للشهادتين والاعتقاد بالمعاد ، ومن أنكر شيئا من ضروريات الدين ولم تحتمل فيه الشبهة يحكم بكفره ، وكذا من علم إنكاره من فعله كمن استهزأ بالقرآن ، أو أحرقه –والعياذ بالله- متعمدا ) (1) .
  قال السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم حفظه الله تعالى : ( إنكار الضروري من الدين إن رجع إلى عدم الإقرار به بعد العلم بإنزاله من قِبل الله تعالى ، أو إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغه به بعد العلم بتبليغه له كان موجبا للكفر ، وإن رجع إلى عدم العلم بثبوته في الدين أو بتبليغ النبي صلى الله عليه وآله له ، لم يوجب الكفر كما إذا نشأ من الجهل بتحريمه أو من شبهة اعتقد معها عدم التحريم ) (2) .
  وعلى هذا فلو لم يعلم المنكر أن ما أنكره جزء من الدين بل نفي كونه منه لشبهة ولبس ، مع إيمانه في قرارة نفسه أنْ لو ثبت عنده مجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنكره لاتبعه ولأخذ به بكل انقياد وتسليم فإن إنكاره ـ في هذه الحالة ـ لا يؤول إلى إنكار الألوهية أو الرسالة أو تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله ، فلا يحكم بكفره ، وبعبارة مختصرة إن منكر الضروري لا يكفر إلا برجوع إنكاره إلى إنكار الألوهية أو الرسالة أو تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
  وبعد ما قدمنا يتضح أن دعوى تكفير من قال بتحريف القرآن لإنكاره ضروريا كلام ساقط من رأس وجرأة على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأمرين :
  1 ـ لم يثبت أن من ضروريات الدين الاعتقاد باحتواء مصحفنا لكل كلمات القرآن التي نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
  فلو سئل أهل الإسلام في بقاع الأرض عما إذا كان هذا المصحف الذي في بيوتنا اليوم قد اشتمل على كل كلمة وحرف نزل من السماء قبل أكثر من أربعة عشر قرنا ولم تخف كلمة أو حرف عمن جمعه أو لم يتلاعب به أحد من بعدهم ، فلا يعد الجواب على هذا السؤال بديهيا لا يشك فيه ، وليس هو كبداهة سؤال المسلم لأخيه عما إذا كانت الصلاة واجبة في الإسلام ، ولذا عندما يتطرق علماء الشيعة وأهل السنة لإثبات صيانة القرآن من التحريف يعتمدون الدليل لإثبات مدعاهم كآية الحفظ ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 ) ، فاستدلالهم هذا على عدم وقوع التحريف في القرآن يناقض كونه من بديهيات الدين التي لا يحتاج لإقامة الدليل .

--------------------
(1) المسائل المنتخبة ص 66 ، ط الفقيه .
(2) منهاج الصالحين ج 1 ص 127 م 400 ط دار الصفوة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 52 _
  قال في الفقه المقارن : ( والقول بعدم التحريف لم يثبت أنه دين بالضرورة وإلاّ لما احتاج إلى الاستدلال عليه بآية ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 ) وما يحتاج إلى الاستدلال لا يكون من الضروريات ) (1) .
  2 ـ من قال بتحريف القرآن فإن قوله لا يؤول إلى إنكار الألوهية أو الرسالة أو تكذيب النبي صلى الله عليه وآله سلم.
  فقد مر سابقا أن من قال بالتحريف لا يرى أن الله عز وجل تكفل بحفظ القرآن في مصاحف المسلمين ، لأن الآيتين في نظره لا تدلان عليه فضلا عن قبوله لحجية ظاهريهما ، ولا يرى أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قد أخبر بحفظ القرآن في مصاحف المسلمين بل على العكس هو يرى أن الرسول وأهل بيته صلى الله عليهم أجمعين صرحوا بأن التحريف وقع فيه وأنه بُدل وتلاعبوا به .
  ويتضح على هذا أن تفسيرهم لظاهر الآيتين الكريمين ومحاولتهم تفادي معارضة الآيتين لما صاروا إليه من القول بالتحريف وكذا تأويلهم وإيجادهم المخارج لحديث الثقلين ولروايات عرض الحديث على القرآن ، كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هؤلاء القوم متبعون لأمر الله ونـهيه ، يتجنبون معارضة قوله ، وكذا مقتفون لسنة رسوله وما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم لذا ذكروا الوجوه لحديث الثقلين وأحاديث العرض حتى لا يتورطوا في معارضة كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنكارهم لصيانة القرآن من التحريف ـ لو سلمنا جدلا أنه من الضروريات ـ لا يؤول إلى إنكار الألوهية أو إنكار الرسالة كالتعنت على أمر المولى أو أمر رسوله صلى الله عليه وآله سلم ولا يؤول إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وآله سلم ، وكل هذا مانع من التكفير جزما وقطعا ، مع التسليم بأن هذا الأمر من ضروريات الدين .

السبب الثالث : خالف ما هو مجمع عليه .
  * ملاحظة : قبل مناقشة هذا سبب التكفير هذا ، يلزم التنبيه على نقطة وهي أن بعض أهل السنة يستدل بالإجماع على صيانة القرآن من التحريف وهذا استدلال فاسد لأنه استدلال دوري ، فحجية الإجماع عند أهل السنة ترجع إلى ما رووه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تجتمع أمتي على ضلالة ، وهذا

--------------------
(1) الأصول العامة للفقه المقارن ص 109 للسيد محمد تقي الحكيم رحمه الله ط ، دار الأندلس .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 53 _
  الكلام حجيته نابعة من صدوره عن شخص مرسل من قِبل الله عز وجل ، والدليل على رسالته هو إعجاز القرآن ، وإعجازه لا يعتمد عليه إلا بعد الفراغ من أن القرآن سليم من الدس والنقصان لأن كل آية نضع يدنا عليها نحتمل أن بعض كلماتـها سقطت أو دست في الآية ، لذا أصبح عدم تحريف القرآن معتمد على الإجماع ، والإجماع معتمد على رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والرسالة معتمدة على إعجاز القرآن ، وإعجازه معتمد على سلامته من التحريف ! فسلامة القرآن من التحريف تعتمد على سلامته من التحريف ، لذا لا يصح استدلال أهل السنة بالإجماع ـ إن تم ـ على سلامة القرآن من التحريف .
  أما كون سلامة القرآن من التحريف أمرا مجمعا عليه لذا يكفر من خالفه ، فهذا السبب للتكفير أسخف من سابقيه ، لأمور :
  1 ـ هذه الدعوى فيها إلزام للشيعة بتكفير بعض علمائهم لأن عدم التحريف أمر مجمع عليه عند أهل السنة !!
  2 ـ دعوى الإجماع على صيانة القرآن من التحريف لم تتحقق عند أهل السنة فضلا عن الشيعة ، وسيأتي ذكر كلمات من قال من علماء أهل السنة بتحريف القرآن .
  3 ـ الإجماع ليس دليلا عند الشيعة في قبال الأدلة الأخرى وإنما هو مجرد كاشف عن الدليل ، فلا تكون معارضته معارضة للدليل الشرعي بل معارضة للطريق ، لذا المنكر قد ينكر كاشفية الطريق لا ما يكشف عنه .
  ولنذكر هنا كلمات علماء أهل السنة الناصة على أن منكر المجمع عليه لا يكفر إلا في حال علمه أن ما أنكره قد صدر من الشارع لمآله إلى إنكار الرسالة ، وهو عين ما يدعيه علماء الشيعة ، فقد يتحقق الإجماع على شيء ولكن المنكر لا يثق بالصدور من إجماعهم لأدلة أخرى أو لشبهة طرأت له ، فلا يكفر لاشتباهه ، وعليه جمهور علماء الإسلام ، ومع ذلك تريد الوهابية أن تتبع الشيعة أمزجتهم !

كلمات علماء أهل السنة في أن خارق الإجماع لا يكفر
  وقال إمام الحرمين الجويني في البرهان في أصول الفقه : ( فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر وهذا باطل قطعا فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر والقول في التكفير والتبرؤ ليس بالـهين

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 54 _
  ولنا فيه مجموع فليتأمله طالبه ، نعم من اعترف بالإجماع وأقر بصدق المجمعين في النقل ثم أنكر ما أجمعوا عليه كان هذا التكذيب آيلا إلى الشارع عليه السلام ومن كذب الشارع كفر والقول الضابط فيه أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم يكفر ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم أنكره كان منكرا للشرع وإنكار جزئه كإنكار كله (1) ) (2) .
  وقال للحلبي الحنفي في التقرير : ( ولـهذا قال الشيخ صفي الدين الهندي في النهاية جاحد الحكم المجمع عليه من حيث إنه مجمع عليه بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير خلافا لبعض الفقهاء وإنما قيدنا بالإجماع القطعي لأن جاحد حكم الإجماع الظني لا يكفر وفاقا ) (3) .
  وقال أيضا : ( غير أن إنكار القطعي إنما يكفر منكره إذا كان ذلك القطعي ضرورياً من ضروريات الدين كما هو قول غير واحد (ومن لم يشرطه) أي الضروري في القطعي المكفر بإنكاره كالحنفية إنما يكفر منكره إذا لم يثبت فيه شبهة قوية ، (فلذا) أي اشتراط انتفاء الشبهة في القطعي المنكر ثبوتاً وانتفاء (لم يتكافروا) أي لم يكفر أحد من المخالفين الآخر في التسمية لوجود الشبهة لتقويه في كل طرف لقوة دليله فإنه عذر واضح في عدم التكفير لأنه يدل على أنه غير مكابر للحق ولا قاصد إنكار ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك أخرجه من حد الوضوح إلى حد الإشكال ) (4) .
  قال العلامة الزركشي في المنثور : ( أطلق كثير من أئمتنا القول بتكفير جاحد المجمع عليه ، قال النووي : وليس على إطلاقه بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام كالصلاة والزكاة ونحوه فهو كافر ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وغيره من الحوادث المجمع عليها فليس بكافر (5) ، قال ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف ونقل الرافعي

--------------------
(1) وهو عين ما قاله فقهاء الشيعة سابقا ، لأن كل ما يؤول إلى تكذيب الشرع والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من الكفر ، وواضح أن من قال بوقوع تحريف في القرآن لا يرى أن عدم التحريف جاء الشرع به ، بل العكس ! يدعي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر بوقوع التحريف في هذه الأمة كما حدث في الأمم السابقة بما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر … ).
(2) البرهان في أصول الفقه للجويني ج 1 ص 462 مسألة 673.
(3) التقرير والتحبير ج 3 ص 151 ـ 152.
(4) ن ، م ج 2 ص 286 .
(5) لاحظ تعليق الحكم بالكفر على ثبوت علم المنكر بأن ما أنكره من ضروريات الإسلام .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 55 _
  في باب حد الخمر عن الإمام أنه لم يستحسن إطلاق القول بتكفير مستحل الإجماع وقال : كيف نكفر من خالف الإجماع ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع وإنما نبدعه ونضلله وأول ما ذكره الأصحاب على ما إذا صدق المجمعين على إن التحريم ثابت في الشرع ثم حلله فانه يكون ردا للشرع ).
  ( وقال ابن دقيق العيد أطلق بعضهم أن مخالف الإجماع يكفر ، والحق أن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الخمس وقد لا يصحبها فالأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع ) (1) .
  وذكر قول أبي حامد الغزالي : ( وقد وقع التكفير لطوائف من المسلمين يكفر بعضها بعضا فالأشعري يكفر المعتزلي زاعما أنه كذب الرسول في رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات وفي القول بخلق القران والمعتزلي يكفر الأشعري زاعما أنه كذب الرسول في التوحيد فان إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء ، قال : والسبب في هذه الورطة الجهل بموقع التكذيب والتصديق ووجهه أن كل من نزل قولا من أقوال الشرع على شيء من الدرجات العقلية التي لا تحقق نقضا فهو من التعبد وإنما الكذب أن ننفي جميع هذه المعاني ويزعم أن ما قاله لا معنى له وإنما هو كذب محض وذلك هو الكفر المحض ولـهذا لا يكفر المبتدع المتأول ما دام ملازما لقانون التأويل لقيام البرهان عنده على استحالة الظواهر (2) ) (3) .
  وقال الزركشي في موضع آخر : ( وعلى هذا فلا يسوغ لكل فريق تكفير خصمه بمجرد ظنه أنه غالط في البرهان نعم يجوز أن نسميه ضالا لأنه ضل عن الطريق أو مبتدعا لأنه ابتدع أقوالا لم يقلها السلف ) (4) .
  وثم ذكر قول الإمام القشيري : ( وعبر بعض الأصوليين عن هذا بما معناه أن من أنكر طريق إثبات الشرع لم يكفر كمن أنكر الإجماع ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقة كفر لأنه مكذب ) (5) .
  وقال ابن تيمية في المسودة : ( مسألة من خالف حكما مجمعا عليه فهل يكفر بذلك قال ابن حامد وغيره انه يكفر ومرد ذلك أن يكفر من جوز كون الإجماع يقع خطأه ، وذكر كثير من

--------------------
(1) فمخالفة المجمع عليه لا كفر فيها وإنما الكفر يلحق من قَطع بصدور الأمر المجمع عليه ، وهذا عين ما يدعيه الشيعة .
(2) وهذا الضابط ينطبق على من يرى أن الآية الكريمة ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 ) لا تدل على حفظ القرآن عند جميع الناس بل يكفي لتحقق مدلول الآية حفظ القرآن عند إمام الناس .
(3) المنثور في القواعد لأبي عبد الله الزركشي ج 3 ص 86 ـ 87.
(4) ن ، م ج 3 ص 90.
(5) ن ، م ج 3 ص 92 ، وهذا هو الضابط الذي ذكره الشيعة سابقا .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 56 _
  الطوائف من أصحابنا وغيرهم منهم القاضي في ضمن مسألة انعقاد الإجماع عن قياس : ( أنه يضلل ويفسق وهو مقتضى قول كل من قال إن الإجماع حجة قاطعة وهم جماهير الخلائق وقال بعض المتكلمين أنه حجة ظنية فعلى هذا لا يكفر ولا يفسق ) (1) .
  وننقل كلام شيخ الوهابية ابن تيمية بتمامه لعله يجد مكانا في قلوب أذنابه : ( كلما رأوهم قالوا : من قال كذا فهو كافر ، اعتقد المستمع ـ كالوهابية ـ أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ، ولم يتدبروا إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين وان تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بـهذا الكلام بعينه (2)
  فإن الإمام أحمد مثلا قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر ، فلا يولونه ولاية ، ولا يفكونه من عدو ، ولا يعطونه شيئا من بيت المال ، ولا يقبلون له شهادة ، ولا فتيا ولا رواية ، ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك ، فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ، ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه ، ومعلوم إن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها ، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب ، ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع ، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنـهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون القرآن مخلوق وان الله لا يرى في الآخرة ) (3)

--------------------
(1) المسودة لعبد السلام وعبد الحليم وأحمد بن تيمية ج 1 ص 308.
(2) ولكن الوهابية يقولون للشيعة : كفروا فلانا ! ، نعم نكفرهم على دين الوهابية أما على دين الله عز وجل فلا .
(3) وقال أيضا ج 12 ص 498 : ( والأصل الثاني إن التكفير العام كالوعيد العام يجب القول بإطلاقه وعمومه وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار فهذا يقف على الدليل المعين فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه ) أقول : الوهابية علاوة على مخالفتهم لأئمتهم في تعميم الكفر على المشتبه الذي لم يقم عنده دليل على شرعية ما أنكره فقد تجاوز أمرهم واستفحل حتى كفروا المعين من العلماء ، بل كفروا بعض علماء أهل السنة بأسمائهم كأحد المشهورين في زماننا فقط لأنه طعن في نتائج انتخابات الرؤساء التي تصل إلى 99.9% ، فقال : لو انتخب الله عز وجل بعظمته رئيسا لأهل الأرض لـما وافق أهلها عليه بـهذه النتيجة ، فأطلق أحد مشايخ الوهابية حكمه فقال : إن لم يرجع فهو كافر !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 57 _
  ( والدليل على هذا الأصل الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ) (الأحزاب / 5 ) ، وقوله ( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) (البقرة / 286 ).
  وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أن الله تعالى قال : قد فعلت لما دعا النبي والمؤمنون بـهذا الدعاء
  وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن النبي قال : أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ، وأنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيه .
  وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان ، فهذا عام عموما محفوظا ، وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه ، وان عذب المخطئ من غير هذه الأمة ، وأيضا قد ثبت في الصحيح من حديث أبى هريرة أن رسول الله قال : إن رجلا لم يعمل خيرا قط ، فقال لأهله : إذا مات فأحرقوه ثم أذرووا نصفه في البر ونصفه في البحر ، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم ، فأمر الله البر فجمع ما فيه ، وأمر البحر فجمع ما فيه فإذا هو قائم بين يديه ، ثم قال :لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب ، وأنت أعلم . فغفر الله له.
  وهذا الحديث متواتر عن النبي ، رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد وحذيفة وعقبة بن عمرو وغيرهم عن النبي من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنـها تفيدهم العلم اليقيني وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم ، فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم بعد ما أحرق وذرى ، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك ، وهذان أصلان عظيمان ، أحدهما متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير ، والثاني متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على أعماله ، ومع هذا فلما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة ، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل عملا صالحا ، وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ) (1) .
  ومن كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه : ( ومنهم من قال : المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي . قال أولئك : وهذا الفرق خطأ أيضا فان كثيرا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها وفيها ما هو قطعي بالإجماع

--------------------
(1) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج 12 ص 487 ـ 493.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 58 _
  كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة ، ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة ، كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قدامة ورأوا أنـها حلال لهم ولم تكفرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا ، وقد كان على عهد النبي طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم يؤثمهم النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن تكفيرهم وخطؤهم قطعي ، وكذلك أسامة بن زيد قد قتل الرجل المسلم وكان خطؤه قطعيا ، وكذلك الذين وجدوا رجلا في غنم له ، فقال : إني مسلم ! فقتلوه ، وأخذوا ماله كان خطؤهم قطعيا ، وكذلك خالد بن الوليد قتل بني جذيمة وأخذ أموالهم كان مخطئا قطعا ، وكذلك الذين تيمموا إلى الآباط وعمار الذي تمعك فى التراب للجنابة كما تمعك الدابة ، بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلوا كانوا مخطئين قطعا ).
  ( وأهل السنة لا يبتدعون قولا ولا يكفرون من اجتهد فاخطأ وإن كان مخالفا لهم مستحلا لدمائهم ، كما لم تكفر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما واستحلالـهم لدماء المسلمين المخالفين لهم ).
  وقال ابن تيمية أيضا : ( وهذا من أقوال القدرية والمعتزلة وغيرهم التي خالفوا بـها الكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل الصريح كما بسط في موضعه ) (1) ، أقول : ومع ذلك لم يكفر ابن تيمية المعتزلة .

كلمات علماء أهل السنة في عدم كفر من أنكر سور وآيات القرآن باجتهاد منه .
  مرت كلمات علماء السنة في عدم تكفير من قال قولا اشتبه فيه ولو كان قوله كفرا في نفسه ، وهنا نذكر كلمات علماء السنة في عدم تكفير من اجتهد فأنكر آيات من القرآن أو ادعى نقصانه مشتبها :
  وقال العلامة ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق : ( أنـها ـ البسملة ـ من الفاتحة ومن كل سورة ونسب إلى الشافعي ووجه الأصح إجماعهم على كتابتها مع الأمر بتجريد المصحف وقد تواترت فيه وهو دليل تواتر كونـها قرآنا وبه اندفعت الشبهة للاختلاف وإنما لم يحكم بكفر منكرها لأن إنكار القطعي لا يوجب الكفر إلا إذا لم يثبت فيه شبهة قوية فإن ثبتت فلا كما في البسملة ) (1) .

--------------------
(1) البحر الرائق ج 1 ص 330 ـ 331.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 59 _
  وقال أيضا : ( ويكفر إذا أنكر آية من القرآن أو سخر بآية منه إلا المعوذتين ففي إنكارهما اختلاف والصحيح كفره ، وقيل لا ، وقيل إن كان عاميا يكفر وإن كان عالما لا ) (1) .
  وكلامه واضح في وجود اختلاف بين الفقهاء في كفر من أنكر قرآنية هاتين السورتين ، وواضح أن سبب قول بعض فقهائهم أن العالم لا يكفر إن أنكرهما بخلاف العامي ، لأن العالم يطلع على الروايات التي وردت في المعوذتين وموقف ابن مسعود من إنكارهما فتنشأ عنده شبهة في كونـهما من القرآن أم لا ، لذلك لا يكفر ، بخلاف العامي الذي لا مكان للاشتباه عنده ، وهذه هي القاعدة التي يقولها الشيعة .
  وكذا نقل لنا الإمام البروسوي قول الإمام ابن عوض الحنفي وغيره من العلماء في عدم تكفير من أنكر المعوذتين لنفس السبب الذي ذكرناه سابقا وهو حصول الشبهة لدى المنكر سببها إنكار ابن مسعود لهما ، قال :
  ( وفي نصاب الاحتساب (2) : لو أنكر آية من القرآن سوى المعوذتين يكفر ، انتهى ) (3) .
  ( وفي الأكمل عن سفيان بن سختان قال : من قال إن المعوذتين ليستا من القرآن لم يكفر لتأويل ابن مسعود رضي الله عنه كما في المغرب للمطرزي .
  وقال في هدية المهديين : وفي إنكار قرآنية المعوذتين اختلاف المشايخ والصحيح أنه كفر ، انتهى) (4) .
  وقال القاضي أبو بكر الباقلاني : ( فإن قيل : إذا قلتم أنـها ـ البسملة ـ ليست بقرآن هل تكفّرون من قال إنـها قرآنا كما تكفّرون من جعل ) قفا نبك ( قرآن ؟ قيل : هذا يلزم على قول من يكفر من قال إنـها ليست منه ، وهذا ليس بصحيح ولا مرضي ، بل كل من أثبتها آية من القرآن مخطئ ذاهب عن الحق ولم يجب تكفيره لأن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أمر بكتابتها في فواتح السور ، وجهر بـها تارة ، فوجب تخطـئـته لأجل تركه تأمل حال عادته صلى الله عليه (وآله) وسلم في إلقاء القرآن ، وأنه يلقيه إلقاء شائعا ذائعا ، فكان مخطئا في هذا الوجه متأولاً ضربا

--------------------
(1) ن ، م ج 5 ص 131.
(2) راجع كشف الظنون للقسطنطيني الحنفي ج 2 ص 1953 ، إنكار ابن مسعود للمعوذتين سيأتي الكلام عنه بإذنه تعالى .
(3) روح البيان ج 10 ص 546 ط دار إحياء التراث .
(4) ن ، م ص 546 .
  أقول : هذه المصنفات لعلماء من أهل السنة قد أغفلها الدهر ، فيتضح أن الاقتصار على المصنفات الموجودة بين أيدينا للحكم بخلو فرقة ما من رأي معين أمر غير صحيح .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 60 _
  من التأويل لا يُصيّره بمثابة من ألحق بالقرآن ما علم ضرورة من أنّ الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم قال قولا ظاهرا إنـها ليست من القرآن وأشاع ذلك إشاعة تكفّر من ردّها ) (1) .
  وقال العلامة محي الدين النووي في المجموع : ( وأجمعت الأمة على أنه لا يكفر من أثبتها ـ البسملة ـ ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها ، بخلاف ما لو نفى حرفاً مجمعاً عليه أو أثبت ما لم يقل به أحد ، فإنه يكفر بالإجماع ) (2).
  أقول : إن كان تضارب روايات البسملة عندهم كفيلة في تحقق الشبهة المانعة من التكفير فلا ريب في تحققها عند بعض الإخبارية الذين صححوا كثيرا من الروايات التي تدل على نقصان بعض الكلمات من القرآن .
  وهذا ما ذكره البيهقي في سننه الكبرى : ( قالوا والذي روينا عن الشافعي وغيره من الأئمة من تكفيـر هؤلاء المبتدعة فإنـما أرادوا به كفرا دون كفر هو كما قال الله عز وجل ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ) ( المائدة / 44 ) ، قال ابن عباس : إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس بكفر ينقل عن ملة ولكن كفر دون كفر .
  قال الشيخ رحمه الله : فكأنـهم أرادوا بتكفيرهم ما ذهبوا إليه من نفي هذه الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه وجحودهم لها بتأويل بعيد مع اعتقادهم إثبات ما أثبت الله تعالى فعدلوا عن الظاهر بتأويل فلم يخرجوا به عن الملة وإن كان التأويل خطأ كما لم يخرج من أنكر إثبات المعوذتين في المصاحف كسائر السور من الملة لـما ذهب إليه من الشبهة وإن كانت عند غيره خطأ ) (3) .
وكلامه الأخير نص صريح ولا يحتاج إلى تعليق .
  حتى أن شيخ الوهابية ابن تيمية نص على عدم تكفير من أنكر قرآنا ثابتا لاشتباهه ولعدم قيام الدليل لدى المنكر كتواتر قرآنية السورة والآية ، وحال هذا المنكر للقرآن في عدم تكفيره عند ابن تيمية حال بعض الصحابة والتابعين الذين أنكروا بعض نصوص القرآن الثابتة بالتواتر لعدم قيام الحجة لديهم ، ونقدم أولا كلامه عن عدم تكفير من اشتبه وادعى أن بعض ما في القرآن ليس من كلام الله عز وجل :

--------------------
(1) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 79 .
(2) المجموع ج 3 ص 281 ، إعانة الطالبين ج 1 ص 139 ، عون المعبود ج 2 ص 353 ، نيل الأوطار للشوكاني ج 2 ص 208 ط الحلبي الثانية ، أقول : قول النووي الأخير ستأتي مناقشته بإذنه تعالى .
(3) سنن البيهقي الكبرى ج 10 ص 207 ح 20688.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 61 _
  ( ولا ريب أن من قال إن أصوات العباد قديمة فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله كما إن من قال أن هذا القرآن ليس هو كلام الله فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله ومن قال إن القرآن العربي ليس هو كلام الله بل بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله مفتر مبتدع له حكم أمثاله (1) ، ومن قال إن معنى آية الكرسي وآية الدين و قل هو الله أحد و تبت يدا أبى لهب معنى واحد فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله ، وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد وقصد الحق فأخطأ لم يكفر ، بل يغفر له خطأه ، ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر ) (2) .
  ( فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص ، فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافرا ، بل ولا فاسقا بل ولا عاصيا ، لا سيما في مثل مسألة القرآن ، وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين ، وغالبهم يقصد وجها من الحق فيتبعه ويعزب عنه وجه آخر لا يحققه ، فيبقى عارفا ببعض الحق جاهلا بعضه بل منكرا له ) (3) .
  وأفصح ابن تيمية عما في صدره حينما استدل على عدم جواز تكفير من أنكر نصوص القرآن الثابتة التي نقرؤها في صلاتنا ، لشبهة عرضت له أو لعدم ثبوتـها عنده بالتواتر ، قال :
  ( وأيضا فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل ، واتفقوا على عدم التكفير بذلك ، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي و أنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف ، وكذلك لبعضهم في قتال بعض ولعن بعض وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة ، وكان القاضي شريح يذكر قراءة من قرأ ( بل عجبتَ ) ويقول : إن الله لا يعجب ، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال : إنما شريح شاعر يعجبه علمه ، وكان عبد الله أفقه منه ، فكان يقول ( بل عجبتُ ) فهذا قد أنكر قراءة ثابتة ، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنّة ، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة ، وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن (4) ، من إنكار بعضهم قوله ( أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا ) ( الرعد / 31 ). وقال (5) : إنـما هي ( أولم يتبين الذين آمنوا ) ، وأنكر الآخر قراءة قوله ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) ( الإسراء / 23 ).

--------------------
(1) فها هو ابن تيمية لم يكفر من ادعى التحريف بل بدعه وضلله فقط .
(2) لاحظ تعليق الكفر على علم المنكر بصدور ما أنكره من الشرع .
(3) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج 1 2 ص 179 ـ 180.
(4) وهذا اعترف صريح منه بإنكار السلف بعض أحرف من القرآن .
(5) وسيأتي بيان أن هذا المنكر هو حبر الأمة ابن عباس .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 62 _
  وقال (1) : إنـما هي : ( ووصى ربك ) ، وبعضهم (2) كان حذف المعوذتين ، آخر (3) يكتب سورة القنوت .
  وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر (4) ، ومع هذا فلم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا ، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر (5) (6) .
  وإلى هنا يتضح ما أرادته الوهابية من الشيعة ، يريدون من الشيعة تكفير بعض علمائهم سفاهة وعلى دين الوهابية! (7) ، لا على مذهب أهل السنة ولا على مذهب شيخهم ابن تيمية ، فضلا عن مذهب أهل البيت الذي تدين به الشيعة ! ، ولا أزيدك علما أن الوهابية يستمزجون التكفير ويستهوونه وإن كانت رعونتهم في إطلاق كلمة الكفر مخالفة لنفس المذهب الذي ينتسبون له !

--------------------
(1) قصد الضحاك بن مزاحم كما سيأتي بإذنه تعالى .
(2) قصد عالم القرآن عبد الله بن مسعود كما سيأتي بإذنه تعالى.
(3) قصد سيد القراء أبي بن كعب كما سيأتي بإذنه تعالى .
(4) فمع اعتراف ابن تيمية بإنكار سلفه الصالح لما هو موجود في مصاحفنا من القرآن نجده يقول أن هذا من الخطأ ، وهذا بعينه ما نقمته الوهابية على الشيعة عندما قالوا بخطأ من قال منهم بتحريف القرآن ، مع أن شيخ إسلامهم ابن تيمية يقولها ، ولا من نكير ! ناهيك عن أن إنكار هؤلاء السلف للقرآن أشنع وأفظع لأنـهم أنكروا الموجود وأضافوا غيره أي هو تحريف بالنقص وزيادة بخلاف بعض الشيعة الذين قالوا أنه نقص منه فقط ، وعلى أي حال فالشيعة على مر الزمن يستضعفون بالباطل .
(5) وأوضح منه من ادعى سقوط شيء من القرآن ويرى أن وقوع التحريف في القرآن قد جاء به الشرع وتواترت فيه الأخبار ، ولا معنى لأن يثبت عندهم بالتواتر عدم كونـها من القرآن ، فهي من باب السالبة بانتفاء الموضوع .
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 12 ص 492 مطابع الرياض ط الأولى 1382ه‍ .
(7) ولا غرابة في ذلك فقد قامت الوهابية على أكتاف التكفير وسفك الدماء ، قال صديق بن حسن القنوجي في أبجد العلوم ج 3 ص 194 وما بعدها : ( قال الشيخ الإمام العلامة محمد بن ناصر الحازمي الآخذ عن شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني : وأشهر ما ينكر عليه ـ مبتدع الوهابية محمد بن عبد الوهاب ـ خصلتان كبيرتان الأولى : تكفير أهل الأرض بـمجرد تلفيقات لا دليل عليها وقد انصف السيد الفاضل العلامة داود بن سليمان في الرد عليه في ذلك ، الثانية : التجاري على سفك الدم المعصوم بلا حجة ولا إقامة برهان ، وتتبع هذه جزئيات ـ إلى قوله ـ ثم لما تم للشيخ ابن عبد الوهاب ما أراد في تلك القرى المجاورة للدرعية وهي قرية الشيخ عبد العزيز واجتمع على الإسلام معه عصابة قوية صاروا يدعون من حولهم من القرى بالرغبة والرهبة ويقاتلون من حولهم من الأعراب ثم لما تمكن في قلوبـهم الإسلام وهم عرب غنام قرر لهم إن من دعا غير الله أو توسل بنبي أو ملك أو عالم فإنه مشرك شاء أو أبى اعتقد ذلك أم لا وتعدى ذلك إلى تكفير جمهور المسلمين وقد قاتلهم بـهذا الوجه الذي أبداه ـ إلى قوله ـ بعد بلوغها الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكر ما عليه من سفك الدماء ونـهبه الأموال وتجاربه على قتل النفوس ولو بالاغتيال وتكفيره الأمة المحمدية في جميع الأقطار ، فبقي معنا تردد فيما نقله الشيخ عبد الرحمن حتى وصل الشيخ مربد وله نباهة ووصل ببعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في وجه تكفير أهل الإيمان وقتلهم ونـهبهم وحقق لنا أحواله وأفعاله وأقواله فرأينا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطر ولم يمعن النظر ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية وبدله على العلوم النافعة ويفقهه فيها بل طالع بعضا من مؤلفات الشيخ أبي العباس ابن تيمية ومؤلفات تلميذه ابن القيم الجوزية وقلدهما من غير إتقان مع أنـهما يحرمان التقليد ـ إلى قوله ـ ثم وقفت لهذا العهد على كتاب رد المحتار وحاشية الدر المختار للسيد محمد أمين بن عمر المعروف بابن العابدين بمصر حالا وكان في سنة ما لفظه : كما وقع في زماننا في إتباع عبد الوهاب الذي خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة كلنهم اعتقدوا أنـهم هم المسلمون وإن من خالف اعتقادهم مشركون واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بـهم عساكر المسلمين عام ثلث وثلثين مائتين وألف ) .
  راجع كذلك الخلاصة الكلام لفقيه الشافعية زيني دحلان ، وغيره ممن كتبوا عن الوهابية .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 63 _
هل هناك شبهة قوية دعت للقول بتحريف القرآن !
  وقد يتساءل البعض ، هل وجدت شبهة عند من قال بتحريف القرآن أم قال به استمزاجا وترفا واتباعا للهوى ؟
  قد بينا فيما سبق عدم قيام الدليل عندهم على صيانة القرآن من التحريف ، لا من القرآن الكريم ولا من السنة المطهرة ، وذكرنا كيف فهموا الآيتين وحديث الثقلين وأحاديث عرض السنة على كتاب الله عز وجل ، فهذا يعني أن المانع من اعتقاد التحريف مفقود عندهم ، وفي المقابل وردت كثير من الروايات التي تصرح وتلوح بحصول النقص في كتاب الله عز وجل وحذف بعض الكلمات منه ، وهذه الروايات جاءت متظافرة في كتب الفريقين المعتمدة كالبخاري ومسلم عند السنة والكافي عند الشيعة ، بل قالوا إن هناك إخبارا ونبوءات من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول إن هذه الأمة ستحرف كتاب ربـها ، وهذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه :
  ( عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟! ) (1).
  فقالوا إن هذه تدل على أن المسلمين سيقتفون أثر من كان قبلهم من اليهود النصارى ولا يحيدون عن مسيرتـهم ، ومن المعلوم أن تحريف التوراة والإنجيل من أهم السمات البارزة في ما فعله اليهود والنصارى ، وهذا أمر يحتاج إلى إجابة ! (2) .
  قالوا أيضا إن القرآن الكريم يدل على هذا المعنى في سورة الانشقاق ، ويفي بالغرض نقل مقطع من تفسير ابن كثير :

--------------------
(1) صحيح البخاري ج 3 ص 1274.
(2) والشيعة يستطيعون الإجابة عليها وستأتي في مبحث جمع القرآن إن شاء الله تعالى .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 64 _
  ( وقوله تعالى ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) ( الإنشقاق / 19 ).
  قال البخاري ـ بسنده ـ قال ابن عباس : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) حالا بعد حال ، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ، هكذا رواه البخاري بـهذا اللفظ وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كأنه قال سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم فيكون قوله نبيكم مرفوعا على الفاعلية من قال وهو الأظهر والله أعلم .
  كما قال أنس : لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم .
  وقال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن مجاهد أن ابن عباس كان يقول : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) قال : ( يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : حالا بعد حال ) ، هذا لفظه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : طبقا حالا بعد حال ، وكذا قال عكرمة ومرة والطيب ومجاهد والحسن والضحاك ومسروق وأبو صالح ويحتمل أن يكون المراد لتركبن طبقا عن طبق حالا بعد حال قال هذا يعني المراد نبيكم صلى الله عليه وسلم ).
  ( وقال ابن إسحاق والسدي عن رجل عن ابن عباس ) : ( طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) منـزلا على منـزل ، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس مثله وزاد : ويقال أمرا بعد أمر وحالا بعد حال ، وقال السدي نفسه : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) أعمال من قبلكم منـزلا بعد منـزل ، قلت ـ ابن كثير ـ : كأنه أراد معنى هذا الحديث الصحيح خ 3456 م 2669 : ( لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ، قالوا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟! ، وهذا محتمل ) (1) .
  وكل هذه الشبه مانعة من التكفير وتجتث أصوله من الأساس ، بل لا يتصور التكفير في مثل هذه الموارد ، لأن هؤلاء بأدلتهم وشبههم التي تحتاج إلى ما يرفعها ويزيحها لا يريدون منها إلا بث الشكوى والتفجع للمصاب والرزية التي طرأت على كتاب الله عز وجل بزعمهم ، فهم في الحقيقة يريدون وجه الله عز وجل والدفاع عن كتابه وبيان ما تعرض له القرآن من تحريف وتلاعب ومظلومية ، ويحسبون أن قولهم السابق يوافق الأدلة الشريعة ولا يعارضها بل هم على يقين من ذلك ، فغاية ما يقال فيهم أنـهم قد أخطؤوا وما أصابوا الحق في هذه المسألة (2) ، وكل هذا ينفي دعوى التكفير التي ترجع إلى إنكار شيء وهو يعلم أن الشريعة جاءت به فيكذب الله ورسوله ، فأين هذا من ذاك ؟!

--------------------
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 490 ـ 491.
(2) الوهابية الذين تسيل أشداقهم لإطلاق كلمة الكفر لا تروق لهم هذه الكلمات التي تخضع للموازين الشرعية وتسير حسب القواعد العلمية ، وعلى أي حال فإن كلمات علماء أهل السنة واضحة تؤيد ما كتبناه وقد نقلنا نصوصهم سابقا فحتى ابن تيمية ـ كما سيأتي ذكره ـ يقول كما ذكرنا ، وهذا كلام إمامهم في القراءات مكي القيسي الذي يصف من يقصد تبديل القرآن وتغييره بأنه قد غلط فقال في الإبانة في معاني القراءات ص 5 : ( فهي إذا خارجة عن مراد عثمان و عن السبعة الأحرف ، والقراءة بما كان هكذا خطأ عظيم ، فمن قرأ القرآن بما ليس من الأحرف السبعة وبما لم يرد عثمان منها ولا من تبعه إذ كتب المصحف ، فقد غَيّرَ كتاب الله وبَدّلَه ، و من قصد إلى ذلك فقد غلط ) ، فليشنع الوهابية وليعربدوا كما شاءوا ، وكما قيل : صرير باب أو طنين ذباب !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 65 _
نظرة في روايات التحريف عند الشيعة
كلمه حول مصادر تلك الروايات
  المتأمل في الروايات التي استدل بـها على وقوع التحريف لا يدل ظاهر كثير منها عليه صراحة ، فبعضها دلت على أن الإمام المعصوم عليه السلام كان في مقام التفسير ، والبعض الآخر جاء بمعنى التنـزيل ، ناهيك أن الجم الغفير من تلك الروايات اقتبس من كتب غير معتمدة ومحل كلام عند الأعلام والمراجع الشيعة نحو تفسير العياشي الذي كل مرواياته بحكم المراسيل لأن الذي نسخ التفسير حذف أسانيد رواياته ! ، وأيضا كتاب سُليم بن قيس الهلالي رحمه الله الذي قال فيه الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه :
  ( هذا الكتاب غير موثوق به ولا يجوز العمل على أكثره ، وقد حصل فيه تخليط وتدليس ، فينبغي للمتديّن أن يتجنب العمل بكل ما فيه ولا يعوّل على جملته والتقليد لروايته ) (1) .
  وقال السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه : ( وكيفما كان فطريق الشيخ إلى كتاب سُليم بكلا سنديه ضعيف ) (2) ، وقال : ( والصحيح أنه لا طريق لنا إلى كتاب سُليم بن قيس الهلالي المروي بطريق حماد بن عيسى وذلك فإن في الطريق محمد بن علي الصيرفي أبا سمينة وهو ضعيف كذاب ) ، وقيل أن أبان بن عياش زاد في كتاب سليم بن قيس .
  وكذلك تفسير علي بن ابراهيم القمي رضوان الله تعالى عليه الذي نسب إليه القول بالتحريف بسبب ما كُتب في مقدمة التفسير وبعض الروايات فيه إلا أن من غير المعلوم أن القمي نفسه قد كتبها ، وجزء كبير من التفسير ليس للقمي ، والتفسير من الجلد إلى الجلد مع مقدمته غير موثوق به وساقط عن الاعتبار .

--------------------
(1) تصحيح الاعتقاد ص 72 .
(2) صيانة القرآن ص 226 ، وكذا المورد السابق منه ص 225 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 66 _
  قال الشيخ جعفر السبحاني حفظه الله : ( وبـهذا تبيّن أن التفسير ملفق من تفسير علي بن إبراهيم وتفسير أبي الجارود ولكل من التفسيرين سند خاص ، يعرفه كل من راجع هذا التفسير ثم إنه بعد هذا ينقل عن علي بن إبراهيم كما ينقل عن مشايخه الأخر إلى آخر التفسير ، وبعد هذا التلفيق كيف يمكن الاعتماد على ما ذكر في ديباجة الكتاب لو ثبت كون الديباجة لعلي بن ابراهيم نفسه .
  وقال : ( ثم إن الاعتماد على هذا التفسير بعد هذا الاختلاط مشكل جداًّ خصوصا مع ما فيه من الشذوذ في المتون . وقد ذهب بعض أهل التحقيق إلى أن النسخة المطبوعة تختلف عمّا نقل عن ذلك التفسير في بعض الكتب وعند ذلك لا يبقى اعتماد على هذا التوثيق الضمني أيضا فلا يبقى اعتماد لا على السند ولا على المتن ) (1) ، علاوة على أن راوي التفسير ـ بما فيه من روايات للقمي أو لأبي الجارود ـ لم تثبت وثاقته .
  وعليه يتضح جهل أحد الوهابية وهو ( عثمان الخميس ) عندما يقول في أحد أشرطته : ( أولـهم علي بن ابراهيم القمي صاحب التفسير ، قال في مقدمة تفسيره ، وأما ما هو على خلاف ما أنزله الله فهو قوله ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ( آل عمران / 110) ثم ذكر أنـها نزلت ( كنتم خير أئمة أخرجت للناس ) ،اه وقد ذكر علماء الشيعة أن القمي يقول بالتحريف وقالوا عنده فيه غلو .
  وأما بالنسبة لما قاله بعض علماء الشيعة فلا عبرة فيه لاعتمادهم على ما كُتب في ذلك التفسير إذ ما كانوا معاصرين للقمي رضوان الله تعالى عليه ، وحيث أن التفسير ساقط عن الإعتبار فما ينسب للقمي به ساقط أيضا .
  وكذا كتاب المسائل السروية للشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه ، فقد قال السيد الخوئي رضوان الله تعالى عليه في معجم رجال الحديث :
  ( أقول : إن نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ المفيد قدس سره لم تثبت ، ولم يذكر النجاشي والشيخ له كتابا يسمى بالمسائل السروية ، نعم ذكر النجاشي له كتابا وهو النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي ، ولكن لم يعلم أن المراد به ماذا ، فلعل المراد النقض على قول ابن الجنيد بالاجتهاد بالرأي ، أي بجواز العمل بالظن ، ومما يؤكد عدم صحة هذه النسبة أنـها لو صحت لذكرها النجاشي والشيخ ، فإن ما نسب إليه أعظم من قوله بالقياس ، فكيف لم يطلع على ذلك النجاشي والشيخ وهما تلميذان

--------------------
(1) كليات في علم الرجال ص 316 ـ 317 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 67 _
  للمفيد قدس سره ؟ (1) .
  وهكذا بالنسبة لكتاب الاحتجاج للطبرسي رضوان الله تعالى عليه إذ كل رواياتـه مراسيل وبلا إسناد ، فلا يتعبد بما فيه ، وغيرها من المصادر نحو التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام وتفسير فرات الكوفي .
  وروايات التحريف نابعة في الغالب من هذه الكتب والمصنفات المخدوشة سندا ومتنا ، قال المحقق هادي معرفة حفظه الله حال كلامه عن فصل الخطاب :
  ( أما الروايات الخاصة ، والتي استند إليها ـ المحدث النوري ـ لإثبات التحريف سواء أكانت دالة بالعموم على وقوع التحريف أم ناصّة على مواضع التحريف ، فهي تربو على الألف و مائة حديث (1122) منها (61) رواية دالة بالعموم و (1061) ناصة بالخصوص ، حسبما زعمـه ، لكن أكثريّتها الساحقة نقلها من أصول لا إسناد لها ولا اعتبار ، من كتب ورسائل ، إما مجهولة أو مبتورة أو هي موضوعة لا أساس لها رأساً .
   والمنقول من هذه الكتب تربو على الثمانمائة حديث (815) و بقي الباقي (307) وكثرة من هذا العدد ترجع إلى اختلاف القراءات مما لا مساس لها بمسألة التحريف وهي (107) و البقية الباقية (200) رواية ، رواها من كتب معتمدة ، وهي صالحة للتأويل إلى وجه مقبول أو هي غير دالة على التحريف وإنما أقحمها النوري إقحاما في أدلة التحريف ) (2) .
  وقال السيد البروجردي رضوان الله تعالى عليه في تقريرات بحثه : ( أن الروايات التي دلت على وقوع التحريف قد أخذت من كتب لا اعتماد عليها ، فإن أكثرها مأخوذ من كتاب أحمد بن محمد بن السيار المعروف بالسياري ، وهو منسوب إلى فساد المذهب ، فعن النجاشي أنه ضعيف الحديث فاسد المذهب ، ذكر ذلك الحسين بن عبيد الله مجفو الرواية كثير المراسيل انتهى ، وعن ابن الغضائري في رجاله : أحمد بن محمد بن سيار يكنى أبا عبد الله القمي المعروف بالسياري ضعيف متهالك غال منحرف ، استثنى شيوخ روايته من كتاب نوادر الحكمة وحكى عن محمد بن علي بن محبوب في كتاب نوادر المصنف أنه قال بالتناسخ ،( انتهى ) .
  وقريب مما حكي عن النجاشي ما حكي عن العلامة رحمه الله في الخلاصة ، فلا ريب في ضعفه ، وكثير من تلك الأخبار أي الدالة على التحريف عن فرات بن إبراهيم الكوفي ، وهو وإن لم ينسب إلى فساد المذهب بل في رجال المامقاني رحمه الله أنه كان من

--------------------
(1) معجم رجال الحديث ج 51 ص 337 .
(2) مصادر الفقه الإسلامي و منابعه ص76 للشيخ المحقق جعفر السبحاني حفظه الله ، وللزيادة راجع صيانة القرآن من التحريف للمحقق محمد هادي معرفة حفظه الله .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 68 _
  مشايخ الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه ، وقد أكثر الصدوق رحمه الله الرواية عنه لكنه لم يرد توثيق له من علماء الرجال بالنسبة إليه ، وعدة منها عن تفسير العياشي رحمه الله ، وهو وإن كان من الإمامية وكان ثقة لكن أكثر الروايات المنقولة في تفسيره مرسلة فلا اعتبار بـها ، وعدة منها لا ربط لها بالمقام ، بل راجعة إلى كيفية اختلاف القراءات ، وعدة منها مقطوع كذبـها .
  وسنبحث في ما يلي عن الوجه الحق الذي يراه علماء الشيعة لمثل هذه الراويات .
دلالة أغلب تلك الروايات
  تضمنت بعض الروايات التي نسبت إلى أهل البيت عليهم السلام آيات قرآنية زيد فيها كلمات وجمل ليست في مصحفنا ، وعُلق في تلك الروايات على هذا المزيج من الآية والكلمة الأجنبية بجملة ( هكذا نزلت ) أي أن الآية نزلت بـهذا الشكل بما فيها من الكلمات الأجنبية ، وهذه أمثلة لتلك الروايات :
  * ( الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن علي بن أسباط عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل : ( وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) في ولاية علي وولاية الأئمة من بعده ( فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) ( الأحزاب / 71 ) ، هكذا نزلت ) (1) .
  * ( الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن جعفر بن محمد بن عبيد الله عن محمد بن عيسى القمي عن محمد بن سليمان عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ) كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام من ذريتهم ( فَنَسِيَ ) ( طه / 115 ) ، هكذا والله نزلت على محمد صلى الله عليه وآله ) .
  * ( علي بن إبراهيم عن أحمد بن محمد البرقي عن أبيه عن محمد بن سنان عن عمار بن مروان عن منخل عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال : نزل جبرئيل عليه السلام بـهذه الآية على محمد صلى الله عليه وآله هكذا ( بِئْسَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ) في علي ( بَغْيًا ) ( البقرة / 90 ) ) .
  * ( وبـهذا الإسناد عن محمد بن سنان عن عمار بن مروان عن منخل عن جابر قال : نزل جبرئيل عليه السلام بـهذه الآية على محمد هكذا ( وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ( في علي ) فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) ( البقرة / 23 ) ) .

--------------------
(1) أصول الكافي ج 1 ص 414 ح 8 ، تعليق علي أكبر غفاري .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 69 _
  وبـهذا الإسناد عن محمد بن سنان عن عمار بن مروان عن منخل عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نزل جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله بـهذه الآية هكذا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا ( في علي نورا مبينا ) مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) ( النساء / 47 ) ).
   أحمد بن مهران عن عبد العظيم بن عبد الله عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال : نزل جبرئيل عليه السلام بـهذه الآية على محمد صلى الله عليه وآله هكذا ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ( آل محمد حقهم ) قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ( آل محمد حقهم ) رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) ( البقرة / 59 ) ).
  وبـهذا الإسناد عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال : نزل جبرئيل عليه السلام بـهذه الآية هكذا ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ( آل محمد حقهم ) لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) ( النساء / 168 ـ 169 ).
  ثم قال ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ( في ولاية علي ) فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا ( بولاية علي ) فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (النساء / 170 ) ) (1) .
   أحمد بن مهران ـ رحمه الله ـ عن عبد العظيم عن بكار عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال هكذا نزلت هذه الآية ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ( في علي ) لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) (النساء / 66 ) ) (2) .
  فألصق الوهابيون تحريف القرآن بالشيعة ! بدعوى أن بعض رواياتـهم تحكي نزول الآيات من السماء بأشكال أخرى غير التي نعرفها ، وواضح أن تلك الكلمات قد نقصت وذهبت إذ لا وجود لها اليوم في مصحفنا ، فالشيعة تعتقد نقص القرآن ، والحمد لله رب العالمين .

--------------------
(1) أصول الكافي ج 1 ص 416 ـ 417 ح 23 إلى 28 عدا 24 .
(2) أصول الكافي ج 1 ص 423 ـ 424 ح 58 ، 59 ، 60 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 70 _
  هذا ملخص كلامهم بعد تخليصه من الشوائب والحشف ، وهذا -على ما فيه من خلط بين الرواية والاعتقاد بمضمونـها الذي طالما يقعون فيه ، إذ لا ملازمة بينهما ! ، وبعد التسليم بصحة أسانيد كل الروايات السابقة ـ كلامٌ ساقط من رأس ، لأن عبارة ( هكذا نزلت ) لا يفهم الشيعة منها أن هذا الـمُنـزل قرآن كله ، أي أن تلك الكلمات الدخيلة لا يرون أنـها من نفس جنس القرآن حتى يقال إن القرآن في نظرهم حُرف ونقص بسقوطها ! ، نعم الباقي هو من القرآن أما ما دمج فيه فليس منه ، (1) يحاول بعض الوهابية إلزام الشيعة بصحة كل روايات الكافي !! ، وهذا مضحك للغاية ! إذ الكافي ( كتابـنا ) لا كتاب الوهابية ! ونحن أدرى بكتبنا منهم ! ، ولكن كما قيل ( لأمر ما جذع قصير أنفه ) فهم يذكرون هذا في مقدمة كتبهم استغفالا منهم لعوامهم ولإقناعهم بأن الكافي عند الشيعة مثل البخاري ومسلم عند أهل السنة ، كل ما فيه صحيح ! ، وهذا ـ كالعادة ـ كذب على جمهور الشيعة بل على كل الشيعة في زماننا ، والأغرب أنـهم يقومون بذكر مدح علماء الشيعة لكتاب الكافي كدليل على صحة كل ما فيه !! ، فهل القول بأنه من أفضل الكتب ، أو أنه جليل القدر ، أو أنه لم يصنف مثله ، أو أنه أصح الكتب وأتقنا يعني أنه لا يوجد فيه روايات ضعيفة وغير مقبولة عند الشيعة ؟! ، نعم هذا الكلام يدل على أنه جليل القدر وعظيم المنـزلة ولم يصنف مثله وأصح الكتب وأتقنها بالقياس إلى غيره من الكتب ، وهذا غير الحكم بصحة كل ما فيه من الروايات ، فهذا لا يقول به الشيعة .
  وقد حاول أحد الوهابية ( ناصر ، ق ) في كتابه أصول مذهب الشيعة ، وهي رسالة دكتوراه ، إقناع بني جلدته المساكين بـهذه الفكرة بالإحالة على المصادر التي مدحت كتاب الكافي ، مع أن كل المصادر التي أحال عليها هي للإخبارية ومع ذلك يعمم الحكم على كل الشيعة ، ثم يستغرب الوهابي من الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه كيف حكم بالوضع على ما روي في تحريف القرآن مع أنـها موجودة في الكافي ، ومع ذلك يبقى المتخلف مصرا على أن كل ما في الكافي صحيح عند الشيعة لأنـهم مدحوه ، مع أن نفس الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه هو ممن مدح الكافي ، وهذا كلام الوهابي في كتابه السابق في ج 1 ص 227 عن الكليني رضوان الله تعالى عليه : ( الملقب عند الشيعة ب‍ ثقة الإسلام ومؤلف أصح كتاب من كتبهم الأربعة المعتمدة في الرواية عندهم ) .
  وقال ( والكافي للكليني ـ رضوان الله تعالى عليه ـ عند شيوخ الرافضة في أعلى درجات الصحة ، لأن الكليني كان معاصرا للسفراء الأربعة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ الذين يدعون الصلة بالمهدي الغائب المنتظر ـ عليه السلام ـ ولهذا كان التحقق من صحة مدوناته أمرا ميسورا له لأنه يعيش معهم في بلد واحد وهو بغداد ـ أقول : هذا الكلام لا يقبله محققو الشيعة لأدلة ذكروها في كتبهم ، فليحتفظ بـهذا الكلام لنفسه ـ . ولكن يلاحظ أن ابن بابويه القمي ـ الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه ـ حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن مع وجودها في الكافي الذي يصفونه بـهذا الوصف ويوثقونه هذا التوثيق ).
  أقول : فمع اعترافه بأن الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه حكم بالوضع على بعض الروايات التي في الكافي وهو رأس الشيعة وشيخهم في زمانه ، ألا يكون هذا سببا كافيا لإيقاظه وتبديد أحلامه السابقة ، اللهم بلى ، إلا من طمس على عقله .
  ملاحظة : هذا الوهابي اعتاد في كثير من مواضع كتابه السابق على نقل فكرة معينة ونقضها بعد عدة أسطر أو بعد صفحة ، فلا أدري هل هو أسلوب جديد في الكتابة ؟ ، أم هي خواطر تدور في رأسه لا رابط بينها ؟ ، أم ماذا ؟ ، فأدعو كل من كانت هوايته حل الألغاز والأحاجي اقتناء هذا الكتاب .

--------------------
(1) وهذا ما يعتقده الشيعة ، والذي تعمد الأعراب تجاهله كما تعمدوا تجاهل كثير غيره ، وسببه واضح فتأليب الرعاع وإثارة الغوغاء على الشيعة هو غاية المنى وسدرة المنتهى عند الوهابية ، حتى إن بعضا منهم يعكف في لياليه قارئا كتب الروايات عند الشيعة يتصيد ما يحلو له من الروايات ويخترع التهم وينسج العقائد ويحيك الآراء التي لم ينـزل الله بـها من سلطان وما أن يبزغ الفجر حتى يرمي الشيعة بكل تخيلاته وسماديره ، وكل دليله هو : ( رُوي ) ، وهل هذا يكفي ؟ والوهابية بعملهم هذا يخترعون المذاهب والآراء للشيعة ثم يكرون عليها مشنعين مبدعين وفي الحقيقة لا يبدعون إلا مخيلتـهم وتصوراتـهم السقيمة ، وكل هذا استدرار لغضب الهمج والطغمة منهم ، وعلى هذا تمر الأيام !

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 71 _
  لأن كلمة التنـزيل الواردة في الروايات معناها يختلف عما هو معروف بيننا اليوم الذي خُصّ بنـزول عين آيات القرآن ، والمقصود من التنـزيل في الروايات هو التفسير النازل عن طريق الوحي توضيحا وتبيانا للمراد وشرحا للآيات القرآنية ، فليس التنـزيل قرآنا منـزلا وإنما تفسيرٌ منـزل من قِبل الله تعالى ورثه أهل البيت عليهم السلام عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا هو اعتقاد محققي ومراجع الشيعة في تلك الزيادات ، وسيتضح بإذنه تعالى أن من المعلوم عند علماء الشيعة أن جبريل عليه السلام لم ينـزل بالقرآن فقط وإنما أنزل تفسيره أيضا وهو المسمى في بعض الروايات بالتنـزيل (1)
  فلا يصح الافتراء على الشيعة أن من عقائدهم تحريف القرآن فقط لوجود روايات في كتبهم تذكر آيات القرآن مع كلمات غيرها وتعقبها بعبارة ( هكذا نزلت ) ! إذ النـزول من السماء في روايات الشيعة أعم من نزول القرآن ، وهذا نفس قول علماء أهل السنة بأن القرآن قد نزل ونزل مثله معه ، وستأتي كلماتـهم فيه بإذنه تعالى ، وإلى هنا يتضح الوجه الصحيح لعشرات ،إن لم نقل مئات ـ من الروايات التي أبـهمت على الوهابية الذين لا خبرة له بروايات أهل البيت عليهم السلام فاستفادوا منها تحريف القرآن .

الوهابية والخيال المتناقض
  بزغ لنا اليوم رأي جديد أو قل فلتة جديدة مفادها أن محدثي الشيعة هم الذين أقحموا تلك الزيادات بين كلمات الرواية ، وأصحاب الفلتات هم بعض الوهابية كالعادة ، فقد قال الوهابي ( ناصر ، ق) في أصول مذهب الشيعة :

--------------------
(1) وهناك رأي يقول إن قول الإمام عليه السلام في الرواية (هكذا نزلت) يقصد به أن نزول هذه الآية من السماء كان على هذا المعنى لا على المعنى الذي يدعيه الناس ، أي أن هذا قصد الله عز وجل من الآية ، وقد يتبادر أن هذا الرأي يخالف الرأي الأول حيث يفيد هذا أن الوحي ليس له دور في إضافة تلك الكلمات كتفسير للآية بل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أضافها من عند نفسه ، وبعبارة أخرى عندما يقال هذا تنـزيلها أي هذا معناها التي نزلت عليه الآية وكلمات التنـزيل إنما جاءت من قِبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنه إلى أهل بيته عليهم الصلاة والسلام لا عن طريق الوحي ، وبقليل تأمل يتضح أنـهما قول واحد أحدهما مجمل وآخر مفصل لأن ما ينطق به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويأخذه عنه أهل بيته عليهم السلام إنما هو وحي يوحى ، وكله من عند الله عز وجل فلا يقال هذا من السماء وهذا من عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فتفسير القرآن والسنن والعلم بالمغيبات وكلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلها تنسب حقيقة إلى الله عز وجل ، فلا فرق بين النظرتين بل هي نظرة واحدة وهي نزول هذه الكلمات من السماء تفسيرا وشرحا للمراد ، وعلى أي حال فالكل يتفق على أن تلك الكلمات تفسيرا للقرآن لا عين القرآن ، وهذا محل الكلام .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 72 _
  ( وقد اكتملت صورة هذه الأسطورة ـ تحريف القرآن ـ على أيديهما فبدأت الروايات عند القمي والكليني ـ رضوان الله تعالى عليهما ـ تأخذ بـهذه الأسطورة إلى مرحلة عملية فبدؤوا بإقحام كلمة ( في علي ) بعد أي آية فيها لفظ ( أنزل الله إليك ) و ( أنزلنا إليك ) ، وزيادة لفظ ( آل محمد حقهم ) بعد لفظ ( ظلموا ) حيثما وقع في القرآن … الخ ) (1) .
  لنسلم له أن تلك الزيادات من التحريف الصريح كما حسب المغفل ، ولنترك لأجله كلمات علماء الشيعة الآتية التي تنص على أنـها من التنـزيل ، ولننبذ أيضا ـ لسواد عينيه ـ كلمات علماء السنة التي تنص على وجود التنـزيل في الشريعة كما سيأتي بإذنه تعالى ، ولنسائله :
  كيف علم أن القمي والكليني رضوان الله تعالى عليهم قد أقحما هذه الجمل بين الآيات ؟! ، أليس من المحتمل أنـهما سمعاها ممن أقحمها بزعمه ؟ ، طبعا لا جواب ! ثم كيف يقتصر عملهما على إقحامها والروايات إنما تتحدث عن خصوص هذه الجمل المقحمة، أليس الصحيح هو أن يقول إنـهما وضعا تلك الروايات بتمامها ، والعياذ بالله ؟
  وكما قلت سابقا إن هذا الوهابي له أسلوب خاص في الكتابة حيث اعتاد على الدوام نقض ما ذكره مسبقا وهذا يظهر بأقل اطلاعة على كتابه (2) ، فهنا قال الوهابي إن روايات التحريف هي نتاج إقحام وتلاعب من القمي والكليني رضوان الله تعالى عليهما ، ثم يأتي بعد صفحات ليقول إن روايات

--------------------
(1) أصول مذهب الشيعة ج 1 ص 240.
(2) أقول هذا لأني لم أكلف نفسي إلا قراءة مبحث تحريف القرآن قراءة سريعة ، ولو نظر المنصف في كل الأدلة التي ساقها ـ رواية أو حادثة أو قول عالم ـ لوجد أنـها غير صريحة في المراد بل تحتمله كما تحتمل غيره ، فكان الوهابي يرجح ما يتناسب مع الفكرة المسبقة التي التقطها من الشوارع واختزنـها في دماغه ، مع أن الإنصاف أن يرجح ما رجحه الشيعة أنفسهم ! ، لذا صار شغله الشاغل في هذا الكتاب اصطياد ما يؤيد فكرته المتهالكة من كتب الشيعة ، وأذكر من باب المثال لا أكثر ولا أقل زعمه أن الكليني رضوان الله تعالى عليه قال بتحريف القرآن لأنه روى في كتابه روايات التحريف وسكت عنها ، فصار يضرب على هذا الوتر وما يكاد أن يرفع قلمه عنه حتى يخوض فيه من جديد ! ، ومع كل هذا الضجيج والعجيج قال في آخر المبحث تحت عنوان (نـتائج الموضوع) ج 1 ص 302 : ( كما أن لديهم روايات تقول بالتحريف ، فإن عندهم روايات أخرى تنفي هذا الباطل وتنكره مثل قول إمامهم : واجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك على أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الاحتجاج عليه مصيبون وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تجتمع أمتي على ضلالة . ومثل ما جاء عندهم في ثواب قراءة القرآن ، وفضل حامل القرآن ، ووجوب عرض أحاديثهم عليه ، والتمسك به إلى قيام الساعة ، وهذا يبطل أن يكون محرفا أو مخفيا عند منتظرهم ) .
  وأحال على أصول الكافي عند ذكر مصادرها ! ، فقل لي بربك كيف حكم أن الكليني رضوان الله تعالى عليه يرى تحريف القرآن وقد روى مثل هذه الروايات وكتب مثل هذه الفصول وهي في نظر الوهابي تنفي تحريف القرآن ؟! ، فلماذا ألزم الكليني عقيدة التحريف بسبب روايته لروايات تدل عليه –بزعمه- ولم يلزمه عدم اعتقاده وقد روى ما يدل على عدم اعتقاده ؟! ، فالأمر ليس إلا فكرة مسبقة في دماغ الكاتب ينقصها التقاط رواية هنا وكلمة هناك !!

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 73 _
  التحريف قد تلقفها القمي رضوان الله تعالى عليه من كل أفاك أثيم ـ بزعمه ـ ومن ثم أخذها الكليني رضوان الله تعالى عليه من شيخه القمي :
  ( ويلاحظ أن معظم روايات الكليني ـ رضوان الله تعالى عليه ـ صاحب الكافي هي عن هذا القمي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ الذي تلقف هذه الروايات عن كل أفاك أثيم وسجلها في تفسيره ) (1) .
  أي أن التلاعب من الرواة لا من القمي ولا من الكليني رضوان الله تعالى عليهما ! ، فما عدا مما بدا ؟! ، والعجب أن هذه التخرصات والتناقضات تضمنتها رسالة دكتوراه حازت مرتبة الشرف الأولى ، هزلت .
  * ما يدل من الروايات على أن المقصود من التنـزيل هو التفسير
  1 ـ من روايات الشيعة والوقائع التاريخية
  منها ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام شرحا للآية الكريمة ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ) ( مريم / 26 ) :
  ( عن أبي عبد الله عليه السلام : قوله جل ثناؤه : ( صوما وصمتا ) ، قال : قلت : صمتا من أي شئ ؟ قال : من الكذب ، قال قلت : ( صوما وصمتا ) تنـزيل ؟ قال : نـعـم ) (2) .
  فظاهر مقطع الرواية ( قوله جل ثناؤه ) أن هذه الجملة ( صوما وصمتا ) قرآن كغيره ، ولكن بالتأمل في باقي الروايات يتضح أنـها من التنـزيل المفسر للقرآن ، ففي الكافي :
  ( عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده ، ثم قال : قالت مريم : ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا ) ( مريم / 26 ) . أي صوما صمتا ( وفي نسخة أخرى أي صمتا ) فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم ) (3) .
  ويدل الجمع بين الروايتين على أن هذه الزيادة ( صوما صمتا ) تنـزيل من السماء ، ولكن لا كقرآن بل كتفسير ، وهذا التفريق خفي على بعض الصحابة حتى دمجوا كثيرا من التنـزيل مع القرآن

--------------------
(1) أصول مذهب الشيعة ج 1 ص 269 .
(2) مستدرك الوسائل ج 7 ص 371 ح 8446.
(3) الكافي ج 4 ص 87 ح 36345.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 74 _
  وصاروا يقرؤونه كقرآن ، وقد حار علماء السنة في تأويل هذه الوجوه وستأتي الإشارة لذلك مع ذكر بعض الموارد التي خلط الصحابة فيها القرآن بالتنـزيل ، ونذكر هنا هذا المورد والبقية تأتي إن شاء الله تعالى :
  ( أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن أنس بن مالك أنه كان يقرأ ( إني نذرت للرحمن صوما صمتا ) ).
  ( أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأها ( إني نذرت للرحمن صوما صمتا ) وقال : ليس إلا أن حملت فوضعت ).
  ( أخرج ابن الأنباري عن الشعبي قال : في قراءة أبي بن كعب ( إني نذرت للرحمن صوما صمتا ) ) (1) .
  وعلى هذا فالتنـزيل موجود في كتب السنة ، بل وأكثر من كتب الشيعة ولكن أهل السنة ابتدعوا له الوجوه ، ومن هذه الوجوه القراءة الشاذة أو الأحرف السبعة أو نسخ التلاوة ، على ما في تلك الأقسام من تداخل تقف عليه بإذنه تعالى في الأبحاث اللاحقة .
  ومما يدل على التنـزيل ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام : ( نزل جبرئيل عليه السلام بـهذه الآية هكذا ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ( في ولاية علي ) فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ( الكهف / 29 ) ) (2) .
  ويتبين حال هذه الزيادة هل هي من القرآن أم لا ، بالرواية التي وردت عن الإمام الصادق عليه السلام : ( نزلت هذه الآية هكذا ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ) ( الكهف / 29 ) ، يعني ولاية علي عليه السلام ) (3) .
  وواضح أن الجمع بين الروايتين يفيد أن مقطع ( في ولاية علي ) قد نزل به جبرئيل عليه السلام ، ولكنه غير القرآن لفصله في الرواية الآخرى بين الآية والمقطع بكلمة ( يعني ) أي أن هذا هو معنى الآية ، فالمقطع أنزل كتفسير لا كقرآن .

--------------------
(1) الدر المنثور ج 4 ص 269 ـ 270.
(2) الكافي ج 1 ص 425 ح 64 .
(3) نقلا عن شرح أصول الكافي للمازندراني رضوان الله تعالى عليه ج 7 ص 91 ـ 92 ط دار إحياء التراث .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 75 _
  ويدل عليه أيضا هذه الرواية التي وقعت ضمن موسوعة الافتراء على الشيعة بتحريف القرآن : ( عن أبي جعفر عليه السلام قال : ( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ ( محمد ) بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمْ (بموالاة علي) اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا ( من آل محمد ) كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُون ) (البقرة / 87 ) ) (1) .
  مع أن هناك رواية أخرى جاءت عن نفس الإمام الباقر عليه السلام مبينة لما ورد في تلك الرواية : ( فقال لهم الله : فإن ( جاءَكُمْ (محمد) بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ ( بموالاة علي ) اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَريقاً ( من آل محمد ) كَذَّبْتُمْ وَفَريقاً تَقْتُلونَ ) ، فذلك تفسيرها بالباطن ) (2) .
  فيتضح أن قولهم عليهم السلام ( قال الله تعالى ) لا يقصد به القرآن دائما بل قد يكون قرآنا مختلطا بتفسيره النازل من عند الله سبحانه وتعالى .
  وكذا ما ورد في الكافي : ( عن أبي عبد الله عليه السلام عليه السلام في قول الله تعالى : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ ( بولاية علي ) لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) ( المعارج / 1 ـ 3 ) ثم قال : هكذا والله نزل بـها جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله ) (3) .
  فهذه الرواية ظاهرها أن الآية مع الزيادة من القرآن ، ولكن بالنظر لما نقله العلامة المجلسي رضوان الله تعالى عليه في مرآة العقول يتضح أنـها تفسير منـزل :

--------------------
(1) الكافي ج 1 ص 418 ح 31.
(2) البحار ج 24 ص 307.
(3) الكافي ج 1 ص 422 ح 47 ط دار الكتب الإسلامية ، أقول : سبب نـزول هذه الآيات معلوم عند أهل التفسير والتاريخ وهو ما أجاب به سفيان بن عيينة من سأل عن قوله عز وجل ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) ( المعارج / 1 ) فيمن نزلت ؟ فقال للسائل : سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك .
  حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه صلوات الله عليهم قال : لما كان رسول الله بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فشاع ذلك وطار في البلاد فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له حتى أتى الأبطح فنـزل عن ناقته فأناخها فقال : يا محمد ؟ أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله فقبلناه ، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهرا فقبلنا ، وأمرتنا بالحج فقبلنا ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شئ منك أم من الله عز وجل ؟ فقال : والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله ، فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم ؟ إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله وأنزل الله عز وجل ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) الآيات .
  راجع الغدير للعلامة الأميني رضوان الله تعالى عليه ج 1 ص 239 وما بعدها حيث ذكر ثلاثين عالما من علماء أهل السنة ممن ذكروا هذه الحادثة ونزول الآية فيها .