3 ـ إن الروايات الواردة في المقام تؤكد على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتبر شهادة خزيمة بن ثابت بمنـزلة شهادة رجلين ، وهذا يوحي أن إثبات الآية عن طريق خزيمة بن ثابت إنما تم باعتبار أنّه ( ذو الشهادتين ) لا غير ، وإلاّ فما الداعي لتأكيد زيد بن ثابت على أن شهادة خزيمة تعدل شهادتين ؟! وهل هو إلا لتبرير دمجه للآية بشهادة خزيمة وحده ؟!
  وهذا كما يقول علماء الأصول من باب أن تعليق الحكم على الوصف مشعرٌ بالعلية ، وهو مضمون رواية البخاري السابقة : ( فلم أجدها إلاّ مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم شهادته شهادة رجلين ) .
  4 ـ طريقة طرح القرطبي للدليلين توحي أنـهما اجتهاد بعيد عن الحس والواقع لأنه يردد الجوابين ، فإما أن يكون جوابه هذا أو ذلك ، فهو تارة يقول إن آخر سورة براءة ثبتت بالإجماع وبتذكر الصحابة لها ، وتارة أخرى يقول إنـها ثبتت لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي ! ولا ندري أهذا هو الجواب أم ذاك ؟! واستحسانه ظاهر .
  * بدأت عُـدّة التأويل بالعمل !
  ولكي يتخلصوا من هذه المشكلة أعملوا آراءهم فادّعى البعض منهم أنّ زيد بن ثابت لم يكن يكتب القرآن بشهادة رجلين ، وإنما عنى بالشاهدين الحفظ والكتابة ، وهذا ما ذكره ابن حجر في فتحه : ( قوله ( لم أجدها مع أحد غيره ) أي مكتوبة لما تقدّم من أنّه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة ) (1) .
  والذي عناه ابن حجر في قوله ( لما تقدم ) هو ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : قام عمر فقال : ( من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم شيئا من القرآن فليأت به ، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب ، قال : وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان ) ، ومثله قال أبو شامة .

-------------------
(1) ن . م .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 201 _
  قال في مباحث في علوم القرآن : ( وواضح أن تفسير ابن حجر يلاحظ فيه الاكتفاء بشاهد واحد على الكتابة ، كالشاهد الواحد على الحفظ ، وتفسير الجمهور يقوم على ضرورة شاهدين عدلين على الكتابة ، وشاهدين عدلين على الحفظ فلا يكتفى بشاهد واحد على كل من الأمرين ) (1) .
  وكان السخاوي أكثر احتياطا من ابن حجر وأبي شامة فادعى أن دمج تلك الآيات في المصحف إنما كان بالشهيدين ليشهدا على ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أن يكتفي بشاهدين !
  قال السيوطي في الإتقان : ( قال ابن حجر : وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب ، وقال السخاوي في جمال القراء : المراد أنـهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله أو المراد أنـهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بـها القرآن ، قال أبو شامة : وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي لا من مجرد الحفظ ، قال : ولذلك قال في آخر سورة التوبة لم أجدها مع غيره أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة ) (2) .
  ويرد على ما يدعونه من أن جمعة المصحف اشترطوا في إلحاق الآيات به خصوص ما كان مكتوبا بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد شهد عليه شاهدان ، أمور :
  1 ـ لا يصح بحسب مبانيهم الإعراض عما أخرجه البخاري من أن زيدا كان قد جمع القرآن من ثلاثة مصادر هي العسب واللخاف وصدور الرجال ، والاقتصار على مقطوعة ابن أبي داود (3) مع أنـها لا تتعارض مع رواية البخاري ، لأن رواية ابن أبي داود لم تذكر صدور الرجال ! ورواية البخاري ذكرتـها ، فلماذا أهملت زيادة صحيح البخاري ؟!
  لذا حاول ابن حجر أن يحتمل لمقطع البخاري ( فتتبّعت القرآن أجمعه من العُسب واللخاف وصدور الرجال ) ما ينسجم مع استمزاجه فشكك في ظهور المقطع السابق في أن صدور الرجال كانت مصدرا ثالثا للجمع بعد تسليمه بمعناه ،

-------------------
(1) مباحث في علوم القرآن ص 76 د ، صبحي الصالح ط دار الكتب للملايين .
أقول : وكأن الكاتب يعترض على ما ذهب له ابن حجر في حين أن الجمهور اشترطوا شاهدين عدلين للحكم بقرآنية الآية ، وهذا أمر مضحك ، لأن المشكلة لا يتوقف حلها على الشاهد أو الشاهدين لما سيأتي من أن مقامنا هو إثبات قطعية ما كتب في المصحف ولا تكفي فيه البينة الظنية !
(2) الإتقان ج 1 ص 162 ـ 163.
(3) لأن يحيى بن عبد الرحمن لم يلق ابن الخطاب ، فقد ولد يحيى في خلافة عثمان .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 202 _
  فقال : ( قوله : (وصدور الرجال) أي حيث لا أجد ذلك مكتوبا ، أو الواو بـمعنى مع ، أي أكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدر ) ، وكما ترى ادعى ابن حجر أن الواو في المقطع الأخير واو المعيّة وليست واو العطف ! ، وهذا ليٌّ لعنق الواو ! إذ كيف تكون واو ( العسب و اللخاف ) للعطف وتخصص واو ( اللخاف و صدور الرجال ) بالمعية ؟! هذا تحكّم ! ، والظاهر كونـها للعطف .
  قال السرخسي في أصوله في باب بيان معاني الحروف المستعملة في الفقه : ( فأولى ما يبدأ به من ذلك حروف العطف ، الأصل فيه الواو فلا خلاف أنه للعطف ، ولكن عندنا هو للعطف مطلقا ، فيكون موجبه الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر من غير أن يقتضي مقارنة أو ترتيبا وهو قول أكثر أهل اللغة ) (1) .
  2 ـ لو كان شرط وجود المدوّن مأخوذا بعين الاعتبار في عملية الجمع لكان سكوت الروايات عنه وعدم ذكرها له من الغرائب ، مع ما فيه من زيادة تثبّتٍ وحرص أكثر على حفظ كتاب الله ، ولوجدنا رواياتـهم تترى من كل حدب وصوب لا تفتأ تنقل لنا تثبّت سلفهم الصالح وحرصه وتحفظه على كتاب الله و و و الخ ، فيطيلون في نقل كيفية مجيء كل منهم بورقه عند زيد .
  3 ـ إن سيرة الجامعين تخالف هذا القول كموافقة عمر بن الخطاب لدعوى أبي بن كعب أن الآية كانت بشكل آخر ، ولم يقل له أين ورقك وما كتبته في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وقد مرّت روايته .
  وهذا القاضي أبو بكر الباقلاني يخبر عن روايات تدعي أن طلب زيد بن ثابت للشاهدين إنما كان لأجل إثبات ما لا يقرؤه وما لا يحفظه ، وهذا نص كلامه في نكت الانتصار :
  ( وقد روي في إثبات شهادة شاهدين على القرآن روايات منها أن القاسم بن محمد قال : قال أبو بكر رضي الله عنه لزيد بن ثابت : أقعد فمن أتاك من القرآن بما لا تحفظه ولا تقرأه شاهدين فاقبله ، وهذا ما يدل على ما نقلناه في توجيه طلب شاهدين ) (2) .

-------------------
(1) أصول السرخسي ج 1 ص 200 ط دار المعرفة .
(2) نكت الانتصار ص 319 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 203 _
  وأخيرا فإن تسابق القوم لإثبات أن الجمع كان بشاهدين أو بشاهد واحد سواء مع المكتوب أو بدونه لا يجدي نفعا ! ، لأن أصل ادعاء تواتر نصوص القرآن كان لأجل إفادة القطع بأن كل ما في المصحف الشريف قرآنٌ لا مرية فيه ، وفحتى لو تنازلنا وسلمنا بأحوط فرضية عندهم وهي شهادة شاهدين على قرآنية المدون على الحجر أو على رقعة أو جلد عنـز ، فهل هذا يورث القطع واليقين بذلك ؟! حتما لا ، لأن اشتباه اثنين في تشخيص القرآن من غيره أمرٌ محتمل جدا ، خاصة وأن الصحابة كتبوا في مصاحفهم الشيء الكثير مما ليس بقرآن بدعوى أنه قرآن منـزل وسيأتي الكلام عن ذلك بإذنه تعالى ، بل يدعي علماء أهل السنة أن كثيرا من الصحابة بقوا يقرؤون منسوخ التلاوة -بزعمهم- إلى ما بعد زمن عثمان بن عفان حتى أن مصحف حفصة وعائشة بقيت فيه زيادات إلى سنوات طوال بعد موتـهما ، فوجود الصحيفة أو الحجر المكتوب عليه يقصر عن الغاية المراد تحصيلها وهي القطع واليقين بعملية الجمع .
  هذا لو سلمنا بأن كل القرآن قد كتب على تلك الصحف والرقاع في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا مع تسليمنا بعدم فقدان شيء من تلك الصحف ، ومع تسليمنا بعدم نسيانـهم لشيء منها ، وعدم تلف بعضها كأكل الداجن لها كما في قصة آيات عائشة الآتي ذكرها بإذنه تعالى ، وإلا فأن هذه الأمور تحتاج إلى أدلة تثبتها ، لأنـها أمور محتملة الوقوع بل وقع بعضها ، كما في آيات خزيمة وداجن عائشة .
  وعليه مازال إشكال كونـهم أثبتوا الآيات القرآنية بأخبار الآحاد قائما على أصوله لم ينقض حتى لو تجاوزنا كل الإشكلات وسلمنا بكل الاعتراضات ، فكيف يعتمدون هذا النحو من الجمع الذي جاءت به روايات البخاري ومع ذلك لا يلتزمون بأن آيات القرآن ثبتت آحادا ولا أقل آيات خزيمة بن ثابت ؟! (1) .
  رواية صحيح البخاري من تآليف الزنادقة عند ابن حزم !
  ولا مخرج لهم إلا أن يسلكوا مسلك إمامهم ابن حزم الأندلسي المؤيد لمسلك الشيعة حيث رفض هذه الروايات التي يلزم منها عدم الوثوق بالقرآن ، قال ابن حزم :

-------------------
(1) ومع كل هذا تجد بعض الوهابية يدعون أن مذهب أهل السنة هو الذي يثبت تواتر القرآن وأما الشيعة فلا ! سبحانك !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 204 _
  ( وذكروا حديثا عن زيد بن ثابت أنه قال : ( افتقدت آية من سورة براءة هي ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) ( التوبة / 128 ) ، فلم أجدها إلا عند رجل واحد ، وذكروا في ذلك تكاذيب وخرافات أنـهم كانوا لا يثبتون الآية إلا حتى يشهد عليها رجلان ! وهذا كله كذب بحت من توليد الزنادقة ) (1) .
  ولا نجازف كابن حزم فقول إن قصة جمع زيد لمصحف ما في زمن أبي بكر غير صحيحة وإنما لا يصح القول أن مصحف المسلمين نشأ من هذا الجمع لأن المصحف جمع أول مرة في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيأتي الكلام بإذنه تعالى .
  2 ـ كيف يوثق بجمع سقط منه قرآن مدة ثلاث عشرة سنة !
  قد مرّ من بين الاعتراضات على الجمع الأول سقوط آيات منه ، وفي هذا الجمع تمكن زيد من العثور عليها فألحقها في المصحف وهذا نص البخاري :
  ( نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آيةً من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يقرأ بـها فلم أجدها إلاّ مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم شهادته شهادة رجلين وهو قوله ( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) ( الأحزاب / 23 ) ) (2) .
  وعليه مَن يضمن لنا عدم خفاء آيات أخرى على زيد لم يقف عليها ؟ ففقدان آية طويلة نسبيا لمدة تربو على الثلاث عشرة سنة ليس بالأمر الهيّن ، ولا أدري كيف تلقى رواية البخاري القبول مع ما تنسبه من جهل لأبي بكر وعمر ولزيد مع بقاء هذه الصحف المجموعة عند أبي بكر وعمر مدة تأمرهما على الناس ؟! فإما أنـهما لم يقرآ ما جمعاه ! أو قرآه ولكنهما جهلا موضع النقص !
  وليتهم تخلوا عما خطه البخاري ولو في هذا المقطع بالذات صيانة لماء وجه جمعهم المزعوم ، وقد أنصف القاضي الباقلاني حيث آثر ما ذكرناه فذهب إلى كذب هذه الرواية أو على الأقل اضطراب متنها حينما أُشكل عليه بـهذا الإشكال :

--------------------
(1) الإحكام لابن حزم ج 6 ص 265.
(2) صحيح البخاري ج 4 ص 23 وفي ج 6 ص 146 وفي ج 4 ص 24 وفي ج 5 ص 122 وفي ج 6 ص 226 وسنن الترمذي ح 3104 وعلّق عليه الترمذي بقوله (حسن صحيح).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 205 _
  ( هذا على أنه روي أن زيدا إنما قال حين أمره عثمان أن يكتب المصحف ، فدل على أن تلك الآي لم تكن في مصحف أبي بكر ولا في مصحف عمر بن الخطاب الذي هو أصل لمصحف عثمان ، وهذه الرواية ليست من روايات الشيعة وإنـما هي من رواية أصحاب الحديث وموالي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، يقال لـهم : ليس في هذا حجة لأنّـا قد أبـنّا فيما سلف نقل القرآن وحفظه ، وهذه رواية واحد ، وكثير من الناس يذهبون إلى أنـها ـ رواية البخاري ـ موضوعة ، وآخرون يقولون هي مضطربة اضطراب لا يجب معه العمل بـها ، ومما هو عندنا بعد أن يصح فيها القولان ، فأما اضطرابـها فلأن رواية جاءت بأن ذلك كان في أيام أبي بكر ، وأخرى بأنه كان في أيام عثمان ، والحديث إذا اختلف يجب ردّه فكيف إلى هذا الزمان الطويل ؟
  وكذلك منهم من روي فيه إسقاط الآيات الثلاثة ومنهم من لم يروه ، ولأن ألفاظه اختلفت اختلافاً شديداً يطول الكتاب بنقضها،والحديث إذا اختلفت ألفاظه الاختلاف البين وجب ردّه والقضاء بقلة ضبط ناقليه ، وأقل أحواله أننا لا ندري كيف قيل ، وأيضا فمن المحال أن يكون نسيان تلك الآية على سائر الصحابة و لا يوجد حفظها إلا عند اثنين منهم ، والروايات تواترت عن أبي بن كعب أنه قال : إن آخر عهد القرآن بالسماء هاتان الآيتان وتلا (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ ) ( التوبة / 128 ) ، ولا خلاف في ذلك ولا اضطراب ، وهذا معارض لما رُوي عن زيد ) (1) .
  * إمامهم الآلوسي يهون أمر ضياع الآيات !
  ولعل بعضهم أحس بضيق الخناق بقبول رواية البخاري فحاول تقليل خطرها على القرآن ، فهذا ما قاله مفسرهم الشهير الآلوسي في روح المعاني تعليقا على رواية البخاري :
  ( فإنه بظاهرها يستدعي أن في المصاحف العثمانية زيادة لم تكن في هاتيك الصحف ، والأمر في ذلك هيّن إذ مثل هذه الزيادة اليسيرة لا توجب مغايرة يعبأ بـها ولعلها تشبه مسألة التضاريس ، ولو كان هناك غيرها لذكر وليس فليس ، ولا تقدح أيضا في الجمع السابق إذ يحتمل أن يكون سقوطها منه من باب الغفلة ، وكثيراً ما تعتري السارحين (2) في رياض قدس كلام رب العالمين فيذكرهم سبحانه بما غفلوا فيتداركون ما أغفلوا . وزيد هذا كان في الجامعين ولعله

--------------------
(1) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 330 ـ 332 .
(2) ابتدأ الأسلوب الشاعري ! ، متى يترك هؤلاء أسلوب الضحك على الذقون ؟!

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 206 _
  الفرد المعوّل عليه في البين لكن عراه في أولهما ما عراه ، وفي ثانيهما ذكّره من تكفل بحفظ الذكر فتدارك ما نساه ) (1) .
  هكذا وبكل بساطة يعتبر إمامهم الآلوسي سقوط آيات من القرآن أمرا هيّنا بقوله : ( والأمر في ذلك هيّن إذ مثل هذه الزيادة اليسيرة لا توجب مغايرة يعبأ بـها ولعلها تشبه مسألة التضاريس ) ، وتجاهل مفسّرهم الشهير أن أي نقص أو زيادة في القرآن يترتب عليه أمور عظيمة من تبدل أحكام وحدود ومعارف إلهية وغيرها ، إذ الحكم الشرعي قد يختلف وينقلب رأسا على عقب بوضع حرفٍ مكان حرف أو بتغير علامة الإعراب .
  وأمثلة ذلك ليست نادرة ، وهذا الاختلاف في وجوب غسل الرجلين في الوضوء قائم على قدم وساق بين من يقول بالغسل لفتح اللام في ( وَأَرْجُلَكُمْ ) عطفا على الوجه واليدين ، ووجوب المسح للقول بكسرها عطفا على الرأس الممسوح في قوله تعالى ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة / 6 ) فقد قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي بالنصب وقرأ الباقون بالخفض (2) .

--------------------
(1) تفسير روح المعاني للآلوسي ج 1 ص 23 ط دار احياء التراث العربي .
(2) والحق أنـها سواء كانت ( أرجلكم ) بالنصب أو بالجر فهي معطوفة على الرأس الممسوح ، لأن العطف تارة يكون على اللفظ وهو المعروف وتارة يكون على المحل ، وهنا ( برؤوسكم ) في محل نصب مفعول به ، وهذا ما قاله ابن حزم في المحلّى ج 2 ص 56 مسألة 200 : ( وأما قولنا في الرجلين فان القرآن نزل بالمسح ، قال الله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة / 6 ) ، وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كل حال عطف على الرؤوس : إما على اللفظ وإما على الموضع ، لا يجوز غير ذلك ، لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة .
  وهكذا جاء عن ابن عباس : ( نزل القرآن بالمسح ) يعني في الرجلين في الوضوء ، وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف ، منهم علي بن أبى طالب وابن عباس والحسن وعكرمة والشعبي وجماعة غيرهم ، وهو قول الطبري ، ورويت في ذلك آثار ، منها أثر من طريق همام ـ بسنده إلى رفاعة بن رافع ـ : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يقول : ( انـه لا يجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين )
  وعن اسحاق بن راهويه ـ بسنده ـ عن علي ( عليهم السلام ) ( كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يمسح ظاهرهما ) ، قال علي بن أحمد ـ ابن حزم ـ : و إنما قلنا بالغسل فيهما لما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا ابراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا أبوعوانة ، عن أبى بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : ( تخلف النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم في سفر فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثا ) )اه
  أقول : هذه الرواية التي طالما احتج بـها أهل السنة في إثبات الغسل هي مثبتة للمسح لا للغسل ! وذلك لأن الصحابة بكمهم الغفير حينما وصلوا في الوضوء إلى الرجلين شرعوا من تلقاء أنفسهم بمسح الرجلين ، فمن الذي أخبرهم بمسحها ؟! مع أن الوضوء من الأفعال التوقيفية التي تحتاج إلى بيان من الشارع وليست معهودة بين العرب سابقا فليس لذلك وجه إلا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد علمهم هذا المسح في الوضوء ، وقول ( ويل للأعقاب من النار ) المراد منها أن بعضا منهم كانت أرجلهم غير نظيفة وعليها أوساخ عالقة خاصة وأن بعضهم كانوا بوالين على الأعقاب ، والبحث موكول لمحله .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 207 _
  واختلف القراء السبعة في قراءة ( أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ) ( النساء / 43 ) ، فقرأ الكسائي وحمزة ( أو لمستم ) والباقون على ما هو في المصحف الآن فأدى ذلك إلى اختلاف الحكم في أن الوضوء ينتقض بمجرد لمس النساء أو بالجماع .
  وكذلك اختلافهم في قراءة ( وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) ( البقرة / 222 ) فبعضهم قرأ بالتشديد وهما الكسائي وحمزة والباقي بالتخفيف ، فأثر هذا على جواز وطء التي طهرت من حيض قبل الاغتسال أو بعده .
  ثم لو سلّمنا بأن الأمر هيّن باعتبار أن الآيات قد رجعت في الجمع الثاني لكن هذا ليس هو محل الكلام لأن مقصدنا هو حصول الوثوق بكمال المصحف وتمامه بتلك الطريقة من الجمع بعد أن ثبت حصول النقص في كتاب الله عز وجل من باب الغفلة ! وقد صرح بذلك الآلوسي في قوله ( إذ يحتمل أن يكون سقوطها منه من باب الغفلة ) .
  أما قوله إن الله قد تكفل بحفظ كتابه فهذا صحيح عندي وعند من جزم بصيانة القرآن من التحريف ، ولكن قد مرّ أن بعض المسلمين لا يرى أن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه كبعض الشيعة وأهل السنة الآتية أسماؤهم وكلماتـهم بإذنه تعالى ، ولهذا فالاستدلال بأن الله قد تكفل بحفظه هو أول الكلام عند هؤلاء ، ونحن لا نريد أن نقنع هؤلاء الثلة فقط بصيانة القرآن ، بل نريد إقناع العالم كله وكل الديانات والملاحدة بأن كتابنا تام كامل .
  3 ـ عملية الجمع وشخص زيد مطعون فيهما !
  موقف الصحابي عبد الله بن مسعود من عملية جمع القرآن في زمن عثمان وإنكاره لها ولإحراق المصاحف معروف ومشهور ، فقد أمر أهل الكوفة ألا يسلموا مصاحفهم لجلاوزة عثمان وأن يغلوا المصاحف ، وقد طعن بشخص الصحابي زيد بن ثابت بأنه شاب حدث لا يعتمد عليه في هذا العمل الخطير .
  واستنكار ابن مسعود لعمل عثمان لا يمكن الإغماض عنه والاستهانة به ، فرواباتـهم المتتابعة في مدحه والناصة على مرجعيته في ما يختص بالقرآن من أصح الروايات ، فقد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وقال : استقرئوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ) (1).

--------------------
(1) صحيح البخاري (كتاب فضائل الصحابة ) باب مناقب عبد الله بن مسعود ج 4 ص 199 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 208 _
  وكذا رووا : ( من أراد أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ) ، وهكذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد ، وكرهت لأمتي ما كره لها ابن أم عبد ) (1) .
  وكذا جاء في صحيح الجامع الصغير للألباني : ( اهتدوا بـهدي عمار ، وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه ) (2) .
  وبحسب رواياتـهم هذه يجب علينا قبول كل ما حدثنا به ابن مسعود لا سيما في أمر القرآن الذي تخصص فيه ، فهل قبل ابن مسعود بما فعله عثمان بالقرآن أم لا ؟ وما موقف ابن مسعود من زيدٍ هذا ؟
  * الروايات :
  أخرج الحاكم في المستدرك : ( قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لقد قرأت من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت يلعب مع الصبيان ) (3) .
  قال الحاكم : ( ولهذه الزيادة شاهد : حدثني إسماعيل بن سالم بن أبي سعيد الأسدي قال : سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول أقرأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت ).
  وقال ابن أبي شبة في تاريخ الـمـدينـة : ( حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك عن ابن إسحاق عن أبي الأسود ـ أو غيره ـ قال : قيل لعبد الله ألا تقرأ على قراءة زيد ؟ قال : مالي ولزيد ، ولقراءة زيد ؟! لقد أخذت من فيّ رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم سبعين سورة و إن زيد بن ثابت ليهودي له ذؤابتان ) (4) .
  وقال الباقلاني في نكت الانتصار لنقل القرآن : ( قال ابن شهاب فأخبرني عبد الله بن عبيد الله بن عيينة عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ـ يا معشر المسلمين أُعزل عن كتابة المصحف ويتولاه رجل والله

--------------------
(1) مجمع الزوائد المجلد التاسع ص 290 وعلق عليه ( رواه الطبراني في الأوسط باختصار الكارهة ، ورواه في الكبير منقطع الإسناد وفي إسناد البزار محمد بن حميد الرازي وهو ثقة ، وفيه خلاف وبقية رجاله وثقوا ) ، أقول ولهذه الرواية مورد خاص .
(2) صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني ج 1 ص 254 ح 1144 ط المكتب الإسلامي .
(3) المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 228 وعلق عليه : ( وهذا حديث صحيح ولم يخرجاه ) ، ووافقه الذهبي .
(4) تاريخ المدينة ج 3 ص 1008.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 209 _
  لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت ، وقال : يا أهل العراق ، ويا أهل الكوفة أكتبوا المصاحف التي عندكم وغلّوها ، فإن الله تعالى يقول ( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران / 161 ) ، فالقوا الله بالمصاحف ) (1) .
  وقد اعترف ابن حجر العسقلاني باستنكار ابن مسعود : ( وقد شق على ابن مسعود صرفه عن كتابة المصحف حتى قال ما أخرجه الترمذي في آخر حديث إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب من طريق عبد الرحمن بن مهدي عنه قال ابن شهاب : فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال : يا معشر المسلمين أُعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه في لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت .
  وأخرج ابن داود من طريق خمير بن مالك : سمعت ابن مسعود يقول لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم سبعين سورة و إن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان ) (2) .
  وذكر ابن أبي داود فصلا في كتابه المصاحف بعنوان ( كراهية عبد الله بن مسعود ذلك ) أي ما فعله عثمان من الجمع على قراءة واحدة وحرق بقية المصاحف ، وذكر عشرين رواية وبعضها بثلاثة طرق ، منها :
  ( عن أبي الشعثاء المحاربي ، قال : قال حذيفة : يقول أهل الكوفة قراءة عبد الله ، ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى ، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لأمرته أن يغرقها ، قال : فقال عبد الله : أما والله لئن فعلت ليغرقنك الله في غير ماء ، قال شاذان : في سقرها ) (3) .
  وأخرج أيضا ( عن عبد الله قال : لما أمر بالمصاحف تغيّـر (4) ، ساء ذلك عبد الله بن مسعود ، قال : من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغلل فإنه من غل شيئا جاء بما غل يوم القيامة ، ثم قال عبد الله :

--------------------
(1) نكت الانتصار ص 358 ـ 359
(2) ن . م ج 9 ص 19.
(3) كتاب المصاحف ج 1 ص 189 تحقيق محب الدين واعظ .
(4) ذكر في الهامش : ( وفي فضائل القرآن لابن كثير : يعني بتحريقها ) .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 210 _
  لقد قرأت القرآن من في رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم سبعين سورة و زيد بن ثابت صبي ، أ فأترك ما أخذت من فيّ رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ؟! ) (1) .
  ويتضح مما ذكرناه شهرة إنكار ابن مسعود لجمع عثمان واحراقه المصاحف ، والروايات صريحة في القدح في شخص زيد وأنه ليس بكفء لمثل هذا العمل .
  وقد استدل ابن الأثير على حداثة سن زيد من طعن ابن مسعود فيه : ( وقد صح عن ابن مسعود أنه قال لما كتب زيد المصحف : لقد أسلمت و إنه في صلب رجل كافر ، وهذا أيضا يدل على حداثة سنه عند وفاة النبي صلى الله عليه و سلم ) (2) .
  ولم يتحمل بعضهم ما نسبه ابن مسعود لزيد فقال أبو بكر الأنباري : ( وما بدا من عبد الله بن مسعود من نكير ذلك ، فشيء نتجه الغضب ولا يعمل به ولا يؤاخذ به ، ولا يشك في أنه رضي الله عنه قد عرف بعد زوال الغضب عنه حسن اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم ، فالشايع الذائع المتسالم عند أهل الرواية والنقل : أن عبد الله بن مسعود تعلّم بقيّة القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم . وقد قال بعض الأئمة : مات عبد الله بن مسعود قبل أن يختم القرآن ) (3) .
  أهذا قول إمام ؟! ولا عجب ممن يقع في مثل هذه المآزق أن يتشبث بأي قشة ! لك الله يا ابن أم عبد !

--------------------
(1) كتاب المصاحف ج 1 ص 192 تحقيق محب الدين واعظ أقول : صاحب الكتاب عقب بفصل آخر عنوانه ( باب رضاء عبد الله بن مسعود بجمع عثمان المصاحف ) وأورد رواية واحدة ، ولا أدري ما علاقتها بعنوان الفصل ! ، وهي : ( عن فلفلة الجعفي قال : فزعت فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف ، فدخلنا عليه ، فقال رجل من القوم : إنا لم نأتك زائرين ولكنا جئنا حين راعنا هذا الخبر فقال : إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف ـ أو حروف ـ وإن الكتاب قبلكم كان ينـزل ـ أو نزل ـ من باب واحد على حرف واحد معناهما واحد ) ، وهذه الرواية واضحة في الاستنكار لا في الرضا لأنه يذكرهم بأن القرآن نزل على سبعة أحرف ، وعثمان بعمله ألغى ستة أحرف وأبقى حرفا واحدا ! ، وقد وجدنا قولا لابن كثير في فضائل القرآن ص38 فيه ما ذكرناه : ( وهذا الذي استدل به أبو بكر رحمه الله على رجوع ابن مسعود رضي الله عنه فيه نظر ، من جهة أنه لا يظهر من هذا اللفظ رجوع عما كان يذهب إليه ، والله أعلم ).
(2) أسد الغابة ج 1 ص 80 .
(3) الجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 53 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 211 _
  * زيد بن ثابت في الميزان
  والإنصاف إن اعتراض ابن مسعود له وجه مقبول لأن أوصاف زيد بن ثابت ليست بتلك التي تـهيئه لتحمل هذا العمل الخطير ، وهذه روايات أهل السنة تعطينا صورة كالـحة عنه حيث تنص على قلة تثبت زيد في أحكام الله عز وجل ، وعدم مبالاته بـها ، وينتابه الضحك عندما يعلم بافترائه على الله عز وجل ، وكان يخالف أمر الله في أحكام الميراث ويجتهد فيها برأيه !
  فقد أخرج الدارمي : ( عن خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت أنه أفتى في ابنة أو أخت ، فأعطاها النصف وجعل ما بقي في بيت المال ) (1) .
  وقال الترمذي ( واختلف فيه أصحاب النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فورث بعضهم الخال والخالة والعمة ، وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي الأرحام ، وأما زيد بن ثابت فلم يورثهم وجعل الميراث في بيت المال ) (2) .
  والنص الآتي اعتراف من زيد بتقوله على الله عز وجل واتـهام من يكتب ذلك عنه بالغدر ! ، فعن الطبقات الكبرى : ( عن الشعبي : أن مروان دعا زيد بن ثابت ، وأجلس له قوما خلف ستر ، فأخذ يسأله و هم يكتبون ففطن زيد ، فقال : يا مـروان ! أ غـدراً إنـما أقول برأيي ! ) (3) .
  ورواياتـهم صريحة في أنه كان يفتي بلا تثبت : (حدثنا أيوب عن عكرمة : أن ناسا من أهل المدينة سألوا ابن عباس عن امرأة حاضت بعدما أفاضت، فقال : تـنفـر ، فقالوا : ما نبالي أفتيتنا أم لا وزيد بن ثابت يقول : لا تـنفـر ، فقال ابن عباس : إني لأقول ما أعلم ولا أبالي أخذتم به أو لم تأخذوا به ، ولكن إذا قدمتم المدينة فسلوا أم سليم وغيرها ، فأخبرتـهم أن عائشة قالت لصفية : أفي الخيبة أنت ، إنك لحابستنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ما ذلك ! فقالت عائشة : صفية حاضت ) قال : قيل إنـها قد أفاضت، قال : فلا إذن ، قال : فرجعوا إلى ابن عباس فقالوا : وجدنا الحديث على ما حدثتنا ) (4) .

--------------------
(1) سنن الدارمي ج 2 ص 361 .
(2) سنن الترمذي ج 3 ص 285.
(3) طبقات ابن سعد ج 2 ص 276 ، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 438 وذكر في آخره ( رواه ابراهيم بن حميد الرؤاسي عن ابن أبي خالد ، نحوه وزاد : فمحوه ).
(4) المعجم الكبير للطبراني ج 25 ص 129 ح 314.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 212 _
  وكذا : ( عن عكرمة قال سأل أهل المدينة بن عباس عن امرأة طافت بالبيت يوم النحر ثم حاضت فقال : تنفر ، فقالوا :لا نأخذ بقولك وهذا زيد بن ثابت يخالفك ، قال : إذا أتيتم المدينة فسلوا ، فلما قدموا المدينة سألوا فأخبروهم بصفية وكان فيمن سألوا أم سليم فأخبرتـهم بصفية ) (1) .
  بل كان يعترض على ابن عباس في قوله السابق وعندما يعلم زيد بخطئه ينتابه الضحك ! : ( عن طاوس قال : كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت : أنت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت ؟ قال : نعم ، قال : فلا تفت بذلك ، فقال ابن عباس : أما لي ، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ؟ قال : فرجع إليه زيد بن ثابت يضحك ويقول : ما أراك إلا قد صدقت ! ) (2) .
  وفي رواياتـهم أيضا أن ابن الخطاب عندما بلغته فتوى عن زيد في مسألة ، قال له عمر : ( يا عدو نفسه ! أنت تضل الناس بغير علم ! ) (3) .
  وكان زيد لا يساوي بين المتخاصمين في المعاملة فيكيل بالمكيالين ويتودد للأمراء دون الناس حال التنازع ، والأدهى طلبه من خصم الخليفة إعفاء الخليفة من اليمين !! وهذه كلها خصال منافية للعدالة :
  ( حدثنا الشعبي قال : كان بين عمر بن الخطاب وبين أبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما تداري في شيء ، وادعى أبي على عمر رضي الله تعالى عنهما ، فأنكر ذلك فجعلا بينهما زيد بن ثابت ، فأتياه في منـزله فلما دخلا عليه قال له عمر رضي الله تعالى عنه : أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم ، فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال : ههنا يا أمير المؤمنين ، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه : لقد جُرت في الفتيا ، ولكن أجلس مع خصمي ، فجلسا بين يديه فادعى أبي وأنكر عمر رضي الله تعالى عنهما فقال زيد لأبي : أعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره ، فحلف عمر

--------------------
(1) المعجم ج 5 ص 163 ح 9542 ، وعلق عليه الطبراني ( رواه البخاري في الصحيح عن أبي النعمان عن حماد قال البخاري : ورواه خالد وقتادة عن عكرمة ) وللزيادة راجع ح 9543 و 9544 و 9545 من نفس الجزء .
(2) ن . م ج 5 ص 163 ح 9540 ، وأخرجه بطريق آخر وعلق عليه الطبراني : ( رواه مسلم في الصحيح عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد) .
(3) المعجم الكبير للطبراني ج 5 ص 42 ح 4536 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 213 _
  رضي الله تعالى عنه ثم أقسم لا يدرك زيد بن ثابت القضاء حتى يكون عمر ورجل عمن عرض المسلمين عنده سواء ) (1) .
  ( أنبأ شعبة عن سيار قال سمعت الشعبي قال : كان بين عمر وأبي رضي الله تعالى عنهما خصومة فقال عمر : اجعل بيني وبينك رجلا قال : فجعلا بينهما زيد بن ثابت قال : فأتوه قال فقال عمر رضي الله تعالى عنه : أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم ، قال : فلما دخلوا عليه أجلسه معه على صدر فراشه ، قال : فقال : هذا أول جور جرت في حكمك ، أجلسني وخصمي مجلسا قال فقصا عليه القصة ، قال : فقال زيد لأبي : اليمين على أمير المؤمنين ، فإن شئت أعفيته ، قال : فأقسم عمر رضي الله تعالى عنه على ذلك ، ثم أقسم له لا تدرك باب القضاء حتى لا يكون لي عندك على أحد فضيلة ) (2) .
  وقد زاد هنا في الطنبور نغمة ! إذ اتضح أنه لا يهتم بشرائط القضاء عندما يخاصم ولا يمتثل لما يؤمره القاضي به ! : ( عن داود بن الحصين أنه سمع أبا غطفان بن طريق المزيد قال : اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع إلى مروان بن الحكم في دار ، فقضى باليمين على زيد بن ثابت على المنبر فقال زيد : احلف له مكاني ، قال مروان : لا والله إلا عند مقاطع الحقوق ، فجعل زيد يحلف أن حقه لـحق ، ويأبى أن يحلف على المنبر ، فجعل مروان يعجب من ذلك ) (3) .
  وهذا نوع آخر من أحكام زيد بن ثابت : ( عن خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت كانت له جارية فارسية وكان يعزل عنها فجاءت بولد ، فأعتق الولد وجلدها الحد (!) ، وقال : إنما كنت استطبت نفسك ، ولا أريدك ، وفي رواية قال : ممن حمّلت ؟ قالت : منك ! ، فقال : كذبت ، وما وصل إليك مني ما يكون منه الحمل وما أطؤك إلا أني استطبت نفسك ) (4) .
  فمثل زيد بن ثابت هذا لا يكاد يصلح لهذه المهمة الخطرة المصيرية ، فها هو يجعل رأيه واستحسانه طريقا لمصادرة ميراث الورثة الشرعيين ويضعه في بيت المال ! ، ويجيب مروان على مسائله برأيه ، ويفتي بغير علم وبعد أن يتضح له الأمر يضحك ويهش ويبش بدلا من الندم ، ويحيف في حكمه

--------------------
(1) السنن الكبرى ج 10 ص 136 ح 20250.
(2) نفسه ج 10 ص 144 ح 20297 ، راجع تاريخ المدينة لابن شبة ج 2 ص 755 ـ 756 .
(3) السنن الكبرى ج 10 ص 177 ح 20484 .
(4) المغني ج 10 ص 412 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 214 _
  ويتودد للأمراء حال التقاضي ، ولا يلتزم بشرائط القضاء ، فمثل هذا الشخص لا يمكن أن يُطمأن لـجمعه ، فكيف وهو حدث السن أيضا ؟!!
  والأخطر من ذلك كله أنه عبد مطيع لما يمليه الحاكم ، يداهن ويجامل على حساب حفظ القرآن من التحريف ! ، فقد أخرج أبو عبيد وسعيد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاري : ( أن عمر بن الخطاب قرأ ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) ( التوبة / 100 ) ، فرفع الأنصار ولم يلحق الواو في ( الَّذِينَ ) فقال له زيد بن ثابت : ( والَّذِينَ ) فقال عمر : ( الَّذِينَ ) فقال زيد : أمير المؤمنين أعـلـم (!!) ، فقال عمر رضي الله عنه : ائتوني بأبي بن كعب فاتاه فسأله عن ذلك ، فقال أبي : ( والَّذِينَ ) فقال عمر رضي الله عنه : فنعم إذن فتابع أبيا ) (1) .
  فلو كان عمر يرى مصداقية ووثاقة لكلام زيد لما انصرف عنه إلى أبي بن كعب وطلب رأيه ، وبعد هذا كله كيف يوثق بجمع زيدٍ هذا وكيف يضرب باعتراض ابن مسعود على شخص زيد عرض الجدار ؟!
  4 ـ التهاون في توقيفية السور والآيات !!
  وهنا أمر عجيب ! تحكي رواياتـهم حال جامعي القرآن وما كانوا عليه من التهاون في إثبات نصوصه ، فكانوا يثبتون ما أرادوا من الآيات لما أرادوا من السور ! وعلى استعداد لاختراع سور جديدة وجعلها من القرآن بتقطيع بعض الآيات منه ، وهو أمرٌ جائز في نظرهم ولم يكن بذاك العزيز بل كان على وشك التنجيز عند جمعهم للقرآن !
  * التهاون في توقيفية السور :
  أخرج الحاكم وأبو داود والنسائي وابن حِبّان وأحمد والترمذي : " عن ابن عباس ، قال : قلت لعثمان بن عفّان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المِـئـين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر ( بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) ووضعتموها في السبع الطُّـواَل ، ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو

--------------------
(1) الدر المنثور ج 3 ص 269 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 215 _
  تنـزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا ، وإذا نزلت عليه الآية فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها فظننت أنـها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ولم يُبـيّن لنا أنّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر ( بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) فوضعتها في السّبع الطّوال ) (1) .
  قال العسقلاني تعليقا على الرواية السابقة : ( ولما لم يفصح النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه رضي الله تعالى عنه ، ونقل صاحب الإقناع أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود ) (2) .
  وهذه الرواية تدل على أن خليفة المسلمين والصحابة ليسوا على علم بحال سورة التوبة ، هل هي سورة لوحدها أم تكملة لسورة الأنفال ! ، والأدهى أن ابن عفان لا ينسب هذا لجهله ولجهل من حوله وإنما يدّعي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهمل أمر هذا القرآن فلم بين لـهم هل هي سورة بحد ذاتـها أم لا ؟!
  وليس في هذا القسم مشكلة سوى :
  1 ـ جهل جامعي المصحف بسور القرآن .
  2 ـ يجعل عثمان اجتهاده سبيلا لتقسيم سور القرآن بحذف البسملة ، لا أن أصل السورة لا بسملة فيها !
  3 ـ إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أهمل أمر القرآن حتى لم يستطع كبار الصحابة وكتّاب الوحي التمييز بين السور ! حتى قال القرطبي في تفسيره : ( وقول رابع قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما قالوا : لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة ، وقال بعضهم : هما سورتان ، فتركت بينهما فرجة لقول من قال أنـهما

--------------------
(1) المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 221 و 330 وعلق عليه الحاكم ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) ووافقه الذهبي ، سنن أبي داود ح 786 في الصلاة باب من جهر بـها ، سنن الترمذي ح 3086 في التفسير باب و من سورة التوبة ، و حسّنه ، النسائي ( في فضائل القرآن ) ص 32 ، و السنن الكبرى للبيهقي ج 2 ص 42 ، المصاحف لإبن أبي داود ص 31 ـ 32 ، وصحيح ابن حبّان ج 1 ص 230 ح 43 . الترمذي ج 5 ص 272 ح 3086 ( باب ومن سورة التوبة ) قال الترمذي : ( هذا حديث حسن صحيح ).
(2) فتح الباري ج 9 ص 42 ، فضائل القرآن .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 216 _
  سورتان ، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان معا وثبتت حجتاهما في المصحف ) (1) .
  * التهاون في توقيفية الآيات

الجمع زمن عمر :
  وأخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل و ابن أبي داود عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير قال : ( أتى الحرث بن خزيمة بـهاتين الآيتين من آخر براءة ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ ) ( التوبة / 128 ) إلى عمر بن الخطاب فقال : من معك على هذا ؟ قال : لا أدري والله ، وإنيّ أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ووعيتها وحفظتها ، فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدةٍ فانظروا سورةً من القرآن فضعوها فيها فوضعتها في آخر براءة ) (2) .
  وهذه الرواية واضحة في أن المتصدّي لجمع القرآن كان على درجة كبيرة من الجرأة وحرية التصرف في توزيع آيات القرآن ! وكأنه يرى أن تقسيم آي القرآن خاضع لاجتهاد ورأي الخليفة فقوله ( لو كانت ثلاث آيات لجعلها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها في آخرها ) ، واضحٌ فيه ، ويستفاد منها أن هاتين الآيتين ليستا في محلهما الصحيح من القرآن بل أقحمتا في مكان وقع اختيارهم عليه ، وهو آخر براءة .
  * الجمع زمن عثمان :
  ومما أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف : ( فقام عثمان فقال : من كان عنده من كتاب الله شيئا فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان ، فجاء خزيمة بن ثابت فقال : إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما ، قالوا : ما هما ؟ قال : تلقيت من رسول الله صلى الله عليه

--------------------
(1) تفسير القرطبي ج 8 ص 62.
(2) كتاب المصاحف لابن أبي داود ج 1 ص 226 تحقيق محب الدين واعظ ، مسند أحمد ج 1 ص 199 الطبعة الميمنيّة ، مجمع الزوائد للهيثمي المجلد السابع ص 35 وعلق عليه ( رواه أحمد وفيه ابن اسحاق وهو مدلس وبقية رجاله ثقات ) ، وهو في كنـز العمال ج 2 ص 421 ح 4398 ( سورة التوبة ) والدر المنثور ج 3 ص 296 ط دار المعرفة وفي فتح الباري لابن حجر ج 9 ص 15 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 217 _
  (وآله) وسلم : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) ( التوبة / 128 ) إلى آخر السورة ، فقال عثمان : وأنا أشهد أنـهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال : اختتم بـهما آخر ما نزل من القرآن ، فختمت بـهما براءة ) (1) .
  وهذه تنص على أن دمج الآيات المتفرّقة في السور لم يكن توقيفيّـاً ، فقول ابن عفان : ( فأين ترى أن نـجعلهما ؟ ) واضح في عدم معرفته بمكان الآيتين من القرآن وكذا حال المجيب بقرينة جوابه الذي لم يحدد فيه اسم السورة وإنما قال : ( آخر ما نزل من القرآن ! ).
  أي سواء كانت براءة أم غيرها ! ، ويقرّبه نقل العسقلاني للرواية بـهذا الشكل :
  ( وقد وقع عند ابن أبي داود من رواية يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب فجاء خزيمة بن ثابت فقال : إني رأيت تركتم آيتين فلم تكتبوهما ! قالوا : وما هما ؟ قال : تلقيت من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ ) إلى آخر السورة فقال عثمان : وأنا أشهد فكيف ترى أن تجعلهما قال اختم بـهما آخر ما نزل من القرآن ) (2) ، أي بدون تحديد اسم السورة المختومة بالآيتين ! والعجيب أنـهم يرون أن آخر ما نزل من السور هي سورة التوبة مع أنـها سورة المائدة !!
  * زيد بن ثابت ينسب العبقرية لنفسه !
  وكما ينطبق الأمر على ابن الخطاب وابن عفان كذلك ينطبق على ابن ثابت ، فقد رووا أنه قال نفس تلك الكلمة ( ولو تمّت ثلاث آيات لـجعلتها سورة على حدة ) !
  عن الطبري قال زيد : ( ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ) ( التوبة / 128 ) إلى آخر السورة فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد منهم ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا فأثبتها في آخر براءة ، ولو تمّت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة ) (3) .

--------------------
(1) كتاب المصاحف لابن أبي داود ج 1 ص 182 ح33 وهو منقطع كما مر . وهو في كنـز العمال ج 2 ص 361 ( جمع القرآن ) وفتح الباري ج 9 ص 15 أقول : من غير المعقول أن تتكرر الحادثة بنفسها مع عمر وعثمان ، ولكنا ندور مع رواياتـهم في هذا المقام .
(2) فتح الباري ج 9 ص 21 .
(3) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري ج 1 ص 21 ، تاريخ المدينة ج 3 ص 1001 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 218 _
  وهو ما فهمه إمامهم الباقلاني حيث قال : ( لأن زيد قال : اعترضت المهاجرين والأنصار فلم أجدها ، وهو لا يقول ذلك إلا بعد أن يبالغ في الطلب ، فكره أن يجعلهما سورة على حالـها لـما لم يـجد في القرآن سورة أقل من ثلاث آياتٍ ، فرأى إلـحاقها ببـراءة أولى ) (1) .
  وهذا حال زيد وعدم تحرّجه عن إعمال استحساناته ورأيه في تقسيم آيات القرآن ، بل لو زاد ما وجده عن آيتين لكانت الآيات سورة مستقلّة ! ، ونخلص إلى أن عدم علمهم بمكان تلك الآيات كان سببا لوضعهما في آخر براءة !
  * النتيجة :
  مع كل هذا وتصريح علمائهم به ، ما الذي يضمن لنا أن بعض السور القصار لم تدخل في غيرها من سور القرآن ؟ ، أو أن بعض الطوال لم تتفرّق في غيرها من السور إذا كان الجامع يقسّم الآيات بمزاجه ؟ ، بل ما الذي يمنع من حصول التـهاون في عدم طلب بعض الآيات إذا كانت روح التهاون موجودة في نفوس من تصدوا لجمعه وقد أثرت هذه الروح في جعل آيتين في سورة براءة للمزاج والرأي ؟!
  5 ـ في المصحف المجموع لحنٌ !!
  قال الراغب الأصفهاني : ( لحن : اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب أو التصحيف ) ، وقال الطريحي في الصحاح : ( اللحن : الـخطأ في الإعراب ) (2) .
  من المؤسف أن الخطأ واللحن ادعي في الجمع الثاني للقرآن أي الجمع الذي استمر عليه القرآن إلى يومنا الحالي ولو ادعي هذا اللحن في جمع أبي بكر لهان الأمر ، والأدهى أن عثمان وهو من أمر بالجمع يدعى أن هنالك أخطاء وقعت في رسم المصحف المجموع وأن الأيام كفيلة بتصحيحه بدل أن يقوم بالدفاع عن جمعه !!
  وقد ذكر ابن أبي داود في كتابه المصاحف فصلا كاملا عن اللحن في القرآن . ( عن عكرمة قال : لما أُتي عثمان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن فقال : لو كان المملي من هذيل و الكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا ) (3) .

--------------------
(1) نكت الإنتصار لنقل القرآن ص 332 .
(2) الصحاح للطريحي ج 6 ص 2193 ، المفردات للراغب ص 449 .
(3) كتاب المصاحف لابن أبي داود ج 1 ص 232 وما بعدها .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 219 _
  ( عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي قال : لما فرغ من المصحف أُتي به عثمان فنظر فيه فقال : قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنـتها ) أخرجه أبو داود بطريقين .
  وسيأتي الكلام عنه مفصلا في مبحث آخر ، مع ذكر لبقية الروايات ولبقية أفراد فرقة التلحين !
  6 ـ إحراق عثمان للمصاحف أضاع ستة أمثال القرآن
  ذكرنا سابقا ما تبناه علماؤهم سلفا وخلفا من أن الأحرف السبعة تعني نزول القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف ، فحذفت تلك الأحرف والأوجه السبعة من المصحف بأمر من عثمان وأحرقها عيانا ، وقد مرت بعض كلمات علمائهم في ذلك .
  وشذ بعض علمائهم فصاروا إلى التأويل ، وتأويلهم هذا خروج عما أملته الأدلة الصريحة كما بيناه فيما سبق ، وسبب هذا التأويل أو قل الهروب هو ما تضمنته تلك الروايات من دعوة لتحريف القرآن ، ومن جهة أخرى عدم إمكانية تبني مسلك الشيعة الطارح لتلك الروايات رأسا ، لذا قالوا آمنا به كل من عند ربنا ، فما كان لهم منفذ بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت سوى التأويل ، فقالوا إن الأحرف السبعة كلها موجودة في القرآن ومصحفنا مشتمل عليها ولم يحذف منه شيء ، وقد مر الكلام عن هذا كله فلا نعيد .
  التحريف ثابتٌ على كلتا النظرتين بلا فرق
  * في رأي جمهور السلف :
  لا أرى أحدا له مسكة من عقل يدعي أن ما فعله ابن عفان ليس حذفا وتحريفا لقرآن منـزل ، كيف لا ؟! وقد أحرق الأحرف الستة الباقية التي نزل عليـها القرآن والتي دونت من قبل في مصحف أبي بكر ، ففقدت بتحريق عثمان ستة أضعاف ما هو موجود اليوم في مصحفنا !
  وقد يعتذر لعثمان بأنه أحرق ما قد أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقراءته من باب التوسعة والرخصة ، وها قد انقلبت الرخصة إلى نقمة فيكفي بقاء حرف واحد منها نرفع فيه النقمة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 220 _
  وهذا غير مقبول لأسباب :
  1 ـ الكلام فيه مغالطة لأن جواز الترك شيءٌ وجواز الحذف والإعدام شيءٌ آخر ، والكل يعلم أن المرخص بتركه لا يعني المرخص بحذفه وإلغائه من الدين ، فكتاب الله شأنه بيده عز وجل والتغيير فيه راجع له وحده ، ولا يصح تحريف كتاب الله اعتمادا على الظنون !
  ولو أمكن حذف الشيء لأنه من باب التخيير لقمنا بحذف الكفارات المخيرة كما في كفارة إفطار العمد في شهر رمضان ، واقتصرنا على واحدة بدعوى أن الجميع رخصة ولا ملزم لأحد منها ، وواضح أن من يفعل هذا يرمى بتحريف أحكام الله عز وجل .
  2 ـ صريح القرآن لا يـجوّز لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغيير شيء من شؤون التشريع من نفسه مستقلا عن الله عز وجل ، ولا أن يبدل حرفا واحدا من القرآن ، فكيف يصح هذا لغيره فيحذف ستة أمثال القرآن ؟!
  قال تعالى ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) ( يونس / 15 ) وقال تعالى ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) ( الحاقة / 44 ـ 47 ) وقوله تعالى ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) ( الأنعام / 50 ) ، فهذه الآيات المباركة تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس له الحق بتغير أي كلمة أو حرف من كتاب الله عز وجل ، بل لا يصح له أن يسبق الوحي بسرد ما وقف على علمه مسبقا صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه قوله تعال ( وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) ( طه / 114 ) ، فإن كان الاستعجال في تبليغ ما علمه الله عز وجل له صلى الله عليه وآله وسلم أمرا غير مقبول ، فكيف يقوم أحد الناس من بعده صلى الله عليه وآله وسلم يحذف أضعاف القرآن منه من غير إذن من الله عز وجل ويقال هذا مراد الله عز وجل ؟! ، ( أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ؟! ) ( يونس / 59 ).
  3 ـ قولهم إن الأحرف السبعة أصبحت نقمة يناقض ما نصت عليه رواياتـهم من أن هذه الوجوه المتعددة أنزلها الله رحمة لا نقمة ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) ( النور / 19 ) ، فمن الذي نعتمد تشخيصه فلان وفلان من الصحابة أم الله عز وجل ؟! ، فلعل الله عز وجل جعل

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 221 _
  الأحرف المحذوفة حتى تبينّ لنا منها كثيرا من مبهمات القرآن ومعضلاته وتشرح معانيه شرحا لا يختلف فيه أحد .
  4 ـ سلمنا ، ولكن من قال إن إحراق وتخريق الأحرف السبعة هو الحل الذي يريده الله عز وجل ؟! ، فلماذا لا يمنع من قراءتـها مع الاحتفاظ بنصها في مكان آخر غير المصحف ؟
  5 ـ سلمنا ، ولكن بأي دليل اقتصر على هذا الحرف بالذات من الألفاظ المتفقة في المعنى ؟!
  لذا أجهد أهل السنة أنفسهم لإيجاد ما يمكنهم إقناع الناس به بأن ما حذفه عثمان وأنقصه كان رضا لله عز وجل ، فكان نتيجة جهدهم هو أن التحريق والتخريق لستة أمثال القرآن كان بمرأى ومسمع من كل الناس وما غيروا عليه ورضاهم رضا الله . وهذا الكلام غير مقبول البتة ، لأمور :
  1 ـ لا ملازمة بين سكوت غير المعصوم وإمضائه ، فإن عدم الجهر بالإنكار أعم من الموافقة ، فلعل البعض غير راض بما يجري لكنه لم يجهر بالإعتراض لأسباب خاصة ، فكم من مرة غيّر الأمراء أحكام الله عز وجل دون رضا الناس ولا تجد أحدا منهم ينكر عليهم .
  2 ـ سلمنا ، ولكن من الذي أحرز رضا المسلمين وهم في شتى بقاع الأرض ؟! ، فهل أحرزوا رضا من في اليمن والبصرة وفارس ومصر و و ؟!!
  3 ـ سلمنا ، ولكن الإجماع لم يتحقق بمخالفة عبد الله بن مسعود ومن معه من أهل الكوفة حيث عارضوا تحريق عثمان للمصاحف وإلغائه أضعاف القرآن ، فقد كان يأمرهم ابن مسعود ليغلّوا المصاحف ولا يعطوها لجلاوزة عثمان فيحرقها ، وليلقوا الله بـها يوم القيامة ، ناهيك عن أن رواياتـهم تنص أن ابن مسعود هو مرجع الصحابة في القرآن بتعيين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
  4 ـ سلمنا ، لكن من قال إن الإجماع يصحح حذف قرآن أنزله الله عز وجل ؟! وإلا فما معنى أمره صلى الله عليه وآله سلم لهم بالتمسك بكتاب الله عز وجل ؟!
  5 ـ إن كان إجماع الصحابة كاشف عن حكم الله في كتابه ، فما بال الصحابة والتابعين خالفوا حكم الله عز وجل فعادوا بعد احراق المصاحف وإلغاء الأحرف الستة يقرؤوا بالشواذ

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 222 _
  ويكتبوها في مصاحفهم ؟! ، وكان هذا فعل عائشة وحفصة حتى بقي في مصحف الأخيرة زيادات شاذة إلى زمن متأخر ، وكذلك فعل ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهم ، كما سيأتي بإذنه تعالى .
  وهكذا يتضح أن ما ذكروه من التخريج مناقش مبنى وبناءً ولا يمكن التعويل عليه لإثبات جواز إحراق القرآن وإلغاء أضعافه ، فعلى نظرتـهم تلك نعلم بأن عثمان بن عفان هو أكبر محرف للقرآن في تاريخ البشرية .
  * في نظرة الـمؤوليـن :
  المعنى الآخر ـ غير المشهور ـ يفيد أن الأحرف السبعة موجودة بين طيات مصحفنا اليوم ، وهذا المعنى يخرج عثمان بن عفان عن دائرة التحريف ، ولكن من جهة أخرى يثبت التحريف لكثير من أكابر الصحابة ، فقد نصت رواياتـهم الصحيحة على أن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعمر بن الخطاب وأبا موسى الأشعري وعائشة وحفصة وابن الزبير وأم سلمة وغيرهم كانت لهم مصاحف تختلف نصا عما هو موجود في مصحفنا اليوم ، وكانوا يقرؤون بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير على أنه قرآن منـزل من عند الله عز وجل ! كما سيأتي بإذنه تعالى ، لذا قال السيد ابن طاووس رضوان الله عليه في رده على أبي علي الجبائي :
  ( كلّما ذكرته من طعن وقدح على من يذكر أن القرآن وقع فيه تبديل وتغيير فهو متوجه إلى سيّدك عثمان لأن المسلمين أطبقوا على أنه جمع الناس على هذا المصحف الشريف وحرّف وأحرق ما عداه من المصاحف ، فلولا اعتراف عثمان بأنه وقع تبديل وتغيير من الصحابة ما كان هناك مصحف يحرق وكانت تكون متساوية ) (1) .
  وحتى أصحاب هذا الرأي المؤول لم يسلموا من الخدش فيه من قبل الجمهور ! ، قال في كتاب دراسات حول القرآن : ( وإذا كان عثمان قد كتب مصحفه على الأحرف السبعة فلا يكون في ذلك قضاء على الفتنة ولظل الناس على اختلافهم إلى يومنا هذا وليس كذلك ) (2) .

--------------------
(1) سعد السعود ص 144.
(2) دراسات حول القرآن ص 80 للدكتور بدران أبو العينين بدران أقول : هذا التضارب متوقع لأن الحل الوحيد هو رفض هذين المعنيين من الأحرف السبعة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 223 _
  وعلى أي حال فإن حرق المصاحف وإلغاء بعض نصوصها يقتضي أحد أمرين : إما كون تلك النصوص قرآنا فيكون عثمان قد أسقط الكثير من القرآن وهو ستة أضعاف ما عندنا ، وإما أن لا تكون قرآنا فيثبت التحريف لكثير من سلفهم الصالح الذي قال بقرآنية ما ليس منه .
  ثانيا : الشيعة الإمامية وجمع القرآن
  الشيعة لم يقبلوا ما ذهب له أهل السنة من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحل إلى ربه عز وجل وترك القرآن مفرقا في نتاتيفٍ من خوص النخيل وقطع من الحجارة وعظام أكتاف الإبل ، فهذا عندهم أقرب للخيال من الواقع ، وكذا الحال بالنسبة لجمعه على يد بعض الصحابة بتلك الطريقة الساذجة ، قال الشيخ علي الكوراني العاملي حفظه الله تعالى في تدوين القرآن :
  ( هذه الأدلة التي يمكن أن يضاف إليها غيرها حتى تبلغ خمسين دليلا ، يكفي بعضها لإثبات أنه لم تكن توجد مشكلة عند المسلمين اسمها جمع القرآن !! ولكن الباحثين في أمور القرآن وعلومه من إخواننا السنة يريدون منا أن نغمض عيوننا عن أدلة وجود نسخ القرآن وانتشارها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وعهد أبي بكر وعمر ... مع أن الإسلام بلغ مناطق واسعة من الشرق والغرب ، وأقبلت الشعوب من ورثة الحضارة الفارسية والرومانية على قراءة القرآن ودراسته ، وكان في كل مدينة وربما في كل قرية من يقرأ ويكتب ويريد نسخة من القرآن المنـزل على النبي الجديد ، بل كانت الرغبة والتعطش لسماع القرآن وتعلمه وقراءته موجة عارمة في شعوب كل البلاد المفتوحة ، حتى أولئك الذين لا يعرفون العربية ! ! يريدون منا أن نغمض عيوننا عن هذا الواقع وأن نقبل بدله نصوصا قالت إن نسخة القرآن كانت تواجه خطر الضياع ، لأنـها كانت مكتوبة بشكل بدائي ساذج على ، العظام وصفائح الحجارة وسعف النخل ، الخ .
  وأن الدولة شمرت عزيمتها ونـهضت لإنقاذ كتاب الله من الضياع والإندثار . . وشكلت لـجنة تاريخية ، بذلت حهودا مضنية في جمع القرآن ... حتى أنـها استعطت آياته وسوره من الناس استعطاء على باب المسجد ! لا بأس أن نمدح الصحابة وجهودهم لخدمة الدين والقرآن ... لكن بالمعقول ، فالمدح غير المعقول ابن عم الذم ! ! ولا بأس أن نمدح الصحابة وجهودهم لخدمة الدين والقرآن ... لكن بشرط أن لا نوهن الدين والقرآن والرسول صلى الله عليه وآله ! ) (1) .
  إذن لا واقع لتلك القصة الشيقة باعتبارها جمع القرآن الأول ، نعم لها واقع آخر لكثرة رواياتـهم التي تلزمنا التسليم بخطوطها العريضة وسيأتي ذكر الهدف من ذلك الجمع ، ولكن لا مجال للقول بانبثاق قرآن المسلمين شرقا وغربا من ذلك الجمع وعدم وجود كيان جمعي للقرآن ومصحف مدون قبل ذلك العمل الخطير الذي نسب إلى زيد .

--------------------
(1) تدوين القرآن ص 253 ـ 254.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 225 _
الـشيعـة وأول من جمع للقرآن :
  إن أول من أمر بجمع القرآن وقام بتنظيم آياته وأثبتها في مواضعها المرادة لله عز وجل هو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو الذي بدرايته وحفظه أتم السور ورتبها ، وأشرف عليها ممليا ومستكتبا ، آمرا الناس بكتابته والقيام بحفظه والاشتغال بنسخه ، وما أرجأ آيةً نزلت ولا كلمة إلى زمن آت لتكتب ، ولا لمقام آخر لتدون ، وما اعتمد على أمته في هذا الدور الخطير الذي يحتاج إلى تسديد مباشر من الوحي .
  وكيف يظن الشيعة به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتركها هكذا عشواء في ظلماء يُتخبط بـها هذا وذاك من هنا وهناك ؟! حتى يصير القرآن دُولة لأمزجتهم وميدانا لآرائهم يتمزق كل ممزق أو يضيع بموت حفظته ، وهو كتاب آخر الرسالات وانقطاع وحي السماء !
  أم كيف يتركه مبعثرا بين أيديهم لتدخل سخلة فتأكل آية منه أو آيتين كما تزعم عائشة ؟! وكيف يظن الشيعة به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينام قرير العين والقرآن لم يعرف أوله من آخره بعدُ ممزق الأشلاء بين الحجارة وخوص النخل !؟ معاذ الله .
  والحق أنه ما كان ينتهي صلى الله عليه وآله وسلم من تلقي الوحي إلا ويأمر الكتبة ليدونوا ما سيمليه عليهم ، ثم يأمرهم ليعيدوا عليه صلى الله عليه وآله وسلم فما زاغ أقامه وما نقص أكمله ، وهكذا كلما نزل قرآن من السماء ازداد حجم المصاحف عند الصحابة التي كانت تضاف لها الآيات المكتوبة في الرقاع وترتب في المصاحف بحسب ما يأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم به ، واستمر العمل على هذا المنوال إلى أواخر أيام حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، وحينما انقطع وحي السماء كان المصحف قد كمل تلقائيا للعمل الدؤوب والمتواصل في جمع آياته النازلة ورتيبها بعد نقلها من الرقاع إلى المصحف ، وقد كان بعضهم يفتخر بختمه القرآن وجمعه في مصحفه بإملاء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يأتي له شبه ولا تشوبه خلجة وكفى بالله شهيدا وبرسوله جامعا ورقيبا (1) .

--------------------
(1) هذا التصوير لكيفية جمع القرآن في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أسلم تصوير يتجاوز بعض الإشكالات ، وهنا ملاحظة مهمة جدا يجب التنبيه عليها وهي أنه عندما أقول إن جمع القرآن كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أقصد به أن تدوين القرآن بتمامه وكماله فرغ منه في بداية حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبل أن يتم نزول كل القرآن من السماء ‍! وإنما أقصد أن القرآن رتبت آياته النازلة ونسقت سوره النازلة الواحدة تلو الأخرى كلا على حدة ، فعرف أول السورة من آخرها على وجه منسق منظم وإن لم يتم نزول القرآن بعد ، فيسمى هذا التنسيق والترتيب جمع للقرآن ومصحف مجموع ، فالجمع المقصود منه هو لملمة الشتات في كيان واحد جمعي تضاف إليه أجزاؤه الأخرى يوما بعد يوم في ترتيب وتنسيق إلى أن يكمل في آخر حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعبارة واضحة إن عدم نزول كل القرآن من السماء لا يناقض تسمية هذا الكيان المرتب والمنسق بأنه جمع للقرآن ومصحف مجموع ، وهذا خلاف ما يقول أهل السنة من أن القرآن إلى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم كان مبعثرا هنا وهناك بعضه في صدور الرجال وبعضه في اللخاف وبعضه في الرقاع وبعضه دون على الحجارة وهكذا ، ولو قالوا إن القرآن كان مرتبا منسقا ولكن آخر آيات منه لم تدون في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاتفقنا معهم على أن القرآن جمع في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واقتصر الخلاف على أن إلحاق كل الآيات في هذا الجمع تم في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أم أن بعضها ألحقت فيما بعد .