأمر الهين الذي يمكن أن يُغفل عنه ، ولو صح نسخ تلاوة بعض الآيات لجاءت زرافات ومجاميع من الروايات تحكيه وتؤكّد عليه ، ناهيك عن أن علماء القرآن وخبرائه من الصحابة وأكابر قرائهم الذين لم يذكروا هذا الأصل ولم يشيروا إليه ، وهل يعقل اشتغال الصحابة في تحديد آخر ما نزل من القرآن ، هل هي آية كذا أم كذا ، وما هي أول سورة نزلت في المدينة ، وتنقضي أوقاتـهم في تحديد المنسوخ من الأحكام ، ولا يدكون ويشتغلون في التنبيه على وقوع النسخ لتلاوة بعض الآيات حذرا من دمجها في القرآن وأن آية الرجم مثلا لا يجوز أن تجعل في المصحف وكذا آية الرضاع وآية الواديين وغيرها لا يصح أن يقرأ بـها في الصلاة إلى ما هنالك من الأحكام ؟!! ، هذا لا يعقل .
  والغريب أن عكسه هو الحاصل فالصحابة جزموا أن تلك الآيات المزعومة هي جزء من القرآن بلا أدنى إشارة لنسخها أو رفع تلاوتـها !! بل إن بعضهم جاء شاهدا عليها عند جمع القرآن ليلحقها في مصحف المسلمين ولم يعترض عليه أحد بأن هذا من المنسوخ وإنما لم تقبل شهادته لأنه كان بمفرده ! ،

--------------------
(1) لربـما يقال إن النسخ كان بنوع من المعجزة فلا داعي للتبليغ أو إرسال الرسل حيث تكفل الله عز وجل بنسخها وانسائهم إياها ، ولكن هذا الكلام لو تم فإنما يتم في المنسأ وهو غير محل كلامنا لأنا نتكلم عن نسخ التلاوة وجريان هذا الإحتمال هنا ينفي الإحتمال نفسه ! إذ كيف ينسيهم الله إياها ومع ذلك وردت كل هذه الروايات الحاكية لنصها ؟!! ، ناهيك عن أن هذا الدليل ينفي وقوع المنسأ أيضا لعدم استفسار تلك القرى عما كانوا يقرؤونه وأنسوه وهو أمر طبيبعي وقد زعمت بعض رواياتـهم أن إثنين من الصحابة ذهبوا واستفسروا عما أنسوه من القرآن !! ، فأين رسل القرى والقبائل أم أن القرآن لم يتنبه لفقدانه إلا هذان ؟! ، ثم أليس من الواجب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إخبار الناس بأنه لا داعي للتنقيب عما أنسيتموه ؟! .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 386 _
  بل إن بعضهم ألحقها في مصحفه الخاص بين آيات القرآن وصار يقرأ بـها في صلاته ! كما سيأتي توضيحه بإذن الله ، فمع كل هذا لماذا لم تسمع أذن الدهر شيئا اسمه نسخ تلاوة من مثل أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وغيرهم ؟!!
  4 ـ مشاجرة الصحابة في تأدية النصوص القرآنية :
حدثت مشادات ومشاجرات بين الصحابة حول نفس ما ادعى أهل السنة نسخه تلاوة ، ومع ذلك لا تجد أحدا من الصحابة يذكر نسخ التلاوة ولو لفض النـزاع بينهم ! ، أخرج الحاكم : ( عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان يقرأ : ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبـهم الحمية حمية الجاهلية ، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام ، فأنزل الله سكينته على رسوله ) فبلغ ذلك عمر فاشتد عليه فبعث إليه وهو يهنأ ناقة له (1) فدخل عليه فدعا أناساً من أصحابه فيهم زيد بن ثابت فقال : من يقرأ منكم سورة الفتح ؟ فقرأ زيد على قراءتنا اليوم فغلظ له عمر ، فقال له أبيّ : أأتكلم ؟ فقال تكلم ، فقال : لقد علمت أني كنت أدخل على النبي صلى الله عليه وسم ويقرئني وأنتم بالباب ، فإن أحببتَ أن أقرئ الناس على ما أقرأني أقرأت ، وإلا لم أقرئ حرفاً ما حييت ! قال : بل أقرئ الناس ) (2) .
  وفي الدر المنثور ( أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي عن بجالة قال : مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بغلام وهو يقرأ في المصحف : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتـهم وهو أب لهم ) فقال : يا غلام حكها ، فقال : هذا مصحف أبيّ ! فذهب إلى أبيّ فسأله فقال : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق ) (3) .
  وكما هو واضح لم يذكر أي من هذين الصحابيين أي شيء عن نسخ التلاوة مع أن أهل السنة يدعون أن هذه العبارات من منسوخ التلاوة ! ، فكان من السهل لابن الخطاب أن يفض النـزاع وينهي المشادة بقوله ( إن هذه الآية التي تقرؤها مما نسخت تلاوته ولا يصح لك قراءتـها في ضمن

--------------------
(1) يدهنها بالقطران لإزالة الجرب .
(2) المستدرك ج2ص225 وعلق عليه الحاكم ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) ، روي في كنـز العمال ج2 ص 586 عن عدّة من المصادر فراجعه .
(3) الدر المنثور ج5 ص 183 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 387 _
  آيات القرآن ! ) ، فتنتهي المشكلة بلا تشاحن وغلظة وتنقيص بأن الصفق في الأسواق شغل عمر بن الخطاب عن القرآن .


وهذه ليست المشادة الأولى والوحيدة من نوعها بين أبي بن كعب وابن الخطاب فإن مشكلة نصوص القرآن كانت تتكرر بينهما ولا ذكر لنسخ التلاوة في كل تلك المشادات ، ولو كان لنسخ التلاوة وجود في الشريعة لحلت جميعها هذه المشادات بسهولة وبكل محبة :
  ( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بينما أنا أقرأ آية من كتاب الله عز وجل وأنا أمشي في طريق من طرق المدينة فإذا أنا برجل يناديني من بعدي : أتبع ابن عباس ، فإذا هو أمير المؤمنين عمر ، فقلت أتبعك على أبي بن كعب فقال : أهو أقرأكها كما سمعتك تقرأ ؟ قلت نعم ، قال فأرسل معي رسولاً قال اذهب معه إلى أبي بن كعب فانظر يقرأ أبي كذلك ، قال فانطلقت أنا ورسوله إلى أبي بن كعب قال فقلت يا أبي قرأت آية من كتاب الله فناداني من بعدي عمر بن الخطاب اتبع ابن عباس فقلت : اتبعك على أبي بن كعب فأرسل معي رسوله أفأنت أقرأتنيها كما قرأت ؟ قال أبي : نعم ، قال فرجع الرسول إليه فانطلقت أنا إلى حاجتي قال : فراح عمر إلى أبي فوجده … فقال : ما حاجة أمير المؤمنين ؟ فقال عمر : يا أبيّ علام تقنط الناس ؟ فقال أبي : يا أمير المؤمنين إني تلقيت القرآن من تلقاء جبريل وهو رطب ، فقال عمر : تالله ما أنت بمنته وما أنا بصابر ، ثلاث مرّات ، ثم قام فانطلق ! ) (1) .
  ومن المستبعد أن يخفى هذا النسخ على سيد القراء أبيّ بن كعب وقد رووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة أن يستقرئوه القرآن ، وعلى هذا كيف يصح قول عمر على ما روي عنه : إنا لندع من قول أبي وذاك أن أبيا يقول لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وقد قال الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها ؟ ، ولماذا رضخ عمر لأبي بن كعب في تلك المشادات حتى قال لأبي : ( بل أقرئ الناس ؟! ) ، هل يخاف عمر من عرض اجتهاده الذي تفرد به أمام أبي بن كعب الخبير بنصوص القرآن وآياته ؟!
  5 ـ الموارد المدّعى نسخها معلولة الموارد التي ادعوا نسخها ليس لأي رجل عاقل يحترم عقله ادعاء نزولها من نفس المصدر الذي نزل منه القرآن ، فإن نصوصها تصرخ بشذوذها عن القرآن وخروجها عن سبكه وحيدها عن نظمه

--------------------
(1) المستدرك ج2 ص 225 وعلق عليه ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 388 _
  براءته منها ، لأن ركاكة تلك النصوص المدّعى قرآنيتها واضحة جلية ، ومن وقع بصره ولو لمرّة واحدة على القرآن يعلم مدى بعدها عنه ، فكيف تخفى على علماء القرآن والبلاغة ؟! ونـهيب بالقارئ المنصف أن يقايس بين هذه الجمل المدعى نسخها وبين نصوص القرآن فيرجع البصر مرة واحدة حتى يرى الفطور ، وأي فطور ! :
  1 ـ ( اَللّهُمّ إِنّا نَسْتَعِيْنُك وَنَسْتَغْفِرُكَ وَ نُثْنِيْ عَلَيْكَ اَلْخَيْرَ وَلا نَكْفُرُك وَنَخْلَعُ وَنـَــتـْرُكُ مَنْ يَفْجُرُك )
  2 ـ ( اَللّهُمّ إيّاكَ نَعْبُدْ وَلَكَ نُصَلِّي وَ نَسْجُدْ وَإِلَيْكَ نَسْعَى نَحْفِدْ نَرْجُوْ رَحْمَتَكْ وَ نَخْشَى عَذَابَكَ اَلْجَد إِنّ عَذَاْبَكَ بِالكُفّاْرِ مُلْحِقٌ
  3 ـ ( الشَّيْخُ وَ الْشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارجمُوْهُمَا اَلْبَتَّة )
  4 ـ ( أَنْ بَلّغُوْا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِيْنَا رَبّنَا فَرَضِيَ عَنّا وَأَرْضَانَا )
  5 ـ ( لَوْ كَانَ لابْنِ آدَم وَادِيَان مِنْ مَالٍ لابتَغَى وَادِياً ثَالِثاً ، وَ لا يَمْلأ جَوْفَ ابْنِ آدَم إلاّ التّرَاب وَيَتوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَاب )
  6 ـ ( إنّ ذاتَ الدّين عِنْد اللهِ الحَنفيّة المُسْلِمَة لا اليَهُوْديّة ولا النّصْرَانِيّة مَنْ يَعْمَل خَيْراً فَلَن يَكْفُرَه )
  إن خروج تلك العبارات عن حريم القرآن بضعفها وركاكة أسلوبـها لا مجال للنقاش فيه لمن أنصف ، وهذا قول شيخهم الجزيري في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة : ( أما ما نقله البخاري تعليقاً من أن الذي كان في كتاب الله و رفع لفظه دون معناه ، فهو ـ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة الخ ـ فإنني لا أتردد في نفيه لأن الذي يسمعه لأوّل وهلة يـجزم بأنه كلام مصنوع لا قيمة له بجانب كلام الله الذي بلغ النهاية في الفصاحة و البلاغة ) (1) .
  وعلى أي حال فإن إرداف هذه الآيات المباركة : ( ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) ( هود / 1-2 )
  وقوله تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) ( النساء / 82 )، بعد كل جملة من تلك الجمل يوقفك على الحقيقة الواضحة .

--------------------
(1) كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ج4ص257ـ259 ، ط الاستقامة السادسة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 389 _
  6 ـ التضارب في تحديد ماهية الموارد التي ادعي النسخ فيها قالوا تبعا للجصاص : ( نسخ الرسم والتلاوة إنّما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف فيندرس على الأيّام كسائر الكتب القديمة التي ذكرها في كتابه في قولـه ( إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) ( الأعلى / 18 ـ 19 )، ولا يعرف اليوم منها شيء ثم لا يخلو ذلك من أن يكون ذلك في زمن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم حتى إذا توفي لا يكون متلوّا من القرآن أو يموت وهو متلو موجود بالرسم ثم ينسيه الله الناس ويرفعه من أذهانـهم وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ) (1) .
  وقال السرخسي بمضمونه في الأصول : ( ونسخ تلاوة الكتاب إنما يكون بغير الكتاب ، إما بأن يرفع حفظه من القلوب ، أو لا يبقى أحد ممن كان يحفظه نحو صحف إبراهيم ومن تقدمه من الأنبياء عليهم السلام ) (2) .
  وواضح أن هذا التعريف غير صحيح ، فما ذكروه من مصاديق نسخ التلاوة مازال محفوظا غير مرفوع من القلوب ولا أنساه الله الناس !
  وتنبه لذلك ابن المنادي فقال في الناسخ والمنسوخ : ( ممّا رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر ، قال : ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنـهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبيّ بن كعب ، وأنّه ذكر عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أنه أقرأه إياهما ، وتسمى سورتا الخلْع والحفد ) (3) ، وعلى تقييد ابن المنادي لا يجب أن يرفع الله عز وجل منسوخ التلاوة من القلوب والأذهان ، فمنه ما يرفعه ومنه ما لا يرفعه .
  ولكن الجصاص نفسه لم يقبل هذا الجمع ، فقال مخالفا للمشهور إن ما نقل لنا من منسوخ التلاوة ليس من اللازم أن يكون هو النص القرآني إذ لا مانع من أن تكون الأخبار التي نقلت لنا نصوص تلك الآيات قد جاءت بمعناها لا بعينها ، قال :

--------------------
(1) الفصول في الأصول ج2ص253 لأبي بكر الرازي الجصاص .
(2) أصول السرخسي ج2ص75 تحقيق أبو الوفا الأفغاني ط دار المعرفة .
(3) البرهان ج2 ص 37 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 390 _
  ( تجويزنا لثبوت الخبر لا يمنع ما ذكرنا ولا ينقض تأويلنا ، لأن الخبر لم يقتض أن يكون هذا المنقول بعينه هو الذي كان من ألفاظ القرآن على نظامه وتأليفه حسب ما نقلوه إلينا وليس يمتنع أن يكون ذلك قد نقلوه على نظم آخر ونسخ ذلك النظم وأنسي من كان يحفظه ولم ينسخ الحكم ، فنقلوه بلفظ غير اللفظ الذي كان رسم القرآن ، حين نزوله إلى أن رفع فلا يكون هذا من القرآن ، وهذا جائز أن يفعله الله ) (1) .
  وكلام الجصاص لا يمكننا قبوله أنه مخالف لرأي المشهور وعلى أي حال فهو مجرد احتمال ، وجواز نقله بالمعنى لا يعني أنـهم نقلوه كذلك حقا ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن بعض الروايات ظاهرة في أن ما ذكره الصحابي هو نص الآية ، كمثل ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري قال : ( وإنـّـا كنّـا نقرأ سورةً كنّـا نشبِّهـها في الطّول والشّدة ببراءة ، فأنْسيتُها ، غير أنّي قد حفظت منها : ( لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ) وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبـّـهها بإحدى المسبِّحات فأنسيتها غير إنّي حفظت منها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادةٌ في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيامة ) ) (2) .
  وكذا ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب : ( فلا أحل لأحد أن يكذب عليّ إن الله بعث محمداً صلى الله عليه (وآله) وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها …ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : ( أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) أو ( إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) ) (3) .
  وأمثلتها كثيرة وسنتعرض لها فيما بعد بإذنه تعالى ، فلا مجال لدعوى النقل بالمعنى مع وضوح دلالة الروايات على أن العبارات إنما هي نص الآيات ضبطاً وكما أنزلت من السماء ، ونحن هنا بين احتمالين إما أن تلك العبارات قرآن بنصها وإما أنـها ليست بقرآن وإنما بمعناه ، فيتردد القرآن المنسوخ عند علماء أهل السنة بين الإثبات والنفي .

--------------------
(1) الفصول في الأصول ص 262.
(2) صحيح مسلم ج3ص100 كتاب الزكاة باب كراهية الحرص على الدنيا وبشرح النووي ج7ص139،140 وعن المسند الجامع ج11ص414 .
(3) صحيح البخاري ج4ص122 ( باب رجم الحبلى من الزنا ) والترمذي ج4ص38ح1432 والحميدي في مسنده ج1ح25 ، ومسلم في صحيحه ج5ص116 كتاب الحدود ( باب رجم الثيب من الزنى ).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 391 _
  وبعد ذلك نجد أن ابن ظفر في الينبوع ينكر كون آية الرجم من موارد نسخ التلاوة ! لأنـها خبر الآحاد ولا يثبت به القرآن كما قلنا سابقا ، وإنما هي من الذي أنساه الله عز وجل مع العلم أن آية الرجم من الأُسس التي قامت أعواد نسخ التلاوة عليها ! ، قال :
  ( وإنما هذا من المنسأ لا النسخ وهما مما يلتبسان والفرق بينهما أن المنسأ لفظه قد يسلم حكمه ويثبت أيضا ) (1) .
  وقول ابن ظفر هذا من العجائب ! لأن آية الرجم ذكرت في صحيح البخاري وغيره عن عمر فكيف تكون مما أنساه الله عز وجل وعمر يصرح بأن نصها هو كيت وكيت وأراد إدراجها في المصحف ؟!
  ومن بعده جاء أبو بكر الباقلاني في كتابه الانتصار ونقل عن قوم إنكار هذا الضرب لكون الأخبار فيه أخبار آحاد ولا يجوز القطع بإنزال القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها ، وعليه أصبحت آية الرجم وغيرها مما أخرجه البخاري ومسلم عند هؤلاء ليست مما نسخ تلاوته ! (2) .
  والأغرب من ذلك أن الجصاص نفسه ـ وهو مبتدع تعريف نسخ التلاوة ـ أنكر كون آية الرجم من القرآن فضلا عن كونـها من منسوخ التلاوة وكذا بقية الموارد ! هذا مع العلم أن أهل السنة عوّلوا على تعريف الجصاص وقالوا أن آية الرجم سيدة المنسوخ تلاوة تطبيقا لتعريف الجصاص !! وهذا كلام الجصاص بتمامه :
  ( وأما ما طعن به بعض أهل الإلحاد ممن ينتحل دين الإسلام وليس منه في شيء ثم كشف قناعه وأبدى ما كان يضمره من إلحاده بأن القرآن مدخول فاسد النظام لسقوط كثير منه ، ويحتج فيه بما روي أن عمر رضي الله عنه قال : إن آية الرجم في كتاب الله تعالى وسيجيء أقوام يكذبون بالرجم وأنه كان فيه إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة .
  وأن أبي بن كعب قال : أن سورة الأحزاب كانت توازي البقرة أو هي أطول وأنه كان فيها آية الرجم وأنه كان فيها لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ، وأنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقرأ : لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ، وروي عن أنس

--------------------
(1) البرهان في علوم القرآن ج2ص167.
(2) وكلامهم صحيح على مباني التي أسسها أهل السنة ، ولكن جمهور علمائهم لم يلتزم بمقتضى قواعدهم حيث قالوا إنـها من القرآن وقد نسخ مع أنـها أخبار آحاد !! .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 392 _
  أنـهم كانوا يقرءون : بلغوا قومنا عنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ، ونحو ذلك مما يروى أنه كان في القرآن ، فإنه لا مطعن لملحد فيه ، لأن هذه الأخبار ورودها من طريق الآحاد فغير جائز إثبات القرآن بـها … وعلى أن كل خبر ذكر في سياق لفظه ـ أي القرآن ـ فليس في ظاهره دلالة على أن المراد به أنه كان من القرآن ، مثل خبر عمر رضي الله عنه فإن لفظه يحتمل معنيين ولا دلالة فيه على أنه كان من القرآن لأنه قال : إن الرجم في كتاب الله قرأناه ووعيناه ، فهذا يحتمل أن يكون مراده أنه في فرض الله كما قال تعالى : كتب الله عليكم ، يعني فرضه وكقوله تعالى… وإذا كان كذلك لم يثبت أن مراده أنه كان من القرآن فنسخت تلاوته لأن ذلك لا يعلم إلا باستفاضة النقل في لفظ لا يحتمل إلا معنى واحدا .
  ويدل على أن مراده كان كما وصفنا ، أنه قال : لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبته في المصحف ، فلو كان عنده آية من القرآن لكتبه فيه قال الناس ذلك أو لم يقولوه فهذا يدل على أنه لم يرد بقوله إن الرجم في كتاب الله أنه من القرآن ، وروي عنه أنه قال : إن الرجم مما أنزل الله وسيجيء قوم يكذبون به ، وهذا اللفظ أيضا لا دلالة فيه على أنه أراد به أنه من القرآن لأن فيما أنزل الله تعالى قرآنا وغير قرآن ، قال الله تعالى في وصف الرسول عليه السلام : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
  وروي في بعض ألفاظ هذا الحديث أنه قال : إن مما أنزل الله آية الرجم ، وهذا اللفظ لو ثبت لم يدل أيضا على أن مراده أنه كان من القرآن ، لأن ما يطلق عليه اسم الآية لا يختص بالقرآن دون غيره ، قال تعالى : ومن آياته خلق السموات والأرض ، ثم قال تعالى : إن في ذلك لآيات ، فسمى الدلالة القائمة مما خلق على توحيده آية فليس يمتنع أن يذكر ( آية ) الرجم وهو يعني أن ما يوجب الرجم أنزله الله على رسوله عليه السلام بوحي من عنده .
  وأيضا فإنه يحتمل أن يكون أصل الخبر ما ذكر فيه أن مما أنزل الله ( الرجم ) ثم كان تغيير الألفاظ فيه من جهة الرواة فعبر كل منهم بما كان عنده أنه هو المراد لأن من الرواة من يرى نقل المعنى عنده دون اللفظ فظن بعض الرواة أنه إذا قال إنه مما أنزل الله فقد قال إنه من القرآن وإنه آية منه فعبر عنه ذلك ، فإن قيل : فلو لم يكن عنده من القرآن كيف كان يجوز له أن يقول ( لولا أن يقول ) الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبته في المصحف ، وكيف يجوز أن يكتب في المصحف ما ليس منه ؟ قيل له : يجوز أن يكون مراده أنه كان يكتبه في آخر المصحف ويبين مع ذلك أنه ليس من القرآن ليتصل نقله ويتواتر الخبر به كما يتصل نقل القرآن … وأما حديث أبي بن كعب ، فإن صحّ فهو من المنسوخ تلاوة لا محالة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 393 _
  وما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقرأ : لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم فلا دلالة فيه على أنه كان يراه من القرآن لأن السنن وسائر كلام الناس يُقرأ ، وكذلك حديث أنس ) (1) .
  وهذا القول يناقض ما عليه جل بني جلدته الذين قالوا إن آية الرجم وغيرها من القرآن ، وكيف تصح أقوال هؤلاء العلماء من أنـها مما أنساه الله وأيضا عدم كونـها من المنسوخ تلاوة مع أن كلام ابن الخطاب عنها واضح في أنـها نص الآية الكريمة بل وأراد أن يدمجها في المصحف المجموع زمن أبي بكر !
  هكذا تخبط علماء أهل السنة في تحديد حقيقة نسخ التلاوة فقالوا إن كل ما نسخ تلاوةً قد رفعه الله من الأذهان ، وبعضهم استثنى بعض الموارد ، ورُد بأن هذا الاستثناء لا داعي له بعد احتمال ألا تكون تلك الموارد هي نصوص الآيات ، واعترضنا عليه بأن الدليل على خلافه قائم ، ثم جاء منهم من أنكر كون الموارد بأجمعها من القرآن وهم يوافقون الشيعة بذلك ، ثم استدرك البعض وقال ليست هي من المنسوخ بل من المنسأ ، ثم جاء الجصاص ـ وهو من اعتمد عليه أهل السنة في بيان حقيقة هذا النسخ المزعوم ـ فأنكر أصل قرآنية تلك الجمل فضلا عن نسخها تلاوة !
  وزاد صاحب البرهان في الطنبور نغمة فقال عند كلامه عن نسخ تلاوة آية الرجم وحديث عمر ( لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي ) : ( الظاهر قوله ( لولا أن يقول الناس … ) أن كتابتها جائزة ، وإنما منعه قول الناس ، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه ، وإذا كانت جائزة لزم كونـها ثابتة ، لأن هذا شأن المكتوب ) (2) .
  فعلى قوله يصبح من الجائز كتابتها في القرآن ودمجها بين آياته !! ، فيعارض تعريف الجصاص لنسخ التلاوة بأنه : ( نسخ الرسم والتلاوة إنّما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف فيندرس على الأيّام كسائر الكتب القديمة ) .

--------------------
(1) الفصول في الأصول ج2ص256ـ261 ، وقد حذفنا منه ما يطول المقام بذكره ، وهذا التطويل لبيان مدى استماتته في رد دعوى من يقول إن آية الرجم المزعومة هي في الأصل آية من آيات القرآن الكريم نسخت تلاوتـها ، وبـهذا يتضح أن هذا الذي اعتمد علماء أهل السنة على تعريفه لمفهوم نسخ التلاوة قد أخرج كثيرا من الآيات المزعومة من دائرة نسخ التلاوة التي أدخلها أهل السنة !! ، بل ويرفض كونـها قرآنا في الأصل لأنـها أخبار آحاد !!! ، فماذا نقول لمن ينسب هذه العبارات للقرآن الكريم ويقول هي منسوخة تلاوة وهو في الأصل معتمد على تعريف الجصّاص من حيث لا يشعر !
(2) البرهان في علوم القرآن ج2ص167.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 394 _
  فكيف يجتمع جواز كتابته في المصحف مع أمر الله عز وجل بالإعراض عن كتابته في المصحف ؟!.
  ومع كل هذا التضارب كيف يوثق بشيء اسمه نسخ التلاوة ؟! ، سلمنا أنه يمكن الإيمان بشيء لا نعرف حقيقته (!!) ، ولكن كيف نعلم أن هذه الجملة التي نسبها الصحابي للقرآن أنـها من منسوخ التلاوة حقا ولم يأت بـها من مخيلته ؟! ، أفتونا مأجورين .
  7 ـ عبثية هذا القول
  ذهب بعض العلماء من الفريقين إلى رفض هذا النسخ لأنـهم ما وجدوا سببا للقول به إلا التزام أن تلك الآيات أصاب تلاوتـها خلل ونقص في إعجازها البلاغي فكانت عوارا يشوب القرآن ويحط من بلاغته ، لذا كان على الله عز وجل أن يحذفها ويلغيها حتى لا يطلع الناس على الوجه الآخر للقرآن ، وهذا الاحتمال فاسد لا يقبله مسلم ، ولو كان هناك احتمال آخر لهذا النسخ لملنا إليه ، ولكن بقاء الحكم ورفع التلاوة التي يجب أن تبقى شاهدة على ثبوت الحكم يقفان سدا دون أي تأويل آخر .
  فيجد العقل نفسه مرغما على رفض هذا النسخ لعبثية القول به ، وإلا فما الحكمة من نزول آية قرآنية تشرع حكم ما ، ثم يبقى الحكم وترتفع الآية التي من شأنـها أن تكون مستندا يثبت ذلك الحكم على مرّ العصور والزمان ؟! أليس من مقتضى الحكمة والأصلح للشريعة أن تبقى تلك الآيات لتحفظ أحكام الله عز وجل من النسيان وفقدان المستند !
  وحيث أننا خصصنا موضعا لذكر كلمات علماء أهل السنة في هذا المجال ، فنقتصر هنا على ما قاله السيد السبزواري رضوان الله تعالى عليه عند تعرّضه لذكر أنواع النسخ في القرآن فقال عند ذكره لنسخ التلاوة دون الحكم :
  ( واستدلوا بآية الرجم ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) فقالوا : إن هذه الآية لم يعد لها وجود في القرآن ، مع أن حكمها ثابت ، والحق عدم وقوع هذا النوع من النسخ ، بل يعد ذلك من التحريف الذي أجمعت الإمامية على نفيه في القرآن زيادة ونقيصة ، وما استدلوا به أخبار آحاد معارضة بروايات أخرى كثيرة تدل على أن الآية ليست من القرآن ، مضافاً إلى عدم وجود المصلحة فيه إن لم تكن فيه المفسدة ).
  وعن نسخ التلاوة مع الحكم قال رضوان الله تعالى عليه : ( واستدلوا على وقوعه بما ورد عن عائشة أنـها قالت : كان في ما أنزل من القرآن ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) ثم نسخن بخمس معلومات ،

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 395 _
  وتوفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهن في ما يقرأ من القرآن ، ويرد عليه ما أورد على النوع السابق ، مع أنه لا يتصوّر معنى معقول للنسخ في هذا النوع ) (1) .
  وتـهافت كلمات علماء أهل السنة في استكشاف سبب وعلة هذا النسخ المزعوم شاهد على ذلك ، فالقوم ما بين متوقّف لا يخوض فيه وإنما ينقل رأي غيره فقط ، وبين متكلف لا يخرج قوله عن التخرّص والرجم بالغيب ، وهذه بعض منها ، وقد أدار ابن الجوزي الدوامة واجتهد برأيه في بيان العلة ، فقال :
  ( إنـما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به ، فيسرعون بأيْسَر شيء ، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي ) (2) .
  وهذا الكلام سخيف ! لأمور :
  1 ـ لماذا خفيت هذه المسارعة على إمام الحنفية وإمام المالكية وإمام الحنابلة حيث رفضوا العمل بمضمون رواية عائشة الموجودة في صحيح مسلم الناصة على تحريم خمس رضعات مع العلم أن هذه الرواية من موارد نسخ التلاوة بزعمهم ؟!
  2 ـ من قال إن الله عز وجل يريد من المسلمين العمل بالظن ؟! وقد قال تعالى ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) ( يونس / 36 ) .
  3 ـ كأنه لا يعلم أن اقتفاء أثر الظن ولو بنية المسارعة والاستجابة لأمر الله عز وجل يوقع العلماء في أحضان الكذابين والدجالين فإن ديدن العلماء هو التثبت في أسانيد الأحكام الشرعية تحرزا من الكذب فيها .
  ثم جاء السيوطي من بعده ليقول : ( وخطر لي في ذلك نكته حسنة ، وهو أن سببه التخفيف عن الأمة بعدم اشتهار تلاوتـها وكتابتها في المصحف وإن كان حكمها باقياً لأنه أثقل الأحكام وأشدها وأغلظ الحدود وفيه الإشارة إلى ندب الستر ) (3) .
  وهذا أسخف من سابقه ، لأمور :

--------------------
(1) مواهب الرحمن ج1ص387 ، عند تفسير آية رقم 106 من البقرة .
(2) البرهان ج2ص37 ، الإتقان ج2ص24ـ25 .
(3) الإتقان ج2ص26 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 396 _
  1 ـ دين الله عز وجل ليس عُرضةً للنكات الحسنة ، والمزاج لا يحدد مراد الله عز وجل !
  2 ـ عمر أراد كتابة آية الرجم في المصحف ، فكيف خفي عليه ندب الستر فيها واكتشفها السيوطي ؟!
  3 ـ سلمنا ، ولكن هذه العلة ذكرت لخصوص آية الرجم ، فكيف بآية الرضاع وآية واديان من ذهب وفضة ، والبقية الباقية ؟!
  فواضح أن كلماتـهم في بيان علة هذا النسخ تؤكد أن القضية محيرة عندهم وليست بواضحة وأن المزاج كان هو المنبع لكل وجه ، لذا اعتبر بعض العلماء من أهل السنة والشيعة هذا النسخ عبثا لا يتصور له معنى غير أن تلك الآيات المنسوخة فيها خلل ومنقصة بلاغية ، ولا ريب أن التزامه يعني أن الله عز وجل فشل في صياغة بعض الآيات البليغة فرفعها لكي لا يفتضح الأمر ، وهل يلتزم بـهذا مسلم ؟!
  8 ـ لا يمكن إهماله من قبل الله عز وجل
  وكما قلنا سابقا فإن نسخ التلاوة أداة خطيرة يمكن أن يسيء استعمالها أي رجل فيما بعد عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينسب أية جملة بليغة وفصيحة للقرآن ، ويقول هذه نسخت تلاوتـها وبقي حكمها ، لاسيما لو كان من أمراء الجور الذين تأمروا على الناس ، فكيف يصح قبول وقوع نسخ التلاوة في القرآن ولا يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوضيح موارده ومصاديقه أو على الأقل يبين لنا الشروط والقيود التي تنسب بـها الجمل إلى منسوخ القرآن فما هو منه حقا يلتزم به المسلمون وما ليس منه نضرب به عرض الجدار ؟!
  بل كيف يظن عاقل أن الله جعل القرآن مقياسا وميزانا تقاس به الأحاديث النبوية وأمرنا بالتمسك به ومع ذلك يرفع الله عز وجل بعض آياته ويهمل تحديد ما رفع على وجه القطع واليقين ليكون عرضة للمتقولين ؟!
  هذا الإضافة إلى أن الإعجاز البلاغي للقرآن كان سببا لإسلام كثير من الناس ، ونسبة أي جملة ركيكة إلى القرآن يهدم هذا الإعجاز ، فكيف يتهاون في تشخيص تلك الموارد كي نتحرز عما يسف ببلاغة القرآن إلى الحضيض ويكون وصمة عار على جبينه ومزلقة لإعجازه ؟!

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 397 _
  ذكر أقوال بعض من أنكر نسخ التلاوة من أهل السنة :
  وبعد أن ذكرنا أدلة تبين فساد القول برفع تلاوة بعض الآيات نرى من نافلة القول تأييد تلك الأدلة بشيء من أقوال علماء أهل السنة الذين رفضوا مبدأ نسخ التلاوة فضلا عن وقوعه في القرآن الكريم ، ونعتز بـهذه الشهادات إذ أنـها تنم عن التحرر من قيود المقدسات الموروثة والرفض لما أملاه التاريخ عليهم :
  قال الجصاص : ( وقالت طائفة : لا يجوز نسخ القرآن وتلاوته ولكن يجوز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة ) (1) .
  قال أبو إسحاق الشيرازي : ( وقالت طائفة لا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن الحكم تابع التلاوة فلا يجوز أن يرتفع الأصل ويبقى التابع ) (2) .
  قال الزركشي : ( وجزم شمس الأئمة السّرخسي بامتناع نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن الحكم لا يثبت بدون تلاوة ، وقد أورد على أثر عمر السابق كونه مما نسخ رسمه لأن القرآن لا يثبت بمثل هذا فإن من أنكر آية من القرآن كفر ، وبـمثل هذا لا يكفر فإذا لم يثبت كونه قرآنا ، فكيف يدعى نسخه ؟ والرجم ما عرف بـهذا بل بحديث ماعز ، وكذلك حديث عائشة فإن القرآن لا يثبت بخبر الواحد فلا تثبت به تلاوة ما هو من القرآن وحكمه معا ، فإنا لا نعقل كونه منسوخا حتى نعقل كونه قرآناً وكونه من القرآن لا يثبت بخبر الواحد ).
  وقال : ( ولهذا قال صاحب المصادر : وأما نسخ التلاوة دون الحكم فوجوده غير مقطوع به ، لأنه منقول من طريق الآحاد ، كذلك نسخهما جميعاً ) (3) .

--------------------
(1) الفصول في الأصول ج2ص253 .
(2) اللمع في أصول الفقه ج1ص58 لأبي إسحاق الشيرازي ، وفي شرح اللمع ج1 ص 497 مسألة رقم 531 ط دار المغرب الإسلامي : ( وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز نسخ الرسم مع بقاء الحكم ، واحتجوا بأن الحكم تابع للرسم فلا يجوز أن يرتفع الرسم ويبقى الحكم ما يتبعه ).
(3) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي ج4ص104 أقول : من المسلمات أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وكذا نسخه لأن القطعي لا يرفعه الظني ، لاحظ تكرار هذا المعنى ـ احتياج إثبات القرآن أو نسخه إلى التواتر ـ في كلماتـهم .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 398 _
  قال أبو جعفر النّحاس : ( وأحسن ما قيل في معناه ـ أي معنى كلمة ( نُنسِها ) من آية النسخ : أو نتركها و نؤخّرها فلا ننسخها ، ونسخٌ ثالثٌ ، وهو من نسخت الكتاب ، لم يذكر أبو عبيد إلاّ هذه الثلاثة ، وذكر غيره رابعاً ، فقال : تُنـزّل الآية وتتلى في القرآن ثم تنسخ فلا تتلى في القرآن ولا تُثبّت في الخط و يكون حكمها ثابتاً .
  كما روى الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : كنا نقرأ : الشيخ و الشيخة إن زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة، قال أبو جعفر : وإسناد الحديث صحيح ، إلاّ أنه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله جماعة عن جماعة و لكنّـه سنـة ثابـتـة ، وقد يقول الإنسان : كنت أقرأ كذا لغير القرآن ، والدليل على هذا أنّه قال و لولا أني أكره أن يُقال زاد عمر في القرآن لزدتـها ) (1) .
  قال الشوكاني : ( منع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه ، وبه جزم شمس الدين السرخسي ، لأن الحكم لا يثبت بدون دليله ) (2) .
  وقال الشيخ الجزيري كلاما قيما للغاية يستحق الاحترام : ( أن المسلمين قد أجمعوا على أن القرآن هو ما تواتر نقله عن رسول الله عن ربّ العزة ، فكيف يمكن الحكم بكون هذا قرآنا ، خصوصًا وقد صرّح بعض أئمة المسلمين بأن لا يحوز الحكم على كتاب الله المتواتر بما ليس بمتواتر ، وعلى هذا فمن المشكل الواضح ما يذكره المحدثون من روايات الآحاد المشتملة على أن آية كذا كانت قرآناً ونسخت على أن مثل هذه الروايات قد مهّدت لأعداء الإسلام إدخال ما يوجب الشك في كتاب الله ، فمن ذلك ما روي عن ابن مسعود من أن المعوّذتين ليستا من كتاب الله من الروايات الفاسدة ، فإن معنى هذا ، التشكيك في كتاب الله المتواتر كلمة كلمة وحرفاً حرفا ، ولهذا جزم الفخر الرازي بكذب هذه الرواية ، ومن ذلك ما قيل أن آية القنوت كانت موجودة في مصحف أبّي ثم سقطت ، فهذا وأمثاله من الروايات التي فيها الحكم على القرآن المتواتر بأخبار الآحاد ، فضلاً عن كونه ضار بالدين فيه تناقض ظاهر ) .
  ثم قال مبينا عبثية هذا النسخ : ( ولكن نسخ اللفظ وبقاء معناه لم تظهر له فائدة ما معقولة ، بل قد يقال عليه ، إن نسخ الأحكام معقول لأنـها تابعة لأحوال الأمم وتطوراتـها ، فلها فائدة واضحة ، بل قد تكون الأحكام الوقتية ضرورية للأمة حديثة العهد بالتشريع أما رفع اللفظ مع بقاء

--------------------
(1) الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ص 60-61 تحقيق د . محمد عبد السلام محمد .
(2) إرشاد الفحول ص 198ـ190 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 399 _
  معناه فإن دل على شيء فإنما يدل على أن هذا اللفظ لا يناسب وضعه في هذه الجملة فلما وضع وظهر فساده حُذف ، وهذا مستحيل على الله تعالى العليم الخبير ، ومع هذا فقد يقال : أن الحكم لا بدل له من لفظ يدل عليه ، فإذا رفع اللفظ فما هو الدليل الذي يدل عليه ؟ فإن قلتم : انه دل عليه قبل رفعه ، قلنا : وقد انتفت الدلالة بعد رفعه فلم يبق للحكم دليل ، فإن قلتم : إن دليل الحكم اللفظ الذي يبينه به الرسول ، قلنا : إن الحكم في هذه الحالة يكون ثابتا بالحديث لا بالقرآن المنسوخ ، فالحق أن القول بجواز نسخ اللفظ مع بقاء المعنى واه ، ومع ذلك كله فأي دليل يدل على أن اللفظ نسخ وبقي معناه ؟ إنه لا دليل لا في قول عائشة ـ آية الرضاع ـ ولا في غيره ) (1) .
  قال الشيخ محمد رشيد رضا : ( وقالوا إن المراد بالإنساء إزالة الآية من ذاكرة النبي صلى الله عليه وآله وقد اختلف في هذا أيكون بعد التبليغ أم قبله ؟ فقيل بعده كما ورد في أصحاب بئر معونة وقيل قبله حيت أن السيوطي روى في أسباب النـزول أن الآية كانت تنـزل على النبي صلى الله عليه وآله ليلا فينساها نـهاراً فحزن لذلك فنـزلت الآية .
  قال الأستاذ الإمام (2) : ولا شك عندي في أن هذه الرواية مكذوبة وإن مثل هذا النسيان محال على الأنبياء عليهم السلام لأنـهم معصومون في التبليغ و الآيات الكريمة ناطقة بذلك كقوله تعالى ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) ( القيامة / 17 ) ، و قوله ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 ) ، قد قال المحدثون والأصوليون : إن من علامة وضع الحديث مخالفته للدليل القاطع عقليا كان أو نقليا كأصول الاعتقاد وهذه المسألة منها فإن هذا النسيان ينافي العصمة المجمع عليها ).
  وعلّق الشيخ رشيد رضا على ما نزل في بئر معونة وهي الآية المزعومة التي ذكرناها سابقا بقوله : ( وروى البخاري و غيره أنه نزل فيهم وحي منه حكاية عنهم ( بلغوا قومنا إن قد لقينا ربّنا فرضي عنا و رضينا عنه ) وليس كل وحي قرآناً فإن للقرآن أحكاماً ومزايا مخصوصة وقد ورد في السنة كثير من الأحكام مستندة إلى الوحي ولم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا أصحابه يعدونـها قرآنا ، بل جميع ما قاله عليه السلام على أنه دين هو وحي عند الجمهور واستدلوا عليه بقوله ( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) ( النجم / 3 ـ 4 )، وأظهره الأحاديث القدسية ، و من لم يفقه هذه التفرقة

--------------------
(1) كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ج 4 ص257 ـ 259 ، ط الاستقامة السادسة .
(2) شيخ الأزهر الشيخ محمد عبده .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 400 _
-   من العلماء وقعت لـهم أوهام في بعض الأحاديث رواية ودراية وزعموا أنـهـا كانت قرآناً ونسخت ) (1) .
  وقال الشيخ محمد الخضري بك : ( أما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فقد خالف فيه بعض المعتزلة وأجازه الجمهور محتجين بأخبار آحاد وردت في ذلك لا يمكن أن تقوم برهانًا على حصوله (2) ، وأنا لا أفهم معنى لآية أنزلها الله لتفيد حكماً ثم يرفعها مع بقاء حكمها ! لأن القرآن يقصد منه إفادته الحكم بنظمه فما هي المصلحة في رفع آية منه مع بقاء حكمها إن ذلك غير مفهوم وفي رأيي أنه ليس هناك ما يلجئني إلى القول به .
  وحكى القاضي أبو بكر في ( الانتصار ) عن قوم إنكار هذا القسم لأنّ الأخبار فيه أخبار آحاد ولا يجوز القطع على إنزال القرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها ) (3) .
  وقال في فتح الـمنّان في نسخ القرآن : ( وذهبت طائفة من العلماء إلى إنكار هذا النوع من النسخ و عدم وقوعه في كتاب الله عز وجل ، لأنّه عيب لا يليق بالشارع الحكيم ، لأنه من التصرّفات التي لا تعقل لها فائدة ، ولا حاجة إليها و تنافي حكمة الحكيم .
  والحق يقال إن هذا النوع من النسخ وإن كان جائزاً عقلا ولكنّه لم يقع في كتاب الله عزّ وجل ، لأنّ هذه الروايات آحاد ، والقرآن الكريم لا يثبت بروايات الآحاد مهما كانت مكانة قائلها ، ولابد فيه من التواتر ، كما أجمع عليه العلماء قديما وحديثا ، ولو أنّه صح ما قالوه لاشتهر بين الصحابة جميعاً ، ولحفظه كثير منهم أو كتبوه في مصاحفهم .
  ولكن لم يرد شيء عن غير هؤلاء الرواة ، فلا يمكن القطع بأنّ هذه الآيات التي ذكروها كانت مسطورة في عهد النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وفي صحف كتّاب الوحي ثمّ نسخت بعد ذلك ورفعت من المصحف ـ كما رواه بعض الصحابة ـ وبقي حكمها للعمل به ، وأيضاً فإن الحكم لا يثبت إلاّ من طريق النصّ ، ولم يظهر لزوال النص وحده حكمة من عمل الحكيم لأنّ الحكم ما زال قائماً لم ينسخ ، فأي فائدة في نسخ تلاوته ؟
  قال : ولعلّ ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب : ( إنا كنّا نقرأ في كتاب الله … ) الكتب التي كان يحفظها هو وغيره ، من باب المبالغة في تشبيه الأحكام التي قالـها الرسول بالآيات القرآنية ، لأنّ كلاً من السنّة الصحيحة والقرآن الكريم واجب الطاعة ، وقد كان من الصحابة من يكتب الحديث ليحفظه

--------------------
(1) تفسير المنار المجلد الأول ص 414ـ415 ، ط دار المعرفة
(2) لاحظ أن هناك فرقا بين الحصول أي الوقوع وبين الجواز ، وهذا سنستفيد منه فيما يأتي بإذنه تعالى .
(3) أصول الفقه ص257 ، ط الاستقامة الثالثة .