زالت هذه النظرة تحكم عالمنا اليوم ، ولا تنتظم الحياة الدنيا ما دامت هذه القيم الكاذبة تحكم مجتمعاتنا.
  عندما بُعث الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأنبأ عن دينه الجديد قال بعض مشركي مكة : تعالوا اسمعوا خبراً جديداً ، إنَّ يتيماً فقيراً لا يملك مالاً يدَّعي النبوّة ويبلّغ لرسالة جديدة من الله ، وهل هذا ممكن ؟ ولو أراد الله أن يبعث لنا رسولاً فلماذا لم يبعث واحداً من أثرياء مكة أو الطائف ؟
  ( وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيم ) (1).
  سبب تفوّه المشركين بهذا الكلام هو أنهم كانوا يصنّفون المال والثروة في أعلى مرتبة للقيم ، وقد سبقهم في ذلك فرعون ، فعندما دعاه موسى ( عليه السلام ) إلى الدين الالهي نظر إلى ظاهره وقال ضاحكاً : وهل يمكن لراع أن يكون نبياً ؟ أنا لا أستسلم لراع مع ما أملك من ثروة وسلطة.
  نعم ، كانت السلطة والثروة تشكّل أعلى مراتب القيم عند هؤلاء الناس ، وكانت بعثة الرُسُل لغرض تحطيم هكذا قيم سقيمة.
  في آيات كثيرة من القرآن المجيد عدَّ الله القيم الدنيوية كالمال والبنون لعباً ولهواً (2) ، كما اعتبر القيمة الحقيقية تتمثّل في التقوى (3).
  من هنا قال الله في الآية 33 من سورة الزخرف : ( وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ اُمَّةً وَاحِدَةً لجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بالرَّحْمنِ لِبيُوتِهِم سُقُفاً مِنْ فِضَّةِ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرونَ ).
  وفي الآية 53 من نفس السورة يتحدَّث فرعون عن نبوّة موسى ( عليه السلام )ويقول لمن حواليه وللمصريين : ( فَلَوْلاَ اُلقِيَ عَلَيْهِ أسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَب أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَة مُقْتَرِنِينَ ) ويريد بذلك أنَّ على الرسول أن يكون ثرياً.
  بُعث الأنبياء لإبطال هذه التوهّمات وتحطيم هذه القيم الكاذبة ، وآية المثل الكريمة تدخل

--------------------
(1) الزخرف : 31.
(2) جاء هذا المضمون في آيات عديدة من قبيل : الآية 32 من سورة الأنعام ، والآية 64 من سورة العنكبوت ، والآية 36 من سورة محمّد.
(3) الحجرات : 13.

أمثال القرآن _ 296 _

  في هذا الاطار ، أي أنَّها تريد تحطيم هذه القيم الكاذبة ، حيث قالت : ( واصْبِر نَفْسَكَ مَعَ الَّذِين يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَوة والعَشِيّ يُريدَون وَجْهَهُ ) أي عليك يا أيها الرسول أن تكيِّف نفسك مع أمثال سلمان وأبي ذر وبلال وصهيب الذين يدعون ربَّهم دائماً ويتوجّهون إليه رغبة في وجهه الكريم رغم فقرهم وفقدهم للمال والثروة وغيرها من القيم الدنيوية الكاذبة.
  ( وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أغْفَلنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنا ) أي لا تتناسهم رغبة في زينة الحياة الدنيا وطاعة لمن غفل قلبه عن ذكرنا ، أي ذكر الله.
  ( واتَّبَعَ هَواهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطاً ) (1) فإن هؤلاء الأثرياء تابعون لأهوائهم ، وأعمالهم لا تخلو عن الإفراط والتفريط.
  المستفاد من هذه الآية أن الاسلام للمستضعفين والفقراء لا الأثرياء المغرورين.
  كان هذا المنطق والنهج عجيباً للبعض لذلك ضرب لهؤلاء مثلاً أوضح فيه شأن المستضعفين والمستكبرين لكي تتضح من خلال ذلك القضية للجميع.
  الشرح والتفسير
  ( وَاضْرِب لَهُم مَثَلاً رَجُلَيْن ) يطلب الله من الرسول أن يضرب لهم مثل رجلين أخوين أو صديقين.
  اختلف المفسرون في أنهما كانا صديقين أو أخوين ، فبعض قال بأنهما كانا أخوين بلغهما ثمانية آلاف درهم كإرث من أبيهما ، أحدهما اشترى بمقدار قليل من الأربعة آلآف درهم وسائل بسيطة يعيش بها وانفق ما تبقى ، أمَّا الآخر فاستهلك سهمه من الإرث كله لأغراضه الشخصية ولم ينفق منه في سبيل الله ولا درهماً ، فأصبح صاحب رأس مال وبستان وحياة مرفّهة ، والآية تشير إلى قصة هذين الأخوين.

--------------------
(1) الكهف : 28.

أمثال القرآن _ 297 _
  يرى بعض آخر من المفسرين أنَّ الرجلين كانا صديقين ولا نسبة بينهما (1).
  مضمون الآيات يفيد أنَّ النظرية الثانية هي الصحيحة ، أي أن المراد من رجلين هو صديقان لا أخوان.
  المطلب الآخر الذي يمكن استفادته من الآيات هو أن الآيات ليس بياناً محضاً لمثل كما ظن البعض ذلك ، بل هي بيان لقصة حقيقية حصلت في الأزمان الماضية بيَّنها الله في صيغة مثل.
  ( جَعَلْنا لأحَدِهمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعْنَاب وَحَفَفْنَاهُما بِنَخْل وَجَعَلْنا بَيْنهُما زَرْعَاً كِلْتا الجَنَّتَينِ آتَتْ اُكُلَهَا وَلَمْ تَظلِمْ مِنْهُ شَيئاً وَفجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ).
  المستفاد من عبارة ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُما نَهَراً ) أن البُستان كان يُسقى من الخارج ، ثم اكتفى ذاتياً من حيث السقي بعد ما فُجرِّ النهر في داخل آرضه.
  ( فَقَالَ لِصَاحِبِه وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ).
  عندما ينال ضيّقو الصدر والمغرورون شيئاً من مال الدنيا ويبلغون مستوى فيها يبدون وكأنَّ الزمان والمكان يدين لهم ، فبعضهم عندما يبلغ شأناً في المجتمع ينسى صديقه الذي كان إلى جنبه مدَّة سنوات ، وعندما يلتقيه يتصرَّف وكأنَّه لم يلتقِ به من قبل.
  إن صاحب البستان الثري الذي تحدَّثت عنه الآية كان من هذا القبيل ، فقد اغترَّ بنفسه عندما شاهد بستانه والنهر الذي يجري فيه وما انتج من ثمار ، فكان يتفاخر بما حصل وينظر إلى صديقه القديم والفقير نظرة تحقير ويقول : أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً من العمال والمزارعين والحشم والخدم.
  ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لَنْفسِهِ قَالَ مَا أظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَداً ) أي أنه ما كان يظن أن بستانه سيفنى يوماً ما بل سيبقى دون أن يزول بآفة أو ما شابه.
  عبارة ( وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) تشير إلى أن كل ظالم يبدأ بظلم نفسه في البداية ثم ظلم الآخرين ، كما هو حال المحسنين حيث يفيدون أنفسهم بأعمالهم الصالحة ثمّ يفيد الآخرون بها.
  على أي حال ، نسى هذا المغرور ذكر الله الذي خلق له هذه الجنَّة والذي يمكنه أن يفنيها في كل لحظة بحيث لا يبقى لها أثر مذكور.

--------------------
(1) أشار الطبرسي ( قدس سره ) في مجمع البيان 6 : 468 ، إلى كلا النظريتين.

أمثال القرآن _ 298 _
  ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمةً وَلئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً ).
  لقد أنكر هذا الرجل يوم القيامة بسبب تفاخره وغروره ونسيانه ربّ العالمين ، وبلغ جحوده مستوى أن قال لصديقه : لا أظن أنَّ هناك قيامة ، ولو كانت هناك قيامة كان ذلك يعني موتي وانفصالي عن أموالي وجنتي وزراعتي ، وأنا لا اُريد الانفصال عن الدنيا لذلك أنكر يوم القيامة.
  ثمّ قال : على فرض وجود قيامة فإنِّي سأكون من المقرّبين كذلك ، ولو لم أكن من المقرّبين لما أعطاني الله هذا المقدار من المال والثروة ، فكثرة الثروة دليل على قربي إلى الله في عالم الآخرة ـ على فرض وجوده ـ وسأكون هناك أقرب منك إلى ربِّ العالمين.
  هذا هو ظن كثير من الأثرياء ، جهلاً منهم بأنَّ ذلك اختبار إلهي وقد يكون بلاءً.
  ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أكَفَرْتَ بالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ثُمّ مِن نُطْفَة ).
  صديقة الفقير صاحب الصدر المشروح يرى رفيقه مريضاً فيهمُّ في علاجه بأساليب نفسانية جميلة لعلاج مرض الغرور فيه ، أي مرضه الأساس الذي سببته كثرة النعم ، ولو عالج مرضه هذا تعالجت باقي أمراضه.

طريقان لمعالجة الغرور
  يمكن معالجة الغرور عن طريقين :
  الاول : أن نرجع المغرور إلى ماضيه ، إلى طفولته ، حيث كان عاجزاً عن الاحتفاظ بلعاب فمه ، إلى الزمن الذي كان في رحم اُمّه ، حيث كان جنيناً يتغذّى من الدم ، وما كان أحد غير الله قادراً على مساعدته ، نرجعه إلى حيث كان نطفة قذرة ينفر الانسان من النظر إليها ، ونرجعه إلى حيث كان تراباً فاقداً للقيمة.
  الثاني : أن نذكِّره بالمستقبل ونرسمه له ، فنأخذ بيده إلى المقبرة ونقول له : يرقد في هذه المقبرة اُناس كانوا مثلنا أقوياء ومتموّلين لكنهم ماتوا في النهاية ، فتلاشت أجسامهم ولم يبق منها إلاَّ العظام ، والعظام ستتآكل كذلك بمرور الزمان ولم يبق من الإنسان إلاَّ الصخرة التي توضع على قبره ، والصخرة ستزول كذلك ولم يبق من الانسان إلاَّ اسماً في التاريخ ، والتاريخ

أمثال القرآن _ 299 _
  سينسى بعد مدَّة من الزمان ، بحيث لم يبق من الانسان شيء يُذكر وكأنَّه لم يلد أبداً.

عاقبة الانسان المغرور
  لم يكن ولن يكون عاقبة حسنة للمغرور أبداً.
  كان وزير عهد حكومة رضا خان الظالم يُدعى تيمور تاش وكان مغروراً وجباراً وخطراً وصاحب صلاحيات وسلطة واسعة بحيث يُعدُّ المحور الأساس للسلطة.
  في يوم كان علماء طهران قد اجتمعوا في مجلس فبلغهم أن تيمور تاش وزير البلاط يقصد المجيء إليهم ، فدخل هذا الرجل الذي يعيش سكرة الغرور وقال : ( أنتم تقولون : للكون ربٌّ ؟! يمكنني أن أبرهن على عدم وجود الربّ بألف دليل ).
  نظر العلماء إليه وما كان أحدهم يتجرّأ بالتفوّه بشيء ، كما أنَّهم يعلمون ما من شيء يؤثِّر فيه ولا يرونه أهلاً للإجابة.
  وعلى كل حال ختم المجلس وذهب تيمور تاش.
  لكن رياح الزمان لا تجري دائماً بما تشتهيه السفن ، فلم يمضِ زمن طويل حتى أصبح تيمور تاش موضع غضب الشاه فاُدع السجن الانفرادي ثم حكم عليه بالإعدام.
  عندما كان في السجن ذهب أحد العلماء لزيارته فوجده يدور في زنزانته مردداً أبيات عرفانية للشاعر مولوي (1) تقرُّ بالله.
  يقول هذا العالم : تعجبّت من ذلك واقتربت منه وقلت له : هل تعرفني ؟ قال : نعم ، قلت : جئتُ لاُبطل ألف دليل ادعيت وجودها بدليل واحد ، وهو : إن الله هو الذي أسقط تيمور تاش المغرور من قمة السلطة ليضعه في سجن.
  فهزَّ رأسه معرباً عن أسفه.
  نعم ، هذا هو شأن ضيقي الصدر والمغرورين ، أما واسعو الصدر فيكونون متواضعين ، كالامام علي ( عليه السلام ) ، حيث لم يختلف شأنه أثناء 25 سنة من سكوته مع شأنه أثناء 5 سنوات من حكومته.

--------------------
(1) شاعر إيراني شهير.

أمثال القرآن _ 300 _
  يقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( سُكْر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سُكر الخمور ) (1) ، وذلك لأنَّ الانسان يفيق من سكرة الخمر بعد لحظات أمَّا سكرة الغرور فلا يفيق منها الانسان حتى الموت أحياناً ولا يوقظه منها إلاَّ صفعة الموت والأجل ، حيث لا وقت للتدارك والجبران.
  وفي رواية اُخرى يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( بينكم وبين الموعظة حجاب من الغِرَّة ) (2).
  إذن ، علينا التوقّي من الابتلاء بالغرور من خلال استذكار الماضي والتفكّر في المستقبل ، وخاصة بما بعد الموت.
  ( ثُمَّ سَوَّاك رَجُلاً ).
  أي صَنَع منك رجلاً بعد اجتياز مراحل الجنين المختلفة ، والتي تشكّل كلٌّ منها اُعجوبة فريدة من نوعها ، ومن خلال برنامج منتظم ومتكامل يخلق إنسان كامل لا ينقصه شيء ، ولو طرأ أقل تغيير في هذا البرنامج لولد الطفل أعمى أو أصم أو معتوه أو توأم متلاصق وما شابه.
  من فلسفة وجود ولادة الأطفال المشوهين وناقصي الخلقة هو الاطلاع على هذه المرحلة المهمَّة من الخلقة ، ولكي يتذكّر الانسان بعدما يصبح متموِّلاً وصاحب سلطة ، ولكي لا يغتر ، ولكي يكون شاكراً لنعم الله ولولي نعمته دائماً.
  ولأجل ذلك لا يسأل النزيهون عن جنس الطفل عند ولادته بل عن سلامته ، لأن الذكورة والاُنوثة كلاهما من نعم الله تعالى ، والمهم هو سلامة الطفل.
  ( لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلاَ اُشْرِكُ بِرَبّي أَحَدَاً ).
  بعد ما بيَّن القرآن منطق ذلك الصديق الثري الغافل عن الله بدأ ببيان منطق الصديق الفقير المؤمن الذي نصح الثري ولم تؤثر نصيحته في صديقه.
  استخدام الآية لمفردة الربّ دون باقي أسماء الله يحضى بأهمية قصوى ، فهو استخدام دقيق ويعني أنَّ الله ربّاني منذ أن كنت نطفة إلى آخر عمري ، ولو لم تكن تربية الربّ القادر لم أكن شيئاً يُذكر ، فهو ولي نعمتي وصاحبي ومالكي ، وهل يمكن جعل شريك لربٍّ يملك كل ما لدي ؟ !
  ( وَلَوْلاَ إذْ دَخَلْتَ جَنَّتكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةِ إلاَّ بالله ).

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 3039 ، الحديث 14531.
(2) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحديث 282.

أمثال القرآن _ 301 _
  بعدما بيَّن الصديق المؤمن منطقه ومنهجه اتَّجه إلى صديقه قائلاً : عند دخولك جنَّتك الواسعة ذات الثمار الكثيرة والمعطَّرة بعطور الفواكه والمضلَّلة بالاشجار والباردة والمنشطة لماذا لا تقول : هذه ممَّا أنْعَمَ الله عليَّ من نعم فلا قوة لأحد غيره ، وكل قوّة تنشأ منه.
  يا صديقي ! عليك عدّ هذه النعم من الله ، وعليك شكره على هذه النعم والألطاف والرحمات ، ولا تغتر بل استفد منها بأفضل ما يمكن ، كما عليك أداء حق الأيتام والفقراء والمحتاجين منها.
  ( إنْ تَرَنِ أنَا أَقَلُّ مِنْكَ مَالاً وَوَلدَاً فَعَسى رَبَّي أَنْ يُؤتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ).
  يذكّر المؤمن صديقه هنا قائلاً له : إنَّك تفكّر بوضعك الراهن حيث إنك متموّل وصاحب سلطة ، وأنا فقير ولا أملك سلطة ولا أفراداً ، لكنَّك لا تفكّر في المستقبل الزمن الذي قد يدمّر فيه الله جنتك في لحظة واحدة ويعطيني جنَّة أفضل من جنتك.
  الروايات التي وردت في ذيل هذه الآية حكت عن أن الوضع المالي لذلك الفقير كان جيداً (1).
  ( ويُرسِلَ عَلَيْهَا حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فتُصْبحَ صَعِيداً زَلَقاً ).
  الحسبان يعني إصابة السهم للهدف ، والتسمية باعتبار أن الإصابة كانت عن حساب ، كما يُطلق الحسبان على الصاعقة التي تصيب الهدف ، وكذلك الزلزال التي تصيب الهدف وتدمّره ، والخلاصة أن الحسبان يُطلق على كلِّ بلاء مؤثر ومحسوب.
  الآية تتمة خطاب المؤمن الفقير لصديقه ، فيقول له : قد يغيّر الله كلّ شيء في لحظة واحدة ويرسل على جنتك بلاء سماوياً أو حسباناً يبدّل به جنتك المثمرة إلى صحراء.
  ( أوْ يُصْبِحَ ماؤها غَوْراً فَلَنْ تَستَطِيعَ لَهُ طَلَباً ).
  أو تبتلع الأرض كل ما احتوته جنتك فلا يبقى منها أثر ، ولا قدرة لك عندئذ لعمل شيء ، كما يحصل ذلك عند حصول الزلزال وماشابهها من الكوارث الطبيعية بحيث تُدمَّر قرية كاملة أو تغطَّى بالوحل في لحظة واحدة.

--------------------
(1) انظر البرهان 2 : 469.

أمثال القرآن _ 302 _
  إذن ، على الانسان أن لا يغتر بما لديه ، بل المفروض به التفكير في تحولات قد تطرأ في المستقبل.
  ( وَاُحِيطَ بِثَمَرِه فَأصْبَحَ يُقلِّبُ كفَّيْهِ عَلى ما أنْفَقَ فِيها ).
  وكما قال له صديقه المؤمن فإنَّ بلاءً سماوياً وصاعقة نزلت ودمَّرت أشجار جنَّته وزراعته ، فبهت المغرور عندما دخل جنَّته ورأى الثمار مدمَّرة والأشجار قد احترقت ، وقد ذهبت كل أمواله وآماله سُدى ، فأصبح يُقلّب كفّيه تحسراً على ما كان قد أنفق على زراعته وما استثمره من الأموال فيها.
  ( وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِها ).
  الآية تصف كيفية خراب الأبنية والعمارات ، وهي عجيبة من حيث إنها تصف الانهدام بأن الجدران والأعمدة سقطت على السقوف ، بينما المألوف هو سقوط الجدران والأعمدة ثم سقوط السقوف عليها.
  قد يكون سبب ذلك هو أنَّ الصاعقة هدَّمت السقوف في البداية ثم هدمت الأعمدة والجدران فسقطت على السقوف (1).
  ( وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ اُشْرِك بِربّي أحَدَاً ).
  استيقظ الصديق المغرور من سكرة الغرور بعد ما نزل العذاب الإلهي ودمَّر جنّته وزراعته وأفقده كل ما يملك من رأس مال ، وقال : ليتني لم اُشرك بالله ولم أنكر يوم القيامة والمعاد ولم ابتلِ بسبب الشرك والجحود بالعقاب الإلهي.
  ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً ).
  لم ينصره أحد ممَّن كان يحوم حوله عندما كان صاحب مال وثروة من الأصدقاء والمعارف ، ولم يحمه أحد من عذاب الله ، وما كان لهم القدرة لنصرته.
  اعتبروا كان شخص في قم يُدعى السيد صادق ، كان قد فقد إحدى عينيه ، وكان له بستان عنب ،

--------------------
(1) وقد يكون التعبير كناية عن شدّة العذاب.

أمثال القرآن _ 303 _
  عندما كان يحلُّ فصل جني العنب يجتمع حوله أصدقاؤه ويهمّون بتمجيده واحترامه ويدعونه في هذه الأيام ( الحاج السيد صادق ) ، وعند انتهاء فصل جني العنب يتباعدون عنه وإذا أرادوا ذكره دعوه بصادق الأعمى.
  كان السيد صادق ملتفتاً إلى اتصاف أصدقائه بأحد صفات الذباب وقد أنشد في المجال أبياتاً وصف فيها أصدقاءه وأحوالهم السقيمة.
  ( هُنالِكَ الوَلايَةُ للهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وخَيْرٌ عُقْباً ).
  أي أنَّ الولاية الحقيقية لله وحده فقط ، ولا يمكن الوثوق بولاية وصداقة أحد غيره.
  اختلف المفسرون في أن ( هُنالِك ) إشارة لعالم الدنيا أم الآخرة.
  لكن يبدو أنها إشارة إلى العالمين ، والآية تعرّضت لولاية الله في كلا العالمين.
  الولاية شأن مهم جداً ، وتأتي من مادة التوالي ، أي مجيء شيئين أحدهما بعد الآخر ، فيقال لشعبان ورمضان اللذين يأتي أحدهما بعد الآخر شهران متواليان.
  وإذا جاء طبيبان إلى العيادة أحدهما تبع الآخر قيل : توالى الطبيبان على المجيء إلى العيادة.
  بما أن الصديق يصاحب صديقه الآخر دائماً قيل له : ولي ، أي كلٌّ منهما وليّ الآخر ، وبما أن الله صديق المؤمن ومصاحبه وناصره قيل له : ولي.
  إذن ، الولي يعني الصديق والناصر والمعين والرئيس.
  فرَّق البعض بين الوِلاء ( بالكسر ) مع الوَلاء ( بالفتح ) ، فبالكسر تعني النصرة وبالفتح تعني السيادة والرئاسة.
  وهناك بعض آخر اعتبر الكلمة بمعنى واحد سواء كانت بالكسر أو بالفتح.
  خطابات الآية
  1 ـ زمن تأثير التوبة
  ممَّا يستفاد من آيات المثل الاثنى عشر هو : أنَّ للتوبة زمناً خاصاً فاذا مضى ذلك الزمن ترفض التوبة.

أمثال القرآن _ 304 _
  رغم أن الروايات حكت سعة باب التوبة وأنه باب يدخله المذنبون والعاصون والمجرمون إلاَّ أن هذا الباب يُغلق في ثلاثة أزمنة :
  الف : التوبة عند نزول البلاء
  إذا تاب الانسان عند تورطه بشوكة البلاء فلا تُقبل توبته.
  ولهذا يقول الله في الآية 65 من سورة العنكبوت : ( فَإِذا رَكِبوُا في الُفلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّين فَلَمَّا نَّجاهُمْ إلى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشرِكُونَ ).
  أي أنهم يتوبون ويدعون الله عندما يبتلون بأمواج البحر وعندما يشعرون بتهديد وتحدّي الموت ، وتوبتهم هنا مرفوضة ، لأنها نشأت عن اضطرار ، وهي من قبيل إعلان شخص عن توبته واستغفاره تحت ضربات السوط ، فإن توبةً من هذا القبيل غير مقبولة.
  هؤلاء المشركون الذين أعلنوا عن توبتهم واستغفارهم ودعوا الله في ظرف الخوف الذي عاشوه في السفينة ، وعندما يهدأ البحر أو ترسو السفينة قرب اليابسة ينسون الله تارة اُخرى ويعودون إلى شركهم.
  إذن ، لا تُقبل توبة كهذه ، لأن التوبة هي التي يتغيّر معها منهج حياة الانسان ، وهذه التوبة لم تغيِّر من منهج المشركين ولا سلوكهم شيئاً.
  التوبة التي تحصل في الزنزانة وتُنسى بعد الخروج منها ، أو التي تحصل عند المرض وتُنسى بعد الشفاء ، أو التي تحصل في خضم الحوادث وتُنسى بعدها ، هذه كلها توبات غير مقبولة ، لأنها ردود فعل مؤقتة تحصل إثر جلد الحوادث الإلهية وصفعاتها.
  باء : توبة المذنبين عند الموت
  عندما يسمع الانسان صفعة الأجل وتفتح عينيه نحو البرزخ ويتبلور عنده اليقين بالموت والوداع مع الدنيا فلا تقبل منه توبة ، وقد قال الله تعالى في الآية 18 من سورة النساء : ( وَلَيْسَت التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُون السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ َوَلاَ الذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفَّارٌ اُولئكَ أعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أليماً ).
  وفرعون من زمرة هؤلاء ، فانَّه عندما شاهد شوكة الموت ووجد نفسه على عتبة الغرق

--------------------
(1) نقلا عن كتاب ( الإمام الحسن والحسين ) للعلامة السيد محسن الأمين العاملي : 256.

أمثال القرآن _ 305 _
  قال : ( آمَنْتُ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائِيلَ وَأنَا مِنَ المُسْلمين ) (1) ، لكن توبته هذه لم تُقبل ، وقد ورد في بعض الروايات أن جبرئيل أخذ حمأة ( أي طيناً أسود منتناً ) فوضعه في فم فرعون وقال له : ( أَلآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسدِينَ ) (2).
  وهل من المناسب قبول توبة فرعون بعد كل هذه الجرائم التي ارتكبها من شق بطون الحوامل وقتل أولادهنّ الذكور ، والاجراءات الظالمة بحق الناس ومطاردة بني اسرائيل وتعذيب مؤمنيهم ؟
  إذن ، لا تُقبل التوبة على عتبة الموت وعندما تفتح عينا الانسان نحو البرزخ.
  جيم : التوبة عند مشاهدة العذاب الإلهي
  كثير من الناس يتوب عند مشاهدة العذاب الإلهي ، وتوبة من هذا القبيل غير مقبولة.
  يقول الله في هذا المجال في الآيات 84 و85 من سورة المؤمن ( غافر ) : ( فَلَمَّا رَأوْا بَأسَنَا قَالُوا آمَنَّا باللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بَأسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَت فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ ).
  لا تأثير للتوبة عند رؤية العذاب ، ولذلك لم تُقبل توبة قوم نوح ( عليه السلام ) عند الطوفان ولا توبة قوم لوط عند نزول عذاب الأحجار التي تساقطت من السماء وكذا غيره من العذاب.
  أعزّتي ، الموت لا يخبر عن وقت مجيئه ، بل هو يكمن في كلِّ لحظة من لحظات العمر ، وعوامله وأسبابه بسيطة جداً تتحقق لأي إنسان.
  ولذلك على الانسان أن ينوب إلى الله ويتوب توبة حقيقية في كل لحظة ، ولا يترك التوبة إلى زمن قد اُغلقت فيه جميع أبوابها.
  المستفاد من الآيات المتقدِّمة أنَّ رفض التوبة في ظل الظروف المزبورة لا يختص بقوم أو شعب أو نحلة ما ، بل هو سنة إلهية تجري في حق جميع الأقوام والشعوب والنحل.
  2 ـ لا قيمة للدنيا
  يستفاد من آيات المثل أن لا قيمة ولا اعتداد بالأموال والمقام والثروات والقوى

--------------------
(1) يونس : 90.
(2) يونس : 91 ، ومصدر الرواية تفسير الصافي 1 : 763.

أمثال القرآن _ 306 _
  الجسمانية ، والاعتماد على الاُمور الدنيوية بمثابة الاعتماد على بيت العنكبوت بل على ما هو أضعف وأوهن (1).
  قوة الشباب والنشاط والقوى العضلية ليست دائمة ، لا ينبغي الاغترار بها.
  قد يصبح بطل من الأبطال أضعف انسان بسبب المرض ، كما حصل ذلك في الواقع ، وهناك بعض من الأبطال عجزوا في آخر عمرهم عن المشي والحركة دون الاستعانة بالآخرين.

قصة بطل
  كان بطل قمي معروف بالقدرة البدنية وطول القامة وكان يخدم في حرم فاطمة المعصومة سلام الله عليها في قم (2) ، وعند إرتدائه ملابس الخدمة يكتسب اُبّهة أكثر ، وكان يهابه الشرورون في المدينة بحيث يبتعدون عنه عندما يرونه ، وفي يوم من الأيام وجدته على كرسي المقعدين يدفعه طفل لإيصاله للحرم لغرض الزيارة.
  تذكرت عندها أيام بطولته وقدرته البدنية العالية وقلت : أين هذا وأين ذاك؟! يا لها من دنيا غادرة ، لم تكن جنَّة ذلك المغرور الأمر الوحيد الذي هو عرضة للزوال والدمار بل انَّه لا يمكن الوثوق بجميع اُمور الدنيا.

المطبخ السلطاني
  تشاجر اثنان من اُمراء خراسان إثر اختلاف بينهما ، وقد انتهى الشجار إلى حرب وهزيمة وأسر أحدهما بيد الآخر.
  وفي يوم من الأيام جيء للأسير بالغذاء وكانت آنية ذلك الزمان تشبه السطل ذات المقبضين ، وقد تركه إلى جانب ليبرد فجاء كلب وأراد الأكل منه ، فلعق منه وبسبب حرارته صدر منه رد فعل سريع أدَّى إلى دخول رأسه في مقبض الآنية ففرَّ والآنية معلّقة برقبته ، فضحك الأمير الأسير بصوت عال وقال : كان مطبخ السلطان تحمله أربعمائة

--------------------
(1) يستفاد هذا المعنى من الآية 41 من سورة العنكبوت ، وهي بنفسها من أمثال القرآن الجميلة كذلك.
(2) الخدمة في مراقد هؤلاء العظام يُعدُّ من مفاخر الشيعة الكبرى ، وسماحة الاستاذ آية الله العظمى مكارم الشيرازي ( مدّ ظله ) من جملة الخدم الفخريين في هذا المرقد الشريف.

أمثال القرآن _ 307 _
  عربة واليوم يسرق كلب حساء ومطبخ الأمير (1).
  3 ـ التدقيق في اختيار الصديق
  كما تقدَّم أنَّه كان لهذا الثري صاحب البستان والثروة والسلطة أصدقاء كثيرون ، وكان يتفاخر بهم ، لكنهم تفرّقوا وابتعدوا عنه عندما فقر وواجه الخسارة وأصبح مُداناً ، فما أعانوه على مشكلته ، كما أنَّه بنفسه ما استطاع جبران ما تحملّه من خسائر.
  يا ترى ، ما سبب عدم إعانة إصدقائه له ؟
  سبب ذلك واضح ، فإنهم لم يكونوا أصدقاءً له بل لثروته وسلطته ، فكانوا بمثابة الذباب الذي يحوم حول السكريات.
  إنَّ أصدقاءً من هذا القبيل تنتهي صداقتهم بنهاية سلطة الانسان وثروته ، فبعض منهم أصدقاء لسلطة الانسان وتنتهي صداقته بانتهاء السلطة ، وبعضهم أصدقاء لجمال الانسان وتنتهي صداقته بانتهاء الجمال ، وبعضهم أصدقاء لثروة الانسان وتنتهي صداقته بانتهاء الثروة ، وبعضهم أصدقاء للمقام ، وتنتهي صداقته بانتهاء المقام وبلوغه نهاية الخط.
  أصدقاء الثري الذين ورد ذكرهم في آيات المثل كانوا من هذا القبيل ، أي أنهم كانوا أصدقاء لثروة ذلك الانسان وسلطته ولم يكونوا أصدقاءً له بالذات ، مضافاً إلى أنَّهم لم يكونوا أصدقاء حقيقيين عندما كان ثريّاً بل كانوا بلاءً عليه ، لأن أشخاصاً من هذا القبيل وبأهداف مادية دنيوية يظهرون له ـ بتملّقهم ـ الزين شيناً والشين زيناً ، أي أنَّهم لم يكونوا أصدقاءً حقيقيين أبداً.
  سؤال : من هم الأصدقاء الحقيقيون؟ وعلى مَن يُطلق عنوان الصديق الحقيقي ؟
  الجواب : ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار معايير خالدة لانتخاب الصديق ، لكي تبقى صداقته وتدوم.
  علينا اعتبار محبيّ العلم والإيمان والتقوى وما شابه ذلك أصدقاء لنا ، لأنَّ محبة هؤلاء لا تتزلزل بالحوادث والمتغيّرات ، والمحبة تستمر مادام التقوى والايمان والعلم والاعتقاد بالآخرة موجوداً.

--------------------
(1) جهل حديث ، لرسول محلاتي 2 : 508 ( بالفارسية ).

أمثال القرآن _ 308 _
  وقد وردت هذه المواصفات كمعايير لاختيار الصديق في بعض الروايات نشير إلى اثنين منها :
  1 ـ يقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( مودَّة أبناء الدنيا تزول لأدنى عَرَض يُعْرَضُ ) (1).
  إن أصدقاء من هذا القبيل يتخذون صبغة خاصة في الحوادث بحيث يبدون وكأنهم لا يعرفون صديقهم السابق أو لم يروه من ذي قبل.
  2 ـ يقول الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رواية اُخرى : ( وُدُّ أبناء الآخرة يدوم لدوام سببه ) (2).
  صداقة أمثال هؤلاء صامدة وثابتة على كل حال ، سواء أقبلت الدنيا أم أدبرت ، وفي الأسر والحرية ، وفي المرض والسلامة.
  هكذا أصدقاء قليلون وبخاصة في آخر الزمان ، لذلك ورد عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قوله : ( أقلُّ ما يكون في آخر الزمان أخ يوثق به أو درهم من حلال ) (3).
  حقاً إنَّ كليهما قليلان وعزيزان.
  فلنفرض حصول الانسان على مال حلال بمشقة كثيرة فيضعه في حسابه في البنك ، عندئذ يختلط بأموال أشخاص مرابين ولا يعتقدون بالخمس والزكاة ولا يدفعون ما عليهم من وجوه شرعية اُخرى أو يرتزقون عن طريق السرقة أو يحتكرون ما يحتاجه الناس أو يهرّبون السلع المحظورة وغيرهم ممَّن لا تخلو أموالهم من الحرام ، ورغم أنه لا تكليف في الظاهر ملقى على عاتق الانسان المفروض هنا إلاَّ أنَّ اختلاط أمواله الحلال بالأموال الحرام يترك أثراً وضعياً.
  وقد يكون هذا هو سبب ما ورد في الحديث التالي : ( يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلاَّ أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره ) (4)
  نتطلع إلى اليوم الذي يسعى فيه الناس جميعاً لكسب الرزق الحلال ويرفع المرابون أيديهم

--------------------
(1) غرر الحكم ، الحديث 6828.
(2) غرر الحكم ، الحديث 10118.
(3) تحف العقول : 44.
(4) مجمع البيان 1 : 391.

أمثال القرآن _ 309 _
  عن الربا ويمتنع السارقون عن السرقة والمحتكرون عن الاحتكار والمهربون عن تهريب المخدرات.
  4 ـ من هو وليّ المؤمنين ؟
  الله ولي الذين آمنوا وناصرهم ومعينهم في الدنيا والآخرة ، فهو القادر على كل شيء ، كما جاء ذلك في الآية 257 من سورة البقرة : ( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَالَّذين كَفَرُوا أوْلِياؤهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ اُولئكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).
  كما أن أولياء الله هم أولياء للمؤمنين كذلك ، حيث يقول الله في الآية 55 من سورة المائدة : ( إنَّما وَليُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقيمُون الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُون ).
  بناءً على هذه الآية يُعدُّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والامام علي ( عليه السلام ) (1) أولياءً للمؤمنين.
  كما ورد في الآيتين 30 و 31 من سورة فصِّلت كون الملائكة أولياء للمؤمنين كذلك : ( إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا ولاَ تَحْزَنُوا وَأبْشِرُوا بالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَولِياؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ ولَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ ).
  وبما أنَّ الناس غير معصومين فالملائكة تهمُّ دائماً بحفظ المؤمنين من الحوادث والمخاطر ، وهذه هي الولاية التكوينية.
  وجود الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليه السلام ) وأولياء الله سبب للبركة والآثار المعنوية ، وعندما يُسأل المعصوم عن فائدة وجود إمام غائب ، أي المهدي ( عجل الله فرجه ) بيننا ، يقول : ( كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب ) (2).

--------------------
(1) أجمع علماء الشيعة والسنة على نزول هذه الآية الكريمة في الامام علي ( عليه السلام ) وللمزيد راجع تفسير الأمثل 4 : 45 ـ 55.
(2) منتخب الأثر : 271 ، الحديث 3 و4.

أمثال القرآن _ 310 _
  إذن ، الله والرسول ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) والملائكة أولياء للمؤمنين ، بشرط أن يخطو المؤمن في طريق الحق تعالى ، فاذا خطى المؤمن خطوة نحوه تعالى خطى الله باتجاهه خطوات كثيرة ، وإذا قلنا ( ربّنا ) واستقمنا شملتنا ألطاف إمام الزمان ( عجل الله فرجه ) ، كما شملت بعضنا.
  علينا مدّ أيدينا نحو السماء والتضرُّع إلى الله تعالى لكي يحلَّ مشاكلنا الفردية والاجتماعية والسياسية بعناياته الخاصة.

أمثال القرآن _ 311 _
المثل الثالث والثلاثون : الحياة الدنيا
  يقول الله تعالى في الآيات 45 و46 من سورة الكهف : ( وَاضرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاء أَنَزلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ فَأصبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيء مُقْتَدِراً * المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالبَاقيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ).

تصوير البحث
  شبَّه الله تعالى الحياة الدنيا في هذا المثل بماء الغيث.
  الخصوصية البارزة لهذا الماء أنَّه يضفي طراوة ونشاطاً على الزرع والنباتات مدّة أيام ، لكن هذه الطراوة والنشاط تنتهي بحلول فصل الخريف ، أي فصل الموت المؤقت للنباتات ، وينتهي به شوط قصير من حياة النباتات.
  وهذا الشوط تحذير في الحقيقة إلى الانسان الغارق في الحياة الدنيوية بأنَّ حياته سيحلُّ فيها فصل الخريف حيث بداية الموت.

الشرح والتفسير
  ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا ).
  يخاطب الله بهذه الآية الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بأن يضرب للناس الغارقين في الدنيا مثلاً على هذه الحياة ويشبّهها بما شببهها.
  لماذا ضرب الله هذا المثل هنا ؟

أمثال القرآن _ 312 _
  قد يكون ذلك باعتبار أنَّه أشار إلى عاقبة عَبَدَة الدنيا والذين غرقوا في مُتعها من خلال الآيات الاثنى عشر الماضية ، ولأجل اتّضاح أصل الحياة الدنيا طرح الله هذا المثل تعقيباً للمثل المتقدِّم.
  ( كَمَاء أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ).
  يسقط هذا الماء على أرجاء الأرض كلها سواء كانت خصبة أو سبخة ، لكن الأراضي لم تستفد من هذا الماء بنحو واحد ، فقد يكون هذا الماء سبباً للحياة في جزء وقد يكون سبباً للعذاب الإلهي في جزء آخر.
  ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ ).
  عندما يسقط هذا الماء على الأراضي الخصبة يضفي عليها حياة وطراوة ونشاطاً وافراً ، فتنبت من جراء ذلك نباتات مختلفة ومتنوّعة ، كلٌّ منها تكشف عن قدرة الخالق ، وتتشكل بذلك مناظر طبيعية خلابة ومحيّرة للعقول في فصلي الربيع والصيف ، وتحرّض كل صاحب بصيرة لتمجيد الخالق وتحسينه.
  ( فَأصبَحَ هَشيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ).
  لكن عمر الطراوة والنشاط ، الذي منحه الماء للنباتات وجمَّل الارض ، قصير ، لأنّه بعد أيام حيث يحلُّ فصل الخريف والشتاء ويتبدَّل الخضار إلى صفار والنشاط إلى خمول وموت ، وعندما تهبُّ الرياح حاملة معها رسالة الموت الظاهري للطبيعة تتساقط أوراق الأشجار التي كانت تجمّل الطبيعة وتجعلها خضراء خلابة ، وبعدما ترقص في الهواء للحظات تقع على الأرض لتُدفن في باطنها.
  ( وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شىء مُقتدِرَاً ).
  بالطبع ، هذه التحولات والتغييرات التي تطرأ على الانسان وجميع الموجودات في العالم تحتاج إلى قدرة الله من حيث الوجود والبقاء ، فهي فقيرة إلى قدرته تعالى ، أمَّا ذات الحق فقادرة ومستطيعة دائماً ، ولا يؤثّر فيها مرور الزمان وتحوّلات الفصول والمناخات وغير ذلك ، بل الله بقدرته أوجد هذه التحوّلات ، وكل شيء يتغيّر إلاَّ ذاته الطاهرة.
  نعم ، الله قادر على كل شيء.

أمثال القرآن _ 313 _
  ( المَالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ).
  البنون كالمال بمثابة رأس مال في الحياة الدنيا ، كما هو حال النباتات ففي برهة من الزمن تُعدُّ سبباً لجمال الأرض ويتباهى بها الانسان أحياناً ، لكنها ممَّا لا ينبغي الوثوق بها ، ولا ممَّا تسبب إنقاذ الانسان ونجاته في الدنيا وفي الآخرة.
  ( والبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ ربِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ).
  الرصيد الذي يمكن الاعتماد عليه والذي يُعد ذخراً حَسَناً عند الله تعالى هو الأعمال الصالحة الباقية التي عبَّر عنها الله في هذه الآية بالباقيات الصالحات.
  نعم ، الأعمال الصالحة والقيم الثابتة تعدُّ رصيداً يعتمد عليه ، فهي ذات صبغة خالدة ولا خريف فيها ولا موت.

بأي شيءُ شبِّهت الحياة الدنيا ؟
  سؤال : بأي شيءً شُبِّهت الحياة الدنيا في هذه الآية ؟
  هل شبِّهت بالأشجار الطرية ذات العمر القصير والتي تموت بحلول فصل الخريف ، كما تقدَّم شرح ذلك ، أو أنَّها شبِّهت بماء المطر الذي ينزل من السماء شفافاً صافياً ؟
  إذا كان الثاني فعلينا معرفة وجوه الشبه بين الدنيا والمطر ؟
  الجواب : الإنصاف أنها شبِّهت بكليهما ، والمعنيان والتشبيهان صحيحان ، وقد تقدَّم تفصيل تشبيه الدنيا بالنباتات ، أما وجه تشبيهها بالغيث فهو كون الغيث ينزل من السماء وينصبُّ في قالب النباتات ، ويمنحها حياة ونشاطاً وقوة فتخضر الدنيا بها وتصبح زاهية بزهور النباتات ، وبعد مدَّة قصيرة من عمرها تتَّجه نحو الموت وتنتهي ويتبخَّر الماء ويتركها هيكلاً بلا روح متّجهاً نحو السماء تارة اُخرى ، وهذا هو الذي يُؤدي إلى موت النباتات.
  نعم ، ينزل الغيث من السماء لكي يرسخ في صلب النباتات ويمنحها حياة ، وبعد مدَّة يرجع إلى السماء ( إنَّا للهِ وإِنَّا إلَيْهِ راجِعُونَ ) (1) عائداً إلى أصله ومحافظاً على سنة الرجوع والعود إلى الأصل.

--------------------
(1) البقرة : 156.

أمثال القرآن _ 314 _
  الهدف من تشبيه الحياة الدنيا بالغيث هو إفهام الانسان بأنَّ روحه مثل الماء الذي ينزل من السماء ومن العالم العلوي جُعلت في هيكله المادي ، فعليه انتهاز فرصة تواجدها في جسمه والاستفادة من الحياة بأحسن وجه ممكن ، وعليه الإكثار من الأعمال الصالحة ، وليكن مطيعاً مخلصاً وعبداً خاضعاً لذات الحق تعالى ، وهذا هو متاعه في سفره نحو الآخرة والصعود إلى دار العقبى والعالم العلوي.
  إذن فليقدّر الانسان لحظات عمره القصيرة في الدنيا ولينتهزها حتى أقصى لحظة.
  يشبّه أحد العلماء أرواح الناس بالغواصين الذين يبحثون عن اللؤلؤ والمرجان ويضطرّون لأجل ذلك للغوص إلى أعماق البحار ، والغوص يستحيل على الغواص إلاّ أنْ يصحب معه ثقلاً ثم يفصله عندما يعثر على اللؤلؤ أو المرجان المستهدف لكي يمكنه أن يطفو على سطح الماء تارة اُخرى.
  الانسان في هذه الحياة بمثابة الغواص الباحث عن اللؤلؤ والمرجان المعنوي ، وهي المقامات والكمالات الاخلاقية والطاعات العبودية ، خضوعاً لله الأحد في بحر الوجود الموّاج ، قضاءً لأيام من الاسر في عالم التراب ، والانسان الموفّق والناجح والمنتصر فيه هو الانسان الذي اصطاد صيداً جيداً واستطاع تحرير نفسه من قيد جسمه الترابي صعوداً نحو دار البقاء متحرّراً من كل قيد.
  اختلاف هذه الآية مع الآية 24 من سورة يونس
  جاء ما يلي في الآية 24 من سورة يونس والتي تقدَّم الحديث عنها في المثل الثامن عشر : ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنيا كَمَاء أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْض مِمَّا يَأكُلُ النّاسُ والأنْعَامُ حَتَّى إذَا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وأزَّيّنَتْ وَظَنَّ أَهلُها أنَّهُمْ قَادِرونَ عَلَيْها أتَاهَا أمْرُنا لَيْلاً أوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاها حَصِيدَاً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ كَذَلِك نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ).
  والسؤال : هل المثل المذكور في الآية 45 من سورة الكهف تكرار للمثل المذكور في الآية 24 من سورة يونس من حيث اتحاد وجه التشبيه فيهما ؟
  الجواب : المثلان مختلفان وليسا مكرَّرين ، لأنَّ الحديث في المثل المطروح في سورة يونس

أمثال القرآن _ 315 _
  عن حصول حادث مفاجئ يمحو آثار حياة النباتات ونشاطها ، وذلك قبل إتمام عمرها الطبيعي ، أمَّا المثل الذي هو موضع بحثنا ( الآية 45 من سورة الكهف ) فالحديث فيه ليس عن حادث خاص يطرأ فجأة بل الحديث عن حادث يطرأ تدريجياً في فصل الخريف يسلب النباتات خضارها ونشاطها وطراوتها حتى ينتهي الأمر إلى جفافها وموتها في نهاية المطاف ، لكن تدريجياً لا فجأة.
  هذه السنَّة الالهية تصدق في حق الانسان كذلك ، فهو يمرُّ بمرحلة الطفولة ثمّ الشباب ثم الكهولة والشيخوخة.
  على كلِّ حال ، هذه الحياة الدنيا زائلة وينبغي الإعداد والتهيّوء لحياة البقاء الاُخروية حيث الديمومة والقيمة العالية.
  خطابات الآية
  1 ـ تنوّع النباتات من معالم القدرة الإلهية
  ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ ).
  هذه العبارة تشير إلى تنوع واختلاف النباتات ، وعدد فصائلها حالياً يبلغ مئات الآلاف ، وهذه الإحصائية التي يقرُّها علماء النباتات تخص الأماكن التي بلغها البشر دون تلك التي لم يستطيع بلوغها أو الوصول إليها.
  يقول العلماء : ما يعادل هذا العدد وقد يزيد عليه من فصائل نباتية توجد في أعماق البحار والغابات التي لم تطئها أقدام البشر ولم يكتشف نباتاتها ، ولهذا يقال بأن عدد فصائل النباتات قد يصل إلى المليون (1) ، ولكلِّ فصيلة منهج وبرنامج خاص ، كما أنَّ لكلٍّ عجائب كثيرة.

--------------------
(1) يقول فردينا ندلين كاتب ( عالم الأزهار ) : يبلغ عدد فصائل كاسيات البذور مائة وخمسين ألف.
وقد ورد في بعض مصادر علم النبات شرح مفصَّل لأكثر من ثمانية عشر الف نبات ومائة ألف فطر وأكثر من أربعين ألف طحلب وسبعة آلاف نوع من التفاح وخمسة وثلاثين نوع للحنطة.
كما أورد بعض العلماء شرحاً لثلاثة آلاف فصيل من النخيل وألفاً وسبعمائة للتين وألفاً ومائتين لورد الثعلب وسبعة آلاف للتفاح.
يا له من تنوّع عجيب ؟! يا لها من عظمة ؟! يا له من خالق مدبّر ؟! للمزيد راجع نفحات القرآن 2 : 351 ـ 358.

أمثال القرآن _ 316 _
  هناك نباتات تتشكّل من زهرة فقط ، أي أنَّها لا تحتوي على غصون وأوراق وغير ذلك بل كل ما هناك زهرة تنبت مباشرة على الأرض.
  والأعجب من ذلك هو النباتات الآكلة للحوم ، فهي تحس وتتحرّك ، وعندما يقترب منها حيوان تلفُّ غصونها وأوراقها حول ذلك الحيوان لتلتقمه وتبتلعه.
  كلٌّ من هذه النباتات مَعْلمٌ من معالم القدرة الإلهية ، يسلِّم بها حتى المنكرون لو فتحوا أعينهم وأبصروا بها ، فإنَّ آثار الله تجدها كل مكان لكن رؤيتها تحتاج إلى عين باصرة.
  2 ـ ما هي الباقيات الصالحات ؟
  ذكر المفسرون احتمالات عديدة للباقيات الصالحات ، نشير إلى خمسة منها :
  الف : المراد هو الصلوات اليومية الخمس (1) ، لأنها أعمال صالحة وخالدة كذلك ، فالصلاة تعمر كل مكان اُقيمت فيه من البيت والدائرة والمجتمع والبلد ، والمكان الذي لا تُقام فيه صلاة يخرب ويُدمَّر.
  الصلاة إذا وجَّهت القلب الذي هو مركز الاضطرابات والقلق نحو الله طمأنته وسكّنته (2) ، وملخَّص الكلام هو أنَّها معيار قبول أوردّ الأعمال وباقي العبادات (3).
  باء : المراد من الباقيات الصالحات هو الذكر الشريف التالي : ( سبحان اللّه والحمدُ للّه ولا إله إلاَّ اللهُ واللهُ أكبر ) (4).
  هذا الذكر ينزّه الله تعالى عن كل عيب ونقص ويوصفه بصفات الكمال ، وربٌّ بهذه الصفات جدير بالحمد والثناء ، لأنَّه الوحيد المتصف بهذه الصفات الكمالية والوحيد الذي هو جدير وأهل للعبادة ، ولا معبود غيره ، وهو أرفع شاناً ممَّا نصفه به وممَّا نظن ونتصوَّر وأعظم من أن تحدَّه افكارنا.

--------------------
(1) انظر تفسير جوامع الجامع 2 : 367.
(2) الرعد : 28.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 2265 ، الحديث 10233 والباب 2273.
(4) انظر تفسير الميزان 13 : 315.

أمثال القرآن _ 317 _
  جيم : المراد منها صلاة الليل (1) ، فهي صلاة تحضى بأهمية كبيرة ، وكل ما قلنا فيها كان قليلاً ، يقول الله في هذا المجال : ( وَمِنَ اللّيلِ فَتَهَجَّد بِهِ نَافِلةً لَكَ عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ ربُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (2).
  بلوغ المقام المحمود غير ميسَّر حتى للرسول ( صلى الله عليه وآله ) إلاَّ من خلال صلاة الليل.
  بالطبع لا ينبغي للانسان أن يأتي بجميع آداب ومستحبات صلاة الليل وبخاصة بالنسبة إلى أولئك الذين قصدوا تواً نيل هذه السعادة العظمى بل يكفيهم الاتيان بأحد عشرة ركعة بنحوها العادي والمألوف ، رغم أن الذي يأتي بباقي آدابها ومستحباتها سينال قسطاً أوفر من الثواب عند الله قطعاً.
  أتمنى التوفيق للقيام بهذه العبادة الكبرى لكي يتسنَّى لنا الإحساس بلذة بلوغ المقام المحمود تدريجياً.
  دال : فسَّر بعض المفسِّرين الباقيات الصالحات بالبنات اللاتي يتم تربيتهنَّ بالآداب الاسلامية ليصبحن اُمهات نموذجيات (3) ، لأنَّهن منشأ أمل لوالديهن في عالم الآخرة.
  هاء : نقرأ في رواية وردت عن الامام الصادق ( عليه السلام ) أن حبَّ أهل البيت وولايتهم من مصاديق الباقيات الصالحات (4).
  هذه خمسة تفاسير مختلفة للباقيات الصالحات ، لكن تقدَّم منا أنَّ هذه التفاسير رغم تضادها الظاهري غير متضادة ولا متنافية في الواقع ، ويمكن شمول الباقيات الصالحات لها جميعاً من خلال القول بأن كلاً من التفاسير التي ذكرناها والتفاسير التي لم نذكرها (5) بمثابة المصاديق للباقيات الصالحات (6) ، فإنَّ لهذا العنوان مصاديق متعدّدة ومختلفة.

--------------------
(1) انظر البيان في تفسير القرآن 7 : 52.
(2) الاسراء : 79.
(3) انظر مجمع البيان 5 : 474.
(4) انظر الأمثل 9 : 253.
(5) راجع مجمع البيان 6 : 473 و474.
(6) كما يرى ذلك المرحوم الطبرسي في مجمع البيان في العنوان المتقدِّم والعلامة الطباطبائي في الميزان 13 : 315.

أمثال القرآن _ 318 _
  والنتيجة هي أن لا يتعلَّق الانسان بدنياه الفانية والعاجلة بل عليه التعلُّق بالباقيات الصالحات.
  مباحث تكميلية
  1 ـ ماهي الحياة الدنيا ؟
  الدنيا مؤنث أدنى ، والحياة في عبارة ( الحياة الدنيا ) مؤنث موصوف ، والدنيا صفتها.
  الدنيا والأدنى يعنيان القرب وقد تعني الدنائة والوضاعة.
  وبهذا يكون معنى الجملة الحياة القريبة ويقابلها الحياة البعيدة أي الآخرة ، أو بمعنى الحياة الوضيعة والدنيئة ، ويقابلها الحياة العليا والرفيعة ، أي الآخرة.
  الدنيا مجموعة من الامكانيات المادية من قبيل الثروة والمال والمقام والزوج والولد والمنزل والسيارة والاُمور الاُخرى التي تحضى بأربع خصال :
  1 ـ فانية وغير دائمة ، كما اُشير إلى ذلك في كثير من الآيات والروايات.
  2 ـ خادعة وذات مظهر جذاب ، فهي جميلة وفاتنة جداً إذا نظرنا إليها من بعيد.
  3 ـ جوفاء ، أي رغم ظاهرها الجذّاب نجدها ـ عند الاقتراب منها ـ جوفاء خالية ، كالسراب الذي يبدو ماءً من بعيد ، لكنه لا شيء في الواقع ومن قريب.
  4 ـ ممزوجة بمختلف المشاكل والمصائب ، فلا تخلو الحياة من المشاق والمتاعب أبداً.
  مجموع ما تقدَّم مع هذه الخصائص الأربع يشكلّ الحياة الدنيا ، رغم ذلك فانَّها إذا اتّخذت صبغة إلهية والتزمت الأهداف السامية والعليا فلا تبقى دنيا بل تصبح آخرة.
  عن ابن أبي يعفور : قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : إنَّا لنحبّ الدنيا ، فقال لي : ( تصنع بها ماذا ) ؟ قلت : أتزوّج منها وأحج وأنفق على عيالي وأنيل إخواني وأتصدق ، قال لي : ( ليس هذا من الدنيا ، هذا من الآخرة ) (1).
  إذن ، إذا اتُّخذت الحياة لغرض الالتذاذ المادي ولتلبية الشهوات والأهواء كانت عبادة

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 1222 ، الحديث 5825.

أمثال القرآن _ 319 _
  للدنيا ، وإذا اتّخذت جسراً لبلوغ الأهداف المعنوية السامية كانت آخرة.
  2 ـ الدنيا من وجهة نظر الروايات
  في الروايات نجد مباحث كثيرة وواسعة عن الدنيا ، بل يمكن القول بأنَّ الدنيا من أوسع المباحث المطروحة في الروايات.
  من المباحث المطروحة في الروايات عن الدنيا هو التمثيل لها ، نشير إلى نماذج منها.
  الف : يقول الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : ( مثل الدنيا مثل ماء البحر كُلَّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله ) (1).
  وفقاً لهذا الحديث كون الدنيا لا تروي عطش أيٍّ من عَبَدة الدنيا ، وإذا ظنَّ أحد أنَّه سيقتنع ، بمستوى خاص من مستويات الدنيا ومقاماتها فإنَّ ظنَّه وَهْمٌ وخيال لا أكثر ، ومن المحالات ، وعكسه ، أي طلب الزيادة ، هو الواقع الصادق.
  لم يبلغ أثرياء الدنيا الكبار مستواهم المعاشي ودنياهم الدنية إلاَّ بعد ارتكاب جرائم تنفر النفس لبيانها فضلاً عن أرتكابها ، وقد أعدوا لهم إثر هذه الجرائم حياة كمالية اسطورية يصعب تصوّرها على الآخرين ، فقد قيل في بعضهم أن له حوض سباحة في طائرته الخاصة.
  لكن يا ترى هل يشبعون؟ وهل ذلك يروي ضمأهم ؟ كلا ، انّهم يسعون لاكتساب الأكثر فالأكثر دائماً ، ولأجل ذلك يقتحمون كل مجالات التجارة مهما كانت ، فيتاجرون بالأسلحة التي يُقتل بها المذنبون وغير المذنبين سواء ، كما يتاجرون بالأسلحة الكيمياوية التي يكفي قذيفة منها لقتل الآلآف من المدنيين العُزَّل بأبشع وجه ، فيضيق العيش عندئذ لا على البشر فحسب بل على جميع الموجودات الحية ، رغم ذلك فهم غير مكترثين بالعواقب المفجعة والوحشية لهذه الأعمال والتجارة ، وما يهمهم هو زيادة أرباحهم وأموالهم.
  إنَّهم مستعدون ـ لإرواء عطشهم تجاه الدنياـ لأن يتاجروا بالمخدرات وأن يحطّموا عوائل ومجتمعات ويسلبوا الشباب إرادتهم بهذه المواد ، وذلك لأجل زخرفة دنياهم أكثر فأكثر.

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 1253 ، الحديث 6009.

أمثال القرآن _ 320 _
  إن هؤلاء القذرين حاضرون للمتاجرة بالبشر ، وهي تجارة قذرة تشمئزُّ منها النفوس ، فيشترون الأطفال ـ سواء بنات أو بنين ـ من الدول الفقيرة وبمبالغ زهيدة ليبيعونهم بمبالغ طائلة للمتموّلين وأصحاب الأهواء من أمثالهم ، وهي عملية تخلّف آلاماً وحسرات ، حيث يبقى الوالدان يتحسَّران على رؤية ولدهم ويتحمّلون حرقة فراقه إلى آخر العمر. ولا يهمهم ذلك ، لأنَّ هدفهم زيادة المال وإنماءه.
  يا لهم من اُناس دنيئين ؟ لكن لماذا هم كذلك ؟
  يمكن الإجابة على ذلك بالقول : إنَّهم لا يفكّرون بغير الدنيا ولذاتها المتنوعة ، ولا علاقة لهم بشأن الدين والشرف والانسانية ، وقد قُيِّد وجدانهم البشري في زنزانة الحرص والطمع وطلب الزيادة ، ودُفنت فطرتهم تحت تلٍّ من الرذيلة والدناءة.
  باء : يقول سابع إمام للشيعة موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) واصفاً الدنيا : ( مَثَلُ الدنيا مَثَلُ الحيَّة مسُّها ليِّن وفي جَوفِها السمُ القاتل ) (1).
  هذا الحديث يشير إلى خداع الدنيا ويشبهّها بالحية ذات المنظر الفاتن والباطن المسموم والقاتل.
  جيم : يقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( إنَّما الدنيا شَرَكٌ وقع فيه مَن لا يعرفه ) (2).
  ويا له من شرك واسع وكبير يسع لصيد وقرابين مختلفة ومتنوّعة !
  دال : كما يقول أول أئمة الشيعة : ( الدنيا ظلُّ الغَمَامِ وحُلم المَنَام ) (3).
  يحكي هذا الحديث الشريف جانباً من الدنيا ، وهو كونها زائلة وغير دائمة ، فهي من قبيل

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 1253 ، الحديث 6005.
هذا السم الذي تحدّثت عنه الرواية من عجائب قدرة الله تعالى ، حيث يمكن لقطرة منه أن تقتل حيواناً أو انساناً ، فياله من سم ؟! ومن أي عناصر يتركَّب ؟ وكيف يمكنه أن يقتل حيواناً تلدغه الحية ولا يقتل ذاتها مع أنه موجود في جوفها.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 1253 ، الحديث 6012.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 1262 ، الحديث 6054.