المنافقين لبعض خواصه كأمير المؤمنين عليه السلام وغيره في مجالسه الخاصة ، وحاصل ما تقدم : أن وجود الزيادات في مصحف علي عليه السلام وإن كان صحيحا ، إلا أن هذه الزيادات ليست من القرآن ، ومما أمر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بتبليغه إلى الأمة ، فإن الالتزام بزيادة مصحفه بـهذا النوع من الزيادة قول بلا دليل ، مضافا إلى أنه باطل قطعا ، ويدل على بطلانه جميع ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم التحريف في القرآن ) (1) .
  قال في بحوث في تاريخ القرآن : ( إنه قد ورد أنه كان لأمير المؤمنين علي عليه السلام قرآن مخصوص ، جمعه بنفسه بعد وفاته صلى الله عليه وآله ، وعرضه على القوم ، فأعرضوا عنه ، فحجبه عنهم ، والمعروف أنه كان مشتملا على أبعاض ليست موجودة في هذا القرآن الذي بين أيدينا ، وأجيب بأن زيادة قرآنه عليه السلام على ما في هذا القرآن الموجود وإن كانت متيقنة ، لكن من الذي قال : إن هذه الزيادة كانت في القرآن نفسه ؟! فلعلها كانت تفسيرا بعنوان التأويل ، أي ما يؤول إليه الكلام ، أو بعنوان التنـزيل من الله تعالى شرحا لمراده ، كما في الأحاديث القدسية ، لا بعنوان القرآن المعجز ) (2) .
  * بعض الروايات
  نذكر هنا بعض الروايات التي تحكي ما جرى على مصحف أمير المؤمنين عليه السلام ، وستأتي كلمات العلماء والمحققين عليهم رضوان الله : في الكافي : ( محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم ، عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله عليه السلام وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم عليه السلام قرأ كتاب الله عز وجل على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه السلام وقال : أخرجه علي عليه السلام إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم : هذا كتاب الله عز وجل كما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وقد جمعته من اللوحين فقالوا : هو ذا عندنا مصحف جامع فيه

--------------------
(1) البيان في تفسير القرآن ص 223 ـ 226.
(2) بحوث في تاريخ القرآن للسيد مير محمدي زرندي ص 278.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 252 _
  القرآن لا حاجة لنا فيه ، فقال أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا ، إنما كان علي أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه ) (1) .
  وفي بصائر الدرجات: ( عن إبراهيم بن عمر عنه قال : إن في القرآن ما مضى وما يحدث وما هو كائن ، وكانت فيه أسماء الرجال فألقيت وإنما الاسم الواحد في وجوه لا تحصى تعرف ذلك الوصاة ) (2) .
 
وفي كتاب سليم بن قيس : ( فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه علي عليه السلام : إني لمشغول وقد آليت نفسي يمينا أن لا أرتدي رداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه ، فسكتوا عنه أياما فجمعه في ثوب واحد وختمه ، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله ، فنادى علي عليه السلام بأعلى صوته : يا أيها الناس ، إني لم أزل منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد ، فلم ينزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وآله آية إلا وقد جمعتها ، وليست منه آية إلا وقد جمعتها وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وعلمني تأويلها ، ثم قال لهم علي عليه السلام : لئلا تقولوا غدا إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم قال لهم علي عليه السلام : لئلا تقولوا يوم القيامة إنى لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي ، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته ، فقال عمر : ما أغنانا ما معنا من القرآن عما تدعونا إليه ثم دخل علي عليه السلام بيته ) (3) .
  وفي الاحتجاج : ( فلما رأى علي عليه السلام غدرهم وقلة وفائهم لزم بيته واقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه ، فلم يخرج حتى جمعه كله فكتبه على تنـزيله والناسخ والمنسوخ ، فبعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه إني مشغول فقد آليت بيمين إن لا ارتدى برداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه ، فجمعه في ثوب وختمه ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه واله فنادى عليه السلام بأعلى صوته : أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله صلى الله عليه واله مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب ، فلم ينـزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وقد جمعتها كلها في هذا الثوب ، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى عليه وآله و أعلمني تأويلها ، فقالوا : لا حاجة لنا به عندنا مثله ) (4) .

--------------------
(1) الكافي ج 2 ص 633 ، لا يخفى عليك أن المقصود من جملة (كما أنزله الله) أي القرآن مع تنـزيله وتفسيره الذي نزل به جبريل عليه السلام وقد مر الكلام مفصلا .
(2) بصائر الدرجات ج 1 ص 195 ـ 196 ح 6.
(3) كتاب سليم بن قيس ص 146 ـ 147 تحقيق محمد باقر الأنصاري .
(4) الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص107 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 253 _
  وعن البحار : " في رواية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله جمع علي عليه السلام القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم كما قد أوصاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم ، فوثب عمر وقال : يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه ، فأخذه علي عليه السلام وانصرف ثم أحضروا زيد بن ثابت وكان قاريا للقرآن ، فقال له عمر : إن عليا جاءنا بالقرآن ، وفيه فضائح المهاجرين والأنصار : وقد رأينا أن نؤلف القرآن ونسقط منه ما كان فيه فضيحة وهتك للمهاجرين والأنصار ، فأجابه زيد إلى ذلك ثم قال : فان أنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علي القرآن الذي ألفه أليس قد بطل ما قد عملتم ؟ قال عمر : فما الحيلة ؟ قال زيد أنتم أعلم بالحيلة ، فقال عمر : ما حيلة دون أن نقتله ونستريح منه ، فدبر في قتله على يد خالد بن الوليد ، فلم يقدر على ذلك ، وقد مضى شرح ذلك ، فلما استخلف عمر سأل عليا عليه السلام أن يدفع إليهم القرآن فيحرفوه فيما بينهم ، فقال : يا أبا الحسن ! إن جئت بالقرآن الذي كنت جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه ، فقال علي( عليه السلام) : هيهات ليس إلى ذلك سبيل ، إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم ولا ( تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) ( الأعراف / 172 ) ، أو تقولوا ما جئتنا به ، إن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي ، فقال عمر : فهل وقت لإظهاره معلوم ؟ قال علي ( عليه السلام ) : نعم إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه فتجري السنة عليه ) (1) .
  أقول : الروايات في هذا المجال متفقة على معنى واحد وهو عرض الأمير عليه السلام مصحفه على القوم ورفضهم له لما فيه من مثالبهم وفضائحهم ، وبالجمع بين الأدلة يتضح أن تلك الفضائح كانت بذكر أسمائهم ولم تكن إلا من باب التفسير والتنـزيل ، ومن جهة أخرى كان في القرآن ـ بالمعنى المجازي ـ من فضائل أهل البيت عليهم السلام الشيء الكثير لاختصاصهم عليهم الصلاة والسلام بكثير من الآيات القرآنية وكذا ذكر عدوهم وصفاتـهم ، لذا روي عنهم عليهم السلام أنـهم قالوا :
  ( نزل القرآن على أربعة أرباع : ربع فينا ، وربع في عدونا ، وربع في فرائض وأحكام ، وربع سنن وأمثال ، ولنا كرائم القرآن ) (2) .
  ونعلم بذلك معنى ما روي عنهم عليهم السلام مرسلا : ( لو قد قرئ القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين ) (3) ، لأنه احتوى التنـزيل ، فالقرآن كما أنزل ـ أي بما يحتوي من التنـزيل ـ كان كبير

--------------------
(1) بحار الأنوار ج 98 ص 42 ـ 43.
(2) بحار الأنوار ج 98 ص 114 ح 1 عن تفسير العياشي.
(3) بحار الأنوار ج 98 ص 55 ح 24 نقلا عن تفسير العياشي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 254 _
  الحجم ، وهذه هي صفة المصحف الذي جاء به أمير المؤمنين عليه السلام لهم في روايات أهل السنة ، وحتما هذا القرآن بآياته وتنـزيله لم يجمعه أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام ومنه إلى بقية الأوصياء عليهم السلام ، لذا روي عنهم عليهم السلام قولهم : ( ما يستطيع أحد أن يدعي أنه جمع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء ) (1) ، وكذا روي : ( ما من أحد من الناس يقول : إنه جمع القرآن كله كما أنزل الله إلا كذب ، وما جمعه وما حفظه كما أنزل الله إلا علي ابن أبي طالب عليه السلام والأئمة من بعده عليهم السلام ) (2) ، ونسأل الله أن يرزقنا النظر في هذا التنـزيل بأعيننا ، آمين رب العالمين .
  * النـتيجـة :
  سُدَّ باب العلم على الأمة بإطفاء نور التفسير الذي جمعه الإمام علي عليه السلام ردف النصوص القرآنية ، فقد ردوا مصحفا شمل كل النازل من السماء ويتميز بأن نصوصه القرآنية وتنـزيله كانت إملاء من رسول الله وتدوينا من الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما ، وهذا لا يعني أنه جمع في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما أملاه صلى الله عليه وآله وسلم في زمنه على الإمام علي عليه السلام في قطع من الأوراق والرقاع ومن ثم عمل على جمعه عليه السلام فيما بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، قال في البحار : ( أخبر أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وآله قال : في مرضه الذي توفي فيه لعلي بن أبي طالب عليه السلام : يا علي هذا كتاب الله خذه إليك ، فجمعه علي عليه السلام في ثوب فمضى إلى منـزله ، فلما قبض النبي صلى الله عليه وآله جلس علي فألفه كما أنزل الله ، وكان به عالما .
  وحدثني أبو العلاء العطار والموفق خطيب خوارزم في كتابيهما بالإسناد عن علي بن رباح : أن النبي صلى الله عليه واله أمر عليا بتأليف القرآن فألفه وكتبه ، جبلة بن سحيم ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : لوثني لي الوسادة و عرف لي حقي لأخرجت لهم مصحفا كتبته وأملاه علي رسول الله صلى الله عليه واله ) (3) .

--------------------
(1) بحار الأنوار ج 98ص 88 ح 26.
(2) ن.م ح 27.
(3) بحار الأنوار ج 4 ص 155.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 256 _
  ولا حاجة للتذكير بأنه كانت هناك مصاحف أخرى في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غير هذا المصحف عند الصحابة ، ولكن خصوص هذا المصحف يتميز بوجود ما أملاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تفسير وتنـزيل .
  وبعد فترة جاءت حرب اليمامة فقتل القرّاء ، وروايات أهل السنة فيها أن ابن الخطاب أراد آية من كتاب الله فلم يجدها فسأل عنها فقيل له كانت موجودة عند فلان وقتل ! ، أخرج ابن أبي داود في المصاحف بسنده : ( أن عمر ابن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل : كانت مع فلان ، قتل يوم اليمامة ! فقال : إنا لله ! فأمر بجمع القرآن ) (1) .
  وهذا يعني أن ابن الخطاب التفت إلى جمع القرآن حينما فقدت آية منه ، وكان الفراغ الذي تولد من الإعراض عن مصحف الإمام علي عليه السلام يستدعي التفكير جديا في كتابة مصحف رسمي للأمة الإسلامية يتميز عن مصاحف الصحابة بكونه محفوظا عند الخليفة ليرجع له حال فقدان قرّاء القرآن في المواطن والحروب ، واشترط فيه حذف التنـزيل وإلقاء التفسير النازل من السماء بتجريده وجعله نصوصا قرآنية صرفة .
  فابتدأت الفكرة ، بتخطيط من ابن الخطاب كما تنص عليه روايات البخاري السابقة بعد يوم اليمامة ومقتل القرّاء ، ولم يتم مصحف الدولة هذا لا في زمن أبي بكر ولا في زمن عمر فمات إلى أن وصل إلى حفصة على هيئة قصاصات ورق مشتتة مبعثرة ، فلم يجمع هذا المصحف الرسمي ولم ير النور، مع وجود مصاحف كثيرة مبثوثة بين الصحابة ولا سيما المصحف الذي أملاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخُط بيد الإمام علي عليه السلام ، ولكن ماذا نفعل والقيادة آنذاك حكيمة !

الشيعة والجمع الثاني للقرآن :
  * سبب هذا الجمع ؟
بقيت تلك القصاصات بلا جامع ولا ناظم إلى أن قتل ابن الخطاب فاستودعت في بيت حفصة ابنته ، وكما ذكرنا سابقا فالمسلمون لم يروا تلك الأوراق ولم يطلعوا عليها ، وكان أغلبهم يمتلك مقاطع من المصحف مع وجود مصاحف خاصة كاملة لأكابر الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب وأبي موسى وغيرهم .
  ولكن مع طول الزمن و بُعد العهد وانفراد كل واحد بمصحفه يقرأ ويكتب بلا رقيب وحسيب ، حدث بعض التلاعب والتغيير في المصاحف فكان هذا يقرأ بشكل وهذا يبدل كلمة مكان أخرى بدعوى أن المعنى واحد ! (2) ، ويوما بعد يوم زادت هوة الاختلاف بين وجوه الصحابة في قراءة القرآن حتى قيل هذه ( قراءة فلان ) وهذه ( قراءة فلان ) ، مع أن القرآن واحد ، نزل من عند الواحد .
  أخرج ابن أبي داود بسنده : ( عن أبي الشعثاء قال : كنا جلوساً في المسجد وعبد الله يقرأ فجاء حذيفة فقال : قراءة ابن أم عبد ! وقراءة أبي موسى الأشعري ! والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين يعني عثمان لأمرته بجعلها قراءة واحدة ، قال : فغضب عبد الله ، فقال لحذيفة كلمة شديدة ، قال : فسكت حذيفة ! ) (3) .
  ( عن يزيد بن معاوية : قال إني لفي المسجد زمن الوليد بن عقبة في حلقة فيها حذيفة وليس إذ ذاك حجزة ولا جلاوزة إذ هتف هاتف : من كان يقرأ على قراءة أبى موسى فليأت الزاوية التي عند أبواب كندة ! ومن كان يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود فليأت هذه الزاوية التي عند دار عبد الله ! واختلفا في آية في سورة البقرة قرأ هذا ( وأتموا الحج والعمرة للبيت ) وقرأ هذا ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) ( البقرة / 196 ) ، فغضب حذيفة واحمرت عيناه ثم قام وذلك في زمن عثمان فقال : إما أن تركب إلى أمير المؤمنين وإما أن أركب ، فهكذا كان من قبلكم ! الخ ) (4) .
  وبطبيعة الحال عُلّم هذا الاختلاف والتفاوت للصبيان والنساء ، إذ أن بعض كبار القراء كانوا يعلمون الناس الاجتهاد في قراءة النص القرآني وكان ابن مسعود يقول إن الألفاظ المترادفة في المعنى لا ضير في تبديلها ! ، وقد روي أنه قال : ( سمعت القرّاء ووجدت أنّهم متقاربون ، فاقرأوا كما علمتم ـ أي كيفما علَّمكم المقرئ ـ فهو كقولكم : هلمَّ وتعال ) (5) ، وروي عنه أيضا قوله : ( إنّه ليس من الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم ، الحكيم ، بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب ) (6) ، وروي أنه كان

--------------------
(1) تاريخ القرآن للكردي الخطاط ص 25 .
(2) وهو ابن مسعود ومن التف حوله .
(3) كتاب المصاحف ج 1 ص 189 تحقيق محب الدين واعظ .
(4) كتاب المصاحف ج 1 ص 185 .
(5) معجم الأدباء للياقوت ج 4 ص 193 ت 33 و الإتقان ج 1 ص 47 والنشر في القراءات العشرج 1 ص 21 ، لاحظ أنه لم ينسبها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(6) التفسير الكبير للرازي ج 1 ص 213 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 257 _
  يقول : ( إلياس هو إدريس ، فقرأ : ( وإن إدريس لمن المرسلين ) ، وقرأ : ( سلام على إدراسين ) (1) وسيأتي الكثير من هذا الاجتهاد إن شاء الله تعالى .
  وعوام الناس الملتفون حول هؤلاء القراء حسبوا أن القرآن نزل بالشكل الذي يقرؤه شيخهم في القراءة وأن غير هذا ليس بقرآن ، وهذا المتوقع لأن شيخ القراءة لن يقول إن قراءته اجتهاد منه في كتاب الله عز وجل ! وبانتشار القراءات المختلفة بين الناس ، وتعصب جماعة لقراءة ابن مسعود وجماعة لقراءة أبي موسى وجماعة لقراءة أبي الدرداء ، آل الأمر إلى حصول التناحر والتكفير بين العوام حتى قال بعضهم لبعض : كفرت بما تقرأ ! ، فعصفت ريح التكفير الغبِرة في الكوفة والشام والبصرة والمدينة ووصل التكفير للثغور كما هي رواية البخاري .

منذ متى بدأ التلاعب في كتاب الله
  ظاهر الروايات يقول أن التلاعب ابتدأ بعد زمن النبوة بفترة وجيزة جدا ، فإن الإمام علي عليه السلام حينما أراد جمع قرآن يكون مرجعا للأمة كان يعلل ذلك بأنه رأى كتاب الله يزاد فيه ، لكن هذا التلاعب لم يكن على مستوى فتنة تستدعي خرقا أو حرقا كما حدث في زمن عثمان .
  فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف : " أخبرنا ابن عون عن محمد قال : لما استخلف أبو بكر قعد علي في بيته فقيل لأبي بكر فأرسل إليه : أكرهت خلافتي ؟ قال لا لم أكره خلافتك ، ولكن القرآن يزاد فـيه ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم جعلت عليَّ أن لا أرتدي إلا إلى الصلاة حتى أجمعه للناس ، فقال أبو بكر : نعم ما رأيت ) (2) ، فكانت هذه الزيادات قريبة العهد من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
  من أول من دعا لتوحيد المصاحف ؟
  عندما جاء أمير المؤمنين عليه السلام للقوم بمصحفه الشريف أراد منهم أن يجعلوه القرآن الرسمي للدولة ويتبعه المسلمون ويعتمدوه فيوحدوا عليه مصاحفهم ، فهو إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه من التنـزيل ما لا يوجد في غيره إلا القليل ، ولكن حينما رفضوا مصحفه ونبذوه وراء ظهورهم لم يكتف أمير المؤمنين عليه السلام بـهذا الحد بل حاول نزع فتيل الفرقة والاختلاف بالدعوة لتوحيد المسلمين تحت أي مصحف آخر يؤدي الغرض وإن لم يشتمل على التنـزيل والتفسير بشرط

--------------------
(1) جامع البيان للطبري ج 23 ص 96 ، وهذه الموارد الثلاثة السابقة نقلا عن تلخيص التمهيد ص 148 .
(2) المصنف لابن أبي شيبة ج 7 ص 204.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 258 _
  الحفاظ على النص القرآني ، وكان يشتد قلقه عليه السلام على القرآن وهو يزاد فيه وينقص يوما بعد يوم باجتهادات من فلان ورأي من فلان آخر ، فقد جاء أمير المؤمنين إلى ابن الخطاب زمن تأمره على الناس وأشار الأمير عليه السلام على ابن الخطاب بجمع نسخة واحدة من القرآن تكون رسمية للدولة وعلى إثر ذلك تتوحد وتلتف حولها جماهير المسلمين وتعتمدها الدولة وترعاها لما لها من تسلط على الناس ، من باب إن الله يزع في السلطان ما لا يزع في القرآن ، فاستجاب ابن الخطاب للفكرة ، لكنه سريعا ما قتل ، وركدت تلك الحركة وقتلت في مهدها ، ومن الطبيعي أن تزداد اختلافات القراء واجتهادات السلف في نصوص القرآن مع طول المدة ، فجاء أمير المؤمنين عليه السلام لابن عفان ثالث القوم بعد أن جاء أول مرة حين أعطاهم الكتاب كاملا وثانيا زمن عمر حينما طرح الفكرة عليه وهاهي الثالثة لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا .
  وهذا ما أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة : ( بسنده عن سوار بن شبيب قال : دخلت على ابن الزبير في نفر فسألته عن عثمان ، لم شقق المصاحف ، ولم حمى الحمى ؟ فقال قوموا فإنكم حرورية ، قلنا : لا والله ما نحن بحرورية ، قال : قام إلى أمير المؤمنين عمر رجل فيه كذب وولع ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الناس قد اختلفوا في القراءة ، فكان عمر رضي الله عنه قد هم أن يجمع المصاحف فيجعلها على قراءة واحدة ، فطعن طعنته التي مات فيها ، فلما كان في خلافة عثمان قام ذلك الرجل فذكر له ، فجمع عثمان المصاحف ) (1) .
  ولا نجد من الشخصيات الموجودة في ذلك العصر من يتوقع أن ينبزه ابن الزبير وينعته بالكذب والولع غير علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بغضه نفاق وحبه إيمان (2) ، والذي يؤيد ذلك أن هذه الفكرة العظيمة التي صدرت من هذا الشخص وسبقه بـها ومجيئه إلى عمر مرة وإلى عثمان مرة أخرى

--------------------
(1) تاريخ المدينة ج 3 ص 990 ، وسيأتي أن مصحف عائشة لم يكن مطابقا للمصحف المتداول .
(2) فقد اشتهر ابن الزبير بعداوته وحقده على بني هاشم وبالأخص على سيّدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام وهذا واضح لمن راجع التاريخ وكمثال ننقل ما ذكره المسعودي في مروج الذهب ط ، كتاب التحرير بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ذكر في ص 59 : ( وكان ابن الزبير عمد إلى من بمكة من بني هاشم فحصرهم في الشعب و جمع لهم حطباً عظيماً لو وقعت فيه شرارة من نار لم يسلم من الموت أحد ، وفي القوم محمد بن الحنفية )
  وقال في ص 62 : ( وذكر عمر بن شبة النميري عن مساور بن السائب أن ابن الزبير خطب أربعين يوما لا يصلى على النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وقال : لا يمنعني من أن أصلي عليه ألا تشمخ رجال بآنافها ) ، وقال فيها أيضا : ( فقال ابن الزبير : إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة … وحدّث النوفلي في كتابه في الأخبار عن الوليد بن هاشم المخزومي قال : خطب ابن الزبير فنال من عليّ ، فبلغ ذلك ابنه محمد بن الحنفية فجاء حتى وضع له كرسي قدامه ، فعلاه وقال : يا معشر قريش ، شاهت الوجوه ، أينتقص عليّ وأنتم حضور ؟! ) اه ، ويكفي أنه جرّ أبيه لمقاتلة إمام زمانه في معركة الجمل وكان يستثيره ويحرضه بل يجبنه حتى يقدم على القتال والقصة مفصلة فراجع .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 259 _
  ومع ذلك لا ينسب التاريخ له هذه الفضيلة ولا يثبتها له يشعرنا أن هذه الشخصية مهضومة الحق وأن التاريخ يقف منها موقفا سلبيا ولا نجد في ذلك الزمن من هذه صفته سوى الإمام علي عليه السلام .
  وقد نص السيد ابن طاووس رضوان الله تعالى عليه على أن جمع عثمان للمصحف إنما كان برأي أمير المؤمنين عليه السلام ، قال في سعد السعود : ( ثم عاد عثمان جمع المصحف برأي مولانا علي بن أبي طالب ، وأخذ عثمان مصحف أبي وعبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة فغسلها غسلا ) (1) .
  ففي تلك الأثناء جاءت أنباء ما لا يحتمل التأخير ، وهو التكفير علانية والفتنة على أشدها في الأمصار بسبب اختلاف القراءة ، والذي أخرج الفكرة من طور التنبيه إلى طور التنفيذ والعمل مجيء الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضوان الله تعالى عليه من الثغور وجبهات القتال إلى المدينة ، فنبه حذيفة عثمان لهذا الأمر حتى يدراك هذه الأمة قبل أن تقتتل وتنهار بسبب اختلاف القرّاء والتكفير الناشئ منه ، وهذا ما أخرجه البخاري ، والحق إن حذيفة رضوان الله تعالى عليه قد عانى من بعض الصحابة كابن مسعود صاحب نظرية التوسعة في ألفاظ القرآن إذ قال له حينما أراد إبلاغ عثمان بـهذا الأمر : ( أما والله لئن فعلت ليغرقنك الله في غير ماء ، قال شاذان : في سقرها ) (2) ، وقال له أيضا : ( إذا تغرق في غير ماء ) ، يقصد ابن مسعود أن لو فعل حذيفة ذلك يغرقه الله في النار ! ولكن حذيفة لم يستمع للغة التهديد والوعيد وآثر طاعة الله عز وجل.
  ‌‌وهو ما قاله الشيخ الكوراني حفظه الله تعالى في تدوين القرآن : ( هذا النص يدل على أن ذلك الشخص الذي يكرهه عبد الله بن الزبير ويصفه بأنه ( فيه ولع وكذب ) كان يسعى الى توحيد المصاحف وكان من زمن عمر يشكو لعمر ظاهرة اختلاف المسلمين في قراءة قرآنـهم بسبب عدم وجود نسخة رسمية للدولة ، وأن اللازم على الدولة أن تقوم بـهذه المهمة وتسد هذا الفراغ ، وقد وافق عمر مبدئيا على رأي هذا الرجل السئ ولكنه قتل قبل أن ينفذه ، ثم يتابع عبد الله بن الزبير : ولكن هذا الشخص السئ نفسه واصل مسعاه مع الخليفة عثمان ونجح في هدفه ، فمن هو هذا الشخص الحكيم الحريص على قرآن المسلمين ، الذي حاول مع الخليفة عمر حتى أقنعه بخطورة ظاهرة الاختلاف في

--------------------
(1) سعد السعود ص 278 ، ط الحيدرية في النجف ، الأولى .
(2) كتاب المصاحف ج 1 ص 189 تحقيق محب الدين واعظ .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 260 _
   القراءات وأن تبرير ذلك بنظرية الأحرف السبعة لم يحل المشكلة ولم يمنع نموها ؟ ! ثم واصل مسعاه مع الخليفة عثمان محذرا من تفاقم مشكلة اختلاف الناس في نصوص القرآن ، وأن حلها فقط بتدوين القرآن على حرف واحد ؟ ! الذي يعرف عبد الله بن الزبير ، يعرف أنه يقصد عليا عليه السلام ، لأن ابن الزبير كان يكره عليا وشيعته حتى العظم ، بل روي عنه أنه ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله حتى لا يشمخ على وآل محمد بأنوفهم على حد تعبير ابن الزبير ! ! فالشخص الذي كان وراء توحيد نسخة القرآن إذن هو علي بن أبي طالب عليه السلام ، ومجئ حذيفة وأصحابه من قادة الفتح من أرمينية الى المدينة كان أوج هذه الحركة لقطف ثـمرتـها المباركة ! ) (1) .
  * الـهدف منه :
  لا نشك أن الهدف من توحيد المصاحف هو توحيد المسلمين والتفافهم حول مصحف واحد لا زيادة فيه ولا نقصان ، ومن ثم نشره في أرجاء المعمورة على أهل لا إله إلا الله ، درءاً للفتنة التي زرعها بعض السلف ممن زادوا في كتاب الله جملا معترضة وقراءات شاذة بجهل أو استمزاج أو اجتهاد متعمد ، ومنعاً لفتنة قد تخرج في زمن لاحق وحرصا على أن يكون للقرآن قسطاس يقاس به الصحيح منه من السقيم ، هذا كل ما في الأمر لا كما يزعم أهل السنة من أن عثمان قام بإحراق ستة أضعاف القرآن وهي الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن من السماء !
  وقد خالف ابن حزم رأي بني جلدته ووافق الشيعة على عدم صحة حذف عثمان لأحرفٍ من القرآن ورأى أن عمله كان إجراء وقائيا للأمة بتوحيدهم على مصحف واحد : ( وأما قولهم كذا فباطل ، ما كان يقدر على ذلك لما ذكرناه ، ولا ذهب عثمان قطّ إلى جمع الناس على مصحف كتبه وإنما خشي (رض) أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين أو أن يَهِم واهم ، فيكون اختلاف يؤدَّي إلى الضلال فكتب مصاحفا مجتمعا عليها ، وبعث إلى كل أفق مصحفا ، لكي إن وَهِمَ واهِم أو بَدَّل مبدّلٌ رُجع إلى المصحف المجتمع عله فانكشف الحقُّ وبطل الكيد والوهم ) (2) .
  وقال في الإحكام : ( ونحن نبين فعل عثمان رضي الله عنه بيانا لا يخفى على مؤمن ولا على كافر هو أنه رضي الله عنه علم أن الوهم لا يعزى منه بشر وأن في الناس منافقين يظهرون الإسلام ويكنون الكفر هذا أمر يعلم وجوده في العالم ضرورة فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين ولا فرق إلا أنها نسخت بحضرة الجماعة فقط ، ثم بعث إلى

--------------------
(1) تدوين القرآن ص 315 .
(2) الفصل في الملل والنحل ج 2 ص 77.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 261 _
  كل مصر مصحفا يكون عندهم فإن وهم واهم في نسخ مصحف تعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف أو في القراءة رجع إلى المصحف المشهور المتفق على نقله ونسخه ، فعلم أ الذي فيه هو الحق ، وكيف يقدر عثمان على ما ظنه أهل الجهل ؟ (1) والإسلام قد انتشر من خراسان إلى برقة ومن اليمن إلى أذربيجان وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف وليست قرية ولا حِلَّة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها ، يعلمونه من تعلمه من صبي أو إمرأة ويؤمهم به في الصلوات في المساجد ) (2) .
  وقال في موضع آخر : ( وقد غلط قوم غلطا شديدا وأتوا بأخبار ولدها الكاذبون والملحدون منها أن الداجن أكل صحيفة فيها آية متلوة فذهب البتة ، ومنها أن قرآنا أخذه عثمان بشهادة رجلين وشهادة واحدة ، ومنها أن قراءات كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم أسقطها عثمان وجمع الناس على قراءة واحدة ، قال أبو محمد ـ ابن حزم ـ : وهذا كله ضلال نعوذ بالله منه ومن اعتقاده ) (3) .
  قال محمد فريد وجدي : ( قد ثبت أن عثمان أمير المؤمنين ما نسخ مصاحف من مصحف أبي بكر (4) إلا لما بلغه أن الناس اختلفوا في قراءة القرآن فزاد بعضهم فيه ألفاظاً تفسيرية وصحف الآخرون ألفاظاً أخرى حتى أخرجوها عن معناها ) (5) .
  * كيفيتـه :
  روايات أهل السنة متضاربة أشد التضارب في بيان هذا الجمع فلا رواية إلا ويوجد ما يعارضها ويعكر صفو فهمنا لها ، حتى قال السيد مصطفى الخميني رضوان الله تعالى عليهما :
  ( وبالجملة كل ذلك يشهد على أن تأريخ القرآن مضطرب جدا ، والاطلاع على واقع الأمر مما لا يكاد يحصل للمنصف الملاحظ أطراف القضية وخصوصيات الأمر ) (6) .
  ولكن هناك خطوط عامة تذكرها الروايات منها أن هناك عدة من الكتبة الذين نسخوا المصحف العثماني ، وكان فيهم الرجل الذي أملى مصحف أبي بكر من قبل وهو سيد القراء أبي بن كعب وهذا ذكره عدة من حفاظ أهل السنة :

--------------------
(1) للأسف هم أغلب أهل السنة !
(2) الإحكام في أصول الأحكام المجلد الأول ج 4 ص 566 ـ 567 ط دار الكتب العلمية .
(3) الإحكام لابن حزم ج 4 ص 479.
(4) اتضح فيما سبق أن مصحف أبي بكر لم يفرغ منه ولم يتم .
(5) دائرة معارف القرن العشرين ج 3 ص 707 ، للأستاذ محمد فريد وجدي .
(6) تحريرات في الأصول ج 6 ص 328.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 262 _
  ( أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وابن الضريس في فضائله وابن أبى داود في المصاحف وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والخطيب في تلخيص المتشابه والضياء في المختارة من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب : إنـهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر ، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب ) (1) .
  ومن الواضح أن وجود شخص كهذا له خبرة سابقة في هذا الأمر لن يترك لغيره مجالا ليملي المصحف وهكذا كان ، فصار أبي بن كعب يملي على الكتبة مصحفا جمع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا تدل عليه بعض الروايات : أخرج ابن أبي داود في المصاحف : ( عن محمد بن سيرين قال : جمع عثمان للمصحف إثني عشر رجلا من المهاجرين والأنصار منهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت ) (2) .
  والرواية السابقة هذا نصها الذي أخرجه ابن أبي داود : ( عن أبي العالية عن أبي بن كعب : أنـهم جمعوا القرآن من مصحف أبيّ ، فكان رجال يكتبون يملي عليهم أبي بن كعب ) (3) ، والحق إن مصحف أبي بن كعب هو خير مصحف بعد مصحف الإمام علي عليه السلام يمكننا الوثوق به لأن أبي بن كعب هو سيد القراء وله خبرة في إملاء المصحف لأنه أملى المصحف الخاص بأبي بكر ، وأيضا فإن قراءة أبي بن كعب هي قراءة أهل البيت عليهم السلام كما في رواية الكافي :
  ( عن عبد الله بن فرقد والمعلى بن خنيس قالا : كنا عند أبي عبد الله عليه السلام ومعنا ربيعة الرأي فذكرنا فضل القرآن ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضال ، فقال ربيعة : ضال ؟ فقال : نعم ضال ، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام : أما نحن فنقرأ على قراءة أُبـيّ ) (4) ، وما يقوي هذا الرأي أن مصحف أبي بن كعب أكثر مصحف يوافق المصحف المتداول من بين مصاحف الصحابة ويكفي مراجعة كتاب المصاحف لابن أبي داود (5) .

--------------------
(1) الدر المنثور ج 3 ص 295 ـ 296 عن كتاب المصاحف ج 1 ص 227 ـ 228 ، مسند أحمد ج 5 ص 134 ، وكذا تفسير ابن كثير ج 2 ص 405 ، جمال القراء للسخاوي ج 1 ص 87 ، وكذلك المرشد الوجيز لأبي شامة ص 55 ـ 56 ، وكذا الإتقان ج 1 ص 173 .
(2) المصاحف ج 1 ص 221.
(3) المصاحف ج 1 ص 227.
(4) أصول الكافي ج 2 ص 634 ح 27 (فصل فضائل القرآن).
(5) والجدير بالذكر أن مصحف الإمام علي عليه السلام ـ الذي لم يكتب فيه التنـزيل ـ هو أقرب المصاحف الموجودة آنذاك إلى مصحفنا اليوم وأتقن من مصحف أبي أيضا ، لأنه لم يختلف مع المصحف العثماني في أي مورد ، ولا حتى في كلمة واحدة وقد أورد في كتاب المصاحف لابن أبي داود رواية فيها أن مصحف الإمام علي عليه السلام يخالف الموجود في مورد واحد فقط وهو ( آمن الرسول بما أنزل إليه وآمن المؤمنون ) بزيادة ( وآمن ) إلا أن المحقق ذكر أن الرواية ضعيفة بمن لا يحتج بحديثه منفردا وهو مسهر بن عبد الملك ولم يجد له =>

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 263 _
  ناهيك عن أنـهم عندما فرغوا من كتابة المصحف وجدوا فيه بعض الكلمات المبهمة فلم يراجعوا في كتابتها إلا أبي بن كعب وهذا يعني أنه المرجع في عملية الجمع والقيم عليها :
  ( أخرج ابن راهويه في مسنده وأبو عبيد في الفضائل وعبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن هانئ البربري مولى عثمان قال : لما كتب عثمان المصاحف شكوا في ثلاث آيات فكتبوها في كتف شاة وأرسلوني بـها إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت فدخلت عليهما فناولتها أبي بن كعب فقرأها فوجد فيها ( لا تبديل للخلق ذلك الدين القيم ) فمحا بيده أحد اللامين وكتبها ( لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) ( الروم / 30 )، ووجد فيها ( أنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنن ) فمحا النون وكتبها ( لَمْ يَتَسَنَّهْ ) ( البقرة / 259 )، وقرأ فيها (فأمهل الكافرين ) فمحا الألف وكتبها ( فَمَهِّلِ )( الطارق / 17 )، ونظر فيها زيد بن ثابت ثم انطلقت بـها إلى عثمان فأثبتوها في المصاحف كذلك ) (1) .
  ثم إن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه كان المتصدي الثبت الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ، إذ أراد الجامعون تبديل أحرفا من القرآن فصمد لهم وهددهم بإشهار سيفه لو لم يكتبوها كما هي ، فتنازل الجامعون عن هذه الفكرة المنحرفة بحزم أبي رضي الله تعالى عنه وصلابته في ذات الله عز وجل ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه كان يلحظ ويراقب ما يدور بين جماع القرآن .
  ( أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : لما أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) ( التوبة / 34 )، قال لهم أُبيّ رضي الله عنه : لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي ، فألحقوها ) (2) .
  => متابعا ، فلا يعتمد عليها ، ويشد من أزر هذا الاحتمال أن قراءة عاصم براوية حفص وهي التي عليها المصحف العثماني ترجع في أساسها ومصدرها إلى الإمام علي عليه السلام وسيأتي الكلام عنه مفصلا ، قال في سير أعلام النبلاء ج 2 ص 426 ( عن حفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمن قال : لم أخالف عليا في شيء من قراءته ، وكنت أجمع حروف عليًّ ، فألقى بـها زيدا في المواسم بالمدينة فما اختلفنا إلا في التابوت كان زيد يقرأ بالهاء وعليٌّ بالتاء ) ، وعليه فالقول بأن المملي هو أبي بن كعب والمصحف المملى منه هو مصحف الإمام علي عليه السلام أقرب الأقوال لأن مصحف حفصة يختلف في موارد كثيرة عن المصحف العثماني وكذلك مصحف عائشة وعمر وابن مسعود فراجع كتاب المصاحف تجده جليا ،

--------------------
(1) الدر المنثور ج 1 ص 333 ، لاحظ أن الورقة أعطيت أولا لأبي بن كعب فمحا الخطأ من نفسه دون استشارة زيد بن ثابت ، ومن الإجحاف بحق سيد القراء أن يقارن بشاب حدث السن كزيد !
(2) الدر المنثور ج 3 ص 232 ، من قرأ التاريخ يعلم من يقف وراء حذف هذه الواو من الآية ، فإن حذف الواو يجعل هذه الآية وصفا لليهود والنصارى ومع وجودها لا تختص بـهم بل تشمل المسلمين أيضا ، فمن يا ترى المستفيد من حذف هذه الواو غير الذي كان يكنز الذهب والفضة والذي بيده سلطة التأثير على الجامعين للقرآن ؟! ، حتى أن معاوية في الشام قد طرد أبا ذر منها لأنه كان يردد هذه الآية بالذات وبل إن معاوية كان يقول له إنـها نزلت في أهل الكتاب وأبو ذر يقول إنـها فينا وفيهم .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 264 _
  وأبي بن كعب كانت له مواقف مشرفة في الوقوف أمام مخطط ابن الخطاب ، ومن ذلك عندما أنكر عمر قراءة آية كريمة فصمد له أبي بن كعب وبعد طول أخذ ورد رضخ ابن الخطاب لأبي بن كعب رضي الله عنه :
  " عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر بن الخطاب قرأ ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) ( التوبة / 100 )، فرفع الأنصار ، ولم يلحق الواو في الذين ، فقال له زيد بن ثابت ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) فقال عمر ( الذين اتبعوهم بإحسان ) فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم ، فقال عمر : ائتوني بأبي بن كعب ، فسأله عن ذلك فقال أبي ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) فجعل كل واحد منهما يشير إلى أنف صاحبه بإصبعه فقال أبي : والله أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وأنت تتبع الخبط ، فقال عمر : فنعم إذن فنعم نتابع أبيا ) (1) .
  وكذا في رواية أخرى ( لقد أنزلها الله على جبريل و أنزلها جبريل على محمد فلم يستأمر فيها الخطاب و لا أبنه ! ).
  وموقف آخر له مع ابن الخطاب : ( عن أبي مجلز : أن أبيا قرأ ( مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ ) ( المائدة / 107 ) ، فقال عمر رضي الله عنه : كذبت ، فقال أبي : بل أنت أكذب ، فقال له رجل : أتكذب أمير المؤمنين ؟ فقال : إنا أشد تعظيما لأمير المؤمنين منكم ، ولكني أكذبه في تصديق الله ولا أصدقه في تكذيب كتاب الله فقال عمر : صدق ) (2) .
  هذه المواقف دالة على أن أبي بن كعب تحمل المتاعب في سبيل إثبات نصوص القرآن على ما هي عليه ووقف أمام التلاعب فيها ، وهذه المواقف تركز في نفوسنا المعنى الذي ذكرناه سابقا من أن دخول أبي بن كعب في الجامعين يلغي دور غيره ممن حضر الجمع لأنه سيد القراء وذو الحمية على كتاب الله وقد شاهد الصحابة صموده أمام شدة عمر في أكثر من مورد ، فرضي الله تعالى عنه .
  وبعد أن أتـموا الكتابة أرسلوا بالمصاحف إلى الأقطار الإسلامية ، وقيل عددها سبعة مصاحف فبعث ابن عفان واحداً لمكة ومثله للشام وكذا لليمن وللبحرين وللبصرة وللكوفة ، وحبس أحدها في المدينة (3) ، وهكذا نزع فتيل الفرقة والاختلاف بين المسلمين بإعدام تلك المصاحف التي دونت فيها الزيادات والتي كانت مسرحا للاجتهادات والآراء ، وستأتي نماذج منه بإذنه تعالى .
  خلاصة نظرة الشيعة في الجمعيـن :
  القرآن قد جمع في عدد من المصاحف في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحت نظره وإشرافه وتم جمع المصحف في آخر حياته صلى الله عليه وآله وسلم وانتشرت المصاحف بما يقطع السبيل أمام إسقاط أي حرف من أحرفه فضلا عن آية من آياته (4) .
  وفي الفترة من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن ابن عفان هناك من زاد برأيه في كتاب الله عز وجل وغيّر وبدل ، وكانت الأمور تزداد سوء يوما بعد يوم بسبب ما ينسب للقرآن مما ليس منه عن جهل أو عن عمد واجتهاد ، ولقد تداركه الله برحمته إذ كفّل به رجالا مؤمنين حضوا على صيانته ودافعوا ونافحوا عنه فمنهم من جاء مرة ومرات ولم يعر له اهتمام من قبل السلطة وهو أمير المؤمنين عليه السلام ، ومنهم من وقف في وجه تيار التلاعب وتبديل الألفاظ بمرادفاتـها وهو حذيفة بن اليمان وأبي بن كعب وغيرهم فرضي الله تعالى عنهم ، حتى أملوا المصاحف من مصحف جمع في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
  * زبد المخاض :
  هذه النظرة لجمع القرآن لا يمكن أن يتطرق إليها أي شك في صيانته من التحريف ، كيف لا ؟! والقرآن قد جمع في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانتشر واشتهر ، وفي الجمع الثاني اعتمد على أتقن تلك المصاحف ونسخ بنسخ عدّة .
  بخلاف نظرة أهل السنة الذين يرون أن القرآن ترك مبعثرا مشتتا هنا وهناك ، وبعضه في صدور الرجال حتى قال أحدهم إن كل سورة من الطوال كانت تجمع في حجرة كبيرة ! ( إلا أنه لعدم توافر الورق كانوا يكتبون على عظام أكتاف الجمال وأضلاعها (!) وقطع الجلود وجريد النخل ونحوها وكان المسلمون ينقلون السور في مثل هذه الأشياء المتفرقة الكبيرة الحجم فكانت سورة البقرة مثلا لا تحفظ إلا في حجرة كبيرة (!) ) (5) .

--------------------
(1) في منتخب كنز العمال ج 2 ص 55 ، الدر المنثور ج 3 ص 269 .
(2) تاريخ المدينة ج 2 ص 709 ، وهي في الدر المنثور ج 2 ص 344 عن عبد بن حميد وابن جرير وابن عدى .
(3) راجع المصاحف ج 1 ص 242.
(4) هذا المعنى يمكن مراجعته في جُل ـ إن لم أقل كل ـ مصادر الشيعة التي تعرضت لجمع القرآن .
(5) التجويد وعلوم القرآن ص 12 ، عبد البديع صقر .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 266 _
  وقالوا إن القرآن ظل على هذه الحال إلى ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ، ثم تنبه الصحابة لما تركه الرسول صلى الله عليه وآله ، فجمع القرآن أصغرهم وأحدثهما سنا ، فجمع هذا الشاب كل ما أنزله الله تعالى من الأحرف السبعة ! ، على أن يأتي فلان بآية من سورة والآخر بآيات من سورة أخرى وهكذا ، ومع شهادة رجل آخر تدمج في المصحف على أنـها قرآن منـزل بدون تواتر ، ويعتقدون أن هذا الجمع قد سقطت منه آيتان من سورة براءة خفيت عليهم ولم يجمعوها ولم يتنبهوا لها إلا بعد ثلاث عشرة سنة ، ويرون أن بعض آيات القرآن تثبت بشهادة رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين .
  وقالوا إن عثمان بن عفان قد قام بجمع الناس على مصحف واحد وإلغاء ستة أضعاف القرآن الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته والذي جمعه زيد بن ثابت ، فقام بحرق ستة أمثال القرآن وأبقي واحدا منها وهو ما نحن عليه اليوم.
  وإلى هنا نترك الحكم للقارئ الكريم حتى يقيّم بإنصاف وعدل أي من هاتين النظرتين لجمع القرآن تعد طعنا في صيانة القرآن من التحريف .
  المبحث الثالث : القراءات القرآنية
  التعرض لمبحث القراءات القرآنية أمر مهم للوقوف على حقيقة القراءات الشاذة وما يلحق بـها من لوازم وأحكام ، وستكون كلمات علمائـهم حولها مقدمة لمبحث آخر سيأتي في التحريف الصريح بإذنه تعالى ، ومن جهة أخرى علينا فهم معنى القراءات القرآنية بصورة عامة وما يدور في فلكها من حيثيات ومتعلقات لتسليط الضوء على بعض افتراءات الوهابية التي نسجت على بعض فروع هذا المبحث لذلك سنطيل الكلام في تشقيقاته وتفريعاته ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ) ( النحل / 27 ) .
  * بـين يـدي البحـث
  ما هي القراءة ؟
  القراءة يقصد بـها في علوم القرآن وجها من محتملات النص القرآني (1) ، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما (2) :
  ( أنواع اختلاف القراءات ربما تفوق الحصر ، كالاختلاف في الحركات الإعرابية والبنائيّة ، والتقديم والتأخير ، والزيادة والنقصان ، والمد والقصر ، والتخفيف والتشديد ، والتّرقيق والتفخيم ، والإخفاء والإظهار ، والفك والإدغام ، والإمالة والروم والإشمام ، على اختلاف أنواعه ، وغير ذلك مما فصّلها كتب القراءات ، وحصل الاختلاف فيها بين أئمة القراّء السلف والخلف ) (3) .
  فالقراءة هي طريقة نطق وتأدية ألفاظ الآية ، ولأسباب معينة ـ يأتي ذكرها ـ حصل الاختلاف من قارئ لقارئ والنص القرآني على كل التقادير ثابت ، لكن البعض يقرأ ( مالِكِ يوم الدين ) والبعض يقرأها ( مَلِك يوم الدين ) والخط القرآني القديم هو (ملك يوم الدين ) ، واصطلح اسم ( القراءات السبع ) للدلالة على وجوه القراءات السبع المشهورة .

--------------------
(1) التمهيد للشيخ المحقق محمد هادي معرفة حفظه الله تعالى ج 2 ص 9.
(2) معجم القراءات القرآنية ج 1 ص 126 .
(3) تلخيص التمهيد ص 281 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 268 _
  * أصل القضية
  ما بـعد توحيد المصاحف على القراءة المتواترة
  قد مرّ سابقا أن عثمان أمر بجمع المصاحف المشوهة وحرقها فجُمع الناس على مصحف واحد مشتمل على قراءة الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتواترة ، وقلنا إن المصحف المتيقّن خلوه من التغيير والتبديل أي ما أخذ من لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو مصحف أبي بن كعب كما بيناه من كتاب المصاحف لابن أبي داود مسبقا ، فوُحّدت المصاحف عليه بالصورة المتداولة ، وأخذ الناس قراءتـهم من المصاحف التي بعث بـها عثمان إلى الأقطار الإسلامية ، وهي طبق الأصل في الجملة عن المصحف المجموع .
  قال في مناهل العرفان : ( إذا فعدد المصاحف التي نسختها لجنة توحيد المصاحف هي تسعة ، واحدة هي الأم أو الإمام ، كانت في المدينة ، والبقيّة أرسلت إلى مراكز البلاد وكان المصحف المبعوث إلى كل قطر يحتفظ عليه في مركز القطر ، يستنسخ عليه ويرجع إليه عند اختلاف القراء ، ويكون هو حجّة ، والقراءة التي توافقها تكون هي الرسميّة ، وكل نسخة أو قراءة تخالفها تعدُّ غير رسمية وممنوعة يعاقب عليها ، أما مصحف المدينة ( الإمام ) فكان مرجعاً للجميع بصورة عامة ، حتى إذا كان اختلاف بين مصاحف الأمصار ، فإن الحجّة هو المصحف الإمام بالمدينة ، فيجب أن يصحح عليه ، وروي أن عثمان بعث مع كل مصحف قارئاً يقرئ الناس على قراءة ذلك المصحف ) (1) .
  وانتهى تكفير سلفهم الصالح بعضهم لبعض ، وهدأ طعن بعضهم في قراءة بعض ، وصار المصحف المجموع هو مرجعهم في مطابقة ما بين أيديهم من المصاحف ، فمن أنقص من مصحفه حرفا زاده ، ومن زاد أنقصه ، وهكذا حتى حلّت الأزمة نوعا ما ، إلا أن بعضاً من سلفهم الصالح رفض تسليم مصحفه وأبى أن يقرأ كما يقرأ الناس ، كابن مسعود ومن معه من أهل الكوفة كما مرّ سابقا ، فكانت هذه بذرةً لنشوء مشكلة القراءات من جديد ، وأخطر منها فكرة جواز القراءة بالمعنى التي زرعها ابن مسعود في أذهان من التفوا حوله .
  أضف إلى ذلك أن عملية كتابة المصاحف العثمانية ونسخها لم تكن بتلك الدّقة التي تمنع الاختلاف فقد دوّن العلماء اختلافات في رسم المصاحف المرسلة إلى الأقطار ، وكان لها دور مهم في إثراء الاختلاف فيما بعد ، والذي أبقى على المشكلة تساهل ابن عفان في اللحن الذي ادعى وجوده في تلك المصاحف ، فحينما عرضت عليه المصاحف المنسوخة قال إن بـها لـحنا ، ولكن ستقومه العرب بألسنتها ! وهذا الإهمال أبقى الشرخ ووسع هوّة الاختلاف .

--------------------
(1) مناهل العرفان ج 1 ص 396 ـ 397 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 269 _
  ظهور المشكلة من جديد
  ومع كل الجهود لتوحيد المصاحف على قراءة واحدة ورسم واحد ، أخذت تطفو على السطح بوادر الاختلاف كلما بعُد الزمن أكثر فأكثر ، وهذا الأمر كان متوقّعا لكل من وقف على تلك البذور المذكورة سابقا .
  ومع ملاحظة الخط القديم الذي كتبت به المصاحف وسلبياته الكثيرة كان من المتوقع ألا يضبط الخط القراءة المتواترة بالدقّة المطلوبة ، نعم كان الخط يضبط حدود اختلاف القراءات ويضع حدودا حمراء كي لا تدخل الموارد التي تغاير ألفاظ القرآن تغايرا فاحشا ، وواضح أن هذا لا يحل المشكلة بل يبقى المجال مفتوحا لمن يجتهد داخل تلك الحدود .
  ومع مرور الوقت أخذ بعض السلف يشذّ عن القراءة المتواترة بين جمهور المسلمين مع من التف حوله من الناس ، وهؤلاء المجتهدون في قراءة القرآن راج لهم السوق ، واشتهرت قراءتـهم بين الناس من باب ( خالف تُعرف ) ، وقيل قراءة فلان ، وقراءة ابن فلان ، في قبال قراءة المسلمين شرقا وغربا .
  أولا : أهل السنة والقراءات القرآنية
  * أسباب نشأة القراءات
  نحن نعلم أن خصوصيات كل قراءة ومذاق كل قارئ في تأدية حروف الآية ليست مأثورة ومسندة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة علماء أهل السنة أنفسهم كما سيأتي بيانـها ، فما سبب نشأة تلك القراءات خاصة مع وجود قراءة متواترة بين المسلمين ؟
  ذكروا لذلك أسبابا متعددة :
  1 ـ بداءة الخط : عند مراجعة المخطوطات القديمة التي كتب بـها القرآن الكريم في بداية عصر تدوينه ، تجد مدى صعوبة تمييز الأحرف بعضها عن بعض ، فهناك جـملة من الأحرف تتشابه في شكلها وتحتمل ألفاظا ومعاني متعددة للكلمة الواحدة ، فمع عدم معهودية القارئ بالقرآن سوف ينتج عنه الخلط والاشتباه ، وحصل هذا في البلاد النائية القريبة العهد بالقرآن .
  2 ـ الخلو من النقط : فكما أن تشابه الأحرف كان مدعاة للاشتباه فكذلك عدم وجود النقط على الكلمات ، لأن تنقيط المصحف بنقط الإعجام جاء في عصر متأخر نسبيا عن عصر عثمان بن عفان فكانت المدّة كفيلة بأن يقرأ البعض ( يعلمون ) ويبدلها ب‍ ( تعلمون ) ، و( تبينوا ) ب‍ ( تثبتوا ) وهكذا .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 270 _
  3 ـ إسقاط الألفات : من خصوصيات الكتابة القديمة أنـها من غير ألفات ، فلم تستحدث إلا في زمن متأخر ، لذا كان يقرأ البعض ( مالك يوم الدين ) مع كون الكتابة الأصلية هي ( ملك ) ولا يعني هذا عندهم أن قراءتـها الصحيحة هي ( ملك ).
  4 ـ التجريد من الشكل : وكذلك كانت الكتابة الأولى خالية من التشكيل والحركات المميّزة ، فيختلط الأمر على من لا عهد له بآيات القرآن فيقرأ ( خلق ) باعتبار أنـها فعل ماضي وهي مصدرٌ ، وكثير من هذا القبيل .
  تلميع !
  ليس من الغريب أن يضفي بعض علماء أهل السنة شيئا من العبقرية والدقة في التنسيق والتخطيط إلى الصحابة وسلفهم الصالح ، كأن يقال إن الصحابة تعمدوا كتابة المصاحف في زمن عثمان خالية من النقط وحركات الإعراب ، ولنقتصر هنا على نقل قول ابن تيمية الحراني ، قال في مجموع الفتاوى :
  ( والحروف المكتوبة قد تنازع الناس في شكلها ونقطها ، فإن الصحابة لما كتبوا المصاحف كتبوها غير مشكولة ولا منقوطة لأنـهم إنما كانوا يعتمدون في القرآن على حفظه في صدورهم لا على المصاحف ) (1) .
  وزادها ابن تيمية عبقرية وكذا أغلب من داخ في هذه السمادير من بني جلدته ، فقالوا إنما فعله الصحابة عن قصد ليشتمل رسم المصاحف المكتوبة على الأحرف السبعة ووجوه القراءات !! :
  ( فكان النبي إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي كما أقرأه ، فلهذا لم تكن الصحابة ينقطون المصاحف ويشكلونـها ، وأيضا كانوا عربا لا يلحنون فلم يحتاجوا إلى تقييدها بالنقط ، وكان في اللفظ الواحد قراءتان يقرأ بالياء والتاء مثل يعملون وتعملون فلم يقيدوه بأحدهما ليمنعوه من الأخرى ) (2) .
  مع العلم أن الكتابة العربية لم يضف لها النقط ولا التشكيل إلا في زمن متأخر عن زمان عثمان ، وكان أول من حلّاها هو أبو الأسود الدؤلي رضي الله عنه تلميذ الإمام علي عليه السلام ، فمعنى ذلك أن الصحابة ومن بعدهم إلى زمن تغلّب زياد بن أبيه على الكوفة لم يكن يعلمون شيئا عن ذلك النقط والتشكيل ، فكيف يستقيم ما ذكره أهل العبقرية والتلميع ؟! وسيأتي الكلام مفصلا بإذنه تعالى .

--------------------
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 12 ص 100 مطابع الرياض .
(2) ن . م ص 101.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 271 _
  5 ـ تأثير اللهجة : واللهجة لها دور في تغيير قراءة الكلمة عن وضعها الأصلي ، كالإمالة وقلب بعض الأحرف وكذلك في الحذف والإثبات .
  6 ـ تحكيم الرأي والاجتهاد : كان قرّاء القرآن يتمسّكون باجتهاداتـهم ولو خالفت قراءة الجمهور ! ، وبعضهم كان لا يتزحزح عنه إلا بالجلد كما حصل لابن شنبوذ بدعوى أن له في ذلك وجها معتبرا ، وسيأتي الكلام عنه بإذنه تعالى .
  7 ـ الغلو في الأدب : وهي خصلة متميّزة في القرّاء النحويين ، فكان بعضهم يقرأ بالشاذ الذي يخالف رسم المصحف ، باعتبار أنه أوفق للعربية وقواعدها !
  8 ـ عوامل نفسية أخرى : كحب الظهور وبيان البراعة في قراءة القرآن الكريم فيأتون بكل غريب لأجل كسب الشهرة وذيوع الصيت وما إلى ذلك (1) .
  * الدقة في المسألة :
  يمكن القول أن لو اقتصر نشوء القراءات المختلفة على ( بداءة الخط والخلو من النقط وإسقاط الألفات والتجريد من الشكل وتأثير اللهجة ) لكانت أسباب اختلاف القراءات خارجة عن الاختيار ، ولكن الصحيح أن السبب الحقيقي الذي ترجع له كل تلك الأسباب هو تحكيم الرأي والاجتهاد سواء أكان منشؤه الغلو في الأدب أو العوامل النفسية ، لأن غير ذلك من العوامل التي تقدّمت كخصوصيات الخط القديم لا يمكن أن تعمل على نشوء قراءة معيّنة لها أتباعها أو أن تبتدع أسلوبا خاصا للقراءة له أنصاره ، لأن في مقابلها يوجد القراءة المشهورة المتواترة بين المسلمين جيلا بعد جيل ، وهي قراءة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت هذه القراءة التي بين أيدينا اليوم على مر الزمان الميزان والقسطاس المستقيم لتحديد صحة القراءة من سقمها ، وبـهذه القراءة المعروفة المتواترة كانت تتميّز الكلمات ويزال الاشتباه عن بعض الأحرف في كلمات الآية سواء بتشابه الأحرف أو بتشكيلها .
  فكيف يقال بعد هذا إن خصوصيات الخط القديم من هيئته ، وانعدام التنقيط والتشكيل ، وخلوه من الألفات كانت أسباب نشوء القراءات ، مع وجود قراءة متواترة تسير بـها الركبان ويقرأ بـها الناس والتي بدورها توضّح عوار القراءة المخالفة وتكشف عن خللها ؟! ، فلا مجال للاشتباه في أن مادة الكلمة هل تبدأ بالتاء أم بالياء أو بالباء أو بالثاء ، أو أن هيئة الكلمة بالفتح أو بالضم أو … الخ ، مع وجود قراءة متواترة بين أظهرهم .   ثم لنفرض أن تلك الأسباب عملت على تغيير القراءة حقا ، فالقارئ الذي اشتبه عليه الأمر بسبب رداءة الخط وفقدان النقاط وغيرها أو من اختلاف المصاحف في الرسم يجب عليه بمجرد سماعه

--------------------
(1) رؤوس الفقرات نقلناها من التمهيد في علوم القرآن .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 272 _
  للقراءة المتواترة الرجوع والحكم ببطلان ما صار إليه ، فيرتفع غموض واشتباه الكلمة بكلمة أخرى ، وعليه لا تكون خصوصيات الخط أحد أسباب نشوء القراءات ، فنخلص إلى أن السبب الوحيد لاختلاف القراءات ونشوئها هو الاجتهاد والتمسك بالرأي .
  نعم ، إن الخط البدائي غير المنضبط أفسح المجال لكثير ممن يجتهد في قراءته ويتمسك برأيه في قبال القراءة المتداولة بين المسلمين آنذاك ، فكان الخط القديم غير المعجم ولا المعرَب ذريعة لكل من يستمزج ويرتئي في قراءة الآيات بشكل يتوافق مع الخط ورسم المصحف ، إذ ان ذلك الرسم غير محدد الملامح حمال ذو وجوه ، وأما أن ينشئ بنفسه قراءة في قبال قراءة المسلمين ، فلا .
  * من هم القرّاء السبعة ؟
  إن أطلق مصطلح ( القرّاء السبعة ) فإن المعنى لا ينصرف إلا إلى رجال مخصوصين من مشاهير قراّء القرآن ، وحتما لا تنحصر الساحة بـهم ، بل كان من القراء من هم أرفع منهم درجة وأعظم قدرا و أجل شأنا ، ولكن وقع اختيار ابن مجاهد على هؤلاء وحصرهم بالعدد سبعة ، وهم بحسب الترتيب الزمني :
  عبد الله بن عامر اليحصبي قارئ الشام ، وعبد الله بـن كثير الداري قارئ مكة ، عـاصم بن أبي النّجود الأسدي قارئ الكوفة ، أبو عمـرو بن العلاء المازني زبان قارئ البصرة ، حـمزة بن حبيب الزيّات قارئ الكوفة ، نـافـع بن عبد الرحمان اللّيثي قارئ المدينة ، علي بن حمزة الكسائـي قارئ الكوفة .
  تفصيل الكلام في القراّء ، الشيوخ والرواة :
  المجموعة الأولى (1):
  1 ـ عبد الله بن عامر أبو عمران اليحصبي : إمام أهل الشام وُلد سنة 21 ه‍ أو 28 ه‍ على اختلاف في ذلك ، وتوفي سنة 118ه‍ وله سبعٌ وتسعون سنة ، قرأ القرآن على مجهول ، وقيل إنه قرأ على عثمان وعلى أبي الدرداء عويمر بن زيد بن قيس ، وقول آخر أنه قرأ على أبي الدرداء ولم يقرأ على عثمان مباشرة ، وإنما قرأ على أبي هاشم المغيرة بن أبي شهاب عبد الله بن عمرو بن المغيرة المخزومي ، والمغيرة قرأ على عثمان بن عفان.

--------------------
(1) هذا الترتيب للقراء كان على ما يقتضيه اتصال راويي القراءة والتقائهما بشيخ القراءة وعدمه ، فالمجموعة الأولى لم يتم الالتقاء والمباشرة ، والأخرى تمّ فيها .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 273 _
  ويمكننا إطالة النظر في إقراء عثمان لابن عامر ، لأن ابن عامر لو وُلد في سنة 21 ه‍ فهذا يعني أن عثمان بن عفان قُتل وابن عامر حينها بلغ من العمر أربع عشرة سنة ، لأن مقتل عثمان كان سنة 35ه‍ كما نص عليه ابن الأثير في أُسده ، وأما إن قلنا أن مولده كان سنة ثمان وعشرين للهجرة فيكون عمره حين مقتل عثمان سبع سنوات ، ولم يؤثر أن عثمان كان يقرئ القرآن للصبية ، هذا مع إنكار الطبري ـ وهو قريب العهد لتلك الفترة ـ إقراء عثمان بن عفان أحدا ما ، كما سيأتي بإذنه تعالى .
  وأما أبو الدرداء فيتأكد فيه الإشكال أكثر ، إذ ان أبا الدرداء عويمر بن زيد بن قيس توفي قبل وفاة عثمان بثلاث سنين أي في سنة 32ه‍ كما ذكره الذهبي في سير أعلامه ، فإن كان مولد ابن عامر سنة 21 ه‍ فيكون عمره عند وفاة أبي الدرداء إحدى عشرة سنة ، وأما إذا كان مولده سنة 28 ه‍ فيكون عمر ابن عامر حينئذ أربع سنوات ، فكيف يصح ذلك ؟ ، وهل يمكن على كلتا الفرضيتين أن يضبط صبي بـهذا العمر وجوه القراءة بإتقان ؟! ، وهل يوثق بضبطه حتى يكون راويا للقراءة ؟!
  ولِما سبق تردد الذهبي في كون ابن عامر قد قرأ على أبي الدرداء ، ثم تراجع واحتمل أنه قرأ بعض القرآن عليه في أيام الصبا ! فقال الذهبي : ( وقيل : أنه ـ أي ابن عامر ـ قرأ عليه ـ أي على أبي الدرداء ـ القرآن ولحقه ، فإن صحّ فلعلّه قرأ عليه بعض القرآن وهو صبيّ ) (1) .
  وأما قراءة ابن عامر على أبي هشام المغيرة بن أبي شهاب فننقل ما ذُكر في التمهيد : ( نجد أن عبد الله بن عامر اليحصبي ( ت 118 ) ـ أقرب القراء السبعة إلى عهد الصحابة ـ لا سند له متصلا إلى أحد الصحابة المختصين بقراءة القرآن ، فقد ذكر ابن الجزري في إسناده تسعة أقوال ، وأخيرا يرجّح أنه قرأ على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي ، وهذا قرأ على عثمان بن عفان وعثمان قرأ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ينقل عن بعضهم : أنه لا يدري على من قرأ ابن عامر ؟ (2)
  ثم نتساءل : من هذا المغيرة المخزومي الذي قرأ عليه ابن عامر ؟ يقول الذهبي ( وأحسبه كان يقرئ بدمشق في دولة معاوية ، ولا يكاد يعرف إلا من قبل قراءة ابن عامر عليه ! ) ، انظر إلى هذا التهافت الباهت والدور الفاضح ، يعزى إسناد قراءة ابن عامر إلى من لا يعرف إلا من قبله ؟! ) (3).

--------------------
(1) سير أعلام النبلاء ج 5 ص 336 ، ط مؤسسة الرسالة .
(2) طبقات القراء ج 1 ص 404 .
(3) التمهيد ج 2 ص 66 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 274 _
  وبالإضافة إلى ذلك فإن ابن جرير الطبري رفض قول من قال إن المغيرة بن أبي شهاب هذا قد قرأ على عثمان لأن الأخير لم يؤثر عنه إقراء القرآن ، وبالتالي يبطل سند قراءة ابن عامر المزعوم ، قال في معجم حفاظ القرآن :
  ( وقد أنكر ابن جرير الطبري أن المغيرة قرأ على عثمان حيث قال : وزعم بعضهم أن ابن عامر قرأ على المغيرة عن عثمان ، وهذا غير معروف لأننا لا نعلم أحداً ادّعى أنه قرأ على عثمان ) (1) .
  وعليه فلا إسناد متصل لقراءة ابن عامر إلى أحد من الصحابة ، ولكن تكلف علماء أهل السنة لإثبات إسناد لقراءته يصل إلى عثمان بن عفان وأبي الدرداء وعنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما فيه من علل وفجوات لا تستر ! ، هذا بالنسبة لشيوخه .
  وأما رواة قراءته فكثيرون ، ولكن نقتصر على ما اقتصر عليه علماء أهل السنة تبعا لابن مجاهد ـ وهكذا بالنسبة لباقي القراء ـ وهما :
  1 ـ ابن أباّن : وهو هشام بن عمار بن نصير بن أبان السلمي الدمشقي ، وُلد في 153 ه‍ ، وتوفي في 245 ه‍ .
  ومن الواضح أن ابن أبان لم يلق شيخه ابن عامر لأن الشيخ توفي سنة 118 ه‍ ، والراوي وُلد سنة 153ه‍ !
  2 ـ ابن ذكوان : هو أبو عمرو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان ، وُلد في 173 ه‍ وتوفي في 242 ه‍ .
  وكذلك ابن ذكوان لم يلق شيخه ابن عامر لأن الفارق الزمني بينهما حوالي خمس وخمسين سنة بين وفاة الشيخ وولادة الراوي !
  قال الرزقاني في مناهل العرفان : ( وقد اشتهر برواية قراءته هشام وابن ذكوان ولكن بواسطة أصحابه ) (2) ، ولا نقول إن راويي كل قراءة من القراءات السبع لم يتلقوا القراءة بسند متّصل ، وإنما نتساءل عن سبب اختيار ابن مجاهد لفلان وفلان منهم مع وجود وسائط بينهم وبين القارئ نفسه ؟!
  وما يثير الاستغراب أن كثيرا من علماء أهل السنة يصرّحون بتلقي هؤلاء الرواة القراءة مباشرةً من الشيخ وبلا واسطة ! ، مع أن مبتدع هؤلاء القراء السبعة ومسبّعهم ابن مجاهد قد بيّن أسانيدهم بذكر الوسائط ! (3) ، فقال ابن مجاهد في كتاب السبعة في القراءات عند ذكر أسانيد قراءة ابن عامر :

--------------------
(1) معجم حفّاظ القرآن ج 1 ص 566 ترجمة المغيرة بن أبي شهاب ، نقلا عن القراء الكبار ج 1 ص 48 .
(2) مناهل العرفان ج 1 ص 450 ط ، الحلبي الثالثة .
(3) ممن ذكروا ذلك د ،أحمد مختار عمر و د . عبد العال سالم مكرم عند تعرضهما لذكر راويي كل قراءة من القراءات السبعة في معجم القراءات القرآنية ج 1 ص 87 ـ 88 ، ط الثانية : ( ويجدر بنا بعد أن عرضنا لأسانيد القراءات السبع ، واتصالها بالرسول عليه السلام أن نشير في إيجاز إلى الرواة الذين رووا هذه القراءات السبع حتى وصلت إلينا ، ونقتصر فقط على ذكر الرواة المباشرين الذين تلقوا القراءات عن القراء السبعة مباشرة … ونكتفي هنا فقط بذكر الرواة المباشرين للقراء السبع ، لأن هؤلاء الرواة تطالعنا أسماؤهم في كثير من القراءات السبع ، والرواة المباشرون للقراءات السبع كثيرون ، و من هذا العدد الكثير اختار علماء القراءات منهم راويتين لكل إمام من الأئمة السبعة … ).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 275 _
  ( وأما ابن عامر فإن أحمد بن يوسف التغلبي أخبرنا بقراءته عن عبد الله بن أحمد بن ذكوان الدمشقي أبي عمرو ، قال : قرأت على أيوب بن تميم القارئ التميمي وأخبرني أيوب أنه قرأ على يحيى بن الحارث الذماري ، وأن يحيى بن الحارث قرأ على عبد الله بن عامر ).
  وقال : ( وأخبرنا أحمد بن محمد بن بكر قال حدثنا هشام بن عامر قال حدثنا سويد بن عبد العزيز قال سألت يحيى بن الحارث قال وحدثنا هشام قال حدثنا عِراك بن خالد بن يزيد بن صالح المرّي قال : سمعت يحيى بن الحارث ، قال : قرأت على عبد الله بن عامر ).
  وقال : ( وحدثني أحمد بن محمد بن بكر قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا سويد بن عبد العزيز ، وأيوب بن تميم القارئ عن يحيى بن الحارث أنه حدثهما عن عبد الله بن عامر أنه كان يقرأ بـهذه الحروف و يقول : هي قراءة أهل الشام ) (1) .
  وبـهذا يتّضح أن بين ابن ذكوان وابن عامر واسطتين وهما أيوب بن تميم ويحيى بن الحارث ، وابن أباّن بينه وبين ابن عامر واسطتان ، فأخذ من سويد بن عبد العزيز وعراك بن خالد وأيوب بن تميم وهؤلاء عن يحيى بن الحارث وهو عن ابن عامر ، هذا إن سلمنا بأن كلمة ( حدثنا ) تفيد القراءة في مثل هذه الموراد ، فضلا عن قراءة كل القرآن .
  2 ـ عبد الله بن كثير :
  عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زادان بن فيروز بن هرمز ، وُلد بمكة في 45 ه‍ وتوفي في 120 ه‍ ‍، وقيل أنه ولد في 48 ه‍ ، ( ولد ابن كثير بمكة سنة ثمان وأربعين ومات سنة عشرين ومئة ) (2) .
  أما شيوخه : ( قيل أنه قرأ على عبد الله بن السائب المخزومي ، وذلك محتمل ، والمشهور تلاوته على مجاهد ودرباس مولى ابن عباس ) (3) ، وتنتهي قراءته إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأبي بن كعب وعثمان بن عفان ، أما راوياه فهما :

--------------------
(1) كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد ص 101 ، تحقيق الدكتور شوقي ضيف ط ، دار المعارف بمصر.
(2) سير أعلام النبلاء ج 5 ص 319 .
(3) سير أعلام النبلاء ج 5 في ترجمته ، أقول : يحتمل قراءته على مجاهد ، فقد قال ابن حبّان كما في تـهذيب الكمال للمزي ج 27 ص 234 ( مات ـ مجاهد ـ بمكة سنة ثنتين أو ثلاث ومئة وهو ساجد وكان مولده إحدى وعشرين في خلافة عمر ، وكان يقُص ) ، ولا داعي للإطالة بتتبع ملاقاة الرواة للشيوخ وأخذهم عن بعضهم البعض لكثرتـهم وهي قائمة على مجرد الاحتمال في أغلب الأحوال والاحتمال خفيف المؤونة فلنقتصر على راويي القراءة .