الظلّ الذي تفتعله الغمام ، وهو ظلٌّ سائر وغير دائم ولا ثابت في محل ما ، فلا يمكن اللجوء إليه هروباً من حرارة الشمس.
  الدنيا منام يراه الانسان النائم ، وهو خيال أجوف ، من قبيل رؤية الانسان لكنوز كثيرة يمتلكها ، ولا يجدها ولا آثارها في اليقظة.
  إذن ، الدنيا فانية ، كما أنها جوفاء وخالية من المحتوى.
  هاء : في حديث يصف لقمان الحكيم الدنيا لابنه كما يلي : ( إنَّ الدنيا بحر عميق قد غِرق فيها عالَمٌ كثير ) (1).
  الذي يغرق إمَّا أن يصبح طعاماً للحيوانات البحرية أو أن أمواج البحر تلقي به إلى أماكن بعيدة ، بحيث لا يبقى منه أثر.
  والدنيا تفعل بالانسان كما يفعل البحر بالغريق ، فهي قاسية وغير وفيّة.
  عاش في هذه الدنيا أقوام ونحل كثيرة لا نجد لها أثراً حالياً ، فهي قد غرقت في بحر الدنيا ، فعلينا البحث عن وسيلة نجاة من بحر الدنيا يُطمئن إليها ننقذ بها أنفسنا من الغرق.
  واو : يقول الامام علي ( عليه السلام ) فيما يخصُّ أهل الدنيا : ( أهل الدنيا كَرَكْب يُسار بِهِم وهُمْ نيام ) (2)
  عبدة الدنيا يقضون حياتهم في نوم الغفلة ، وقد أدهشتهم شهوات الدنيا ولذّاتها ، لذلك لا يصطحبون معهم متاعاً في سفرهم نحو الآخرة ، يستيقظون عندما يشعرون بصفعة الأجل ، عندها يندمون ويأسفون ، لكن ذلك لا يفيدهم ، لأن زمن التدارك قد مضى وولَّى.
  زاء : يصف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الدنيا بمثل جميل ويقول : ( الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر ) (3).
  يحكم المؤمنين قيود كثيرة في الدنيا ، هي من قبيل الحلال والحرام ورضا الله وغضبه والمحرمات والواجبات ، وهي قيود تحدُّ من نشاطات المؤمنين كثيراً ، أمَّا الكفَّار فهم في حلٍّ من

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 1263 ، الحديث 6056.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 1254 ، الحديث 6017.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 1241 ، الحديث 5933.

أمثال القرآن _ 322 _

  جميع هذه القيود ، فهم أحرار والأهواء هي التي تحكمهم ، ولذلك يُعدُّ المؤمن سجين الدنيا في زنزانة تتحطّم عند الموت لتحلِّق روحه منها نحو الحرية.
  وهذا هو السبب في أنَّ أولياء الله يتطلّعون إلى الموت ويعدونه فوزاً ( فُزْتُ وربِّ الكعبة ) أو يتمنّونه ( اللهمَّ عجِّل وفاتي سريعاً ) ، فهم يستقبلون الموت برحابة صدر ولا يهابونه أبداً.
  إذا كان دفتر أعمال الانسان أبيض كان الموت نعمة له ، لأنه يتخلَّص عنده من الدنيا المفعمة بالمصائد والفخاخ الشيطانية ، ويتخلَّص كذلك من قيود الدنيا ليبلغ نعمة الحرية التي ينالها المؤمن في الآخرة.
  حاء : يصف النبي عيسى ( عليه السلام ) الدنيا كما يلي : ( إنَّما الدنيا قنطرةٌ فاعبروها ولا تعمروها ) (1).
  الدنيا ليست هدفاً ولا غاية ، بل وسيلة ، والنظر إلى الدنيا من هذه الزاوية يعدُّ إيجابياً جداً ، ونرتكب خطأً كبيراً إذا نظرنا إليها كهدف وغاية.
  لذلك شبّهها النبي عيسى ( عليه السلام ) بالجسر الذي ينبغي العبور عليه لا المكث فيه ، فالعاقل لا يبني منزلاً على الجسر ، فهو ليس محلاً للتوقف والعيش ، والعجيب إذا صدر ذلك من الانسان.
  في هذا المجال ورد حديث عن الامام علي ( عليه السلام ) يقول فيه : ( عجبت لعامر الدنيا دار الفناء وهو نازل دار البقاء ) (2).
  طاء : ينقل الامام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) مكاشفة عن أمير المؤمنين ( عليه السلام )فيما يخصُّ الدنيا الدانية ، حيث يقول : ( إنّي كنت بفدك في بعض حيطانها ، فإذا أنا بامرأة قد قحمت عليّ وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها ، فلمّا نظرت إليها طار قلبي ممَّا تداخلني من جمالها فشبهتها ببُثينة بنت عامر الجُمحي وكانت من أجمل نساء قريش ، فقالت : يا ابن أبي طالب ، هل لك أن تتزوّج فاُغنيك عن هذه المسحاة وأدلك على خزائن الأرض فيكون لك الملك ما بقيت ولعقبك من بعدك ؟ فقال لها : مَن

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 1259 ، الحديث 6033.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 12549 ، الحديث 6035.

أمثال القرآن _ 323 _
  أنت حتى أخطبك من أهلك ؟ فقالت : أنا الدنيا ، قال : قلت لها : فارجعي واطلبي زوجاً غيري ) .
  ثمّ أنشد ( عليه السلام ) أبياتاً جميلة في ذمها (1).
  تقدَّمت تسعة من الأمثال الواردة عن الدنيا على لسان المعصومين واذا جمعناها إلى الآية تصبح عشر أمثال جميلة تعكس بوضوح الجوانب والخصائص الأربع التي ذكرناها للدنيا.
  اللافت أن المعصومين أينما تحدَّثوا عن موضوع بيّنوه بنحو واف لا لُبس ولا نقص فيه ، وبه تتمُّ الحجة على الجميع بحيث لا يمكن لأحد أن يدَّعي عدم العلم أو المعرفة.
  3 ـ ما سبب ذم الروايات الدنيا ؟
  كثرة مذمّة الدنيا من قبل الروايات إشارة منها إلى نقطة جاءت في نفس الروايات تحدّد فلسفة وعلة هذه المذمّة ، على سبيل المثال جاء ما يلي في رواية وردت عن الوجود المقدس للامام الصادق ( عليه السلام ) : ( رأس كلِّ خطيئة حب الدنيا ) (2).
  هذه الرواية تُرجع الذنوب كلها ( وهي من قبيل السرقة والتهمة والغيبة والاستهزاء وإيذاء المؤمن والزنا واللواط والاعتداء على الآخرين وترك الواجبات وفعل المحرمات ) إلى حبّ الدنيا وعبادتها.
  وفي رواية لافتة وجميلة يقول الامام الكاظم ( عليه السلام ) : ( إعلم أنَّ كل فتنة بذرها حبُّ الدنيا ) (3).
  وفي رواية يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( أكبر الكبائر حبُّ الدنيا ) (4).

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 1253 ، الحديث 6015.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 1221 ، الحديث 5815.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 1221 ، الحديث 5813.
(4) ميزان الحكمة ، الباب 1221 ، الحديث 5814.

أمثال القرآن _ 324 _
تحليل الروايات
  الدنيا محلّ التزاحم عكس الآخرة ، فلا تزاحم فيها ، وبعبارة اُخرى : للتزاحم مجال في الاُمور الدنيوية ، ولا يُتصوَّر هذا التزاحم في الاُمور المعنوية.
  وعلى سبيل المثال إذا كنت حافظاً للقرآن فلا يتزاحم ذلك مع حفظ القرآن من قبل الآخرين حتى لو حفظه نساء الدنيا ورجالها جميعاً.
  وعكس ذلك في الأمور الدنيوية فإذا كنت مالكاً لقطعة من الارض ، تزاحم ذلك مع ملك شخص آخر لنفس الأرض.
  أي هناك تزاحم بين ملكك وملك الآخرين أو إذا كان زيد رئيساً للجمهورية فلا يمكن لعمرو أن يكون رئيساً للجمهورية كذلك.
  وبما أنَّ هذه الدنيا دار تزاحم كانت سبباً للذنوب.
  وامكانيات الدنيا لو قسمت بعدالة بتكافؤ لأمكن للجميع الاستفادة منها بالنحو المطلوب إلاَّ أن طلاّب الزيادة وعبدة الدنيا حالوا دون حصول تعادل في توزيع الامكانيات ووفّروا الأرضية للتعدي والتجاوز على الحقوق ، وبذلك تندرس حقوق الضعفاء وتضيع.
  وهذا هو تصوير كون الدنيا منشأً للذنوب.
  إذن ، لو اقتنع الانسان بما لديه واتَّخذ القناعة كمنهج لحياته حفظ نفسه بعيداً عن التلوّث بكثير من الذنوب.

أمثال القرآن _ 325 _
المثل الرابع والثلاثون : تنوّع أمثال القرآن
  ( وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هَذَا القُرْآنِ للنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَل وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيء جَدَلاً ) (1).

تصوير البحث
  خلافاً لباقي الأمثال حيث تحدَّثت عن عينيات خارجية فان الحديث في هذه الاية عن المسائل الكلية وتنوع أمثال القرآن ، لعلَّ هذه الأمثال تقنع بتعدّدها وتنوّعها الانسان الجاحد والمجادل وتهديه إلى الصراط المستقيم.
  هل هذه الآية من أمثال القرآن ؟
  اختلف المفسرون في هذا الباب ، فبعض عدَّها من أمثال القرآن وبعض آخر رفض إدراجها في الأمثال ، وبرأيي أن الإجابة على هذا السؤال يتوقّف على كيفية تفسيرنا لأمثال القرآن ، فإذا كان المراد من المثل التمثيل بشيء ذي عينية خارجية ، كما هو حال الكثير من أمثال القرآن ، كانت هذه الآية خارجة عن نطاق المثل ، وإذا كانت الإشارة الكلية إلى أمثال القرآن كافية في صدق المثل اندرجت هذه الآية تحت هذه الأمثال ، لأن هذه الآية تشير إلى تنوّع الأمثال القرآنية.

--------------------
(1) الكهف : 54.

أمثال القرآن _ 326 _
  يُذكر أن بعضاً ممَّن كتب في أمثال القرآن أخطأ هنا ، ومع احترامي له أقول : لا ينبغي عدّ الآية مثلاً بمجرد تضمّنها مفردة ( مثل ) ، فقد جاء في الآية : ( فأتوا بِسُورة مِنْ مِثْلِهِ ) (1) رغم ذلك لا علاقة للآية بالأمثال القرآنية ، بل تحدَّثت عن إعجاز القرآن المجيد.
  كما وردت مفردة ( مثل ) في الآية التالية : ( للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) (2) وهي كذلك لا علاقة لها بأمثال القرآن ، بل الحديث فيها عن الإرث.
  ومن جانب آخر ، هناك البعض من أمثال القرآن لم تستخدم فيها مفردة ( مثل ) ، رغم ذلك يعدها الجميع من الأمثال.
  النتيجة : وجود أو عدم وجود مفردة ( مثل ) لا يدل على كون الآية من الأمثال أو ليست من الأمثال ، بل المثل هو أن تبيّن الآية معنى عقلياً معقداً في قالب أمر محسوس يسهل استيعابه للجميع.

الشرح والتفسير
  ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرآن للنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَل ).
  مفردة ( صَرَّفنا ) من مادة التصريف ويعني التبديل والتغيير ، ولذلك يقال صَرَّافاً لمن يبدّل النقد من عملة إلى اُخرى فيبدل الدينار بالدولار أو بالعكس مثلاً.
  وقد اُطلق اصطلاح ( علم الصرف ) على العلم المعروف ، باعتبار كونه علماً يعني بتبديل الكلمة إلى أشكال وصيغ مختلفة من الماضي والمضارع واسم الفاعل والمفعول والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث والمخاطب والغائب وغير ذلك.
  يقول الله في هذه الآية : إنَّا بيّنّا أمثالاً مختلفة ومتنوّعة للناس ، وبيّنا الموضوع المتحد باشكال وصيغ مختلفة ومتنوعة لعلَّ الانسان يهتدي بها إلى ربّه.

--------------------
(1) البقرة : 23.
(2) النساء : 11.

أمثال القرآن _ 327 _
  ( وَكَانَ الإنسانُ أكْثَرُ شَيء جَدَلاً ).
  ماذا يعني الجدل ؟
  الجدل يعني فتل الحبل فتلاً جيداً ، كما يطلق على المتصارعين ، باعتبار اشتداد وانفتال أحدهما بالآخر ، كما يُطلق على نقاش شخصين في القضايا الفكرية والمنطقية ، حيث تُفتل أفكار كلٍّ منهما بالآخر وتلتحم.
  النتيجة : كون الجدل في البداية اُطلق على فتل الحبل وشدّه ثم توسّع هذا المفهوم ليشمل كل انفتال مادي حتى لو كان من قبيل تصارع شخصين ، ثم اُطلق على مفهوم أوسع ليشمل انفتال الأفكار بالنحو المشار إليه في الأسطر المتقدّمة.
  استخدم القرآن ولغرض هداية الانسان أمثالاً متعدّدة ومتنوّعة ، لكن الانسان رغم ذلك يجادل في الحق ويقف أمامه أكثر من أي موجود شاعر آخر.
  الانسان موجود مجادل ، هذا هو سبب عدم تسليمه للحق وهو سبب جحود البعض في صدر الاسلام وعدم إيمانهم رغم سماعهم آيات القرآن من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ورؤيتهم إيّاه كل يوم ، وظلوا هكذا حتى الموت.
  وقبال هؤلاء اُناس آمنوا بمجرّد سماعهم آية من آيات القرآن دون أن يروا الرسول ( صلى الله عليه وآله ).
  سبب ذلك واضح ، فالذين لم يؤمنوا كانوا اُناساً مجادلين يقلبون الحقائق بالجدل ، أمَّا اولئك الذين آمنوا بالرسول لمجرّد جرعة واحدة من جرعات الهداية دون أن يروا الرسول فقد كانوا يبحثون عن الحقيقة والهدى ، وهذا هو الشرط الأساس للهداية.
  أشار الله إلى هذا الموضوع المهم في بداية سورة البقرة وعبر جملة قصيرة حيث قال : ( ذلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدَىً للمُتَّقِينَ ) ، وذلك لأن المراد من التقوى في هذه الآية ليس المعنى المألوف والمصطلح بل المتقين هنا هم اُولئك الذين خلت قلوبهم من العناد واللجاجة والجدل ، فالقرآن بالنسبة إلى هؤلاء سبب للهداية ، أمَّا أصحاب اللجاجة والعناد فما يزيدهم القرآن إلاَّ ضلالاً فضلاً عن أن يكون سبباً لهدايتهم.
  أمثال أبي لهب وأبي جهل لم ينهلوا من القرآن شيئاً ، وذلك لأنهم كانوا يفقدون أرضية النهل من بركات ونعم هذا الينبوع ، فإنَّ قابلية القابل شرط مضافاً إلى فاعلية الفاعل ، فكما أنَّ

أمثال القرآن _ 328 _
  نزول قطرات الغيث الشفافة شرط لنمو النباتات كذلك الأرض المعدَّة والخصبة شرط لنمو النباتات.
  خطابات الآية
  1 ـ تنوّع أمثال القرآن
  سؤال : لماذا استخدم القرآن أمثلة متنوّعة ؟ ولماذا بيَّن مطلباً ومضموناً واحداً بقوالب متباينة ؟ تارة يمثّل بالحيوانات وأُخرى بالصالحين أو الفاسدين واُخرى بالنباتات أو نور الشمس وما شابه ذلك ، فما سبب هذا التنوّع ؟
  الجواب : ذهنية الأشخاص تختلف كاختلاف أشكالهم الظاهرية ، فشخصيات الأفراد وقدراتهم على الاستيعاب والتحليل وأذواقهم وثقافتهم مختلفة ، وإذا أراد المتكلّم أن يتوفّق ويؤثر في المخاطبين فعليه صياغة كلامه بقوالب مختلفة ومتنوّعة ناظراً في ذلك إلى قابليات المخاطبين ، لأنَّ منهجاً في البيان قد يكون مؤثراً في الشباب وغير مؤثر في الكهول أو بالعكس ، وقد تؤثر جملة في شخص اُمّي ولا تؤثر في المثقف ، وقد تكون بعض المطالب مؤثرة في النساء غير مؤثرة في الرجال وهكذا.
  إذن ، على المتكلّم أن يلاحظ هذه النقطة المهمة وينوّع في أساليب بيانه سعياً في التأثير على جميع المخاطبين وبمختلف مستوياتهم.
  مخاطب و القرآن المجيد اُناس كانوا عهد البعثة ، وسيكون له مخاطبون إلى يوم القيامة وفي أرجاء المعمورة وبأذواق وأفكار ومستويات وتطلّعات ومعلومات مختلفة فاستخدم أمثالاً متنوّعة علماً منه باختلاف البشر في مختلف الجوانب.
  وبعبارة اُخرى : إنَّ كتاباً من هذا القبيل لا يمكنه أن يتحدَّث بأدبيات واحدة مع اختلافات وتنوّع مخاطبية ، بل عليه تنويع أدبياته ليستوعبه الجميع.
  على سبيل المثال تحدّث القرآن عن نفسه بأنحاء مختلفة ، ففي مورد يقول : ( قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللهِ

أمثال القرآن _ 329 _
  نُورٌ وكِتَابٌ مُبينٌ ) (1) فشبَّه نفسه بنور الشمس حيث ينفذ في كل مكان ويؤثر أثره حيث ينفذ.
  وفي مورد آخر يشبّه نفسه بالشجرة ذات الجذر والأصل الثابت والتي تثمر في كلّ وقت وفصل ، حيث يقول : ( ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طِيّبةً كَشَجَرَة طَيَّبة أَصلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ للنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُون ) (2).
  القرآن الكريم هو من ضمن التفاسير الواردة للكلمة الطيبة (3) ، فإنَّه بمثابة الشجرة المثمرة والطيّبة دائمة وعامة البركات ويمكن للجميع الاستفادة منها ، كلٌّ حسب قابليته.
  وفي مورد آخر تحدث القرآن عن سعة كلامه الحق قائلاً : ( قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِداداً لِكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) (4).
  القرآن المجيد من التفاسير الواردة في هذه الآية (5).
  إنَّ بطون القرآن ومفاهيمه وتفاسيره ومصاديقه الجديدة كثيرة جداً بدرجة لا يكفيها استخدام بحار الأرض كمداد وحبر للكتابة.
  عندما نراجع كلمات المعصومين ( عليهم السلام ) نجدهم قد انتهجوا منهج القرآن في الكلام مع المخاطبين ، ويعبرون عن المطلب الواحد تعابير مختلفة ويستخدمون له بيانات متنوّعة.
  على سبيل المثال عندما يجيبون عن السؤال عن قدرة الله يجيبون أجوبة متناسبة مع قابليات الأفراد وقدراتهم على الاستيعاب ، لا حظوا النموذج التالي : السؤال : قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة ؟

--------------------
(1) المائدة : 15.
(2) إبراهيم : 24 و25.
(3) انظر الميزان 12 : 49.
(4) الكهف : 109.
(5) انظر مجمع البيان 6 : 498.

أمثال القرآن _ 330 _
  الجواب : يجيب الامام علي ( عليه السلام ) كما يلي : ( إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُنسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون ) (1).
  لكن هذا السؤال غلط مِن الأساس ، لأنَّ مفهوم هذا السؤال كون العالم كبيراً وصغيراً في ذات الوقت ، وهو من قبيل القول بأن موجوداً طوله عشرين متراً وعشر أمتار في آن واحد ، فهذا تناقض محال.
  ولو طلبت من طالب أن يقسّم عشرين جوزة بين ثلاثين طالباً على أن لا يصل لكلٍّ منهم أقل من جوزة كاملة ما استطاع الطالب فعل ذلك ، فهل التقصير منه أو من طلبتك غير الممكنة ؟ طبيعي أن لا تعكس هذه المسألة عجز الطالب بل انَّ المسألة غلط.
  الامام علي ( عليه السلام ) عندما وجد في السائل ذهنية جيدة ومعرفة بمسائل من قبيل التناقض والامكان وما شابه أجابه بما تقدَّم من جواب.
  ذات السؤال سأله آخر من الامام الرضا ( عليه السلام ) فكان جواب الامام الرضا ( عليه السلام ) مختلفاً عن جواب الامام علي ( عليه السلام ) ، فقد قال له : ( نعم وفي أصغر من البيضة ، وقد جعلها في عينك ، وهي أقل من البيضة ، لأنك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما ، ولو شاء لأعماك عنها ) (2).
  وجواب الامام كان متناسباً مع عقلية المخاطب وقابليته وقدرته على الاستيعاب.
  النتيجة : هي ضرورة اختلاف الخطاب باختلاف المخاطب من حيث القدرة على الاستيعاب والقابلية على إدراك المفاهيم (3) ، وهذا لا يعدُّ نقصاً ولا يُحمل على قلة معلومات المتكلم بل يعد فناً عظيماً يكشف عن قدرة المتكلم على البيان ، ولذلك على مبلغينا أن يلمّوا بألسن جميع المخاطبين وعقليّاتهم لكي ينفذوا في قلوب الجميع ويؤثروا أثرهم وإلاَّ فيُحرمون من الموفقية.
  2 ـ منع الجدال
  الجدال والمراء عن غير حق حرام في الاسلام ، ويعد من الكبائر ، ولذلك لا يرضى الاسلام

--------------------
(1) بحار الأنوار 4 : 143 ، الحديث 10.
(2) البحار 4 : 143 ، الحديث 12.
(3) للمزيد راجع نفحات القرآن 4 : 171 فما بعدها.

أمثال القرآن _ 331 _
  بالمناظرات إلاَّ إذا قصد طرفاها اتّضاح الحق والحقيقة وكانا يبحثان عن الحق ، أمَّا إذا قصد كلٌّ منهما التغلّب على الطرف الآخر كان ذلك جدلاً محرماً.
  على المناظرين أن يتحلُّوا بشجاعة لقبول الحق ، وهذا هو المطلوب في الاسلام.
  في مجال الجدال نقرأ آية وروايتين.
  1 ـ جاء في الآية 3 من سورة الحج : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطان مَرِيْد ).
  يجادل البعض حول التوحيد وحول الله تعالى دون أن يكون له علم ومعرفة في هذا المجال ، ويطلق مجادلاته عن هوى وهوس ، وهؤلاء المجادلون يعدون من أتباع الشيطان ، لأن الشيطان رائدهم في هذا المجال ، وقد انحرف بواسطة الجدل ، عندما أمره الله بالسجود بصحبة الملائكة امتنع عن السجود مستخدماً القياس وقائلاً لربّه : خلقت آدم من تراب وخلقتني من نار ، والنار أفضل من التراب (1).
  مع أن السجدة لم تكن لترابية آدم ( عليه السلام ) بل للروح الالهية التي نفخها الله فيه.
  إذن ، جدال إبليس هو الذي جلب له الشقاء ، كما أنَّ المجادلين أتباع الشيطان المجادل.
  2 ـ يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في رواية : ( ما ضَلَّ قوم إلاَّ أوثقوا الجَدَلَ ) (2).
  وهذا الحديث يعني أن الجدل سبب الضلالة.
  3 ـ يقول الامام علي ( عليه السلام ) في رواية قصيرة : ( الجَدَلُ في الدين يُفسد اليقين ) (3).
  خلاصة ما تقدم كون الجدل غير المنطقي سبباً في الضلالة ومفسداً لليقين ، والمجادلون أتباع الشيطان ، وما علينا هو الابتعاد عن الجدل والتسليم إلى الحق والخضوع له.

--------------------
(1) هذا مضمون الآية 12 من سورة الأعراف.
(2) بحار الأنوار 2 : 138.
(3) ميزان الحكمة الباب 492 ، الحديث 2285.

أمثال القرآن _ 333 _
المثل الخامس والثلاثون : التوحيد والشرك
  الآية 31 من سورة الحج تشكّل المثل الخامس والثلاثين ، وقد جاء فيها : ( وَمَنْ يُشرِكْ باللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَان سَحِيق ).

تصوير البحث
  المثال يحكي موضوعاً هو موضع اهتمام جميع الأديان ، أي الشرك والتوحيد ، فقد شبَّههما هنا بالسماء والسقوط منها ، وسيأتي شرح ذلك.

الشرح والتفسير
  ( وَمَنْ يُشرِكِ باللهِ فَكَأنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ ).
  في هذه الآية شُبِّه التوحيد بالسماء والشرك بالسقوط من السماء ذات الشمس والقمر والنجوم ، أي مصادر النور والضياء والبركات ، مضافاً إلى أن السماء نفسها تحضى بجمال وعظمة خاصة.
  التوحيد مركز النور والعظمة الإلهية ويأتي للموحدين بالبركة والضياء ، أمَّا الشرك فبمثابة السقوط من سماء التوحيد.
  مع الالتفات إلى هذه المقدمة تقول الآية : اولئك الذين امتنعوا عن توحيد الله وجعلوا

--------------------
(1) يستفاد هذا المعنى من الآية 41 من سورة العنكبوت ، وهي بنفسها من أمثال القرآن الجميلة كذلك.
(2) الخدمة في مراقد هؤلاء العظام يُعدُّ من مفاخر الشيعة الكبرى ، وسماحة الاستاذ آية الله العظمى مكارم الشيرازي ( مدّ ظله ) من جملة الخدم الفخريين في هذا المرقد الشريف.

أمثال القرآن _ 334 _
  شريكاً له وخرجوا عن صفوف الموحّدين بمثابة الذي يسقط من السماء ، ومن الطبيعي أن لا يعيش الذي يسقط من السماء إلى الأرض.
  ( فَتَخْطَفُهُ الطيرُ أَوْ تَهْوي بِهِ الرِّيحُ وفي مَكَان سَحِيق ).
  المشرك الذي يسقط من السماء إلى الأرض لا ينجو ، لأنه سبيتلى ـ وهو معلق في الهواء ـ بأحد مصيرين نتيجة كلٍّ منهما الموت والفناء.
  الأول : أن يقع فريسة للطيور الجوارح آكلات اللحوم والجيف ، بحيث كل طير منها تلتقم جزءً من لحمه ، وعندها لا يصل إلى الأرض إلاَّ عظامه.
  الثاني : إذا لم يبتل بالطيور المتقدّم ذكرها فسيبتلي بالأثناء برياح وعواصف تلقيه في مكان بعيد لا يصله انسان لكي ينقذه.
  وخلاصة الكلام أن المشرك شُبِّه في هذه الآية بالذي يسقط من السماء نحو الأرض ويبتلي في الأثناء بطيور جوارح آكلة لحوم أو رياح وعواصف تلقي به إلى مكان سحيق يستحيل على انسان الوصول إليه.
  خطابات الآية
  1 ـ ما المراد من الطيور ؟
  لا يبعد أن يراد من الطيور المتقدّم ذكرها هو الاهواء (1).
  المشرك مبتلى بالأهواء ، فبعض من الأهواء تُذهب بماء وجه الانسان ، وبعضها الآخر تُذهب بانسانية الانسان ، وبعضها الآخر تُذهب بشجاعة الانسان أو مروّته أو غير ذلك ، وفي النتيجة لا يبقى من الانسان المشرك شيء ، بل طيور الأهواء والهوى والهوس تأكل كل ما لديه من شخصية وانسانية.
  2 ـ ما المراد من الريح
  قد يكون المراد من الريح التي أشارت إليه الآية والذي يلقي الانسان الساقط إلى أماكن

--------------------
(1) انظر الأمثل 10 : 306.

أمثال القرآن _ 335 _
  بعيدة يصعب الوصول إليها هو الشيطان الطاغي (1) ، فالمشرك إذا نجى من طيور الهوى والهوس قع أسيراً بريح الشيطان العاصي فيأخذ به إلى حيث لا ناصر ولا معين يعيش الضلال والشقاء.
  3 ـ لا هدوء للمشرك
  جاذبية الأرض من نِعم الله علينا ، فهي تسبب أن يكون وزن لكل شيء ، ولولاها لما كان استقرار وثبات لشيء في الكرة الأرضية.
  المنازل والمزارع والمعامل والمدارس والمستشفيات مستقرَّة في مكانها بسبب وزنها والجاذبية التي ترد عليها.
  وهذه الجاذبية خاصة بالأرض وتقلُّ كلما ابتعدنا عن الأرض ومركزها ، والأشياء تفقد أوزانها خارج ميدان جاذبية الأرض ، ولذلك يدخل روّاد الفضاء دورات تعليم وتأقلم على الفراغ والفضاء الخالي من الجاذبية قبل رحلتهم الفضائية لكي يستعدوا لقضاء مدّة في الفضاء.
  من سبل تجربة الفراغ وفقدان الجاذبية هو السقوط الحر من الأماكن المرتفعة ، عندها يجرّب الانسان حياة لم يجرّ بها سلفاً ، ولهذا يعتقد الأطباء أن كثيراً من الذين يسقطون من شاهق تحصل لهم سكتات قبل الوصول إلى سطح الأرض.
  يشعر المشرك عند سقوطه من السماء بحالة الفراغ والخلو من الوزن ، وعندها تنتابه أحاسيس الاضطراب تخيّم على وجوده بالكلية ، ويبدو أن الذي ينفصل عن التوحيد ويتوجّه نحو الشرك يودّع الهدوء والطمأنينة ويلتقي بالاضطراب والقلق ، ولا يعود له الاطمئنان والهدوء إلاّ تحت ظلِّ التوحيد وترك الشرك وعبادة الأصنام ( أَلاَ بِذِكَرِ اللهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ ) (2).
  وهذا أمر يقرُّ به حتى المشركون أنفسهم ، فقد جاء في الآية 65 من سورة العنكبوت : ( فَإذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ، وذلك لأنَّهم يعلمون جيداً بأنَّه لا أحد سيُرجع لهم الطمأنينة غير الله ، فيدعونه مخلصين له ، أمَّا الأصنام فيعلمون بعجزها عن إنقاذهم ، لكن

--------------------
(1) انظر الأمثل 10 : 306 ـ 307.
(2) الرعد : 28.

أمثال القرآن _ 336 _
  توحيدهم مؤقت ويعودون إلى الشرك تارة اُخرى بعدما يصلون إلى السواحل حيث ترسو سفنهم.
  والخلاصة أن الشرك وعبادة الأصنام سبب للاضطراب والقلق ، والتوحيد سبب للطمأنينة والهدوء.
  4 ـ لا إرادة للمشرك
  الانسان صاحب إرادة قبل السقوط ، لكنه عندما يسقط ويعلق في الفضاء تنسلب عنه الإرادة ، ولا يستطيع تقرير شيء ، والمشرك عندما يسقط من سماء التوحيد يكون كذلك ويفقد إرادته وقدرته على اتّخاذ قرار.

أهمية التوحيد
  التوحيد أهم مباحث القرآن المجيد وباقي الكتب السماوية ، وقد دعى الانبياء وأوصياؤهم الناس إليه وحذّروهم عن الشرك وعبادة الأصنام.
  لا مسألة أهم من التوحيد في التعاليم الدينية ، والشاهد على هذا آية من القرآن تكرّرت بالنص في موضعين من سورة النساء ، هما الآية 48 و116 ، حيث جاء هناك : ( إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ).
  واللافت هنا أن المراد من الغفران هنا هو الغفران دون توبة ، أمَّا مع التوبة فيُغفر الشرك كذلك.
  فإنَّ أكثر الصحابة باستثناء بعض قليل مثل الإمام علي ( عليه السلام )كانوا مشركين ، وعندما أسلموا وتابوا غفر الله لهم.
  إذا مات العاصي قبل أن يتوب فلا يُغفر له إن كان مشركاً ولا أمل في غفرانه ، أمَّا إن كانت معصيته اُموراً اُخرى غير الشرك فيحتمل أن يغفر الله له وأن يشفع له أولياء الله ، أمَّا المشرك فلا يُغفر له ولا يُشفع له ، فالشرك لا يقع موضع غفران ولا شفاعة.
  وهذا يكشف عن أهمية التوحيد وخطره وعظمته في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فالتوحيد ينبوع السعادات والشرك ينبوع الشقاء ودمار لكل حسنة.

أمثال القرآن _ 337 _
  سؤال : ما سبب أهمية التوحيد ؟ وما سبب ذم الشرك وبغضه إلى هذا الحد ؟
  الجواب : فلسفة الأهمية البالغة للتوحيد والذم الشديد للشرك هي اُمور مختلفة نشير إلى بعضها :
  الأول : أول أثر وبركة للتوحيد هو اتّحاد المجتمعات البشرية.
  تختلف البشرية فيما بينها باللغات والأعراف والعقائد والأفكار والتقاليد والثقافة وما شابه ذلك ، وفي بلد مثل ايران حيث يشكّل جزءً بسيطاً من العالم توجد لغات عديدة وثقافات وأقوام متنوّعة ، وقس عليه باقي أرجاء المعمورة ، ففيها آلاف اللغات والقوميات والثقافات ، لكن يا ترى ما حلقة الاتصال بين البشر ؟ وما نقطة الاشتراك بينهم ؟ وإذا قرّرت الشعوب والحكومات العيش تحت ظلِّ حكومة عالمية واحدة فما الذي يشتركون فيه ؟
  لا شكَّ أن التوحيد المتجذّر في معتقداتهم الأساسية يشكّل أهم عامل في اتحادهم ، فالتوحيد محور جيّد جداً للاتّحاد وحبل متين يمكن للجميع أن يتمسك به.
  يشير الله إلى هذا المطلب في الآية 64 من سورة آل عمران قائلاً : ( قُلْ يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالوا إلى كَلِمَة سَواء بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ ألاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ ).
  تتجلَّى هذه الوحدة في مراسم الحج على أرض الحجاز ، حيث يمكن مشاهدة الملايين من المسلمين من بلاد مختلفة وبألوان ولغات وثقافات وتقاليد متفاوتة جميعهم محتشدين هناك متجهين نحو كعبة معبودهم ، يبدون كالنهر الشفاف قاصداً الالتحاق ببحر الوحدة اللامتناهي ينبعون من قلل الانسانية العالية ويلتقون حول الكعبة معلنين خضوعهم وتسليمهم للحق تعالى.
  في آخر صلاة جمعة قبل عرفة في مكة المكرمة يشترك أكثر من مليون مسلم ، وهي أعظم صلاة جمعة للمسلمين في السنة ، يصطفون جميعم في صفوف العبودية ويرفعون أيديهم دفعة واحدة داعين ربَّهم معظّمينه وممجّدينه ، فيركعون متّحدين ، ويسجدون متّحدين ، وبذلك

أمثال القرآن _ 338 _
  تتشكّل لقطات بديعة فريدة للاتحاد والتلاحم (1).
  يا ترى كم ستزداد اللقطة جمالاً وبداعة لو أن رقعة الاتحاد تجاوزت المسلمين لتبلغ مستوى العالم بمختلف ثقافاته ، تمسكاً بحبل الله.
  إذن ، الاتحاد من الآثار المهمة للتوحيد ، وفي قباله الشرك الذي يؤدي إلى التفرّق والاختلاف.
  كان للعرب الجاهليين ثلاثمائة وستين صنماً ، وهذا يعني اختلافهم وتشتتهم إلى ثلاثمائة وستين فرقة صغيرة وانقسام مجتمعهم إلى هذا العدد رغم صغره ، ومن الطبيعي أن لا يخلو هكذا مجتمع من نزاع وجدال وصراع وقتل وعصيان وأن لا يكون له نصيب من السعادة والهدوء ، لكن هذا المجتمع اتَّحد وتماسك في ظل التوحيد وهداية الاسلام ورسوله ، وتفوّق عندها على جميع المجتمعات.
  الثاني : الأثر الآخر للتوحيد هو منحه الموحّدين قدرة وقوّة ، كما أن الشرك يسلب عن المشركين قدرتهم ويجعلهم عاجزين.
  ما انفك المشركون عن حياكة المؤامرات ضد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والمسلمين عندما كانوا اقلية في مجتمع مكة ، فكانوا يأتون كل يوم بمؤامرة جديدة سعياً لإطفاء نور الاسلام وإخماد جذوته.
  جاء رؤساء قريش لأبي طالب في يوم من الأيام لكي يعلنوا وقف اطلاق النار ـ كما يصطلح عليه حالياً ـ مع الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وبعد النقاش الذي دار بين الطرفين قال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : مخاطباً أبا جهل : ( أدعوهم إلى أن يتكلّموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم ) ، فقال أبو جهل : ما هي وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها ؟ قال : ( تقولون لا إله الاَّ الله وتخلعون الأنداد من دونه ) (2).
  لا زالت هذه العبارة التي أطلقها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تشكّل طريق حلٍّ للبشر حيث عيوا الحروب والخلافات والنزاعات ، وذلك لأن الرجوع إلى شجرة التوحيد الطيبة هو الحل

--------------------
(1) ممَّا يؤسف له أن هذه الصلاة وهذا التجمع العظيم لا يستخدم لغرض حل مشاكل المسلمين في الوقت الراهن ، بل يقتصر الامام على ذكر مطالب تكررت على المسلمين منذ مئات الأعوام.
(2) فروغ ابدّيت 1 : 222 ( بالفارسية ) ، على أن السير نقلت هذا الحادث بأشكال شتَّى ، راجع المنتظم 2 : 369 ، وكذا تفسير مجمع البيان 8 : 343.

أمثال القرآن _ 339 _
  الوحيد لحلِّ هذه المشاكل وبلوغ السلطة المتزامنة مع العزة والأمان والهدوء والطمأنينة والعدالة الحقيقية.
  تعالوا نفكر ونتأمل في كيفية تبديل الاسلام عرب الجاهلية في مكة والمدينة ، الذين كانوا غارقين بالاختلاف والنزاعات الدامية ، إلى اُناس مقتدرين وذوي عزّة استطاعوا تحت ظلِّ الاخوّة والاتحاد أن يفتحوا شرق الأرض وغربها في أقل من نصف قرن ؟ ألم تكن تلك العظمة ثمرة للتوحيد والتمسك بحبل الله ؟
  الثالث : التوحيد يأتي بالهدوء والطمأنينة إلى المجتمع.
  السبب الأساس للجرائم والمعاصي في الدنيا هو الشرك وعبادة الأصنام ، والشرك لا يقتصر على عبادة الأخشاب والاحجار بل يشمل كل عبادة لغير الله من المقام والهوى وما شابه ، فهذه كلها شرك نوعاً ما ، والانسان عندما يعبد هذه الاُمور يغفل عن الله فيرتكب الكثير من الذنوب والمعاصي والجرائم.
  تقدّمت الاشارة إلى رواية حكت أن الشيطان قبَّل أول درهم ودينار ضربا في الأرض ، ونظر إليهما ووضعهما على عينيه ثم ضمهما إلى صدره ثمّ قال : ( أنتما قرَّة عيني وثمرة فؤادي ما أُبالي من بني آدم إذا أحبوكما أن لا يعبدوا وثناً ، حسبي من بني آدم أن يحبوكما ) (1).
  لازال الشرك رائجاً في عصرنا رغم حلول الفكر والتعقل مكان الجهل ، فكم من جرائم تُرتكب لأجل جمع المال واكتنازه ؟ لا هدوء ولا أمان في مجتمعات هذا العصر ، بل النزاع والاضطراب هو الحاكم فيها ، ولو كانت المجتمعات موحِّدة لحلَّ فيها الأمان والطمأنينة والهدوء.
  لبلوغ المجتمع الموحِّد علينا كسر أصنام أنفسنا ، وعلينا مراجعة معبد الأصنام الكائن في قلوبنا بين الحين والآخر لنكسر الأصنام التي تكوّنت فيها.
  ما أحلى القلوب التي شأنها شأن الكعبة بعد الاسلام حيث تكسَّرت جميع الأصنام التي كانت فيها.
  إنَّ قلوب البعض تشبه الكعبة قبل الاسلام حيث كانت تكتض بالأصنام ، لكن أصنامها من نوع الثروة والمال والنساء والأولاد والجاه والمقام والأماني وغيرها.
  القلب بيت الله علينا تطهيره من كل الأصنام ، ومن صدأ الشرك لكي نشاهد من خلاله صاحب البيت الأصلي.

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 3750 ، الحديث 19026.

أمثال القرآن _ 341 _
المثل السادس والثلاثون : عبادة الأصنام
  جاء في الآية 73 من سورة الحج : ( يَا أيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ).

تصوير البحث
  هذا المثل حول الشرك والتوحيد ، كما هو حال المثل المتقدّم ، وهما تنويع لبيان مطلب واحد ، لعلّ ذلك يفيد الجميع ، باعتبار اختلاف مستوياتهم.
  والله تعالى ضرب مثلاً هنا صوَّر فيه ضعف وعجز الأصنام وعبدتها.

ماهية عبادة الأصنام
  عبادة الأصنام من المسائل المعقّدة ، يمكن الإجابة عن بعض أسئلتها التالية : ما الأهمية التي كان يوليها عبدة الأصنام لأصنامهم ؟ هل كانوا يعدّونها خالقهم وربّهم ؟ وإذا كان الجواب إيجابياً فكيف يمكن للانسان العاقل أن يعتبر شيئاً قد صنعه بيده خالقاً له ؟ وإذا كان الجواب سلبياً فما تبرير عملهم الجاهلي تجاهها ؟ طرح القرآن الكريم هذه التساؤلات ، كما أجاب عنها.
  جاء في الآية الثالثة من سورة الزمر :

أمثال القرآن _ 342 _
  ( أَلا للهِ الدينُ الخَالِصُ وَالَّذِين اتّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلياءَ مَا نَعْبُدُهُم إلاَّ لِيُقرِّبُونا إلى اللهِ زُلْفى إنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في مَا هُمْ فيهِ يَخْتَلِفُون ).
  كما جاء ما يلي في الآية 18 من سورة يونس : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤلاءِ شُفَعاؤنا عِنْدَ اللهِ ).
  وفقاً لما ورد في هاتين الايتين فانَّهم ما كانوا يعدون الأصنام خالقين ، بل كانوا يعتقدون بخالقية الله تعالى ، لكنهم كانوا يولونها قداسة خاصة ويعتبرونها شافعة وواسطة جيدة بينهم وبين ربّهم ، فهي تشفع لهم.
  هذا شأن غالب المشركين ، لكن بعضاً قليلاً منهم كانوا يعدون الأصنام خالقين ، أمَّا الأغلب فما كانوا يحملون هذه العقيدة ، وكانوا يعبدونها لأجل أن تقرّبهم إلى الله خالقهم ، فيطلبون منها السعادة والسلامة والسعة والبركة وما شابه ذلك ، وبذلك نسوا الله تدريجياً لتصبح الأصنام المعبود المستقل والمناجى الأصيل.
  سؤال : البيانات المتقدَّمة أوضحت مدى تعقّد عمل المشركين ، لكن يبقى سؤال وهو : كيف يمكن للانسان العاقل أن يسجد لشيء صنعه بيده ويعتبره واسطة ينال به من فيض الله ، ويعتبره مقدّساً إلى درجة قد يضحّي لأجله انساناً آخر.
  الجواب : لم تكن أصالة للأصنام في الأيام الاولى من بداية عبادتها ، أي بداية الانحراف الكبير ، فقد كانت عندهم نموذجاً للمقدسات.
  على سبيل المثال لو جاء نبي أو وصي إلى بلدة عُدَّ عندهم واسطة بينهم وبين الله تعالى وحضي باحترام خاص ، باعتبار هذه العلاقة ، وعندما يتوّفاه الله يُصنع له نصب تذكاري لكي يستمر التقديس والاحترام ، لكن هذه العلاقة المفروضة تُتناسى بمرور الزمان بحيث يتَّخذ النصب ذاته طابعاً مقدساً ، ولا يتداعى في أذهان الناس العلاقة الاولى لصاحب النصب وخالقه ، بل يصبح النصب بذاته وعلى نحو الاستقلال مقدساً فيُعبد.
  وهذا هو حال الانصاب والتماثيل التي تُصنع لغرض الإشارة إلى مصادر البركة والنور من الشمس والقمر وما شابه ، فإنها تُعبد تدريجياً وبعد مرور زمن.
  ومن هذا القبيل كذلك أن يؤتى بحجر من مكان مقدس مثل الكعبة فتوضع في مكان لكي يتذكّر الحاج سفره الروحاني إلى بيت الله متى ما انتبه إلى الحجر ، لكن بعد فترة من الزمن تُنسى هذه العلاقة ليصبح الحجر بعد ردح صنماً ومعبوداً بحد ذاته.

أمثال القرآن _ 343 _
  أو من قبيل ما يعتقده البعض من أن الله تعالى أرفع شأناً من أن تحيط به الأفكار ، ولا يمكن للأفكار أن تفعل ذلك ، ولا فائدة في ربٍّ لا تحيط به الأفكار ، لذلك ينبغي أن نبحث عن مخلوقاته التي هي في متناول أيدينا ويمكن للأفكار أن تحيط بها فنعبد بعضاً منها.
  وهذا ممَّا نجده عند بعض الفرق الصوفية المنحرفة ، فالمرشد لهذه الفرق يقول لمريديه : عندما تصلون للآية : ( إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينَ ) في الصلاة تصوّروا مرادكم ومرشدكم ، وهذا هو نقطة بداية الانحراف نحو الشرك.
  على أي حال ، كان للأنبياء والرسل أطول مواجهة مع الشرك والمشركين ، لكون الشرك بلاءً كبيراً على الانسانية في الماضي والحاضر.

أساليب مواجهة عبادة الأصنام
  سؤال : ضرورة مواجهة الشرك وعبادة الأصنام أمر بديهي وواضح ، لكن ما هي أساليب هذه المواجهة ؟ وما هي الأساليب التي اختارها الأنبياء والأوصياء لمواجهة هذه الظاهرة ؟ وكيف كان تعاملهم مع هذا الانحراف الخطر والعظيم والمعقَّد ؟
  الجواب : وفقاً لما جاء في القرآن المجيد فإن الأنبياء سلكوا أساليب متنوّعة لمواجهة الشرك وعبادة الأصنام نشير إلى نماذج منها :
  الأول : تعريف الناس وبخاصة المشركين بخالق الكون الأصيل.
  وقد أشار القرآن إلى هذا الاسلوب في الآية 61 من سورة العنكبوت من خلال طرح سؤال والإجابة عليه ، حيث جاء هناك : ( وَلَئِنْ سَألتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فأنَّى يُؤْفَكُونَ ).
  أي أنَّ الله خالقنا ورازقنا وولي نعمنا وملجأنا ومحيينا ومميتنا ، وإذا كان كذلك فلماذا نعبد أصناماً من دونه ؟ ألا ينبغي للانسان أن يسلِّم نفسه لولي نعمته ويخضع له ؟
  سعى الأنبياء لإيقاظ فطرة المشركين ومسح الغبار عنها لربطها بخالقها الأصلي وتوحيدهم إيّاه.

أمثال القرآن _ 344 _
  الثاني : تحقير الأصنام وبيان عجزها وكذبها أمام القدرة الإلهية ، وذلك يقلّل من قداستها وقيمتها عند المشركين.
  في هذا المجال تُطرح على المشركين أسئلة من قبيل : هل تدرك هذه الأصنام ما يدور حولها من شؤون ؟ أو هل يمكنها الإجابة على أسئلتكم ؟ أو هل هي قادرة على حل مشاكلكم ؟
  من الواضح أن السلب هو جواب هذه الأسئلة جميعها ، وإذا كان الواقع كذلك كان ذلك يعني أنها عمياء صماء ولا إرادة لها ، وعلى هذا كيف يمكن لها أن تكون حلالة لمشاكلكم ؟
  في القصة المعروفة عن النبي إبراهيم ( عليه السلام ) عندما سئل عَمَّن كسر الأصنام وحطّمها أجاب : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ هَذا فَسْألُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُون ) (1).
  القرآن ينقل جواب المشركين كالتالي : ( فَرَجَعُوا إِلى أنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا على رُءوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤلاءِ يَنْطِقُونَ ) (2).
  عندما شاهد فيهم إقراراً على عدم امكانية تكلم الأصنام فضلاً عن دفاعها عن نفسها بدأ بذمّها تحقيرها والمشركين كذلك وقال : ( قَالَ أفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ اُفٍّ لَكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أفَلا تَعْقِلونَ ) (3).
  سعى إبراهيم ( عليه السلام ) من خلال تحقير الأصنام وبيان ضعفها وكونها ليست منشأً لا للخير ولا للشرِّ لتنبيه المشركين إلى سوء عملهم وبطلان اعتقادهم.
  الثالث : إيقاظ وجدان المشركين النائم وتوظيف هذا الوجدان في هذا الطريق ، وقد أشارت الآية 65 من سورة العنكبوت إلى هذا الاسلوب حيث تورّط المشركون في السفينة وسط البحر بأمواج عظيمة شعروا إثرها بقرب موتهم فاذا بهم يدعون الله مخلصين له وطالبين منه المعونة.
  وهذا يكشف عن لجوئهم إلى الله في المعظلات حيث ينقطع أملهم بكل شيء غيره وتنغلق عليهم الأبواب إلاَّ بابه ، ويعرفون عندئد أن لا معبود أهل للعبادة غير الله تعالى.

--------------------
(1) الأنبياء : 63.
(2) الأنبياء : 64 و65.
(3) الأنبياء : 66 و67.

أمثال القرآن _ 345 _
  الآية التي هي موضع بحثنا بيان لضعف الأصنام وعجزها ، ولمزيد من الإيضاح نشرع بتفسيرها.
  الشرح والتفسير
  ( يَا أيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمِعُوا لَهُ ).
  التعبير بضرب مثل قد يكون لأجل أن هذا المثل الجميل وذات المغزى كان دارجاً بين الموحدين منذ الأزمان الماضية ولم يكن جديداً ، رغم ذلك طرحه الله هنا تارة اُخرى ، لكونه ذات طابع تربوي عال ويحتوي على عبر جيدة.
  ( إنَّ الَّذينَ تَدْعُون مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ ).
  الأصنام التي يعبدها المشركون ويسجدون ويركعون لها ضعيفة إلى درجة أنَّها غير قادرة على خلق ذبابة ، كحشرة صغيرة ، بل ان اصنام العالم كلها لو تكاتفت واجتمعت لأجل خلق ذبابة واحدة ما استطاعت عمل ذلك.
  ( وإنْ يَسْلُبُهُمُ الذُبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ).
  بل ضعف الأصنام أشدّ ممَّا ذكر ، فلو أنَّ الذباب أخذ من الأصنام شيئاً ما كانت قادرة على استرجاعه ، فهي لا إرادة لها ولا قدرة على عمل شيء ما ، أي أنَّها لا تنفع ولا تضرُّ ولا قابلية لها لدفع الشر عن عبادها ، لأنَّها غير قادرة عن الدفاع عن نفسها فضلاً عن الغير.
  يقال : كان المشركون في أيام خاصة من السنة ، كأيّام العيد يطلون أصنامهم بالعسل والزعفران أو بمواد مشابهة لهما مما يجعلها ملجأً ومصدر طعام للذباب ، وتستمر الذباب بالتردّد والحوم حول هذه الأصنام حتى آخر قطرة من العسل ، وإذا أخذت الذباب ذرة بسيطة من هذا العسل فإنَّ الصنم غير قادر على استرجاعه (1) ، ولهذا يخاطبهم الله قائلاً : إنَّها أصنام ضعيفة عاجزة عن استرجاع ماسُرِق منها من العسل ، فكيف يمكن للانسان أن يطلب منها العون والمساعدة.

--------------------
(1) انظر الأمثل 10 : 357.

أمثال القرآن _ 346 _
  ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ).
  نقلت احتمالات متباينة في تفسير هذه الجملة ، يبدو أن اثنين منها أقوى من الباقي :
  الاول : المراد من الطالب الذباب ، ومن المطلوب الصنم ، أي أن الذباب ضعيف ، كما هو حال الصنم.
  الثاني : المراد من الطالب عبدة الأصنام ( المشركون ) ، ومن المطلوب الأصنام ، أ ي أن الأصنام وعبدتها كلاهما ضعيفان ، أما ضعف الأصنام فواضح ، وأمَّا ضعف المشركين ، فباعتبار ضعفهم الفكري والعقائدى.
  أراد الله هنا التذكير بنقطة هي أن الله هو الوحيد القادر على حل مشاكل الانسان لا الموجود الضعيف والعاجز عن الدفاع عن نفسه.
  تتداعى هنا عدّة أسئلة :
  1 ـ هل هناك تشبيه في آية المثل ؟
  بحث المفسرون قضية الضعف وما إذا كان قد شُبِّه في الآية بشيء ما أو لا ، فبعض قال : لا يوجد تشبيه في الآية ، والحديث فيها عن ضعف الأصنام وعجزها عن خلق موجود صغير مثل الذباب ، ولم يشبّه المسألة بشيء ما ، وهو كلام أوقع ذلك البعض بمشاكل ، وبرأينا مفردة ( مثل ) ذات معنيين :
  الاول : المَثَل تعني الشبيه والمِثْل ، وهو تشبيه لأمر معقول خارج عن الحس والتجربة بأمر محسوس.
  الثاني : المَثَل بيان لمصداق واضح لأمر ما.
  والمراد من المثل في الآية هو المعنى الثاني ، لأن الله أراد أن يبيّن بالآية ضعف عبادة الأصنام وعقيدة المشركين في الأصنام ، وبذلك حكى مصداقاً واضحاً لهذا الضعف والعجز في قالب المثل المزبور.

أمثال القرآن _ 347 _
  2 ـ هل الذباب موجود حقير ؟
  لم يشر القرآن إلى الذباب إلاَّ في هذه الآية ، وهو موجود يبدو للانسان حقيراً وفاقداً للقيمة ، فهل هو كذلك حقاً ؟
  الجواب : ينبغي القول هنا : الذباب لا أنه موجود قيِّم فحسب بل من عجائب المخلوقات ومن آيات الله.
  فهذا الموجود رغم صغرة يحتوي على جهاز تنفّس وهضم وفم ولسان ومعدة وأمعاء وجهاز أعصاب وفهم وإدراك وعضلات قوية جداً ، بحيث يمكنه تحريك أجنجته بها بسرعة ، وله أعضاء اُخرى كذلك.
  اللافت أنه يحضى ببنية هي أكثر تعقيداً ودقة من طائرة كبيرة ، ويُعدُّ صناعة طائرة كبيرة أبسط من خلق ذبابة ، فإنَّ الطائرة لا إدراك لها ولا شعور ولا إرادة ولا جهازاً تناسلياً ، وغير قادرة على إعداد غذاء لنفسها ولا يمكنها الدفاع عن نفسها ، أمّا الذبابة فلها القابلية على جميع ما تقدَّم.
  إذن ، الذباب من عجائب المخلوقات حقاً ، ولا أحد قادر على خلق هذا الموجود ، رغم التطوّر والتقدُّم العلمي الكبير الذي حصل في مجالات علمية مختلفة ، عندئذ يُطرح سؤال آخر.
  على عتبة القرن الحادي والعشرين سمعنا أن الانسان أصبح قادراً على الاستنساخ ، وذلك يعني تمكنه في ظروف خاصة من خلق انسان أو حيوان من جزء صغير جداً من أجزاء انسان أو أي حيوان آخر ، والنتيجة هي : خلق موجود دون اُم وأب ، وهذا يكشف عن قدرة الانسان على خلق ما هو أعظم من الذباب ، فكيف يمكن عدّه عاجزاً عن خلق ذبابة ؟ في الجواب نقول : لا يمكن عدّ هذه العملية خلقاً ، بل هي من قبيل غرس شتلة مأخوذة من شجرة لتصبح بعد مدة شجرة ضخمة ومثمرة ، وجسم الحيوانات والانسان من قبيل الأشجار التي يمكن إيجاد أشجار شبيهة لها بعد قطع جزء صغير منها وشتله في مكان آخر ، فيتحوّل بعد فترة شجرة كبيرة ، والتناسخ من هذا القبيل ، وبخاصة أنا نعتقد كون خلية الانسان تحتوي على كل خصوصيات الانسان ، وتبقى قضية الحياة لغزاً من الألغاز لم يُحل بعد.

أمثال القرآن _ 348 _
جسر نحو التوحيد في شهر التوحيد
  مهما كنَّا ومهما استطعنا نبقى ضعفاء أمام القادر المطلق ، ومرض السرطان المهلك من نماذج ذلك الضعف.
  تنمو خلايا الجسم بنحو منتظم ومتوازن ، لكن قد تكون هناك خلية يخرج نموّها عن حاله الطبيعي فتنمو أكثر ممَّا ينبغي أن تنمو وتكبر كثيراً لتتحوَّل إلى غدّة تشلُّ عضلات جسم الانسان تدريجياً ، والانسان رغم تقدّمه وتطوّره علمياً ما استطاع أن يجد علاجاً لهذا المرض ، وقرابينه تزداد كل يوم ، هذا مضافاً إلى المرض الجديد الذي يُدعى ( الايدز ) ، وذلك هو قول الله : ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ).
  إلهي ، العزة لك والقدرة لك والعلم لك والحياة والممات بيدك ، وكل شيء منك ، والسعادة منك نعبدك وحدك لا شريك لك ( إنَّكَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ) (1).

--------------------
(1) آل عمران : 26.