القول بأن أول جمع للقرآن كان في زمن أبي بكر لا يصح
  هناك بعض أسباب تقف دون قبول الروايات التي تزعم أن القرآن جمع أول مرة في زمن أبي بكر ، من هذه الأسباب :
  1 ـ تضارب الروايات التي تحكي جمعهم الأول
  ذكر السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه في كتابه البيان بعض الروايات المتعارضة في حكاية ذلك الجمع وسنذكر هنا خلاصة ما توصل إليه رضوان الله تعالى عليه ومن أراد التفصيل فليراجع :
  ( وقد خلص إلى تناقضها في تعيين العهد الذي جمع فيه القرآن متردداً بين عهود أبي بكر ، عمر ، عثمان (1) ، ومن هو المتصدي لذلك ؟ هل هو أبو بكر ، أو عمر ، أو زيد بن ثابت ؟ وهل بقي من الآيات ما لم يدون إلى زمن عثمان ؟ ومن الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن ؟ ومتى ألحقت بعض الآيات في القرآن ؟ وبماذا ثبت ذلك ؟ وهل يكفي ذلك لتواتر القرآن ؟ ) (2) .
  2 ـ اهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم بجمع القرآن
  الروايات التي تعرض جمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبين لنا مدى اهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم وحثه الشديد للصحابة ليتكالبوا على تدوين القرآن وترتيبه وتنسيق آياته ، فهاك نبذة منها :
  ( حدثني سعيد بن سليمان أخبره عن أبيه سليمان بن زيد عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة وعرق عرقا .

--------------------
(1) هذا اعتراض قد بينا جوابه فيما سبق من أن قرآن الدولة لم يتم جمعه لا في زمن أبي بكر ولا في زمن عمر لذلك صار لكل من أبي بكر وعمر جمع ، وأما جمع عثمان فهو الجمع الثاني له ، وكلام السيد رضوان الله تعالى عليه يرد على أهل السنة الذين يرون أن المصحف جمع بتمامه في زمن أبي بكر مع أن الروايات تذكر أنه بقي إلى زمن عمر ، وأما على ما بيناه فلا يرد .
(2) تأريخ القرآن ص 66 ـ 67 ، د . الصغير ط دار المؤرخ العربي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 227 _
  شديدا مثل الجمان ثم سري عنه ، فكنت أدخل عليه بقطعة القتب أو كسرة فأكتب وهو يملي علي ، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القرآن ، حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدا فإذا فرغت ، قال : اقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ، ثم أخرج به إلى الناس ) (1) .
  ( عن جده زيد بن ثابت قال : كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، وكان يشتد نفسه ويعرق عرقا شديدا مثل الجمان ثم يسري عنه فأكتب وهو يملي علي ، فما أفرغ حتى يثقل ، فإذا فرغت قال : اقرأ فأقرأه فإن كان فيه سقط أقامه ) (2) .
  ( فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنـزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا ) (3) .
  أقول : هذه الرواية واضحة في ترتيبه للسور والآيات وتنسيقها في أماكنها المخصوصة ، وبطبيعة الحال فإن الأمر بجعل آية كذا في مكان معين يعني المحافظة على مكانـها بين الرقاع وتنسيقها بأن لا يسبق المتأخر المتقدم ولا العكس وهذا هو الجمع المقصود إلى أن يكمل بـهذه الطريقة لوقت انقطاع الوحي ، لا كما يزعم أهل السنة من أن بعضه في رقاع وبعض في حجارة وبعض آخر في أكتاف وبعضها في صدور الرجال مبعثرة كل واحدة منها في مكان مغاير للأخرى .
  ( عن خارجة بن زيد أن نفرا دخلوا على أبيه زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه فقالوا : حدثنا عن بعض أخلاق النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فقال : كنت جاره فكان إذا نزل الوحي بعث إلي فآتيه فأكتب الوحي ) (4) .
  ( حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : لما نزلت ( لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ) ( النساء / 95 ) . قال النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ادعوا فلانا فجاءه ومعه الدواة واللوح أو الكتف فقال اكتب … الخ ) (5) .

--------------------
(1) المعجم الكبير ج 5 ص 142 ح 4889 .
(2) المعجم الكبير للطبراني ج 5 ص 142 ح 4888
(3) سنن الترمذي ج 5 ص 272 ح 3086 (باب ومن سورة التوبة ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 241 ح 2875 و ص 360 ح 3272 .
(4) السنن الكبرى ج 7 ص 52 ح 13118 ، طبقات ابن سعد ج 1 ص 363
(5) البخاري ج 3 ص 1042 ح 2676 ، ج 3 ص 1042 ح 2677 ، ج 4 ص 1677 ح 4316 ، ج 4 ص 1677 ح 4317 ، السنن الكبرى ج 4 ص 1677 ح 4318 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 228 _
  وهذه الرواية تبين حرصه صلى الله عليه وآله وسلم الشديد على جمع القرآن وتدوينه وسيأتي بإذنه تعالى أن الصحابة كانوا يؤلفون القرآن من الرقاع ، ولا ريب أن كتابته مبعثرا في عظام وحجارة يناقض هذه الروايات وما فيها من الاهتمام والحرص بجمع القرآن أولا بأول .
  3 ـ كانوا يعملون على جمع القرآن في عصر النبوة
  ( عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : طوبى للشام ! فقلنا : لأي شيء ذاك ؟ فقال : لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم ) (1) .
  هذه الرواية صريحة في أن الصحابة كانوا يؤلفون القرآن في زمن رسول الله من الرقاع التي دون عليها القرآن بإملائه صلى الله عليه وآله وسلم ، فالرقاع كانت المحطة الأولى من التدوين أو قل كانت الرقاع مسودّة يكتب فيها ما يملى عليهم ومن ثم ينقلون ما فيها مرتبا إلى المصحف المؤلف .
  قال الحاكم النيسابوري تعليقا على هذه الرواية : ( عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم نؤلف القرآن من الرقاع ، وفيه الدليل الواضح أن القرآن إنما جمع في عهد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ) (2) .
  وهذا الاهتمام بتدوين وتأليف القرآن من الرقاع مع كون البعض قد ختم القرآن كله في عهده صلى الله عليه وآله وسلم سينتج لنا بطبيعة الحال مصحفا مجموعا كاملا عند انتهاء نزول القرآن .

--------------------
(1) المستدرك ج 2 ص 249 ح 2900 ، ح 2901 ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) ، شعب الإيمان للبيهقي ج 2 ص 433 ح 2311 تحقيق أبي هاجر زغلول ط دار الكتب العلمية ، مسند أحمد ج 5 ص 184 ح 21647 ، سنن الترمذي ج 5 ص 734 ح 3954 .
(2) المستدرك ج 2 ص 668 ح 4217 ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه )

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 229 _
  روايات أهل السنة في ختم الصحابة للقرآن في عصر النبوة
  وهاك بعض الروايات في أن الصحابة قد ختموا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
  ( وأخرج ابن النجار في تاريخه عن رزين بن حصين رضي الله عنه قال : قرأت القرآن من أوله إلى آخره على علي بن أبى طالب رضي الله عنه فلما بلغت الحواميم قال لي : قد بلغت عرائس القرآن ، فلما بلغت اثنتين وعشرين آية من (حم عسق) ( الشورى / 1 ـ 2 ) ، بكى ثم قال : اللهم إني أسألك إخبات المخبتين ، وإخلاص الموقنين ، ومرافقة الأبرار ، واستحقاق حقائق الإيمان ، والغنيمة من كل بر ، والسلامة من كل إثم ، ورجوت رحمتك والفوز بالجنة والنجاة من النار ، ثم قال : يا رزين ! إذا ختمت فادع بـهذه فإن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم أمرني أن أدعو بـهن عند ختم القرآن ) (1) .
  ( عن عباد أبي الأخضر عن خباب عن نبي الله صلى الله عليه (وآله) وسلم أنه لم يأت فراشه قط إلا قرأ ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) ( الكافرون / 1 ) حتى يـختم ) (2) .
  ( عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال له : اقرأ القرآن في أربعين ) (3) .
--------------------
(1) الدر المنثور ج 6 ص 4 ـ 5.
(2) المعجم الكبير ج 4 ص 81 ح 3708 ، أقول : هذه الرواية فيها نحو دلالة على أن المصحف كان آخره مجموعا ومرتبا على ما نحن عليه من كون سورة الكافرون في آخر سور القرآن ، وهناك بعض الروايات المشيرة لهذه المسألة : ففي سنن الترمذي ج 2 ص 108 ح 306 (باب ما جاء في القراءة في صلاة الصبح) : ( وروي عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أنه قرأ في الصبح بالواقعة وروى عنه أنه كان يقرأ في الفجر من ستين آية إلى مائة وروي عنه أنه قرأ ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) ( التكوير / 1 ) ، وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في الصبح بطوال المفصل ) .
  قال الترمذي : ( وعلى هذا العمل عند أهل العلم ، وبه قال سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي ) أقول : وهذا يدل على أن سور المفصل كانت معروفة قبل أن يجمع المصحف في زمن عثمان على هذه الهيئة ، ولا مجال إلا للقول بجمعه تحت إشراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن جمع أبي بكر لم يظهر للناس .
  وأيضا في سنن الترمذي ج 2 ص 110 ح 307 ( باب ما جاء في القراءة في الظهر والعصر ) و ج 2 ص 112 ح 308 (باب ما جاء في القراءة في المغرب) : ( وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في الظهر بأوساط المفصل ورأى بعض أهل العلم أن القراءة في صلاة العصر كنحو القراءة في صلاة المغرب يقرأ بقصار المفصل )
  أقول : وواضح أن هذا الترتيب المشتهر بين الصحابة لا مجال له إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر بترتيبه وإلا لو ترك كل صحابي ليرتب مصحفه على مزاجه لما عرف المفصل من غيره وكل هذا يدل على أن القرآن جمع تحت إشرافه صلى الله عليه وآله وسلم .
(3) سنن الترمذي ج 5 ص 197 ح 2947 ( قال أبو عيسى هذا حديث حسن وروى بعضهم عن معمر عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أمر عبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أربعين ).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 230 _
  ( عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال : يا رسول الله أقرأ القرآن في ثلاث ؟ قال : نعم ، قال وكان يقرؤه حتى توفي ) (1) .
  ( وعن عثمان بن عمرو بن أوس عن أبيه قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في وفد ثقيف فكان يخرج إلينا فيحدثنا ، فأبطأ علينا ذات ليلة ، فقلنا يا رسول الله لقد أبطأت علينا ، فقال : إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أقطعه حتى أفرغ منه ، فلما أصبحنا سألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : كيف تحزبون القرآن ؟ فقالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وما بين ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) ( ق / 1 ) ، إلى آخر المفصل حزب " (2) .
  وهذه الرواية واضحة في أن الصحابة كانوا قد جمعوا القرآن في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلا فهل لتحزيب القرآن وتقسيمه إلى مفصل وغيره معنى سوى أنه كان مرتبا ومنسق السور بضمها بعضها إلى بعض ؟!
  ( وعن قيس بن صعصعة أنه قال : يا رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ قال : في خمس عشرة ، قال : إني أجدني أقوى من ذلك ، قال : في جمعة ، قال : إني أجدني أقوى من ذلك ، قال : فمكث كذلك يقرؤه زمانا حتى كبر وكان يعصب على عينيه ثم رجع فكان يقرؤه في خمس عشرة ، فقال : يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم الأولى ) (3) .
  ( عن عبد الله بن عمرو قال قلت : يا رسول الله في كم أقرأ القرآن ؟ قال : اختمه في شهر ، قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشرين ، قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في خمسة عشر ، قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشر ، قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في خمس ، قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ! قال : فما رخص لي ) (4) .

--------------------
(1) مجمع الزوائد ج 7 ص 171 ـ 172 ( باب في كم يقرأ القرآن ) رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف . وذكره في ج 1 ص 269 ( باب ثان في كم يقرأ في الليل ) وعلق عليه ( رواه أحمد والطبراني في الكبير إلا أنه قال نعم إن استطعت ، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام ).
(2) مجمع الزوائد ج 1 ص 269 وعلق عليه ( رواه الطبراني في الكبير ) .
(3) ن . م وعلق عليه ( رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام ).
(4) سنن الترمذي ج 5 ص 196 ح 2946 وعلق عليه ( قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه يستغرب من حديث أبي بردة عن عبد الله بن عمرو وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عبد الله بن عمر وروي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث .
  وروي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال له : اقرأ القرآن في أربعين ، قال إسحاق بن إبراهيم : ولا نحب للرجل أن يأتي عليه أكثر من أربعين ولم يقرأ القرآن لهذا الحديث ، وقال بعض أهل العلم : لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث للحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ) ، شعب الإيمان للبيهقي 2 ص 394 ح 2166 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 231 _
  ( عند عبد الله بن عمرو قال : جمعت القرآن فقرأت به في كل ليلة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : إني أخشى أن يطول عليك زمان أن تمل ) (1) .
  ( سمعت عكرمة بن سليمان يقول : قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت الضحى قال لي : كبر عند خاتمة كل سورة حتى نختم فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت الضحى قال لي : كبر حتى تختم ، وأخبرني عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك ، وأخبره أُبـي أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أمره بذلك ) (2) .
  وهذه تدل على أن الضحى كانت في أواخر سور القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هي عندنا الآن .
  ( عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : من صلى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة ، ومن ختم القرآن فله دعوة مستجابة ) (3) .
  ( قرأ ابن عباس على أبي ، فلما ختم ابن عباس قال : استفتح بالحمد ، وخمس آيات من البقرة ، هكذا قال لي النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم حين ختمت عليه ) (4) .

--------------------
(1) الفتح الرباني مع مختصر شرحه بلوغ الأماني ج 18 ص 18 لأحمد عبد الرحمن البنّا ط دار الشهاب القاهرة .
(2) شعب الإيمان للبيهقي ج 2 ص 371 ح 2079 تحقيق أبي هاجر زغلول ط دار الكتب العلمية ، علق عليه المحقق ( أخرجه البيهقي من طريق الحاكم في المستدرك ج 3 ص 304 وصححه الحاكم و تعقبه الذهبي بقوله : البزي قد تكلم فيه ) .
(3) المعجم الكبير للطبراني ج 18 ص 259 ح 647 ، وهو في مجمع الزوائد المجلد الرابع ج 7 ص 172 ( باب الدعاء عند ختم القرآن ) والإتقان ج 1 ص 111 و النشر في القراءات العشر ج 2 ص 402 .
(4) النشر ج 2 ص 440 ـ 441 بأسانيد عدة أقول : هذه الروايات تدفع إشكال عدم معقولية جمع القرآن كاملا في حياته صلى الله عليه وآله وسلم لأن القرآن كان ينـزل منجما فكيف يجمع وهو لم ينـزل بعد ! ، وواضح أنه يكفي أن يجمع في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يصدق أنه جُمع في حياته صلى الله عليه وآله سلم ، وهذه الروايات تصرح أنـهم ختموا القرآن في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا مانع من أن يجمع القرآن شيئا فشيئا إلى أن يكمل في آخر حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا معنى جمع القرآن الذي نقصده ، نعم القول بأنـهم لم يجمعوا القرآن بتمامه إلى زمن قريب من وفاته صلى الله عليه وآله وسلم قول صحيح ، ولكن هذا لا يمنع من كتابتهم الآيات أولا بأول بإشراف منه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن ينتهي نزول الآيات فينتهي حينها جمع المصحف .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 232 _
  أقوال علماء أهل السنة في ختم القرآن في عصر النبوة
  قال ابن حزم : ( مسألة : ويستجب أن يختم القرآن كله مرة في كل شهر ، فان ختمه في أقل فحسن ، ويكره أن يختم في أقل من خمسة أيام ، فان فعل ففي ثلاثة أيام لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ذلك ، ولا يجوز لأحد أن يقرأ أكثر من ثلث القرآن في يوم وليلة ، برهان ذلك ما حدثناه ـ بسنده ـ عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( اقرأ القرآن في شهر ، قلت إني أجد قوة ، قال : فاقرأه في عشرين ليلة ، قلت اني أجد قوة ، قال فاقرأه في سبع ، لا تزد على ذلك ) وبسنده ( عن عبد الله بن عمرو بن العاصي : أنه قال لرسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : في كم أقرأ ، القرآن ؟ قال : في شهر ) ثم ذكر الحديث ، وفيه أنه عليه السلام قال له : ( أقرأه في سبع ، قال : إني أقوى من ذلك ، قال عليه السلام : لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ) (1) .
  قال ابن كثير : ( ثم روى البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يحيى أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي هريرة عن أبي سلمة قال : واحسبني سمعت أنا من أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : اقرأ القرآن في شهر ، قالت : إني أجد قوة ، قال : فاقرأه في سبع و لا تزد على ذلك ) .
  ( فهذا السياق ظاهره يقتضي المنع من قراءة القرآن في أقل من سبع ، وهكذا الحديث الذي رواه أبو عبيد ـ بسنده ـ عن قيس بن صعصعة أنه قال للنبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : يا رسول الله في كم أقرأ القرآن ؟ قال : في كل خمس عشرة ، قال : إني أجدني أقوى من ذلك قال : ففي كل جمعة ـ إلى قوله ـ ولكن دلت أحاديث أخر على جواز قراءته فيما دون ذلك ، كما رواه الإمام أحمد في مسنده ـ بسنده ـ عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال : يا رسول الله أقرأ القرآن في ثلاث ؟ قال : نعم قال فكان يقرأه حتى توفي ، وهذا إسناد جيد قوي حسن ) (2) .
  قال الشيخ البـناّ : ( عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بابن له فقال : يا رسول الله أن أبني هذا يقرأ المصحف بالنهار و يبت بالليل فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ما تنقم أن أبنك يظل ذاكرا و يبيت سالما ) .

--------------------
(1) المحلى بالآثار لابن حزم ج 3 ص 53 مسألة 294 .
(2) فضائل القرآن لابن كثير ص 79 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 233 _
  وقال في شرحه : ( أن معنى ( يقرأ المصحف بالنهار ) ظاهره أنه كان يختم القرآن في يوم وينام بالليل فأنكر عليه والده فعله وشكاه إلى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم لأنه لم يفعل إلا ما يوجب الثناء عليه ، وفيه جواز ختم القرآن في اليوم لمن لم يخل بالقراءة والله أعلم ) (1) ، وكذا قال الكثير ممن شرحوا تلك الروايات من علمائهم .
  4 ـ بعض الصحابة أتـموا جمع القرآن في عصر النبوة
  ( عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أربعة كلهم من الأنصار ، أبي ومعاذ بن جبل وأبو زيد وزيد بن ثابت ، قلت لأنس : من أبو زيد ؟ قال : أحد عمومتي ) (2) .
  ( عن أنس بن مالك قال : مات النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة ، أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد قال : ونحن ورثناه ) (3) .
  أقول : قوله ( نحن ورثناه ) نص صريح في أن الجمع الذي قصده أنس هو الجمع التقليدي في الصحف وعلى ظهر الرقاع ، لا كما قال أهل السنة من أن جمع هؤلاء كان بمعنى الجمع في الصدور ، إذ كيف يصح توريث ما هو محفوظ في الصدور ؟!
  5 ـ المصحف موجود في عصر النبوة
  الروايات الآتية تتعارض مع قولهم إن أول جمع للمصحف كان في زمن أبي بكر إذ فيها أن لفظ المصحف كان متداولا في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا معناه وجود كيان جمعي للقرآن منسق ومرتب الصفحات وهذا هو محل النـزاع سواء أكان الجمع بتمام الآيات أو ببعضها ، فإن تحقق هيئة

--------------------
(1) الفتح الرباني مع مختصر شرحه بلوغ الأماني لأحمد البنا ج 18 ص 18 ط دار الشهاب القاهرة .
(2) صحيح البخاري ج 4 ص 228 ح 3599 ، صحيح مسلم ج 7 ص 149 و 150 ، السنن الكبرى ج 6 ص 211 ، سنن الترمذي ج 5 ص 331 ، مسند أحمد ج 3 ص 233 ، 277 .
(3) صحيح البخاري ج 6 ص 103 ، صحيح مسلم ج 4 ص 191 ، الإتقان ج 1 ص 70 عن ابن جرير و البخاري ، فتح الباري ج 9 ص 49 ، تفسير ابن كثير ج 4 ص 28 نقلا عن صحيح مسلم ، البرهان للزركشي ج 1 ص 241 أقول : وليس هؤلاء فقط من جمع المصحف في عهده صلى الله عليه وآله وسلم وسيأتي ذكر البقية في ضمن كلمات علمائهم الآتية .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 234 _
  المصحف المنسق الورق والمرتب السور هو حقيقة الجمع كما أكدنا عليه مرارا ، وهذه الروايات تدل عليه :
  ( عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : قراءة الرجل القرآن في غير الـمصحف ألف درجة وقراءته في المصحف يضاعف على ذلك إلى ألفي درجة ) (1) .
  ( عن سلمة وهو ابن الأكوع أنه كان يتحرى موضع مكان الـمصحف يسبح فيه ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم كان يتحرى ذلك المكان ، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر شاة ) (2) ، ولا ريب في أنه كان يتحراه لكونه مكانا للمصحف .
  ( عن عبد الله بن عمرو أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بابن له فقال : يا رسول الله إن ابني هذا يقرأ المـصحف بالنهار ويبيت بالليل ! فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ما تنقم أن أبنك يضل ذاكرا و يبيت سالما ) (3) .
  عن نافع عن ابن عمر قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ينهى أن يسافر بالمـصحـف إلى أرض العدو ) (4) .
  استدل بعض علماء أهل السنة على أن المقصود هنا هو المصحف بتمام الآيات القرآنية لا ببعضها ، قال الإمام أبو المحاسن الحنفي :

--------------------
(1) المعجم الكبير للطبراني ج 1 ص 221 ح 601 ، وقد ذكر في الجامع الكبير للسيوطي ج 12 ص 3930 ح 284 وعلق عليه بأنه قد صُحّـح وابن عدي في الكامل ج 7 ص 2454 والهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 165 ( كتاب التفسير ) باب (القراءة في المصحف وغيره ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ج 2 ص 407 ح 2217، ح 2218 ، الموسوعة الفقهية ج 13 ص 257 وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (الكويت).
(2) صحيح مسلم ج 2 ص 59 وأخرجه البخاري في صحيحه ج 1 ص 127 بأدنى اختلاف ، وابن ماجة ج 1 ص 459 والسنن الكبرى للبيهقي ج 2 ص 271 ، والطبراني في المعجم الكبير ج 7 ص 34 ح 6299 بلفظ (عن سلمة بن الأكوع أنه كان يسجد موضع المصحف يسبح فيه ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم كان يتحرى ذلك المكان ).
(3) مسند أحمد ج 2 ص 270 ، وعنه في مجمع الزوائد للهيثمي ج 2 ص 270 .
(4) مسند أحمد بن حنبل ج 7 ص 266 ح 545 ، علق عليه أحمد محمد شاكر ( إسناده صحيح ) ، وقد روي بلفظ آخر في سنن أبي داود ج 1 ص 587 ( ياب في المصحف يسافر به إلى أرض العدو ) : ( عن أن عبد الله بن عمر قال : نـهى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم أن يسافر بالقـرآن إلى أرض العدو ) ، قال مالك : أراه مخافة أن يناله العدو ، وهو في شعب الإيمان ج 2 ص 426 ح 2288 ، ح 2289.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 235 _
  عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم نـهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو ، وهو من كلام النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم لا من كلام الراوي فإنه روي فأني أخاف أن يناله العدو ، وقد اختلف أهل العلم في السفر به إلى أرض العدو ، فأبو حنيفة وصاحباه ذهبوا إلى إباحته ، وبعضهم إلى كراهته منهم مالك ، وعن محمد : إن كان مأمونا عليه من العدو فلا بأس وإن كان مخوفا عليه فلا ينبغي أن يسافر به إليهم ، وهذا أحسن الأقوال وعليه يحمل القول الأول منهم ، وما روي عن ابن عباس أنه قال : أخبرني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى فيّ : أن هرقل دعا لهم بكتاب رسول الله صلى الله عيه وسلم فقرأه فإذا فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عيك إثم الأريسيين ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) ( آل عمران / 64 ) ، ليس بمعارض لنهيه صلى الله عيه وسلم من المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو ، لأن محمل النهي السفر بجملة القرآن وما في كتابه صلى الله عيه وسلم إنما هو بعضه ، فالجمع بينهما بإباحة السفر بالأجزاء التي فيها من القرآن بعضه وبالكراهة في السفر بكليته إليهم عند خوفهم عليه ) (1) ، فيكون معنى الحديث نـهي الصحابة عن السفر بالمصحف كاملا إلى أرض العدو .
  عن أبي أمامة الباهلي قال : لما كان في حجة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وهو يومئذ مردف الفضل بن العباس على جمل آدم فقال : يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض العلم وقبل أن يرفع العلم وقد كان أنزل الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ( المائدة / 101 ) ، قال : وكنا قد كرهنا كثيرا من مسألته واتقينا ذلك حين أنزل الله عز وجل ذلك على نبيّه صلى الله عليه (وآله) وسلم ، قال فأتينا أعرابيا فرشوناه برداء قال فاعتم به حتى رأيت حاشية البرد خارجة من حاجبه الأيمن ، قال : ثم قلنا له : سل النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، قال فقال له : يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا الـمصاحف ، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها نساءنا وذرارينا وخدمنا ؟! قال : فرفع النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم رأسه وقد علت وجهه حمرة الغضب ،

--------------------
(1) معتصر المختصر ج 1 ص 206 ـ 207.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 236 _
  قال فقال : أي ثكلتك أمك ، وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يصبحوا يتعلقوا بحرف مما جاءتـهم به أنبياؤهم ، ألا وإن ذهاب العلم أن يذهب حملته ، ثلاث مرار ) (1) .
  عن أبي محرز أن عثمان بن أبي العاص وفد إلى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم مع ناس من ثقيف فدخلوا على النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فقالوا له : حفظ علينا متاعنا أو ركابنا ، فقال : على أنكم إذا خرجتم انتظرتموني حتى أخرج من عند رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، قال : ( فدخلت على رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فسألته مصحفا كان عنده فـأعطانيه واستعملني عليهم وجعلني إمامهم وأنا أصغرهم ) (2) .
  عن عمر بن عبد العزيز عن أبي الوازع ذريح بن الوازع عن أبيه وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( النظر إلى الـمصحف عبادة ) (3) .
  ( حدثنا جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن علي بن الحسين ( عليهم السلام ) عن ابن عباس قال : كانت المصاحف لا تباع ، كان الرجل يأتي بورقه عند النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب ، ثم يقوم آخر فيكتب ، حتى يفرغ من الـمصحف ) (4) .
  أقول : الرواية دالة على وجود ورق للكتابة فلا حاجة إذن لـجريد النخل والأحجار الرقيقة والعظام وغيرها من الأمور الغريبة التي ادعوها ، ومن الغريب قولهم إن المصحف المجموع في عهد أبي بكر كان كهيئة الملزمة مربوطا بخيط يجمع ورقه ، فأين كان ذلك الورق في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى احتاجوا إلى العظام والحجارة ؟! ولماذا أمكن كتابة أشعار الجاهلية على ورق وعلقت على الكعبة فسيمت بالمعلقات وقصر هذا الورق عن القرآن الكريم ؟! ، ومتى ، وكيف حدثت هذه النقلة

--------------------
(1) مسند أحمد ج 5 ص 266 وهو في مجمع الزوائد ج 1 ص 199 .
(2) المعجم الكبير للطبراني ج 9 ص 61 ح 8393.
(3) الإصابة في تمييز الصحابة ج 6 ص 593 ت 9096 وعلق عليه ابن جحر ( قلت ولهذا المتن طريق أخرى أوردها أبو نعيم من حديث عائشة بسند واه ولفظه كتاب الله بدل المصحف ) أقول : لا يشكل بأن هذه الروايات بصدد الكلام عن قضية كلية ، أي أن المصحف المقصود هو المصحف كحقيقة ستوجد بين المسلمين فيما بعد ، وذلك لأن سكوت الصحابة عن طلب معنى هذه الحقيقة التي تعلق بـها بعض الأحكام كعدم السفر واستحباب النظر وغيرهما أمر غير معقول بعد عدم معهوديتهم بـهذه الحقيقة ، نعم لفظ ( مصحف ) لا يثبت أنه الجمع الكامل للقرآن وهذا لا ضير فيه لأنا قلنا أن جمع القرآن يكفي فيه ترتيب السور والآيات في ملزمة وتضاف إليها الآيات واحدة تلو الأخرى بعد نزولها ، وأما كونه جمع كاملا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا ييستفاد من لفظ ( مصحف ) بل لأدلة أخرى قد بيّنا بعضها.
(4) سنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 16 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 237 _
  النوعية في عالم الكتابة والتدوين ؟! ، ولا ريب أن ما تدعيه رواياتـهم من صعوبة عملهم ومشقة جمع القرآن من العظام والحجارة ليس إلا تعظيما وتضخيما لعمل زيد والحزب العمري في ذلك المصحف الخاص الذي لم يكتمل العمل به ، وللأسف فإن طلب هذا النحو من المفاخرة الكاذبة وتسجيل المناقب الجوفاء طمس على صورة الجمع الحقيقي للقرآن الكريم وشوهها !
  عن عثمان بن أبي العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( لا تـمس الـمصحف وأنت غير طاهر ) (1) .
  عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : ( إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم ) (2) .
  عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( الغرباء في الدنيا أربعة : قرآن في جوف ظالم ، و مسجد نادي قوم لا صلى فيه ، ومصحف في بيت لا يقرأ فيه ، ورجل صالح مع قوم سوء ) (3) .
  عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : ( أعطوا أعينكم حظها من العبادة النظر في الـمصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه ) (4) .
  عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( من أدام النظر في الـمصحف متع ببصره ما دام في الدنيا ) (5) .
  عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( من سره إن يحب الله ورسوله فليقرا في الـمصحف ) (6) .
  عن معاذ قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( أطيعونى ما دمت بين أظهركم فإذا ذهبت فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه فانه سيأتى زمان يسرى على القرآن في ليلة فيسلخ من القلوب والـمصاحف ) (7) .

--------------------
(1) كنـز العمال ج 1 ص 548 و 543 عن كتاب المصاحف وسنن الترمذي و أبي داود والمستدرك والطبراني في الكبير والدار قطني في سننه .
(2) نوادر الأصول ص 334 .
(3) كنـز العمال ج 1 ص 544 عن الديلمي في الفردوس .
(4) كنـز العمال ج 1 ص 510 ح 2262 ، عن نوادر الأصول ، حب .
(5) كنـز العمال ج 1 ص 353 ح 2406 . عن أبي الشيخ .
(6) نفسه ص 604 ح 2760 عن حل ، هب.
(7) نفسه ص 189 ح 960 عن الديلمي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 238 _
  عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( لا تغرنكم هذه الـمصاحف المعلقة إن الله تعالى لا يعذب قلبا وعى القرآن ) (1) .
  والآن ، كيف تنسجم هذه الروايات مع ما ذهبوا إليه من بعثرة القرآن على أكتاف الإبل وعلى الحجارة وفي صدور الرجال ؟ ، وما جيلتنا مع من يلقي ضلال الشك والريبة على كتاب الله فقط لإثبات فضيلة لفلان وفلانة ؟!
  والأغرب هو ادعاؤهم أن أول من أطلق لفظ ( مصحف ) على القرآن الكريم هم الصحابة بعد أن فرغوا من جمع القرآن في عهد أبي بكر !
  أقوال علماء أهل السنة في أن القرآن جمع في عصر النبوة
  قال ابن حزم الأندلسي : ( وقول رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إذ نـهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو لئلا يناله العدو ، وقوله تعالى ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) ( البينة / 1 ـ 3 ).
  وكتاب الله تعالى هو القرآن بإجماع الأمة ، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم المصحف قرآناً ، والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة ، فالمصحف كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ويسمى المستقر في الصدور قرآنا ونقول إنه كلام الله تعالى ، برهانا على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إذ أمر بتعاهد القرآن وقال عليه السلام : ( إنه أشد تفصياًّ من صدور الرجال من النعم من عقلها ) (2) .
  وقال في الإحكام : ( فلم يمت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إلا والقرآن مجموع كما هو مرتب لا مزيد فيه ولا نقص ولا تبديل ، والقراءات كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم باقية كلها كما كانت لم يسقط منها شيء ولا يحل حظر شيء منها قل أو كثر ) (3) .
  وقال : ( وهذه الآية تبين ضرورة أن جمع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره حتى جمع كما هو فإنه من فعل الله عز وجل وتوليه جمعه أوحى به إلى نبيه عليه السلام وبينه عليه السلام للناس فلا يسع أحدا تقديم مؤخر من ذلك ولا تأخير مقدم أصلا ) (4) .

--------------------
(1) نفسه ص 536 ـ 537 ح 2400 عن نوادر الأصول .
(2) الفصل في الملل و الأهواء والنحل ج 3 ص 15 .
(3) الإحكام في أصول الأحكام المجلد الأول ج 4 ص 492 ط دار الكتب العلمية .
( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة / 17 ـ 19 ).
(4) الإحكام في أصول الأحكام المجلد الأول ص 566 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 239 _
  وأطنب في موضع آخر قوله : ( ويبين كذب هذه الأخبار ما رويناه بالأسانيد الصحيحة أنه صلى الله عليه (وآله) وسلم كان لا يعرف فصل سورة حتى تنـزل ( بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) ، وأنه صلى الله عليه (وآله) وسلم كانت تنـزل عليه الآية فيرتبها في مكانـها ولذلك تجد آية الكلالة وهي آخر آية نزلت وهي في سورة النساء في أول المصحف وابتداء سورة ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) ( العلق / 1 ) .
  في آخر المصحف وهما أول ما نزل ، فصح بـهذا أن رتبة الآي ورتبة السور مأخوذة عن الله عز وجل إلى جبريل ثم إلى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم لا كما يظنه أهل الجهل أنه ألف بعد موت النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، ولو كان ذلك ما كان القرآن منقولا نقل الكافة ولا خلاف بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس أنه منقول عن محمد صلى الله عليه (وآله) وسلم نقل التواتر ، ويبين هذا أيضا ما صح أنه صلى الله عليه (وآله) وسلم كان يعرض القرآن كل ليلة في رمضان على جبريل ، فصح بـهذا أنه كان مؤلفا كما هو عهد الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم ، وقوله صلى الله عليه (وآله) وسلم تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي (1) ، والأحاديث الصحاح أنه صلى الله عليه (وآله) وسلم قرأ المص والطور والمراسلات في صلاة المغرب وأن معاذا قرأ في حياته صلى الله عليه (وآله) وسلم البقرة في صلاة العتمة وأنه صلى الله عليه (وآله) وسلم خطب ب‍ ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) ( ق / 1 ) .
  وذكر صلى الله عليه (وآله) وسلم خواتم آل عمران وسورة النساء وأمره صلى الله عليه (وآله) وسلم أن يؤخذ القرآن من أربعة من أبي وعبد الله بن مسعود وزيد ومعاذ . وقول عبد الله بن عمرو بن العاص للنبي عليه السلام في قراءة القرآن كل ليلة وأمره صلى الله عليه (وآله) وسلم أن لا يقرأ في أقل من ثلاث ، والذين جمعوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم جماعة ذلك منهم أبو زيد وزيد وأبي ومعاذ وسعيد بن عبيد وأبو الدرداء ، وأمر صلى الله عليه (وآله) وسلم عبد الله بن عمرو بقراءة القرآن في أيام لا تكون أقل من ثلاث ، فكيف يقرأ ويجمع وهو غير مؤلف ؟! هذا محال لا يمكن البتة ، وهذه كلها أحاديث صحاح الأسانيد لا مطعن فيها ، وبـهذا يلوح كذب الأخبار المفتعلة بخلافها لأن تلك لا تصح من طريق النقل أصلا فبطل ظنهم أن أحدا جمع القرآن وألفه دون النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، ومما يبين بطلان هذا القول ببرهان واضح أن في بعض المصاحف التي وجه بـها عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق واوات زائدة على سائرها وفي بعض المصاحف ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) ( الحج / 64 ) . في سورة الحديد وفي بعضها بنقصان ( هو ) وأيضا فمن المحال أن يكون عثمان رضي الله عنه أقرأ الخلفاء وأقدمهم صحبة وكان

--------------------
(1) أين ابن حزم من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا ؟!

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 240 _
  يحفظ القرآن كله ظاهرا ، ويقوم به في ركعة (!) ، يترك قراءته التي أخذها من فم النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ويرجع إلى قراءة زيد وهو صبي من صبيانه ، وهذا ما لا يظنه إلا جاهل غبي ، ومنها أن عاصما روى عن زر وقرأ عليه لم يقرأ على زيد ولا على من قرأ على زيد شيئا إلا أنه قد صح عنه أنه عرض على زيد فلم يخالف ابن مسعود ، وهذا ابن عامر قارئ أهل الشام لم يقرأ على زيد شيئا ولا على من قرأ على زيد وإنما قرأ على أبي الدرداء ومن طريق عثمان رضي الله عنهما ، وكذلك حمزة لم يأخذ من طريق زيد شيئا ، وقد غلط قوم فسموا الأخذ بما قاله رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وبما اتفق عليه علماء الأمة تقليدا وهذا هو فعل أهل السفسطة والطالبين لتلبيس العلوم وإفسادها وإبطال الحقائق وإيقاع الحيرة ) (1) .
  قال الإمام أبو عبد الله المحاسبي في كتاب فهم السنن : ( وفي قول زيد بن ثابت ( فجمعته من الرقاع والأكتاف و صدور الرجال ) ما أوهم بعض الناس أن أحداً لم يجمع القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم وأنّ من قال : أنه جمع القرآن أبي بن كعب و زيد ليس بمحفوظ ، وليس الأمر على ما أوْهَمَ ، دائما يطلب القرآن متفرقاً ليعارض بالمجتمع عند مَنْ بقي ممّن جمع القرآن في علم ما جمع فلا يغيب عن جمع القرآن أحدٌ عنده منه شيء ولا يرتاب أحدٌ فيما يودَع المصحف ولا يشكوا في أنه جُمع عن ملأٍ منهم ) (2) .
  ( وأما أبّي بن كعب و عبد الله بن مسعود ومُعاذ بن جبل فبغير شكٍ جمعوا القرآن والدلائل عليه متظاهرة ، قال : ولهذا المعنى لم يجمعوا السنن في كتاب إذ لم يمكن ضبطها كما ضبط القرآن ، قال : ومن الدليل على أن تلك المصاحف التي كتب منها القرآن كانت عند الصديق لتكون إماما و لم تفارق الصديق في حياته ولا عمر أيامه ثم كانت عند حفصة لا تمكن منها ) (3) .
  وقال الآمدي : ( إن المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كانت مقروءة عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعروضة ) (4) .

--------------------
(1) الإحكام لابن حزم ج 6 ص 267 ـ 268.
(2) البرهان في علوم القرآن للزركشي ج 1 ص 238 ط البابي الحلبي تحقيق أبو الفضل ابراهيم .
(3) ن . م ص 239.
(4) تأريخ القرآن ص 73 للدكتور الصغير ط دار المؤرخ العربي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 241 _
  قال في مدخل إلى القرآن الكريم : ( إن النص المنـزل لم يقتصر على كونه قرآناً أو مجموعة من الآيات تتلى أو تقرأ ، وتحفظ في الصدور ، وإنما كان أيضا كتابا مدونا بأعداد ، فهاتان الصورتان تتضافران وتصحح كل منهما الأخرى ، ولهذا كان الرسول كلما جاءه الوحي وتلاه على الحاضرين أملاه من فوره على كتبة الوحي ) (1) .
  وقال في إعجاز القرآن : ( وللنبي صلى الله عليه (وآله) وسلم صحابة كانوا يكتبون القرآن إذا أنزل ، إما بأمره أو من عند أنفسهم تاما وناقصا ، وأما الذين جمعوا القرآن بتمامه بالاتفاق فهم خمسة ، فذكرهم ) (2) .
  وقال في تاريخ القرآن : ( وأمـا عدم نسخ كبار الصحابة مصاحف على نمط ما جمعه أبو بكر ، فلم يكن هناك ما يدعو لذلك لعدم اختلاف ما جمعه أبو بكر بما عند الناس ، وإن بعضهم كتبوا مصاحفهم على عهد النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وتلقوه منه سماعا ، فكان جمع أبي بكر بمثابة سجلّ للقرآن يرجع إليه إذا حدث أمر كما وقع لعثمان حين جـمْـعه القرآن فإنه رجع إلى الصحف البكرية و كانت عند حفصة بنت عمر ) (3) .
  وقال في القرآن والملحدون : ( غير أن من الحق أن نقول أيضا : إن ما جاء في المجموعة الثالثة (4) إجمالا أكثر وثاقة من جهة وأنـها مع الأقوال المؤيدة لـها الصادرة عن كثير من علماء المسلمين وأئمتهم أكثر اتساقا مع طبائع الأمور و الظروف من جهة أخرى ، فالقرآن أعظم مظاهر النبوة ، ومعجزتـها الخالدة ، وكان مدار الاحتجاج والدعوة مع العرب والكتابيين الذين كانت لهم كتبهم المتداولة في أيديهم المكتوبة على قراطيس وورق ومواد ليّنة تنشر وتطوى بسهولة ، وقد تكرر في القرآن كثيرا الإشارة إلى كتب الكتابيين من جهة و ذكر ( الكتاب ) في القرآن بمعنى ( القرآن ) من جهة أخرى ، فلا يعقل في حال أن يهمل النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم تدوين ما كان ينـزل عليه من الوحي القرآني ، وأن لا تكون عنايته بذلك فائقة ، وأن لا يحرص على تدوينه في وسائل ليّنة تطوى وتنشر

--------------------
(1) مدخل إلى القرآن الكريم ص 34 .
(2) إعجاز القرآن للرافعي ص 36.
(3) تاريخ القرآن ص 45 ط الحلبي الثانية لمحمد طاهر الخطاط ، راجعه فضيلة الشيخ علي الضباع شيخ المقارئ بالديار المصرية
(4) وهي الروايات التي تصرح بأن القرآن قد تم ترتيبه آياتا وسورا آخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 242 _
  كالصحف والقراطيس وورق الحرير ، ثم على حفظ مدوناته حرصا شديدا مرتبة منسقة ، بل و المعقول أن يكون ذلك من أمهات مشاغله المستمرة ).
  ( وما روي من أن القرآن كان يكتب على الوسائل البدائية الثقيلة الحجم والصعبة الحفظ ، والنقل كأضلاع النخيل ، وقطع الخشب و الحجارة ، وأكتاف العظام لا يصح أن يقبل على علاته بناء على ما تقدم بأن كان ورد في حديث يعد من الصحاح ، وكل ما يحتمل أن يكون أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم إذ يستدعي أحد كتابه لإملاء ما يكون نـزل عليه من وحي على فور نزوله ، وهو ما كان يفعله دائما على ما تفيده الأحاديث والقرائن القرآنية أن لا يكون متيسرا إلا شيء من هذه الوسائل البدائية ، فيكتب الكاتب عليها ما يمليه النبي صلى الله عليه مؤقتا ريثما ينقل إلى مكانه من سجلات القرآن مـما عبر عنه زيد بن ثابت كاتب وحي رسول الله في قوله في حديث مأثور له ( كنا نؤلف القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم من الرقاع ) ) .
  ( ولقد كان في مكة والمدينة جاليات نصرانية ويهودية تتداول كتبا مكتوبة على قراطيس تطوى وتنشر كما قلنا قبل ، ولقد كانت مكة والمدينة مدينة تجارية متصلة بالبلاد المجاورة المتحضرة التي يكثر فيها وسائل الكتابة اللينة مما لا يعقل إلا أن يكون أهل هذه البيئة قد اقتبسوا ذلك ، ولقد احتوى القرآن أوامر بتدوين المعاملات التجارية النقدية وغير النقدية صغيرة كانت أم كبيرة ، ولقد تعددت الآيات القرآنية التي تذكر ( الصحف ) في صدر القرآن والكتب الأخرى ، ولم يقل أحد أنـها كانت تعني تلك الوسائل البدائية ، بل إن المفهوم القرآني هو في جانب كونـها وسائل تطوى وتنشر ) (1) .
  وفي تفسير القرآن الحكيم : ( كان كلٌّ يكتب ما تيسر له كتابته وكان منهم بعض قليل كتبوا القرآن كله ، والإجماع على : علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وقبل وفاة الرسول عرض زيد القرآن عرضة على رسول الله صلوات الله عليه ، ففي عهده صلوات الله عليه كان القرآن مرتب السور والآيات ولكنه غير مجموع في كتاب واحد ) (2) .
  أقول : إن قصد أن القرآن لم يكن مجموعا بتمامه لأنه نزل منجما ثم تم جمعه في أواخر حياته فهذا صحيح ، وأما لو قصد أن كل سورة كانت على حدة من غير أن تجمع كلها فتصبح مصحفا فهذا لا يتوافق مع ما مر ، فكيف يكون مرتب السور مع كونه غير مجموع في كتاب واحد ؟ أم قصد أن كل سورة كانت تدون وتوضع فوق الأخرى وضعا بلا شد وربط ثم جاء أبو بكر فأمر بشدها بخيط ؟!

--------------------
(1) القرآن والملحدون ص 319 ـ 320 ـ 321 ، للدكتور محمد عزة دروَزة
(2) تفسير القرآن الحكيم ص 17 ، لمحمد عبد المنعم خفاجة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 243 _
  وفي موجز البيان : ( والمصاحف التي عرضت على النبي (ص) في حياته وقرأت عليه ثلاث : مصحف عبد الله بن مسعود ، ومصحف أبي بن كعب ، ومصحف زيد بن ثابت وهو آخرها عرضا على النبي صلوات الله وسلامه عليه (1) ، وإذ كانت في سنة وفاته وبقراءته كان يقرأ عليه الصلاة والسلام ، ولذلك أختاره المسلمون و جاء في صحيح البخاري من حديث قتادة قال : ـ وذكر الحديث ـ قول أنس : أنه لم يجمع القرآن غير أربعة ، يحتمل أنه لم يجمع القرآن وأخذه تلقائيا من رسول الله (ص) غير أولئك الأربعة لأنه قد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان بن عفان (رض) وتميم الداري ، وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وإنما كان رسول الله (ص) يأمر بكتابة ما ينـزل عليه من القرآن الكريم وجمعه لتبليغ الوحي على الوجه الأكمل ، لأن الاعتماد على حفظ الصحابة غير كاف لأنـهم عرضة للنسيان و الموت فلو اعتمد على حفظهم وحده نخشى ضياع شيء منه بالنسيان أو الموت ، و أما الكتابة فباقية لا يتطرق إليها شيء من ذلك وليعاضد المكتوب المحفوظ ، وقال الذهبي : عثمان أحد من جمع القرآن على عهد الرسول قرأ عليه المغيرة بن أبي شهاب المخزومي ) (2) .
  وفي التبيان في علوم القرآن : ( وجمع القرآن في مصحف واحد في عهد أبي بكر لا يعني أن الصحابة (رض) لم يكن لديهم مصاحف كتبوا فيها القرآن من قبل ، فإن ذلك لا ينافي أن يكون لبعض الصحابة مصحف خاص ) (3) .
  وفي مباحث في علوم القرآن : ( وكان جبريل يعارض رسول الله بالقرآن في ليالي رمضان ويعارض الصحابة رسولهم حفظاً وكتابة ولم تكن هذه الكتابة مجتمعة في مصحف عام بل عند هذا ما ليس عند ذاك من الآيات والسور ، وقد نقل العلماء أن نفراً منهم : علي بن أبي طالب ، معاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت و عبد الله بن مسعود قد جمعوا القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إلا أن زيد بن ثابت كان (رض) متأخرا على الجميع ) (4) .

--------------------
(1) سيأتي بإذنه تعالى أن آخر من شهد العرضة الأخيرة من الصحابة هو عبد الله بن مسعود حسب رواياتـهم الصحيحة ، وتركيزهم الدائم على أنه زيد بن ثابت لتصحيح إيكال أبي بكر مهمة جمع القرآن له وهو حدث السن دون بقية الصحابة .
(2) موجز البيان في مباحث علوم القرآن ص 48 لكمال الدين الطائي .
(3) التبيان في علوم القرآن ص 64 لمحمد علي الصابوني .
(4) مباحث في علوم القرآن ص 50.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 244 _
  ( فكان أبو بكر بـهذا أول من جمع القرآن في مصحف وإن وجدت مصاحف فرديّة عند بعض الصحابة كمصحف علي ) (1) .
  ونذكر هنا كلام أحد علماء الإباضية لما فيه من فائدة مع إطنابه في الدفاع عن جمع القرآن فقال في منهج الطالبيـن : ( فإني لأعجب ممن يقبل من المسلمين قول من زعم أن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ترك القرآن الذي هو حجّته على أمته والذي تقوم به دعوته والفرائض التي جاء بـها من عند الله و لم يجمعه ، ولم يضمّـه ، ولم يخطـه ، ولم يحصـه ، ولم يُحكم الأمر في قراءته و ما يجوز من الاختلاف فيها ، وما لا يجوز في إعرابه و مقداره ، وتأليف سوره ، وهذا لا يتوهم على رجل من عامة المسلمين فكيف برسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ).
  ( فلو لم يكن القرآن مجموعا مكتوبا في عهد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فأي شيء كان يكتب هؤلاء ؟ وكيف يجوز على القوم الذين ذكرنا أحوالهم أن يتركوا جمع القرآن والوقوف على تأليفه ومقدمه ومؤخره ، وهو إنما أنزل عليهم وفيهم على ما تقدم من شرح ).
  ( ومـما يدلّنا على حفظهم لـما استحفظوا له وفهمهم لمـا استنكفوا إياه أنـهم كانوا علماء لنظم السور وتأليف الآي لا يحرفون الكتابة ولا يقصرون في التأدية ، وإنما أول ما أنزل من القرآن بمكة ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) ( العلق / 1 ) ، وأول ما أنزل بالمدينة سورة البقرة وآخر ما نـزل سورة براءة ، فلو كانوا إنما ألفوا السورة على تقدير رأيهم لقدموا في المصحف المقدم و أخروا المؤخر ففي تقدمهم سورة البقرة وتأخيرهم سورة براءة ـ دليل على أنـهم اتبعوا ولم يبتدعوا وحكموا ولم يتخرّصوا ).
  ( ولقد قال أبو ذر رضي الله عنه : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وما يقلب طائر جناحه في السماء إلا وعندنا منه علم فكيف تجهل تأويل السور ومواضع الآي أمة قد شهدت أول ذلك وآخره ؟ ) .
  وقد روى أصحاب الحديث : أن القرآن كان مفرقا حتى جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وروى آخرون أن الذي جمعه : عثمان بن عفان وأنـهم أخذوا آية من هاهنا وآية من هاهنا وأن الرجل كان يخبر بالآية ويسأل عنها الشهود ثم تكتب وأن زيد بن ثابت لمـا أمره عثمان بن عفان أن يكتب في المصحف ـ فقد آيتين حتى وجدها عند رجلين من الأنصار وأن زيدا و غيره من الصحابة تولوا تأليف السور والآيات ـ وهذه الأخبار مطعون عليها ، ويقال أن الزنادقة دلّسوا وأضافوا الزيادات
--------------------
(1) ن . م ص 52 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 245 _
  والأحاديث في أحاديث الأئمة ، بل إن الدلالة قد قامت من طريق العقل لأن السور كانت معروفة متولفة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن القرآن كان قد فرغ من جمعه ).
  وقال الشعبي : ( لم يجمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إلا ستة كلهم من الأنصار ، فلو لم يكن القرآن مجموعا مؤلفا على عهد رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فكيف كان يجمعه هؤلاء الستة ويحفظونه ؟ ) (1) .
  وإلى هنا نقول إن المصحف كان مجموعا في آخر زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والشيعة الإمامية لم ينفردوا في إزاحة هذه المنقصة عن مقام النبوة بل وافقهم قليل من أهل السنة ، والعبرة بالكيف لا بالكم ، ونختم بما ذكره النديم في الفهرست لما فيه من لـمٍّ للشتات :
  الجّماع للقرآن على عهد النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، سعد بن عبيد بن النعمان بن عمرو بن زيد رضي الله عنه ، أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي الله عنه ، معاذ بن جبل بن أوس رضي الله عنه ، أبو زيد بن ثابت بن زيد بن النعمان ، أبي بن كعب بن قيس بن ملك بن امرئ القيس ، عبيد بن معاوية بن زيد بن ثابت بن الضحاك ) (2) .
  أول من جمع قرآنا بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم :
  أول من جمع قرآنا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد العرب طرًّا ، الإمام علي عليه السلام ، وهذا من الشهرة بمكان لا ينكره إلا مكابر، وقد وردت نصوصه في كتب الفريقين .
  قال ابن سعد في الطبقات : ( عن أيوب وابن عون عن محمد قال : نبئت أن عليا أبطأ عن بيعة أبي بكر ، فلقيه أبو بكر ، فقال : أكرهت إمارتي ؟ فقال : لا ، ولكنني آليت بيمين أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن ، قال : فزعموا أنه كتبه على تنـزيله ، قال محمد : فلو أصيب ذلك الكتاب كان فيه علم ، قال ابن عون : فسألت عكرمة عن ذلك الكتاب فلم يعرفه ) (3) .
  وأخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف : ( عن الأشعث عن محمد بن سيرين قال : لما توفي النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف

--------------------
(1) منهج الطالبين وبلاغ الراغبين ج 1 ص 219 ـ 226 للشيخ خميس الرستاقي .
(2) الفهرست للنديم ج 30.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 332 ، أقول : حتى لو عرفه عكرمة الخارجي لأنكره عنادا وحنقا .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _246 _
  ففعل ، فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام ، أ كرهت إمارتي يا أبا الحسن ؟ : قال : لا ، والله ، إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعه فبايعه ثم رجع ) (1) .
  وفي التسهيل لعلوم التنـزيل : ( كان القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مفرقا في الصحف و في صدور الرجال فلما توفي حمعه علي بن أبي طالب على ترتيب نزوله ، ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنّه لم يوجد ) (2) .
  وحيث أن ابن حجر العسقلاني حصر جمع القرآن بأبي بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد حاول طمس هذه المنقبة لعلي عليه السلام بليّ عنق الروايات ، قال في فتح الباري :
  ( وأخرج ابن أبي داود من طريق ابن سيرين قال : قال علي لما مات رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم : آليت أن لا آخذ على ردائي إلا لصلاة الجمعة حتى أجمع القرآن فجمعته ، قال ابن حجر : هذا أثـرٌ ضعيف لانقطاعه وبتقدير صحّته فمراده بـجمعه حفظه في صدره وما تقدم من رواية عبد خير عنه أصح فهو المعتمد ) (3) .
  قصد ابن حجر أن جمع أمير المؤمنين عليه السلام للقرآن كان بمعنى حفظه في الصدر ! ، ولازمه أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن يحفظ القرآن إلى ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !! ، وتعقبه العلامة السيوطي في إتقانه فقال : " قلت قد ورد من طريق آخر أخرجه ابن الضريس في فضائله حدثنا هودة بن خليفة حدثنا عون عن محمد بن سيرين عن عكرمة قال : لما كان بعد بيعة أبي بكر قعد علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) في بيته فقيل لأبي بكر : قد كره بيعتك فأرسل إليه ، فقال أكرهت بيعتي ، قال : لا والله ، قال : ما أقعدك عني ؟ قال : رأيت كتاب الله يزاد فيه فحدثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه ، قال له أبو بكر : فإنك نعم ما رأيت .
--------------------
(1) كتاب المصاحف لابن أبي داود ج 1 ص 180 ط قطر ، من باب التذكير بالبديهيات أقول : أنا لا نسلم بكل ما قالته الرواة ، خاصة إذا كان العقل السليم لا يستسيغه ، لأن البخاري في صحيحه وغيره من أهل التاريخ ذكروا إنه عليه السلام لم يبايع ابن أبي قحافة إلا بعد ستة أشهر ، ومن غير المعقول أن يترك المبايعة طيلة ستة أشهر لأنه حلف ألا يخرج من بيته إلا بعد جمع القرآن ، مع أن الرواية تقول أنه كان يخرج في كل يوم جمعة ؟! ، فلماذا لم يبايع في أيام الجمع التي توجد في ستة أشهر ؟! ، وهل البيعة بصفق اليد تحتاج إلى مراجعة الدوائر الحكومية ؟! ، أخرج البخاري في صحيحه ج 4 ص 1549 ح 3998 : ( فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بـها أبا بكر وصلى عليها ، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر ).
(2) التسهيل لعلوم التنـزيل ج 1 ص 4 .
(3) الإتقان ج 1 ص 57.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 247 _
  قال محمد فقلت لعكرمة : ألفوه كما أنزل الأول فالأول ، قال : لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا ، ( أخرجه ) ابن اشتة في المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين و فيه : أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ . وأن ابن سيرين قال : تطلبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه ) (1) .
  وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد : ( قال ابن سيرين : وبلغني أنه كتبه على تنـزيله ولو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير ، قال أبو عمر أجمع أهل العلم بالحديث أن ابن سيرين أصح التابعين مراسل وأنه كان لا يروي ولا يأخذ إلا عن ثقة وأن مراسيله صحاح كلها ليس كالحسن وعطاء في ذلك والله أعلم ) (2) .
  وأخيرا نذكر ما قاله صاحب الفهرست : ( عن عبد خير عن علي عليه السلام أنه رأى من الناس طيرة عند وفات النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فأقسم أنه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن ، فهو أوّل مصحف جمع فيه القرآن من قلبه ، وكان المصحف عند أهل جعفر ) (3) .
  بماذا تميز مصحف أمير المؤمنين عليه السلام ؟
  مرت بعض روابات أهل السنة التي تنص على أن مصحف أمير المؤمنين عليه السلام يتميز بترتيب الآيات حسب النـزول فأوله سورة الفلق وهكذا إلى آخر القرآن وعليه يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ ، ولكن اليعقوبي في تاريخه ذكر أن السور كانت مجزأة على سبعة أجزاء على نحو مغاير لترتيب النـزول :
  ( وروى بعضهم أن علي بن أبي طالب كان جمعه لما قبض رسول الله وأتى به يحمله على جمل ، فقال : هذا القرآن قد جمعته ، وكان قد جزّأة سبعة أجزاء ) (4) ، ثم ذكر كل جزء بسوره المندرجة تحته فالأول في مقدمته سورة البقرة ، والجزء الثاني آل عمران والثالث النساء والرابع المائدة والخامس الأنعام والسادس الأعراف والسابع الأنفال ، والأولى اعتماد الروايات .

--------------------
(1) ن . م .
(2) التمهيد لابن عبد البر ج 8 ص 300 ـ 301.
(3) الفهرست للنديم ص 30 في باب ( ترتيب سور القرآن في مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه ) ، راجع أنساب الأشراف ج 1 ص 587 ، طبقات ابن سعد ج 2 ص 338 و ج 2 ق 2 ص 101 ، الإتقان ج 1 ص 204 ، كنـز العمال ج 2 ص 588 ، الاستيعاب بـهامش الإصابة ج 2 ص 253 ، حلية الأولياء ، والأربعون للخطيب .
(4) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 135 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 248 _
  ولعل أهم ما دفع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لكتابة المصحف مع وجود مصاحف كثيرة في دنيا المسلمين آنذاك ، هو أن أمير المؤمنين عليه السلام كتب فيه التنـزيل والتفسير الذي أُنزل مرادفا للآيات ، فكان قرآنا جامعا لكل ما أنزل من السماء قرآنا أي النصوص القرآنية والتفسير المنـزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أملاه صلى الله عليه وآله وسلم وخطه الإمام عليه السلام بيده الشريفة .
  وقد ذكر قريب منه بعض علماء أهل السنة : ( وما نسب إلى الإمام علي من قرآن فهو تفسير معنى ما جاء ، بأسلوبه ونسج كلامه ) (1) ، والمقطع الأخير ( بأسلوبه ونسج كلامه ) بعيد عن الأدلة .
  * المشكلة هي التنـزيل !
  بعد أن فرغ عليه السلام من كتابته ، جاءهم بالمصحف مشتملا على كل ما أُنزل من السماء أي القرآن وتفسيره المنـزل المسمى بالتنـزيل ، وناولهم إياه حينما كانوا ملتفين في المسجد حتى نظر فيه ابن الخطاب فلم يرق له وجود فضائح الكفار والمنافقين من صناديد قريش وكبرائها مع ذكرهم بأسمائهم وأسماء آبائهم (2) في هامش السور والآيات التي نكلت بـهم كسورة براءة التي سموها الفاضحة أو المزلزلة

--------------------
(1) معجم القراءات القرآنية ج 1 ص 18 ط جامعة الكويت ، د . أحمد مختار عمر ، د . عبد العال سالم مكرم .
(2) هذا ليس بغريب فسيرة الرجل شاهد على ذلك حتى نص أحد علماء أهل السنة أن ابن الخطاب قد أفصح عما يحيك في صدره من قتل هؤلاء الكفار حينما شرب الخمر يوما ورثاهم بأبيات من الشعر ، قال شهاب الدين محمد الابشيهي في المستطرف ج 2 ص 260 : ( قد أنزل الله في الخمر ثلاث آيات : الأولى : في قوله تعالى ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( البقرة / 219 ) فكان من المسلمين من شارب ، ومن تارك إلى أن شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر فنـزل قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) ( النساء / 43 ) فشربـها من شربـها من المسلمين ، وتركها من تركها حتى شربـها عمر فأخذ بلحى بعير وشج به رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول :
وكائن بالقليب قليب بدر * من الفتيان والعرب الكرام أيـوعدني ابن كبشة-النبي-أن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام أيعجز أن يرد الموت عني * وينشرني إذا بليت عظامي ألا مـن مبـلغ الـرحمن عنـي * بأنـي تـارك شهر الصيام فقل الله يمنعني شرابي * وقل لله يمنعني طعامي
  فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ذلك فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان في يده فضربه ، فقال : أعوذ بالله من غضبه ، وغضب رسوله ، فأنزل الله تعالى ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ) ( المائدة / 91 ) فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا ، انتهينا )
  وجاء مختصرا في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة ج 3 ص 863 ، وقد كان معاندا أشد العناد لمن طلب تفسير القرآن وتعلمه وقصة صبيغ بن عسل الذي ضربه فأدماه مرارا لأنه سأل عن معنى الذاريات ذروا مشهورة ، وكشاهد نذكر على سياسة عمر في رفض كتابة التفسير ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ج 6 ص 137 ح 30097 : ( عن عامر قال : كتب رجل مصحفا وكتب عند كل آية تفسيرها ، فدعا به عمر فقرضه بالمقراضين ) !! وأحزاب التلميع تقول عن أمثال هذه الرواية أنـه فعل ذلك لأنه خاف اختلاط القرآن بغيره ! وهذا كما يقولون ( ضحك على الذقون ) ! وعلى أي حال لم يرق لابن الخطاب ما فعله أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام من كتابة فضائح المشركين والمنافقين في هامش القرآن .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 249 _
  التي لم تترك أحدا منهم إلا ونالت منه ، وسورة البينة التي جاء في الأثر أن الله جعل في تنـزيلها أسماء سبعين رجلا من قريش وأن الإمام الرضا عليه السلام بعث بمصحفه للبزنطي ففتحه فوجد فيه تلك الأسماء كما مر الكلام عنه ، فحينما وقع النظر على التنـزيل المردف بالقرآن تمعرت الوجوه وطرت حسائك الصدور وما كان إلا أن نبذوه وردوه ، فانصرف الإمام علي عليه السلام بمصحفه الجامع وقال لن تروه بعد يومكم هذا أبدا ، واسترجع عليه السلام بقوله ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) ( آل عمران / 187 ).
  بعض كلمات الشيعة في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام :
  قال الشيخ الصدوق في اعتقاداته : ( ومثل هذا كثير ، وكلّه وحي وليس بقرآن . ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه ، كما كان أمير المؤمنين جمعه فلما جاء به قال : هذا كتاب ربكم كما أُنزل على نبيّكم لم يزد فيه حرف و لا ينقص منه حرف ، فقالوا : لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك ، فانصرف وهو يقول ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) ( آل عمران / 187 )) (1) .
  وقال الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه في أوائل المقالات : ( ولكنّ حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السّلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنـزيله ، وذلك كان ثابتاً منـزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ) (2) .
  وقال ابن شهر آشوب رضوان الله تعالى عليه : ( وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام أنه آلى أن لا يضع رداءه على عاتقه إلا للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه ، فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه ثم خرج إليهم به في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد فأنكروا مصيره بعد انقطاع مع البته قالوا : لأمر ما جاء به أبو الحسن ، فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم ، ثم قال : إن رسول الله قال : إني مخلف فيكم ما إن
--------------------
(1) الاعتقادات ص 93 .
(2) أوائل المقالات في المذاهب المختارات ص 91.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 250 _
  تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب وأنا العترة ، فقام إليه الثاني فقال له : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما ، فحمل عليه السلام الكتاب وعاد بعد أن الزمهم الحجة ، وفي خبر طويل عن الصادق (ع) أنه حمله وولى راجعا نحو حجرته وهو يقول ( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) ( آل عمران / 187 )" (1) .
  وقال السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه في البيان : ( إن وجود مصحف لأمير المؤمنين عليه السلام يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور مما لا ينبغي الشك فيه ، وتسالم العلماء الأعلام على وجوده أغنانا عن التكلف لإثباته ، كما أن اشتمال قرآن عليه السلام على زيادات ليست في القرآن الموجود ، وإن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة في ذلك على أن هذه الزيادات كانت من القرآن ، وقد أسقطت منه بالتحريف ، بل الصحيح أن تلك الزيادات كانت تفسيرا بعنوان التأويل ، وما يؤول إليه الكلام ، أو بعنوان التنزيل من الله شرحا للمراد ، وإن هذه الشبهة مبتنية على أن يراد من لفظي التأويل والتنـزيل ما اصطلح عليه المتأخرون من إطلاق لفظ التنزيل على ما نزل قرآنا ، وإطلاق لفظ التأويل على بيان المراد من اللفظ ، حملا له على خلاف ظاهره ، إلا أن هذين الإطلاقين من الاصطلاحات المحدثة ، وليس لهما في اللغة عين ولا أثر ليحمل عليهما هذان اللفظان (التنزيل والتأويل) متى وراد في الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام ).
  ( وعلى ما ذكرناه فليس كل ما نزل من الله وحيا يلزم أن يكون من القرآن ، فالذي يستفاد من الروايات في هذا المقام أن مصحف علي عليه السلام كان مشتملا على زيادات تنـزيلا أو تأويلا ، ولا دلالة في شئ من هذه الروايات على أن تلك الزيادات هي من القرآن ، وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذكر أسماء المنافقين في مصحف أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) فإن ذكر أسمائهم لا بد وأن يكون بعنوان التفسير ، ويدل على ذلك ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم سقوط شيء من القرآن ، أضف إلى ذلك أن سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع المنافقين تأبى ذلك فإن دأبه تأليف قلوبـهم ، والإسرار بما يعلمه من نفاقهم ، وهذا واضح لمن له أدنى اطلاع على سيرة النبي صلى الله عليه واله وسلم وحسن أخلاقه ، فكيف يمكن أن يذكر أسماءهم في القرآن ، ويأمرهم بلعن أنفسهم ، ويأمر سائر المسلمين بذلك ويحثهم عليه ليلا ونـهارا ، وهل يحتمل ذلك حتى ينظر في صحته وفساده أو يتمسك في إثباته بما في بعض الروايات من وجود أسماء جملة من المنافقين في مصحف علي عليه السلام وهل يقاس ذلك بذكر أبي لـهب المعلن بشركه ، ومعاداته النبي صلى الله عليه واله وسلم مع علم النبي بأنه يموت على شركه ، نعم لا بعد في ذكر النبي صلى الله عليه واله وسلم أسماء
--------------------
(1) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 320.