في الدين أن يقول لعل القرآن قد عورض فاندرست المعارضة وجوابنا عنه أنه لو كانت لانتشرت وتوفرت ولتوفرت الدواعي والجبلات على نقلها مع تشوف الطاعنين في الدين إلى إبطاله ) (1) .
  قال في اختلاف الفقهاء : ( القراءة الشاذة : اتفق العلماء على الأخذ بالقراءة المتواترة لكنهم اختلفوا فيما نقل بطريق أحادي كمصحف ابن مسعود فنفاه الشافعي وأثبته أبو حنيفة وبنى عليه وجوب التتابع في الصيام كفارة عن اليمين مستدلاً بما نقله ابن مسعود في مصحفه : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ، ووجه الاستدلال عند الحنفية هو أنه ولو كانت هذه القراءة غير متواترة وحتى لو لم تثبت أنـها قرآن فلا أقل من أن تكون سنة نبوية ويجب العمل به )(2).
  ( رأي الشافعي لا يجب العمل بـها : قال الشافعية أن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان مكلفاً بتبليغ ما ينـزل عليه من القرآن وإلقائه على طائفة معينة تقوم الحجة القاطعة بقولهم ، ومن تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا يتصور منهم التوافق على عدم نقل ما سمعوه منه ، ومن ثم يكون ما يروى عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قرآنا لا بد أن يكون متواتراً .
  فالراوي إذا كان واحداً وذكر ما رواه على أنه قرآن فـهـو خـطـأ ، وإن لم يذكره على أنه قرآن فقد تردد بين أن يكون خبر عن الرسول عليه السلام ، وبين أن يكون حجة فلا يكون حجة وهذا خلاف خبر الواحد عن الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم ـ ولذلك فما روي عن ابن مسعود في صدد الصيام لا يدل على وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين )(3) .
  مذكرة في أصول الفقة للشنقيطي : ( قال المؤلف رحمه الله تعالى : فأما ما نقل نقلاً غير متواتر كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) فقد قال قوم ليس بحجة ، لأنه خطأ قطعاً إلى آخره .
  خلاصة ما ذكره في هذا الفصل ، أن ما نقل آحادا كقراءة ( متتابعات ) المذكورة لا يكون قرآناً وهذا لا خلاف فيه ، وهل يجوز الاحتجاج به مع الجزم بأنه ليس قرآناً ؟ قال جمع من أهل الأصول : لا يجوز الاحتجاج به لأنه رواه على أنه قرآن ، فلما بطل كونه قرآناً بطل الإحتجاج به من أصله ، وقال قوم : يجوز الاحتجاج به كأخبار الآحاد ، لأنه لا يخرج عن كونه مسموعاً من النبي

--------------------
(1) المنخول للإمام الغزالي ج1ص281 ـ 282.
(2) اختلاف الفقهاء ص26 د.أحمد محمد المصري .
(3) ن.م ص27 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 327 _
  صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومروياً عنه ، وهذا هو اختيار المؤلف ، وعليه فلا مانع من أخذ لزوم التتابع في صوم كفارة اليمين من قراءة ابن مسعود متتابعات وإن جزمنا أنـها ليست من القرآن )(1) .
  أصول الفقه الإسلامي : ( فقال الحنفية والحنابلة : إن القراءة الشاذة يصح الاحتجاج بـها على أنـها حجة ظنية (2) ، إذ لابد من أن تكون مسموعة من النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، وكل مسموع عنه صلى الله عليه (وآله) وسلم حجة ، ودليل السماع أن الناقل عدل ، وعدالته تمنعه من الاختراع وإلا لما ساغ له كتابته وإثباته في مصحفه ، وإذا ثبت أنه مسموع من النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فيكون سنة ، والسنة يجب العمل بـها (3) .
  وقال المالكية والشافعية : إن القراءة الشاذة ليست بحجة ، ودليلهم أنـها ليست بقرآن ، إذ لم تتواتر ، بل وليست سنة ، لأنـها نقلت على أنـها قرآن و لم تنقل على أنـها سنة ، فلا يحتج بـها ، وقد ردّ الغزالى على مذهب الحنفية فقال : لا يعد ذلك خبر آحاد : لأن خبر الواحد لا دليل على كذبه ، وأما جعله من القرآن فهو خـطـأ قـطـعًـا ، لأنه وجب على الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم ، وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به … وقال صاحب مسلم الثبوت والشوكاني في إرشاد الفحول : ما نقل آحاداً ليس بقرآن قطعاً ، لأن القرآن مما تتوافر الدواعي على نقله لكونه كلام الرب سبحانه ، وكونه مشتملاً على الأحكام الشرعية وكونه معجزاً وما كان كذلك فلا بد أن يتواتر ، فما لم يتواتر فليس بقرآن )(4) .
 
أصول الفقـه : ( أما اعتبار القراءة الشاذة حجة في الاستنباط ، فقد اختلف فيه ، فقال الغزالي : لا يصح الاحتجاج بـها لأنـها ليست من القرآن ، فمثل قراءة ابن مسعود في كفارة اليمين … وقال الحنفية : يحتج بالقراءة الشاذة فيجب التتابع ، لأنه وإن لم يثبت كونه قرآناً فلا أقل من كونه خبراً ، والعمل يجب بخبر الواحد ، قال الغزالي : وهذا ضعيف لأن خبر الواحد لا دليل على كذبه ، وهو إن جعله من القرآن فهو خطأ قطعاً … الخ )(5) .

--------------------
(1) مذكرة أصول الفقة للشنقيطي ص67 ـ 68 ط مكتبة ابن تيمية -الأولى-.
(2) لعدم التواتر ، وعدم التواتر يعني عدم قرآنيتها كما اتضح .
(3) واضح إن أخذ الحنفية والحنابلة بالقراءات الشاذة لا لأنـها من القرآن بل لكونـها من السنة ، وعليه فلا يوجد مذهب يرى أن تلك الزيادات من القرآن الكريم .
(4) أصول الفقه الإسلامي ج1 ص426 ـ 437 د. وهبة الزحيلي ط دار الفكر .
(5) أصول الفقه للشيخ الخضري بك ص 259 ط دار إحياء التراث العربي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 328 _
  * زبدة المخض
  نتوصل مما نقل من أقول علمائهم إلى أن القراءة الشاذة ليست من القرآن لعدم تواترها عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، بل إن محل الكلام وهي القراءة المخالفة لرسم المصحف ليست من القراءات الشاذة أصلا ، فهي في نظرهم خارجة عن دائرة القرآن تماما كما أكد على هذا إمام المالكية وإمام الشافعية وأتباعهما وبعض من ذكرنا من علمائهم ، ولو حصل واستُدل بـها في الفقه فلا لكونـها من القرآن بل لكونـها رواية .
  والبعض يلمح إلى أن عدم التواتر لا يفيد القطع بانتفاء قرآنية الشاذ بل لعله من القرآن ولم يكتب في المصحف ، وهذا الرأي كما ترى يناقض قولهم أن القرآن نقل متواترا وما ليس بمتواتر فليس من القرآن ، وعلى أقل تقدير فصاحب هذا الرأي يشك في أن المصحف قد شمل كل آيات القرآن لاحتمال أن بعض القرآن قد سقط من المصحف بعدم كتابة القراءات الشاذة ، فهو لا يقتطع بحفظ القرآن من التحريف .
  * التحريف في القراءات الشاذة إما للصحابة وإما لعلماء أهل السنة :
  المقدمة الحسية المسلّم بـها والآتي بيانـها إن شاء الله ، هي أن ( بعض الصحابة كانوا يدعون قرآنية قراءتهم الشاذة ) ، والمقدمة الثانية التي أثبتناها قبل قليل هي ( إن علماء أهل السنة يرون من يدعي قرآنية القراءة الشاذة قد أدخل في القرآن ما ليس منه ) ، فنستنتج أن ( علماء أهل السنة يرون بعض الصحابة قد أدخلوا في القرآن ما ليس منه ) ، فيثبت تحريف القرآن بالزيادة لبعض الصحابة .
  أو نقول إن كلام علماء أهل السنة باطل وأن ما قرأ به الصحابة كان من القرآن ، فيصبح هؤلاء العلماء منكرين لقرآنية ما هو من القرآن ، وواضح أن اعتقاد علماء أهل السنة بعدم قرآنية ما هو من القرآن تحريف صريح بإخراج بعض القرآن منه .
  وإما أن نقول إن أمر هذه الشواذ مبهم فلا نعلم أهي من القرآن أم لا ، فهذا يعني أن علماء أهل السنة في شك من سلامة القرآن من التحريف لأنـهم لا يعلمون أن المصحف قد سقط منه قرآن أم لا ، لاحتمال كون الشواذ قرآنا ! ، وبالنتيجة فهم يشكون في أن عثمان والصحابة تلاعبوا بكتاب

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 329 _
  الله عز وجل وأسقطوا بعض القرآن أم لا (1) ، ويلزم منه عدم إمكانية أخذ أي حكم من القرآن بعد احتمال سقوط آيات من المصحف لا نعلمها ، وهذا كما ترى رأي ساقط لا يقبله جمهور أهل السنة كما مرت كلماتـهم ، وإلتزاما منا لم نـهمل ذكر هذا الوجه لأنه قد يفهم من عبارات بعض علمائهم .
  وخلاصة القول : إن الشاذ المخالف لرسم المصحف إما هو من القرآن فيثبت التحريف للنافين وهم علماء أهل السنة ، وإما أنـه ليس من القرآن فثبت التحريف للمثبتين وهم سلفهم الصالح ، وإما أن يشكوا في أمرها فيتطرق الشك حينها إلى سلامة القرآن من التحريف .

--------------------
(1) وهذا الاحتمال بتلاعب عثمان بالمصحف إنما يتصور في القراءات الشاذة التي كانت بين الصحابة قبل جمع المصحف زمن عثمان ، وهناك موارد كثيرة جدا كما سيأتي الإشارة لها بإذنه تعالى هي من الشواذ بمخالفة رسم المصحف وقد قرأ بـها الصحابة والتابعون إلى ما بعد زمن جمع عثمان بوقت كثير ، لذلك لم نذكر احتمال أن تلك الشواذ من الأحرف السبعة المزعومة لأن هذا الاحتمال لا يصدر إلا عن جهل بواقع الروايات وعصر صدورها ، خاصة وأن بعض الموارد الآتية بإذنه تعالى لا تقبل الدخول تحت دائرة الأحرف السبعة لما فيها من حذف لمفردات الآية ، أو الزيادة فيها ، أو الاجتهاد في مفرداتـها ، أو الإنكار لبعض كلمات القرآن وإحلال كلمات محلها من قبل الصحابي أو التابعي ، والكثير من هذا النوع .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 330 _
ثانيا : الشيعة الإمامية والقراءات القرآنية
  * هل قرأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بـهذه القراءات ؟
  قلنا سابقا إن منشأ الاختلاف في بداية أمر القراءات هو اجتهاد وتفنن بعض الصحابة في قراءة القرآن ، وسار على دربـهم بعض التابعين وهكذا (1) ، وليس للشرع أدنى مدخلية في تلك القراءات سواء في نشأتـها أو في استمرارها وبقائها ، وفي عقيدة شيعة أهل البيت عليهم السلام إن كتاب الله عز وجل أنزله جبرائيل عليه السلام على قلب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بلغة عربية فصيحة لا خلل فيها ولا زلل ( قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ( الزمر / 28 )، وكان نزوله على صورة واحدة وهيئة واحدة بلا تغيير أو تبديل ، وكان يعرض على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كل عام مرّة وفي آخر حياته الشريفة مرّتين ، وفي كل مرّة كانت القراءة كسابقتها ، لا تزحزح عنها بحرف أو حركة أو إعجام أو بنبر أو همز أو شيء من هذا القبيل ، ولو حصل هذا ـ كما يزعم المشهور من غير الشيعة ـ لاشتهر وذاع ، ولصار حديث الساعة بين الصحابة ، فلا تفتأ الأخبار تذكر الوقت الذي تغيّرت فيه القراءة ، وفي أي شهر ومن أية سنة جاء جبريل عليه السلام مغيرا بعض الكلمات والأحرف ، ولسارت بـهذا الركبان وتناقلته الكبار والصغار ، ولطبّل المشركون له أيما تطبيل ولأثاروا هذا الأمر ووجهوه طعنة قوية وقاتلة في قلب القرآن والدعوة الإسلامية ، وكما هو معلوم لا شيء من هذا وصلنا لا من أهل التاريخ ولا من أرباب السير ومدوني المصنفات ولا حتى من أصحاب المسانيد والجوامع ، فحيث لم يصلنا أي خبر عن تغيير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قراءته يوما ما نعلم

--------------------
(1) يلاحظ أن هؤلاء الصحابة كانوا من مشاهير القرّاء والمتميزين بكثرة القراءة ، ولعل الثقة الزائدة بالنفس كانت سبب اندفاعهم لإعمال الرأي والاجتهاد في قراءة القرآن بأشكال متعددة ، أي من باب التمكّن والتفنن الزائد ، ولذا هذه القراءات المخالفة للمشهور لم تأت عن غير هؤلاء القلة ، وهذا يؤكد أن منشأ تلك القراءات المختلفة اجتهاد نفسي وإعمال للرأي لا أكثر ولا أقل ، ووجدت قولا للمحقق النجفي رضوان الله تعالى عليه يفيد هذا المعنى ، قال في جواهر الكلام ج9ص293 : ( ودعوى أن كل واحد من هؤلاء ألف قراءته من متواترات رجحها على غيرها لـخلوها عن الروم والإشمام ونحوهما وبه اختصت نسبتها إليه كما ترى تـهجس بلا درية ، فإن من مارس كلماتـهم علم أن ليس قراءتـهم إلا باجتهادهم وما يستحسنوه بأنظارهم كما يؤم إليه ما في كتب القراءة من عدهم قراءة النبي صلى الله عليه وآله وعلي وأهل البيت (عليهم السلام) في مقابلة قراءاتـهم ، ومن هنا سموهم المتبحرين ، وما ذاك إلا لأن أحدهم كان إذا برع وتمهر شرع للناس طريقا في القراءة لا يعرف إلا من قبله ولم يرد على طريقة مسلوكة ومذهب متواتر محدود وإلا لم يختص به ، بل كان من الواجب بمقتضى العادة أن يعلم المعاصر له بما تواتر إليه لاتحاد الفن وعدم البعد عن المأخذ ، ومن المستبعد جدا أنا نطلع على التواتر وبعضهم لا يطلع على ما تواتر إلى الآخر ).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 331 _
  وبلا ريب أن قراءة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن طيلة حياته كانت على صورة واحدة ثابتة لم تتغير ولم تتبدل ، فكان يقرأ به صلى الله عليه وآله وسلم بصورة واحدة في صلاته ، وفي خطبه ، وفي قيامه وجلوسه في المسجد ، ويسمعه الصحابة المؤمن منهم والمنافق فلا نكير ولا تغيير ، وليت شعري كيف يقرأ صلى الله عليه وآله وسلم آية في صلاة الظهر بألفاظ تختلف عنها في صلاة العصر ولا يصلنا من هذا العجب شيء ؟! ، ويا ليت الأمر اقتصر على هذا ! بل يدعي أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ القرآن بسبعة أشكال متغايرة وبجميع قراءاتـهم !! وهذا ما لا نتكلف لبيان سخفه وإثبات حماقة قائله !
  قال في لغة القرآن : ( وهذا القول يستلزم أن يكون الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم قد قرأ القرآن بجميع أوجه الخلاف التي بين اللهجات العربية ، أو أذن لهم أن يقرأ كل واحد على لهجته الخاصة دون سماع منه ، وهذا لا أساس له من الصحة ، لأن الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم إنما قرأ القرآن كما أنزل عليه دون أن يكون له دخل في اختلاف القراءات من ناحيته الشخصية ، وهذا هو ما تدل عليه الأحاديث الكثيرة التي أثبتنا لك قسما منها )(1) .
  هذا شيخ الأعراب ابن تيمية يشك في كون الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد قرأ بأشكال متعددة ويختم حديثه عن تلك القراءات بقوله : ( إذا كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد قالـها ) (2) .
  * قراءتنا الـمتواترة
  ومما لا ينبغي الشك فيه أن القراءة المتداولة اليوم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذها المسلمون أخذ تقديس وتعظيم يقرؤونـها ليلا ونـهارا ، وأقرأها الرجال للرجال والصبية والنساء للنساء والصبية ، فلم تبق ناحية فيها جمع من المسلمين إلاّ وقرأت بـها بقراءة معلمهم الأول صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يقرأ بقراءة واحدة ، وهذا أمر واضح لكل مسلم خاصة بعد ثبوت عدم تواتر القراءات القرآنية الأخرى ، لأنا لو قلنا بأن قراءة المسلمين اليوم غير متواترة أيضا فهذا يعني انعدام التواتر التفصيلي القرآن ، وثانيا أن الناس بأجمعهم في كل الأمصار الإسلامية اتفقوا على ترك ما كان يقرأ به الآلاف المؤلفة من الصحابة والتابعين وعدلوا عنه إلى قراءة أخرى اتفقوا عليها وهي

--------------------
(1) لغة القرآن الكريم ص73 ، ط مكتبة الرسالة الحديثة .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ج22ص460 ، مطابع الرياض ، الأولى 1382 ه‍ .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 332 _
  التي يقرأ بـها المسلمون اليوم !! ، فأمر كهذا يحكي انقلابا شاملا وعاما في جميع الأمصار الإسلامية وفي أقدس مقدسات المسلمين ومع ذلك لاحس له ولا خبر ، هو للأحلام والأساطير أقرب .
  إذن تواتر قراءة المسلمين اليوم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بين في نفسه ، ولكن لا بأس بذكر بعض الشواهد على وجود القراءة المتواترة على مر التاريخ :‌‌
  1 ـ عندما كتب المصحف في زمن عثمان لم ينقل لنا التاريخ توقف الكتبة إلا في مواضع قليلة وهي ( تابوت ) و ( يتسنه ) و ( منسأته ) وهذا يعني أن الموارد الأخرى كانت واضحة ومعلومة ، وحتى هذه الموارد لا يدل توقفهم فيها على عدم وضوحها بل كان الخلل في الكتبة لا أكثر من ذلك ، لذلك بين حالها أبي بن كعب بكل سهولة ويسر .
  2 ـ التغيير الذي حدث على خط القرآن الكريم بتشكيل حروفه وتنقيطها دليل على وجود قراءة متواترة تم التنقيط والتشكيل على أساسها .
  فهذا أبو الأسود الدؤلي نقّط المصحف نقط إعراب ولا يمكن أن يتسنى له ذلك لو لم يجد عند المسلمين قراءة ثابتة ومشهورة .
  وكذلك تلميذه يحيى بن يعمر العدواني فقد نقطه نقط إعجام ، فكيف قدر على أن ينقط المصحف مع وجود التغاير والاختلاف في قراءة الكلمة الواحدة الناشئ من اختلاف مواضع النقط ؟! وسيأتي الكلام عنه بإذنه تعالى .
  3 ـ إن حصر وتحديد موارد اختلاف بعض الصحابة في القراءة واشتهارهم بـهذه المخالفات من دون الجميع ، يثبت لنا وجود قراءة متواترة ومشهورة تقاس عليها الشواذ وإلا لو كان لكل صحابي قراءة خاصة لما صح تميّز هذا الصحابي بالقراءة لولا أنه كان يقرأ بعض كلمات القرآن بشكل غير معهود ومعروف .
  4 ـ كثير من الروايات تذكر استشهاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم بآيات القرآن الكريم المختلف في قراءتـها بين القراء فنجدها مطابقة لما نقرؤه اليوم وكما هي مثبتة في المصحف .
  5 ـ الأخبار والشواهد الحسية التي تحكي وجود قراءة مشهورة متواترة بين المسلمين وهي القراءة التي كان يقرأ بـها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
  هذه بعض الروايات التي تصرح بـهذه الحقيقة ، ذكر في المرشد الوجيز قول خلاّد بن يزيد الباهلي :
  ( قلت ليحيى بن عبد الله بن أبي مليكة : إنّ نافعاً حدّثني عن أبيك ، عن عائشة ، أنّها كانت تقرأ ( إذ تلقونه ) بكسر اللاّم وضم القاف (1) وقال : إنـها من ولق الكذب ! فقال يحيى : ما يضرّك أن لا تكون سمعته عن عائشة ، وما يسرّني أني قرأتـها هكذا ، ولي كذا وكذا ! قلت : ولِمَ وأنت تزعم أنّها قد قرأت ؟! قال : لأنـه غير قراءة الناس .
  ونحن لو وجدنا رجلاً يقرأ بما ليس بين اللّوحين ما كان بيننا وبينه إلاّ التّوبة أو نضرب عنقه ، ونجيء به نحن عن الأمّة عن النبيّ عن جبرائيل ، عن الله عز وجل ، وتقلون أنتم : حدّثنا فلان الأعرج عن فلان الأعمى ! إن ابن مسعود يقرأ ما بين اللّوحين ، ما أدري ماذا ؟ إنـما هو والله ضرب العنق أو التوبة )(2) .
  وقال الزركشي في البرهان : ( قال أبو عبد الرحمن السلمي : كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة ، كانوا يقرؤون القراءة العامة ، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه )(3) .
  وقد ذكر السيوطي في الإتقان : ( حدث محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال : القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم في العام الذي قبض فيه ، هي القراءة التي يقرؤها الناس اليوم ) (4) .
  وقال الزرقاني في مناهل العرفان : ( قال ابن مجاهد قال لي قنبل : قال القواس في سنة سبع وثلاثين ومائتين : القَ هذا الرجل ـ يعني البزي ـ فقل له : هذا الحرف ليس من قراءتنا ـ يعني (ومَا هوَ بميتٍ) ـ مخففا .

--------------------
(1) وهي في المصحف بفتح اللام وتشديد القاف .
(2) المرشد الوجيز ص180 .
(3) البرهان في علوم القرآن ج1ص237 ط الحلبي .
(4) الإتقان ج1ص50 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 333 _
  وإنما يخفف من الميت من قد مات ومن لم يمت فهو مشدّد ، فلقيت البزي ، فقال : قد رجعت عنه … قال محمد بن صالح : سمعت رجلا يقول لأبي عمرو بن العلاء : كيف تقرأ ( فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ) ( الفجر / 25 ـ 26 ) ؟ فقال : ( لا يعذِب ) بالكسر ، فقال له الرجل : كيف ؟ وقد جاء النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بالفتح ! فقال له أبو عمرو : لو سمعت الرجل الذي قال : سمعت النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ما أخذت عنه ، أو تدري ما ذاك ؟ لأني أتـهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة ) (1) .
  وهذه الروايات صريحة في وجود قراءة يقرأ بـها العامة محددة ومعلومة تقيّم عليها القراءات المستحدثة ، وكذا هذه الرواية :
  ( وأخرج ابن أبي حاتم عن هارون قال : قراءة الحسن والأعرج وأبي عمرو والـعـامة ( فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ ) ( يس / 72 ) ، يعني ركوبتهم حمولتهم )(2) .
  وذكر صاحب الخِطط الـمقريزية : ( قال القضاعي : كان السبب في كتابة (3) هذا المصحف أن الحجاج بن يوسف الثقفي كتب مصاحف وبعث بـها إلى الأمصار ووجه إلى مصر بمصحف منها فغضب عبد العزيز بن مروان من ذلك وكان الوالي يومئذ من قبل أخيه عبد الملك وقال يبعث إلى جند أنا فيه بمصحف ؟! فأمر فكتب له هذا المصحف الذي في المسجد اليوم فلما فرغ منه قال : من وجد فيه حرفا خطأ فله رأس ثور وثلاثون ديناراً .
  فتداوله القرّاء فأتى برجل من قراء الكوفة اسـمه زرعة بن سهل الثقفي فقرأه تـهجّياً ثم جاء إلى عبد العزيز بن مروان فقال له : إني قد وجدت في المصحف حرفاً خطأ ، فقال : مصحفي ؟! فقال : نعم ، فنظر فإذا فيه ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) ( ص / 23 ) ، فإذا هي مكتوبة نـجعة قد قدّمت الجيم قبل العين فأمر بالمصحف فأصلح ما كان فيه و أبدلت الورقة ثم أمر له بثلاثين ديناراً وبرأس أحمر ) (4) .
  ولو لم تكن بين المسلمين قراءة مشهورة ومتواترة لما صح السكوت عن ذكر القراءة التي يجب مراعاتـها عند التدقيق في هذا المصحف مع أنـها مختلفة فيما بينها بأكثر من هذه الاختلاف البسيط .

--------------------
(1) مناهل العرفان للزرقاني ج1 ص 445 ط الحلبي الثالثة .
(2) الدر المنثور ج5ص269.
(3) مصحف خاص .
(4) الخطط المقريزية ج2ص254 للمقريزي ط ، الحلبي بالأوفست .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 334 _
  فتحصل إلى هنا أن هناك قراءة متواترة ومشهورة على مر التاريخ وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكونـها قراءة المسلمين اليوم فلأن عدول الناس في كل الأمصار والبلدان عن القراءة التي تلقوها عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم ثم اتفاقهم على قراءة أخرى في قبال القراءة المتلقاة طبقة عن طبقة أمر لا يكاد يتصور فضلا عن معقوليته .
  * إشكال !
  ولعل قائلا يقول ، إن هذه القراءة المتداولة اليوم هي قراءة عاصم برواية حفص ، فكيف نسبت له القراءة المتواترة ، مع ما ذُكر سابقا أن اختصاص أحدٍ ما بقراءة ينافي تواترها ؟
  قبل الإجابة عن الإشكال يجب علينا بيان الجهة المعنية بالإجابة عنه وبيان كيف حاولوا معالـجة المشكلة ، فهذا الإشكال يتوجّه بصورة مباشرة لأهل السنة ، لأنـهم الذين نسبوا هذه القراءة إلى شخص عاصم ومن عاصم أخذها حفص !
  أما دعوى تواترها فتنقسم كلماتـهم في ذلك إلى قسمين :
  1 ـ إنها متواترة إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالإسناد المتصل من عاصم إلى الإمام علي عليه السلام .
  وهذه الدعوى دون إثباتـها خرط القتاد ، ومن أين يأتيها التواتر وهي من عاصم إلى الإمام علي عليه السلام ، أي من واحد إلى واحد ؟! .
  2 ـ إن هذه القراءة ليست متواترة وإنما هي بنقل الآحاد عن الآحاد ، وإنما المتواتر هو ما اتفق عليه القراء السبعة دون تفاصيل كل قراءة ، أي أن تواتر القرآن تواتر إجمالي وليس بتفصيلي .
  وهذا رأي أرباب فن القراءات عندهم كابن الجزري وابن شامة والشوكاني وغيرهم الذين مرت كلماتـهم ، ولا بأس باعادة ما قاله الإمام أبو شامة : )
  والحاصل إنا لسنا ممن يلتزم بالتواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء ، بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر وغير متواتر ، وذلك بين لمن أنصف وعرف وتصفح القراءات وطرقها ، وغاية ما يبديه مدعي تواتر المشهور منها ، كإدغام

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 335 _
  أبي عمرو ، ونقل الحركة لورش ، وصلة ميم الجمع وهاء الكناية لابن كثير ، أنه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت القراءة إليه بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين والواسطة ، إلا أنه بقي عليه التواتر من ذلك الإمام إلى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم في كل فرد فرد من ذلك ، وهنالك تسـكب الـعبـرات ، فإنـها من ثم لم تنقل إلا آحاداً إلا اليسير منها ، وقد حققنا هذا الفصل أيضا في كتاب البسملة الكبير ، ونقلنا فيه من كلام الحذاق من الأئمة المتقنين ما تلاشى عنده شبه المشنّعين ، وبالله التوفيق ) (1) .
  ولذا يرد الإشكال السابق عليهم وهو العجز عن إثبات التواتر لتفاصيل القراءة التي يقرأ المسلمون بـها اليوم دون المتفق عليه بين القراء السبعة ، وهذا إن سلمنا بأن الأسانيد التي جعلوها للقراء السبعة تنتهي إلى سبعة من الصحابة وأنـها بمجموعها تفيد التواتر وأنـها خالية من الإنقطاع والعلل ! ، فإن هذا مناقش كما بينا سابقا .
  ونحن يمكننا الإجابة عن الإشكال بجواب بسيط جدا وهو أنه يجب التنبه إلى أن حصر القراءات وتعيين قرّائها كان على يد رجل سني اسمه ابن مجاهد ، وقد أخطأ خطأ فادحا عندما خصص القراءة المتواترة بشخص أو شخصين رجاء ذكر إسنادها لها إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ! ، فتخصيصه هذا لا يعني أن عاصما كان الوحيد الذي كان يقرأ بـهذه القراءة ، وإلا فلا يعقل أن تكون قراءة المسلمين في شتى بقاع المعمورة مأخوذة منه ومن رجال إسناده ، فما كان فعل ابن مجاهد إلا مجرد ترف وأمرا شكلي لا يعبر عن واقع قراءة المسلمين .
  ومن أشد الأغلاط حصر المشهور والمتواتر عند الجميع بفلان وفلان وذكر إسنادٍ له أحادي ، بل من غير اللائق ذكر طرق عن عشرة أو عن عشرين لمثل إثبات أن ما يقرأ به المسلمون اليوم هو نفس ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهذا حاله كحال من يطلب الإسناد لإثبات أن غار حراء الموجود الآن هو نفسه الغار الذي نزل فيه الوحي أول مرة (2) .

--------------------
(1) المرشد الوجيز ص 177ـ178 .
(2) وقد ذكر الشيخ المحقق محمد هادي معرفة حفظه الله سبب تخصيص ابن مجاهد للقراءة المتواترة بشخص عاصم ، فقال في تلخيص التمهيد ص 329 : ( إنّ قراءة حفص كانت هي قراءة عامّة المسلمين ، وأنّ النسبة مقلوبة حيث كان حفص وشيخه عاصم حريصين على الالتزام بما وافق قراءة العامّة والرواية الصحيحة المتواترة بين المسلمين ، وهي القراءة التي أخذها عاصم عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ،ولم يكن علي عليه السلام يقرأ إلا ما وافق نصّ الوحي الأصل المتواتر بين المسلمين …إن عاصما بين القرّاء المعروفين كان فريداً بسمات و خصائص ، وجعلته علماً يشار إليه بالبنان ، فقد كان ضابطاً متقناً للغاية شديد الحذر والاحتياط فيمن يأخذ عنه القرآن متثبّتاً ، ومن ثمّ لم يأخذ القراءة أخذاً إلا من أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عليه السلام و كان يعرضها على زرّ بن حبيش عن ابن مسعود ) أقول : وهذا لا يصحح تخصيص ابن مجاهد المتواتر والمشهور برجل متقن متحرز في قراءته وهو عاصم لما فيه من إيهام أن القراءة المتواترة بين المسلمين شرقا وغربا هي كغيرها من القراءات الأحادية السند ، فإن الإتقان ليس بعاذر .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 336 _
  والقول الحق إن القرآن متواتر بالبداهة والعلم بتواتره كالعلم بتواتر اتجاه القبلة في بلاد المسلمين لا يطلب إسناده ، وكذا العلم بالبلدان الكبيرة الشهيرة التي من السخف طلب إسناد لإثبات وجودها ، وكذا تواتر القرآن فهو أجل من أن يطلب له إسناد من عشرة طرق أو من عشرين طريقا بل حتى من مائة فإن الأمور المعلومة بالبداهة لا يطلب لها إسناد .
  وحيث أن العلم بتواتر القرآن من البديهيات والأمور المفروغ عنها في العصور الأولى بين الصحابة والتابعين وتابعيهم ، كان عجز أهل السنة وكذا الشيعة اليوم عن إثبات تواتر القرآن بنقل فلان عن فلان له وجه وجيه إذ أن الشهرة الذائعة في تلك العصور أغفلتهم عن التنبه لهذه النقطة ، وللجميع الحق في ذلك .
  الوهابية من جديد !
  قال أحد الوهابية ( عثمان الخميس ) في شريط (الشيعة وتحريف القرآن) :
  " أما الشيعة فالقرآن عندهم رواه عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم علي رضي الله عنه ، وعن علي ابنه الحسن وابنه الحسين رضي الله عنهم أجمعين ، وهكذا إلى المهدي ( عليهم الصلاة والسلام ) ، فأين التواتر ؟! إن التواتر هو رواية جمع عن جمع تحيل العادة تواطئهم على الكذب ، وقد ذكر أهل العلم أن أقل طبقة من طبقات التواتر يكون فيها عشرة ، فهل يستطيع الشيعة أن يثبتوا هذا ؟ وهذا التواتر إنما ينقله أهل السنة في كتبهم ويثبتونه ، فإن كان أهل السنة ثقات في نقلهم وجب قبول قولهم في غيره ، وإن كانوا غير ثقات وجب رد روايتهم للقرآن ، وليبحث الشيعة بعد ذلك لهم عن قرآن آخر ودين آخر ) (1) .
  هذا ما قاله الوهابي ، ولا موضع فيه سَلِمَ من العوار والخدش ، ولنذكر هنا بعض الملاحظات :

--------------------
(1) نـهاية الوجه الأول من شريط (الشيعة والقرآن).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 337 _
  1 ـ يقول إن الشيعة تعتقد أن الصحابة خرجوا عن الملة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بضع نفر ! واعتمد في دعواه على بضع روايات في رجال الكشي رضوان الله تعالى عليه .
  وأقول : أولا : وهذه الروايات لم تسلم من النقاش من قبل مراجع الشيعة ومحققيهم رضوان الله تعالى عليهم (1) ، فكيف يقال إن الشيعة يرون كفر الصحابة إلا بضع نفر !
  ثانيا : سلمنا ، ولكن من قال إن الارتداد المعني في الروايات هو بمعنى الارتداد الذي يرادف الكفر والمروق عن الإسلام الذي تستباح به الدماء ؟!
  قال السيد الگلپايگاني رضوان الله تعالى عليه : ( إن قلت : فما تصنع بما قاله الإمام أبو جعفر عليه السلام : ارتد الناس بعد رسول الله إلا ثلاثة نفر سلمان وأبو ذر والمقداد ؟ ، نقول : إن هذا الارتداد ليس هو الارتداد المصطلح الموجب للكفر والنجاسة والقتل ، بل الارتداد هنا هو نكث عهد الولاية ، ونوع رجوع عن ممشى الرسول الأعظم ، وعدم رعاية وصاياه ، ولو كان المراد منه

--------------------
(1) ناقش الشيخ السبحاني حفظه الله في كتابه القيم بحوث في الملل والنحل هذه الروايات وجزم ببطلان التمسك بـها وأشكل عليها بعدة وجوه : ( ومع ذلك كلّه فإن هذه الروايات لا يحتج بها أبداً لجهات عديدة نشير إلى بعض منها :
  1 ـ كيف يمكن أن يقال إنّه ارتد الناس بعد رسول الله ولم يبق إلاّ ثلاثة تمسّكوا بولاية علي ولم يعدلوا عنها مع أنّ ابن قتيبة والطبري رويا أنّ جماعة من بني هاشم وغيرهم تحصّنوا في بيت علي معترضين على ما آل إليه أمر السقيفة ، ولم يتركوا بيت الإمام إلا بعد التهديد و الوعيد وإضرام النار أمام البيت ، وهذا يدل على أنه كان هناك جماعة مخلصين بقوا أوفياء لما تعهّدوا به في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإليك نص التاريخ …) ، ثم نقل سددّه الله نص ابن قتيبة ونص الطبري ثم تابع قائلا : ( كل ذلك يشهد على أنه كان هناك أُمة بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول الأعظم ، ولم يغترّوا بانثيال الأكثرية إلى غير من كان الحق يدور مداره ، وكيف يمكن ادّعاء الردّة لعامة الصحابة إلاّ القليل ؟!!
  2 ـ كيف يمكن أن يقال ارتدّ الناس إلا ثلاثة مع أن الصدوق رضي الله عنه ذكر عدة من المنكرين للخلافة في أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار وهم : خالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد بن الأسود ، وأبي بن كعب ، وعمّار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن مسعود ، وبريدة الأسلمي ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، و أبو أيّوب الأنصاري ، وأبو هيثم ابن التيهان وغيرهم ، ثم ذكر اعتراضاتـهم على مسألة الخلافة واحداً بعد واحد .
  3 ـ إن وجود الاضطراب و الاختلاف في عدد من استثناهم الامام يورث الشك في صحّتها ففي بعضها ….
  4 ـ كيف يمكن إنكار إيمان أعلام من الصحابة مع اتفاق كلمة الشيعة والسنة على علو شأنـهم كأمثال بلال الحبشي وحجر بن عدي وأويس القرني ومالك بن النويرة المقتول ظلماً على يد خالد بن الوليد ، وعباس بن عبد المطلب وابنه حبر الأمة وعشرات من أمثالهم … ) ، راجع إن أردت الزيادة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 338 _
  هو الارتداد الاصطلاحي لكان الإمام عليه السلام ـ بعد أن تقلد القدرة وتسلط على الأمور ـ يضع فيهم السيف ويبددهم ويقتلهم من أولهم إلى آخرهم خصوصا بلحاظ أن توبة المرتد الفطري لا تمنع قتله ولا ترفعه بل يقتل وإن تاب )(1) .
  وقال الشيخ جعفر السبحاني حفظه الله : ( وأقصى ما يمكن أن يقال في حقّ هذه الروايات هو أنه ليس المراد من الارتداد ، الكفر والضلال والرجوع إلى الجاهلية وإنّما المراد عدم الوفاء بالعهد الذي أخذ منهم في غير واحد من المواقف وأهمّها غدير خم ، ويؤيد ذلك ـ إلى أن قال ـ وظني أن هذه الروايات صدرت من الغلاة والحشوية دعماً لأمر الولاية وتفانياً في الإخلاص غافلين عن أنّها تضاد القرآن الكريم وما روي عن أمير المؤمنين وحفيده سيد الساجدين من الثناء والمدح لعدّة من الصحابة )(2) .

--------------------
(1) نتائج الأفكار ج1ص196.
(2) بحوث في الملل والنحل ج 6 ص 406ـ411 ، ط قُم المقدّسة أقول : إن أول من ذكر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ارتداد جمهور الصحابة من بعده هو إمام أهل السنة البخاري صاحب الصحيح ، فقد ذكر البخاري في صحيحه ارتدادهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن أغلبهم سيرد نار جهنم ، وهذه نصوص صحيح البخاري كما ذكرها السيد شرف الدين رضوان الله تعالى عليه ( وإليك ما أخرجه البخاري في باب الحوض وهو في آخر كتاب الرقاق ص 94 من الجزء الرابع من صحيحه بالإسناد إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم ، قال : هلمَّ ، قلت : أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلت وما شأنـهم ، قال : إنّـهم ارتـدّوا بعدك القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم ، قال : هلمَّ ، قلت : أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلت : و ما شأنـهم ؟ قال : إنّـهم ارتـدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ) .
  قال السندي في تعليقته على صحيح البخاري : هَمَل النعم بفتح الهاء و الميم : الإبل بلا راع ، أي لا يخلص منهم من النار إلا قليل ، وأخرج في الباب المذكور عن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : قال النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( إنّي على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم ، وسيؤخذ ناس دوني ، فأقول يا رب مني و من أمّـتي ؟ فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك ؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابـهم ) ، فكان ابن أبي مليكة يقول : اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا .
  وأخرج في الباب المذكور أيضا عن ابن المسيب أنه أنه كان يحدّث عن أصحاب النبي صلى الله عليه و آله وسلم أنّ النبي قال : ( يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلّؤون عنه فأقول : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنّي فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم و يعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم ).
  قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت : نعم فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : ( فأقول : إنـهم مني ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا من بعدك ؟ فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي ) .
  قال القسطلاني في شرح هذه الكلمة من إرشاد الساري ما هذا لفظه : لمن غير بعدي أي دينه لأنه لا يقول في العصاة بغير الكفر سحقاً سحقاً بل يشفع لهم و يهتم بأمرهم كما لا يخفى .
  وأخرج في الباب المذكور أيضاً عن أبي هريرة أنّه كان يحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلؤون ـ حَلأه : طرده و منعه عن وروده ـ على الحوض ، فأقول يا رب أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ) .
  وأخرج في أبو الباب المذكور عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجُنّ دوني ـ اختلج الشيء : انتزعه ـ فأقول : يا رب أصحابي فيقال : إنك لا تدري =>

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 339 _

  فأين هذا من المعنى الذي افتراه الوهابي على الشيعة ؟! ، ولو سأل هذا الوهابي علماء الشيعة عن عقيدتـهم في هذه الروايات لما فضح نفسه وكشف عن جهله ، لذا يجب على كل طالب سؤال أهل المذهب قبل أن ينسب أي عقيدة لهم لا أن يعتمد على ما يسمعه من الذين يتصيدون بدهاء ما في بطون الكتب مما يدل بظاهره خلاف ما يعتقده أصحابـها .
  ثالثا : سلمنا ، ولكن الروايات تقول إنـهم رجعوا بعد وقت العصر ، وعلماؤنا جمعوا أسماء الشيعة من الصحابة فأوصلوهم إلى ثلاثمائة صحابيا ، قال الشيخ كاشف الغطاء رضوان الله تعالى عليه :
  ( ولكن يخطر على بالي إني جمعت ما وجدته في كتب تراجم الصحابة كالإصابة ، وأسد الغابة والاستيعاب ونظائرها من الصحابة الشيعة زهاء ثلاثمائة رجل من عظماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم من شيعة علي عليه السلام ولعل المتتبع يعثر على أكثر من ذلك )(1) .
  فكيف لا يثبت التواتر عن هؤلاء بعد أن رجعوا إلى الإسلام ؟! ، هذا إن سلمنا أن الشيعة ترى ارتداد الصحابة في أول أمرهم كما تزعم الوهابية .
  2 ـ قال إن الشيعة لو اعتمدوا على أحد من الصحابة فإن لهم طريقا واحدا وهو الإمام علي عليه السلام ثم الحسن والحسين وعلي بن الحسين إلى بقية الأئمة عليهم السلام ، وهذا طريق آحاد لا يثبت التواتر .
  أقول :
  => ما أحدثوا بعدك " .
  قال البخاري : تابعه عاصم بن أبي وائل و قال حصين عن أبي وائل عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخرج أيضاً في باب غزوة الحديبية ص 30 من الجزء الثالث من صحيحه عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال : لقيت البراء بن عازب ، فقلت له : طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبايعته تحت الشجرة ، فقال : يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده .
  وأخرج أيضاً في أول باب قوله تعالى : ( و اتّـخذ الله إبراهيم خليلا ) من كتاب بدء الخلق ص154 من جزئه الثاني ، عن ابن عبا س عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال – من حديث : ( وإن اناساً من أصحابي يؤخذ بـهم ذات الشمال ، فأقول : أصحابي أصحابي ، فيقال : إنـهم مازالوا مرتدين على أعقابـهم منذ فارقتهم ) ، هذا بعض ما وجدناه في صحيح البخاري ).
  راجع أجوبة مسائل موسى جار الله ص10ـ13 ، وفي مجمع الزوائد الهيثمى ج9 ص 7 : ( عن أم سلمة أن عبد الرحمن بن عوف دخل عليها ، فقال : يا أمه ! قد خفت أن يهلكني مالي ! أنا أكثر قريش مالا ، قالت : يا بني ، فانفق فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن من أصحابي من لا يرانى بعد أن افارقه ، الخ ، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ) وهو في مسند احمد ج6ص317 .

--------------------
(1) أصل الشيعة وأصولها ص25 ط الأعلمي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 340 _
  هذا الكلام يتضمن جهلين ، جهل كبير بمذهب الشيعة ، وجهل بأوليات علم الأصول ، لأن التواتر لا يطلب لذاته بل لكونه وسيلة يراد منها إثبات القطع واليقين ، وتواتر القرآن يراد منه إثبات القطع بقرآنية كل آياته ، فلو ثبت لنا قطعية كل آياته من طريق آخر فيكون البحث عن التواتر تحصيلا للحاصل ، لذلك الصحابة الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحتاجون للتواتر لإثبات قرآنية ما سمعوه لأن إفادة الحس والسماع لليقين أقوى من التواتر .
  وكذلك الشيعة يعتقدون بعصمة أئمة أهل البيت عليهم السلام من الخطأ والنسيان ، فلو ثبت عندهم بالقطع واليقين قولا لأحد أئمتهم عليهم السلام بأن كل ما في المصحف من القرآن ، فلا داعي حينها لإثبات تواتر القرآن لأن القطع واليقين يحصل عند الشيعة بقول المعصوم عليه السلام كما يحصل القطع واليقين للصحابة بسماع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يغنيهم عن طلب التواتر .
  وهذا الجاهل يقول حتى لو أن الشيعة أحرزوا نقل كل أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) لآيات القرآن فلا يثبت التواتر !! ، فنقول : نعم ، ولكن ما الفائدة من التواتر بعد القطع بقول المعصوم ؟!
  ومن عرف أوليات مذهب التشيع يعلم أن قطع الشيعة بنقل معصوم واحد فقط أقوى من عشرات النقولات المتواترة من غير المعصوم ، وهذا ليس مختصا بالشيعة بل إن كل عاقل يقر بأنه لو سمعت أذنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقل شيئا وجاء ألف من الناس ونقلوا عكسه لكذبـهم وصدق ما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فالأحرى لمن جهل هكذا أمر عن مذهبنا ألا يخوض فيه أبدا !
  3 ـ قال إن الشيعة لا يمكنهم الاعتماد على التواتر عن طريق الصحابة لأنـهم كفار في نظرهم .
 أقول : هذا يؤكد لي أنه لم يتقن منهج الجامعة أو المعهد الديني التي تخرج منه ، لأمور :

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 341 _
  أولا : إن التواتر لا يندرج تحت علم الإسناد والرجال حتى ينظر في أحوال الرواة ، وهذا أبسط ما قاله علماء السنة قبل الشيعة في علم الحديث (1) .
  ولا بأس بنقل أقوال علماء أهل السنة لإثبات هذا المعنى ، وليحفظها هذا الوهابي المبتدئ ويستفيد منها أكثر :
  قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في نزهة النظر ، وهو الكتاب المبسط المختصر الذي يدرّسه أهل السنة للصبية في المساجد قبل المعاهد الدينية والجامعات الإسلامية : ( وإنما أبـهمت شروط التواتر في الأصل ، لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد ، إذ علم الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أوضعفه ، ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال ، وصيغ الأداء ، والمتواتر لا يبحث عن رجاله ، بل يجب العمل به من غير بحث ) (2) .
  وقال الملا علي القاري : ( تقدم أن التواتر ليس من مباحث علم الإسناد ، وأنه لا يبحث عن رجاله ) (3) .
  وقال الشيخ طاهر الجزائري : ( والمتواتر ليس من مباحث علم الإسناد ، لأن علم الإسناد علم يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه من حيث صفات رواته وصيغ أدائهم ليعمل به أو يترك ، والمتواتر صحيح قطعا فيجب الأخذ به من غير توقف وهو يفيد العلم بطريق اليقين ، والمتواتر يندر أن يكون له إسناد مخصوص كما يكون أخبار الأحاد لاستغنائه بالتواتر عن ذلك ، وإذا وجد له إسناد معين لم يبحث عن أحوال رجاله بخلاف خبر الآحاد فإن فيه الصحيح وغير الصحيح ) (4) .

--------------------
(1) ومن الأمور الغريبة حقا أن ردودي على هذا الوهابي الجاهل ( عثمان الخميس ) ـ وهو مُشيخ يؤم الناس ويخطب في المساجد وتنشر له الكتب والأشرطة في الأسواق ـ تتسم بميزة خاصة وهي تعليمه دروسا وإرشاده لأقوال علماء أهل السنة التي كان من المفترض أن يتقنها ويحفظها في الجامعة أو المعهد الديني !! ، فإن كان أحداث الشيعة يعلمون مشايخهم دينهم فلا ضير إن سكت عن هرجهم علماء الشيعة .
(2) النكت على نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر للعسقلاني ص 60 ط ، دار ابن الجوزي .
(3) شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص187 ط ، دار الأرقم .
(4) توجيه النظر ص 209 نقلا عن الحديث النبوي لمحمد الصباغ ص 245 ط ، المكتب الإسلامي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 342 _
  وقال صبحي الصالح : ( والمحدثون لا يذكرون المتواتر باسمه الخاص المشعر بمعناه ، وإنما يتبعون فيه الفقهاء والأصوليون لأن التواتر ليس من مباحث علم الإسناد )(1) .
  وقال محمد عجاج الخطيب : ( وقد فصل الأصوليون القول في المتواتر وشروطه ، ولم يفصل أهل الحديث ذلك ، لأنه ليس من مباحث علم الإسناد ، الذي يبحث فيه عن صحة الحديث ، أو ضعفه ليعمل به أو يترك ، من حيث صفات الرجال ، وصيغ الأداء ، والمتواتر لا يبحث عن رجاله ، بل يجب العمل به من غير بحث وقد ثبتت بعض السنن القولية والعملية بالتواتر )(2) .
  وهذا ما قاله شيخ الوهابية محمد بن عثيمين عندما كان يشرح متن نخبة الفكر لصغار الطلبة ، سننقله بالنص من الشريط المسجل :
  ( لماذا ؟ لأنه متيقن الثبوت وعلم الإسناد إنما يبحث فيه عن صحة الإسناد وعدم صحته ، والمتواتر لا يبحث فيه عن صحة السند لأنه ثابت مفيد للعلم ).
  وقال : ( فذكره ـ أي سند المتواتر ـ لا شك أنه مفيد وإن كان كما قال المؤلف ليس من مباحث علم الإسناد لأن علم الإسناد يبحث فيه عما يُقبل ويُرد أما هذا فهو مقبول بكل حال ) (3) .
  فأين هو عن أبسط معلومة في علم الحديث ؟! ، وأين هو عن كلمات علمائه ؟ ، وإلى متى نقوم بتعليمه وتعليم أمثاله أقوال علمائهم ؟!
  ثانيا : التواتر يفيد اليقين ولو من الكفار واليهود والنصارى ، وهذا رأي علماء الأصول عند أهل السنة قبل الشيعة إذ ذهبوا إلى عدم اشتراط الإسلام في ناقلي التواتر ، فيجوز الاعتماد على نقل الكفار في حصول القطع واليقين إذا تواتر عنهم الخبر ، فقد نقل الزركشي أقوال علماء أهل السنة في المسألة مع تخطئته لقول ابن عبدان الذي أخذ قيد الإسلام شرطا في الاعتماد على ناقلي الخبر المتواتر فقال في البحر المحيط :

--------------------
(1) علوم الحديث ومصطلحه د . صبحي الصالح 50 ط ، دار العلم للملايين .
(2) أصول الحديث د. محمد عجاج الخطيب ص301ـ302 ط ، دار الفكر .
(3) شرح نخبة الفكر لابن عثيمين شريط رقم 2 ، وهو متوفر في الأسواق .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 343 _
  " والصحيح خلاف ما قال ـ أي ابن عبدان ـ ، قال سليم في التقريب : ولا يشترط في وقوع العلم بالتواتر صفات المخبرين ، بل يقع ذلك بإخبار المسلمين والكفار والعدول والفساق والأحرار والعبيد والكبار والصغار ، إذا اجتمعت الشروط .
  وكذا قال أبو الحسين بن القطّان في كتابه : ذهب قوم من أصحابنا إلى أن شرط التواتر في الكفار أن يكون منهم مسلمون للعصمة ، وعندنا لا فرق بين الكفار والمسلمين في الخبر ، وإنما غلطت هذه الفرقة ، فنقلت ما طريقه الاجتهاد إلى ما طريقه الخبر .
  وصرّح القفّال الشاشي بأن الإسلام ليس بشرط ، وإنما رَدَدْنا خبر النصارى بقتل عيسى لأن أصله ليس بـمتواتر ، لأنـهم بلغوه عن خبر لوما ومارقين (1) ، ثم تواتر الخبر من بعدهم .
  وكذا قال الأستاذ منصور ، قال : ولا يشترط أن تكون نقَلـتُه مؤمنين أو عدولا ، وفرّق بينه وبين الإجماع حيث اشترط الإيمان والعدالة فيه أن الإجماع حكم شرعي ، فاعتبر في أهله كونـهم من أهل الشريعة .
  وقال ابن البرهان : لا يشترط إسلامهم خلافاً لبعضهم ، وجرى عليه المتأخرون من الأصوليين .
  وقطع به ابن الصباغ في باب السلم من الشامل ، فإن الشافعي قال في المختصر : ولو وَقّت بفضح النصارى لم يجز ، لأنه قد يكون عاما في شهر ، وعاما في غيره ، على حساب ينسئون فيه أياماً ، فلو اخترناه كنا قد عملنا في ذلك بشهادة النصارى ، وهذا غير حلال للمسلمين ، قال ابن الصباغ : هذا ما لم يبلغوا حد التواتر ، فإن بلغوه بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فإنه يكفي لحصول العلم ، )(2) .
  فأين هذا المتعالم المبتدئ عن رأي أهل السنة ؟! ، وقد نصت جملة من كلماتـهم التي نقلناه في أن التواتر ليس من علم الإسناد على أن التواتر يفيد العلم بلا نظر في أحوال الرواة ، ونعيد هنا كلام شيخه ابن عثيمين حتى يخرج هذا الوهابي من الجهل المركب إلى الجهل البسيط :
  ( فذِكرُه ـ أي سند المتواتر ـ لا شك أنه مفيد وإن كان كما قال المؤلف ليس من مباحث علم الإسناد لأن علم الإسناد يبحث فيه عما يُقبل ويُرد أما هذا فهو مقبول بكل حال ).

--------------------
(1) من الهامش : الصواب لوقا ومرقص .
(2) البحر المحيط للزركشي ج4 ص 235 ـ 236.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 344 _
  وأما وضوح أمر التواتر عند الشيعة وكونه مفيدا لليقين بلا شرط الإسلام أو العدالة أو الوثاقة فلا ينظر في إسناده فأمر لا يحتاج إلى بيان ، ولا بأس من باب المناسبة أن نذكر بعض كلماتـهم فيه :
  قال السيد المرتضى رضوان الله تعالى عليه في الذريعة : ( اعلم أن من يذهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة يكثر كلامه في هذا الباب ويتفرع ، لأنه يراعي في العمل بالخبر صفة المخبر في عدالته وأمانته ، فأما من لا يذهب إلى ذلك ، ويقول : إن العمل في مخبر الاخبار تابع للعلم بصدق الراوي ، فلا فرق عنده بين أن يكون الراوي مؤمنا أو كافرا أو فاسقا ، لان العلم بصحة خبره يستند إلى وقوعه على وجه لا يمكن أن يكون كذبا ، وإذا لم يكن كذبا فلابد من كونه صدقا ، على ما بيناه من الكلام على صفة التواتر وشروطه ، فلا فرق على هذه الطريقة بين خبر العدل وخبر من ليس كذلك ، ولذلك قبلنا أخبار الكفار كالروم ومن جرى مجراهم إذا خبرونا عن بلدانـهم ، والحوادث الحادثة فيهم ، وهذا مما لا شبهة فيه )(1) .
  وقال المحقق الحلي رضوان الله تعالى عليه في معارج الأصول : ( شرط قوم شروطا ليست معتبرة ، وهي أربعة : الاول : أن لا يجمعهم مذهب واحد ولا نسب واحد ، الثاني أن يكون عددهم غير محصور ، الثالث : أن لا يكونوا مكرهين على الاخبار ، الرابع : العدالة ، والكل فاسد ، لانا نجد النفس جازمة بمجرد الاخبار المتواترة من دون هذه الامور ، فلم تكن معتبرة ) (2) .
  وقال ابن الشهيد الثاني رضوان الله عليهما في المعالم : ( فالمتواتر هو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه ، ولا ريب في إمكانه ووقوعه ، ولا عبرة بما يحكى من خلاف بعض ذوى الملل الفاسدة في ذلك ، فانه بـهت ومكابرة ، لانا نجد العلم الضرورى بالبلاد النائية والامم الخالية كما نجد العلم بالمحسوسات ، ولا فرق بينهما فيما يعود إلى الجزم ، وما ذلك إلا بالاخبار قطعا ، وقد أوردوا عليه شكوكا ... ومنها : أنه يلزم تصديق اليهود والنصارى فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما السلام أنه قال : ( لا نبي بعدي ) ، وهو ينافي نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام ، فيكون ـ القول بإفادة التواتر العلم ـ باطلا ).

--------------------
(1) الذريعة في أصول فقه ج2ص555ـ556 .
(2) معارج الأصول ص139ـ140.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 345 _
  فأجاب بما يدل على عدم اشتراط الإسلام في التواتر فضلا عن الوثاقة والعدالة : ( أن نقل اليهود والنصارى لم يحصل بشرائط التواتر ، فلذلك لم يحصل العلم ) (1) .
  قوانين الأصول للميرزا القمي رضوان الله تعالى عليه : ( اختلفوا في أقل عدد التواتر والحق أنه لا يشترط فيه عدد ، وهو مختار الأكثرين فالمعيار هو ما حصل العلم بسبب كثرتـهم وهو يختلف باختلاف الموارد فرب عدد يوجب القطع في موضع دون الأخر وقيل أقله الخمسة وقيل إثنى عشر وقيل عشرون وقيل أربعون وقيل سبعون وقيل غير ذلك وحججهم ركيكة واهية لا يليق بالذكر فلا نطيل بذكرها وذكر ما فيها وقد إشترط بعض الناس هنا شروطا آخر لا دليل عليها وفسادها أوضح من أن يحتاج إلى الذكر فمنهم من شرط الإسلام والعدالة ومنهم من إشترط أن لا يحويهم بلد ليمتنع تواطئهم ومنهم من إشترط اختلاف النسب ومنهم من إشترط غير ذلك والكل باطل )(2) .
  وقال السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه في بحثه ما يشعر بعدم اشتراط الإسلام فضلا عن العدالة في إفادة التواتر العلم : ( وليس لنا يقين بنبوة موسى إلا من طريق شريعتنا ، فان التواتر لم يتحقق في جميع الطبقات من زمان موسى إلى زماننا هذا ، والتوراة الموجودة عند اليهود ليس هو الكتاب المنزل من الله سبحانه على موسى ، ومن راجعه يجد فيه ما يوجب العلم له بعدم كونه من عند الله من نسبة الزنا والفواحش الى الانبياء وغيرها مما يجده من راجعها ، نعم لنا علم بنبوة موسى لاخبار نبينا بنبوته ، فتصديقه يوجب التصديق بنبوته ) (3) .
  فتحصل أن التواتر عند علماء الشيعة وأهل السّنة حجة ويفيد القطع واليقين سواء كانت النقلة مسلمين أو كفارا ، فالشيعة يمكنهم الاعتماد على الصحابة في إثبات تواتر القرآن حتى وإن كانوا كفارا مرتدين في عقيدة الشيعة كما تزعم الوهابية .

--------------------
(1) المعالم ص184ـ185.
(2) قوانين الأصول ص264.
(3) مصباح الأصول تقرير بحث الخوئى للبهسودي ج3ص215 ، ومن كتب في التواتر وشروط إفادته للعلم من علماء الشيعة لم يذكر قيد العدالة مطلقا ، فيمكن مراجعة كتبهم الأصولية ، وكمثال كتاب قوانين الأصول للميرزا القمي رضوان الله تعالى عليه ص420و425 ، ودروس في علم الأصول للسيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه ج2ص123ـ124 ، الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم رضوان الله تعالى عليه ص194 ، اصطلاحات الأصول للشيخ علي المشكيني حفظه الله ص142 ، دروس في أصول فقه الإمامية للشيخ عبد الهادي الفضلي حفظه الله ص271 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 346 _
  ثم من أين لأهل السنة إثبات تواتر القرآن بنقل فلان عن فلان ؟! ، إن أقصى ما يمكنهم إثباته هو التواتر الإجمالي وأما التواتر التفصيلي ومواضع اختلاف القراء فهذا دونه خرط القتاد ، ونعيد ما قاله إمامهم في القراءات ابن الجزري :
  ( وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ، ولم يكتف فيه بصحة السند ، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن ، وهذا مما لا يخفى ما فيه ، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين من الرسم وغيره ، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواتراً عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وجب قبوله وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه ، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم ولقد كنت أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده )(1) .
  وهذا قول أستاذ الفن من علماء أهل السنة الذي قصد به أن تواتر القرآن لا يمكن إثباته بكل تفاصيله ، فيتردد النص القرآني بين ما قرأ به ابن عامر والكوفيون كقوله ( ننشزها ) أو كما قرأ الباقون ( ننشرها ) ؟ أو كما قرأ الكسائي ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبّتوا ) أو كما قرأ الباقون ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ) والكثير الكثير مثله ! ، فمن أين يثبت علماء السنة تواتر القرآن في الموارد التي اختلف فيها القراء السبعة ؟ ناهيك عن أن نفس أسانيد القرّاء السبعة لا تثبت تواتر القرآن كما مر بنا ، ولو تنازلنا لقلنا كيف يمكنهم إثبات تواتر آيات خزيمة بن ثابت التي دمجت في القرآن بشهادته فقط ـ بزعمهم ـ وفقدت طيلة ثلاث عشرة سنة ؟!
  وقلنا سابقا أن أهل السنة وكذا الشيعة لا يستطيعون إثبات تواتر القرآن بنقل شخص عن شخص إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا لا نقص فيه ، وإنما لوضوح الأمر وعدم الحاجة إليه في تلك العصور حتى أغفله الناس ، فالأمر معتمد على البداهة وتصور حال المسلمين واهتمامهم بالقرآن من زمن النـزول إلى يومنا الحالي ، ولكن بعض الوهابية يتبجحون بأن أهل السنة أثبتوا تواتر القرآن بإسناد القراء السبعة !! ، ( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ) ( النور / 40 ) .

--------------------
(1) الكوكب الدري شرح طيبة ابن الجزري ص 23 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 347 _
 زبدة المخض :
  سنذكر هنا كلمات علماء الشيعة رضوان الله تعالى عليهم الناصة على أن قراءتنا متواترة بدون شك ، وأن المسلمين مازالوا يتناقلونـها جيلا بعد جيل بلا فصل وانقطاع ، وقد تواترت بجميع حركاتـها وسكناتـها .
  قال السيد شرف الدين الموسوي رضوان الله عليه : ( فإن القرآن العظيم والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته ، تواترا قطعيا عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام ، ولا يرتاب في ذلك إلا معتوه ، وأئمة أهل البيت كلمهم أجمعون رفعوه إلى جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله تعالى وهذا أيضا مما لا ريب فيه وظواهر القرآن الحكيم ـ فضلا عن نصوصه ـ أبلغ حجج الله تعالى ، وأقوى أدلة أهل الحق بحكم الضرورة الأولية من مذهب الإمامية )(1) .
  قال العلامة البلاغي رضوان الله تعالى عليه : ( ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامّة المسلمين جيلاً بعد جيل ، استمرّت مادّته وصورته وقراءته المتداولة ، على نحو واحد ، فلم يؤثّر شيئاً على مادّته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القرّاء السّبعة المعروفين وغيرهم ، فلم تسيطر على صورته قراءة أحدهم اتّباعاً له ولو في بعض النّسخ ، ولم يسيطر عليه أيضاً ما روي من كثرة القراءات المخالفة له ممّا انتشرت روايته في الكتب كجامع البخاري ومستدرك الحاكم … وأن القراءات السبع فضلا عن العشر إنما هي في صورة بعض الكلمات لا بزيادة كلمة أو نقصها ومع ذلك ما هي إلا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا ولا وثوقا فضلا عن وهنها بالتعارض ومخالفتها للرسم المتداول بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة ) (2) .
  ( إذن فلا يحسن أن يعدل في القراءة عما هو المتداول في الرسم والمعمول عليه بين عامة المسلمين في أجيالهم إلى خصوصيات هذه القراءات ، مضافا إلى أنا معاشر الإمامية قد أمرنا بأن نقرأ كما يقرأ الناس أي نوع المسلمين وعامتهم ، ولعلما تقول : إن غالب القراءات السبع أو العشر ناشئ من سعة اللغة العربية في وضع الكلمة وهيئتها ـ إلى قوله ـ فعلى أي قراءة قرئت أكون قارئا على العربية .

--------------------
(1) أجوبة مسائل موسى جار الله ص29 ، قوله رضوان الله تعالى عليه بأنه متواتر من طرقنا ، إن قصد به أن هذا التواتر متحقق بمقتضى طبيعة الأمر وأنه حاصل تلقائيا لشدة اهتمام المسلمين بالقرآن فهذا صحيح ، وأما إن قصد به رضوان الله تعالى عليه أن للشيعة طرقا إسنادية إلى كل كلمة في القرآن ، فأتمنى ـ من كل قلبي ـ أن أكون من هؤلاء المعتوهين الذين عناهم السيد المبجل رحمة الله تعالى عليه بقوله .
(2) لعل العلامة رضوان الله تعالى عليه غفل عن أن قراءتنا اليوم منسوبة لأحد القراء السبعة وهو عاصم بن أبي النجود .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 348 _
  ولكن كيف يخفى عليه أن تلاوة القرآن وقراءته يجب فيها وفي تحققها أن تتبع ما أوحي إلى الرسول وخوطب به عند نزوله عليه ؟ وهـو واحـد ، فعليك أن تتحراه بما يثبت به وليس قراءة القرآن عبارة عن درس معاجم اللغة ) (1) .
  وهاك ما أغدقه علينا الإمام الخميني قدس الله نفسه الزكية عند ترجيحه للقراءة المتداولة ( يَطْهُرْنَ ) ( البقرة / 222 ) ، بالتخفيف على قراءة بالتشديد ، فقال : ( هذا مع أن ترجيح قراءة التخفيف على التضعيف كالنار على الـمنار عند أولى الأبصار ضرورة أن ما هو الآن بين أيدينا من الكتاب العزيز متواتر فوق حد التواتر بالألوف والآلاف ، فإن كل طبقة من المسلمين وغيرهم ممن يبلغ الملايين أخذوا هذا القرآن بـهذه المادة والـهيئة عن طبقة سابقة مثلهم في العدد وهكذا إلى صدر الإسلام وقلما يكون شئ في العالم كذلك ، وهذه القراءات السبع أو العشر لم تـمس كرامة القرآن رأسا ولم يعتن المسلمون بـها وبقرائها فسورة الحمد هذه مما يقرأها الملايين من المسلمين في الصلوات آناء الليل وأطراف النهار وقرأها كل جيل على جيل وأخذ كل طائفة قراءة وسماعا من طائفة قبلها إلى زمان الوحي .
  ترى أن القراء تلاعبوا بـها بما شاءوا ومع ذلك بقيت على سيطرتـها ولم يمس كرامتها هذا التلاعب الفضيح وهذا الدّس القبيح وهو أدل دليل على عدم الأساس لتواتر القراءات ، إن كان المراد تواترها عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله مؤيدا بحديث (2) وضعه بعض أهل الضلال والجهل وقد كذبه أولياء العصمة وأهل بيت الوحي قائلا : إن القرآن واحد من عند واحد .
  هذا مع أن كلا من القراء على ما حكي عنهم استبد برأيه بترجيحات أدبية وكلما دخلت أمة لعنت أختها ! وظني أن سوق القراءة لما كانت رائجة في تلك الأعصار فتح كل دكة لترويج متاعه والله تعالى بريء من المشركين ورسوله صلى الله عليه وآله .
  نعم ما هو المتواتر هو القرآن الكريم الموجود بين أيدي المسلمين وغيرهم وأما غيره من القراءات والدعاوي فخرافات فوق خرافات ظلمات بعضها فوق بعض ، وهو تعالى نزل الذكر وحفظه أي حفظ فإنك لو ترى القرآن في أقصى بلاد الكفر لتراه كما تراه في مركز الإسلام وأيدي المسلمين وأي حفظ أعظم من ذلك ) (3) ، انتهى كلامهم أعلى الله مقامهم .

--------------------
(1) من مقدّمة تفسير آلاء الرحمن ج1 ص 29 ـ 30 ط مكتبة الوجداني ـ مدينة قم المقدسة ـ .
(2) يقصد حديث الأحرف السبعة .
(3) فقه السيد الخميني قدس الله نفسه الزكية ج1ص142ـ143.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 349 _
  أربعة قراء من القراء السبعة من الشيعة :
  القراءة السبعة أربعة منهم شيعة ، وهم على ترتيبهم الزمني من حيث الوفاة : عـاصم ( ت 128 ه‍ ) ، أبو عمـرو ( ت 154 ه‍ ) ، حـمـزة ( ت 156 ه‍ ) ، الكسائـي ( ت 189 ه‍ ) .
  قال في تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ( الطبقة التاسعة فيمن كان منها من الشيعة الذين هم أئمة القراء المشهورين عند الكل بالسبعة الذين عليهم المعول وإليهم المرجع :
  ( أبو عمرو بن العلاء ) منهم : البصري أبو عمرو بن العلاء ، أحد الشيعة من السبعة ، قرأ على سعيد بن جبير و هما كما عرفت من الشيعة الأعلام ، وأسند أبو عبد الله البرقي في المحاسن عنه أنه قال : قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام : يا أبا عمرو تسعة أعشار الدين في التقيّة ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقية في كل شيء إلاّ في شرب النبيذ والمسح على الخفين ، الحديث ، ومن هنا يعلم أنه كان يستعمل التقية في معاشرته مع أهل السنّة (1) ، ومع ذلك حكى ابن الأنباري في نزهة الألباء طلب الحجاج له وهربه منه واختفائه حتى مات الحجاج وقد تقدّمت ترجمته في أئمة النحو .
  ( عاصم الكوفي ) ومنهم : عاصم الكوفي ابن أبي النجود بـهدلة ، أحد الشيعة من السبعة ، قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي صاحب أمير المؤمنين المتقدم ذكره وتشيّعه آنفاً ، وهو قرأ على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وقد نص الشيخ الجليل عبد الجليل الرازي المتوفى بعد سنة 556 .
  وكان ابن شهر آشوب وشيخ أبي الفتوح الرازي المفسر في كتابه نقض الفضائح على تشيّع عاصم وأنه كان مقتدى الشيعة ، فقال ما معناه باللسان العربي ، أن التشيع كان مذهباً لأكثر أئمة القراءة ، كالمكي والمدني والكوفي والبصري وغيرهم كانوا عدلية لا مشبّهة ولا خوارج ولا جبرية ، ورووا عن علي أمير المؤمنين عليه السلام ، ومثل عاصم وأمثاله كانوا مقتدى الشيعة والباقين عدلية غير أشعرية انتهى ، قال السيد في الروضات عند ترجمته ، وكان أتقى أهل هذه الصناعة على كون هذا الرجل أصوب كل أولئك المذكورين رأياً وأجملهم سعياً ورعياً ـ إلى أن قال ـ وقال إمامنا العلامة أعلى الله مقامه فيما

--------------------
(1) سير أعلام النبلاء ج6 ص 408 في ترجمته ( قال إبراهيم الحربي وغيره : كان أبو عمرو من أهل السنة ) ، وهذه الكلمة تدل على أن مذهب أبي عمرو كان محل ريب وشك عندهم ، وإلا لماذا تكلم في عقيدته عدة منهم ؟! ، فهذا يؤيد حالة التقية التي كان فيها أبو عمرو .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 350 _
  نقل عن كتابه المنتهى ، وأحب القراءات إليّ قراءة عاصم المذكور من طريق أبي بكر بن عياش انتهى ، قرأ أبان بن تغلب شيخ الشيعة على عاصم ، كما قرأ هو على أبي عبد الرحمن السلمي ، ولعاصم روايتان رواية حفص بن سليمان البزاز كان ربيبه وابن زوجته ورواية أبي بكر بن عياش ، وذكره القاضي نور الله المرعشي في مجالس المؤمنين ونص على تشيّعه .
  ( الكسائي أبو الحسن ) ومنهم : الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بـهمن بن فزار الأسدي بالولاء الكوفي المكنّى أبا عبد الله ، وهو من القراء السبعة المشهورة ، وكان يذكر أنه ربيب الفضل الضبي ، وكانت أمه تحته ، نص على تشيّعه في رياض العلماء في الألقاب ، قرأ على شيوخ الشيعة كحمزة وأبان بن تغلب ، وأخذ النحو عن أبي جعفر الرواسي ومعاذ الـهراء والكل من أئمة علماء الشيعة كما عرفت ، قرأ الكسائي القرآن على حمزة ، و قرأ حمزة على أبي عبد الله ، وقرأ على أبيه ، وقرأ على أبيه ، وقرأ على أبيه ، وقرأ على أمير المؤمنين كذا وجد بخط شيخنا الشهيد بن مكي نقلاً عن الشيخ جمال الدين أحمد بن محمد بن الحداد الحلي ، ونص على تشيع الكسائي جماعة ، وهو مذهب أكثر أهل الكوفة في ذلك العصر ، وقد أكثر الشيخ حسن بن علي الطبرسي في كتاب أسرار الإمامة من النقل عن كتاب قصص الأنبياء للكسائي توفي سنة تسع ثمانين ومائة بالري وقيل مات بطوس .
  ( حـمزة الكوفي ) ومنهم : حمزة الكوفي ابن حبيب الزيات أحد الشيعة من السبعة ، قرأ على مولانا الصادق وعلى الأعمش وعلى حمران بن أعين ، أخو زرارة والكل من شيوخ الشيعة ، وعده الشيخ أبو جعفر الطوسي في كتاب الرجال من أصحاب الصادق ، وكذلك ابن النديم في الفهرست ، قال وكتاب القراءة لحمزة بن حبيب وهو أحد السبعة من أصحاب الصادق ، انتهى بحروفه ، مات حمزة سنة ست أو ثمان وخمسين بعد المائة بحلوان ، وكان مولده سنة ثمانين ، وله سبع روايات ، وصنف كتاب القراءة ، وكتاب في مقطوع القرآن وموصوله ، كتاب متشابه القرآن ، كتاب أسباع القرآن ، كتاب حدود آي القرآن ذكر هذه الكتب له محمد بن إسحاق النديم في الفهرست كل في موضعه وقد جمعتها أنا في ترجمته رضي الله عنه ) (1) ، انتهى بتمامه .
  وقال في تلخـيص التمهيـد : ( أربعة من القرّاء السبعة هم شيعة آل البيت ( عليهم السلام ) بالتصريح ومن المحافظين الثقات : عاصم بن أبي النّجود ، و أبو عمرو بن العلاء ، و حمزة بن حبيب ، وعلي بن حمزة الكسائي ، وواحد من أشياع معاوية وهو ابن عامر وكان لا تورّع الكذب والفسوق

--------------------
(1) تأسيس الشيعة لعلوم القرآن ص346ـ347 .