أتباعها يعيشون الجهل لكي يتيسَّر لها الاحتفاظ بهم.
  جاء في رواية عن الامام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الثواب بقدر العقل ) (1) ، وبناءً على هذا الحديث لو أنَّ عدداً من الناس صلوا ركعتين فانهم لا ينالون ثواباً متساوياً ، فقد يعادل ثواب صلاة أحدهم مائة ألف ضعف ثواب صلاة الآخر ، بل قد لا يصل ثواب صلاة أحدهم مستوى ثواب ركعتين ، وذلك لأن العقل مُعامِل لثواب الأعمال.
  خطابات الآية
  1 ـ الله مالك لكلِّ ضرر ونفع ، ولا يؤثر شيء دون إذنه ، وحتى النار لا تحرق دون إذنه ، ولهذا لم تحرق نار نمرود إبراهيم ( عليه السلام ) ولم تضرّه أقلّ ضرر ، لأن الله لم يأذن لها بذلك.
  السكين لا تقطع دون إذن الله ، ولهذا لم تذبح إسماعيل رغم ظرافة رقبته ورغم قوّة إبراهيم ( عليه السلام ) ، وذلك رغم أن الله أمر الخليل بالذبح إلاَّ أنَّه لم يأذن للسكين بالقطع ، وهذا ما يُدعى بالتوحيد في الأفعال.
  2 ـ تقدَّم أن الله يستخدم بعض عقائد المشركين ويوظّفها لغرض إبطال عقائدهم الاُخرى ، رغم أن العقائد المستخدمة غير صحيحة.
  وقد استخدم القرآن هذا المنهج في آية هذا المثل ، وأثبت بطلان عقائدهم من خلال عقائدهم ذاتها ، وقال : إذا كنتم غير مستعدين لتشريك عبيدكم بأموالكم وممتلكاتكم فكيف لكم أن تجعلوا مخلوقات الله شركاء له ؟ بالطبع لا يعني ذلك أنهم لو استعدوا لهذه الشراكة جاز جعل شريك لله.
  وقد استخدم هذا المنهج في موارد اُخرى كذلك ، على سبيل المثال يعتقد المشركون بأن الملائكة بنات الله ، مع أنَّهم يخجلون من تبشيرهم بولادة بنت لهم ، كما نقرأ ذلك في الآية 57 ـ 59 من سورة النحل : ( وَيَجْعَلُون للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشتَهُونَ وإذا بُشِّرَ أحَدُهُمْ بالاُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسوَداً وَهُو كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرِ بِهِ أيُمْسِكُهُ عَلَى هُون أمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ألا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ).

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 2786 ، الحديث 13042.

أمثال القرآن _ 406 _

  ألف عبد من كد يده (1) .
  كما أن الامام الحسن ( عليه السلام ) حرَّر إحدى جواريه بداعي أنَّها أهدت له زهرة (2).
  المرحلة الثانية : الحدّ من مصادر التعبيد ، فالإسلام منع ترقيق الانسان بسبب ديونه أو سرقته ، كما منع بيع الأحرار على من غصبهم ، كما نهى بشدّة عن بيع الأولاد من قبل والديهم بسبب الفقر.
  المرحلة الثالثة : اتخاذ الإجراءات العملية لتحرير العبيد ، فقد نفّذ الاسلام إجراءات عملية كثيرة في هذا المجال ، من قبيل فتح مجال لهذا الأمر في باب الزكاة ، وجعل كفارة بعض الذنوب تحرير رقبة ، كما منع بيع الجارية ذات الولد من مولاها ، لكي تتحرَّر من إرث ابنها بعد وفاة مولاها ، كما سمح للعبيد الاستئذان من المولى للعمل ولتهيئة المبلغ الكفيل لشراء النفس وتحريرها من مولاها.
  سؤال : لماذا لم يحرِّر الاسلام العبيد دفعة واحدة ، ولم يعلن حريتهم في وقت واحد ؟
  الجواب : لم يكن ذلك لصالح العبيد ، لأنهم كانوا قد قدموا الحجاز من بلاد بعيدة ، ولم يكن لهم في الحجاز أحد ، كما لم يكن لهم ثروة ، ولو تركوا أحراراً آنذاك لانسابوا في الشوارع والأزقة ، ولشكّلوا كارثة ، ولمات بعضهم من الجوع ، أمَّا لو تحرّروا بنحو تدريجي لاستقطبهم المجتمع دون مشكلة.
  الثالث : غيَّر الاسلام مفهوم العبودية ، ونهى عن قتل العبيد وتعذيبهم وإيذاءهم ، واعتبرهم كباقي الناس ، ومنحهم نفس الشخصية التي يتمتّع بها باقي البشر ، ولهذا كان الامام علي ( عليه السلام ) يشتري ثوبين ويعطي واحداً منهما لقنبر غَلامه ، وفي رواية أنه اشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين وطلب من قنبر أن يأخذ الذي بثلاثة دراهم (3).
  وبهذا لا يبقى العبد عبداً بل يصبح سيداً ، بل أكثر من ذلك حيث سمح الاسلام للعبد أن يصبح إمام جماعة وقاضياً وآمراً عسكرياً.

--------------------
(1) وسائل الشيعة ج 16 ، أبواب العتق ، الباب 1 ، الحديث 6.
(2) مسند الامام المجتبى ( عليه السلام ) : 702.
(3) بحار الأنوار 40 : 324.

أمثال القرآن _ 407 _
  وجاء في سيرة الامام السجاد ( عليه السلام ) : كان له عبد كسول وكثير النوم ، فدخل الامام المنزل يوماً ورآه نائماً وقد عرق كثيراً من شدَّة الحر فأخذ يروّح له بالمروحة ، وبعد ما استراح استيقظ ، فقال له الامام : استرح لكن عليك أداء وظيفتك تجاهنا كذلك.
  للمزيد راجع الأمثل (1) ذيل تفسير سورة محمّد ( صلى الله عليه وآله ).

--------------------
(1) الأمثل 16 : 308 فما بعدها.

أمثال القرآن _ 409 _
المثل الثالث والأربعون : انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة
  يقول الله تعالى في الآيات 13 ـ 30 من سورة يس : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِث فَقَالُوا إِنَّا إلَيْكُم مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيء إِن أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لئِن لَمْ تَنتَهُوا لنَرْجُمَنكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَل أَنتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَالِيَ لاَ أَعْبُدُ الذِي فَطَرَنِي وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً اِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلال مُّبِين * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُند مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأتِيهِم مِن رَسُول إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ).

تصوير البحث
  المثل المزبور يرتبط بوضع المسلمين في مكة ، فقد كانوا فئة قليلة ، وكان المشركون يشكّلون الأكثرية ، والقرآن استهدف من بيانه هذا المثل إعطاء المسلمين وعداً بالنصر

أمثال القرآن _ 410 _
  وتسكين قلوبهم وطمئنتها من خلال نقل قصص ذات صلة.
  هذا من جانب ، ومن جانب آخر هدَّد فئة الأكثرية من المشركين وحذّرهم من الاغترار بكثرة نفوسهم وقدرتهم فقد تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة.
  يمكن النظر إلى آية المثل من زاويتين ، وفقاً لإحداهما تكون الآية تشجيعاً وطمئنة للأقلية ، ووفقاً لثانيهما تكون الآية تهديداً لأعداء الاسلام ومشركي مكة.
  الشرح والتفسير
  تذيّلت هذه الآيات بأبحاث مختلفة في الروايات والتفاسير ، نأتي بملخّصها هنا ، لكن قبل شرح الآيات نوضّح مفردة ( قرية ) و ( أصحاب القرية ).
  القرية لغة تعني جمع الناس أو المصر الجامع ، ولهذا أطلق القرآن هذه المفردة على مكة (1) رغم كونها مدينة كبيرة آنذاك ، كما استخدمت هذه المفردة في مصر (2) ( البلد العربي المعروف ) ، والقرية تُطلق على كل تجمّع للناس سواء كان ذلك في ريف أو مدينة ، وسواء في المدينة الكبيرة أو الصغيرة أو بلد ، فهي تصدق على كل تجمُّع سكاني انساني ، لكن المعنى المراد في الآية هو الاول ، أي تجمُّع الناس.
  والمراد من أصحاب القرية هو أهالي انطاكية ، وهي مدينة تقع في جنوب شرقي تركيا على ضفاف البحر الأبيض المتوسط ، وقد كانت جزءً من الشامات في السابق ، أي جزءً من الروم الشرقية ، ووقعت بأيدي الفرنسيين في الحرب العالمية الاولى ، وقد أراد الفرنسيون إرجاعها إلى المسلمين آنذاك ، لكنهم وجدوا أغلب أهاليها من المسيحين واحتملوا إيذاءهم من قبل المسيحيين فأعطوها لتركيا.
  كانت انطاكية قبل ظهور المسيح بلداً عامراً ومركزاً لتجمُّع المشركين وعبدة الأوثان ، وبعد بعثته أرسل إليها اثنين من حوارييه يُدعيان بولص وبرنابا (3).

--------------------
(1) النحل : 112.
(2) يوسف : 82.
(3) بولص اسم أحد الأناجيل الرائجة بين المسيحيين ، وبرنابا اسم انجيل آخر أقل رواجاً من سابقه ، لكن فيه مطالب صريحة من نبوّة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، ويبدو لأجل ذلك حاولوا دون انتشاره بين المسيحيين.

أمثال القرآن _ 411 _
  التقى المبعوثان قرب انطاكية راعياً كبير السنّ يُدعى ( حبيب النجار ) ، فحصل حوار بينهم ، سألهما حبيب النجار : من أنتما ومن أين جئتما ؟ فقالا : نحن مبعوثا السيد المسيح رسول الله عيسى ، بُعث مؤخراً ، جئنا انطاكية لدعوة أهلها إلى عبادة الله ودين عيسى ( عليه السلام ).
  قال الشيخ : هذا إدعاء كبير ، ويمكن لكلِّ أحد أن يدعيه ، فهل لكما دليل ومعجزة لاثبات كلامكما ؟
  قالا : نعم ، نشفي الذين استعصت أمراضهم.
  قال الشيخ : لي مريض قعيد المنزل منذ سنوات ، فإذا عالجتموه كنت أول من آمن بكم.
  قصد المبعوثان المريض وعالجاه ، وبذلك آمن حبيب النجار بالدين الجديد.
  ثمّ دخلا المدينة ودعيا الناس إلى الدين الجديد ، فآمن المشركون بعد ما رأوا معاجز منهما.
  وانتشر خبرهما وشاع في انطاكية كلها ، فكان الناس يقصدونها أفواجاً أفواجاً ويؤمنون بهما.
  غضب من هذا التحوّل أولئك الذين كانوا يرون مصالحهم في الاستمرار على عبادة الأصنام ، فهاجموا المبعوثين وانهالوا عليهما بالضرب الشديد.
  أحاط الخطر ببولص وبرنابا ، فقصدا ملك أنطاكية يشتكيان عنده حالهما ، لكن هؤلاء منعوهما من لقائه.
  وبعد التفكير في الموضوع قرّرا الانتظار جنب جدار القصر ويلفتا نظر الملك بالتكبير ( الله أكبر ) عندما يخرج ، باعتبار كون التكبير عبارة جديدة ، وعندها يلتقيان به ويطرحان شكواهما عنده.
  بعد مدَّة خرج الملك من قصره ، فكبَّرا ، فسمع تكبيرهما وانتبه لهما ، فسأل حواشيه : مَن هما ؟ فأجابوه : إنَّهما انتفضا على أصنامنا وأهانوها ، فأمر بسجنهما دون أن يسمع كلامهما.
  بلغ عيسى ( عليه السلام ) خبر اعتقالهما ، لكن هذا الخبر لم يثنه عن عزمه ولم يثبط عزيمته في الدعوة إلى التوحيد ، فكان يعلم بأن التبليغ لا يتمُّ إلاَّ بمبالغ طائلة وثمن غال وبشهداء ومعوّقين واسرى ، وينبغي تحمُّل هذه كلها لأجل القيام بهذه المهمَّة ، فأمر شخصاً آخر لاستمرار عملية التبليغ ، وهو ( شمعون الصفا ) رئيس الحواريين.

أمثال القرآن _ 412 _
  بعد دخول شمعون المدينة أدرك ما كان قد أوجده الدين الجديد من ضجيج وصدى ، فما رأى المصلحة في التبليغ له بنحو مباشر بل في التقرُّب إلى الملك مستهدفاً النقطة الأساسية للخطر.
  ولأجل ذلك أوجد تدريجياً علاقة صداقة مع بعض شخصيات البلاط ، وباعتبار حسن بيانه وفكره وأخلاقه كسب ثقة البلاط بسرعة ، فعرّفوه إلى الملك ، وبعد فترة قصيرة استطاع زرع محبته في قلب الملك وازداد شأنه عند الملك شيئاً فشيئاً.
  مضت أيام وهو يترصد اليوم والفرصة المناسبة لإنقاذ زملائه وللقيام بعملية تبليغ الدين الجديد.
  وفي يوم انفتح الكلام عن سجينين يدعيان بولص وبرنابا ، فسأل شمعون الملك : ما ذنبهما ؟ فحكى الملك قصتهما بالتفصيل ، فسأله شمعون : وهل حقَّقت في ذنبهما أم لم تحقق ؟ فأجاب الملك : عندما شاهدنا نشاطهما غضبنا عليهما وأودعناهما السجن دون أن نحقِّق في أمرهما.
  قال شمعون : كان من الأفضل أن تحقِّق في أمرهما ، واسمح لهما حالياً أن يأتيا ليتم التحقيق.
  فوافق الملك على ذلك وجيء بهما إلى هناك.
  لم يعرّف شمعون نفسه ، وباشرهما بالسؤال : لماذا سجنوكما ؟ وما جنايتكما ؟
  قالا : نحن مبعوثا الرسول عيسى ( عليه السلام ) اُمرنا أن ندعو الناس إلى التوحيد.
  قال شمعون : وما دليلكما على ما تقولانه ؟ وهل لكما معجزة تثبت ذلك ؟ قالا : نعم ، نعالج المرضى المستصعب علاجهم بإذن الله.
  أمر الملك للاتيان بمريض استحال علاجه فعالجاه ، ممَّا آثار تعجّب الملك وحواشيه.
  فسألهما شمعون : وهل لكما معجزة اُخرى ؟
  قالا : نحيي الموتى بإذن الله ، ففعلا ذلك أمام الملك.
  عندئذ حذّر شمعون الملك من فقدانه التاج والعرش إذا لم يستسلم لمبعوثي عيسى ( عليه السلام ) ، لأن آياتهما صحيحة وتثبت كونهما من مبعوثي رسول بعثه الله.
  وبهذه الخطة الدقيقة التي رسمها شمعون أسلم الملك بعدما اتّضحت له الحقيقة ، وبعد ما بلغ الناس اعتناق الملك الدين الجديد قدموا أفواجاً أفواجاً معلنين اعتناقهم الدين الجديد.
  اعتنقت انطاكية جميعها هذا الدين الجديد إثر مساعي هؤلاء المبلغين الثلاثة ، وإثر تحمّلهم

أمثال القرآن _ 413 _
  المشاق والمتاعب والسجن والتخطيط الصحيح وتغيير اسلوب الدعوة في الوقت المناسب.
  وفقاً لهذا التفسير ، فإنَّ الآيات الثمان عشرة لهذا المثل عبارة عن طمئنة وتبشير للأقلية المسلمة المتواجدة في مكة ، فهي تخاطبهم : أيها المسلمون الذين تعيشون تحت وطأة الضغط والتعذيب ، لا تخافوا قلَّة عددكم ، فإنكم ستنتصرون على الأعداء الأكثرية في مكة إذا استقمتم وتحملتم المصاعب وواجهتهم المشاكل والمصائب وخططتم تخطيطاً صحيحاً واستخدمتم الاسلوب الأنجع في الإعلام والتبليغ ، رغم كثرة أعدائكم وتفوّقهم عليكم بالكمية.
  وفقاً لنقل وحكاية اُخرى لهذه القصة ، شهدت عليه بعض الآيات حسب الظاهر ، فإنَّ رسل عيسى ( عليه السلام ) قتلوا بعدما بتّوا بالتبليغ هناك ولم يؤمن الملك ولا الناس بهذا الدين الجديد إلاَّ البعض ، فابتلوا بعذاب الله ، وكان من نوع الصاعقة السماوية ، أشارت لها الآية 29 من سورة يس : ( إنْ كانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإذَا هُمْ خامِدُونَ ).
  وفقاً لهذا التفسير ، فإن الآيات المتقدِّمة تهديداً للأكثرية المشركة في مكة ، وتخاطبهم : لا تغتروا بكثرتكم ، فلا حاجة للكثرة والعدد الكبير لتدميركم ، ويكفيكم صيحة الله لتوجد زلزال تحترقون به جميعكم.
  إذن ، للآيات المزبورة تفسيران ، أحدهما : كونها طمئنة للمؤمنين ، وثانيهما : كونها تهديداً للمشركين.
  خطابات الآيات
  للآيات المزبورة خطابات كثيرة نقتنع بثلاثة منها :
  1 ـ لا تخافوا قلَّة عددكم
  لا ينبغي للمؤمنين أن يخافوا الأعداء لقلَّة عددهم ، وفي هذا المضمار يقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( لا تستوحشوا في طريق الحق لقلّة أهله ) (1) ، فإن القلَّة عند الله كثرة ، كما جاء في الآية الكريمة :

--------------------
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 201.

أمثال القرآن _ 414 _
  ( كَمْ من فِئة قَلِيلَة غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بإذْنِ الله ) (1).
  على الشباب الذين يهاجرون للدول الغربية لغرض الدراسة أن لا يخافوا عندما يجدون أنفسهم وحيدين في عبادة الله وطاعته بين مجموعة كبيرة من عبدة الأهواء ، ولا ينبغي لهم أن ييأسوا من هذا الوضع وينجرفوا مع الكثرة.
  أيها الموظف المتدين في الدائرة ، الذي تجد نفسك الوحيد الذي لا تسمح لنفسك أخذ الرشوة ، عليك أن لا تخاف من انفرادك ، واسعَ لأن تنهى زملائك عن المنكر وتأمرهم بالمعروف ، وإذا صبرت واستقمت في هذا الطريق فسيلتحق بك الآخرون.
  2 ـ الاتحاد سرّ الانتصار
  خطاب الآية الآخر هو الاتحاد والوفاق ، فقد انتصر الحواريون عندما تكاتفوا ، والتكاتف هو سر انتصارهم وكل انتصار يحصل في مكان أو زمان ما ، وهو أمر نحتاجه في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر ، وكل ما يدعو للتفرقة هو من الشيطان ، لأن الفرقة منه.
  3 ـ التخطيط في التبليغ
  ينبغي بالاعلام والتبليغ أن يتم وفق خطة ومنهج مُعد ، فعلى حواريي عيسى الأولين أن يدعوا الناس إلى التوحيد علناً ، وعندما ابتلوا بالسجن كان على شمعون أن يسلك المنهج غير المباشر في التبليغ لكي تحصل النتيجة المطلوبة.
  هذا هو شأننا كذلك ، فلا يمكننا النجاح في العمل مع وجود عدوٍّ مكّار ومحتال إلاَّ أن نسير وفق منهج وخطة مرسومة ، وهل يمكن مواجهة عدوٍّ خطط للاستعمار خلال عشرات السنين المقبلة دون أن يكون لنا خطط وبرمجة مناسبة ؟

--------------------
(1) البقرة : 249.

أمثال القرآن _ 415 _
المثل الرابع والأربعون : الشرك والتوحيد
  يقول الله تعالى في الآية 29 من سورة الزمر : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتشَاكِسونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُل هَلْ يَستَوِيانِ مَثَلاً الحَمْدُ للهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ).

تصوير البحث
  هذا المثل ككثير من أمثال القرآن يدور حول محور الشرك والتوحيد. شبِّه المشرك هنا بالعبد الذي يملكه أرباب متعددون ومختلفون فيما بينهم كثيراً ، كلٌّ منهم يأمر العبد بأمر مختلف ، ممَّا يسبب حيرة العبد ، كما شبِّه الموحِّد بالعبد الذي له مولى واحد ، وكل اُموره تجري وفق برنامج ومنهج محدد.

التوحيد أساس الاُصول والفروع
  الكثير من المسلمين يتصوَّر أن التوحيد أحد اُصول الدين فحسب ، وأنَّه بمثابة باقي الاصول الخمسة من العدالة والنبوة والامامة والمعاد ، كما أن فروع الدين عشر ، مع أنَّ التوحيد يُعدُّ الأساس لاُصول الدين وفروعه ، وليس أصلاً في طول باقي الاصول ، والاسلام طرح أصل التوحيد في مجالات مختلفة ، نشير إلى بعض النماذج.

أمثال القرآن _ 416 _
  الاول : نعتقد أن خالق الكون واحد ، ( اللهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القيُّومُ ) (1).
  الثاني : الاسلام يقول بنوع خاص من التوحيد في حق الرسل والأنبياء ، ولا يفرّق بينهم ويكنُّ الاحترام لجميعهم ، ( لا نُفرِّقُ بَيْنَ أحَد من رُسُلِه ) (2) ، والفرق في رسالاتهم ودينهم ، فلكلٍّ دين خاص بزمانه وظروفه المكانية والزمانية ، ويُعدُّ حقاً في ذلك الزمان والمكان ، فدين موسى كان دين الحق في زمانه ، ودين عيسى كان دين الحق في زمانه وعصره ، وهي من قبيل مراحل التعليم التي تبدأ بالابتدائية وتنتهي بالجامعة وتمر بالمتوسطة والاعدادية ، أمَّا الاسلام فهو دين إلى آخر الزمان وقيام القيامة ، ويمكن تنفيذه والعمل به في كل عصر ، لأن الرسول محمّد ( صلى الله عليه وآله ) خاتم الرسل والانبياء.
  إذن يعتقد المسلمون ـ وفقاً للآية المتقدمة ـ بنوع خاص من التوحيد في حق الرسل والأنبياء.
  الثالث : يمكن تصوّر التوحيد في المعاد كذلك ، بمعنى أنَّ الناس جميعاً منذ بداية خلق الانسان وحتى آخر انسان سيجتمعون في يوم القيامة للحساب ، وقد أشارت الآية الكريمة 49 ـ 50 من سورة الواقعة إلى هذا المطلب ، حيث قالت : ( قُلْ إنَّ الأوَّلين والآخرِين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقاتِ يَوم مَعْلُوم ).
  إذن ، هناك نوع توحيد يمكن مشاهدته في يوم القيامة.
  الرابع : الناس والبشر مشمولون بنوع خاص من التوحيد ، لأنهم جميعاً من أب واحد واُمّ واحدة ، وكلهم سواسية عند الله تعالى ولا رجحان لأحدهم على الآخر إلاَّ بالتقوى. وقد أشار القرآن إلى هذا الصنف من التوحيد في الآية 13 من سورة الحجرات : ( يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر واُنثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لَتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).
  كما قال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( المؤمنون تتكافئ دماؤهُم ) (3) ، ولهذا تتساوى دية المسلمين سواء

--------------------
(1) البقرة : 255.
(2) البقرة : 285.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 29 ، الحديث 1405.

أمثال القرآن _ 417 _
  الصغير الذي لم يمضِ من عمره إلاَّ عاماً منهم والكبير الذي أتمَّ مراحل دراسية عُليا.
  الخامس : القانون والدين الإلهي واحد ، ولا يُقبل من الانسان إلاَّ ديناً واحداً ، وهو الاسلام : ( إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسلامُ ) (1).
  السادس : يتَّحد المسلمون في القبلة التي يتجهون نحوها في الصلاة.
  السابع : كتاب المسلمين السماوي واحد ، وهم جميعاً تبع لكتاب واحد ، هو القرآن.
  الثامن : على المجتمع الاسلامي أن يكون متحداً ليشكِّل اُمَّة واحدة.
  يوجد حالياً أكثر من خمسين دولة اسلامية تفرِّقها الحدود السياسية والجغرافية ، ومن وجهه نظر اسلامية لا اعتبار بهذه الحدود ، والمسلمون جميعهم إخوة وسواسية ، وفي هذا المضمار وردت الرواية التالية : ( المؤمن أخو المؤمن ) (2).
  وملخص الكلام أنَّ الدعوة للتوحيد والوحدة نعثر عليها في كل مكان ، ولهذا لا يُعدُّ التوحيد أصلاً من اُصول الدين فحسب بل أساساً لاُصول الدين وفروعه.
  وهذا هو سبب تعدّد وكثرة الأمثال القرآنية التي تعرَّضت لهذا الموضوع.
  الشرح والتفسير
  ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشَاكِسُونَ ).
  مثَّل الله المشرك بالعبد الذي يملكه عدَّة أرباب متشاكسين وغير متفقين.
  مادة ( شَكَس ) تعني الاختلاف والنزاع وسوء الخلق وسوء التعامل والمشاجرة ، وأرباب هذا العبد متشاكسون ومختلفون دائماً ، ويأمر كلٌّ منهم العبد بأمر يناسبه ، فيتحيَّر العبد ، لأن أحدهم يقول : إذهب إلى المكان الفلاني والآخر يقول له : لا تذهب ، أو أحدهم يقول : استرح اليوم ، والآخر يقول : عليك العمل اليوم وبذل جهد أكثر ، أو أحدهم يقول : سافر اليوم ، والآخر يقول : لا تسافر ، وهكذا ...

--------------------
(1) آل عمران : 19.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 291 ، الحديث 1413.

أمثال القرآن _ 418 _
  هذا من جانب ، ومن جانب فإنَّه في حيرة من حيث مؤونته الشخصية واليومية ، لأن كلاً من الأرباب يلقي مسؤولية تأمين احتياجاته على الآخر.
  وبذلك تختل حياته ويظل في حيرة من أمره.
  مثل المشركين كمثل هذا العبد ، لأنهم جعلوا حياتهم رهن هذه الأصنام فأصبحوا جاهلين بأهدافهم ، وفي حيرة من أمرهم ولا يعلمون بأيٍّ يتعلّقون ، فتتعلق قلوبهم بشيء يوماً ما وفي يوم آخر تتعلق قلوبهم بشيء آخر.
  شأنهم شأن غير الموفقين والفاشلين الذين يبرمون عقدة الصداقة مع أحد في يوم ويفتحونها في يوم آخر ليبرموها مع آخر ، ويستمرون بنهجهم هذا.
  أو من قبيل اولئك الذين يميلون مع الريح اين ما مالت وينضمّون إلى راية في يوم ويلجؤون إلى اُخرى في يوم آخر ، فاليوم تهوى قلوبهم إلى الجاه والمقام ، وغداً إلى الثروة وبعد غد إلى الشهرة ، ولا ينتبهون إلى ما هم عليه إلاَّ وقد انتهت أيام عمرهم.
  ( رَجُلاً سَلَماً لِرَجُل ).
  أمَّا مثل الموحد فمثل العبد الذي له أرباب واحد ، أمره واضح ، وهو غير متحيّر ، ومطيع لسيده ومسلّم أمره إليه ، ولا مشكلة له من حيث تأمين احتياجاته.
  نعم ، قلوب الموحّدين تعلّقت بمعبود واحد ، فهو ملجأهم وناصرهم ومعينهم ومرادهم وملبيّ حاجاتهم ، ولا يرجون أحداً غيره ، ولا إبهام في وظائفهم وما ينبغي عليهم فعله ، فلا يعيشون حيرة ابداً.
  أيها الناس ، كونوا في ظل معبود كهذا ، ونالوا من نوره الرباني ، وأنيروا طريقكم به ، فإن العزّة له والقدرة لديه والذلة بيده ، ولو أرادت الدنيا بأكملها شيئاً وهو أراد شيئاً آخر فلا تتحقق إلاَّ إرادته.
  كان فرعون قد قرَّر قتل موسى وهو في بطن اُمِّه ، ووظّف لأجل ذلك جميع امكانياته ، فبقر بطون الكثير من الحوامل ، وقتل الكثير من الأطفال ، وارتكب جرائم كثيرة ، لكنه ما توفّق لتحقيق رغبته وإرادته ، لأن الله كان قد أراد شيئاً آخر ، فتربَّى موسى ( عليه السلام ) في حضن فرعون نفسه ، إذن علينا التعلق بربٍّ كهذا.
  ( الحَمْدُ للهِ ).

أمثال القرآن _ 419 _
  الحمد خاص له تعالى ومنحصر به ، لأنّه خالق ورازق وحافظ وهادي ، وما من شيء إلاَّ منه عزّ وجلّ.
  ( بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ).
  المشركون لا يعلمون شيئاً ، لأن الطغيان والشهوات حالت دون إدراك الحقائق.
  خطابات الآية
  1 ـ وحدة مصدر القرارات
  أول خطاب للآية هو أن يكون مصدر صناعة القرارات عند المشاكل الاجتماعية واحداً ، فلو تعددت مصادر صناعة القرار في المجتمع ولم تتَّحد أو تتمركز أصبح المجتمع بمثابة العبد الذي تعددت أربابه وظلَّ متحيّراً ، وبذلك يفقد المجتمع قواه ، وسوف تستهلك طاقاته في النزاعات التي تحصل بين التكتلات ، وبعد فترة ينسى المجتمع قضاياه الأساسية.
  2 ـ علي ( عليه السلام ) مصداق كامل لآية المثل
  المصداق الكامل والأتم لهذه الآية التي وردت في العبد ، الذي لا مولى له إلا واحد ، ولا يتّبع أحداً سواه ويتوكل عليه ، هو مولى الموحدين وأمير المؤمنين ( عليه السلام ).
  في هذا المضمار ننقل روايتين ، احدهما وردت عن طريق أهل السنة ، والثانية وردت في مصادر الشيعة :
  1 ـ ينقل أبو القاسم الحسكاني في ( شواهد التنزيل ) ، الذي يجمع شأن نزول الآيات ، حديثاً عن الامام علي ( عليه السلام ) في ذيل آية المثل يقول فيه : ( أنا ذاك الرجل السلم لرسول الله ).
  نعم ، الامام علي ( عليه السلام ) سلَّم أمره إلى رسول الله واجتنب عن اتخاذ موالي متعددين ، وهذا ليس ادعاءً ، بل التاريخ يشهد له بذلك ، فقد كان عاشقاً للرسول ومطيعاً له وذاباً عنه في أخطر اللحظات.
  2 ـ يقول المفسّر الشيعي الكبير العياشي في تفسيره وفي ذيل الآية المزبورة : ( الرجل السلم حقاً عليٌّ وشيعته ) .

أمثال القرآن _ 420 _
  كان قلب علي مفعماً بحب الرسول ، وقلوب الشيعة مفعمة بحب علي ، كانت حياة علي إلهاماً من حياة الرسول ، وحياة الشيعة إلهاماً من حياة علي ، وعلي ضحَّى بنفسه في سبيل الرسول ، والشيعة يضحّون بأنفسهم في سبيل علي المرتضى.
  تكميلاً للبحث نذكر نموذجين من تضيحات الامام علي ( عليه السلام ) في سبيل الرسول ( صلى الله عليه وآله ).
  الف : جاء في الآية 207 من سورة البقرة : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ واللهُ رَؤوفٌ بالعِبَادِ ).
  العلاَّمة الأميني ( رحمه الله ) من عشاق أمير المؤمنين ومن شيعته ينقل في الجزء الثاني من كتابه القيِّم ( الغدير ) تذييلاً للآية عشر مصادر معروفة لأهل السنة يعترفُون فيها بنزول الآية في شأن علي ( عليه السلام ) ، ويدَّعي التواتر في الروايات المنقولة هنا.
  جاء في روايات هذا الباب : ( كمن المتآمرون حول بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) محدقين به من كلِّ جانب ، ومكثوا يرقبون ريثما يغلب عليه النوم لينهالوا عليه بضرباتهم ، لكنَّ الحق تعالى أطلع رسوله على مكرهم ، ونزل جبرئيل بقوله عزّ وجلّ : ( وَإذْ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أْوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمكُرُون وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ ) (1).
  وأتاه الأمر بأن ينام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في فراشه وأن يغادر مكة فأخبر علياً ( عليه السلام ) أن المشركين آتون في طلبه الليلة ، وأنه أمر بالرحيل عن مكة إلى غار ثور ، وأمر بأن يخلّفه في فراشه ، كي لا يعلم المشركون برحيله ، فسأله ( عليه السلام ) : وهل ستكتب لك السلامة ؟ قال : أجل ، قال : حبّاً وكرامة ، ثم سجد لله شاكراً ، وكانت تلك أول سجدة شكر في هذه الاُمة ، ثمّ رفع رأسه وقال : اذهب أينما أمرت روحي لك الفداء ، ثمّ احتضنه ( صلى الله عليه وآله ) وبكى ، ثمّ استودعه الله ، وأخذ جبرئيل بيده وخرج به من البيت وهو يقرأ : ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَينَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ) (2).

--------------------
(1) الأنفال : 30.
(2) يس : 9.

أمثال القرآن _ 421 _
  فلمّا تقاطروا إلى البيت عند الصبح وقف لهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) زاعقاً بهم ، فسألوه : أين محمد ؟ فأجاب : وهل أودعتموه عندي ؟ لقد خرج ... ) (1).
  وبعدما دار نقاش بين الإمام وأبي جهل ، قال الأخير : لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد ، وإلاَّ فما منعه أن يبيت في موضعه وإن كان ربّه يمنع عنه كما يزعم ؟
  فقال علي ( عليه السلام ) : ( ألي تقول هذا يا أبا جهل ؟ بل الله قد أعطاني من العقل ما لو قسّم على جميع حمقاء الدنيا ومجانينها لصاروا به عقلاء ومن القوّة ما لو قسّم على جميع ضعفاء الدنيا لصاروا به أقوياء ، ومن الشجاعة ما لو قسّم على جميع جبناء الدنيا لصاروا به شجعاناً ... ) (2).
  باء : فرَّ المسلمون في معركة اُحد عندما واجهوا الخسارة ، لكن عليّاً بقي يدافع عن الرسول ويصدّ كل ضربة توجَّه إليه ، فكانت النتيجة 90 جرحاً ، وبعد انتهاء المعركة بعث الرسول بطبيبين إلى علي ، لكنهم عجزوا عن معالجته ، وكلما خاطوا جرحاً انفتق جرح آخر لتقاربها.
  ثم جاء علي إلى الرسول قائلاً له : استشهد في المعركة من استشهد من أبطال الاسلام لكن الشهادة حيزت عنّي وشق ذلك عليَّ.
  فقال له الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( أبشر فانَّ الشهادة من ورائك ) (3).
  وعندما ضربه عبدالرحمن بن ملجم تذكّر ما بشره به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الشهادة والقتل في سبيل الله فصاح بصوت عال : ( فُزْتُ وربِّ الكعبة ) (4).
  النتيجة أن علياً ( عليه السلام ) أثبت حبّه الوافر للرسول وتضحيته في هذا السبيل ، كما اتّضح أن الاسلام كأفضل دين وأكمله لم يصلنا ببساطة وسهولة لكي نفقده كذلك ، بل علينا الحفاظ والدفاع عنه بأثمن ما عندنا ونضحّي بالغالي والرخيص في هذا السبيل.

--------------------
(1) منتهى الآمال 1 : 80.
(2) بحار الانوار 19 : 83.
(3) بحار الأنوار 32 : 241 ، و41 : 7.
(4) بحار الأنوار 41 : 2.

أمثال القرآن _ 423 _
المثل الخامس والأربعون : المسيح عيسى ( عليه السلام )
  الآيات 57 إلى 59 من سورة الزخرف تشكّل مثلنا الخامس والأربعين ، حيث جاء فيها : ( ولَّما ضُرِبَ ابنُ مَرْيَم مَثلاً إذا قَومُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ وَقَالُوا ءَالِهتُنَا خَيْرٌ أمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إنْ هُوَ إلاَّ عَبْدٌ أنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَني إسْرائِيلَ ).

تصوير البحث
  لم يمثّل القرآن هنا كما فعل في أمثال القرآن الاُخرى ، بل أشار إلى مثل ضربه المشركون في حق عيسى ( عليه السلام ).
  وهناك اختلاف في اعتبار هذه الآية من أمثال القرآن ، فبعض أدرجها في الأمثال وبعض آخر رفض ذلك.
  معنى ( المثل ) في استخدامات القرآن
  لأجل اتّضاح المطلب المتقدّم علينا التعرّف على معنى أو معاني مفردة المثل الواردة في القرآن.
  جاءت هذه المفردة بمعاني مختلفة ، هي كالتالي :
  الاول : المعنى الذي هو موضع بحثنا في أمثال القرآن ، أي تشبيه معنى معقّد غير محسوس بمعنى محسوس وبسيط وواضح يسهل هضمه على الجميع ، كتشبيه ثواب الصدقة بحبة أنبتت

أمثال القرآن _ 424 _
  سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة (1).
  وأمثال القرآن تبحث عن هذا الموضوع في الآيات حتى لو لم يرد فيها مفردة ( مثل ).
  الثاني : ما يطلقه عوام الناس من تشبيهات للانبياء ، من قبيل ما ورد في الآية 78 من سورة ياسين : ( وَضَربَ لَنَا مَثَلاًونَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحيى العِظَامَ وَهيَ رَمِيمٌ ).
  وشأن نزول الآية هو شخص يُدعى ( اُبي بن خلف ) أو ( اُمية بن خلف ) أو ( العاص بن وائل ) أو ( عبدالله بن اُبي ) نهض للاحتجاج على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وابطال أدلّته على المعاد ، فأخذ بعظام ومن المحتمل أنَّه فتتها أمامه وقال له : من يحيى العظام بعد ما تفتتت ؟ ومن يستطيع إرجاع الحياة لها ؟ وأيُّ عقل يمكنه التصديق بعودة حياة هذه العظام ؟
  فأجابه الله جواباً حاسماً قائلاً : ( قُلْ يُحييهَا الَّذي أَنْشَأهَا أَوَّلَ مَرَّة ) (2).
  على أي حال ، وردت مفردة المثل هنا وتعني ما ضربه الناس من الأمثال لا ما ضربه الله نفسه ، وهي أمثلة خارجة عن موضوع بحثنا ، لأنَّ بحثنا يخصُّ الأمثلة التي ضربها الله نفسه لا الناس.
  الثالث : الحوادث المرّة والمؤلمة التي يواجهها الانسان في طول حياته ، فقد اُطلق عليها مثل في القرآن ، كما جاء ذلك في الآية 214 من سورة البقرة : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مسَّتْهُمُ البَاسَاءُ الضَرَّاءُ وَزُلْزِلوا حَتَّى يَقولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ألاَ إنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ).
  فالمثل هنا فسِّر بما جرى على مَن تَقدَّم من الأقوام.
  الرابع : بمعنى العبرة ، وهذا المعنى ورد في الآية 55 و56 من سورة الزخرف : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجْمَعِينَ فَجَعُلْنَاهُمْ سَلَفاً ومَثَلاً للآخَرِينَ ).
  المثل هنا بمعنى العبرة ، كما أنَّ آيات من هذا القبيل خارجة عن موضوع بحثنا ، أي أمثال القرآن.

--------------------
(1) ورد هذا المثل في الآية 261 من سورة البقرة ، وتقدم شرحه في المثل الخامس ، فراجع.
(2) راجع التبيان في تفسير القرآن 8 : 478.

أمثال القرآن _ 425 _
  الخامس : بمعنى النموذج والاُسوة ، كما ورد ذلك في آية المثل الذي نحن فيه ، أي الآية 59 من سورة الزخرف.
  المعنى الأول للمثل هو المعنى الوحيد الذي يدخل في صلب موضوع بحثنا ، ويخرج منه المعاني الأربعة الباقية ، فهي خارجة عن كونها أمثالاً قرآنية ، رغم أن البعض ضمّها إلى أمثال القرآن ، وهو أمر مؤسف ، لأنهم جعلوا كل آية اشتملت على مفردة المثل في عداد أمثال القرآن ، وذلك خطأ.
  هل آية هذا البحث مثل قرآني ؟
  لهذه الآية تفاسير مختلفة ومتباينة ، تندرج في عنوان أمثال القرآن وفق بعض التفاسير ، وتخرج عنها وفق تفاسير اُخرى ، نلفت انتباهكم إلى بعض هذه التفاسير :
  التفسير الأول
  وفقاً لما جاء في الآية 98 من سورة الأنبياء فان الأصنام وعبدتها كلاهما في النار ، حيث ورد فيها : ( إنَّكُم وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَهَا وارِدُون ) ، أي أنهما يصبحان بمثابة الحطب لجهنَّم.
  افتعل المشركون ضجيجاً بأن المسيح وفقاً لهذه الآية يدخل جهنم ( نعوذ بالله ) ، لأنه معبود لبعض المسيحيين ، وكذلك الملائكة ( نعوذ بالله ) ، لانها معبودات لبعض الناس ، وجادلوا في هذا الأمر وأخذوا يهزؤون بالرسول ويقولون : إذا كانت جهنَّم مأوى للملائكة ولعيسى فلابدَّ وأن تكون مكاناً جيداً ، ونحن مستعدون للذهاب إليها من خلال عبادة الأصنام.
  أجاب الله على هذه الضجَّة بقوله : عيسى عبد من عبادنا ، لم يدَّعِ الالوهية ، والمعبود الذي يدخل جهنَّم هو الذي يرضى بأن يُعبد ، أما المسيح لا أنه لم يرضَ على عبادة نفسه فحسب بل يكره ذلك ويتألَّم منه.
  إذن ، ما كانت الضجّة التي افتعلها المشركون إلاَّ جدلاً ومغالطة لا أكثر ، وهي بمثابة الفقاعة الجوفاء.
  وبهذا التفسير تخرج الآية عن كونها من أمثال القرآن.

أمثال القرآن _ 426 _
  التفسير الثاني
  شبَّه الله تعالى المسيح ( عليه السلام ) بآدم ( عليه السلام ) في الآية 59 من سورة آل عمران ، إذ قال : ( إِنَّ مَثَلَ عِيْسى عِنْدَ اللهِ كَمثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تُراب ) ، أي أنَّه كما استطاع خلق آدم من تراب ، يمكنه كذلك أن يخلق عيسى من مريم ( سلام الله عليها ) دون زواج.
  إذا اعتبرنا الآية 57 من سورة الزخرف تشير إلى هذا المثل وأن ضجيج المشركين كان لأجل هذا الموضوع ، فان الآية عندئذ تندرج في أمثال القرآن ، لأنها تشير إلى مثل طرحه الله تعالى ، وقد استخدم فيه تشبيهاً جميلاً.
  التفسير الثالث
  عندما انطرح مثل عيسى بدأالمشركون بافتعال ضجَّة قالوا فيها : إن الرسول يريد دعوة الناس إلى عبادته ، ولأجل التمهيد لذلك طرح مثل عيسى ( عليه السلام )باعتباره معبوداً للنصارى ، والقرآن ردّ على هذه الدعاوي بقوله : عيسى عبد من عبادنا ، ومن نعم الله على بني اسرائيل.
  والآية مندرجة تحت أمثال القرآن وفقاً لهذا التفسير.
  خطابات الآية

الضجيج من معالم الجاهلية
  الجاهل انسان متعصّب ، والمتعصّب من أصحاب الضجيج لا من أصحاب المنطق.
  للامام علي ( عليه السلام ) خطبة في ( نهج البلاغة ) تُدعى القاصعة ، أشار فيها إلى الضجيج كبلاء كبير تعاني منه المجتمعات البشرية في الماضي والحاضر ، والخطبة وحدها تكفي للكشف عن مقام الأمير الرفيع وعلمه وعظمته ومنطقه.
  يقول أمير المؤمنين في جزء من الخطبة : ( فالله الله في كِبْر الحمية وفخر الجاهلية ، فإنَّه ملاقح الشنآنِ ومنافخ الشيطان التي خدع بها الاُمم الماضية والقرون الخالية حتى أعتقوا في

أمثال القرآن _ 427 _
  حنادس جهالته ومهاوي ضلالته ) (1).
  كلام الامام جميل جداً ، وكأنَّه بيان لآلآم المجتمع المعاصر ، وعلى متعصّبي مجتمعاتنا الحالية أن يدركوا خطاب الامام ويتخلّوا عن التعصّب الذي ليس في محلّه ويتركوا الضجيج ويسلّموا أنفسهم للحق والحقيقة.

--------------------
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 192.

أمثال القرآن _ 429 _
المثل السادس والأربعون : الصحابة
  آخر آية من سورة الفتح تشكّل المثل السادس والأربعين من أمثالنا ، يقول الله فيها : ( مُحَمَّدٌ رسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضواناً سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنهُم مَغفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ).

تصوير البحث
  هذا المثل الجميل الذي يتكوّن من توصيف ورد في التوراة ومثل ورد في الإنجيل يتحدَّث عن أصحاب الرسول الحقيقيين ، وهو يحكي ـ من جانب ـ عمَّا كان يتّصف به الصحابة ، ومن جانب آخر يخبر عمَّا ينبغي عمله وما هي مواصفات من أراد أن يصير مسلماً حقيقياً وناصراً للرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته.

شأن نزول الآية
  نزلت سورة الفتح بعد صلح الحديبية ، إذ طلب الرسول من المسلمين في السنة السادسة من الهجرة أن يستعدوا للحج والعمرة وزيارة بيت الله الحرام ، فأحرم الرسول بصحبة ألف

أمثال القرآن _ 430 _
  واربعمائة من المسلمين في مسجد الشجرة ، وغادروه باتجاه مكة ، ولم يأخذوا معهم من المعدات الحربية غير السيف الذي كان يحمله كل مسافر لغرض الدفاع عن نفسه ، وبذلك وبارتداء المسلمين ثوبي الإحرام بدى بوضوح كونهم غير قاصدين الحرب ، وظاهرهم يكشف عن نواياهم الحقيقية كزائرين.
  لأسباب خاصة تحرَّك الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بصحبة المسلمين باتجاه الحديبية (1) ، وتوقّفوا هناك.
  قلق المشركون واضطربوا بسبب قدوم المسلمين ، وكان قلقهم ناشىء عن أن دخول المسلمين مكة واتيانهم بمناسك الحج بالنحو المتباين مع النحو الدارج يثير انتباه باقي الحجاج ويؤثر فيهم أو يميل قلوبهم نحو الاسلام فيسلمون.
  ولأجل ذلك قرروا منعهم من دخول مكة ، وبعثوا إلى المسلمين شخصاً يُدعى ( عروة بن مسعود ) وهو من علمائهم وأذكيائهم ، وبعد وصوله إلى المسلمين سأل الرسول عن سبب مجيئة إلى مكة ، فأجاب الرسول : جاء المسلمون للزيارة والعمرة المفردة ، ولهذا لم يأتوا معهم بعدّة حربية من الدروع والخناجر و ... وبعد المفاوضات تقرَّر أن يبقى المسلمون في الحديبية حتى يخبر عروة زعماء قريش بنتيجة مفاوضاته مع المسلمين.
  وفي هذه الأثناء شاهد عروة لقطة كانت مؤثرة في انعقاد صلح الحديبية ، لقد شاهد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يتوضأ والمسلمون يتسابقون على قطرات الوضوء التي تسقط من أعضائه ليتبرّكوا بها.
  بعدما رجع عروة إلى مكة عرض على زعماء قريش نتائج مفاوضاته وأوصاهم بعدم مواجهة المسلمين ، لأن المسلمين ذائبون في عشق الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ومستعدون لكل تضحية وعمل في سبيله ، وذكر لهم قصة وضوئه.

--------------------
(1) تقع الحديبية غرب مكة ، بينها وبين جدة ، وتبعد عن مكة حالياً ستة عشر كيلو متراً ، وهي ميقات العمرة المفردة ، أي بالامكان الاحرام منها للعمرة المفردة ، وهي أقرب المواقيت بالنسبة إلى من قدم مكة من جدة ، لكنه ميقات يقع في الطريق القديم بين جدة ومكة ، وفي الطريق الجديد بنوا مسجداً بمحاذاته ، بالامكان الإحرام منه ، والحديبية بمثابة الحدود النهائية للحرم تقريباً ، والفاصل بينها وبين العلائم الموضوعة للحرم قليلة ، كما يعيش فيها عدَّة من السادة ، ومن المحتمل أن هذا هو سبب تسميتها وادي فاطمة.

أمثال القرآن _ 431 _
  وبعد نقاش دار بينهم توصلوا إلى أن يبرموا صلحاً مع المسلمين بشرط أن لا يحجوا هذا العام.
  قصد عروة وسهيل بن عمرو الحديبية لإبرام عقد الصلح مع المسلمين ، وبعد لقائهما الرسول ( صلى الله عليه وآله ) واتفاقهما ، أمر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) الامام علي ( عليه السلام ) بكتابة عقد الصلح.
  أمر الرسول عليّاً بكتابة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لكن سهيل اعترض زاعماً أنَّهم لو كانوا متفقين مع المسلمين في شعاراتهم لما تنازعوا معهم ، وطلب كتابة ( بسمك اللهمَّ ) (1).
  ثقل على المسلمين كلام سهيل ، لكن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وافق عليه وأمر علي كتابة ما كان دارجاً كتابته ثم قال لعلي : ( اكتب ! هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سُهيل بن عمرو ) ، فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول أنك رسول لم اُقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال لعلي : ( اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد بن عبدالله سُهيل بن عمرو ... ) ، وعندئذ انعقد صلح الحديبية ، وتقرّر فيه أن يقدم المسلمون العام المقبل ويقيموا في مكة مدَّة ثلاثة أيام لغرض الزيارة وأداء العمرة المفردة (2).
  ترتبت آثار كثيرة على صلح الحديبية ، والفتح المبين الذي أشارت له الآيات الاولى من سورة الفتح هو هذا الصلح ، فقد كان فتحاً مبيناً حقاً ، لكثرة مردوداته الايجابية وبركاته ، رغم استياء بعض المسلمين والمتطرّفين وضيقي الصدور ممَّن لا ينظرون إلاَّ للمستقبل القريب ، حيث قال البعض : يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( اصبر واحتسب ، فانَّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ) .
  وبعد الانتهاء من كتابة الصلح والإشهاد عليه أمر الرسول المسلمين بالنحر والذبح للإحلال من الاحرام ، ثمّ رجعوا إلى المدينة.
  عندها نزلت آيات تطمئن قلوب المسلمين وتسكّنها وتعدهم بفتح مكة ودخولها بعز : ( لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شَاءَ اللهُ ) (3) ، وهي تعدُّ من معجزات القرآن ، لكونها أخبرت عن الغيب.

--------------------
(1) كان هذا التعبير دارجاً عند المشركين ويبدأون به رسائلهم وكتبهم.
(2) راجع سيرة ابن هشام 3 : 317 ـ 318.
(3) الفتح : 27.

أمثال القرآن _ 432 _
  كما وعدت الآيات المسلمين الانتصار على باقي الأديان والمذاهب في العالم : ( ليُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ ) (1) ، ثم أدرجت أوصاف المؤمنين وأصحاب الرسول.
  بعدما اتضح شأن نزول الآية نبتُّ بتفسيرها.

أوصاف أصحاب الرسول في التوراة
  ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ )
  الانسان المتعصّب والجاهل مثل سهيل بن عمرو ينكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وآله )ورسالته ، وهذا لا يغيّر الواقع ، وما على المسلمين أن يستاؤوا من انكار مثل هذا الشخص ، لأن الله خالق الكون قد قبل نبوة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ورسالته.
  ( والَّذِينَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّار ).
  الذين معه ويسيرون في خطه ولم يدّعوا الاسلام فقط بل اثبتوا كونهم مؤمنين بجدارة في ميادين العمل ، وكانت عقيدتهم بالرسول صادقة وحقيقية يحملون خمس صفات عالية.
  وأنتم كذلك ، إذا أردتم أن تكونوا من أنصار امام الزمان ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) فعليكم الاتصاف بهذه الصفات الخمس.
  أول صفة هي أن يكونوا أشداء وأقوياء أمام الأعداء ، ولا يهابونهم ، بل يقفون أمامهم كالسد المانع ذي قوة على الصد والمنع الشديد.
  وفقاً لهذه الآية ، فإنَّ استخدام العنف في حق الأعداء لا أنه غير مستعاب فقط بل مطلوب ولازم أحياناً.
  اولئك الذين يرفضون العنف بالكلية في زماننا هم لا يعرفون معنى العنف ولا يفهمونه ، ولا معرفة لهم بآيات القرآن وتاريخ الاسلام.
  ينبغي الوقوف أمام الذئب الذي لا يفهم اللين والمنطق والاستدلال باستحكام وقوة ، بل ينبغي استخدام كل ما نملك من سلاح لصده ومنعه.
  كثير من الناس في عصرنا الحالي هم أسوء من الذئب ، اولئك الذين يبقرون بطن الحامل

--------------------
(1) الفتح : 28.

أمثال القرآن _ 433 _
  بطلقة رصاص ويقتلونها مع طفلها تقمّصوا ثوب الانسانية وليسوا بأناس ، وعلينا الوقوف أمامهم ، لأنهم لا يفهمون غير العنف ، والعدالة عينها في الدفاع والمقاومة ، وهو أمر منسجم مع الطبيعة ، وذلك من قبيل كريات الدم البيضاء التي تفزع للمواجهة بمجرد احساسها بالخطر وشعورها بدخول عدو أجنبي ، أي الميكروبات.
  إذن ، أول صفة لأنصار الرسول هو مواجهة الأعداد بشدّة والوقوف باستحكام أمامهم.
  ( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ).
  الصفة الثانية للمسلمين الحقيقيين هي اللين والرحمة فيما بينهم بنفس نسبة الشدة التي يتمتعون بها لمواجهة الأعداء ، فهم شديدون مع الأعداء ومتراحمون فيما بينهم ، أي يتمتعون بجذابية تجاه بعضهم الآخر ودافعة تجاه الأعداء والكفار ، والمسلم الحقيقي هو الذي تجتمع فيه صفة القهر واللطف.
  لو لم يكن المجاهدون الشيعة في جنوب لبنان انعكاساً لـ ( أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّار رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) لاستطاعت اسرائيل الزحف من لبنان إلى باقي الدول المجاورة لها ، لأن اسرائيل ذئب ، والذئب لا يفهم شيئاً غير العنف ، فقد لمع هؤلاء الشباب وفعلوا فعلتهم ، وكما قال فيهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله : إنّهم فعلوا ما لم تفعله جيوش الدول العربية جميعها.
  ( تَراهُمْ رُكّعاً سُجَّداً ).
  الصفة الثالثة للمسلمين الحقيقيين هي علاقتهم المتواصلة مع الله ، فيركعون ويسجدون لله دائماً.
  وهذه العبارة تعني أن أعمالهم جميعها من الركوع والسجود والاستراحة والترفيه والحب والبغض وكل سلوكهم عبارة عن عبادة ، لأنها تصدر عنهم بنية القربة وإرضاءً لله تعالى ، ويستلهمون قدرتهم وقوتهم من خلال هذه العبادة ، فيبدون أشداء أمام أعداءهم ولينين ورحماء فيما بينهم.
  ( يَبتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ ورِضْوَاناً ).
  صفتهم الاُخرى هي خلوص نيتهم تبعاً لرسولهم ( صلى الله عليه وآله ) ، فلا يبتغون ولا يطلبون شيئاً من خلال أعمالهم غير رضا الله والفضل من قبله تعالى ، ولا نجد في أعمالهم الرياء والتظاهر.