( الاتيان بالعمرة ) لم يحمل معه من الاسلحة إلاَّ سيفاً ، وهو سلاح كل مسافر ، وكذا باقي المسلمين ، حتى بلغوا أرض الحديبية (1).
  بعدما اطَّلع زعماء قريش على حركة المسلمين باتجاه مكة أغلقوا الطريق أمامهم ليمنعوهم من الاتيان بالعمرة ، وبعد حوادث مختلفة حصلت آنذاك انتهى الأمر إلى انعقاد معاهدة صلح بين قريش والمسلمين تُدعى صلح الحديبية.
  أثناء تدوين المعاهدة خالف ممثل قريش ( سهيل بن عمرو ) كتابه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) و ( محمّد رسول الله ) في بداية العقد ، ممَّا أثار حفيظة المنافقين ، واتخاذ ذلك ذريعة لايجاد بلبلة ، فأخذوا يقولون مثلاً : أيُّ منام أنت رأيته لنا ؟ !
  أي زيارة وعدتها إيّانا ؟!
  يا له من امتياز منحته للكفّار !
  وقد تعمّقت الاعتراضات إلى أن بلغت كلام الله ، حيث عدَّ صلح الحديبية فتحاً مبيناً (2) ، فقال بعضهم : أيُّ فتح هذا ، حيث صُددنا عن زيارة بيت الله وصُدَّ هدينا ؟ وقال بعض آخر : لم نشك برسالة الرسول يوماً مثلما شككنا به اليوم.
  هذا مع أن صلح الحديبية أحد أكبر انتصارات المسلمين وقد كان له آثار إيجابية جمَّة (3).
  جيم : فشل محاولة اغتيال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ( اثنى عشر رجلاً وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند رجوعه من تبوك ، فأخبر جبرئيل ( عليه السلام ) رسول الله بذلك ، وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم ، وعمّار كان يقود دابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحذيفة يسوقها ، فقال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم ، فضربها حتى نحاهم ... ) (4) ، وبذلك فشلت محاولتهم لاغتيال الرسول ( صلى الله عليه وآله ).
  دال : اجتماع المنافقين في السقيفة
  خبر موت الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أفجع قلوب المسلمين ، وقبل أن يتم تغسيل وتكفين ودفن

--------------------
(1) تبعد حالياً الحديبة عن مكة 17 كيلو متراً ، وهي أقصى الحرم.
(2) نجد هذا التعبير في أوائل سورة الفتح ، أي السورة 48.
(3) تفاصيل القصة تجدها في الأمثل 16 : 377 فما بعدها.
(4) بحار الأنوار 21 : 196.

أمثال القرآن _ 487 _

  الرسول اجتمع عدَّة من المغرّر بهم والمنافقين في سقيفة بني ساعدة تلبية لنداء الشيطان ، فحاكوا مؤامرة خطرة ضد الاسلام ، ورغم إيصاء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بعلي ( عليه السلام )كخليفة بعده إلاَّ أنَّهم توفّقوا لابعاده عن الخلافة ، وبذلك أوردوا أكبر ضربة قاصمة على الاسلام (1).
  اللهُمَّ العن أوَّل ظالم ظلم حقّ محمّد وآل محمّد وآخر تابع له على ذلك.
  من الصعب إحصاء كل ما أوجده المنافقون من عقبات ومؤامرات وضربات قاصمة ضد الاسلام ، فهؤلاء هم الذين جاءوا بمعاوية الذي ارتكب جرائم بشعة ، وهؤلاء هم الذين جعلوا من الامام علي ( عليه السلام ) والامام الحسن ( عليه السلام ) قعيدي البيت ، وهؤلاء هم الذين خلقوا حادثة كربلاء المفجعة ، التي ذبح فيها أفضل البشرية و ...
  ملخص الكلام أن المنافقين أخطر الأعداء لا للمجتمع الاسلامي فحسب بل لكلِّ المجتمعات ، ولذلك هاجمتهم الآيات القرآنية بأعنف ما يمكن ، وكشفت عن حقيقتهم المزيّفة في سور مختلفة كسورة المنافقون والتوبة والبقرة والاحزاب.
  اللهم ، احفظ الاسلام والمسلمين من شر المنافقين وافضحهم واخزهم .

--------------------
(1) تفاصيل القضية تجدها في كتاب أسرار آل محمّد.

أمثال القرآن _ 489 _
المثل الخامس والخمسون : الضوابط لا العلاقات
  يقول الله تعالى في الآية 10 من سورة التحريم : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً للَّذِينَ كَفَروا امْرأةَ نُوح وَامرأةَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتاهُما فَلَمْ يُغنيا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارُ مَعَ الدَّاخِلينَ ).

تصوير البحث
  لاشكَّ أن لكلِّ شيء معياراً ، فما معيار نجاة الانسان في الآخرة ؟ هل ملاك النجاة العلاقة والانتساب إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) وأولياء الدين أم أنَّ الملاك الأساسي هو الإيمان والتقوى والعمل الصالح ؟ اختصَّت هذه الآية بالحديث عن هذا الموضوع.

دراسة إجمالية لسورة التحريم
  لأجل اتّضاح العلاقة بين آية المثل والسورة ككل ينبغي إلقاء نظرة إجمالية على جميع آيات هذه السورة.
  السورة مدنية ، ولها اثنى عشرة آية ، والذي يبدو من اسمها أنها تتحدّث عن شيء حرَّمة الرسول على نفسه ، كما تشير إلى الملابسات التي أدَّت إلى هذا التحريم.
  يدعو الله الرسول في هذه السورة إلى نكث ما حرَّمه على نفسه ، كما هدَّد المتواطئون بعذاب إلهي شديد إذا لم يتوبوا ، ثمّ بيَّن مطلباً ، وهو أن العلاقة والقرابة لوحدها دون الأعمال الصالحة

أمثال القرآن _ 490 _
  لا تنجي الانسان ، فلا ينبغي له أن يعتمد عليها ، ثمّ يضرب مثلين جميلين في أمرأة نوح ( عليه السلام ) وامرأة لوط ( عليه السلام ) اللتين لم ينفعهما قرابتهما بالرسولين المذكورين ، وذلك لأنهما لم يعملا صالحاً ، فكان مصيرهما جهنم كباقي من دخلها من الناس.

قصة التحريم
  وردت أقوال متباينة في قصة التحريم ، أنسبها ما يأتي : ( إنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يذهب أحياناً إلى زوجته ( زينب بنت جحش ) فتبقيه في بيتها حتى تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته له ، ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ عليها الأمر ، ولذا قالت : إنَّها قد اتفقت مع حفصة ( إحدى أزواج الرسول ) على أن يسألا الرسول بمجرّد أن يقترب من أيٍّ منهما بأنَّه هل تناول صمغ المغافير (1) ، علما أن الرسول كان يصرّ على أن تكون رائحته دائماً (2).
  وفعلاً سألت حفصة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) هذا السؤال يوماً وَرَدَّ الرسول بأنَّه لم يتناول صمغ المغافير ولكنَّه تناول عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولهذا أقسم بأنَّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرة اُخرى ، خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذت على شجر صمغ المغافير وحذرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أن الرسول قد حرَّم على نفسه طعاماً حلالاً فيقتدون بالرسول ويحرمونه أو ما يشبهه على أنفسهم ، أو خوفاً من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك.
  لكنها أفشت السرَّ فتبيَّن أخيراً أن القصة كانت مدروسة ومعدَّة ، فتألّم الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لذلك كثيراً فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضيح الأمر وتنهى من أن يتكرَّر ذلك مرة اُخرى في بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) (3).
  طبقاً لهذه الرواية فإنَّ عائشة وحفصة ارتكبتا ذنوباً ثلاثة :
  1 ـ حسدهما زينب بنت جحش لكثرة حب الرسول لها.

--------------------
(1) وهو نوع من الصمغ يترشّح من بعض أشجار الحجاز يسمى عرفط ويترك رائحة غير طيّبة.
(2) وهو من شأن أي زعيم للمجتمع.
(3) الاُمثل 18 : 405 ـ 406 ، ويذكر أن اصل هذه الرواية نقلها البخاري 6 : 194.

أمثال القرآن _ 491_
  2 ـ كذبهما على الرسول بأن فيه رائحة كريهة.
  3 ـ إفشاء سر الرسول.
  وهذه الذنوب ثلاثتها من الكبائر.
  الشرح والتفسير
  بعد اتّضاح العلاقة بين آية المثل وباقي آيات السورة نبتُّ بشرح آية المثل.
  ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً للذِينَ كَفَروا امرأةَ نُوح وامرأةَ لُوط ).
  رغم أن المثلين وردا في امرأتين محدّدتين إلاَّ أنَّ استخدام ( الذين ) يفيد التعميم والشمول للجميع.
  رغم أنَّ صلة كانت تربط بين نوح ( عليه السلام ) وامرأته وكذا بين لوط ( عليه السلام ) وامرأته إلاَّ أن هذه القرابة والصلة ما نفعتهما ، لأنه لم يكن لهما أعمال صالحة.
  يعتقد بعض المفسرين أن اسم امرأة نوح ( والهة ) وامرأة لوط ( والعة ) (1) ، لكن البعض عكس ذلك واعتبر اسم امرأة نوح ( والعة ) وامرأة لوط ( والهة ) أو ( واهلة ) (2).
  ( كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتاهُما ).
  المراد من العبدين الصالحين هو نوح ولوط فلم يستفيدا من نعمة تواجد هذين العبدين إلى جنبهما ولم يستضيئا بهما الدرب ليهتديا ، بل منعا الهداية عن الآخرين ، خانتا زوجاهما.
  ينبغي التذكر بأن المراد من الخيانة هنا ليس الانحراف عن جادة العفة ، فإن ذلك لم يحصل لأيٍّ من زوجات الأنبياء ، وقد ورد عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قوله : ( ما بَغَتْ امرأة نبيٍّ قط ) (3) ، وهذا الحديث يدلُّ على أن الخيانة لم تكن خيانة زوجية جنسية ، بل كانت من نوع آخر ، وهو إفشاء سر الزوج.
  امرأة نوح كانت تفشي أخبار من آمنوا سراً بنوح وتبوح بأسرارهم للوثنيين ، ممَّا يؤدي

--------------------
(1) تفسير القرطبي 10 : 6680 ، نقلاً عن تفسير الأمثل 18 : 424.
(2) روح المعاني 28 : 142 ، نقلاً عن تفسير الأمثل 18 : 424.
(3) الدرّ المنثور 6 : 245.

أمثال القرآن _ 492 _
  إلى إيذاء النبي والموحّدين.
  أمَّا امرأة لوط فعندما شاهدت رسل الله عند لوط خرجت إلى الناس تخبرهم بمجيء شباب صبيحين إلى لوط ، سعياً منها لإثارتهم جنسياً ، وكما هو المعروف عن قوم لوط فانهم كانوا يمارسون اللواط.
  على أي حال ، خيانة هاتين المرأتين في إفشائهما اسرار زوجيهما ، وافتعال مشاكل لهما من خلال ذلك.
  ومن الصعب بمكان احتمال زوجة تفشي أسرار زوجها وتوجد له المشاكل وتوتّر البيت وتعكّر صفوه ، رغم أن المفروض بها أن تكون سبباً في سكينة البيت والعائلة (1).
  ( فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدّاخِلينَ ).
  مقياس نجاة الانسان ـ كما تقدّم ـ هو الأعمال الصالحة لا العلقة الزوجية والعائلية وما شابه ، لذلك لم ينفع هاتين المرأتين علقتهما الزوجية باثنين من الأنبياء ، فدخلا جهنم كما يدخل باقي الناس ممَّن لا علاقة له بنبي.
  وهذا لأجل أن يفهم الجميع بأنَّ الأعمال الصالحة هي الوحيدة التي يمكنها أن تنجي الانسان من العذاب الإلهي وتسبب له الفلاح والسعادة.
  خطاب الآية

ملاك النجاة هو العمل الصالح
  كما تقدّم فإن الملاك الأساسي والوحيد لإنقاذ الانسان يوم القيامة هو أعمال الانسان الصالحة لا العلقة العائلية والقبلية ، ولا ينجو من ذلك اليوم من لم يكن له أعمال صالحة ولو كان زوجة رسول.
  زوجة شيخ الأنبياء نوح وابنه نموذجان كاملان لهذا المطلب ، وعندما استعدَّ نوح لركوب

--------------------
(1) جاء في الآية 21 من سورة الروم : ( ومِنْ آياتِهِ أنْ خَلَق لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزواجاً لِتَسْكِنُوا إلَيها ).

أمثال القرآن _ 493
  السفينة وشاهد ابنه موشكاً على الغرق طلب من الله الطلبة التالية : ( رَبِّ إِنَّ ابنِي مِنْ أَهْلِي وإِنَّ وَعدَكَ الحَقُّ وَأنْتَ أحْكَمُ الحَاكِمينَ )(1).
  وهو يشير بالوعد إلى ما ورد ذكره في الآية 40 من سورة هود ، حيث وعد الله نوحاً أن يحمل أهله ومعه ويركبهم السفينة.
  أجاب الله نوحاً في الآية 46 من سورة هود ، وأشار فيها إلى أنَّه لا تأثير للعلقة والقرابة النسبية في هذا الموضوع ، إذ ورد هناك : ( قَالَ يا نُوحُ إنَّه لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيرُ صَالح فَلا تَسْألنَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إنّي أَعِظُكَ أنْ تكُونَ مِنَ الجَاهلِينَ ).
  نعم ، العلقة لا تؤثر ولو كانت قوية بدرجة النبوّة ، فهي غير مفيدة ما دام الانسان غير صالح ، ولهذا كانت عاقبة ابن نوح ، كباقي الكفار ، الغرق.
  في قصة الامام السجاد ( عليه السلام ) مع طاوس الفقيه عبرة ، نقرأها هنا : يقول طاووس الفقيه : رأيته يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد ، فلمَّا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال : ( إلهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتّحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمّد ( صلى الله عليه وآله ) في عرصات القيامة ) ، ثم بكى وقال : ( وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرّض ، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليَّ ... )
  ثم بكى وقال : ( سبحانك تُعصى كأنَّك لا ترى ، وتحلم كأنَّك لم تعصَ ، تتودَّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأنَّ بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم ) ثم خرَّ إلى الأرض ساجداً.
  قال : فدنوت منه وشلت برأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خدّه ، فاستوى جالساً وقال : ( من الذي أشغلني عن ذكر ربّي ) ؟
  فقلت : أنا طاووس يا ابن رسول الله ، ما هذا الجزع والفزع ؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ،

--------------------
(1) هود : 45.

أمثال القرآن _ 494 _
  ونحن عاصون جانون ، أبوك الحسين بن علي واُمك فاطمة الزهراء ، وجدّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟
  قال : فالتفت إليَّ وقال : ( هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث أبي واُمّي وجدّي ، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً (1) ، أما سمعت قوله تعالى : ( فَإذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلا أنسَابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذ وَلاَ يَتَساءَلُونَ ) (2) والله لا ينفعك غداً إلاَّ تقدمة تقدّمها من عمل صالح ) (3).
  نعم ، إذا لم يصطحب الانسان معه عملاً صالحاً يوم القيامة فلا ينفعه شيء ولا ينجيه ، لأن القيامة ـ كما عبَّر عنها القرآن الكريم ـ عبارة عن يوم ( لا يَنْفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ إلاَّ مَنْ أتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم ) (4).
  النتيجة هي أن الحسد والكذب وإفشاء أسرار الآخرين توجب بعداً عن الله ، والملاك الأساسي لانقاذ الانسان يوم القيامة هو الأعمال الصالحة لا القرابة السببية أو النسبية.

--------------------
(1) السؤال المطروح هنا هو : أن هناك روايات نهت عن إساءة الأدب وعدم احترام السادة ولو كانوا مذنبين بذنوب من قبيل شرب الخمر ، وقد نقل بعضها الشيخ عباس القمي ( رحمه الله ) في ( منتهى الآمال ) في ذيل سيرة الامام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، وهي متنافية في الظاهر مع ما ورد في هذه الرواية ، فما الجواب ؟
الجواب : لا تنافي بين هذين الطائفتين من الروايات ، لأن أحدهما تتعلق بالحياة الدنيا والاُخرى بالحياة الاُخرى ، بعبارة اُخرى : ينبغي على المسلمين احترام الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) وأولادهم وأحفادهم وما نزلوا في الدنيا.
وفي هذا المجال لا ينبغي أن يكون استثناء ليكون أصلاً عاماً لا يمكن للمنافقين ومن أراد بآل البيت سوءً استغلال استثناءاته.
وهذا لايعني كفاية القرابة لهم يوم الحساب ، بل المقياس الوحيد للنجاة هناك هو الأعمال الصالحة ، وحتى الشفاعة فهي غير شاملة لمن خلت صحيفة أعماله من الصالحات ، وتشمل من كانت أعماله الصالحة قليلة جبراناً لقلّة الأعمال وإلاَّ فلا تشمله.
(2) المؤمنون : 101.
(3) بحار الأنوار 46 : 81 ـ 82.
(4) الشعراء : 88 ـ 89.

أمثال القرآن _ 495 _
المثل السادس والخمسون : استقامة زوجة فرعون
  يقول الله في الآية الحادية عشر من سورة التحريم : ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً للَّذِينَ آمَنُوا امرأةَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ ونجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ونَجنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ).

تصوير البحث
  كما قلنا فإنَّ سورة التحريم تحدَّثت عن بعض المشاكل التي واجهها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وفيها تنويه ببعض الضغوط التي أوردها الأعداء على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، فَإنَّ ضغوط الأعداء بلغت درجة ما بات يشعر إثرها بالأمان الكافي حتى في منزله ، وقد مضى ذكر مؤامرة اثنين من زوجاته ، حيث أفشتا سرّه ( صلى الله عليه وآله ).
  المؤامرة المزبورة وإفشاء سرّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) سببتا نزول سورة التحريم ، ولأجل أن تفهم أزواج النبي وكذا باقي الناس بأن الأعمال الصالحة هي الوحيدة التي تنجي الانسان من عذاب يوم القيامة ضرب الله مثلين في هذا المجال ، في أحدهما تحدّث عن امرأتين خانتا نبيين من أنبياء الله ، وفي الآخر تكلَّم عن امرأة مؤمنة لم تؤثّر علاقتها بطاغوت مثل فرعون على درجتها عند الله تأثيراً سلبياً.

أمثال القرآن _ 496 _
  الشرح والتفسير
  ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً للَّذِينَ آمَنُوا امرأةَ فِرْعَوْنَ ).
  كانت هذه المرأة تعيش في جهاز ملك هو أحد أكبر الملوك ظلماً ، ورغم أنها كانت تعيش في ظل نِعم ورفاه عالي إلاَّ أنَّها وجدت نفسها في مفترق طريقين ، هما : الدنيا والآخرة ، فإمَّا أن تختار العيش في دنيا سعيدة مرفّهة ، وإمَّا العيش بقرب الله ودخول الجنة.
  اختارت القرب الإلهي ورجحته على الحياة الدنيا ، والله جعلها في أفضل الجنان عنده ، وعَدَّ حياتها نموذجاً ومثلاً لكلِّ النساء بل حتى الرجال.
  رغم أنَّ آسية بنت مزاحم كانت زوجة فرعون الظالم وقريبة منه إلاَّ أنها اختارت ضابطة الإيمان بالله ، وكونها زوجة جبار كفرعون لم يثنها عن اتباع الحق ، ولم يجعل منها أمرأة تعيسة ، كما لم يؤثّر القرب بالعباد الصالحين في زوجتي نوح ( عليه السلام ) ولوط ( عليه السلام ) ، ولم ينقذهما من عذاب يوم القيامة ، بل إحداهما غرقت كابنها ، والاُخرى دفنت تحت تلٍّ من الأحجار الإلهية ، وهذا كله لأجل أن الانتساب والعلاقة لا دور لهما عند الله ولا يترجحان على الضوابط ، فهي الحاكمة في جهاز الحكمة الإلهية.
  ( إذْ قَالَتْ رَبِّ ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ ونجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ونجّني مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
  حياة آسية بعد إيمانها بربّ موسى اُسوة وقدوة في كل لحظاتها ، وهذه الآية تشير إلى بعض من تلك اللحظات التي عاشتها تلك المرأة العظيمة ، وهي لحظات كونها ترزخ تحت أشدّ الضغوط ومختلف أساليب التعذيب ، فضرب الله مثلاً بهذه اللحظات.
  أصبحت آسية اُسطورة في الصبر والمقاومة ، وفي أحلك اللحظات وأشدها رفعت يديها إلى السماء طالبة من الله تعالى ثلاث طلبات :
  الاولى : ( رَبِّ ابنِ لي عِنْدَك بَيْتاً في الجنَّة ).
  كان القرب إلى الله تعالى يشكّل أول طلبة طلبتها هذه المرأة ، وهو شيء أرفع من الجنة ، ولا يمكن قياسه بالجنة.

أمثال القرآن _ 497 _
  وقد استُخدم هذا التعبير في حقّ الشهداء كذلك ( عنْدَ ربِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (1) ، وآسية على عتبة الاستشهاد طلبت شيئاً هو جدير بالشهداء.
  الثانية : ( ونجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ).
  وهذه الطلبة تكشف عن أنَّ الذي كان يؤذي آسية ليس التعذيب والضغوط ، لأنها تبدو لا شيء أمام رضا الله ، بل الذي يؤذيها هو أعمال وأفكار وعقائد فرعون ، فهي لا تحتمل هذه العقائد القاصرة ، لذلك لا يحلو لها العيش بقرب فرعون ، فدعت الله لانقاذها منه.
  في اللحظات الأخيرة من العمر وتحت أشد الضغوط والآلام أعلنت آسية عن استيائها من فرعون ومظالمه وجناياته.
  الثالثة : ( ونجّني مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
  الطلبة الأخيرة لهذه المرأة الصالحة هي النجاة من المجتمع الفاسد الذي تعيش فيه ، أي لا أنها لا تنثني للمجتمع الفاسد ولا تتأقلم معه بل تعتبر التأقلم معه والانصياع له عاراً ، ولهذا أعربت عن استيائها منه في أعمالها وأقوالها.
  الجمل الثلاث التي شكَّلت دعاء هذه المؤمنة والعارفة في اللحظات الأخيرة من عمرها جميلة ودقيقة ومحسوبة ، وبإمكان هذه الجمل أن تنير درب المؤمنين من الرجال والنساء ، فهي تنفي ما يتمسك به البعض من ذريعة الضغط الذي يواجهه الانسان من قبل المجتمع أو الزوجة لترك طاعة الله ولالتزام التقوى.
  خطابات الآية
  1 ـ الاستقلال الفكري
  لماذا آمنت آسية بربِّ موسى رغم كونها تعيش في قلب الشرك وإلى جنب فرعون ؟
  كيف استطاعت هذه المرأة الثورية الصبورة أن تخرق الحجب جميعها وتبلغ الدين الحق ؟
  سرّ موفقيتها يكمن في استقلالها الفكري ، فما تركت المسائل الهامشية تؤثِّر سلباً على

--------------------
(1) آل عمران : 169.

أمثال القرآن _ 498 _
  فكرها وتحرفه أو تسلبه منها.
  آمنت آسية وتنوّر قلبها عندما رأت معجزة موسى ، حيث أسلم له سحرة فرعون وسيطر الاضطراب والخوف على فرعون الذي كان يدّعي الربوبية ، وازداد إيمانها وشعلته النيِّرة في قلبها تدريجياً بعد ما منعت من تأثير المجتمع والعائلة على فكرها ونفسها (1).
  2 ـ لماذا لم تستخدم آسية التقية ؟
  حقيقة التقية هي تغيير شكل المواجهة ، وتجب فيما إذا كان إظهار العقيدة يعرِّض الانسان للخطر دون فائدة ، لكن لماذا لم تستخدم آسية زوجة فرعون التقية ، حفظاً لنفسها وتغييراً لظاهر المواجهة ؟
  الجواب
  أولاً : التقية تجري فيما إذا كان بإمكان الانسان أن يخفي عقيدته ويكتمها ، لكن حبّ الانسان لله بمثابة الشعلة التي تعلو ألسنتها لتظهر على حركات الانسان وسكناته حتى لو حاول إخفاءها.
  شعلة حب الله كانت قد اتقدت وارتفعت إلى درجة لا يمكن إخفاؤها بأي نحو من الأنحاء ، وهذا هو الذي جعل من آسية أن تعلن إيمانها وتصمد أمام المشاكل والعقبات.
  ثانياً : قد يكون إظهار الايمان والشهادة في هذا الطريق يعقبه فوائد أكثر من فوائد الحياة وكتمان الايمان ، وقد كان إظهار آسية لإيمانها وانتشار خبرها وخبر تعذيبها وصمودها في هذا الطريق حتى الشهادة من هذا القبيل.
  مضافاً إلى أن هذه القضية بحدّ ذاتها تعدُّ وثيقة دامغة على حقانية موسى ( عليه السلام ) وبطلان دعاوي فرعون ، وسبباً لطمأنة المؤمنين وتعزيز ثقتهم بأنفسهم ، باعتبار أنها تكشف عن امكانية نفوذ الايمان قلوب الأعداء ، وتهديدهم في قعر دارهم.
  وهذا يسلب الذرائع التي قد يتمسك بها البعض لترك الايمان بالواحد الأحد.

--------------------
(1) من هنا يتضح سرّ الأهمية القصوى التي منحها القرآن الكريم والروايات الشريفة للتفكير ، ومن هنا يمكن عدّ الأديان الإلهية التي لم تحرّف أدياناً للعقل والفكر.

أمثال القرآن _ 499 _
  وقد شهد التاريخ لعلماء أصبحوا شمعة أضاءت درب المؤمنين وزرعت الأمل في قلوبهم إثر تركهم التقية.
  3 ـ التعذيب عامل تكامل أو وسيلة قهر !
  يتوسّل الجبابرة والظلمة بوسائل شتى للمنع عن الحقائق والخضوع لها ، والتعذيب واحدة من تلك الوسائل.
  استخدم فرعون أقسى أنواع التعذيب في حقِّ آسية لكي يثنيها ويثبط عزمها وإرادتها الحديدية ويردها عن اتِّخاذ دين الحق ، ورغم كونها امرأة إلاَّ أنَّها صمدت وقاومت وواجهت جميع حيل فرعون حتى آخر لحظات عمرها ، عكس ما عليه ضعيفو الإيمان ، حيث يستسلمون إثر أدنى نوع من التعذيب.
  من المسلَّم به أن لا وجود لجهاز ودنيا أعظم زخرفة وأكثر جبروتاً من جهاز فرعون ، كما أنه لا تعذيب ولا اضطهاد أعظم ممَّا مارسه فرعون المجرم ، لكن لا زخرفة دنيا فرعون وجبروته أثنت آسية المؤمنة ولا اضطهادة ولا تعذيبه ، بل قد جعلت من التعذيب ـ الذي هو وسيلة للقهر ـ وسيلة لتكاملها ، وأفدت بنفسها في طريق العشق الإلهي.

قصة إيمان آسية
  ذهبت آسية ملكة مصر بصحبة فرعون إلى مشاهدة سحر السحرة ومعجزة موسى ( عليه السلام ) في ساحة المدينة ، فألقى السحرة حبالهم وعصيهم التي كانت مملوءة بالزئبق لتتحرّك إثر حرارة الشمس ولتبدو أفاعي حقاً (1) ، فرح الناس وأستأنسوا بعد ما حصل هذا وصفقوا للسحرة وأطلقوا شعارات لصالح فرعون.
  لكن لم يمضِ وقت طويل على الفرحة وعلى إغواء الناس حتى جاء الدور إلى موسى ( عليه السلام ) ، فألقى بعصاه ، امتثالاً لأمر الله ، فبدت حية كبيرة بلعت كل ما كان ألقاه السحرة من العصي والحبال وتحرّكت باتجاه فرعون.

--------------------
(1) كما أشارت إلى ذلك الآية 66 من سورة طه.

أمثال القرآن _ 500 _
  عندئذ تبدَّل الموقف لصالح موسى ( عليه السلام ) ، وتغيّرت الابتسامة والتصفيق والهلاهل إلى هموم واستياء وتعجّب ، وخيَّم الرعب على فرعون والتعجّب على المشاهدين.
  ظنَّ فرعون أن هذه الأفعى ستبلعه ، وبدا الاضطراب على وجهه واضحاً ، وبخاصة بعد ما سقط التاج من على رأسه.
  أسلم السحرة جميعهم وسجدوا ولم تؤثر فيهم تهديدات فرعون ولم تثبط عزمهم على الايمان بربِّ موسى.
  بعدما شاهدت آسية هذه اللقطات غرقت بالتفكير ، وبعد مشوار انقدحت شعلة من الايمان في قلبها ازدادت تدريجياً لتنير كل وجودها بل وحتى خارجه.
  أخذت آسية بمناجاة الله في الخلوة ، وبادرت بالقيام بالأعمال الصالحة ، وبعد ما شاهد فرعون آثار الايمان وحب الله في سلوكها سألها عن الحقيقة ، فما استطاعت كتمان حبها المقدس وما استطاعت الكذب عليه فقالت الحقيقة له.
  غضب فرعون الجبار كثيراً وهدّدها ،لكن تهديده لم يؤثّر فيها أدنى تأثير ، وكما قال الصادق ( عليه السلام ) : ( إن المؤمن أعزُّ من الجبل ، إن الجبل يستقلُّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه ) (1) أي لا أنه لا ينثني أمام الريح فحسب بل يغيّر اتجاهه.
  بدأت النصائح والملامات تمطر على آسية من كل مكان وبخاصة الأقرباء والأصدقاء ، فكانوا يقولون لها : كيف يمكن لك أن تدبري عن هذه النعم من الخدم والحشم والنعم التي تحيط بك كملكة لمصر ؟!
  لكن جواب آسية لهذه الاعتراضات والملامات هو : أنّي لا أرفع يدي من الايمان بالله.
  ما كاد فرعون يحتمل نفوذ موسى في بيته وفي قلب شريكة حياته ، ولو استمرَّت آسية على إيمانها بإله موسى شكلت أزمة كبيرة لفرعون الطاغوت ، لذلك أصدر حكماً بالقضاء عليها.
  أخذوا بآسية إلى صحراء قاحل وأوتدوا رجليها على الأرض ووضعوا صخرة ثقيلة على صدرها وحرموها من الماء والغذاء لعلَّها ترجع إلى دين فرعون أو تموت ، فاختارت هذه البطلة الطريق الثاني.

--------------------
(1) الكافي 5 : 63.

أمثال القرآن _ 501 _
  عندما أوشكت أنفاسها على الانقضاء أخذت تدعو بالدعاء التالي : ( رَبِّ ابنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ ونجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ونجّني مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ).
  استجاب الله لدعاء آسية وجعلها قدوة للمؤمنين والمؤمنات ، وصنّفها في زمرة أفضل نساء العالم ، كما ورد ذلك على لسان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، إذ قال : ( أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ) (1).
  ممَّا يُلفت أن زوجة فرعون حقَّرت البلاط الفرعوني الطاغي بطلباتها الثلاث ، حيث رجّحته على بيت في الجنَّة ، واعتبرته لا شيء في قبال جوار رحمة الله ، وبذلك أجابت من لامها على ترك كل هذه الامكانيات التي كانت في متناول أيديها ، باعتبارها ملكة مصر ، وعلى توجهها إلى راع مثل موسى ، وهذا درس وعبرة للجميع.
  إلهي ، وفقنا لحفظ الايمان حتى آخر لحظات من عمرنا.
  ربّنا ، نحن ضعفاء أمام الوساوس الشيطانية ، فأعنَّا عليها.
  آمين رب العالمين.

--------------------
(1) الدر المنثور 6 : 246 ( نقلاً عن الأمثل 18 : 426 ).

أمثال القرآن _ 503 _
المثل السابع والخمسون : مريم بنت عمران
  يقول الله تعالى في الآية 12 من سورة التحريم : ( وَمَرْيمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنا فِيه مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ ربِّها وكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ ).

تصوير البحث
  ورد هذا المثل في نفس الاتجاه الذي ورد فيه المثلان المتقدِّمان ، وهو يؤكّد أن المعيار الوحيد للقرب إلى الله والحلول في ضيافته هو العمل الصالح والالتزام بالضوابط الالهية ، ولا تغني الأواصر والعلاقات مهما كانت قوية.
  بالطبع ، هناك اختلاف بين هذا المثل والمثلين المتقدّمين نشير إليه فيما بعد.

الشرح والتفسير
  ( وَمَرْيمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنا فِيه مِنْ رُوحِنا ).
  الجانب الذي لاحظه القرآن في التمثيل بآسية غير الجانب الذي لاحظه في التمثيل بمريم بنت عمران ، فقد لاحظ هناك جانب الصبر والاستقامة وهنا جانب العفّة والطهارة.
  بيَّن القرآن ثلاثة امتيازات لمريم :
  الأول : العفّة ، فقد كانت مريم عفيفة بدرجة أنها كانت تخاف جبرئيل ويرتعش جسمها

أمثال القرآن _ 504 _
  عندما كان يأتيها متمثلاً بشاب جميل ، وهي في الخلوة تغسل جسمها وتقول له : ( إنّي أعُوذُ بالرّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِياً ) (1) ، ورغم أن جبرئيل طمئنها وقال لها : ( إنَّما أنَا رَسُولُ ربِّكَ لأهَبَ لكِ غُلاماً زكيّاً ) (2) إلاَّ أن الاضطراب لا زال يسيطر عليها ، لذلك قالت له : ( أنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ولَمْ يَمْسَسْني بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بغيّاً ) (3) ، وهذا كله يكشف عن مستوى عفتها وطهارتها.
  الثاني : ( وَصَدَّقَتْ بكَلِمَاتِ رَبِّها وكُتُبِهِ ).
  التسليم المطلق والخالص إلى الله والعبودية هي الامتياز الآخر الذي بيّنه القرآن لمريم.
  كانت مريم مصدِّقة لكتب الله السماوية ولكلمات ربّها.
  اختلف المفسِّرون في أنّ ( كتبه ) عطف تفسيري على ( كلمات ربِّها ) أم لا ، وأنا أعتقد انعدام العطف التفسيري أو قلة موارده في القرآن.
  وعلى هذا يكون المراد من ( كتبه ) هو الكتب السماوية ، أي التوراة والانجيل والقرآن ، والمراد من ( كلمات ربِّها ) هو الأحاديث القدسية ، أي كلام الله الذي لم يرد في الكتب السماوية (4).
  الثالث : ( وَكَانَتْ مِنَ القَانتِينَ ).
  قنوت مريم هو امتيازها الثالث ، وهو يعني العبادة والطاعة ، وبما أنه جاء مطلقاً ودون قيد كان يعني أنها مفعمة بالطاعة والعبادة لربِّها ربّ العالمين.
  ليس من السهل أن يكون الانسان مطيعاً خالصاً دون قيد أو شرط ، وكثير من أعمال عباد الله منتقاة ، أي أنَّه ينتقي ما ينفعه ويذر ما لا ينفعه ، بينما عباد الله المخلصون يعملون له مطلقاً مهما كانت آثار العمل ومردوداته.
  نتيجة العفَّة التي يُضرب بها المثل وكذا الايمان والاعتقاد بجميع ما أنزل الله والطاعة والعبادة الخالصة التي لا مثيل لها أن نفخ الله فيها من روحه ومنحها ولداً طاهراً كعيسى بن مريم ( عليه السلام ).

--------------------
(1) مريم : 18.
(2) مريم : 19.
(3) مريم : 20.
(4) انظر الأمثل 18 : 427.

أمثال القرآن _ 505 _
  فوارق هذا المثل مع المثلين المتقدِّمين
  رغم أن الأمثال الثلاثة المذكورة في سورة التحريم تابعت هدفاً واحداً ، وهو بيان الملاك الأساسي لنجاة الانسان ، أي الضوابط الالهية لا العلاقات والانتساب بأولياء الله ، إلاَّ أنها متباينة فيما بينها.
  كان الحديث في المثل الاول عن امرأتين مشركتين أدبرتا عن الضوابط الإلهية فدخلتا جهنم مع الداخلين ، ولم ينفعهما علاقتهما بزوجيهما اللذين كانا من كبار أنبياء الله ، والمثل تحذير لضعفاء الايمان الذين تمسكوا بالانتساب لبعض أولياء الله.
  في المثل الثاني كان الحديث عن أمرأة صبورة ومقاومة ، قد تمسكت بالتعاليم الإلهية وما أكترثت بشيء إلاَّ برضا الله ، ولم تنتسب إلى أحد من أولياء الله ، بل إلى طاغوت ، فقد كانت زوجة فرعون الأكثر ظلماً في البشرية ، رغم ذلك لم تؤثّر هذه العلقة وهذا الانتساب في عزمها وإرادتها ، وكان قرارها التزام الإيمان بالله وحفظه حتى آخر لحظة من حياتها.
  وهذا المثل يُضرب لمن عاش في عائلة ومحيط غير مساعد ، تكثر فيه العقبات والموانع الموضوعة في طريق الإيمان ، فالاقتداء بها يعني تجاوز الموانع والانتصار عليها وعدم التشبُّث بها كذرائع.
  الحديث في المثل الثالث عن إمرأة عفيفة تمتعت بامتياز الانتساب وكذا العمل بالضوابط الإلهية في أعلى مستوياتها ، ولهذا عُدَّت اُسوة.
  مزيد ايضاح : البيئة التي كانت تعيشها آسية غير مناسبة ولا تساعد على انعقاد الإيمان من جميع الجهات ، فقد كانت تعيش منزلاً يُعدُّ بؤرة للكفر والشرك والعناد والوثنية ، وما كان يسمع فيه صوت التوحيد أبداً ، وكان زوجها يعدُّ نفسه ربّاً أعلى (1) بل ربّ الأرباب ، أمَّا البيئة التي كانت تعيشها مريم فكانت بيئة طاهرة ومفعمة بالإيمان ، وقد كانت تسمع الترنمات الإلهية وهي جنين في بطن اُمِّها.
  ينقل القرآن المجيد مناجاة اُم مريم في الآية 35 من سورة آل عمران كما يلي :

--------------------
(1) كما ورد ذلك في سورة النازعات : 24.

أمثال القرآن _ 506 _
  ( رَبِّ إنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْني مُحَرَّراً فتقَبَّلْ مِنّي إنَّك أنْتَ السَّميعُ العليمُ ).
  الطهارة حكمت بيئة مريم حتى بعد الولادة ، فقد تكفّلها بعد وفاة أبيها نبي عصرها زكريا ( عليه السلام ) بعد حوادث لطيفة حصلت ، ممَّا زاد في قداستها وسمح لها دخول بيت المقدس والمسجد الأقصى لتقيم عباداتها هناك.
  وبلغ بها القرب إلى الله أن كان الله يبعث لها الغذاء ، كما جاء ذلك في الآية 37 من سورة آل عمران : ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّها بِقَبُول حَسَن وأنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وكَفّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَل عَلَيْها المِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قَالَ يا مَرْيمُ أنَّى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب ).
  خلاصة الكلام أن بيئة مريم عكس بيئة آسية ، رغم ذلك كلتاهما بلغتا الكمال.
  جاء في رواية عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( كَمُلَ مِنَ الرِّجَال كثيرٌ ولم يكمل من النساء إلاَّ أربع ، آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ) (1).
  مريم وآسية عاشتا بيئتين متضادتين وبلغتا الكمال ، وفي ذلك درس عظيم وعبرة للجميع.
  وعلى الناس أن يفهموا أن المقياس الأساس هو إرادة الانسان وعزمه ، فلا يُعدُّ فساد العائلة أو المجتمع والبيئة وما شابه ذلك عذراً ، فإنَّه يصعب بلوغ الهدف مع وجود هذه الامور لكن لا يستحيل ، ويمكن الانتصار والتغلب على الموانع من خلال التحلّي بإرادة صلبة ، سعياً لبلوغ القرب الالهي ، كما فعلت آسية ، والارادة والعزم هما اللذان يلعبان الدور الاساسي في هذا المجال.
  خطابات الآية
  1 ـ العفَّة رأس مال عظيم
  آية المثل أكّدت على فضيلة العفة التي كانت مريم تتحلّى بها ، وهي صفة لو تمتع به أحد ( سواء كان رجلاً أو امرأة ) حصل على كل شيء ولو فقدها فقد كلّ شيء.
  لو تحلَّت المرأة بهذه

--------------------
(1) مجمع البيان 10 : 320 ( نقلاً عن ميزان الحكمة ، الباب 3535 ، الحديث 17674 ).

أمثال القرآن _ 507 _
  الصفة ما تلوّثت بالذنوب ولو توافرت جميع العوامل والأرضيات المساعدة على التلوّث ، ولو لم يتمتّع بها شخص تلوّث بالذنوب ولو كان جنب أفضل البشرية.
  العفة تعدُّ النقطة التي تقابل عبادة الشهوة والبطن ، ومن أهم فضائل الانسان ، ويعتبرها علماء الأخلاق صفة بين عبادة الشهوة والاغتمام والكسل.
  وفي هذا المجال وردت مباحث مختلفة كثيرة في القرآن والروايات (1).
  2 ـ الارادة أساس العمل
  لاشكَّ أن للعوامل والأرضيات ، من قبيل : العائلة والمجتمع والبيئة والحكومة وتوافر أرضيات الطاعة أو المعصية ، دوراً وتأثيراً على سعادة الانسان وشقائه ، لكنَّ أيّاً من العوامل المذكورة لا يمكنها أن تقهر الانسان وتجبره على انتخاب الطريق الذي يخالف إرادته.
  نفهم من الأمثال الثلاثة المتقدّمة ، وبخاصّة مثل آسية ومريم ( عليه السلام ) ، أن الارادة تشكل أساس العمل أو العامل الأساسي لأفعال الانسان وأعماله واعتقاداته.
  أثبتت آسية أنَّ بامكان الانسان أن يحكِّم إرادته للايمان والتقوى في أحلك الظروف وأتعسها ، وأنه يتوفّق رغم هذه الظروف ، كما عرفنا من سيرة زوجة نوح ( عليه السلام ) وزوجة لوط ( عليه السلام ) أن عاقبة الانسان لا تكون إلى خير حتى في أفضل الظروف إذا لم يتمتع بإرادة ثابتة وقوية.
  إذن ، الآيات المتقدّمة جواب داحض لمن يعتقد بالجبر ، وتدلُّ بوضوح على أن السبب الاول والأخير للسعادة والشقاء هو إرادة الانسان.

--------------------
(1) للمزيد راجع الاخلاق في القرآن 2 : 307 فما بعدها ( بالفارسية وللمؤلف كذلك ).

أمثال القرآن _ 509 _
المثل الثامن والخمسون : تصوير للمؤمنين والكافرين
  يقول الله تعالى في الآية 22 من سورة الملك : ( أفَمَنْ يُمْشي مُكِبّاً عَلَى وجْهِهِ أهْدَى أمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِراط مُسْتقيم ).

تصوير البحث
  الآية الكريمة ـ بقرينة ما سبقها وما لحقها ـ تصوير لحال المؤمنين والكافرين (1) ، ومثل جميل لهذه القافلة التي تبدأ من نقطة العدم ثم تلبس ثوب الوجود متّجهة نحو نقطة اللا نهاية ، أي ذات الله تعالى.
  وهي قافلة قد ينحرف البعض عنها في بداية حركتها أو في وسطها ، وبعض يستمر معها في حركتها المستقيمة حتى نهاية شوطها.
  نظرة إلى الآيات التي سبقت المثل
  الآيات الاولى لهذه السورة تحدَّثت عن المبدأ وصفات الله تعالى ، ودعت الانسان للتفكير في صفات الله وآياته ، ثم شرعت ببيان حال المؤمنين والكفار ، وفي المرحلة الثالثة ذكَّرت ببعض آيات الله ، من قبيل آية خلق نظام الكون العجيب ، وبخاصة السماوات والكواكب والارض ونعمها وخلق الطيور.

--------------------
(1) كما يرى ذلك تلميذ الامام علي ( عليه السلام ) القدير ( ابن عباس ) ، وعدَّها من أمثال القرآن ، التي وردت لتوصيف المؤمنين والكفار ، راجع التبيان 10 : 68.

أمثال القرآن _ 510 _
  ندرس هنا إحدى الآيات الإلهية ذات الصلة بآية المثل.
  ( أوَ لَمْ يَروْا إلى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ ).
  خلق الطير وطيرانه بأشكال مختلفة من آيات الله المنَّان.
  وإذا دقّق الانسان في خلق الطير وكيفية طيرانه العجيب أدرك قدرة الخالق صاحب كل قدرة في الكون ، وكل شيء يقابله هو كلا شيء ، ويمكن الوثوق به والاتكاء عليه كافضل ما يمكن الاتكاء عليه.
  يمكن للانسان أن يكتسب القدرة على الطيران بالتامُّل في ظرافة خلق الطير ، ويمكنه كذلك اختراع الآليات التي يمكن فتح السماوات بها وبلوغ محالٍّ من السماوات لم تبلغها الطيور.
  كلَّما زاد العلماء من دراساتهم على الطيور كلّما استطاعوا أكثر على رفع نواقص الطائرات.
  وعلى سبيل المثال كانت عجلات الطائرات مفتوحة عند الطيران ممَّا يسبب بعض المشاكل لها ، وبعد تدقيق العلماء في طيران الطير شاهدوا أنها تضمُّ رجليها عند الطيران ، وهذا هو الذي دعاهم إلى صناعة طائرات تضمُّ عجلاتها عند التحليق.
  وهذا ممَّا يدعو حقاً إلى تعظيم الخالق وتمجيده.
  ( صَافَّات وَيقْبَِضْنَ ).
  من خلال هذين الجملتين القصيرتين بيّن الله نوعين من طيران الطيور ، ففي الجملة الاولى بيَّن نوعاً مرموزاً من الطيران ، وهو الطيران بصفّ الأجنحة دون تحريكها ، كما نلاحظ في طيران بعض الطيور في طبقات السماء المرتفعة.
  والنوع الثاني هو الذي يتم من خلال تحريك الأجنحة ، كما هو ملحوظ في أكثر الطيور.
  وهناك نوع ثالث من الطيران ، وهو الذي يكون خليطاً من النوع الاول والثاني ، فتقبض أجنحتها تارة وتصفها تارة اُخرى.
  وهناك نوع رابع من الطيور ، وهي التي تحرّك أجنحتها لفترة ثم تضمّها وتتحرك في الجو على غرار الذي يريد الغطس ، كما نلحظ ذلك في العصافير.
  والخلاصة أن جميع الطيور تشترك في أصل الطيران ، لكن كلاً منها تطير بنحو خاص يتناسب وفيزلوجية جسمها والفضاء الذي تطير فيه ، والالتفات إلى نوعيات الطيران يزيد من ايمان الشخص ويقينه بخالقه القادر.

أمثال القرآن _ 511 _
  ( مَا يُمْسِكُهُنَّ إلاَّ الرّحْمنُ إنَّه بكُلِّ شَيء بَصِيرٌ ).
  من الذي خلّص هذه الطيور من جاذبية الأرض القوية التي تجذب حتى ذرات الغبار المتناهية في الصغر ؟ ومن منعها من السقوط على الأرض ؟
  يا لها من قدرة فائقة ساعدت هذه الطيور على التحليق والطيران كل يوم ، متغلبة بذلك على جاذبية الارض ؟!
  هناك بعض من الطيور المهاجرة التي تقطع بالطيران 18000 كيلو متراً في السنة ! من الذي أنقذها من جاذبية الأرض ؟ كيف يمكنها تهيئة الغذاء لنفسها في سفراتها الطويلة ؟ كيف أمكنها التعرّف على الاتجاه الصحيح ؟ (1) هل هناك قدرة بإمكانها فعل ذلك غير قدرة الله العالم والمحيط بكل شيء ؟
  مع الالتفات إلى ما تقدَّم من شرح مبسط للآيات التي سبقت آية المثل ، وبخاصة مسألة التأمّل في خلق الطيور ، نرجع إلى آية المثل لنبتَّ بشرحها وتفسيرها.
  الشرح والتفسير
  ( أفَمَنْ يَمْشِي مُكبّاً عَلَى وجْهِهِ أهْدَى ).
  تقسَّم الحيوانات من حيث الحركة والمشي إلى ثلاثة أقسام :
  الاول : مستقيمة القامة ، وهي التي تمشي على رجلين اثنين ، مثل الانسان .
  الثاني : ذوات الأربع ، وهي التي تمشي على أربع ، رجلين ويدين ، الثالث : الزواحف ، مثل الأفاعي.
  شبَّه الله الكفَّار في هذه الآية بالزواحف التي تزحف على بطنها.
  ( أمَّنْ يَمْشي سَوِيّاً عَلَى صِراط مُسْتقِيم ).
  كما شبّه المؤمنين بمستقيمي القامة الذين يمشون بنحو سوي وعلى طريق مستقيم.
  ومع هذا التشبيه كيف يمكن المقارنة بين من يمشي مستقيم القامة وسوياً وبين من يمشي زاحفاً على بطنه ؟ فمن هو أهدى منهما ؟

--------------------
(1) لمزيد معلومات في عجائب الطيور راجع الأمثل في ذيل الآية 79 من سورة النحل.

أمثال القرآن _ 512 _
  ترك الله الحكم والجواب على المقارنة إلى مخاطبي القرآن ، وحرّضهم على معرفة الاختلاف بين الاثنين.

مشاكل حركة الزواحف ومعايبها
  للزحف مشاكل متعدّدة :
  الاولى : تتحدّد عنده قدرة النظر ، والأخطار تهدّده دائماً ، ويكون عرضة للسقوط في واد أو الانحراف عن الطريق ، لأنه عاجز عن تحديد الأخطار وتشخيصها في وقتها.
  الثانية : سرعة الزحف قليلة جداً ، وقد تكون نسبتها إلى المشي العادي نسبة الواحد إلى العشرة.
  الثالثة : الزحف يتعب الانسان بسرعة ، هذا على فرض عدم مواجهة موانع في الطريق وعدم انحرافه عنه وعدم سقوطه في واد والزاحف يتوقف عن الحركة بسرعة ، لكون الزحف متعباً جداً.
  إذن ، الخطأ في تحديد الخطر وعدم القدرة الكافية للنظر وبطء الحركة والتعب المفرط يعطل الزاحف عن الاستمرار في الطريق ، وتعدُّ تلك الاُمور من معايب الزحف ومشكلاته.
  أما الذي يمشي مستقيم القامة فقابليته على الرؤية أكثر ويرصد الأخطار من بعيد ـ وبخاصة أنَّ أكثر حواسه واقعة في رأسه ـ ويحدّدها ويتّخذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، ولا ينحرف عن الطريق ، مضافاً إلى أنَّه يتمتع بالسرعة الكافية ولا يتعب عاجلاً ، فلا يتوقف.
  هل يتساوى هذان الاثنان ؟ بالطبع لا ، والذي يمشي مستقيم القامة أهدى لطريقه من الذي يمشي زاحفاً.
  المؤمن الذي يمشي سوياً ومستقيم القامة في الصراط المستقيم ونور إيمانه يضيء له الدرب أهدى من الكافر الزاحف الذي لا نور له يضيء دربه ولا سرعة ولا قابلية له لتحديد المخاطر ولا السير لفترة طويلة.
  هذا مضافاً إلى أن الكافر الزاحف لا قدرة له على إبصار آيات الله التي تقدَّمت الاشارة إليها في الآيات السابقة من السماوات والطيور وما شابه ، أمَّا الذي يمشي سوياً فله القابلية على

أمثال القرآن _ 513 _
  إبصار آيات الله جيداً ، فيتأمَّل فيها ويتدبّر ، ويدرك بذلك عظمة الله وقدرته أكثر ، فيخطو في طريق الهداية باستحكام واستقامة.
  خطاب الآية
  الإيمان ينبوع المحاسن
  تقدَّم أن الآية نزلت في توصيف المؤمنين والكفَّار ، وهي ليست الوحيدة التي وصفت الفريقين بل تقدمت آيات وكذلك روايات في توصيفهما.
  لماذا كل هذا الحديث والتأكيد على الايمان وما يقابله ، أي الكفر ؟
  الحقيقة هي أن الايمان والتقوى مصدر الخيرات والبركات ، وينبغي القول دون مبالغة : كلّ شيء يتحقق في ظل الايمان والتقوى من هو المؤمن ؟
  إذا كان الايمان قلة عالية وارتقاؤها يُعدُّ منشأً لجميع المحاسن وإذا كان ثوباً ثميناً فينبغي معرفة من هو الجدير بهذا الثواب الثمين والصعود إلى هذه القلة المليئة بالافتخارات.
  وصف الرسول ( صلى الله عليه وآله ) المؤمن في ثلاث جمل قصيرة لكنَّها ذات معنى عميق ، حيث قال : ( المؤمن كيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ ) (1) ، ومن خلال هذه الصفات الثلاث يجتاز المخاطر ، أمَّا غير المؤمن فكالزواحف لا يتمتع بفطنة ولا كياسة ولا حذر ، ويقع في المصيدة ببساطة ، وانسان من هذا القبيل يظن نفسه كيّساً ، وليس كذلك ، وبذلك يتلف رأس ماله الأعظم ، وهو عمره ، ونهايته الهلاك دون جدوى .

مراتب الايمان
  كتاب الزرّاد : قال : قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : نخشى أن لا نكون مؤمنين.
  قال : ( ولِمَ ذاك ) ؟

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 291 ، الحديث 1450.