( يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ).
  يصف القرآن هذا البحر الموَّاج بأن أمواجه تتلاحق موج بعد موج أو موج فوق موج وفي ليلة غائمة.
  البحار كلَّما عمقت كلما ازدادت أمواجها وعظمت ، ويمكن تصوّر عظمة الأمواج في البحار العميقة من خلال قياسها مع الأمواج الصغيرة التي تحصل في حوض السباحة التي هي أصغر بكثير من أمواج البحار وبخاصة العميقة منها.
  المستفاد من توصيف القرآن بأن البحر لجّي كونه عميقاً ، كما أن العلماء يقولون : لا ضوء في الأعماق الأكثر من سبعمائة متر ، وهذا يكشف عن وجود ظلمات دامسة في هذه الأعماق.
  والعجيب أن في هذه الأعماق توجد نباتات وحيوانات مشعَّة ، أي يشعُّ منها ضوء.
  فمن اين جاءت بالضوء ؟ وما هي الأجهزة التي تولّد الضوء ؟ يا مَن في البحر عجائبه ؟ (1)
  ما سبب كون أعمال الكفَّار بمثابة الظلمات التي في البحر اللجّي وفي أعماق لا يصلها ضوء ؟
  لهذا الأمر علتان ، أحدهما : عمق البحر ، وثانيهما : أمواجه.
  الأمواج تسبب انكسار الضوء وتمنع من عبوره إلى أعماق البحر ، مضافاً إلى هذه الظلُمات المتراكمة فإن السماء غائمة وممطرة ، وعادة ما تكون الغيوم الممطرة متراكمة وتزيد من الظلام ، عكس الغيوم الاُخرى التي يقل تراكمها ويسهل عبور الضوء منها (2).
  ( ظُلمَاتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْض إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لم يَكَد يراها ).
  ملخّص الكلام هنا أن عوامل الظلام جميعها قد اجتمعت في هذا البحر ، من الليل المظلم والسحب المتراكمة والممطرة التي تمنع من نفوذ الضوء فيها ومن العمق الكبير ومن الأمواج المتتالية التي تكسر الضوء.
  لقد تراكمت الظلمات هنا إلى مستوى لو أنَّ شخصاً وضع يده أمامه ما أستطاع رؤيتها حتى لو قرّب يده من عينيه ، مع أنَّه بامكانه رؤيتها في الليالي العادية.

--------------------
(1) هذه جملة من دعاء جوشن الكبير الذي يحتوي على ألف اسم من أسماء الله تعالى.
(2) هذا إشارة إلى ما ورد في كلام الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الكلمة 472 من كلماته القصار ، حيث قسَّم السحاب إلى قسمين قائلاً : ( اللهُمَّ اسقنا ذلل السحاب دون صعابها ).

أمثال القرآن _ 377 _

  ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور ).
  الله مصدر كل ضوء ونور ، ومن أراد النور فعليه اخذه من مصدره ، وهذا هو المراد من هذه الآية ، والمراد من النور هنا نور المعنوية والعلم والمعرفة والإيمان ، وما يمكن الحصول عليه إلاَّ من منبع النور.
  أعمال الكفَّار مثل الشخص الذي ذكرته الآية حيث يكون في قعر بحر مظلم تراكمت عليه الظلمات بحيث لا يمكنه رؤية يده ، عكس المؤمنين فانَّ نور إيمانهم نور على نور ، يفيد منه الآخرون كما يفيد المؤمنون ذاتهم منه.
  خطابات الآية
  1 ـ أعمال الكافرين فقط ، لماذا ؟
  سؤال : أهم عامل يشكّل شخصية الانسان هو العقيدة والإيمان ، فلماذا شُبِّهت أعمال الكافرين فقط هنا بالظلمات ولم تُشبَّه عقائدهم وكلامهم ؟
  الجواب : عمل الانسان ترجمة لعقيدته وطريقة تفكيره ، وفي الحقيقة العمل يكشف عن ماهية الانسان وواقعه ولا يدع مجالاً للنفاق إلى مدَّة طويلة ، مع أنَّ بالامكان إخفاء العقائد الفاسدة والتفوّه كذباً بما يعاكسها بحيث يبدو الانسان صاحب عقائد صالحة.
  الايمان القوي هو الذي يظهر أثره في العمل ، وقد جاء في تعريف الإيمان : "الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان وعمل بالجوارح ) (1).
  رغم أن العقيدة والايمان يشكلان أهم عاملين لشخصية الانسان ، لكن العقيدة تتجسّد في القول والعمل ، وامكانية النفاق في القول كثيرة ، وعمل الفرد هو الذي يكشف عن شخصيته ، والآية أكَّدت على أعمال الكفَّار رغم أنَّ عقائدهم وأقوالهم كأعمالهم ظلمات في ظلمات.
  2 ـ ( ظُلُماتُ بعضُها فَوْقَ بَعْض ) إلى أي شيء تشير ؟
  يقول البعض : إن الظلمات الثلاث ناظرة إلى عقائد الكفَّار وأقوالهم وأعمالهم.

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الحديث 1263.

أمثال القرآن _ 378 _
  وبعض آخر يقول : الظلمات الاولى تشير إلى ظلمة جهل الانسان ، فالجاهل لا إيمان له ، وإذا سلك طريق العلم هداه هذا الطريق وأرشده.
  والظلمات الثانية تشير إلى الجهل الناشئ عن الجهل ، أي كون الانسان لا يعلم بأنه جاهل ، وهو خطر كبير ، لأنَّ الذي لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم يظن كونه هادياً ومصلحاً ، لكن واقعه عكس ذلك ، فجهله مركب ، عكس الذي يجهل ويعلم أنَّه يجهل فإنَّ جهله بسيط.
  والظلمات الثالثة تشير إلى من يجهل ولا يعلم أنَّه يجهل بل يتصوَّر نفسه عالماً (1).
  استخدم القرآن الكريم تعبيراً جميلاً جداً في الآية 104 من سورة الكهف واصفاً هؤلاء بما يلي : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الحَياةِ الدُّنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنعاً ).
  مثل هؤلاء يعدون خيانتهم خدمة ، فيعصون الله ويظنون أنهم يطيعونه ، وهذه هي الظلمات الثلاث المتراكمة بعضها فوق بعض.
  3 ـ الجبر أم الاختيار ؟
  سؤال : جاء في نهاية الآية : ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُور ) ، فهل هي تعني أن الله تعالى يمنح من نوره إلى البعض فيهتدون بالطبع ، ويمنع عن البعض نوره فيضلّون بالطبع ؟ أليس هذا جبراً ؟
  الجواب : جرت سنَّة الله تعالى على أن يتم توفير الأرضية من قبلنا والإفاضة منه ، أي نحن نوجد القابلية ، والفاعلية منه تعالى.
  وعلى هذا يجعل الله نوره ويعطيه لمن وفَّر في نفسه الأرضية والقابلية اللازمة للنور الإلهي.
  وهذا لا يعني أنَّ الله تعالى يجعل نوره اعتباطاً ودون حساب أو كتاب ، بل نور الايمان لا يدخل في قلب اللجوج والمتعصّب والمعادي للحق وسيئ السيرة ومتَّبع الأهواء ، لأنّه لم يُعدّ الأرضية اللازمة لدخول هذا النور.
  القلب مرآة الانسان لا ينعكس فيها النور الالهي ما لم تمسح وتنظَّف ، كما لا ينعكس لو كانت قد صدأت

--------------------
(1) انظر الأمثل 11 : 103.

أمثال القرآن _ 379 _
  وفسدت ، وسبب ذلك الانسان نفسه.
  علينا أن نوفّر الأرضية اللازمة للنيل من الفيض الإلهي في كل اللحظات.
  من هنا يتّضح الجواب عن سبب قولنا في الصلاة : ( إهْدِنَا الصِّراط المُسْتَقِيم ) ، مع أنا لو كنا في غير الصراط المستقيم لما كنا نصلّي؟ أليس ذلك تحصيل حاصل ؟
  وجوابه : أنا بحاجة إلى فيض الله تعالى ونوره في كل لحظة ، ولهذا علينا الحفاظ على هذه القابلية دائماً وفي كل وقت وعلى كل حال لكي نكون أهلاً لنور الايمان ، كما هو شأن المصباح الكهربائي الذي يحتاج إلى الكهرباء في كل آن ولحظة وإلاَّ فينطفأ بمجرّد انقطاع التيار.
  في هذا المجال يُنقل عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قوله دائماً : ( إلهي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً ) (1) ، وهذا الحديث يشير إلى حقيقة هي : أنَّ الانسان يستعدُّ لتقبُّل الهداية الإلهية بعناية منه تعالى ، ولا تتأتَّى هذه العناية إلاَّ في ظلِّ سعي الانسان في طريق العبودية.
  مباحث تكميلية
  1 ـ مظاهر من نور الإيمان
  في أول إجراء اتّخذه الرسول بعد الهجرة من مكة إلى المدينة أمر ببناء مسجد وتشكيل حكومة اسلامية.
  وعلى هذا كيف يمكن القول بفصل الدين عن السياسة ؟
  من خلال الدراسة المبسطة لسيرة حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نعرف أن المسجد في ذلك العهد كان بمثابة المقر والمركز للقيادة رغم بساطته.
  وفقاً لما جاء في الكتب التاريخية فان مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كان عبارة عن أربعة جدران بُنيت من الوحل ، ولم يكن له سقف ، وكان ارتفاع الجدران بمستوى قامة انسان ، وما كان بالامكان الاستفادة منه عند هطول الأمطار ، لذلك جاء بعض الصحابة إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله )

--------------------
(1) نقل هذا الدعاء عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والائمة المعصومين ( عليهم السلام ) بألفاظ مختلفة ، وفي مجالات مختلفة ، ننقل ثلاثة منها :
1 ـ بحار الأنوار 14 : 384 .
2 ـ بحار الأنوار 16 : 218 .
3 ـ بحار الأنوار 18 : 204 ، ولم نعثر على رواية تدلُّ على أن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كان يكرّر هذا الدعاء يومياً.

أمثال القرآن _ 380 _
  يطلبون منه بناء سقف للمسجد ، وبعد أن سمح بذلك بدأ المسلمون ببناء السقف ، فبني من السعف ، أمَّا أعمدته فكانت من جذوع النخل.
  وقد بقي هذا المسجد على بساطته حتى آخر عمر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، لكن بما أن الذين قاموا بهذا العمل أشخاص مؤمنون ، وكلٌّ منهم بمثابة منبع لنور الإيمان ، توسع بعد وفاة الرسول تدريجياً ليتبدَّل إلى أعظم واجمل مسجد في العالم الاسلامي بلغت مساحته حالياً كل المدينة عهد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، ولو أن أحدنا بذل أموالاً طائلة في سبيل رؤية هذا المسجد كان عمله في محله.
  نعم ، إنَّ أعمال المؤمنين النيّرة تنمو وتتسع.
  عندما أخذوا بأسرى كربلاء إلى الشام أقعدوهم في بيت خرب يقرب من قصر يزيد الذي شق السماء بارتفاعه والذي كان يلفت نظر كل مارٍّ ، أمَّا حالياً فالبيت الخرب أصبح مزاراً تهوي إليه قلوب الشيعة من محبي أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وأمَّا القصر فأصبح خربة لا أكثر ، وأمَّا قبر معاوية فمهما بحثت عنه لا تجد إلاَّ أثراً ضعيفاً في الباب الصغير ، في بيت صغير خرب ، رغم أنه كان حاكم الشام ومطلق العنان في تلك البلاد وظالماً جباراً لا يعرف غير أهوائه وشهواته.
  أمَّا بنت الحسين الصغيرة فقبرها معمور ويهوى إليه الناس من كل مكان.
  نعم ، ذلك من خصائص الايمان ، فيعلو ضياؤه وبهاؤه كلما طال عمره ، أمَّا الكفر فتتراكم ظلماته كلَّما طال عليه الزمان.
  المصداق الآخر لهذا الإدّعاء هو ما حصل في معركة اُحد حيث طُلِب من المسلمين حفر خندق أطراف المدينة يمنع من عبور المشركين رجالاً وفرساناً وفي الأثناء واجهوا صخرة عجزوا عن كسرها ورفعها من مكانها فاستعانوا بالرسول ، ولنقرأ الحادث على لسان الرواية : ( ... فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه ، فبعثوا جابر بن عبدالله الأنصاري إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعلمه ذلك ... فقلت : يا رسول الله ، إنَّه قد عرض لنا جبل لا تعمل فيه المعاول ، فقام مسرعاً حتى جاءه ثم دعا بماء في إناء وغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ، ثم شرب ومجّ ذلك الماء في فيه ثم صبَّه على ذلك الحجر ثمّ أخذ معولاً فضرب ضربه فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام ، ثم ضرب اُخرى فبرقت برقة

أمثال القرآن _ 381 _
  فنظرنا فيها إلى قصور المدائن ، ثمّ ضرب اُخرى فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور اليمن ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( أما إنّه سيفتح الله عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق ، ثم انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل ) (1).
  هزأ المنافقون من تنبؤات الرسول ، وقالوا : كيف سيفتح المسلمون هذه البقاع وهم يعيشون حالياً تحديات تهدد وجودهم ودينهم ، وما أستطاعوا الغلبة على المشركين العرب فضلاً عن غيرهم.
  انتهت الخندق بنجاج المسلمين وانتصارهم ورفعة رأسهم ، ولم يمضِ زمن طويل من تنبؤات الرسول ( صلى الله عليه وآله ) حتى رأى المسلمون تحقّقها في أرض الواقع ، واستطاع الاسلام بعد خمسين عاماً من الحادث السيطرة على أجزاء كبيرة من العالم.
  نعم ، ذلك امتياز نور الإيمان حيث يزداد بريقه وضياؤه بمرور الزمن ليبدو أفضل من ذي قبل دائماً ، أمَّا الأعمال السوداء لغير المؤمنين فتزداد ظلاماً بمرور الزمن.
  كل ما لنا فقد حصلنا عليه في ظل الايمان ، ويكفي للمؤمن أن يكون الله وليَّه يهديه من وادي الظلمات إلى النور ، وبئس حال الكفار ، الذين وليُّهم الشياطين يخرجونهم من وادي النور إلى وادي الظلمات.
  2 ـ علامة الإيمان
  في نهاية البحث ننقل رواية عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يحكي فيها واحدة من علائم المؤمن : ( لا يستكمل عبدٌ الإيمان حتى يحبُّ للغير ما يحبُّ لنفسه ) (2).
  من السهل التفوّه بهذه العلامة ، ولكن من الصعب جداً العمل بها.

--------------------
(1) البحار 20 : 219.
(2) كنز العمال ، الحديث 106.

أمثال القرآن _ 383 _
المثل الأربعون : الأضل سبيلاً
  يقول الله تعالى في الآية 44 من سورة الفرقان : ( أمْ تَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلاَّ كالأنعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبيلاً ).

تصوير البحث

  المثل يخصُّ الكفار والمشركين الذين سلكوا طريق اللجاجة والعناد أمام الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وألحوا على عقيدتهم الباطلة وسعوا نحو أهوائهم حتى ذهبت قواهم العقلية فما باتوا يدركون شيئاً ، لذلك شبَّههم الله بالأنعام.

الشرح والتفسير
  لاتّضاح خطاب هذا المثل الفريد من نوعه علينا دراسة الآيات التي سبقت آيته.
  تحدَّثت الآيات السابقة عمَّا أورده الكفار من إيرادات وانتقادات تجاه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وقالت : ( وإذَا رأوْكَ إنْ يتَّخذونَكَ إلاَّ هُزُواً ) ، أي أنهم يستهزؤون بالرسول متى ما شاهدوه ، وكان ذلك أحد ردود الفعل التي صدرت من أعداء الرسل والأنبياء ، واقترنت مع نسبة بعض

أمثال القرآن _ 384 _
  الصفات السلبية للانبياء ، فرعون ـ مثلاً ـ كان يعتبر نفسه ربَّاً ويقول : ( أنا ربُّكُمُ الأعْلَى ) (1) وينسب إلى موسى الجنون قائلاً : ( إنَّ رَسُولَكُمُ الذِي اُرْسِلَ إليْكُم لَمَجْنُونٌ ) (2).
  ( أهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً ) (3) ، أي أنَّه لو كان رسولاً فلماذا يبدو كباقي البشر ويفعل كما يفعلون ، ( مَالِ هَذَا الرَّسُولُ يأكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ ) (4) ، مع أن المفروض بالرسول أن يكون من الملائكة.
  بطلان هذا الكلام واضح ، فالمفروض بالرسول أن يكون من البشر لا الملائكة (5) ، لكي يفهمهم ويفهم آلآمهم ومشاكلهم ويشعر بها فيعالجها بالعلاج المناسب ، ولو كان من الملائكة لما أدرك مشاكلهم ولما احس بها ، مضافاً إلى أنَّه لا أحد من البشر يصغي لكلام الملائكة ، لأنَّ الناس سيقولون : ما تقوله الملائكة خاص بأمثالها ويناسب ما يجانسها ، باعتبارها معصومة ولا شهوة لها ، ولا يمكن لنا العمل بما تقول به الملائكة ، فإننا غير معصومين و ... أما لو كان الرسول من جنس البشر فان هذه الذرائع جميعها ترتفع ولا مجال للتشبّث بها.
  ( إنْ كَادَ ليُضِلُّنا عَنْ آلهتنا لَولا أنْ صَبَرْنا عَلَيْهَا ) (6) ، وهذا الكلام أطلقه المشركون بعد ما مضى منهم من استهزاء ، ويريدون بذلك أنهم قاوموا الرسول وصمدوا على عبادة الأوثان ، ولولا ذلك لانجرفوا مع الرسول ، كما يزعمون.
  كلمات المشركين متناقضة هنا ، فهم ينسبون له الجنون من جانب ، ومن جانب آخر يبرزون تخوّفهم من تأثير كلام الرسول عليهم ، مع أنه لا أحد يخاف تأثير كلام المجنون عليه ، ولو كان مجنوناً حقاً فلا ينبغي الخوف من تأثير كلامه ، ولو لم يكن مجنوناً فالمفروض أن يكون كلامه صادقاً ، فلماذا يُرفض كلامه ؟ وكلامهم هذا يكشف عن سخف عقائدهم ويبرز ذلك

--------------------
(1) النازعات : 24.
(2) الشعراء : 27 ، وهذه التهمة لا تختص ببعض الأنبياء ، بل نُسب الجنون والسحر لجميع الأنبياء ، كما ورد ذلك في الآية.
(3) الفرقان : 41.
(4) الفرقان : 7.
(5) ولهذا اعتبر الله كون الرسول بشراً ممَّا مَنَّ الله تعالى به على البشر ، كما ورد ذلك في الآية 164 من سورة آل عمران.
(6) الفرقان : 42.


أمثال القرآن _ 385 _
  بوضوح.
  أجاب الله تعالى بثلاثة أجوبة على كلامهم الباطل والمتناقض :
  الاول : ( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذَابَ مَن أضَلُّ سَبيلاً ) (1).
  وهذا الجواب يعني الانتظار إلى يوم رؤية العذاب ، فعندئذ يتّضح الحق والباطل.
  سؤال : لماذا لم يدرك الكفار الحق قبل نزول العذاب ؟
  الجواب : الأهواء ضربت على قلوبهم ستاراً لا يسمح دخول الحقائق فيها ، فالأهواء وعبادة الأصنام والمال والجاه والمقام الدنيوي بمثابة الحجب والموانع التي تمنع من إدراك الحقائق ، وهذه الموانع لا تُرفع إلاَّ بالعذاب الإلهي.
  وهذا هو سبب اعتراف فرعون بحقيقة ( أنَّه لا إله إلاَّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إسرائيلَ وَأنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ) (2) بعد ان أوشك على الغرق ، رغم أنه كان يقول : ( مَا عَلِمْتُ لكم مِنْ إلَه غَيْري ) (3) ، لكن إيمانه عندئذ دون جدوى.
  عندما ينزل العذاب الإلهي تُزال حُجب الغرور والغفلة والجهل ، وبعدها يفهم الكفّار من هو الأضل سبيلاً.
  سؤال : الآية الكريمة في مقام الإجابة على الكفّار ، وهل يُعدُّ التهديد بالعذاب الإلهي جواباً ؟
  الجواب : نعم ، قد يكون التهديد بالعذاب آخر جواب ، ولا يوجد جواب غيره.
  السفسطائيون ينكرون كل شيء ويشكون في كل ما يوجد حتى في شكوكهم ذاتها ، وكبار الفلاسفة يقولون : السفسطائيون يرفضون كل دليل يُقام ، وأفضل دليل هو أن تُضرم ناراً وتقرّبهم إليها وتقول لهم : لا وجود لهذه النار والحرارة الصادرة منها ، فهي خيال لا أكثر ، ولا يمكن أن يحترق بها أحد ، لأنّ الاحتراق وهم لا حقيقة ، عندها يتراجعون عنها تدريجياً ليتبدَّل هذا الانسان إلى واقعي بعدما كان سوفسطائياً.

--------------------
(1) الفرقان : 42.
(2) يونس : 90.
(3) القصص : 38.

أمثال القرآن _ 386 _
  إذن ، لا طريق لإيقاظ المتعصبين واللجوجين من غفوتهم وغفلة أفكارهم غير العذاب الإلهي ، فهو الذي يزيح ستار الغفلة ويوقظهم.
  الثاني : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أفَأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) (1).
  كيف يمكن هداية من كان إلهه هواه ؟ إنَّ تعاملهم غير المؤدب مع الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وما يطلقونه من كلام بذيء تجاه الرسول ، كله يرجع إلى اتّباع الأهواء ، وإلاَّ فبطلان عبادة الأوثان أمر واضح.
  وسبباً للاضطرابات وعدم الثبات في الدولة الاسلامية ، ويحوم حوله مجموعة من الذين جمعتهم مائدة معاوية الدسمة ورشاويه ، وهل يستحيل تشخيص الحق بين هاتين الطائفتين ؟ بالطبع لا ، لكن الأهواء والموائد المنوّعة والرشاوي والأموال هي التي منعت من التشخيص.
  يا رسول الله ، أنت لا تستطيع إنقاذ هؤلاء ، فإن أربابهم أهواءهم ، وبئس للانسان الذي يصبح إلهه هواه ، فهو أخطر ما يمكن أن يكون في حياة الانسان.
  يقول المؤلف الشهير ويل ديورانت : ( لمَّا كان لكلِّ شيء روح أو إله خفيٌّ فالمعبودات الدينية لا تقع تحت الحصر ) ، كما يقول : ( لا تكاد لا تجد حيواناً في الطبيعة كلها ـ من الجعران المصري إلى الفيل عند الهندوس ـ لم يكن في بلد ما موضع عبادة ) (2).
  لكن جاء في رواية : ( أبغض إله عُبد على وجه الأرض الهوى ) (3) ، وذلك لأجل أنَّ هذا

--------------------
(1) الفرقان : 43.
(2) قصة الحضارة 1 : 102 ـ 110.
(3) المحجة البيضاء 8 : 44.

أمثال القرآن _ 387 _
  الصنم يلوّث الانسان بكثير من الذنوب ، من قبيل : المسكرات والمخدرات والسرقة والتهريب والقتل وما شابه.
  كثير من المجازر التي تُرتكب في الوقت الراهن تحصل بدافع من اتباع الهوى والنفس.
  إنَّ مجزرة هيروشيما من قبل امريكا وقصف مدينة حلبجة بالاسلحة الكيمياوية من قبل النظام العراقي ودفن النساء والأطفال البوسنيين وهم أحياء ، كلها من الآثار المخرّبة لحكومة الاهواء على حياة البشر.
  على أي حال ، لا مشكلة ولا صعوبة في تمييز الحق عن الباطل ، على أن لايتَّبع الانسان هواه.
  الثالث : ( أمْ تَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلونَ ) (1).
  في هذه الآية يخاطب الله تعالى المشركين ويجيب على كلامهم الوارد في آية المثل ، قائلاً للرسول : إنَّ أكثرهم لا عقل لهم يدركون به ولا آذان لهم يسمعون بها ، فهم كالحيوانات العاجزة عن الإدراك ، بل هم أضلُّ سبيلاً من الحيوانات ، فإن صوت الحق ملأ العالم ، وآيات الله وآثاره موجودة في كل مكان ، لكن سماع صوت الحق ومشاهدة آثار الله وآياته تستدعي آذاناً تصغي وعيناً تشاهد وعقلاً يعي ويدرك ، وهم يفقدون هذه الأشياء.
  لو أن ضوء الشمس ملأ الأرض كلها ما استطاع الأعمى أن يراه ، كما أن الأصم لو كان جالساً على شاطئ البحر ما كان بإمكانه أن يسمع صوت أمواجه ، وهذا هو شأن الكفار فلا يسمعون الحق ولا يرونه ولا يدركونه ، فهم كالأنعام بل أضل.

لماذا شُبِّه الكفار بالحيوانات ؟
  كما لا حظنا فان الله شبَّه الكفّار الذين لا يسمعون ولا يرون ولا يدركون من الحق شيئاً بالحيوانات ، بل اعتبرهم أضل من الحيوانات ، لكن لماذا ؟
  هناك وجوه شبه بين الكفار والحيوانات ، هي :
  الف : لا تدرك الحيوانات شيئاً ، فلا قدرة لها على الفهم والاستيعاب ولا شعور لها ، وأعمالها

--------------------
(1) الفرقان : 44.

أمثال القرآن _ 388 _
  تصدر عنها بدافع غريزي ، وهذا هو شأن الكفار ، فلا شعور لهم ، لذلك لا يدركون شمس الحقيقة ؟
  باء : الحيوانات لا تشعر بالمسؤولية ، فهي لا تدرك كون المزرعة ليتيم أو موقوفة وأن الدخول إليها حلال أم حرام ، فهي لا ترى نفسها مسؤولة تجاه هذه الاُمور ، لأنَّها لا تدرك ، أي أن عدم إحساسها بالمسؤولية ينشأ عن عدم إدراكها ، وعدم احساس الكفار بالمسؤولية من هذا القبيل ، فهو ناشئ عن عدم إدراكهم.
  جيم : الحيوانات تابعة لغرائزها ، فهي لا تعرف غير العلف والاصطبل ، وكذا حال المشركين ، فهم لا يعرفون غير أهوائهم وما تمليه عليهم.
  دال : الحيوانات غير تابعة للمنطق ، ولا ترى معنى للاستدلال ، وكذلك الكفار ، فهم عاجزون عن إدراك استدلالات القرآن القوية رغم بساطتها ، والتي وردت في مجالات مختلفة مثل التوحيد والمعاد ، ويصرّون دائماً على كلماتهم التي يرددونها دائماً.
  هاء : لا تشخّص الحيوانات المصالح والمفاسد ، ولا تعلم بما يصلحها أو يفسدها ، ولهذا قد تجازف أو تقرب من المخاطر وهي لا تعلم ما قد أقدمت عليه ، كما هو حال الكفار الذين لا يعلمون بأنَّ عبادة الأصنام واتّباع الأهواء لا يجلب لهم نفعاً ولا فائدة ، كما لا يعلمون أن السعادة والنجاح يتحقق في ظلِّ التوحيد.
  هذه وجوه خمسة يشترك فيها الكفار مع الحيوانات ، ولهذا شُبِّهوا بها في الآية الكريمة.
  ( بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبِيلاً ).
  مقارنة الحيوانات بالمشركين تثبت تفوّق الحيوانات على المشركين ، وكون الأخيرين أسوأ حالاً من الحيوانات ، للاُمور التالية :
  الأول : الحيوان حيوان كان ويكون وسيبقى كذلك ، وهذا هو شأنه ولا يمكنه أن يتجاوز حيوانيته ، لعدم قابليته على التطوّر والتقدُّم ، أمَّا الانسان فله القابلية على التطوّر ليكون حتى أفضل من الملائكة ، لكنه قد يبقى في مرحلة الحيوانية بسبب تماديه في العناد وتعصبه ، ممَّا يجعله أن يكون دون مستوى الحيوانات.
  لا يُلام الشخص على عدم انتفاعه من السوق إذا دخله دون أن يكون له رأس مال ، بينما

أمثال القرآن _ 389 _
  يُلام لو دخله وقد كان له رأس مال ولم ينتفع منه.
  والانسان الذي سجدت له الملائكة ونفخ الله فيه من روحه وأصبح أفضل المخلوقات إذا سقط كان أضل من الحيوانات دون شك.
  الثاني : الحيوانات تقدِّم خدمات كثيرة للانسان ، فبعضها تمنح الانسان لبناً يعبّر عنه القرآن تعبيراً جميلاً في الآية 66 من سورة النحل ، حيث جاء هناك : ( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنَ فَرْث ودَم لَبَناً خالِصاً سَائغاً للشاربين ) ، وكثير من المنتجات الاُخرى مثل اللحم والعظم والصوف والجلد بل حتى الدم فان الانسان وكذا باقي الحيوانات تفيد منه ، هذا كله مضافاً إلى الإفادة منها كوسائل للنقل والحمل ، علاوة على كونها أداة طيّعة بيد الانسان (1).
  الثالث : الحيوانات تتَّبع منهجاً غريزياً ، بعبارة اُخرى : إيعازات خلقتها هي التي تهديها إلى أهدافها أمَّا المشركون فان الأهواء ضربت على عقولهم وفطرتهم ستاراً ، لذلك كان خطر ضلالتهم أكثر.
  الرابع : خطر الحيوان محدود مهما بلغ ، فالذئب من أخطر الحيوانات ، وأقصى خطره أن يهاجم قطيعاً من الغنم ويأكل أو يقتل عدّة خرفان ، أمَّا خطر الانسان عندما يتَّبع الأهواء ويعصي العقل فقد يلقي بقنبلة نووية في هيروشيما ويقتل ( 85000 ) انساناً في لحظة واحدة ويصيب آخرين لازالوا يعانون من إصاباتهم.
  ألم يكن هكذا اُناس أضل ّ من الحيوانات ؟
  الخامس : الحيوانات لا تسعى للتمظهر بمظهر حسن عندما ترتكب ذنباً ولا تسعى لتبرير أعمالها السيئة ، أمَّا المبعدون عن الهداية فيبرّرون جرائمهم الكبرى ويقولون في تبرير قصف مدينتين يابانيتين بقنابل نووية : لو لم نعمل هذا لاستمرَّت الحرب وطالت ولزادت الضحايا والقرابين إثر ذلك !
  يقول أحد الكبار : لو أنَّ الآية الشريفة المزبورة كانت قد نزلت دون ذيلها ( بَلْ هُم أضَلُّ سَبِيلاً ) لمتُّ غيظاً ، لأن الحيوانات أفضل من بعض الناس بكثير.
  خطاب الآية

العزَّة في ظل الإيمان
  يستفاد من مجموع ما قيل في تفسير هذه الآية الكريمة أن الانسان إذا كان يسعى نحو بلوغ

--------------------
(1) أشارت الآيات 5 ـ 8 من سورة النحل إلى فوائد الحيوانات المختلفة.

أمثال القرآن _ 390 _
  مقامه الحقيقي وشأنه الواقعي وأراد تنمية قابلياته والنجاة من خطر السقوط فعليه السير تحت ظل الايمان والطاعة ، والعمل بما أوصى به الإمام علي ( عليه السلام ) حيث قال : ( مَن أراد عزّاً بلا عشيرة ، وغنى بلا مال ، وهيبة بلا سلطان فلينتقل عن ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته ) (1).

--------------------
(1) ميزان الحكمة الباب 2710 ، الحديث 12540 ، وقد نقل مضمون هذه الرواية عن كلٍّ من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والامام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) والامام الصادق ( عليه السلام ).

أمثال القرآن _ 391 _
المثل الحادي والأربعون : اتَّخذوا أولياءً من دون الله
  الآية 41 من سورة العنكبوت تشكّل المثل الحادي والأربعين من أمثال القرآن ، حيث جاء فيها : ( مَثَلُ الَّذِين اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أوْليَاءَ كَمَثَلِ العَنْكبُوتِ اتَّخذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ).

تصوير البحث
  بما أنَّ التوحيد والشرك من أهم مباحث القرآن ولهما دور أساسي في سعادة الانسان وشقائه ، لذلك خصَّ الله تعالى بعضاً من أمثلته بهذا الموضوع ، مستخدماً مبدأ التنويع في بيانه.
  والمثل المزبور يتعلق بالشرك وعبادة الأوثان ، مشبّهاً فيه المشرك وما يعبد من الاصنام بالعنكبوت وبيته ، بياناً لضعف الأصنام وعجزها.

أهمية التوحيد
  تقدَّم أن الشرك كان أول اهتمامات الإنبياء والرسل ، وكان يشكل أساس المواجهة بينهم وبين معاصريهم ، أمَّا التوحيد فكان أهم ما دعى إليه وأساس دعوتهم ، وذلك لأجل أنَّ الشرك أساس شقاء البشر ومنشأ كل الدنوب والانحرافات العقائدية ، أمَّا التوحيد فأساس السعادة ومنشأ النجاج والفلاح.

أمثال القرآن _ 392 _
  التوحيد ينير القلب ويوحّد المجتمع ، أمَّا الشرك فلا يجلب معه إلاَّ الظلمات والتشتّت والتفرقة في المجتمع ، ولهذا اختص ثلث القرآن بموضوع التوحيد والمسائل ذات الصلة به.
  الشرح والتفسير
  ( مَثَلُ الَّذِينَ اتّخذوا مِنْ دُونِ اللهِ أوْلياءَ ).
  شبَّه الله تعالى المشركين هنا بالعنكبوت وأصنامهم ببيت العنكبوت ، والتشبيه لا يختص بالمشركين بل يشمل كل مَن اتّخذ إلهاً غير الله كولي لنفسه ، فالآية عامة دون اختصاص بالمشركين.
  وعلى هذا تكون شاملة لوثن المقام والسلطة والشهوة والأهواء النفسانية والثروة وكل ما يمكن أن يُعصى الله به.
  ( كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخذتْ بَيْتاً ).
  أي أن مثل هؤلاء كمثل العنكبوت التي تتّخذ بيتاً لتلجأ إليه ، وهؤلاء قد يكونون مشركين أو غيرهم ممَّن اتخذ إلهاً غير الله ، ومثل آلهتهم كمثل بيت العنكبوت ، وهو قد يتمثَّل بالمقام أو الشهوة أو الصنم أو ما شابه ، فهذه كلها بيوت للعنكبوت.
  ( وإنَّ أوْهَنَ البُيُوتِ لبَيْتِ العَنْكَبُوتِ ).
  وهل يمكن الوثوق بمثل بيت العنكبوت ؟ وهل يمكن الوثوق بغير الله والاطمئنان به ؟
  الجواب بالسلب قطعاً ، لأن بيوت العنكبوت من أوهن البيوت وأضعفها ، وذلك لأنها مصنوعة من مواد لا مقاومة لها أمام الحوادث ، وتتلاشى بقطرات ولو قليلة من المطر ، فضلاً عن السيول ، كما أنها تتلاشى بشعلة الشمعة الضعيفة ، فضلاً عن الحريق ، كما يكفيها نسيماً من الريح لتتلاشى دون حاجة إلى إعصار ، كما أنها تتلاشى بغبار بسيط وبما شابه ذلك وهذا يكشف عن ضعف هذه البيوت ، كما يلاحظها الجميع.
  ( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ).
  أي أن الاتكاء على الأوثان المزبور كالاتكاء والوثوق ببيت العنكبوت لو كان هؤلاء يعلمون بذلك.

أمثال القرآن _ 393 _
  خطابات الآية
  1 ـ أصنام جديدة
  كما تقدَّم فإنَّ عبادة الأوثان لم تقتصر على عبادة أحجار أو أخشاب ، بل تشمل كل عبادة لغير الله ، وفي عصرنا الحاضر هناك الكثير من الأوثان من قبيل المقام والشهوة والمال والثروة والأهواء النفسانية والشياطين وكل ما يغفل الانسان عن الله.
  تحدَّثت الآية 60 من سورة يس عن أحد أشكال عبادة الأصنام قائلة : ( ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدوا الشَّيْطانَ ) ، أي أنَّ عبادة الشيطان وطاعته من أصناف عبادة الأصنام ، لكن هل تعلمون كيف تكون عبادة الشيطان ؟ وهل هي تعني الصلاة والصوم للشيطان ؟
  في الإجابة على ذلك ينبغي القول : كلا ، فلا يعمل أحد هذا ، وعبادته تعني متابعة شخص والائتمار بأوامره (1).
  العمل وفق أوامر الشيطان عبادة له ، وكل أمر لم يصدر من الله وائتمر به الانسان كان نوع شرك وعبادة للأصنام.
  2 ـ بيت العنكبوت من آيات الله العظمى
  بيت العنكبوت من عجائب الخلق ، كذلك العنكبوت نفسه الذي يبدو بأعيننا موجوداً قليل القيمة.
  وقد اكتشف العلماء حتى الآن عشرين ألفاً من أصناف العنكبوت ذات أشكال وسلوك وحياة متباينة.
  في القسم التحتاني من بطنه توجد حفرة صغيرة بحجم رأس الأبرة ، في داخلها سائل لزج يُدخل العكبوت أطرافه فيها ويخرج مقداراً من هذا السائل اللزج يصنع منه خيوطاً تُستحكم عند تعرُّضها للهواء ، وبهذه الخيوط ينسج بيتاً أو شبكة للصيد.
  يوفر العنكبوت غذاءه من خلال الحشرات التي تقع في شبكته ، فهو من الحيوانات التي

--------------------
(1) جاء هذا المضمون في رواية وردت عن الامام الصادق ( عليه السلام ) ، راجع ميزان الحكمة ، الباب 2496 ، الحديث 11352.

أمثال القرآن _ 394 _
  تتغذّى على اللحوم.
  بعض الحشرات تقع في الشبكة وهي طائرة ، فيهمُّ بسرعة على لفِّها بخيوطه لتصبح سجينته حتى الموت فيأكلها عندئذ.
  لهذه الخيوط خصائص فريدة نشير إلى بعض منها :
  الاولى : أكثر استحكاماً من الفولاذ ، فإذا صنعنا خيوطاً من الفولاذ بنفس مقاسات خيوط العنكبوت كانت خيوط العنكبوت أكثر استحكاماً ، وإذا صنعنا أنابيب من سائل العنكبوت بحجم قطر انابيب الفولاذ كانت أنابيب سائل العنكبوت أقوى وأكثر استحكاماً بمرات.
  الثانية : ينسج العنكبوت من السائل الموجود في حفرة بطنه ما يقرب من 500 خيطاً أو وتراً ، وهذا أمر عجيب حقاً.
  الثالثة : الأعجب من ذلك كله أن بعض الخيوط تشكّلت من أربعة خيوط أقل سمكاً ، كلُّ منها يتشكل من ألف خيط.
  ألم يكن ذلك من آيات الله ؟ ( وَكَأيِّن مِنْ آيَة فِي السَّماواتِ وَالأرْض يَمرُّونَ عَلَيْهَا وهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) (1).
  الرابعة : هندسة العنكبوت مما تثير الإعجاب ، فهذا الحيوان الضعيف ينسج بيته على غرار أشعة الشمس بنحو مساوي ومنتظم ، مراعياً في ذلك الفواصل والزوايا بدقة فائقة.
  خلاصة الكلام ، أن الله تعالى أعمل دقة ونظاماً في غاية الدقة عند خلقه هذه الحشرة التي تبدو ضعيفة.
  كلٌّ من العجائب تكفي لمعرفة الله تعالى ، مع أن الكون مفعم بهذه العجائب والآيات ، ولا مسألة غير التوحيد تتمتع بهذا المقدار من البراهين والأدلة ، فلها مليارات من البراهين ، فكلٌّ من النجوم والكواكب وحتى الحيوانات وأوراق الاشجار والبشر كلها أدلة على الله تعالى ، فهو ليس بالأمر الخفي.
  سؤال : إذا كان وجود الله تعالى بهذه الدرجة من الوضوح فلماذا ينكره الماديون ؟

--------------------
(1) يوسف : 105.

أمثال القرآن _ 395 _
  الجواب : إنَّهم يقرّون بوجود الله بنحو أو آخر لكنهم يبدّلون اسمه ، فعندما يتحدّثون عن عظمة الله وقدرته المتجلّية في معدة الانسان حيث يمكن له العيش بثلثها فقط ، يقولون : ( الطبيعة عملت بنحو حيث يمكن للانسان العيش بثلث المعدة إذا تعطَّل ثلثا أجزاء المعدة ، فعند التعطيل يقوم الجزء غير المعطَّل بجميع النشاطات المطلوبة من المعدة ).
  وفي الحقيقة مرادهم من الطبيعة هو الله تعالى ، فنحن ندعوه ونخاطبه ولا ندعو الطبيعة ولا نخاطبها ، لأنَّها غير ذات شعور وليست أهلاً للخطاب.
  3 ـ فلسفة التمثيل بحيوان ضعيف
  عندما سمع المشركون تشبيه الله المشركين بالعنكبوت وأصنامهم ببيت العنكبوت اعترضوا وتساءلوا عن سبب تمثيل الله بحيوانات ضعيفة ، وهل هي تتناسب مع عظمة الله ؟
  أجاب القرآن عن اعتراضهم وتساؤلاتهم من خلال الآية 43 من نفس السورة ، حيث قال : ( وَتِلْكَ الأَمثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ العَالِمُونَ ).
  أي أن الفصيح والبليغ يتكلَّم بما يقتضيه الحال ، فإذا كان الحديث عن ضعف وهون موجود من قبيل معبود المشركين فعليه التمثيل بما يكشف عن هذا الضعف والوهن ، وأي مثال أفضل من بيت العنكبوت يكشف عن ضعف وهون الأوثان ؟
  4 ـ قيمة العلم
  أكّد القرآن على العلم والمعرفة في موضعين من الآيات المتقدّمة :
  الاول : في نفس المثل حيث ذيّله بالعبارة التالية : ( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ).
  والثاني : عند الإجابة على اعتراض المشركين على تمثيل القرآن بحيوانات ضعيفة مثل العنكبوت والبعوض ، فقد جاء هناك : ( وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ العالِمُونَ ).
  مفهوم الجملتين ، حيث أكّد فيهما القرآن على العلم ، هو كون العلماء والمفكرين هم المخاطبون الأصليون لهذا الكتاب ، رغم أنَّه كتاب لجميع البشر.

أمثال القرآن _ 396 _
  كلَّما ازدادت قابلية الانسان العلمية كلَّما ازداد نهماً منه.
  أهمية العلم في ديننا بالغة بحيث يُعدُّ رأس الفضائل وغايتها (1) ، كما أنَّه من الأعمال الموصى بها في ليالي القدر ، رغم كون هذه الليالي للدعاء والمناجاة والتوبة (2).
  مباحث تكميلية
  1 ـ لنعتبر من التاريخ
  عندما نتصفّح التاريخ نجد شواهد كثيرة تحكي عن ضعف وهون كلّ قدرة غير الله تعالى.
  يحكي القرآن الكريم قصة قوم سبأ في الآيات 15 ـ 21 من سورة سبأ ، وهي نموذج كامل وشاهد حقيقي على ما نقول.
  خلاصة قصة قوم سباً
  كانت في بلاد قوم سبأ جبال تجري منها سيول عند هطول الأمطار ، ممَّا يؤدي إلى تدمير مزارعهم ومنازلهم ، فأقدموا على إيجاد سدٍّ ترابي يمنع وصول السيول إلى المزارع والمنازل ، ويبدو أنَّه أول سدٍّ بناه البشر ، فأوجدوا بحيرة عظيمة خلف السد ، كما أوجدوا قنوات لري المزارع والبساتين.
  تبدّلت بلادهم ببركة هذا السد إلى مزرعة عامرة عظيمة ملؤها الأزهار والثمار والفواكه ، فازدهر اقتصادهم ، وكان منشأً لبلورة حضارة سمّيت باسمهم ، وقد بلغ الرفاه والنعم في بلدهم إلى درجة كانت الطرق جميعها مُظلَّلة بالاشجار المثمرة ، وكان المسافرون يمشون تحت ظل الاشجار ما داموا في هذا البلد ، كما كانوا في غنى عن حمل أمتعة معهم باعتبار وفرة فواكه واثمار أشجار الطريق ، بل كان يكفيهم أن يحملوا معهم سلة يملؤونها من أمتعة الطريق.
  لكن وفور النعمة يبعث إلى الغرور والغفلة ، فقد بدأ يصدر من البعض ما يكشف عن

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 2831 ، الحديث 13330.
(2) المصباح المنير ( المشكيني ) : 395.

أمثال القرآن _ 397 _
  نكرانهم نعم الله ، فكانوا يقولون مثلاً : ( يا له من وضع ، فقد كان السفر خاصاً بالأثرياء ، وحالياً الجميع بإمكانه السفر ) ، أو ( يا له من بلد تتّصل فيه القرى بالمدن والقرى بالقرى ، وكل مكان فيه مشجَّر ومعمور ؟ يارب فرّق بين القرى ) ، وكثير من الكلمات الاُخرى التي تصدر عن غفلة.
  أدَّى نكران النعمة إلى نزول العذاب الإلهي وتدمير ما كان معموراً.
  هل تعلمون كيف دمّر الله هذا البلد العامر؟ هل دمَّره بالقنابل النووية ؟
  كلا ، كانوا ضعفاء كبيت العنبكوت ، فما كانت الحاجة إلى قنابل نووية ، فقد أوكل الله وظيفة تدمير هذا البلد إلى مجموعة من الفئران ، لكي يُفهم الانسان أن كل قدرة غير الله ضعيفة كضعف بيت العنكبوت.
  أوجدت الفئران ثقوباً صغيرة في السد توسَّعت هذه الثقوب تدريجياً إلى أن أدت إلى انهيار السد في ليلة تزامن مع صوت مرعب ، وغطى الماء البلد لكي يتبدَّل إلى مستنقع بعد ما كان يبدو بلداً أخضر من كثرة الأشجار والمزارع والبساتين ، ولم يعد بلداً مؤهلاً للعيش ، فهجره أهله إلى البلاد المجاورة.
  2 ـ أليس الاتكال على غير الله اتكال على بيت العنكبوت ؟
  النموذج الآخر للقدرات الشبيهة ببيت العنكبوت هو قدرة الشاه نادر قلي أفشار ، فقد استطاع بقدرته طرد الأفغان الذين كانوا يسيطرون على إيران ظلماً وعدواناً ثمّ أقدم على توسيع رقعة سلطته ، فهاجم عدَّة دول حتى وصل الهند وتحوّل إلى اسطورة ، لكنَّ هذه الأسطورة وافاها الأجل ببساطة.
  في ليلة غضب على أحد طباخيه ، وخوفاً من توقيع حكم إعدامه صباح اليوم اللاحق سابق الطباخ وأقدم على قتل نادر شاه ليلاً وقطع رأسه ، وهو نائم.
  نعم ، هذا هو شأن كل قدرة بيت عنكبوتية ، وإذا دقَّق الناس فهموا أنه لا يمكن الوثوق بقدرة غير قدرة الله ، ولا يمكن الاتكاء على غير الوحيد الأحد.

أمثال القرآن _ 399 _
المثل الثاني والأربعون : توحيد المالك
  يقول الله تعالى في الآية 28 من سورة الروم : ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُم مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقُوم يعْقِلُونَ ).

تصوير البحث
  نظراً للأهمية الفائقة للتوحيد وفروعه المختلفة جاء هذا المثل لبيان أحد فروع الشرك والتوحيد ، منطلقاً من بعض عقائد المشركين وموظفاً وجدانهم وفطرتهم للتفكير في التوحيد ، ومن خلال طرح بعض التساؤلات حثَّهم على التفكُّر في عبادة الأصنام وقضاياه المختلفة.

فروع التوحيد
  للتوحيد فروع مختلفة نشير إلى بعض منها باختصار.
  1 ـ توحيد الذات
  توحيد الذات يعني القول بأن ذات الله تعالى واحدة ، وهو خالق ومبدأ كل شيء ، وفي قبال ذلك الوثنيون الذين يقولون بمبدأين الكون هما : الله والشيطان ، وأن الانسان مخلوق من الشر والخير ، وخالق الخير لا يمكنه أن يكون خالقاً للشر ، كما أن خالق الشر لا يمكنه أن يكون

أمثال القرآن _ 400 _
  خالق الخير ، والله مبدأ الخير ، والشيطان مبدأ الشر.
  واجهت الأديان التوحيدية وبخاصة الاسلام هذه العقيدة ، ومن وجهة نظر المسلم لا شرَّ في العالم ، وكل ما يوجد هو خير ، لكن الأشقياء يسيؤون استخدام الأشياء ، فالمال والثروة والمقام والشهوة كلها خير ، لكن المسيئين يستخدمونها بنحو غير مشروع ، وبذلك يتبلور الشر ، وسوء استخدام شيء لا يدل على كونه شراً.
  تجري هذه القاعدة في حق باقي الأحياء كذلك ، فسموم الحيوانات ليست شراً ، لأنها وسائل للدفاع عن نفسها ، كما أنَّ كثيراً من الأدوية تُعدُّ بهذه السموم ، لهذا نرى اهتمام بعض شركات صناعة الأدوية بقضية تربية الحيوانات السامة من قبيل الأفاعي.
  إذن ، لا شرَّ في الكون لكي نحتاج للقول بوجود مبدأين للكون ، وكل ما يوجد يُعدُّ خيراً ولا مبدأ للعالم اكثر من واحد ، فهو مبدأ كل شيء وكل أمر وهو ذات الله ، وهذا ما يطلق عليه توحيد الذات.
  2 ـ توحيد الصفات
  المراد من توحيد الصفات هو كون كلٍّ من الصفات عين الاُخرى ، عكس صفات الانسان ، فكلٌّ منها غير الاُخرى.
  يدا الانسان من مظاهر قدرته ، ودماغه وسيلته للتعقل والإدراك ، أمَّا الله تعالى فذاته كلها قدرة وذاته كلها علم ، وذات قدرته عين ذات علمه ، وذات علمه عين ذات قدرته.
  وهناك تفسير آخر لتوحيد الصفات ، وهو أنَّه لا يمتلك أحد الصفات الإلهية ، وهو وحيد في صفاته ومنفرد بها ، علمه وقدرته ورحمته وحكمته موجودة فيه بنحو استقلالي ، ولم يأخذها من آخر ، عكس ما عليه الانسان فقد اكتسب قدرته وعلمه من الله ولم تكن فيه على نحو الاستقلال ، والله هو الذي منحه هذه الصفات.
  3 ـ التوحيد في الأفعال
  هذا التوحيد يعني رجوع جميع الأفعال والحركات والنشاطات إليه ، وكل ما يملكه

أمثال القرآن _ 401 _
  الآخرون حتى الأنبياء والأولياء من حياة وحركة ونشاط يرجع إليه تعالى.
  إذا قالت الشيعة بالتوسُّل بالأولياء فلا يعني ذلك قدرة الأولياء على العمل على نحو الاستقلال وأن قدرتهم على أداء شيء في عرض قدرة الله تعالى ، بل تعتقد الشيعة بقدرة هؤلاء على عمل شيء بإذن من الله تعالى أو أن بإمكانهم الطلب من الله ليلبي حاجاتنا.
  إذا استطاع عيسى ( عليه السلام ) على إبصار الأعمى أو إحياء الموتى أو تبديل تمثال لطير إلى طير حقيقي أو معالجة المرضى الذين انقطعت الآمال عن شفائهم ، فذلك كله بإذن الله لا أن عيسى ( عليه السلام ) كان قادراً بنحو مستقل على تنفيذ هذه الأعمال ، كما صُرِّح بذلك في الآيّة 49 من سورة آل عمران والآيّة 11 من سورة المائدة.
  خطأ الوهابية في نسبة الشرك إلى الشيعة وبعض الفرق السنية ينشأ من تصوّرهم أنَّا نقول بالقدرة المستقلة لكلٍّ من الأولياء ونعتبر قدرتهم في عرض قدرة الله ، مع أنَّا نعتقد في أولياء والائمة المعصومين نفس الاعتقاد الذي صرَّح به الله سبحانه في حق عيسى ( عليه السلام ).
  يسرّني أن بعضاً من مفكّريهم التفت إلى هذا الخطأ وأصلح معتقداتهم في هذا المجال ، ونشرت له كتب تخص الموضوع (1).
  4 ـ التوحيد في الحاكمية
  الحاكم الوحيد للكون هو الله تعالى ، ومَن أراد الحكومة فعليه كسب الإذن من الله والعلم وفق قوانينه ، وهذا ما يُطلق عليه التوحيد في الحاكمية ، وهو من فروع التوحيد.
  الحكومات حتى حكومات الأنبياء تكتسب شرعيتها من تأييد الله لها ، وإذا شكّل النبي ( صلى الله عليه وآله ) حكومة في المدينة فبإذن من الله تعالى.
  وإذا شكّل الامام علي ( عليه السلام ) حكومة في الكوفة فبأمر من رسول الله وإذن من الله ، وكذلك حكومة باقي الأئمة ( عليهم السلام ).
  حكومة الولي الفقيه في هذا الزمان مشمولة بهذه الضابطة ، فالفقيه يتولّى الحكومة في عهد

--------------------
(1) يمكن الاشارة في هذا الباب إلى كتاب ( مفاهيم يجب أن تصحَّح ) تأليف السيد محمّد بن علوي المالكي الحسيني ، وقد لاقى إقبالاً وانتشاراً واسعاً في العالم الاسلامي.

أمثال القرآن _ 402 _
  الغيبة ، وفقاً لما جاء في روايات عن امام الزمان ( عجل الله فرجه ) وباقي المعصومين ( عليهم السلام ) ، وبهذا تكتسب حكومة الولي الفقيه شرعيتها من الله ، رغم أن قبولها من قبل الناس يعد عاملاً مؤثراً جيداً في المجال التنفيذي.
  الآية 189 من سورة آل عمران تشير إلى هذا الفرع من فروع التوحيد ، حيث جاء هناك : ( وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ).
  5 ـ توحيد المالك
  توحيد المالك يعني اعتبار الله مالكاً لكلِّ شيء في السماوات والأرض ، بعبارة اُخرى : الملكية الحقيقية لله فقط ، وما عند الآخرين فبإذن الله ومنه تعالى.
  ملكية الله للكون ملكية تكوينية ، فهو الذي خلق الكون وحافظ عليه. وقد جاء في بداية آية الكرسي : ( اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القيُّوم ) (1) ، والقيوّم تعني القائم بالذات والمقوِّم للغير ، أي أن الله قائم وباق بالاتكاء على ذاته ، وقيام وبقاء باقي الموجودات مرتبط به ، فهو خالق الكون وحافظه ، ولهذا يُعدُّ المالك الحقيقي له. أمَّا ملكية الانسان للبيت والسيارة وما شابه فملكية اعتبارية لا حقيقية ، رغم امكانية تصوّر الملكية الحقيقية في حق الانسان ، لأن ملكيته لعينه ويده واُذنه وباقي أعضائه ليست ملكية اعتبارية بحيث يمكن بيعها وشراؤها ونقلها بل ملكية حقيقية ، بالطبع في طول ملكية الله لها لا في عرضها.
  إذن ، الله المالك الحقيقي للكون كله ، وجعل مالك له غير الله يُعدُّ شركاً ، والمشركون عُدُّوا كذلك ، لأنهم كانوا يعتبرون الأصنام تملك النفع والضرر ، ويقولون بتأثيرها بنحو مستقل لا بإذن الله ، وذلك شرك.
  أشارت آية المثل إلى هذا الفرع من فروع التوحيد ، ومع لحاظ ما تقدَّم نبتُّ بشرحها.
  الشرح والتفسير
  ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِن أنْفُسِكُمْ ).
  جملة ( مِن أنْفُسِكُمْ ) تشير إلى مطلب جيّد ، وهو أن الله يوظّف معتقدات المشركين الباطلة

--------------------
(1) البقرة : 255.

أمثال القرآن _ 403 _
  لإبطال عقائدهم الاُخرى ، وهي نقطة مهمة في المناظرات والمناقشات ، ولا تعني صحة الاعتقادات الموظّفة والمستدل بها.
  ( هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ مِنْ ما رَزَقْنَاكُمْ ).
  خلاصة المثل : لو كان لك عبد لا يملك شيئاً ولا صلاحية له لعمل شيء إلاَّ بإذنك ، فهل أنت مستعد لجعل ذلك العبد شريكاً لك فيما رزقك الله وفيما جعله ملكاً لك ؟( فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ).
  بأن تتساوى أنت وعبدك في الأملاك واتخاذ القرارات وإبداء الرأي.
  ( تَخَافُونَ كخيفتِكُم أنْفُسَكُم ).
  ذكرت تفاسير مختلفة لهذه العبارة نبيّن واحداً منها : ان تشترك مع عبدك في جميع الاموال والممتلكات وتخاف أن يتصرَّف العبد بالأموال المشتركة بنحو مستقل (1).
  عندئذ فهل أنت مستعد لإشراكه في أموالك كلها ؟ أنت غير مستعد قطعاً.
  إذن لماذا تجعلون لله شركاء من الأصنام ، مع أن جميع ما في الكون من مخلوقات لله ؟ وهل يمكن أن يكون مخلوق الله شريكاً له ؟
  عبدك ليس شريكاً لك ، فكيف تجعل مملوك الله شريكاً له ؟ أنت غير مستعد لإشراك عبدك في أموالك رغم أنَّ ملكيتك لها اعتبارية ، فكيف لك أن تجعل مخلوق الله شريكاً له ، مع أن ملكيته للمخلوقات حقيقية ؟
  ( كَذَلِكَ نفصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَعْقِلُونَ ).
  العقلاء والعلماء والمفكرون مخاطبون في القرآن دائماً ، والدين الذي يدعو دائماً للتعقل والتفكير والعلم هو دين إلهي ، لأنَّ الأديان الباطلة وغير السماوية تدعو للجهل ، وتجعل

--------------------
(1) يُذكر أنَّه لا يجوز التصرُّف في المال المشترك إلاَّ برضا جميع الشركاء ، والمنزل الذي يرثه الاولاد لا يمكن لأحدهم أن يتصرَّف به حتى مثل الصلاة فيه دون إذن باقي الورثة ، لأن إذن جميع الشركاء في المنزل شرط في التصرُّف ، وإذا أجاز بعض كبار الورثة لنفسه التصرُّف فيه بنحو مستقل أو منع الأخوات من التصرُّف فيه ، وفقاً لبعض التقاليد ، كان ذلك غير مشروع ، خاصة إذا كان طفل صغير بين الورثة.