المثل السابع والثلاثون : ذات الله لا مثيل لها
  الآية 35 من سورة النور تشكل المثل السابع والثلاثين من أمثال القرآن الجميلة ، يقول الله فيها : ( اللهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكَاة فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَة الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَة مُبَارَكَة زَيتُونَة لاَّ شَرْقِيَّة وَلاَ غَرْبِيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَو لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُور يَهدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ ).

تصوير البحث
  هذا المثل من أهم أمثال القرآن المجيد ، وقد هَمَّ المفسرون والعرفاء بتفسيره ، وكلٌّ من الطائفتين ذكر له تفسيراً خاصاً ، والآية تمثيل بيّن وبليغ لذات الله تعالى ، حيث شبّهته بالنور ، ويأتي شرحه.
  الآية تشتمل على مثلين
  في الآية مثلان ، الأول هو المستبطن في العبارة : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ ) ، والثاني هو الذي تستبطنه باقي عبارات الآية.
  نحن على يقين بأن الله تعالى ليس نوراً محسوساً لذلك علينا تقدير كاف التشبيه في الآية لتكون كالتالي : الله كنور السماوات والأرض ، فان تجسيم الله تعالى أمر محال ذاتي.
  وعلى هذا تكون الجملة الاولى لوحدها مثالاً.

أمثال القرآن _ 350 _

  هل يجوز التمثيل لذات الله ؟
  هل يجوز لنا أن نمثّل لذات الخالق تعالى ونشبِّه ذلك الموجود المعنوي الواجب الوجود بموجودات مادية ممكنة الوجود ؟
  الجواب بالايجاب والسلب معاً ، فلا إشكال في التمثيل وفقاً لما جاء في الآية الكريمة ، فإنَّ الله نفسه مثّل لذاته ، لكن التمثيل ممنوع كذلك وفقاً لما جاء في الآية 74 من سورة النحل ، فقد جاء هناك : ( فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأمثالَ إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ).
  وإذا كان التمثيل ممنوعاً وفقاً لما جاء في الآية الأخيرة لماذا مثَّل القرآن لذات الله في الآية 35 من سورة النور ؟
  جاء الجواب على هذا السؤال في ذيل الآية 74 من سورة النحل ، فقد ورد هناك : ( إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، أي أنَّه لا مانع من التمثيل لله من قبل الله نفسه ، أمَّا التمثيل له من قبلكم فلا يجوز ، لأنكم لا تعلمون بما تمثّلون به ، فقد تمثّلون لذاته بما يثبت النقص له ، بينما هو لا يمثِّل لذاته إلاَّ التمثيل المناسب ، لأنَّه يعلم بذاته والانسان لا يعلم بها.
  شأن نزول الآية 74 من سورة النحل هو أن المشركين كانوا يبرّرون عبادتهم للأصنام بالقول بأنَّ الله بمثابة الملك والأصنام بمثابة وزراء له ، وبما أنَّه لا يمكن الوصول إلى الملك فنقترب إلى الوزراء ونتمسك بهم تقرُّباً إلى الملك (1).
  نزلت هذه الآية لردِّ التبرير المتقدِّم ، معلنة منع التمثيل لذات الله على الاطلاق ، مغلِّطة ذلك التمثيل ، وذلك باعتبار أنَّ الملك أو أي انسان آخر موجود ضعيف ومحدود من حيث الزمان والمكان ، فلا يمكن للجميع الوصول إليه ، أما الله العالم والقادر فهو موجود وحاضر في كل مكان وزمان وفي قلب كل انسان ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، والاتّصال به ممكن وسهل للجميع ، بل أسهل من الاتّصال بالاُم والأب والزوج والأخ والاُخت والولد ، وذلك لأنه غير محدود ويمكن مناجاته وخطابه في كل لحظة وآن ، وفي النوم واليقظة ، وعند القيام والقعود ، وفي الصحاري والبوادي ، وفي الشوارع ، وتحت أي ظرف من الظروف.

--------------------
(1) انظر الأمثل 8 : 236 ـ 237.

أمثال القرآن _ 351 _
  يصف الله العلماء في الآية 191 من سورة آل عمران قائلاً : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِياماً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانكَ فقِنا عَذابَ النَّارِ ).
  إذن ، لا مشكلة في الاتصال بالله والتواصل معه لكي نحتاج لإيجاده إلى واسطة مثل الأصنام ، ولهذا لا يمكن تشبيه الله بموجود ضعيف عاجز ، فهو يسمعنا ويرانا عند الصلاة التي ندعوه في كل واحدة منها مرّتين على أقل تقدير ونقول : ( إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، ولا يمكن قياسه مع ممكن الوجود.
  ونتيجة ذلك : عدم امكانية التمثيل لله إلاَّ من قبل الله نفسه فحسب.
  بالطبع ، ما تُضرب له من أمثال توضِّح بعض الجهات من وجوده وتعيننا على معرفة جوانب خاصة منه ، ولا تمثيل يُبيّن جميع أبعاد وجوده فهو ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ) (1) ، باعتبار أن المخلوقات جميعها فانية أما هو فباق ، كما أنَّ كلَّ شيء متناه وهو غير متناه ، وكل المخلوقات ضعيفة وجاهلة ، وهو قادر وعالم.
  الشرح والتفسير
  ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ ).
  لأجل اتّضاح هذا المثل الذي شُبِّه فيه وجود الله المقدس بنور السماوات والأرض علينا دراسة خواص النور.
  نور الشمس هو المصداق الباز والكامل للنور ، وله خواص وآثار متعدِّدة ، أهمها أربع :
  1 ـ الهداية
  يمكن الاهتداء بالنور ، ويمكن استخدام نور القمر والنجوم لهذا الغرض.
  ولهذا يضلُّ الانسان في الليالي المظلمة.
  فالاهتداء أثر مهم للنور.

--------------------
(1) الشورى : 11.

أمثال القرآن _ 352 _
  2 ـ التربية والنمو
  الأثر المهم الآخر لنور الشمس هو النمو ، فالانسان والحيوانات والنباتات وجميع الموجودات الحية تنمو وتتربّى برعاية هذا النور ، وتنعدم الحياة أينما انعدم النور.
  نور الشمس ينفذ إلى عمق 600 أو 700 متر في البحر ، وتبدأ الظلمات الخالصة فيما بعد هذا العمق ، ولأجل ذلك كان العلماء يتصوّرون كون الحياة منعدمة في تلك الظلمات ، بينما عثروا على موجودات حية فيها.
  والسؤال المطروح هنا هو : كيف أمكن للموجودات أن تعيش وتتربى في هذه الأعماق دون نور ؟
  الحقيقة أنَّ هذه الموجودات تنال نصيباً من النور ، لأن بعض الأغذية التي تُعدُّ في المستويات الأعلى من هذه البحار تسقط إلى تلك الأعماق لتتناولها الموجودات هناك.
  وهذا يعني أن الله قد أعدَّ مطبخاً واسعاً بحجم سطح البحار لإطعام الموجودات الحية في البحر.
  فالنمو والتربية والحياة أثر مهم آخر للنور.
  3 ـ إيجاد القدرة والحركة
  الأثر المهم الآخر لنور الشمس كمصداق أكمل للنور هو إيجاد القدرة على الحركة وإيجاد الطاقة.
  يعتقد العلماء أن منشأ الطاقة الموجودة هو نور الشمس ، والحرارة التي تصدر من الحطب عند احتراقه هي في الحقيقة نتيجة لادّخار نور الشمس في الحطب عندما كان شجرة تنمو بنور الشمس ، وتتحررّ هذه الطاقة عند احتراق الحطب لتتبدل إلى قوّة محرّكة.
  يُعدُّ الفحم الحجري من مصادر الطاقة ، وقد حصل على طاقته من الشمس كذلك ، لانَّه ـ وفقاً لاكتشافات العلماء ـ عبارة عن بقايا لأشجار تحجّرت في باطن الأرض تدريجياً لتصبح فحماً بعد مرور زمن طويل.
  النفط من أهم مصادر الطاقة في عصرنا الراهن ، وقد اكتسب طاقته من الشمس كذلك ، لأنه عبارة عن بقايا حيوانات تربّت في البحر وتفسّخت بعد جفاف البحار إثر تحولات

أمثال القرآن _ 353 _
  وانقلابات تحصل على وجه الأرض ، تُدفن بعدها بقايا هذه الحيوانات لتتدّل بمرور الزمان إلى مادة سوداء معروفة بالنفط.
  ومن الواضح أن الحيوانات تتغذى من النباتات ، والأخيرة تنمو بفضل نور الشمس.
  الكهرباء من مصادر الطاقة المهمة ، وهي كباقي مصادر الطاقة تنال قدرتها من الشمس كذلك ، فماء البحر يتبخّر بواسطة نور الشمس ويصعد إلى الطبقات العليا من الجو ، ثمّ يتبدّل البخار إلى غيث يسقط على سطح الأرض ، فتتبدل قطراته إلى قنوات وأنهار يُدَّخر ماؤها خلف السدود ، ويوضع في السدود محركات تربينية تُحرَّك من خلال الماء المتجمّع خلف السدود عندما تُفتح منافذ له نحوها.
  الريح هو الآخر من مصادر الطاقة ، وهو يحصل بفضل نور الشمس.
  والنتيجة : كل مصادر الطاقة في عالم المادة تستلهم قوتها وقدرتها من نور الشمس.
  4 ـ رفع موانع الحياة
  من الآثار المهمّة الاُخرى لنور الشمس هو كونه بمثابة مضاد حيوي للميكروبات ، فهو يعمل على تطهير الأرض من الميكروبات والبكتيريا المضرّة ، والشمس عندما تسطع تقتل هذه الموجودات إذا نالتها إشعاعات من الشمس ، ولو لم يكن نورها لتبدّلت الأرض إلى مستشفى واسعة ومقبرة عظيمة.
  إذن ، تعدُّ الهداية والتربية وايجاد القدرة والطاقة ورفع موانع الحياة من الآثار المهمّة لنور الشمس.
  ومع الالتفات إلى الخصائص المتقدِّمة لنور الشمس نبتُّ بشرح الآية الشريفة ، لكي يتّضح كيفية تشبيه الله بنور السماوات والأرض.
  كما أن النور سبب للاهتداء كذلك الله تعالى ، فهو مرشد وهادي الموجودات جميعها ، المادية منها والمعنوية ، وقد جاء في الآية 50 من سورة طه : ( رَبَّنا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ).
  هداية الله للموجودات تختلف باختلافها ، فيهدي الله بعضها بالهداية الغريزية وبعضها

أمثال القرآن _ 354 _
  الآخر بالهداية الالهامية وبعضها من خلال التعاليم التي يأتي بها الإنبياء والأوصياء ، والمسلَّم هو أن الموجودات كلها مشمولة بهداية الله تعالى ، ولو لم تكن هدايته لما اهتدى موجود أبداً.
  على سبيل المثال ، توجد طيور لا تعرف اُمها ولا أبيها ، لأنها لم ترَ والديها أبداً ، فهما يموتان قبل تفقس البيوض ، رغم ذلك نرى الفراخ تَخرج من البيوض وهي تعلم منهج حياتها من الطيران والبحث عن الطعام واختيار الطعام المناسب والتزاوج والتلاقح وصناعة العش وما شابه ذلك ، فكيف أمكنها تعلُّم ذلك دون أن يكون لها مرشداً من أب أو اُم ؟ ذلك عين الهداية الغريزية والتكوينية التي منحها الله سبحانه للموجودات ، ( الذي أعْطَى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) !
  شملتنا نحن البشر الهداية التكوينية والتشريعية كذلك ، فمن الذي علَّم حديث الولادة أن يمصَّ ثدي اُمه ؟ ومَن عَلَّمه أن يبكي عندما يشعر بالجوع أو العطش أو الألم ؟ هذه كلها من مصاديق الهداية التكوينية ، أما الهداية التشريعية فهي التي شملتنا بواسطة تعاليم الرسل والأنبياء والأئمة.
  كما أنَّ نور الشمس يربّي الموجودات ويجعلها تنمو كذلك الله خالق الموجودات فهو يربّيها ، ولهذا اُطلق عليه ( رب العالمين ) ، ونكرّر هذه الصفة مرّتين في كل صلاة نصلّيها.
  تربية الله للانسان تبدأ منذ انعقاد النطفة وتستمر حتى نهاية عمره ، ولو انقطع فيض الله ورعايته لنا لحظة واحدة انتهينا جميعاً ، ولهذا نقول بأن حياة جميع الموجودات بيد الله الحسيب.
  الأثر الآخر لنور الشمس هو كونه منشأ للطاقة ، والله تعالى منشأ لجميع الطاقات المتصوّرة في العالم حتى الشمس التي هي منشأ كل طاقة مادية على وجه الأرض ، فهي من مخلوقاته تعالى وتستلهم طاقتها منه ، ولو انقطعت فيوضات الله تعالى عن الشمس للحظة واحدة لتلاشت بحيث لا يبقى منها شيء رغم عظمتها وضخامتها ، ولهذا يُقال : ( لا حول ولا قوّة إلاَّ بالله العلي العظيم ).
  الله عظيم يمكنه منح المخلوقات حركة وقدرة وقابلية ، وهو الوحيد القادر على خلق موانع مادية للحركة ، وقادر كذلك على رفعها ، فلو أراد تلاشت كل قدرة ، أمَّا البشر فضعيف إلى

أمثال القرآن _ 355 _
  درجة قد يقتله ميكروب أو فيروس لا يمكن رؤيته إلاَّ بمجهر قوي.
  علينا التدقيق في عبارات تتردَّد على ألسنتنا كثيراً من قبيل : ( لا حول ولا قوّة إلاَّ بالله ) أو ( بحول الله وقوّته أقوم وأقعد ) ، فإن التدقيق فيها يوصلنا إلى نيتجة هي : لو رفع الله فيضه عن الانسان لفقد الانسان كل قواه ولأماتته موجودات ضعيفة جداً ولعجز عن حفظ لعاب فمه كما يعجز عن ذلك حديث الولادة.
  الآثر الآخر لنور الشمس هو عمله كمضاد حيوي ، كما تفعل ذلك المضادات الحيوية والمطهرات الصناعية ، والله يعمل كذلك ، فهو يرفع موانع الحياة ليتسنَّى لموجودات من قبيل الانسان أن يعيش على وجه الأرض.
  على سبيل المثال ، نذكر الأسماك كغذاء للبشر ، فاُناث الأسماك تفرز بيوضاً كثيرة جداً لو سمح للبيوض جميعها أن تعيش لاكتضَّ البحر بالأسماك بحيث تسلب ماء البحر قدرته على الحركة ، لكن تدابير الله تعالى كانت في خلق موجودات اُخرى في البحر تعيش على هذه البيوض وتقضي عليها ، إيجاداً للتوازن والتعادل في بيئة البحر.
  ومثال آخر ، بعض النباتات تنمو بسرعة فائقة جداً يمكنها أن تغطي مدينة كاملة في فترة قصيرة.
  ومثال آخر كذلك هو وجود حيوانات سريعة التكاثر لو سمح لها لما تركت مساحة ومجالاً للبشر وباقي الموجودات.
  لكن الله تعالى رفع هذه الموانع كلها وجعل تعادلاً في البيئة ليتسنى للجميع العيش معاً.
  تحطُّ ميكروبات كثيرة على عيون الناس يومياً وبخاصة في المدن الملوّثة ، بامكانها أن تعمي عيون البشر جميعهم في فترة قصيرة لكن الله خلق الدموع لدفع هذه الميكروبات وقتلها ، فان الدمع يحتوي على مواد من صنف المضاد الحيوي يطهّر العين ، وهي مواد موجودة في لعاب الانسان كذلك وتلعب نفس الدور الذي تلعبه في الدموع.
  إذن ، الله كالنور سبب للهداية والتربية والطاقة والحيوية ويمنح الحياة ويرفع الموانع عنها ، ولهذا هو : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ ).

أمثال القرآن _ 356 _
الأشياء التي شُبِّهت بالنور
  في الآيات والروايات شُبِّهت أشياء كثيرة بالنور ، نكتفي بذكر خمسه نماذج.
  1 ـ ذات الله تعالى ، ( اللهُ نُورُ السَّمَاواتِ والأرْضِ ) ، وقد تقدَّم شرح ذلك في الأسطر السابقة.
  2 ـ القرآن المجيد ، كما جاء في الآية 15 من سورة المائدة : ( قَدْ جَاءَكُمْ مِن اللهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبينٌ ) ، والنور في هذه الآية إشارة إلى القرآن الكريم.
  3 ـ الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، كما ورد ذلك في الآية 46 من سورة الاحزاب : ( وَدَاعِياً إلى اللهِ بإذْنِهِ وسِراجاً مُنيراً ).
  4 ـ أئمة الهدى ( عليه السلام ) فهم نور الهُدى في ظلمات الضلال ، كما جاء ذلك في زيارة الجامعة الكبيرة : ( خَلَقَكُم اللهُ أنْواراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِين ).
  5 ـ العلم كذلك شُبِّه بالنور ، فقد ورد ما يلي في الرواية : ( العلمُ نورٌ يقذفهُ اللهُ في قلبِ مَن يشاء ) (1).
  يُذكر أن العلم من حيث الحصول على قسمين :
  الف : علم اكتسابي تحصيلي ، وهو الذي يحصل عليه الانسان بالسعي والجهد في المدارس والحوزات والجامعات.
  باء : علم إلهي ، وهو الذي يقذفه الله في القلوب الجديرة والمفعمة بعشق الله والطاهرة ، وهو ليس اكتسابياً.
  هذه خمسة نماذج ممَّا شُبِّه بالنور ، وعند التدقيق فيها نراها تشترك في شيء واحد ، وهو الله تعالى ، فالقرآن المجيد كلام الله ، والرسول ( صلى الله عليه وآله ) مبعوث من قبل الله ، والائمة خلفاء رسول الله ، والعلم يقذفه الله في القلوب المؤهلة.
  وعلى هذا ، جميع الأنوار ترجع إلى الله تعالى.
  ( مَثَلُ نُورِه كمِشكَاة فيها مِصْبَاحٌ ... ).

--------------------
(1) مصباح الشريعة : 16 ، والرواية منقولة عن الامام الصادق ( عليه السلام ) ، وفي الوافي 1 : 10 ورد تعبير ( من يريد ) بدلاً عن ( مَن يشاء ).

أمثال القرآن _ 357 _
  تقدَّم أن الآية 35 من سورة النور عبارة عن مثلين ، مضى الحديث عن المثل الأول حيث شبِّهت ذات الله بنور السماوات والارض ، أمَّا المثل الثاني فيبدأ من عبارة ( مَثَلُ نُورِهِ ... ) إلى آخر الآية.
طرحت بحوث كثيرة في ذيل المثل الثاني ، فكل صاحب تخصُّص نظر إلى الآية من زاوية تخصصه ، وفسَّر علماء الكلام الآية من وجهة نظرهم ، وفسرها الفلاسفة من وجهة نظرهم الخاصة ، وفسَّرها العرفاء من وجهة نظر عرفانية ، وفسَّرها مفسرو القرآن بما يتلاءم مع اختصاصهم ، سنشير إلى بعض من هذه التفاسير ، وقبل البتِّ بالتفسير نورد توضيحاً حول السراج أو المصباح.

السراج في التاريخ
  كان الانسان يعيش في الظلام قبل اكتشاف النار ، وما كان يستفيد إلاَّ من الأنوار الطبيعية ، مثل الشمس والقمر والنجوم ، ثم اكتشف أكبر وأهم نعمة إلهية ، وهي النار ، بعد ما شاهد القدحة الحاصلة من اصطكاك شيئين أو احتراق مواد جافة لسبب ما ، عندها حصل تحوّل عظيم من جميع الجوانب في حياة البشر ، بحيث يمكن الادّعاء بأنَّ النار أهم سبب للتقدُّم الصناعي ولتسهيل العيش على الأرض.
  استخدم الانسان النار لإيجاد الحرارة وللإضاءة كذلك ، وصنع لهذا الغرض وسائل تكاملت تدريجياً ، منها : السراج الذي اُعدَّ لأجل استخدام النار للإضاءة.
  السراج الذي كان يستخدمه الانسان في عصر الجاهلية وأوائل ظهور الاسلام داخل ضمن سلسلة التكامل الذي نالته الصناعات البشرية ، وهو آنذاك كان يتكوّن من خمسة أجزاء ، ومورد الآية هو السراج الذي كان يُستخدم آنذاك ، لنتعرف هنا على أجزائه الخمسة.
  1 ـ الفتيلة ، وهي الخرقة التي تجتذب الوقود لتحترق وتُضيء ، والتي عُبِّر عنها بالمصباح في الآية الكريمة.
  2 ـ الزجاجة ، وهي التي توضع فوق الفتيلة لكي تنظم جريان الهواء ، ولا تترك الفتيلة تخرج منها دخاناً بسبب عدم الاحتراق الكامل ، الأمر الذي يؤدي إلى اسوداد السقف بسخام

أمثال القرآن _ 358 _
  المصباح ، كما أن الانارة ضعيفة دون هذه الزجاجة.
  3 ـ الوعاء الذي عبّر عنه القرآن بالمشكاة.
  السراج المزبور يعمل جيداً في الظروف الاعتيادية لكنه ينطفأ عند هبوب الريح ، كما أن الزجاجة تنكسر إذا صدمها شيءٌ ، ولهذا كان يستدعي وجود مكان معدٍّ له ، وعلى هذا الأساس تُصنع أوعية خاصة تُقسَّم إلى قسمين :
  الف : الأوعية المحمولة ، وهي مستطيلة يحيطها الزجاج من كل الأطراف ، فيها نافذة يدخل من خلالها السراج ، ويمكن حملها ونقلها من مكان إلى آخر.
  باء : الأوعية الثابتة التي لا يمكن نقلها من مكان إلى آخر ، وغالباً ما توضع حيث يوجد رفّ أو شباك يطل على ساحة البيت ليضيء المصباح للبيت ولساحته ، ويجعل فوقه منفذ لتبادل الاوكسجين ونافذة لإدخال السراج في الوعاء.
  وأحياناً تجعل الزجاجة في الجانب المطل على الساحة ويترك الجانب المطل على البيت دون زجاجة.
  فائدة هذا الوعاء هو المنع من انطفاء الشعلة أو تحطم زجاجة السراج.
  4 ـ الوقود ، الأمر الآخر الذي يستدعيه السراج هو الوقود الذي تجتذبه الفتيلة ويشتعل بعد إيقاد النار في الفتيلة (1).
  5 ـ مصدر الطاقة والوقود ، إذا كان وقود السراج زيت الزيتون فلابدَّ وأن يكون مصدر لهذا الزيت ، وهو شجرة الزيتون.
  والنتيجة : كون شجرة الزيتون والوعاء والزجاجة والفتيلة تشكّل مجموعها عوامل خمسة لتوليد النور والإضاءة ، وهي اُمور أشارت لها الآية الكريمة.
  الشرح والتفسير
  ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ في زُجاجة الزُّجَاجَة كَأنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ).

--------------------
(1) كانت تستخدم أنواع مختلفة من الزيوت إلاَّ أن زيت الزيتون كان أفضلها ، باعتبار عدم تصاعد دخان منه ، وباعتبار رائحته المناسبة ، مضافاً إلى دوامه وعدم احتراقه بسرعة.

أمثال القرآن _ 359 _
  زجاجة هذا السراج شفافّة ونظيفة ولامعة وتنير كإنارة النجم في السماء.
  ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَة مُبَارَكَةِ زَيْتُونَة لا شَرْقِيّة وَلا غَرْبِيَّة ).
  مصدر طاقة هذا السراج شجرة الزيتون المباركة والنابتة لا في شرق البستان بحيث تكون في الظلِّ عند شروق الشمس ولا في غرب البستان بحيث تُحرم من نور الشمس عند الغروب ، بل هي وسط البستان تتمتّع بنور الشمس والهواء الطلق بأفضل ما يمكن.
  ( يَكَادُ زيْتُهَا يُضيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْه نَارٌ ).
  وقود السراج زيت الزيتون ذات جودة عالية جداً ، يؤخذ من الشجرة المزبورة ، وهو شفّاف ويبدو بحدّ ذاته منيراً ومشعاً دون إيقاد النار فيه ، فهو خالص جداً.
  ( نُورٌ عَلَى نُور يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ).
  النور يصدر من كل أجزاء السراج ، من المصباح ومن الزجاجة ومن الوعاء ، بحيث يبدو السراج نوراً متراكماً ، والله سبحانه وتعالى يهدي ويرشد مَن يشاء إلى هذا النور الإلهي.
  ( وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ واللهُ بكُلِّ شيء عَلِيمٌ ).
  يضرب الله هذه الأمثال لكي يستوعب الناس بمختلف مستوياتهم المفاهيم العالية بنحو أفضل ، والله عليم بكل شيء.
  خطابات الآية
  1 ـ ما المراد من نور الله ؟
  شبِّه نور الله تعالى في هذه الآية بالسراج ذات الأجزاء المتقدّم ذكرها ، فما ذلك النور الذي شبِّه بالسراج ؟
  أبدى المفسرون نظريات مختلفة في هذا المضمار ، لكنَّ هناك نظرية منسجمة مع ما يراه المتكلمون ، وهي كون المراد منه نور الإيمان.
  نور الايمان شعلة متّقدة ومصباح في زجاجة قلب الانسان ، وقلب الانسان ونور الايمان وضعا في وعاء الصدر.
  المشكاة هي صدر المؤمن ، والزجاجة قلبه والمصباح نور الإيمان المتّقد في قلب المؤمن.
  يستلهم نور الايمان المتّقد في قلب المؤمن طاقته من الكلمات النورانية للقرآن

أمثال القرآن _ 360 _
  المجيد وروايات المعصومين ، أي أن الآيات والروايات بمثابة زيت الزيتون الذي يؤمّن وقود سراج الايمان الكائن في قلب الانسان ، ولهذا تزداد نورانيته كل يوم وكلّما اقترب من الآيات والروايات.
  مصدر وقود الايمان ( الآيات والروايات ) هو شجرة الوحي المباركة التي هي لا شرقية ولا غربية ، فليست ذات طابع مادي بحت ولا ذات طابع معنوي بحت ، بل تغطي كل الجوانب والأنحاء.
  وهذا الوقود زلال وشفاف وصاف جداً ، فلا خطأ ولا زيغ في الآيات وكلمات المعصومين ، فهي كلمات مضيئة ولامعة لا تحتاج إلى شيء آخر لإيقادها.
  كلٌّ من الآيات والروايات نور على نور ، آيات الله في القرآن المجيد نور ، وكلمات المعصومين نور على نور كلمات الله.
  إن الله يهدي من يشاء من خلال آياته وروايات المعصومين ، والله يضرب الأمثال المتنوّعة للناس ، وهو يعلم ما يضرب من الأمثال.
  إذن ، وفقاً لهذا التفسير ، المراد من نور الله هو نور الإيمان ، والشاهد عليه ما ورد في بعض الآيات من التعبير بالنور للاشارة إلى نور الايمان ، كما جاء ذلك في آية الكرسي : ( اللهُ وَليُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ والَّذِين كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِن النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ ) (1).
  هذا مضافاً إلى الروايات التي دلَّت على أن كلمات المعصومين نور ، وبهذا يكون المراد من النور في الآية هو نور الإيمان.
  2 ـ ( يَهْدِي اللهُ لنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ماذا تعني ؟
  سؤال : هل أن الله يهدي من أراد هدايته ولا يهدي من لم يرد هدايته ؟ أو هل الهداية الإلهية المبتنية على اساس الحكمة تشمل أولئك الذين شملتهم مشيئة الله فقط ؟
  الجواب : مشيئة الله تتبع حكمة الله دائماً ، والحكيم يهدي وفق محاسبات لا اعتباطاً.

--------------------
(1) البقرة : 257.

أمثال القرآن _ 361 _
  إن هذه الهداية الالهية شملت سلمان الفارسي الذي طوى مسافات شاسعة بين ايران والمدينة وتحمَّل المشاق والمتاعب الكثيرة لأجل لقاء الرسول وقبول دينه ، وقد كان من أوائل المسلمين الذين لبّوا دعوة الرسول وبقى على عقيدته وصمد وقاوم ودافع عنها حتى آخر لحظات عمره الشريف.
  ولم تشمل هذه الهداية أمثال أبي لهب وأبي سفيان ، لأنهما كانا إلى جنب الرسول وكانا يرانه كل يوم ويسمعان حديثه وآيات الله ، ولم يزدهما ذلك إلاَّ عصياناً ولجاجاً ومقاومة لهذا الدين.
  من الواضح أن شمول أو عدم شمول الهداية لم يكونا اعتباطاً بل كانا عن حكمة ، فقد تحمَّل سلمان المشاق والمتاعب الوافرة لأجل هذا الدين ، وتحمَّل عبء العبودية والرق مرات عديدة وتحمَّل التعذيب ، ولم تثبّط هذه الاُمور عزيمته على لقاء الرسول ، فكان جديراً للهداية حقاً ، أما العصاة المتعصّبون وعبدة الأهواء والمغرورون ، فكان التعصّب والغرور واللجاجة قد ضرب بينهم وبين نور الايمان ستاراً يمنع من نيلهم من هذا النور ، فكانوا دون نصيب منه.
  لا يمكن للأعمى أن يهتدي بنور الشمس مهما كان قوياً ، وهذا ليس لنقص في نور الشمس بل لسقم في عينيه.
  والخفاش إذا كان يعيش في الظلام ويهرب من نور الشمس سعياً وراء الظلمات فلأجل أنه غير جدير ولا مؤهَّل لنور الشمس ، بل ذلك هو شأنه.
  النور نور مهما كان ، وما علينا هو إعداد أنفسنا للاستلهام منه ، فنتجنّب الرذائل الأخلاقية لكي نكتسب أهليه الهداية الالهية.
  إذن ، الآية : ( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) تعني : يهدي الله لنوره من وجدت فيه الأهلية والجدارة.
  والآية : ( وَاللهُ بكُلِّ شَيء عَلِيمٌ ) تعني : الله عالم بمن تحققت فيه هذه الجدارة فيهتدي ومن لم تتحقق فيه فلا يهتدي بل يُحرم من الهداية. وبتعبير آخر : لا يتوفّق الانسان لعمل إلاَّ إذا عشقه ، ولو أراد الانسان الهداية الإلهية فعليه أن يحب الله ويترك الأهواء واتّباع الشيطان.
  شكى شخص عند أحد العظماء بأنه لم يُوفّق لرؤية صاحب الأمر والزمان ( أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء ) حتى في المنام ، رغم حبه إياه وعشقه الوافر له.

أمثال القرآن _ 362 _
  فقال له العالم : أدلّك على طريق يبلغ بك إلى الرؤية ، كُل هذه الليلة طعاماً مالحاً جداً ونم دون أن تشرب ماء بعده.
  عمل هذا الشخص بوصفة هذا العظيم ، فنام عطشاناً ، وقد سرق العطش منه النوم إلاَّ أنه كان ينام بين الحين والآخر وكلَّما نام شاهد في المنام ماءً وأنهاراً ومنامات تتعلَّق بالماء فقط ولم يرَ في المنام شيئاً غير الماء.
  وفي الصباح استيقظ وقال مع نفسه : عملت بوصفه ذلك الرجل ولم أرَ إلاَّ الماء ، فذهب وحكى له ما جرى ، فأجاب ذلك الرجل : إنك كنت أمس عطاشاً ومشتاقاً للماء حقاً فما رأيت في منامك غيره ، ولو كنت مشتاقاً لرؤية الحجة بن الحسن حقاً ( عجل الله فرجه ) لرأيته.
  يناسب بحثنا رواية وردت عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد قال في طعم الإيمان : ( ثلاثٌ مَن كنَّ فيه ذاق طعم الإيمان ، مَن كان لا شيء أحبُّ إليه من الله ورسوله ، ومَن كان لإنْ يُحرَق بالنار أحب إليه مِن أنْ يرتدَّ عَن دينه ، ومن كان يحبُّ لله ويُبغض لله ) (1).
  وجود هذه الثلاثة في الانسان يعني الالتفات والتوجّه الخالص لله لا للزوج والأولاد والأهواء والجيران والأصدقاء والمعارف ، كما تعني اختيار الانسان الحرق بالنار فيما لو خُيِّر بينه وبين البقاء على دينه ، كما تعني أن لا يعادي إلاَّ مَن أراد الله معاداته وان لا يحب إلاَّ من أحبه الله ، أي أن علاقاته تبتني على حبّ الله وبغضه ، عندئذ يذوق الانسان طعم الإيمان وحلاوته.
  وهناك رواية اُخرى يقول فيها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( مَن كَانَ أكثرُ همّه نيل الشهوات نزعَ من قلبه حلاوة الإيمان ) (2).
  كيف يقوى إيماننا ؟
  سؤال : مع الأخذ بنظر الاعتبار الأهمية القصوى للايمان ، فما نعمل لتقويته ؟ أو كيف يمكننا

--------------------
(1) تنبيه الخواطر ( من مجموعة ورّام ) 2 : 116.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 282 ، الحديث 1374.

أمثال القرآن _ 363 _
  أن نوقد نور الايمان في قلوبنا ؟
  الجواب : هناك أساليب متعددة لتقوية الإيمان نشير إلى بعض منها :
  الاول : التعرُّف على القرآن
  يقوى إيماننا أكثر كلَّما تعرَّفنا على القرآن أكثر ، ويضعف إيماننا كلما ابتعدنا عن ينبوع السعادة هذا ، وقد صرَّحت بذلك الآية الثانية من سورة الأنفال : ( إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيمَاناً وَعَلى ربِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ).
  أيُّها الأعزة ، عليكم التعرُّف على القرآن أكثر فأكثر ، فاتلوا القرآن وراجعوا تفسيره ، وبخاصة أن تفاسيراً جيدة أصبحت في متناول اليد هذا العصر.
  يسرّني أن أرى بعض المسلمين الذِين يعيشون بين الكفار قد حافظوا على دينهم وإيمانهم بل ازدادوا إيماناً بفضل هذا الاسلوب.
  الثاني : التدقيق في أسرار الخلق
  الدنيا التي نعيشها مفعمة بآيات الله تعالى ، وإذا سبق وأن قيل في ورقة الشجرة : إنها بمثابة كتاب لاُولي الألباب ، يقال فيها اليوم : إنها مكتبة لذوي العقول ، وتكفي الانسان ليتعرَّف على الله إذا لم يمر منها دون تفكّر ، فهي من عجائب الخلق رغم كثرتها وتواجدها في كل مكان من ساحات المنازل والشوارع والازقة.
  يقول العلماء : إذا وضعنا الورقة تحت مجهر نجدها تتكون من بناء ذات عدَّة طبقات ، لكل طبقة بناء خاص ومسؤوليات خاصة.
  في الورقة شبكة معقدة وطويلة ومنتظمة من الأنابيب ، لا يمكن للمهندسين تصميم هكذا شبكة لأنابيب المياه في مدينة.
  ولهذا يقال : كل ورقة مكتبة لمعرفة الخالق.
  لبلوغ هذا الهدف ، يمكن للشباب أن يطالعوا ما دوِّن في علم الأحياء والنبات ، والتي تُدرّس بعضها في الإعدادية ، وكلَّما دققنا في خلق الله كلما زادت معرفتنا ، وكانت نتيجة هذه المعرفة وثمرتها حب الله ، وفاكهة حب الله الصون من الخطأ وارتكاب المعصية.

أمثال القرآن _ 364 _
  الثالث : التقوى والورع
  الاجتناب عن ارتكاب الذنوب والسير في طريق الاسلام المستقيم من عوامل تقوية الايمان ، وكلَّما زاد تقوى المؤمن وورعه كلما تنوّر قلبه بنور الإيمان أكثر فأكثر ، وكذا العكس ، أي كلَّما ضعف تقوى الانسان كلما ضعف إيمانه.
  كما أن هناك علاقة متبادلة بين الايمان والتقوى ، فكما أن التقوى تقوّي الايمان كذلك الايمان فهو يقوى التقوى ويزيد فيه.
  الرابع : التوسّل والدعاء
  التوسّل بلطف الله والمعصومين ( عليهم السلام ) من عوامل تقوية الإيمان ، فلا ينبغي الغفلة عنهما ، والمفروض في التوسّل والدعاء أن يقترنا بحضور القلب والواقعية ، وأن ينطلقا من الإحساس بالحاجة حقاً ، فلا ندعو ولا نتوسل إلاَّ ونعتبر أنفسنا فقراء محتاجين ، ونخاطب الله ونقول : ( لا نأمل شيئاً إلاَّ منك ) أو ( مَن لنا غيرك ) ؟
  لو أحكمنا علاقتنا مع الله تعالى أصلح الله علاقتنا مع باقي المخلوقات.
  أتمنى أن نبلغ منازل الإيمان العليا من خلال العمل بهذه الأوامر والأساليب.
  في نهاية البحث ننقل حديثاً جميلاً عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يقول فيه : ( إنَّ أعلى منازل الإيمان درجة واحدة مَن بلغ إليها فقد فاز وظفر ، وهو أن ينتهي بسريرته في الصَّلاح إلى أن لا يُبالي لها إذا ظهرت وأن لا يخاف عقابها إذا استرت ) (1).

مباحث تكميلية
  تفاسير متباينة لآية واحدة!
  قلنا : للآية تفاسير مختلفة ، تقدَّم تفسير واحد وسيأتي تفسيران ( التفسير الفلسفي والتفسير الروائي ) ، وقبل التعرُّض لهذين التفسيرين ينبغي الإجابة عن السؤال التالي : هل يمكن أن يكون عدَّة تفاسير لآية واحدة؟ وهل يمكن أن يكون هناك عدَّة معاني لجملة

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 273 ، الحديث 1338.

أمثال القرآن _ 365 _
  واحدة وفي وقت واحد ؟ وهل يجوز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد ؟
  الجواب : نعتقد أن ذلك ليس جائزاً فحسب بل يُعدُّ فناً ويكشف عن بلاغة المتكلم وجمال وعمق كلامه ، فاستعمال اللفظ في أكثر من معنى من محاسن الكلام وكماله (1).
  وعلى هذا ، فلا مانع للآية أن يكون لها سبعون تفسيراً قصدها المتكلم جميعاً ، ونجد نماذج لذلك في باقي مجالات اللغة العربية بل حتى غير العربية.
  وعلى سبيل المثال ذُكر سبعون معنى لمفردة العين ، كعضو الانسان المعروف والذهب والشمس وغير ذلك.
  وقد وصف أحد الشعراء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالبيتين التاليين :

المرتجى في الدُّجى والمبتلى بعمى      والـمشتكى ضـمئاً والمبتغى iiديناً
يـأتون  سـدته مـن كـل ناحية      ويـستفيدون  مـن نـعمائه iiعيناً
  أي أنَّ طوائف أربع تأتي للرسول وتطلب منه شيئاً ، هم :
  1 ـ المبتلون بالظلمات يأتون لعين وشمس وجوده.
  2 ـ العُمي الذين يقبلون عليه لنعمة عينه.
  3 ـ الفقراء يأتونه لطلب العين ، أي الذهب.
  4 ـ المسلمون الذين يشعرون بالظمأ فيقدمون له لطلب عين الماء.
  ضمَّن هذا الشاعر الماهر المعاني الأربعة للعين في مفردة العين التي وردت في شعره.
  على أي حال ، لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، ولهذا يمكن للآية الواحدة أن يكون لها عدَّة معاني وتفاسير ، على أن يكون لكلِّ تفسير شواهده وقرائنه لا أن يكون تفسيراً اجتهادياً وبالرأي ، فنحن ممنوعون من ذلك. بعد هذه المقدمة نَبتُّ بالتفسيرين الآخرين لهذه الآية.
  الف : التفسير الفلسفي
  ذكر الفلاسفة تفاسير متعدِّدة لهذه الآية نشير إلى واحد منها.

--------------------
(1) بحث هذا الموضوع علماء الاصول ، منهم الاستاذ في كتابه : أنوار الاُصول 1 : 141 ، وقد أشبعه بحثاً هناك.

أمثال القرآن _ 366 _
  يقول الفلاسفة : هناك ثلاثة عوالم ، هي :
  1 ـ عالم المعقولات : وهو عالم العقول والمجرّدات ، أي عالم ما وراء المادة ، وهو عالم لا زمان فيه ولا مكان ولا جسم ولا أجزاء.
  2 ـ عالم النفوس : وهو العالم الذي تلتقي فيه المجرّدات بالمادة ، مثل روح الانسان التي هي من المجرّدات تلتقي بجسمه الذي هو مادي.
  3 ـ عالم الأجسام : وهو الذي أشارت إليه العبارة : ( مَثَلُ نُورِهِ ) ، فهي تعني نور الوجود ، فقد شبَّه الفلاسفة الوجود بالنور في كثير من مباحثهم ، وقالوا هنا : المراد من النور هو نور الوجود الذي يقع في ثلاث مراحل ، في عالم المجردات توجد الملائكة ، وفي عالم النفوس يوجد الناس وفي عالم الأجسام توجد الأجسام الاُخرى.
  المراد من المصباح الذي ورد في الآية هو عالم العقول ، وهذه العقول تقع في الزجاجة التي هي عالم النفوس ، وهذه العقول التي في النفوس توضع في مشكاة تُدعى أجسام.
  ينشر الله نور الوجود ، حيث خلق العقول والمجردات أولاً ثم الزجاجة التي هي النفوس ثمّ الوعاء والمشكاة ، وهو عالم الأجسام ، أما شجرة الزيتون المباركة فهي ذات الله تعالى ، التي هي مصدر كل الموجودات في العالم ، وأما الزيت فهو فيض الوجود الذي ينبع من الله تعالى.
  الخلاصة : فسَّر الفلاسفة النور الالهي بالوجود ، وطابقوا المصباح والزجاجة والمشكاة على العوالم الثلاثة.
  باء : التفسير الروائي
  يستفاد من الروايات الواردة في تفسير هذه الآية أن المراد من المصباح هو العلم ، فهو سراج منير يهتدي به الناس ، والمراد من المشكاة قلب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) الطاهر ، والمراد من الزجاجة هو وصي الرسول ، أي الامام علي ( عليه السلام ) ، فقد حافظ على الرسول وآثر بنفسه لأجل الرسول وتحمَّل الأخطار والمشاق في هذا المجال ، والمثال البارز لهذا الكلام دفاعه عنه في معركة ( اُحد ) ، فقد كتب الشيعة والسنة أن مَن تبقى حياً من المسلمين فرَّ إلاَّ علي فقد عكف في

أمثال القرآن _ 367 _
  ساحة الحرب دفاعاً عن الرسول وللذود عنه فكان يحوم حوله ويواجه كل من قصد الرسول وأراد قتله.
  انتهت معركة اُحد وعلي ( عليه السلام ) يحمل معه جروحاً كثيرة ، عدَّتها بعض الروايات إلى تسعين جرحاً ، وفي رواية وردت عن الامام نفسه يقول فيها : ( أصابني يوم اُحد ست عشر ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهنَّ ، فأتاني رجل حسن الوجه ، حسن اللمّة ، طيّب الريح ، فأخذ بضبعي فأقامني ثم قال : أقبل عليهم ، فإنك في طاعة الله وطاعة رسول الله ، وهما عنك راضيان ) قال علي ( عليه السلام ) : ( فأتيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) فأخبرته فقال : يا علي أقرّ عينك ذاك جبرئيل ) (1).
  جملة ( نورٌ على نور ) تشير إلى الأئمة الاثنى عشر ، فكلٌّ منهم نور على النور الذي سبقه ، والمراد من الشجرة المباركة هو الشجرة الإبراهيمية المباركة التي تفرَّع منها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، والمراد من ( لا شَرقِيَّة وَلا غَرْبِيَّة ) هو نفي التوجُّهات اليهودية والمسيحية (2).

--------------------
(1) بحار الأنوار 20 : 93.
(2) انظر الأمثل 11 : 95.

أمثال القرآن _ 369 _
المثل الثامن والثلاثون : سراب الحياة
  جاء ما يلي في الآية 39 من سورة النور : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَة يَحْسَبُهُ الظَّمآنُ مَاءً حتى إذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حسابَهُ واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ).

تصوير البحث
  وردت هذه الآية في الكفار غير المؤمنين ، عكس آية المثل السابق ، حيث وردت في المؤمنين ( وفقاً لأحد التفاسير ) ، فهي أجابت على التساؤل التالي : هل تقبل الأعمال الحسنة لهؤلاء عند الله أم لا تُقبل منهم أيٌّ من الأعمال الحسنة ؟ جواب الآية على هذا التساؤل كان من خلال ضربها مثلاً يأتي شرحه.

الشرح والتفسير
  ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَة ).
  لأجل اتّضاح معنى الآية ينبغي شرح المفردتين ( سراب ) و ( قيعة ).
  السراب من مادة سَرْب ، وتعني الحركة والجري من الأعلى نحو الأسفل ، ففي العربية مفردات دقيقة ، فقد وضع العرب للجري من الأعلى إلى أسفل مفردة غير التي وضعوها للجري من الأسفل إلى الأعلى أو الجري على الارض المستوية ، أي أنَّهم كانوا يضعون مفردة

أمثال القرآن _ 370 _
  مستقلة للحالات المتباينة والمختلفة ، فللجري من الأعلى إلى الأسفل وضعوا ( سَراب ) ، والذي تورَّط بالسراب يقال : ( سَرَب ) ، كما قد يُطلق ( سَرْب ) على الماء الجاري ، لأنه يجري ويسيل من الاعلى إلى الأسفل دائماً ، أما علميّاً فالسراب ليس ماءً بل يشبه الماء وينشأ من انكسار الضوء (1).
  حرارة سطح الارض إذا ازدادت سببت ترقيق طبقات الجو القريبة من سطح الأرض ، والضوء الذي يأتي من الطبقات العليا ينكسر عندما يصل سطح الأرض ، ويبلغ الانكسار إلى مستوى الانعكاس الكامل ، فيعكس لون السماء الأزرق فتبدو طبقات الجو القريبة من سطح الأرض ماءً ، وهو ما يُطلق عليه السراب.
  أرجع بعض العلماء قصة سعي هاجر زوجة إبراهيم ( عليه السلام ) بين الصفا والمروة إلى رؤيتها السراب ، وخلاصة القصة : أن هاجر صعدت جبل الصفا سعياً نحو الماء فشاهدت سراباً على جبل المروة ، فركضت نحو المروة ، لكنها لم تجد ماءً ، فنظرت إلى الصفا فرأت سراباً فركضت نحوه كذلك ولم تجد ماءً عندما بلغته ، واستمر سعيها للبحث على الماء بين الجبلين سبع مرَّات حتى نبعت عين زمزم تحت رجلي اسماعيل ( عليه السلام ) ، وبذلك نجيا من الموت (2).
  اتضح بذلك معنى السراب لغةً وعلمياً ، لكنَّ المعنيين غير منظورين في الآية ، والمراد من السراب في الآية المعنى الكنائي ، الذي هو عبارة عن الشيء الذي يبدو جميلاً وخلاَّباً من بعيد ، وهو أجوف في الواقع.
  مفردة ( قيعة ) تعني الصحراء الخالية من الماء والكلأ ، واختُلِف في كون هذه الكلمة مفرداً أو جمعاً ، والإنصاف أنَّها مفرد ، كما هو حال السراب.
  إذن ، من كان نور الإيمان منطفأً عنده ولا إيمان له فان أعماله الصالحة وعباداته وسجداته وانفاقه وإعاناته كسراب في صحراء جرداء خالية من الماء والكلأ.
  ( يَحْسَبُهُ الظمآنُ مَاءً ).

--------------------
(1) كمثال على ذلك : لو وضعنا ملعقة بنحو مائل في قدح ماء لوجدنا الملعقة تبدو معوجّة ، وهذا بسبب انكسار الضوء.
(2) تفاصيل القصة تجدها في الأمثل 1 : 397 ـ 398.

أمثال القرآن _ 371 _
  الظمأ يعني العطش ، والظمآن هو العطشان ، والسراب يجذب العطشان نحوه ، باعتبار حاجته الملحّة للماء.
  ( حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ).
  الظمآن بعد ما يرى السراب ، يتحرّك باتجاهه ، وعندما يصل إليه لا يجد ماءً ، فينظر إلى حيث كان ، فيرى سراباً آخر ، فيتّجه نحوه كذلك ، وهذه العملية تستمر هكذا ، ممَّا يؤدّي إلى ازدياد عطشه.
  هذا هو شأن الكفار يوم القيامة ، فهم يبحثون عن أعمالهم الحسنة التي أدوها في الدنيا لعلَّها تنجيهم ، لكنهم لا يحصلون على شيء فيرجعون خلو اليدين ، لأن أعمالهم كانت بمثابة السراب الذي يبدو ماءً وما هو بماء.
  ( فَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ).
  يتعطش الكافر يوم القيامة إلى الأعمال الصالحة ، فيرى من بعيد تلاً من أعماله فيتّجه نحوها ، وعندما يقترب منها يجدها لا شيء بل يجد الله ( أي يجد عظمته أو عذابه ) يهتمُّ بحسابه ويريه جزاء أعماله القبيحة.
  ( واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ).
  لا يتوانى الله في حساب الكفار ، بل يُسرع في حساباتهم. وحساب يوم القيامة يختلف عن الحسابات العادية التي نمارسها يومياً ، فهو حساب معقّد ودقيق ويستدعي وقتاً طويلاً ، فمن الصعب جداً أن تُراجع أعمال الانسان كلها منذ بداية خلقته ، سواء التي نفذّها بيده أو برجله أوبلسانه أو بقلبه أو بعينه أو اُذنه.
  رغم ذلك جاء في رواية : ( إنَّه تعالى يُحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر ) (1) ، وهذا هو معنى ( واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ).
  لكن يا ترى كيف يمكن هذا ؟
  للاجابة على هذا السؤال ينبغي إلقاء نظرة على بعض منجزات البشر.
  يوضع في الطائرة صندوق يُدعى الصندوق الأسود ، وهو في الحقيقة نظام مراقبة يشرف

--------------------
(1) مجمع البيان 1 : 298.

أمثال القرآن _ 372 _
  على حركات وإيعازات الطيّار بدقة ، وإذا برز نقص أو إشكال فني في الطائرة يحدّده مباشرة حتى لو سقطت الطائرة وتحطّمت وقُتِل مَن كان فيها.
  النموذج الآخر الحاسوب الذي تستخدمه المخابرات في العالم ، فهي قادرة على سرد كل معلومات ذات علاقة بحادث أو قضية أو شخص ما في لحظات من خلال حاسوباتها.
  والنموذج الأبسط لذلك أجهزه الحاسوب التي تحدّد ساعات دخول وخروج الموظفين في دائرة ، فهي تعيّن مقدار تأخُّر الموظف وساعاته إن نقصت ، ومقدار راتبه في نهاية الشهر.
  كذلك أعمال الانسان فإنّها مراقبة من قبل أجهزة إلهية دقيقة جداً ، تسجّل عندها كل حركة ونشاط للانسان ، وبامكان الله تعالى أن يحصل على أعمال الانسان الكثيرة التي قام بها خلال عشرات السنين من عمره بنظرة واحدة ، ( واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ).
  غالباً ما تخلو الأعمال السريعة والمستعجلة مِن الدقة الكافية ، لكن الدقة هنا فائقة بحيث لا يبقى شيء ولو بسيط دون حساب ، رغم السرعة العالية.
  معاذ بن جبل يسأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يا نبيَّ الله ، وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به يا رسول الله ؟ فيجيبه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( فهل يكبُّ الناس في النار على مناخرهم إلاَّ حصائد السنتهم ) (1).
  أي أن كلام الانسان لا يُحاسب عليه فقط بل خطره أكثر من خطر باقي الأعمال ، ويمكنه إدخال الانسان في النّار ، وبخاصة أن كبائر الذنوب تُقترف باللسان.
  ولهذا علينا الانتباه عمَّا يصدر منَّا من أعمال ،فإنَّا محاسبون على كل واحد منها ، خصوصاً اللسان الذي خطره أكبر من غيره.
  النتيجة : وفقاً لما جاء في هذه الآية كون أعمال الانسان الكافر بمثابة السراب الذي يبدو شيئاً من بعيد ، وهو لا شيء ولا واقع له من قريب ، فلا يغني من جوع ولا يروي من عطش.
  خطابات الآية
  1 ـ المثل لدنيا الكافرين أم لاُخراهم ؟
  سؤال : هل أعمال الكفار في الآخرة بمثابة السراب ولا فائدة تعقبها أم في الدنيا كذلك ؟

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 3568 ، الحديث 17914.

أمثال القرآن _ 373 _
  وبتعبير آخر : هل أن أعمال الكفار غير مثمرة في الدنيا والآخرة معاً ؟
  الجواب : نعتقد أن الآية تشير إلى دنيا الكفار وإلى آخرتهم ، فأعمالهم في الدنيا كذلك سراب لا أكثر.
  الانسان المعاصر تورَّط بأنواع مختلفة من السراب الذي يسعى حثيثاً نحوه ثمّ يجده لا شيء ، ومن ذلك الحرية الغربية.
  إذا نظرنا إلى العالم الغربي من بعيد نرى الحرية الجميلة تتلألأ فيه وتجتذب الانسان نحوها ، لكنَّا عندما ندخل في المجتمعات الغربية لا نجد أثراً للحرية الحقيقية ، بل نجد الغربيين اسرى لاُمور مختلفة من قبيل الأهواء والموضات والمخدرات ومختلف الأمراض الجنسية والتمييز العنصري وما شابه ذلك.
  الإدمان جعل من الانسان موجوداً لا اُبالياً تجاه الدين والشرف والناموس.
  كما أن الموضات والأزياء لا تنسجم مع العقل السليم ، لأن ترك لبس الحذاء أو الملابس بذريعة سقوط موضته يُعدُّ نوع إسراف مذموم.
  أما الأهواء فقد سيطرت على الانسان كالأخطبوط الذي يسيطر على فريسته ، وقد سلب من الانسان كل نشاطاته العقلائية.
  نعم ، الحرية الغربية سراب لا أكثر ، فهي ذات ظاهر جذاب وباطن أجوف ، كما هو حال حياة الانسان غير المؤمن ، فهي حياة سرابية من جميع الجهات ، فقد نراها حياة مرفّهة وسعيدة من بعيد ، لكن واقعها من قريب غريق الهموم والأمراض ، بحيث نصيبه عند الغداء أو العشاء قرص صغير من الخبز لا أكثر !
  كتبت احدى الصحف أنَّ في أمريكا غابة تدعى غابة انتحار الأثرياء ، يقصدها الأثرياء بعد مللهم من سراب الحياة فيقدمون على الانتحار.
  أليست هذه الحياة سراباً ؟ فهي من بعيد قصر فخم وحياة مرفّهة وسيارة فاخرة وعمل مفضَّل وامكانيات وافرة ومعمل وأسهم و ... أمَّا من قريب فمرض واضطراب ويأس وفراغ وما شابه ، إذن حياة الكفار سراب لا أكثر.
  يقول الله تعالى في الآية السابعة من سورة الروم : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرَاً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون ).

أمثال القرآن _ 374 _
  أي أنهم يعلمون زخارف الحياة وزينتها وما ظهر منها ، ويجهلون باطنها الأجوف.
  ومن نماذج السراب في حياة الانسان المعاصر هو الامراض النفسية الموحشة.
  نعلم بتقدُّم العلم والطب كثيراً في علاج الأمراض العضوية والبدنية ، كما أنه قضى على كثير من الأمراض التي كانت في العهود السابقة ، أمَّا الأمراض النفسية فقد أخذت بالانتشار ، ومن المحتمل أن يأتي يوم يستحيل فيه العثور على انسان سليم نفسياً ، لأنَّ سراب الحياة سلب منه النوم ، ولا يمكنه أن يغفو ساعات متوالية إلاَّ بأقراص منوّمة.
  تجاوز هذه الدنيا الفانية والخادعة يتم من خلال العمل بالوصفة الدقيقة للطبيب الكبير المعالج لهذه الأمراض ، أي الامام علي ( عليه السلام ) ، حيث قال : ( تَخفَّفُوا تَلْحَقُوا ) (1).
  الاسفار القديمة كانت تتمُّ على نحو قوافل ، وما كان يتوفّق فيها إلاَّ مَن كانت أمتعته قليلة وخفيفة وإلاَّ يتخلَّف عن القافلة في مراحلها الاُولى ، والامام ( عليه السلام ) يرى شأن السفر في الدنيا نحو الآخرة شأن السفر مع القافلة ، فمن خفّف فيها استطاع اللحاق بها وإلاَّ تخلّف.
  2 ـ الاسلام دين النوعية لا الكمية
  لم يطلب الاسلام أعمالاً كثيرة من المسلمين بل طلب منهم أعمالاً خالصة ، ولهذا قد توضع يوم الآخرة تلاً من الأعمال في الميزان لا تزن شيئاً.
  نفس الاشخاص يوزنون كذلك من حيث الاخلاص ، وفي هذا المجال جاءت الرواية التالية : ( إنَّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة ) (2).
  إذن ، ما يوليه الاسلام من أهمية هو عمق العمل ، ولهذا لا يوصي الاسلام بالكثرة والكمية أبداً بل بالكيفية والنوعية.
  يقول الله تعالى في الآية السابعة من سورة هود : ( لَيَبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً ) ، داعياً الانسان من خلال هذه الآية إلى الاهتمام بنوعية العمل وكيفيته.

--------------------
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 21.
(2) مجمع البيان 6 : 497.

أمثال القرآن _ 375 _
المثل التاسع والثلاثون : أعمال المشركين
  يقول الله تعالى في الآية 40 من سورة النور : ( أوْ كَظُلُمات فِي بَحْر لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لم يَكَدْ يَرَاهَا ومَنْ لَمْ يَجْعَل اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور ).

تصوير البحث
  تضمَّنت سورة النور ثلاثة أمثال ، أحدها : الآية 35 ، وقد تحدثّت عن نور الايمان ، وفي المثالين الآخرين ( الآية 39 و40 ) ورد الحديث عن أعمال الكفار ، فشُبِّهت أعمالهم في الآية 39 بالضوء الكاذب الذي يبدو ماءً ( السراب ) ، أمَّا في المثل الذي هو موضع بحثنا فلا يعتبر الله أعمالهم ضوءً ولو كاذباً بل ظلمات مطلقة.

الشرح والتفسير
  ( أوْ كَظُلُمَات في بَحْر لُجِّيٍّ ).
  لجيّ من اللجاجة وتعني الإلحاح على عمل ، كما لو راجعت شخصاً لكي يقوم بعمل لك ، لكنه يرفض فتراجعه تارة اُخرى فيرفض كذلك وتستمر المراجعات ... وهذا لجٌّ.
  ومن هذا الباب اُطلق لُجّي على البحر عندما تتتابع أمواجه ، فكأنَّ الأمواج تلجُّ.
  والله شبَّه أعمال الكفار بظلمات البحر إذا كان لجّيّاً.