وقال في لغة القرآن الكريم : ( وهذا القول منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث منهم سفيان بن عيينة وابن وهب وابن جرير الطبري وقد دافع عنه كثيرا في مقدمة تفسيره ، وقدّمه القرطبي وأيّده ابن عبد البر ونسبه إلى أكثر أهل العلم (1) ، ورجّحه الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه المعجزة الكبرى (2) ، والشيخ محمد أبو شهبة في كتابه المدخل لدراسة القرآن (3) و غيرهم ، واستدل هؤلاء بما أخرجه ابن جرير فذكر الأدلة ) (4) .
  قال ابن حجر العسقلاني : ( قال أبو شامة وقد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بـها القرآن هل هي مجموعة في المصحف بأيدي الناس اليوم ـ يقصد مصحف عثمان ـ أو ليس فيه إلا حرف واحد منها مال ابن الباقلاني إلى الأول وصرح الطبري وجماعة بالثاني وهو المعتمد .
  وقد أخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي الطاهر بن أبي السرح قال : سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين هل هي الأحرف السبعة قال : لا ، وإنما الأحرف السبعة مثل هلم وتعال وأقبل ، أي ذلك قلت أجزأك ، قال : وقال لي ابن وهب مثله ) (5) ، وفي مبحث جمع القرآن سيأتي مزيد من كلمات علمائهم بإذنه تعالى .
* علة تشريع الأحرف السبعة
  الأمة لا تطيق القرآن إلا على سبعة أحرف !
  بعد الفراغ من بيان ماهية تلك الأحرف ، نقول : ما هي علة نزول القرآن على سبعة أحرف ؟ ، قال علماء أهل السنة طبقا لما أملت الروايات عليهم أن التسهيل والتيسير على الأمة هو سبب نزول القرآن على سبعة أحرف ، لأن القرآن نزل على أُناس هم أقرب إلى عصر الجاهلية ولا يوجد فيهم كثير من القراء ، ومن باب التخفيف عن هذه الأمة المرحومة وتـمييزها عن غيرها أنزل القرآن على سبعة

--------------------
(1) فتح الباري ج 10 ص 403 ، البرهان للزركشي ج 2 ص 220 .
(2) المعجزة الكبرى ص 39 ـ 42.
(3) المدخل لدراسة القرآن ج 1 ص 138 ـ 146 .
(4) لغة القرآن الكريم ص 95 ـ 96 .
(5) فتح الباري ج 9 ص 29 ـ 30 فضائل القرآن باب أنزل القرآن على سبعة أحرف .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 152 _
  أحرف حتى لا تضيق عليهم قراءة القرآن ، فلا يلـزمون بقراءة واحدة تعسر على بعضهم ، وهذه بعض النماذج من أقوالهم ذكرت في تاريخ القرآن :
  ( قال الشمس بن الجزري : فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بـها والتهوين عليها شرفا لـها و توسعة ورحمة وخصوصية لفضلها وإجابة لقصد نبيه أفضل الخلق و حبيب الخلق حيث أتاه جبريل فقال ( إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف فقال صلى الله عليه (وآله) وسلم : سل الله معافاته ومعونته إن أمتي لا تطيق ذلك ، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف ).
  ( والنبي صلى الله عليه (وآله) وسلم بعث إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم ، وكان العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتـهم مخـتلفة وألسنتهم شتّى ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها ومن حرف إلى آخر بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج لاسيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتابا كما أشار إليه صلى الله عليه (وآله) وسلم فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع وما عسى أن يتكلف المتكلف وتأبى الطباع ، وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن قتيبة في كتاب الـمشكل : فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه صلى الله عليه (وآله) وسلم بأن يقرئ كل أمته بلغتهم وما جرت به عادتـهم ) (1) .
  وهذا أيضا رأي المشهور بين علمائهم من أن الأمة لا تطيق قراءة القرآن على حرف واحد وأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم سأل الله عز وجل التخفيف عن هذه الأمة فخفف عنها بإنزال القرآن على سبعة أحرف وكلها شاف كاف ، وسيأتي تتمة كلام هذا المقام في جمع القرآن بإذن المولى سبحانه .
* الأحرف السبعة في الميزان
  اتضح بلا ريب ما لقبول أو رفض أصل الأحرف السبعة من انعكاس بالغ الأهمية في صيانة ألفاظ القرآن من أيدي المتلاعبين والمحرفين للكلم من بعد مواضعه ، فالمستفاد من الروايات ـ وهو ما

--------------------
(1) تاريخ القرآن للكردي الخطاط ص 204 ـ 205 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 153 _
  ذهب إليه أساطين علمائهم من سلفهم إلى يومنا ـ هو إمكانية تبديل وتغيير ألفاظ القرآن بغيرها لأن الرخصة في ذلك جاءت من الله عز وجل الذي ( لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) ( الأنبياء / 23 ).
فإن ثبتت الرخصة فلا يبقى مجال لأحد أن يمنع أو يدّعي عدم جواز ذلك .
  أما إذا لم تثبت تلك الرخصة أو ثبت العكس ! فلعمر الحق ، للأحرف السبعة طامة من الطامات وزلزلة عظيمة لركن من أركان الإسلام ، ودعوة صريحة لجواز تبديل آيات القرآن وتبديلها على ما يحلو للقارئ ويراه ثم يقول هو من عند الله افتراءً عليه ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( هود / 18 ) .
* أدلة بطلان مقولة الأحرف السبعة
  1 ـ لا دليل يمكن التمسك به لإثبات هذا الأصل.
  قد مرّ ذكر الروايات وتبيّن لنا أنـها متعارضة في بيان عدد تلك الأحرف ، وهي على خمسة أقسام ، وبعد أن رجّحنا ما رجحه أهل السنة سبعناها لـهم ، ثم حصل التعارض من جديد في معنى هذه السبعة وانقسمت الروايات إلى قسمين ، كل قسم لا يلتقي مع القسم الآخر ، القسم الأول دلّ على إمكان تغيير ألفاظ القرآن بما يرادفها في المعنى ، أما القسم الثاني فدل على حصر مواضيع الآيات التي أنزل الله عليها القرآن بسبعة أنواع أي حاكية عن أقسام البيان وأنواع الخطاب ، وسايرناهم مرّة أخرى بترجيح إمكانية تغيير ألفاظ القرآن بما يرادفها ، ثم حصل التضارب من جديد في حكاية كيفية تشريع تلك الأحرف وعن نفس الصحابي ، فمرّة تحكي أن القرآن كان على حرف واحد ومن ثم شرعت تلك الأحرف في ذلك الموقف ، ومرة أخرى أن الأحرف قد أنزل عليها القرآن من قبل وأن الأمة تقرأ بتلك الأحرف تلقائيا ، ناهيك عن التضارب بين طيات الحادثة وتفاصيلها !
  وأهل التحقيق لا يتجاوزون هذا التضارب الذي يقف سدا دون قبول ما تتضمنه الروايات ، فكيف يعتمد عليها ولم تسلم من التعارض والتدافع في أي فقرة من فقراتـها ؟! ، فالحق أنه لا يتسنى لذي دين الجزم بـها على الله عز وجل ، وعليه لا دليل ينهض لإثبات ذاك المعنى من الأحرف السبعة بعد التساقط .
  وقد توقف بعض علماء أهل السنة فيها وأشكلت مضامينها عليهم ، ثم بلغ استحسانات بعضهم في بيان معناها أربعين قولا ، وكل هذا يدل على أن الأدلة قاصرة عن إفادة الغاية المرجوة منها ، ولو كان هذا الأصل الذي يمس نصوص القرآن موجودا في الشريعة لما اقتصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذكر المصطلح ( سبعة أحرف ) دون شرح معناه بصورة جلية وواضحة ، حتى لا يفتح باب التلاعب بكتاب الله وناموس الرسالة الخاتمة للبشرية ، فأي دليل بعدُ يعتمد عليه ؟!

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 154 _
  2 ـ المعارضة لصريح القرآن .
  هذا المعنى من الأحرف السبعة يعني جواز نسبة ألفاظ ليست في مصحفنا للقرآن بدعوى أن لها معنى واحد تمسكا بما ادُّعي أنه قول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم :
  ( ( كل شافٍ كافٍ ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب ، نحو قولك : تعالَ وأقبل وهلمّ واذْهب وأسرع وعجِّل ) ، وهذا اللفظ رواية أحمد ، وإسناده جيد ) (1) .
  وهذا الأصل المنحرف والمستند المائل يتعارض مع صريح الآيات التي تحظر على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم التصرف في ألفاظ الآيات الكريمة وتغيرها من تلقاء نفسه ، وتوجب عليه اتباع ما يوحى إليه بلا زيادة ولا نقصان ولا تبديل ، وإلاّ لاستوجب العذاب الأليم جزاء للكذب على الله عز وجل ـ والعياذ بالله ـ ونسبة ما ليس منه إليه ، قال تعالى :
   ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ) ( يونس / 15 ـ 17 ).
  فهذه الآية تناقض ذلك الأصل الذي يجوِّز افتراء الكذب على الله عز وجل فيدعي كل قارئ قرآنية كل ما يحلو له ، فيصبح ويقول إن هذه الآية قالها الله عز وجل هكذا ، ويمسي ويقول قالها بشكل آخر وهكذا ، فيغير ألفاظ القرآن ويبدلها بدعوى أن هذا التبديل إنما هو من تلك الأحرف ، وكله كذب على الله وافتراء فإن قول فلان ليس هو قول الله ، ثم ما يدريه أن هذا هو قول الله عز وجل بعينه ؟!
  ثم ما نفعل بمثل الآيات التي يستفاد منها عدم تغيير آيات الله وتبديل كلماته بغيرها كقوله تعالى :( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) ( الكهف / 27 ) ، وغيرها مما يقارب مضمونـها ؟! (2) .

--------------------
(1) الإتقان ج 1 ص 148 ـ 149 ط دار ابن كثير .
(2) الحاقة 44 ـ 47.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 155 _
  3 ـ معارضة لسيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم .
  الأمر الأول : إن بعض الأقوال والأفعال التي صدرت منه صلى الله عليه وآله وسلم تقضي ببطلان هذا الأصل وتنفي وجوده في الشريعة الإسلامية .
  وعليه نستطيع الجزم ببطلان هذا المعنى للأحرف السبعة وفساد الروايات التي تحكي مضمونه ، فقد ذكرت كتب التفاسير (1) أن سبب نزول الآية المباركة ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ) ( الأنعام / 93 ) هو التنديد بكاتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آنذاك عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ابن خالة عثمان وأخيه من الرضاعة حينما خان الله ورسوله في كتابة الوحي ، حيث كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يملي عليه ( عزيز حكيم ) فيقول سعد : ( أو عليم حكيم ؟ ) ، فيصوّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلام ابن سعد ويقرّه على أن هذه كلها صفات الله عز وجل ، ولكن يجب إبقاؤها كما أنزلها الله عز وجل وأن يلتزم بكتابة ما يسمعه فقط ، فكونـها من صفات الله عز وجل لا يعني جواز تغيير ألفاظ القرآن على مزاجك ! ، ولكنه لم يعبأ بما قيل له وأخذ يغير القرآن ويكتبه محرّفا ، ففي روضة الكافي عن أبي بصير رضوان الله تعالى عليه عن أحدهما عليهما السلام قال :
  ( سألته عن قول الله عز وجل : ( وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ) ، قال : نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر وهو من كان رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة هدر دمه وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله فإذا أنزل الله عز وجل ( إن الله عزيز حكيم ) كتب ( إن الله عليم حكيم ) فيقول له رسول الله صلى الله عليه وآله : دعها ! فإن الله عليم حكيم ! (2) وكان ابن أبي سرح يقول للمنافقين : إني لأقول من نفسي مثل ما يجئ به فما يغير علي فأنزل الله تبارك وتعالى فيه الذي أنزل ) (3) .
  وفي الدر المنثور : ( وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي خلف الأعمى قال كان ابن أبى سرح يكتب للنبي صلى الله عليه (وآله) وسلم الوحي أتى أهل مكة فقالوا يا ابن أبي سرح : كيف كتبت لابن أبي

--------------------
(1) الانساب للبلاذري ج 5 ص 49 ، تفسير القرطبي ج 7 ص 40 ، تفسير البيضاوي ج 1 ص 391 ، كشاف الزمخشري ج 1 ص 461 ، تفسير الرازي ج 4 ص 96 ، تفسير الخازن ج 2 ص 37 ، تفسير النسفي هامش الخازن ج 2 ص 37 ، تفسير الشوكاني ج 2 ص 133 ، 135 نقلا عن ابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن جريج ، وابن جرير ، وأبي الشيخ ، وكله منقول عن الغدير للعلامة الأميني رضوان الله تعالى عليه ج 8 ص 281 .
(2) أي اتركها كما نزلت ولا تغيرها ، فان ما كتبت وإن كان حقا ولكن لا يجوز تبديل ما أنزله الله .
(3) الكافي ج 8 ص 201 بتعليق علي أكبر غفاري ، وفي تفسير العياشي ج 1 ص 399 ح 59 ، هنا ابن أبي سرح كذب في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقره على تلك الزيادة ، وإلا لما نفاه وأهدر دمه .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 156 _
  كبشة القرآن ؟ قال : كنت أكتب كيف شئت ، فانزل الله ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) (1) .
  ورووا تلك الحادثة عن رجل آخر اسمه أبو برزة الأسلمي (2) : ( قال لقريش : أنا أعلم لكم علم محمد فأتى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : يا رسول الله إني أحب أن تستكتبني قال : فاكتب ، فكان إذا أملى عليه من القرآن ) وكان الله عليما حكيما ( ، كتب ( وكان الله حكيما عليما ) و إذا أملى عليه ( وكان الله غفورا رحيما ) ، كتب ( وكان الله رحيما غفورا ) ، ثم يقول : يا رسول الله اقرأ عليك ما كُتب ! فيقول : نعم ، فإذا قرأ عليه ( وكان الله عليما حكيما ) أو ( رحيما غفور ) قال له النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : ما هكذا أمليت عليك ! وان الله لكذلك ! إنه لغفور رحيم و إنه لرحيم غفور !! فرجع إلى قريش فقال ليس آمره بشيء كنت آخذ به فينصرف ) (3) .
  وفي تاريخ اليعقوبي : ( عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ، وكان يكتب لرسول الله فصار إلى مكة فقال : أنا أقول كما يقول محمد ، والله ما محمد نبي وقد كان يقول لي : اكتب (عزيز حكيم)، فأكتب ( لطيف خيبر ) ، ولو كان نبيا لعلم ) (4) .
  وبعد أن ظهرت منه الخيانة طرده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلحق عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالمشركين ، وكان يقول لهم : إني كنت أصرف محمداً حيث أريد ، فأنزل الله فيه الآية ،

--------------------
(1) الدر المنثور ج 3 ص 30 .
(2) احتمل قويا افتراء هذه على أبي برزة الأسلمي رضوان الله تعالى عليه ، وذلك لأن أبا برزة من شيعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذين شاركوا معه في صفين والنهروان ، قال ابن حجر في الإصابة ج 6 ص 433 ت 8722 : ( نضلة بن عبيد الأسلمي أبو برزة مشهور بكنيته ، وقال ابن سعد كان من ساكني المدينة ثم نزل البصرة وغزا خراسان ، وقال غيره شهد مع علي ( عليهم السلام ) قتل الخوراج بالنهروان ، وغزا خراسان بعد ذلك ويقال إنه شهد صفين والنهروان مع علي روى ذلك من طريق ثعلبة بن أبي برزة عن أبيه ) قال ابن الأثير في أسد الغابة ج 5 ص 19 : ( نضلة بن عبيد ، وروى عنه انه قال أنا قتلت ابن خطل يوم الفتح وهو متعلق بأستار الكعبة وروى ثعلبة بن أبى برزة أن أباه شهد صفين والنهروان مع علي ، وكان أبو برزة عند يزيد بن معاوية لما أتى برأس الحسين بن علي فرآه أبو برزة وهو ينكث ثغر الحسين بقضيب في يده فقال لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا ربما رأيت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يرشفه أما انك يا يزيد تجئ يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجئ هذا ومحمد شفيعه ثم قام فولى ) .
  وليس بعزيز على بني أمية أن يزيحوا تلك المخزاة عن ابن أبي سرح أخي الخليفة لأمه ويلصقوها بواحد من شيعة الإمام علي عليه السلام ، وهو الذي اعترض على فعل لعين السماوات الأرض يزيد بن معاوية .
(3) الدر المنثور ج 6 ص 352 .
(4) تاريخ اليعقوبي ج 1 ص 59 ـ 60 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 157 _
  وأهدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دمه ، فشفع له عثمان خلافا لرغبة الله ورسوله ! (1) .
  وقال البلاذري في فتوح البلدان عن الواقدي : ( وأول من كتب له من قريش عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، ثم ارتد ورجع إلى مكة وقال لقريش : أنا آتى بمثل ما يأتي به محمد ، وكان يملي عليه (الظالمين) فيكتب (الكافرين) ، يملي عليه (سميع عليم) ، فيكتب (غفور رحيم) ، وأشباه ذلك ، فأنزل الله ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ) ( الأنعام / 93 ) ، فلما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم بقتله ، فكلمه فيه عثمان بن عفان وقال : أخي من الرضاع وقد أسلم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم بتركه ، وولاه عثمان مصر ) (2) .
  وذكر الحاكم في المستدرك على الصحيحين : ( فأما عبد الله بن سعد ابن أبي سرح فإن الأخبار الصحيحة ناطقة بأنه كان كاتبا لرسول الله صلى الله عليه وآله فظهرت خياناته في الكتابة فعزله رسول الله صلى الله عليه وآله فارتد عن الإسلام ولحق بأهل مكة ) (3) .
  قد يقال إن فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع ابن أبي سرح لا يدل على عدم جواز القراءة بالمعنى إذ الكتابة غير القراءة وما فعله ابن أبي سرح هو الكتابة لا القراءة ، ويرد عليه أن هذا الادعاء مدفوع بفعل الصحابة أنفسهم وذلك لورود عشرات الروايات التي تنص على أن الصحابة

--------------------
(1) أخرج في سنن أبي داود ج 3 ص 59 ح 2683 بسنده عن سعد : ( قال لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وسماهم وابن أبي سرح فذكر الحديث قال وأما بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ، ثم أقبل على أصحابه فقال : أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ، فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك ، قال : إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) وعلق عليه أبو داود : قال أبو داود كان عبد الله أخا عثمان من الرضاعة وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه وضربه عثمان الحد إذ شرب الخمر .
  وفي السير الكبير للشيباني ج 2 ص 169 : ( وأيد هذا ما روي أن عثمان )رض( جاء بعبد الله بن سعيد بن أبى سرح يوم فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : بايع عبد الله ، فأعرض عنه ، حتى جاء إلى كل جانب هكذا ، فقال : بايعناه فلينصرف . فلما انصرف قال لأصحابه : أما كان فيكم من يقوم إليه فيضرب عنقه قبل أن أبايعه ؟ فقالوا : أهلا أو مأت إلينا بعينك يا رسول الله ، فقال : ما كان لنبى أن تكون له خائنة الاعين ، وأحد لا يظن أن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم كان يرضى بكفره ، ولكن علم أنه كان يظهر في ذلك تقية . فلهذا أعرض عنه وقال ما قال ) ، مع العلم أن هذا الفاجر أمّره معاوية على المؤمنين في خلافته فحرق الأخضر قبل اليابس ! وكذلك فعل عثمان بابن خالته من قبل .
(2) فتوح البلدان ص 662 ط دار النشر للجامعيين ، أقول : والي المسلمين نزلت فيه هذه الآية ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) ( الأنعام / 93 ) ، هكذا السلف الصالح وإلا فلا !
(3) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 100.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 158 _
  كانوا يكتبون التغيير والتبديل في مصاحفهم الخاصة وهم وجوه الصحابة على ما سيأتي بيانه كعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وعائشة وحفصة وأبي بن كعب وغيرهم ، فاختصاص الحرمة بالكتابة يناقضه فعل الصحابة ، ثم إن الأصل هو القراءة لا الكتابة لأن السماح بالتلاعب في القراءة هوسماح بالتلاعب في الكتابة بطبيعة الحال لما سيأتي من أن المصاحف لم تكن تتميز كلماتـها إلا بالقراءة وكانوا يكتبون المصاحف عن القراءة لأن القرآن نزل منجما لا ككتاب مسطور.
  وعلى أي حال فهذه الحادثة تعد أدل دليل على إنكار الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لتبديل ألفاظ القرآن بغيرها ولو بمرادفاتـها نحو ( عليم حكيم ) بدلا عن ( عزيز حكيم ) وهو عين منطوق روايات الأحرف السبعة ، وعلى ذلك فسيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كاشفة عن كذب هذه الرخصة المخزية للقرآن ولأهله ، وأنـها تعتبر خيانة لله ولرسوله ، نعوذ بالله من الخذلان .
  وهناك نص يبين عدم رضاه صلى الله عليه وآله وسلم بتغيير ترتيب الآيات والانتقال من آية في سورة إلى آية في سورة أخرى ، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه بطريقين أحدهما حدثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب قال : ( مر رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم على بلال وهو يقرأ من هذه السورة و من هذه السورة ، فقال : بأبي أنت يا رسول الله إني أردت أن أخالط الطيب بالطيب ، فقال صلى الله عليه (وآله) وسلم : اقرأ السـورة على نـحوها ! ) (1) .
  فكيف يظن به صلى الله عليه وآله وسلم يرضى بخلط القرآن بكلام البشر مع أنه لا يرضى بخلط كلام الله ببعضه البعض ؟!
  الأمر الثاني : وردت في مصنّفات أهل السنة الروائية عدد من الروايات التي تحكي حدوث اختلاف بين الصحابة في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قراءتـهم لآيات القرآن ، فأخبروه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فاحمر وجهه وتربّد وحذّرهم مغبّة الاختلاف في القرآن لئلا يكونوا كالذين من قبلهم أضاعوا كتب الله باختلافهم فيها فهلكوا وأهلكوا .

--------------------
(1) المصنف ج 6 ص 150 ـ 151 ح 30250 ط دار الكتب العلمية ، الطريق الآخر ( حدثنا عبيد الله بن إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ) .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 159 _
  وقد جاء هذا المعنى في عدّة مصادر منها مسند أحمد عن ابن مسعود قال : ( تمارينا في سورة من القرآن فقلنا خمس وثلاثون آية ، ست وثلاثون آية قال : فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فوجدنا عليا رضي الله تعالى عنه يناجيه ، فقلنا : إنا اختلفنا في القراءة ، فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فقال علي رضي الله تعالى عنه : إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يأمركم أن تقرؤوا كما علمتم ) (1) .
  وقد زاد الطبري في تفسيره : ( فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وقال : إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم ، قال : ثم أسر إلى علي شيئا فقال لنا علي : إن رسول الله يأمركم أن تقرؤوا كما عُـلّمتم ) (2) .
  وهذه الحادثة دالة على غضبه وعدم رضاه صلى الله عليه وآله وسلم على من يتجاوز حدود ما علمه لهم ، حيث أوجب عليهم التزام قراءته بنص قوله ( اقرؤوا القرآن كما علمتم ) لأنه معلم القرآن ومتلقي الوحي ، ولم يؤثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم قراءة آيةٍ ما بأشكال متعددة متغايرة وإلا لأوصلته لنا رسله ، ولصار حديث الأندية عند المشركين والمنافقين قبل المؤمنين ، وهذا الأمر يناقض معنى الأحرف السبعة الذي يسمح للجميع بقراءة القرآن كيفما أراد بتبديل كلمات الآيات .
  ناهيك عن أن الروايتين السابقتين سكتتا عن مقطع مهم جاء في رواية صحيحة السند وهي :
  ( حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عبد الرحمن عن همام عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال : سمعت رجلا يقرأ (حم ) الثلاثين يعنى الأحقاف ، فقرأ حرفا وقرأ رجلا آخر حرفا لم يقرأه صاحبه وقرأت أحرفا فلم يقرأها صاحبي ، فانطلقنا إلى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فأخبرناه ، فقال : لا تختلفوا فإنما هلك من كان قبلكم باختلافهم . ثم قال : انظروا أقرأكم رجلا فخذوا بقراءته ) (3) .

--------------------
(1) مسند أحمد ج 1 ص 105 ح 832 .
(2) تفسير الطبري ج 1 ص 15 ،وعنه في كنـز العمال ج 1 ص 167 ح 890.
(3) مسند أحمد ج 1 ص 401 ح 3803 ، علق عليه أحمد محمد شاكر ( إسناده صحيح ) ، والمعلق حضي بإشادة وشهادة عالية من الألباني في مقدمة صحيح الترغيب والترهيب ص 18 ـ 19 : ( والحق ـ والحق أقول ـ إن القليل من علماء الحديث ـ فضلا عن غيرهم ـ من له عناية تامة بالتمييز الأول كالحافظ المنذري على تساهله المتقدم بيانه والحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه وتلميذه السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة وغيرهم ، وفي عصرنا هذا الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقه وتعليقه على مسند الإمام أحمد وغيره ، ومثله اليوم أقل القليل ).

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 160 _
  وهذه الرواية تقول أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بعدم الاختلاف وأن يقتدوا برجل أتقن قراءة القرآن وهذا الإقتداء يعني الاتحاد على قراءة واحدة ، وأن هلاك الأمة بالاختلاف والفرقة في قراءة القرآن ، فأين الأحرف السبعة من هذه الرواية ؟!
  الأمر الثالث : دعاء الله عز وجل يصح بأي لغة وبأي شكل كان ، وإن ورد مأثورا كان الالتزام بألفاظه أتم وأكمل من تغييرها لمرادفاتـها لما لنظم الدعاء من أسرار لا نعلمها ، حتى ورد أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم علّم البراء بن عازب دعاءً كان فيه ( ونبيك الذي أرسلت ) ولكن البراء أبدل كلمة ( ونبيك ) إلى ( وبرسولك ) فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يغير ألفاظ الدعاء وأن يتقيد بما علمه .
  وهذا ما ذكره ابن حزم في الإحكام وسيأتي الكلام عنه ، فإن كان للدعاء هذه الخصوصية ويلزم أن نتقيد بنصه فكيف يصح التبديل والتغيير في القرآن المعجز في نظمه ومضمونه حتى يكون عرضة لتلاعب القراء ؟
  4 ـ موقف الصحابة العملي المناقض لهذا الأصل :
  سمع الصحابة في عصر النـزول هذا القرآن غضا طريا من لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك حدث الاختلاف فيما بينهم في قراءة القرآن بتغيير بعض ألفاظه ، وكانت تحصل لذلك بعض المشادات ، ولم نر أحدا منهم يفض النـزاع بدعوى أن هذا الاختلاف والتباين بيننا في القراءة سببه نزول القرآن على الأحرف السبعة !
  ولا يخفى اعتبار هذا الوجه كسبب مقبول لتغاير قراءات السلف يُقطع به دابر الشحناء والتباغض ، ولذا لا يعقل إهمالهم لذكر سبب الاختلاف ـ الأحرف السبعة ـ مع أهميته البالغة ، فهذا الإهمال منهم يدل على أن هذا المعنى المستفاد من روايات الأحرف السبعة قد تولد في عصر متأخر عن عصر الصحابة .
  * الروايات الدالة على افتعال معنى الأحرف السبعة بعد زمن الصحابة :
  1 ـ اعتراض عمر على قراءة أبي بن كعب :

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 161 _
  ( أخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور و ابن أبى شيبة و ابن المنذر و ابن الانبارى في المصاحف عن خرشة بن الحر قال : رأى معي عمر بن الخطاب لوحا مكتوبا فيه ( إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) ( الجمعة / 9 ) ، فقال : من أملى عليك هذا ؟ قلت : أبى بن كعب ، قال : إن أبيا أقرؤنا للمنسوخ اقرأها ( فامضوا إلى ذكر الله ) ) (1) .
  هنا صرح عمر أن هذه الجملة ( فامضوا إلى ذكر الله ) قرآن منـزل ، فإن كان للأحرف السبعة وجود لما جاز لعمر أن ينهى أبي بن كعب عن قراءة الآية بالصورة التي نقرأ بـها اليوم .
  2 ـ تعريض سعد بن أبي وقاص بقراءة ابن المسيّب :
  ( وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور و أبو داود في ناسخه و ابنه في المصاحف و النسائي وابن جرير وابن المنذر و ابن أبى حاتم و الحاكم وصححه عن سعد بن أبى وقاص أنه قرأ ( ما ننسخ من آية أو ننساها ) فقيل له : إن سعيد بن المسيب يقرأ ( نُنسِهَا ) ( البقرة / 106 ) ، فقال سعد : إن القرآن لم ينـزل على المسيب ولا آل المسيب قال الله : ( سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى) ( الأعلى / 6 ) ، ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) ( الكهف / 24 ) ) (2) .
  فلو كان لهؤلاء عهد بمعنى الأحرف السبعة لما كان من الجائز أن ينهى سعد عما رخّص به الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
  3 ـ امتراء نفر من التابعين في القراءة :
  ( أخرج سعيد بن منصور والطبراني عن الأخنس قال : امترينا في قراءة هذا الحرف ( ويعلم ما يفعلون ) أو ( تفعلون ) فأتينا ابن مسعود فقال ( تفعلون ) ) (3) .
  ولو كان للأحرف السبعة مكان بينهم لكان من اللازم أن يقول ابن مسعود أن كل تلك الوجوه شافية كافية ما لم تختموا آية رحمة بعذاب أو العكس !
  4 ـ اعتراض عبد الله بن الزبير على قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
  ( وأخرج الفراء عن ابن الزبير أنه قال على المنبر : ما بال صبيان يقرءون ( نَخِرَةً ) ( النازعات / 11 ) ، إنما هي ( ناخرة ) ) (4) .

--------------------
(1) الدر المنثور ج 6 ص 219 .
(2) ن . م ج 1 ص 104 ط دار المعرفة بالأوفست .
(3) ن . م ج 6 ص 8.
(4) ن . م ج 6 ص 312 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 162 _
  ولو كان ابن الزبير يعرف شيئا عن الأحرف السبعة لما رفض قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل لـجوز كلا القراءتين .
  5 ـ اعتراض ابن الزبير الآخر على قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
  ( وأخرج ابن أبى حاتم عن عروة بن الزبير أنه كان يعجب من الذين يقرؤون هذه الآية ( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) ( الحج / 51 ) ، قال : ليس ( مُعَاجِزِينَ ) من كلام العرب إنما هي ( معجزين ) يعنى مثبطين ) (1) .
  فإن كان للأحرف السبعة وجود لما نـهى ابن الزبير عن القراءة المتواترة التي نقرأ بـها اليوم ، فما بالك وهو يُلحّن ويخطئ قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
  6 ـ إنكار ابن سيرين على قراءة الحسن البصري :
  ( وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن سيرين أنه سئل : كيف تقرأ هذه الآية ( فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) ( سبأ / 23 ) ، أو ( فرغ عن قلوبـهم ) قال : ( فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) ( سبأ / 23 ) ، قال : فان الحسن يقول برأيه أشياء أهاب أن أقولها ) (2) .
  ولا مجال للاعتراض على قراءة الحسن البصري إن كان للأحرف السبعة وجود .
  وأما لو تغاضينا عن الأدلة المتوافر في تحديد معنى الأحرف السبعة وسايرنا بعض نفر من علمائهم بأن معنى الأحرف السبعة هي الوجوه المحتملة للفظ باختلاف القراءات (3) فإن هذا الوجه لا ينسجم وفعل الصحابة ، وذلك لعدم وجود أحد منهم برر موقفه وقراءته بدخولها ضمن الأحرف السبعة التي نزل

--------------------
(1) ن . م ج 4 ص 366 .
(2) ن . م ج 5 ص 237
(3) هذا المعنى للأحرف وإن كان مخالفا لروايات الصحيحين وغيرهما فقد ذهب له ابن قتيبة والرازي وبعض من المتأخرين ، قال ابن قتيبة : ( إن المراد بالأحرف السبعة ، الأوجه التي يقع بـها التغاير :
  ( فأولها ) ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته ، مثل ( ولا يُضارَّ كاتِبٌ ) بفتح الراء وضمها.
  ( وثانيها ) ما يتغيّر بالفعل مثل ( بَعَّدَ و باعِدْ ) بلفظ الطلب والماضي .
  ( وثالثها ) ما يتغير باللفظ مثل ( نُنْشِرها و نُنْشِزُها ) بالراء المهملة والزاي المعجمة .
  ( ورابعها ) ما يتغيّر بإبدال حرفٍ قريب المخرج مثل ( طلحٍ منضود و طلعٍ منضود ).
  ( وخامسها ) ما يتغيّر بالتقديم والتأخير مثل ( جاءت سكرة الموت بالحق ، وجاءت سكرة الحق بالموت ) .
  ( وسادسها ) ما يتغير بالزيادة والنقصان مثل ( وما خلق الذكر والأنثى ) بنقص لفظ ( ما خلق ) .
  ( وسابعها ) ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى مثل ( كالعهن المنفوش ، وكالصوف المنفوش ) .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 163 _
  عليها القرآن عندما انتقد في قراءته ، بل إن هذا الوجه يتعارض مع فعلهم أيضا لأن بعض تلك القراءات رفضت وضرب بـها عرض الجدار !
* بعض الروايات الدالة على ذلك :
  1 ـ ( أخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء والخطيب في تاريخه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : سمع عمر رجلا يقرأ هذا الحرف ( ليسجنـنه عتّى حين ) فقال له عمر : من أقرأك هذا الحرف ؟ قال : ابن مسعود ، فقال عمر : ( لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ) ( يوسف / 35 ) ، ثم كتب إلى ابن مسعود : سلام عليك أما بعد فإن الله أنزل القرآن فجعله قرآنا عربيا مبينا وأنزله بلغة هذا الحي من قريش ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرؤهم بلغة هذيل ) (1) .
  وها قد اعترض عمر على قراءة ابن مسعود وهي على حرف مختلف عن حرفه ، فلو كان لتلك الأحرف أصل شرعي لمـا جاز لعمر الاعتراض على قراءة ابن أم عبد الغضّـة ، لأن ابن مسعود كان سيرد عليه بجواز القراءة على سبعة أحرف ، فكيف يصح الاعتراض من عمر على ما جوّزه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! (2) .
  2 ـ ( حدثنا أبو سلمة ومحمد بن إبراهيم التيمي قالا : مر عمر بن الخطاب برجل وهو يقول : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) ( التوبة / 100 ) ، إلى آخر الآية فوقف عليه عمر فقال : انصرف فلما انصرف قال له عمر : من

--------------------
(1) الدر المنثور ج 4 ص 18 ، كنـز العمال ج 2 ص 593 ح 4813
(2) والحق أن ابن مسعود كان يغير عمليا مفردات الآيات ويجتهد فيها ، وقد نقل عنه ذلك في كثير من الموارد التي سنذكرها إن شاء الله تعالى ، ولعله يتضح بنقل هذه الرواية ونحيل البقية لمقامه ، ففي الدر المنثور ج 6 ص 32 ( وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الأنباري وابن المنذر عن عون بن عبد الله أن ابن مسعود أقرأ رجلا ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ ) ( الدخان / 43 ـ 44 ) ، فقال الرجل (طعام اليتيم) فرددها عليه فلم يستقم بـها لسانه ، فقال : أتستطيع أن تقول ( طعام الفاجر ) ؟ قال : نعم ، قال : فافعل ) ، إلا أن الرواية معارضة في أغلب تفاصيلها بروايتين أخريين ترويان نفس الحادثة نقلت أحدهما عن أبي الدرداء ، والأخرى عن أبي بن كعب ، ومن غير المعقول أن تتكرر حتى في نفس قول الرجل : ( طعام اليتيم ) ! قال السيوطي : ( وأخرج ابن مردويه عن أبى بن كعب انه كان يقرئ رجلا فارسيا فكان إذا قرأ عليه إن ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ ) قال : ( طعام اليتيم ) فمر به النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال قل له ( طعام الظالم ) فقالـها ففصحت بـها لسانه ) ، وقال السيوطي : ( وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن همام بن الحارث قال : كان أبو الدرداء يقرئ رجلا ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ ) فجعل الرجل يقول : ( طعام اليتيم ) فلما رأى أبو الدرداء أنه لا يفهم قال : ( إن شجرة الزقوم طعام الفاجر ) ) اه . فلا يمكن الاعتماد عليها ، نعم القراءات التي وردت عن ابن مسعود صريحة في تساهله في تغيير ألفاظ الآيات ، وسيأتي الكلام عنها .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 164 _
  أقرأك هذه الآية ؟ قال : أقرأنيها أبي بن كعب ، فقال : انطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فإذا هو متكئ على وسادة يرجل رأسه فسلم عليه فرد السلام فقال : يا أبا المنذر ، قال : لبيك ، قال : أخبرني هذا أنك أقرأته هذه الآية ؟ قال صدق ، تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال عمر : أنت تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وآله ؟! قال : نعم أنا تلقيّتها من رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثلاث مرات كل ذلك يقوله ، وفي الثالثة وهو غضبان : نعم والله ، لقد أنزلها الله على جبريل وأنزلها جبريل على محمد فلم يستأمر فيها الخطاب ولا أبنه !! فخرج عمر وهو رافع يديه وهو يقول : الله أكبر الله أكبر !! ) (1) .
  ومع كل هذا اللجاج المستمر بين أبي بن كعب وعمر ، لا تجد أحدا منهما يحتج بأحرف سبعة أو ما شاكل ! فلم لم يدّع ابن الخطاب أو الصحابي الجليل أبي بن كعب أن الاختلاف كان نتيجة نزول القرآن على سبعة أحرف وينتهي هذا الجدال ؟!
  وليس هذا هو المورد الوحيد الذي حاول عمر التلاعب بالآيات فتصدى له أبي بن كعب ، وكانت صرامة أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه حجر عثرة في طريق ابن الخطاب ، وهذا مورد آخر :
  ( عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر بن الخطاب قرأ ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ) فرفع الأنصار ، ولم يلحق الواو في الذين ، فقال له زيد بن ثابت ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) ( التوبة / 100 ) ، فقال عمر : ( الذين اتبعوهم بإحسان ) ، فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم ، فقال عمر : ائتوني بأبي بن كعب ، فسأله عن ذلك فقال أبي ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ) ، فجعل كل واحد منهما يشير إلى أنف صاحبه بإصبعه ! فقال أبي : والله أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وأنت تتبع الخبط ، فقال عمر : فنعم إذن ، فنعم ، نتابع أبيا ) (2) .
  وكذا روى ابن شبة : ( عن فهر ابن أسد قال : حدثنا ثابت أبو زيد عن عاصم الأحول عن أبي مجلز : أن أبيا قرأ ( مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ ) ( المائدة / 107 ) ، فقال عمر : كذبت (!) ، فقال أبي : بل أنت أكذب ، فقال له رجل : أتكذب أمير المؤمنين !؟ فقال : إنا أشد تعظيما لأمير المؤمنين منكم ، ولكني أكذبه في تصديق الله ولا أصدقه في تكذيب كتاب الله فقال عمر : صدق ) (3) .
  وفي هذه الرواية يقر عمر على نفسه بكذبه على القرآن ولولا صرامة أبي بن كعب لانطلت هذه الكذبة !
  بـهذه الأمثلة يتضح أن لو كان للأحرف السبعة وجود وأثر عملي في عصر السلف لما كان هناك مجال للاختلاف في هذه الموارد التي تتحمّلها مطاطية مفهوم الأحرف السبعة من جواز القراءة بالمعنى .

--------------------
(1) المستدرك ج 3 ص 305 ، الدر المنثور ج 3 ص 269 ، وهناك موارد أخرى كثيرا ما يتعاند أبي مع عمر فيها .
(2) في منتخب كنز العمال ج 2 ص 55 .
(3) تاريخ المدينة ج 2 ص 709 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 165 _
  5 ـ تاريخ الكفار والمنافقين شاهد على بطلانها
  لم ينقل لنا أحد من كتّاب التاريخ والسير أن المشركين والمرجفين ـ على مكائدهم وترصّدهم لكل شاردة وواردة لهدم الإسلام ـ شككوا في مصداقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألبسوا على المسلمين أن نبيكم ـ والعياذ بالله ـ يختلق الكلام ويخترعه من عند نفسه لأنه يقرأ المقطع الواحد بأشكال متعددة وفي كل يوم يقرؤه بشكل مختلف عما قرأه بالأمس ! فلو كان من عند الله عز وجل لالتزم بنصّه ولاتبع أمر مولاه الذي يوحي إليه لا أن ينساه فيغيره كل مرة !
  وعدم نقل التاريخ شيئا من هذا القبيل يدل على أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان في غاية الحرص على التزام نص واحد حتى لا يتسرّب الشك والريب إلى القرآن الكريم وهو الكتاب الخاتم الذي لا كتاب سماوي بعده ، وعلى أقل تقدير يجب أن يتواتر إلينا خبر هذه الأحرف السبعة ولو من جهة الكفار والمشركين والمنافقين على كثرتـهم بغية نقض الإسلام بأن قرآن المسلمين مخترع من مخيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله .
  6 ـ واقع المسلمين يكذب روايات الأحرف السبعة
  ذكرت الروايات أن علة تشريع تلك الأحرف هي رحمة الله عز وجل بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنـها لا تطيق قراءة القرآن على حرف واحد ، ولكن الواقع كذّب هذه الدعوى إذ أن اختلاف الأمة في القراءة أصبح نقمة في زمن عثمان ـ وسيأتي بيانه بإذنه تعالى ـ حتى كفّر الناس بعضهم بعضا هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أن الأمة اليوم كلها مجمعة على حرف واحد ومطيقة لذلك ، مع أنـها الآن أحوج ما تكون لتلك الأحرف بدخول كثير من غير العرب في الدين الإسلامي وطغيان اللهجات البعيدة عن فصيح العربية ، فمن نكذّب : الروايات أم الواقع ؟

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 166 _
  7 ـ فكرة ذهاب تلك الأحرف تستبعدها الأحداث التاريخية
  أين ذهبت تلك الأحرف ؟! قد يقال ـ كما سيأتي بإذنه تعالى ـ أن عثمان بن عفان هو الذي أمر بجمع القرآن الكريم بإلغاء الأحرف الستة الأخرى ـ بزعمهم ـ وهي أضعاف هذا القرآن المتداول ، وهذا القول باطل ، فلو كان للأحرف السبعة وجودٌ في دنيا الإسلام وقام عثمان بإحراقها ، لما سكتت عنه الجماهير الغاضبة عليه وعلى سياسته وإجحافه بغير بني أمية ، ولكان هذا العمل المفترض من عثمان من الطامات التي لا تغتفر وتستوجب قتله من تلك الجماهير ، ولأُثـِر عنهم الاحتجاج بـهذا الأمر ، وواضح أن حذف أضعاف ما بين أيدينا من القرآن يعني الكفر الصريح والفاضح المستوجب للقتل ، وهذا لم يرد ولم يؤثر ، فعدم معرفتنا لكيفية ذهاب تلك الأحرف المزعومة يدفعنا لرفض فكرة وجودها من الأساس .
  قال ابن حزم الأندلسي في الإحكام : ( ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان أقل من هذا مما لا نكره فيه أصلا ، فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة ، ومعاذ الله من ذلك ، وسواء عند كل ذي عقل إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى ولا فرق ، وتالله إن من أجاز هذا غافلا ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه لأنه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ ) ( الحجر / 9 ) .
  وفي قوله الصادق ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة / 17 ـ 19 ) ، فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه ، فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى وهذه ردّه صحيحة لا مرية فيها ) (1) .
  أقول : لم يجز أهل السنة ذلك بل جزموا به واعتقدوه !
  8 ـ أهل البيت عليهم السلام وموقفهم من هذه الأحرف
  إن أهل البيت عليهم السلام عِدل القرآن ، ولا أعلم بالقرآن من محمد وآل محمد عليهم الصلاة والسلام ، فإن صحّ عنهم تكذيب نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف زهق باطل غيرهم ، وهذه

--------------------
(1) الإحكام في أصول الأحكام المجلد الأول ج 4 ص 566 ط دار الكتب العلمية .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 167 _
  الروايات عنهم صريحة في تكذيب من ادعى أن عِدلهم ـ القرآن ـ نزل على سبعة أحرف ، فقد روى ثقة الإسلام الكليني رضوان الله تعالى عليه في الكافي الشريف ما نصه :
  1 ـ ( عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال : كذبوا أعداء الله ، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد ) (1) .
  2 ـ ( عن حماد بن عيسى عن جابر بن عبد الله قال : قيل لأبى عبد الله عليه السلام إن الناس يقولون : إن القرآن على سبعة أحرف . فقال : كذبوا ، نزل حرف واحد من عند رب واحد إلى نبي واحد ).
  3 ـ ( باسناده المتصل عن أبى جعفر عليه السلام قال : قلت له قول الناس نزل القرآن على سبعة أحرف فقال : واحد من عند واحد ) .
  4 ـ ( عن زرارة بن أعين قال : سأل سائل أبا عبد الله عليه السلام عن رواية الناس في القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : كذبوا الناس في رواياتـهم ، بل هو حرف واحد من عند واحد نزل به الملائكة على واحد ) (2) .
  فلا مجال بعد هذا كله لدعوى الأحرف السبعة ، ناهيك عن تصريح قرناء القرآن الكريم وأهله أن القرآن واحد نزل من عند الواحد على واحد ، فلا يترك قول أهل البيت عليهم السلام لقول غيرهم ، وأهل البيت أدرى بما فيه .

--------------------
(1) الكـافي ج 2 ص 630 ، تعليق علي أكبر غفاري ، الموارد الآتية من هامش وسائل الشيعة ننقل ما أورده السيد محمد الخوانساري فيه بحذف الإسناد والمصادر بعد أن ذكر روايتي الكافي .
(2) وسائل الشيعة ج 4 ص 822 ـ 823 .
  * الأثر العملي لمبدأ الأحرف السبعة :
  على معتقد علماء أهل السنة في معنى تلك الأحرف بإمكان المسلمين قراءة الآيات المباركة ( ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) ( القلم / 1 ـ 3 ) ، بـهذه الصورة ( ن والقلم والذي يكتبون ما أنت بنعمة إلهك بمخبول ، وإن لك لثواباً غير مقطوع ) فلا مانع من تغيير اللفظ شرط أن تكون الألفاظ مترادفة ! ، فيا لله ! كيف يجوزون هذا التلاعب والتحريف لكتاب الله عز وجل ؟

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 168 _
  وعلى أي من هذه الأشكال المتغايرة نعتمد في إثبات إعجاز القرآن ؟
  وكيف تصمد كلمات المفسرين أمام هذه المعمعة من تغاير الألفاظ وهم الذين أجهدوا أنفسهم لمعرفة أسرار مواضع الحروف ومحال الكلمات ! والتدقيق وإطالة النظر في استخراج حكمة استعمال هذا اللفظ دون غيره ؟!
  وكيف قالوا أنه لو استعمل لفظ آخر لـهدمت بيع وصوامع من عقيدتنا ومبادئنا ! وإلى ما شاء الله من النكات التفسيرية المحكمة ، والكثير الكثير من التساؤلات المحرجة !
  وبعبارة موجزة إن مذهب أهل السنة في معنى الأحرف السبعة من تغيير الألفاظ وتبديلها بمرادفاتـها يعني وبكل صراحة أن تحريف القرآن والتلاعب به ليس بالأمر الخطير بل هو جائز شرعا بفتح الباب على مصراعيه لكل من استحسن لفظا أو أعجبه مقطعٌ من كلام البشر يوافق معنى آية ، فيتلاعب ويستحسن ويصبح القرآن مسرحا ومرتعا يقدّم فيه بين يدي الله ويُجتهد في ابتداع واختراع كلمات آخرى للآيات !
  وليس كل علماء أهل السنة على هذا الرأي ، فهذا ابن حزم ينال من علماء السنة سلفا وخلفا ويكر عليهم تجهيلا وتفسيقا وتكفيرا أيضا ! ، قال :
  ( وأما من حدّث وأسند إلى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فلا يحل له إلا أن يتحرى الألفاظ كما سمعها لا يبدل حرفاً مكان آخر وإن كان معناهما واحداً ، ولا يقدّم حرفاً و لا يؤخر آخر ، وكذلك من قصد تلاوة آية أو تعلمها و تعليمها ولا فرق ، وبرهان ذلك أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم علم البراء بن عازب دعاء فيه ( و نبيك الذي أرسلت ) ، فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال ( وبرسولك الذي أرسلت ) فقال النبي عليه السلام : لا ، ونبيك الذي أرسلت ، فأمره عليه السلام كما تسمع ألا يضع لفظة ( رسول ) في موضع لفظة ( نبي ) وذلك حق لا يجيل معنى وهو عليه السلام رسول و نبي ، فكيف يسوغ للجهال المغفلين أو الفساق المبطلـين ، أن يقولوا : إنه عليه السلام كان يجيز أن توضع في القرآن مكان ( عَزيزٌ حكيم ٌ) ( غفورٌ رحيمٌ ) أو ( سميعٌ عليمٌ ) وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا ، والله يقول مخبراً عن نبيه صلى الله عليه (وآله) وسلم : ( مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ) ( يونس / 15 ) .
  ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى ، أم كيف يسوغ لأهل الجهل والعمى ـ يقصد أبا حنيفة وأتباعه ـ إباحة القراءة المفروضة في الصلاة بالأعجمية مع ما ذكرنا ومع إجماع الأمة على أن إنسانا لو قرأ أم القرآن فقدم آية على أخرى أو قال : الشكر للصمد مولى الخلائق

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 169 _
  وقال هذا هو القرآن لكان كافرا بإجماع (1) ، ومع قوله تعالى ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) ( النحل / 103 ) ؟ ففرق الله تعالى بينهما وأخبر أن القرآن إنما هو باللفظ العربي لا بالعجمي ، وأمر بقراءة القرآن في الصلاة فمن قرأ بالأعجمية فلم يقرأ قرآنا بلا شك ).
  وقال : ( وبلا خلاف من أحد من الأمة أن القرآن معجزة وبيقين ندري أنه إذا ترجم بلغة أعجمية أو بألفاظ عربية غير ألفاظه ، فإن تلك الترجـمة غير معجزة ، وإذ هي غير معجزة فليست قرآناً ومن قال فيما ليس قرآنا إنه قرآن فقد فارق الإجماع وكذب الله تعالى ، وخرج عن الإسلام إلا أن يكون جاهلا ومن أجاز هذا وقامت عليه الحجة ، ولم يرجع فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال ، لا نشك في ذلك أصلا ) (2) .
  وشدد النكير في موضع آخر : ( فحرام على كل أحد أن يظن أن شيئا أخبر رسول الله صلى الله عليه (وآله) أمته لا تطيق ذلك ، أن عثمان فحمل الناس عليه فأطاقوه ، ومن أجاز هذا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه (وآله) فيقوله لله تعالى ( إن أمته لا تطيق ذلك ) ، ولم ينكر الله تعالى عليه ذلك ولا جبريل عليه السلام وقال هؤلاء الـمجرمون : إنـهم يطيقون ذلك ، وقد أطاقوه فيا لله ويا للمسلمين ! أليس هذا اعتراضا مجردا على الله عز وجل مع التكذيب لرسوله صلى الله عليه (وآله) وسلم ؟ فهل الكفر إلا هذا ؟ نعوذ بالله العظيم أن يمر بأوهامنا فكيف أن نعتقده ) (3).

--------------------
(1) على هذه الضابطة يجب تكفير ابن مسعود وعمر وأبي الدرداء وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة وحفصة لأن كلا منهم ادعى قرآنية الجمل الزائدة الغريبة التي جاء بـها كما سيأتي بيانه بإذنه تعالى .
(2) الإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 220 ـ 222 ط دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى أقول : عنى ابن حزم بـهذا التكفير والمروق عن الملة إمام الحنفية أبا حنيفة النعمان حيث جوز الأخير قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة ! وسيأتي الكلام عنه بإذنه تعالى .
(3) الإحكام في أصول الأحكام ج 4 ص 570 ، ط دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 190 _
الجمع الثاني للقرآن :
  والجمع الثاني كان لتوحيد المسلمين على مصحف واحد يتم جمعه ويسمى بالمصحف الإمام ليلتزم به الجميع ولا يتجاوزون خطه ورسمه ، وتلغى المصاحف الأخرى ، وهذا حدث في زمن عثمان .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 191 _
  * سببه :
  رحمة الله صارت نقمة !
  زعموا أنه بعد جمع القرآن على سبعة أحرف بقيت تلك الصحف عند أبي بكر وبعدها عند عمر طيلة فترة تأمرهما على الناس ، وبقي الناس على ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وجود الأحرف السبعة في دنيا المسلمين يقرؤون بـها ، إذ نزل القرآن ـ بزعمهم ـ على سبعة أحرف رحمة لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبمضي الوقت وبُعد العهد عن زمن النـزول اختلف الناس وتضاربوا فبدل أن تكون الأحرف السبعة رحمة لهم أصبحت وبالا ونقمة عليهم ! ، فصار التكفير على قدم وساق بين القرّاء وصبيانـهم ، ووصل الوباء للجنود في أقاصي الثغور وعلى حدود الدولة الإسلامية ! ، وهكذا تفاقمت المشكلة أكثر فأكثر بدعوى أن الناس لم تكن تعلم أن الأحرف السبعة رحمة ! لذلك لم يختلف الصحابة (1) بعد علمهم أن كلا من تلك الأحرف شاف وكاف ، ولكن الناس لم يلتفتوا لذلك !
  قال ابن جرير الطبري في تفسيره بسنده عن أبي قلابة : ( لـما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل و المعلم يعلم قراءة الرجل فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين ، قال أيوب : فلا أحسبه إلا قال : حتى كفّر بعضهم بقراءة بعض ) (2) .
  وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : ( وفي رواية عمارة بن غزية أن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال : يا أمير المؤمنين أدرك الناس ! قال : وما ذاك ؟ قال : غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي ابن كعب فيأتون بـما لم يسمع أهل العراق و إذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بـما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضا ).
  وقال أيضا ( ومن طريق محمد بن سيرين قال : كان الرجل يقول لصاحبه : كفرت بـما تقول . فرفع ذلك إلى عثمان فتعاظم في نفسه ، وفنده ابن أبى داود أيضا من رواية بكير بن الأشج أن ناسا بالعراق يسأل أحدهم عن الآية فإذا قرأها قال : ألا إني أكفر بـهذه ففشا ذلك في الناس ) (3) .
  فاستجاب عثمان لهذا الأمر الخطير وقام في الناس قائلا : ( أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون : قراءة أبيّ وقراءة عبد الله ، يقول الرجل للرجل : والله ما يقيم

--------------------
(1) وقد مر عليك أن الصحابة هم الذين اختلفوا ، وستأتي البقية بإذنه تعالى .
(2) جامع البيان للطبري ج 1 ص 21 ، المقنع للإمام الداني ص 6 .
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 9 ص 22 ح 4702 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 192 _
  قراءتك … الخ ( وحينما استفحل الأمر وتفاقم عبّأ حذيفة بن اليمان رضوان الله تعالى عليه نفسه وانتدبـها ليحث ابن عفان ويوقظه لخطورة هذه الظاهرة .
  * الـهدف منه :
  بعد أن صحا عثمان للخطر الداهم قرر أن يحذف الأحرف السبعة التي أنزلها الله عز وجل على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كقرآن ـ بزعمهم ـ ويُبقي حرفا واحدا حتى يتخلص من رحمة الله التي انقلبت نقمة ! وهذا الحرف الواحد هو القرآن الذي بين أيدينا .
  * كيفيـته :
  أمر عثمان زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوا ما جمع في زمن أبي بكر ليكتبوا مصحفا تتوحد عليه الأمة الإسلامية ويكون القرآن الرسمي ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانـهم .
  ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف أرجع عثمان جمع أبي بكر إلى حفصة ثم بعث إلى الأقطار بنسخ من هذه المصاحف المنسوخة لتتوحد الناس عليها ، وكإجراء وقائي أمر عثمان بجمع المصاحف المحتوية على كل القرآن بأحرفه السبعة ليحرقها أمام الملأ ويتخلص من آيات قرآنية تقدر بستة أضعاف قرآننا الفعلي والتي كانت موجودة في المصحف الذي جمع في زمن أبي بكر ، وكان من الصحابة من رفض تسليم مصحفه حتى لا تضيع تلك الآيات ، وراح يطعن في نزاهة الجمع والجامعين ، وأنكر حرق المصاحف وحذف قرآن كثير أنزله الله عز وجل .

اعتراف علماء أهل السنة بإحراق عثمان لستة أضعاف القرآن :
  قال ابن جرير الطبري ، قريب العهد من تلك الوقائع : ( والآثار الدالة على أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه جمع المسلمين نظرا منه لهم (1) ، وإشفاقا منه عليهم ، ورأفة منه بـهم ، حذار الردة من بعضهم بعد الإسلام والدخول في الكفر بعد الإيمان إذ ظهر من بعضهم

--------------------
(1) ابتدأ الأسلوب الشاعري ، فلاحظ !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 193 _
  بحضرته وفي عصره التكذيب ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن مع سماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم النهي عن التكذيب بشيء منها وإخباره إياهم أن المراء فيها كفر ، فحملهم رحمة الله عليه إذ رأى ذلك المراء بينهم في عصره وبحداثة عهدهم بنـزول القرآن وفراق رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم بما آمن عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن على حرف واحد ، وجمعهم على مصحف مخالفا المصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه ، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية ، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها طاعة منها له ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها ، حتى درست من الأمة معرفتها وتعفت آثارها ، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بـها لندورها وعفوّ آثارها وتتابع المسلمين على رفض القراءة بـها من غير جحود منها بصحتها وصحة شيء منها ، ولكن نظراً منها لأنفسها ولسائر أهل الدنيا فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح (!) دون ما عداها من الأحرف الستة الباقية ) (1) .
  قال مكي بن أبي طالب القيسي : ( إن هذه القراءات كلّها التي يقرأ بـها الناس اليوم وصحّت روايتها عن الأئمة إما هو جزء من الأحرف السبعة التي نزل بـها القرآن ووافق اللفظ بـها خط المصحف ـ إلى قوله ـ وإذا كان المصحف بلا اختلاف كتب على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بـها القرآن على لغة واحدة ، والقراءة التي يقرأ بـها لا يخرج شيء منها عن خط المصحف ، فليست هي إذاً هي السبعة الأحرف التي نزل بـها القرآن كلها ، ولو كانت هي السبعة كلها وهي موافقة للمصحف لكان المصحف قد كتب على سبع قراءاتٍ ، ولكان عثمان رضي الله عنه قد أبقى الاختلاف الذي كرِهَه ، وإنما جمع الناس على المصحف ليزول الاختلاف ) (2) .
  قال ابن القيم الجوزية : ( ومن ذلك جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة ، التي أطلق لهم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم القراءة بـها لما كان ذلك

--------------------
(1) تفسير الطبري ج 1 ص 22 ، قال الكردي الخطاط ص 46 بعد نقله لكلام الطبري ما نصه : ( ولقد أتينا بكلام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى لأنه من كبار الأئمة ولأن عصره كان قريبا من عصر الصحابة والتابعين ، فإنه ولد سنة مائتين وأربع وعشرين وطاف الأقاليم في طلب العلم وسمع عن الثقات الأجلة وجمع من العلوم ما لم يشاركه أحد في عصره وله تصانيف عديدة ، حكى أنه مكث أربعين سنة فكتب في كل يوم منها أربعين ورقة ، توفى في شوال عام ثلاثمائة وعشرة وصلى على قبره عدة شهور ليلا ونـهارا ).
(2) الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب القيسي ص 2 ـ 4 تحقيق د . ع بد الفتاح شلبي .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 194 _
  مصلحة (1) ، فلما خاف الصحابة رضي الله عنهم على الأمة أن يختلفوا في القرآن ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف ، فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءة بغيره ) (2) .
  قال الكردي الخطاط في تاريخ القرآن : ( فخلاصة ما تقدم أن أبا بكر أول من جمع القرآن بإشارة عمر رضى الله عنهما وكان جمعه بالأحرف السبعة كلها التي نزل بـها القرآن ، وسببه الخوف من ضياعه بقتل القراء في الغزوات ، ثم في خلافة عثمان كثر اختلاف الناس في قراءة القرآن فخشي رضى الله عنه عاقبة هذا الأمر الخطير وقام بجمع القرآن على حرف واحد من الأحرف السبعة وهو حرف قريش وترك الأحرف الستة الباقية حرصا منه على جمع المسلمين على مصحف واحد وقراءة واحدة ، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف لمصحفه الذي جمعه أن يحرقه فأطاعوه واستصوبوا رأيه ، فالمصحف العثماني لم يجمع إلا بحرف واحد من الأحرف السبعة وان القراءات المعروفة الآن جميعها في حدود ذلك الحرف الواحد فقط و أما الأحرف الستة فقد اندرست بتاتا من الأمة ) (3) .
  قال في موضع آخر ( أما عثمان رضي الله عنه فانه لم يجمع القرآن إلا بعد أن رأى اختلاف الناس في قراءته حتى أن بعضهم كان يقول : إن قراءتي خير من قراءتك ، وكان جمعه له بحرف واحد وهو لغة قريش وترك الأحرف الستة الباقية ، فكان من الواجب حمل الناس على اتباع مصحفه وعلى قراءته بحرف واحد فقط قبل أن يختلفوا فيه اختلاف اليهود والنصارى ) (4) .
  قال أحد الوهابية حينما فرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان : ( إن جمع أبي بكر على الأحرف السبعة ، أما جمعه في عهد عثمان فقد كان على حرف واحد ) (5) .

--------------------
(1) قول ابن القيم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أطلق لهم القراءة بـها أمر صريح بحسب برواياتـهم ، فيمكنك تغيير مفردات الآيات على مزاجك وكله قرآن منـزل من عند الله عز وجل ، وتغافل ابن القيم أن الإطلاق والترخيص بالقراءة بـها لا يعني الترخيص بحذفها وإلغائها من المصاحف فإن هذا التخريق والتحريق تحريف للقرآن ومحو لآثاره ، فمثلا من يقول إنك مخير بين القصر والتمام في ظهر يوم عرفة لا يعني به جواز إلغاء القصر ومنع الناس من أدائها فيه فهذا تحريف لأحكام الله عز وجل ، والأمر واضح .
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 16 .
(3) تاريخ القرآن الكريم ص 44 ـ 45 ، للكردي الخطاط.
(4) ن . م ص 29 ـ 30.
(5) دراسات في علوم القرآن الكريم د . فهد عبد الرحمن الرومي أستاذ الدراسات القرآنية في كلية المعلمين بالرياض .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 195 _
  وللأسف فقد بينت روايات أهل السنة هذا الجمع المصيري الذي استقر عليه الإسلام بصورة لا تختلف كثيرا عن جمع أبي بكر من التساهل وعدم الدقة ، وتتضارب الروايات في تحديد الشخصيات التي قامت بـهذا العمل وما هي وظيفة كل واحد منهم ، ولكن أبي بن كعب كان هو القيم على هذا الجمع يصحح ما أخطأوا به .
  وجاء في البخاري : ( عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان : قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فرج أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بـها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانـهم ، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .
  قال ابن شهاب وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال : فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يقرأ بـها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) ( الأحزاب / 23 ) فألحقناها في سورتـها في المصحف ) (1) .
  وكما نرى فقد اتضح للمسلمين في وقت متأخر أن جمع زيد بن ثابت في زمن أبي بكر لم يكن تاما ! فقد أنقص ذلك الجمع آية من القرآن لم تكتب فيه ، وبقي كذلك ناقصا مدة ثلاث عشرة سنة في غفلة من جميع الصحابة ! ، فلم يجد زيد بن ثابت ذلك النقص إلا مع خزيمة بن ثابت من بين الصحابة وهو من وجد معه آخر سورة التوبة في جمع أبي بكر ! والآن قد وجد معه آية من سورة

--------------------
(1) صحيح البخاري ج 4 ص 1908 ح 4702 و ج 3 ص 1033 ح 2652 ، ج 4 ص 1488 ح 3823 ، هذه الرواية تفيد أن مصحف حفصة كان ينسخ منه القرآن مع أن الروايات الأخرى تنص على كونه المرجع الأخير للتثبت مما جمع بخط زيد بن ثابت ، كما هي رواية الطبري التي يذكر فيها أن المملي هو أبان بن سعيد بن العاص وقد نص على ذلك عدة من الحفاظ ، فهذا يقرب رأي من رأى أن سعيد بن العاص توفي سنة سبع وعشرين وإن كان أغلب العلماء يرون أنه توفي في يوم أجادين في خلافة أبي بكر ، راجع ترجمته في الإصابة والاستيعاب وأسد الغابة ونسب قريش وسير أعلام النبلاء .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 196 _
  الأحزاب ! ، فاقتصر زيد على شهادة خزيمة لأن شهادته كانت تعدل شهادة رجلين ، فدمجها في المصحف ، وتمت العملية بنجاح تام !

هل كان المصحف العثماني مجرد نسخة عن مصحف أبي بكر ؟
  الذي يفهم من رواية البخاري هو أنـهم نسخوا المصحف العثماني من جمع أبي بكر ، وهذا لا يمكن قبوله بـهذه البساطة لأمور :
  1 ـ قالوا إن جمع أبي بكر اشتمل على الأحرف السبعة ومصحف عثمان ينقص عنه بستة أضعاف ، فكيف يصح القول أن المصحف العثماني كان مجرد نسخة عن جمع أبي بكر ؟!
  2 ـ توجد روايات تحكي وقوع النـزاع بين الجامعين في بعض الآيات التي كتبت في صحف أبي بكر فكانوا يتركون الآيات التي وقع فيها النـزاع ليأتي من سمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكتبوها على ما سمعه ! فكيف يكون المصحف العثماني مجرد نسخة ؟!
  قال في الإتقان : ( أخرج ابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال : لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بـها ، وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخروه ) (1) .
  وكذا ( أخرج ابن أشته من طريق أيوب عن أبي قلابة قال : حدثني رجل من بني عامر يقال له أنس بن مالك ، قال : اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال عندي تكذبون به وتلحنون فيه ؟! فمن نأى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لـحنا ، يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما ، فاجتمعوا فكتبوا فكانوا إذا اختلفوا وتدارؤوا في

--------------------
(1) الإتقان ج 1 ص 165 ، وعلق عليه ابن سيرين بقوله ( فظننت أنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونه على قوله ) ، وظنه غير صحيح لأنـهم قالوا إن زيد بن ثابت هو الذي علم بالعرضة الأخيرة وكان زيد بجانبهم ولا داعي للسفر إليه كما في الرواية الآتية ، أو يقال كما في رواياتـهم الصحيحة إن ابن مسعود هو من علم بالعرضة الأخيرة فكانوا يسافرون للعراق حتى يسمعوا منه ، وهذا أشكل من سابقه لأن العراق لا يمكن الوصول إليها بثلاثة أيام ـ كما هو حال الرواية الآتية ـ ثم إن ابن مسعود حجب عن هذا الجمع بكل جزئياته ، فظن ابن سيرين غير صحيح ، وظاهر الرواية هو أنـهم كانوا يختلفون في أصل الآية ونصها فينتظرون من يأتي ليكتبوه ، والرواية الآتية تبين ذلك .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 197 _
  آية ، قالوا : هذه أقرأها رسول الله فلانا ، فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة ، فقال له : كيف أقرأك رسول الله آية كذا وكذا فيقول كذا وكذا فيكتبونـها وقد تركوا لذلك مكانا ) (1) .
  3 ـ نفس رواية البخاري تحكي طعن عثمان بمصحف أبي بكر الذي وصل عند حفصة وعدم رضاه بما فيه ، فكيف يكون مصحف عثمان نسخة عن جمع أبي بكر ؟!
  فقد علمنا سابقا أن زيد بن ثابت هو الذي قام بجمع مصحف أبي بكر فلو كان المصحف العثماني نسخة عما في مصحف أبي بكر لكان زيد هو المرجع في تحديد المكتوب في مصحف أبي بكر لا أن يقول عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : ( إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانـهم ).
  وزيد لم يكن قرشيا بل مدنيا ، فقول عثمان هو في الحقيقة إلغاء لمرجعية مصحف أبي بكر الذي كتبه زيد بخط يده حال النـزاع ، فصارت الأولوية لرجال قريش على مصحف أبي بكر (2) ، فكيف يكون المصحف العثماني نسخة عن مصحف أبي بكر ؟!
  وعلى هذا يتأكد ما بيناه سابقا من أن جمع أبي بكر لم يكن بـهذه الدقة التي يمكن بـها اتفاق الصحابة على ما كتبه زيد بن ثابت ورضاهم به ، وقلنا سابقا أنه لم يكمل .

--------------------
(1) ن . م .
(2) العصبية القرشية هي التي عودنا عليها عثمان ، فلم يكتف بالتفضيل بالعطاء وفي الإمارة بل حتى في كتابة القرآن !
اعتراضات :
  1 ـ القرآن يثبت بـخبر الواحد !
  قد مرّ بين الملاحظات على الجمع الأول أن زيد بن ثابت كان يثبت آيات القرآن بخبر الواحد ، يأتيه شاهدان فيشهدان على أن هذه الجملة قرآن منـزل فيقوم زيد بإثباتـها في المصحف ، حتى أنه كان يثبته بشهادة رجل واحد تعدل شهادته شهادة رجلين ، وهو خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، فقد أثبت زيد بشهادته في أول جمع آية ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) ( التوبة / 128 ) ، وفي الجمع الثاني أتى خزيمة بآية من سورة الأحزاب ( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) ( الأحزاب / 23 ) فدمجها أيضا .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 198 _
  كما جاء في صحيح البخاري عن خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت قال : ( نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آيةً من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يقرأ بـها فلم أجدها إلاّ مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم شهادته شهادة رجلين وهو قوله ( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) ) (1) ، فعليه كيف يقولون أن القرآن ثبتت آياته بالتواتر ؟!
  وحاول القرطبي في تفسيره أن يبعد شبهة الشيعة ـ بزعمه ـ من أن آيات القرآن ثبتت بخبر الواحد فافترى المؤدب بقوله : ( وقد طعن الرافضة ـ قبحهم الله تعالى ـ في القرآن ، وقالوا : إن الواحد يكفي في نقل الآية والحرف كما فعلتم ، فإنكم أثبتم بقول رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت وحده آخر سورة براءة وقوله ( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ )
  فالجواب : أن خزيمة رضي الله عنه لـما جاء بـهما تذكرهما كثير من الصحابة وقد كان زيد يعرفهما ولذلك قال : ففقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا أو لا ، فالآية إنما ثبتت بالإجماع لا بخزيمة وحده ، جواب ثان : إنما ثبتت بشهادة خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بـخلاف آية الأحزاب فإن تلك بشهادة زيد وأبي خزيمة لسماعهما إياّها من النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ) (2) .
  أقول : يرد على جوابه الأول ما يلي :
  1 ـ أن قوله ( تذكرهما كثير من الصحابة ) ادعاء محض .
  2 ـ وقول زيد بن ثابت ( ففقدت آيتين … ) إن صح لا يثبت علمه المسبق بنصها ، فما المانع أن يعلم بوجود آية صفتها كذا وكذا ولكنه لا يضبط نصها ولا كلماتـها ؟ كمن يقول إننا كنا نقرأ آية تسمى آية الدين وتتكلم عن الدين والشهود وكذا وكذا ولكنه يجهل نصها ،

--------------------
(1) صحيح البخاري ج 4 ص 23 وفي ج 6 ص 146 وفي ج 4 ص 24 وفي ج 5 ص 122 وفي ج 6 ص 226 وسنن الترمذي ح 3104 وعلّق عليه بقوله ( حسن صحيح ).
(2) الجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 56 ، حصل خلط عند القرطبي فالذي ورد في صحيح البخاري أن خزيمة بن ثابت هو صاحب آية الأحزاب أما براءة فأبو خزيمة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 199 _
  وهذا محتمل جدا ، وكلامنا إنما هو في تواتر القرآن بما هو تواتر تفصيلي أي ضبط النص حرفا بحرف ، وهذا لا يدل عليه كلام زيد السابق .
  بل إن ظاهر الكلام عدم علمه تلكما الآيتين حين الجمع وإنما علم عندما جاءه بـهما خزيمة رضوان الله تعالى عليه ، وعلى أي حال فمجرد حكاية زيد للحادثة لا يعني أنه كان يعلم بنصهما في وقت الجمع على الإجمال فضلا عن التفصيل ، فاستدلال القرطبي بـهذا المقطع لا يصح .
  3 ـ قوله ( فالآية إنما ثبتت بالإجماع ) ، لا ندرى من أين أتى لنا بـهذه النتيجة ، لأنـها أكبر من المقدمات ! فما ادعاه أولا أن كثيرا من الصحابة تذكروهما ، فما دخل الإجماع ؟! (1) .
  أما جوابه الثاني فيرد عليه :
  1 ـ منذ متى كان كل ما ينسب للقرآن وكان موافقا لصفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستحق أن يكون قرآنا ويدمج في المصحف ؟! إن هذا لشيء عُجاب !
  وقد اعترض الباقلاني على هذه التفاهة فقال : ( ومن الناس من قال إنما أجاز عمر شهادته وحده لأن الآيتين اللتين في آخر سورة براءة هما ثناء على النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، وهذا باطل لأنه يجب أن يجيز شهادة واحد في كل موضعٍ هذه صفته بل أولى منه المواضع التي فيها صفة الله تعالى ) (2) .
  2 - لنسائل القرطبي عن معنى قوله ( فإن تلك بشهادة زيد وأبي خزيمة ) ، فهل هذا يدفع إشكال الرافضة بزعمه ؟‍‍‍ كيف ؟! وخبر الواحد ليس هو ما يقابل الاثنين !
  وهذا نترك تبعته على ابن حجر العسقلاني حيث قال في مقام الرد على الداودي الذي ذهب إلى عين ما ذهب له القرطبي فقال : ( وكأنّه ظن أن قولهم لا يثبت القرآن بخبـر الواحد أي الشخص الواحد و ليس كما ظن ، بل المراد بخبر الواحد خلاف الخبر المتواتر، ولو بلغت رواة الخبر عدداً كثيراً وفقد شيئاً من شروط المتواتر لم يخرج عن كونه خبر الواحد ) (3) .

--------------------
(1) إلا أن يقال إن سكوتـهم إقرار ، وهذه النتيجة تبتني على مقدمة مطوية فاسدة وهي استحالة ترك أي رجل من أهل ذلك العصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو استحالة جهله بالمورد ، وهذا فيه ما فيه من السخف .
(2) نكت الانتصار ص 332 .
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج 9 ص 15 كتاب فضائل القرآن .