إنَّ عقيل قام ليخرج بعد ما رأى في هذا الحاكم الصلابة وعدم استعداده للعدول عن طريق العدالة ولو للحظة واحدة.
  هل نعلم على طول التاريخ حاكماً قادراً يعامل أخاه هذه المعاملة ، التزاماً بالعدالة ؟
  إلهي ! وفّق مسؤولينا للعمل كما كان يعمل الامراء الاحرار ، لكي يقدموا الضوابط والقوانين على العلاقات.

أمثال القرآن _ 269 _

المثل الثامن والعشرون : المؤمن والمشرك
  يقارن الله في الآية 76 من سورة النحل بين المشرك والمؤمن ويقول : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أحَدُهُمَا أَبْكَمْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيء وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَولَيهُ أيْنَمَا يُوَجِّهَهُ لاَ يَأتِ بِخَيْر هَلْ يَسْتَويَ هُوَ وَمَنْ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيْم ).

تصوير البحث
  عنت الآية بالمقارنة بين الإنسان المؤمن والإنسان المشرك ، وقد قارنت الآية بين الاثنين بمثل جميل ودقيق بحيث لا يمكن إثره انكار الفوارق بين الإنسانين ، وبخاصة إذا لاحظنا الصفات التي ذكرت للمشرك في الآية ، فانَّ ملاحظتها يفرض علينا القول بعدم امكانية المقارنة بينهما لشدة الاختلاف في هذه الصفات.

الشرح والتفسير
  ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ ) في هذا المثل قارن الله بين شخصين الأوّل وهو المشرك يحمل الصفات الخمس التالية :
  1 ـ ( أَحَدُهُمَا أبْكَمٌ ) أي أنّه أخرس.
  وأبكم مفردة اخرى للاخرس ، والفرق بينهما أن الأخرس هو الذي عرضت له هذه الحالة أثناء حياته ، ولم يكن أخرس منذ الولادة.
  أمّا الأبْكَم فهو الذي يلد على هذه الحالة.

أمثال القرآن _ 270 _
  وقد أضاف بعض من أهل اللغة أن الابكم هو الذي يكون على هذه الحالة منذ الولادة ، والسبب عقلي أي الضعف في قواه العقلية ، فهو يعاني من تخلف عقلي.
  وعلى هذا فالابكم صاحب دماغ ضعيف وسقيم ، ويشبّه الله المشرك بهذا الذي يلد ضعيف العقل.
  2 ـ ( لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيء ) الخصلة الثانية لهذا الإنسان هي أنّه غير قادر على عمل شيء ، فهو ضعيف روحياً وجسمياً.
  3 ـ ( وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَولَيهُ ) الخصيصة الاخرى لهذا الإنسان أنّه كلٌّ أو ثقل على الآخرين ، أي أنّ هذا العبد ثقل على مولاه.
  المتعارف أنَّ الناس يقتنون العبيد لأجل حلِّ مشاكلهم ، إلاّ أن العبد هذا ، لا أنه لم ينجز عملا انتاجياً أو خدمة ما فحسب ، بل هو مستهلك بحت ولذلك كان كلا على مولاه.
  4 ـ نستفيد من العبارة الماضية أن هذا الشخص عبد وليس حراً ، بعبارة اُخرى انه ملك لغيره لا لنفسه ولا يملك إرادة نفسه.
  5 ـ ( أيْنَمَا يُوجّههُ لاَ يَأتِ بِخَيْر ) آخر خصلة له أنه لا يتوفّق في أي عمل يقدم عليه ، ويرجع منتكس الرأس كلّما اُرسل لقضاء حاجة.
  وعلى هذا ، فإنَّ المشرك يبدو شخصاً يحمل الصفات التالية :
  1 ـ عبد يفقد الارادة.
  2 ـ أبكم منذ الولادة.
  3 ـ لا يستطيع انجاز عمل ما.
  4 ـ كَلُّ على مولاه.
  5 ـ فاشل في جميع أعماله.
  ( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ ... ) أي هل يستوي هذا الإنسان الحامل لهذه الصفات مع إنسان ستأتي صفاته ؟
  الإنسان الآخر ( المؤمن ) الذي سنبتُّ بتوصيفه يحمل خصلتين ممتازتين وبارزتين :
  1 ـ ( يَأمُرُ بِالعَدْلِ ) أول خصائصه أنّه يأمر بالعدل والقسط ، أي أنَّه عادل ويعمل طبقاً لما تستلزمه العدالة.
  وأمره بالعدالة يكشف عن شخصيته القيادية والادارية.

أمثال القرآن _ 271 _
  2 ـ ( وَهُوَ عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ) فهذا الإنسان اضافة إلى عدالته وأمره بها ، يحضى بخصيصة اُخرى ، وهي أنَّه يخطو على الصراط المستقيم.
  قد يكون البعض من طلاّب العدالة والقسط في المجتمع ، لكن بما أنّ مساعيهم لم تنشأ ولم تصب في الطريق الصواب والصحيح فهي كثيراً ما تنتهي إلى الظلم والجور.
  وقد نجد شخصيات من الشيوعيين يطالبون بالعدالة حقاًَ ، لكنهم سلكوا طريقاً غير صائب لاجل تحقيق العدالة ، فانتهى أمرهم إلى جرائم كثيرة وبشعة اقترفوها خلال سبعين عاماً من حكومتهم.
  إذن ، مثل المؤمن مثل الإنسان العادل والطالب للعدالة الذي يسير على طريق الحق والصواب ، أما مثل الكافر فمثل العبد الابكم الذي لا إرادة له و ....
  وهل يتساوى ( مع هذه المفارقة ) المشرك والمؤمن ؟ لا شك أنه لا يوجد من ينكر المفارقة هذه.
  خطاب الآية
  الشرك وعبادة الأصنام في القرن العشرين
  يتصور البعض أنّ عهد الشرك وعبادة الأصنام قد ولّى ولا يوجد مشرك حالياً ، مع أنّ الواقع ليس كذلك ، فهناك مشركون وعبدة للأصنام ، وذلك لأنَّ للشرك ( ذلك البلاء المهلك ) أنواعاً وأقساماً كثيرة.
  من هنا قال القرآن : ( وَمَا يُؤمِنُ أكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلاّ وَهُم مُشْرِكُونَ ) (1).
  نعم ، إنَّ أكثر الذين يدّعون الايمان نجد في معتقداتهم عروقاً من الشرك تصب في قلوبهم.
  لو قيل للذي ادّخر مالا وأعدّ لنفسه ثروة ضخمة : انَّ هذه الثروة ليست لك ، وأنت مجرد أمين عليها ، فاعط المحتاجين كما نصّت الآية على ذلك : ( وَأَنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِيْنَ فِيْهِ ) (2).

--------------------
(1) يوسف الآية 106 .
وقد وردت رواية جميلة عن الباقر ( عليه السلام ) في ذيل هذه الآية يقول فيها : ( ( هو قول الرجل : لولا فلان لهلكت ، ولولا فلان لأصبت كذا وكذا ، ولولا فلان لضاع عيالي ، ألا ترى أنّه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه ) ) ؟ قال الراوي قلت : فيقول : لولا أنّ الله منَّ عليّ بفلان لهلكت ؟ قال : ( ( لا بأس ) ) ، ميزان الحكمة ، الباب 1992 ، الحديث 9309.
(2) الحديد : 7.

أمثال القرآن _ 272 _
  لأجاب : لي أولاد وبنات وهم مقبلون على الزواج وعلى دخول الجامعات ، ومصارفهم كثيرة وثقيلة ... إنّ هذا المسلم مشرك في الحقيقة ، وذلك لأنَّه غير مقتنع برازقية الله بشكل كامل ، وتوحيد رازقية الله عنده ناقص ، وإلاّ فإنَّ الله الذي كان قادراً على حفظ هؤلاء الأطفال في أرحام امهاتهم قادر على إعانتهم في الدنيا إلى نهاية عمرهم.
  إنّ المترائين الذين يتظاهرون بعبادة الله أمام الناس ، لأجل كسب العزة والجاه عند الناس ، هم في الحقيقة يمارسون الشرك بتظاهرهم هذا ، لأنَّ الآية 26 من سورة آل عمران نصّت على أنّ الذل والعز بيد الله تعالى لا بيد هؤلاء الناس الفقراء إلى ربّهم ( قُلِ اللََّهُمَّ مَالك المُلْكِ تُؤْتِيَ المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشَاءُ ... ).
  إنّ المشرك ضعيف وفاشل ووحيد دائماً ، أما المؤمن الموحّد والآمر بالعدل والسائر في الطريق الصواب فإنَّ الله معه دائماً.
  لذلك يقول الله تعالى في الآية 51 من سورة غافر : ( إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا والّذِيْنَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُومُ الأشْهَادُ ).
  كما قال الله في الآية 30 من سورة فصلت المباركة : ( إنّ الّذينَ قَالُوا ربّنا اللهُ ثُمّ استَقَامُوا تتنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكةُ ألاّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بالجَنّةِ الّتي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) حسب ما صرّحت به هذه الآية ، فإنّ الله يعين المؤمنين من خلال إرسال الملائكة إليهم.
  وعلى هذا ، فإنَّ الشرك ( الذي هو منشأ كثير من المفاسد ) لا زال موجوداً في عالمنا اليوم ، وله أقسام عديدة على المؤمنين أن يتبرؤوا منها.
  من الآيات التي فُسّرت في الإمام علي ( عليه السلام ) هي هذه الآية ( آية المثل ) ، وحسب ما جاء في رواية وردت عن أهل البيت( عليهم السلام ) : أنَّ المُرَاد من ( مَنْ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ) هو الإمام علي والائمّة المعصومون ( عليهم السلام ) (1).
  بالطبع هذا لا يعني عدم شمول الآية للآخرين ، بل الرواية تعني أنَّ علياً والائمة ( عليهم السلام ) هم

--------------------
(1) انظر تفسير الأمثل ذيل الآية.

أمثال القرآن _ 273 _
  أبرز مصاديق هذه الآية (1).
  نعم ، إنّ عدالة علي ( عليه السلام ) بمستوى جعلته يستحوذ لا على قلوب المسلمين فحسب ، بل على قلوب جميع الأحرار في العالم.
  من هنا يقول الكاتب المسيحي ( ميخائيل نعيمة ) : لا يختص علي بالمسلمين فحسب ، بل نحن المسيحيون كذلك نحب علياً.
  حقاً كما قال ، ولو كان الإمام علي ( عليه السلام ) مختصاً بالمسلمين فحسب لما كتب الكاتب المسيحي المعروف ( جورج جرداق ) كتاباً في علي ( عليه السلام ) أسماه : ( صوت العدالة الإنسانية ) ، حيث تعامل فيه مع علي ( عليه السلام ) كمعاملة عاشق له ، عاشق لفكره ، عاشق لعدالته ، عاشق لقلمه ، عاشق لسلوكه واخلاقياته ، عاشق لتقواه.
  ويبدو أنَّ هذا الشخص ذاته الذي قال في علي ( عليه السلام ) : يا دنيا !
  مالك لو تستنفري جميع قواك ليكون لك رجل كعلي في كل قرن ، لكن أسفاً أن الدنيا غير قادرة على ذلك.
  هناك مطالب كثيرة وردت في عدالته ، إلاّ أنّ بعضها باعتبار شهرتها لم تنل الاهتمام الدقيق والكافي.
  إنَّ كثيراً من خطبه ورسائله في نهج البلاغة تحكي عن عدالته ، منها قصته المعروفة مع أخيه عقيل التي قد أشرنا لها في البحوث الماضية مراراً ، وهي تشكل قصة لا مثيل لها في التاريخ أبداً.
  وفي نفس الخطبة التي جاءت فيها قصة عقيل جاءت قصته مع الأشعث بن قيس المنافق الذي كان سبباً لكثير من الاختلافات والإستفزازات والمؤمرات في عصر حكومة الإمام علي ( عليه السلام ).
  إنَّ هذا المنافق تخاصم مع مسلم على قطعة أرض وقد وقعت اضبارة الاثنين بيد علي القدوة في العدالة.
  وفي ليلة أراد الاشعث إرشاء علي ( عليه السلام ) بإهداء حلوى له فكان جواب علي هو النفي والتأنيب ، فهي إمّا رشوة أو صدقة أو زكاة ، وكلها حرام ، فالرشوة حرام على جميع القضاة ، وأمّا الزكاة والصدقة فهي حرام على آل الرسول جميعاً (2).

--------------------
(1) ولأجل ذلك جاء في تفسير مجمع البيان 6 : 537 ، أنّ المراد هو حمزة وعثمان بن مظعون.
(2) علماً أنَّ الصدقات الواجبة ( أي زكاة المال والفطرة ) فقط تحرم على السادة ، أما المستحبة فهي غير محرمة عليهم.

أمثال القرآن _ 274 _
  أراد الأشعث المنافق أن يكسب الموقف ولو بطلي الباطل صبغة الحقّ ، حيث قال : إن هذه هدية ، وهي لا تدخل في العناوين السابقة ، ولكل مسلم الحقّ بأن يهدي ، وردّها غير صحيح (1).
  فاجابه : ( هبلتك الهبول ! أعن دين الله أتيتني لتخدعني ؟ أمختبط أنت أم ذو جنّة ، أم تهجر ؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها ، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جُلب شعيرة ما فعلته ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمُها ).
  نعم ، الدنيا التي تُقترف الجرائم لأجل كسب مقدار قليل من زينتها هي أهون من ورقة شجرة في فم جرادة.
  علينا نحن الشيعة أن ندرس أنفسنا ونراجع لنعرف إلى أي مدى نتحلى بالعدالة العلوية ؟ وأي مقدار فهمنا من دروس عدالة علي ؟ وهل يا ترى خطونا الخطوات الكافية لأجل ذلك ، أم أنّا شيعة في القول واللسان فقط دون العمل ؟ لا شك إذا كنا نبحث عن السعادة والنجاة ، فلا مفرّ من العبور من صراط علي ، كما علينا التزام حبه وعشقه دائماً ، لأنَّ السعي لا يجدي نفعاً إذا لم يقترن بالحب.

--------------------
(1) وردت روايات كثيرة حبذت على قبول الهدية مهما كانت قليلة .
راجع ميزان الحكمة ، الباب 4009.

أمثال القرآن _ 275 _
المثل التاسع والعشرون : حديثوالعهد بالإسلام
  يقول الله في الآية 92 من سورة النحل : ( وَلاَ تَكُونُوا كَالّتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أيْمَانَكُم دَخَلا بَيْنَكُمْ أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أمَّة إنَّمَا يَبْلُوَكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبينّنّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُونَ ).

تصوير البحث
  كان المسلمون في صدر الإسلام أقلية والمشركون يشكلون الأكثرية ، وتلك الثلة من الشباب ، الذين عشقوا الرسول وآمنوا به ، كانوا يواجهون ضغوطاً من قبل عوائلهم وأصدقائهم والمجتمع المشرك عموماً ، (1) فبعض منهم مثل أبي ذر وبلال وعمار قاوموا جميع الضغوط وثبتوا على عقيدتهم وضحّوا لأجلها وماتوا وهم مسلمون ، إلاّ أنّ البعض الآخر لم يطق ملامة المحيطين به ( وهم الاكثرية ) واعتراضاتهم ، وارتدّوا بعد ما اجتازوا مراحل الإسلام والايمان الصعبة ، والآية هذه تعرضت للثلة الاخيرة من المسلمين المتزلزل إيمانهم.

الشرح والتفسير
  ( وَلاَ تَكُونُوا كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أنْكَاثَاً ) يخاطب الله في هذه الآية حديثي العهد بالإسلام الذين تحمّلوا مشاق الإسلام والايمان وتخطّوا مشاكل هذه المرحلة وتتوجوا

--------------------
(1) نحن الآن نعيش في نعمة كبيرة حيث ولدنا من أبوين مسلمين وفي مجتمع مسلم ، لذلك علينا شكر الله أولا والأبوين ثانياً وما جرّبنا معاناة تلك الثلة المؤمنة.

أمثال القرآن _ 276 _
  بالإسلام أفضل دين سماوي ، ويحذّرهم دون أن يكونوا كتلك التي نقضت غزلها بعد أن تحملت مشاق ومتاعب الغزل والحياكة.
  فإنَّ مثل الذي يرتد عن الإسلام والايمان إلى الشرك كمثل تلك السفيهة أو البلهاء.
  اختلف العلماء في اسم تلك السفيهة ، فبعض قال : انها رائطة ، وبعض قال : انها ربطة ، وبعض آخر قال : إنّها رابطة.
  المهم أنها امرأة كانت تعيش في عهد الجاهلية ولشدة غبائها وبلهها كانوا يسمونها حمقاء.
  إنَّ ما كانت تعمله هذه الحمقاء المتموّلة هو أنّها في صباح كل يوم كانت تعدُّ صوفاً وتأمر جارياتها بغزل الصوف ، ثم تأمر الجاريات عصر ذلك اليوم بارجاع الغزل إلى الصوف ، أي تأمر بنقض الغزل.
  وعملها هذا كان يتكرر كل يوم.
  يحذّر القرآن الكريم حديثي العهد بالإسلام أن لا يعملوا بايمانهم واسلامهم كما كانت تعمل هذه المرأة الحمقاء بغزلها.
  ( تَتَّخِذُونَ أيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) أي لا تتخذوا قسمكم ذريعة للخيانة والفساد ولا تتماطلوا في بيعتكم مع الله.
  ( أنْ تكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أمَّة ) أي لا تتخذوا قلتكم وكثرة المشركين ذريعة لنقض بيعتكم مع الله ورسوله ، فإنَّ القلة والكثرة ليستا إلاّ ذرائع وتبريرات.
  ( إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ ) أي أنَّ هذه القلة في العدد هي امتحان لكم ، وما عليكم إلاّ السعي لأجل اجتيازه بنجاح.
  ( وَلَيُبَيِّننَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيْهِ تَخْتَلِفُونَ ) لا شك أنّ الله سيبّين للجميع يوم القيامة ما كان يختلف فيه الناس ، وآنذاك سيندم الكفار والمشركون على عدم إيمانهم.
  هذا المثل جميل وبليغ وجذّاب جداً ، كما أنَّه تحذير للمسلمين على أن يغزلوا حبال إيمانهم باستحكام وقوة خوف النقض بعد هذه المشاق والمتاعب وخوف الوقوع في الشرك تارة اخرى.
  خطابات الآية
  1 ـ إنَّ الصوف إذا لم يُفتل فلا فائدة فيه ، ولا يمكن صناعة شيء منه ، أما عندما يُغزل ، فاذا

أمثال القرآن _ 277 _
  كان غزله رفيعاً ودقيقاً تبدل إلى خيوط تصلح لصناعة الاقمشة والسجاد ، وإذا كان سميكاً تبدل إلى حبال وأمكن صناعة خيام صحراوية منه.
  إنَّ المجتمع المتشتت والمتفرق كالصوف غير المفتول لا يصلح لشيء ، أما إذا اتحد وتلاحم ، فانّ ذلك سيكون منشأ لخيرات وبركات كثيرة.
  2 ـ إنَّ الصوف في الحالات الاعتيادية ضعيف وهش ويذهب به الريح حتّى لو كان نسيماً ، ولا قدرة له على المقاومة ، رغم ذلك فإنَّه لو اُفتل وغُزل باستحكام فقد نتمكن حمل أثقل السلع بواسطته ، بل قد يتحكمون ويسيطرون على السفن الكبيرة من خلال ربط خطاف السفينة به.
  3 ـ إنّ السبب الوحيد لاستحكام هذا الصوف هو اتحاد وتلاحم فتائله.
  نعم ، إنَّ اتحاد هذه الفتائل والتنسيق والتعاضد فيما بينها وترك الاختلاف والتشتت هو منشأ لخيرات كثيرة.
  وهذا يعلّم الإنسان أن في ذاته قابليات كثيرة تكمن وتوجد فيه بالقوة ، وهي قابليات إذا فتلت واستحكم غزلها فستثمر محاصيل جديدة اخرى مثل الارادة ووحدة الكلمة والايمان والتوكّل على الله.
  من هنا خاطب القرآن المسلمين بأنهم فُتلوا بالايمان ، وعلى العاقل أن لا يفتح فتائل الايمان هذه.
  لقد ورد في خطبة زينب ( عليها السلام ) عندما وصلت بوابة الكوفة وخاطبت الناس هناك : ( إنّما مثلكم كمثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة ... ) (1).
  والواقع كذلك حيث بايعوا علياً في عهده وبايعوا سفير الحسين مسلم بن عقيل بعد ذلك.
  وهذا أمر أحكم غزلهم لكنهم نقضوا هذا الغزل إثر وعد ووعيد وتهديدات.
  وبذلك يثبت أنّ دعوتهم للإمام الحسين ( عليه السلام ) وإعلانهم عن الوفاء له لم تكن إلاّ خدعة ، وهم الآن يبكون ويقيمون المآتم عليه !
  إنَّ الذي له باع في الأدب العربي وطالع خطبة زينب ( عليها السلام ) يدرك قيمة هذه الخطبة.
  ونحن نعتقد أنَّ زينب ( عليها السلام ) بعملها هذا هزت عرش حكومة الشام ، وكانت المقدمة لسقوط بني أمُيَّة والثورات والحركات التي حصلت بعد ذلك الحين.

--------------------
(1) نقلا عن كتاب ( الإمام الحسن والحسين ) للعلامة السيد محسن الأمين العاملي : 256.

أمثال القرآن _ 278 _
أهمية الوفاء بالعهد
  هناك الكثير من الروايات أكّدت على أهمية الوفاء بالعهد ، نشير إلى ثلاث منها :
  1 ـ في حديث قصير للرسول ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ( لا دين لمن لا عهد له ) (1).
  هذا الحديث المهم يعني أنَّ الذي لا يلتزم بعهده يتساوى مع الذي لا دين له أبداً.
  والذي يعاهد اليوم وينقضه غداً هو إنسان دون دين ، فإنَّ الإنسان الذي لا يفي بعهده أمام خلق الله سوف لا يفي بعهده أمام الله كذلك.
  2 ـ يقول الإمام علي ( عليه السلام ) في عهده لمالك الاشتر : (2)
  ( وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة ، أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت ، فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدُّ عليه اجتماعاً ، مع تفرّق أهوائهم ، وتشتُّت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهودِ ).
  إنّ العالم اليوم يفي بالعهود وأكثر الدول تلتزم بما تعهدت به ، وكذا الناس في عهد الجاهلية وعهد عبادة الاصنام ، فإنّها سنة لم تختص بالقرآن والمسلمين فحسب بل عامة ، ومما ينبغي على المسلمين هو وفاؤهم بعهودهم مع الله ومع خلقه.
  3 ـ يقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) في حديث جميل له : ( ثلاث لم يجعل الله عزّوجلّ لأحد فيهنّ رخصة أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر والوَفاء بالعهد للبرّ والفاجر وبرّ الوالدين بَرين كانا أو فاجرين ) (3).
  على ما قرأنا في الآيات والروايات ، فإنَّ الوفاء بالعهد يقع في صدر قائمة أعمالنا.
  وإذا أراد عبد أن يستجيب الله لدعوته وطلباته عليه أن يفي بعهوده مع الله.

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 4173 ، الحديث 22179.
(2) بحار الانوار 2 : 29 و 180 ، 7 : 285.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 4173 ، الحديث 22174.

أمثال القرآن _ 279 _
المثل الثلاثون : كفران النعمة
  يقول الله تعالى في الآيتين 112 و 113 من سورة النحل : ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأتِيْهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فَأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَائَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُم العَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ).

تصوير البحث
  تعرّضت الايتان إلى مصير اولئك الذين لا يشكرون نعمَ الله بل يكفرون بها ، ولأجل ذلك استحقوا العذاب الشديد من الله.

الشرح والتفسير
  ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلا قَرْيَةً ) شبّه القرآن المجيد الكافرين بنعم الله والمنكرين لها بالقرية (1)المعمورة التي تحضى ـ بسبب عمرانها المادي والمعنوي ـ بالمواصفات الأربع التالية :
  1 ـ ( آمنة ) ، إنَّ الأمان هو أوّل صفة لهذه القرية ، وباعتبار أنَّ نعمة الأمان أهم النعم

--------------------
(1) إنَّ القرية في الاصطلاح القرآني لا تعني ما يقابل المدينة ، بل تعني كل مكان معمور سواء كان قرية بالمعني المتعارف أو مدينة صغيرة أو كبيرة ، وقد اُطلق هذا المصطلح على عاصمة مصر في عهد يوسف ( عليه السلام ).

أمثال القرآن _ 280 _
  الإلهية لذلك قدّمها على غيرها من النعم على ما يبدو.
  في الحقيقة ، الامان إذا كان مفقوداً في مكان ما فإنَّ المكان سيفقد الإقتصاد السليم ، كما أنَّه سيفقد امكانية التعليم والصناعة والتقنية الحديثة ، وامكانية العبادة وأداء الشعائر الدينية ، وخلاصة سوف لا يُنجز عمل بشكله الصحيح إذا لم يقترن بالأمان.
  إنَّ شعب ايران الأبي سوف لا ينسى أنه كان يواجه مشاكل أثناء الدفاع المقدس (1) حتى في مجال العبادة ، فقد يكون البعض في أثناء صلاته ويسمع صفارة الأنذار ، الأمر الذي يوقع المصلي في حرج ومازق روحي يجعله يشك في كيفية أداء عبادته.
  وعلى هذا ، فإنَّ قضية الأمن تحضى بأهمية كبيرة تؤثر حتى على العبادة وكيفية أدائها.
  عندما وطأت قدما إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) أرض مكة الجرداء ، وبنى بين الجبال بيت الله الحرام ، دعى لأهل تلك المدينة دعاءً ينقله الله في الآية 126 من سورة البقرة كما يلي : ( رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدَاً آمِنَاً وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخَرِ ).
  في هذه الآيات النورانية نقرأ أنَّ أوّل دعاء دعى به إبراهيم لأهل المدينة هو الأمن.
  إنَّ عقوبات اُولئك الذين يخلّون بأمن البلد والمجتمع هي من أشدّ العقوبات في دين الإسلام المقدس ، ولذلك فرضت على ( المحارب ) عقوبات شديدة قد تصل إلى مستوى الإعدام.
  إنّ السّراق المسلحين ـ سواء بالاسلحة النارية أو غير النارية ـ يُعدُّون محاربين وينبغي عقابهم بأشد العقوبات ، كما أنَّ الذين يخلّون بأمن منطقة واسعة يعدون ( مفسدين في الأرض ) وعقابهم الإعدام (2).
  2 ـ ( مُطْمَئِنَّةً ) قد تحضى المدينة بأمان ، لكنَّ أمانها متزلزل وغير ثابت ، وقد تحضى بأمان ثابت وغير متزلزل ، والامان الذي أشارت إليه الآية هو الأمان المتواصل والثابت.
  3 ـ ( يَأتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدَاً مِنْ كُلِّ مَكَان ) كما مضى فإنَّ الأمان يجلب كل شيء حتى الإقتصاد السليم والقوي.
  في هذا البلد الذي أمن من السوء تأتي الناس أرزاقهم من كل مكان وصوب ،

--------------------
(1) إن هذه الحرب التي فرضها نظام البعث في العراق بدأت بعد الثورة عام 1980 وانتهت عام 1988.
(2) تفاصيل الحدود الشرعية المفروضة على المحاربين والمفسدين في الأرض تجدها في جواهر الكلام 41 :564 فما بعدها.

أمثال القرآن _ 281 _
  وهناك مجالات كثيرة ومتنوّعة لكسب الرزق.
  4 ـ ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ) أي أنَّ الله إلى جانب ما وفَّر لهم من نعم مادية ( الأمان والإقتصاد السليم ) منحهم نعمة معنوية وهي إرسال نبيّ معصوم وبصير منهم ، لكي يتمَّ تعاليمهم ومعارفهم.
  إنَّ أهل هذه المدينة يتمتعون بهذه الخصال الأربع ويعيشون في رخاء ، رغم ذلك لم يشكروا الله على نعمه.
  ( فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فَأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والخَوفِ ) إنّ أهالي هذه البلدة كفرت بدل أن تشكر نعم الله ، وكانت النّعم سبباً لتكبرّهم وغرورهم وأنانيتهم ، فظلموا بدل أن يفيدوا من النعم بشكل صحيح ، وكان نتيجة ذلك نزول العذاب الإلهي ، وأذاقهم الله ، إثر ذلك ، الطعم المرَّ للجوع وسلب منهم الأمان ، فكانت السرقات والغارات تهددهم في كل وقت ، وتسلَّط أوباشهم عليهم ، وتدمَّر اقتصادهم إثر تزلزل الأمان عندهم.
  سؤال : إنَّ تعبير ( أذَاقَهَا ) لا يتناسب مع تعبير ( لِبَاسَ ) بل المناسب هنا استخدام مفردة ( ألْبَسَهَا ) ، فما سرّ هذا التعبير ؟
  الجواب : هناك نقطتان دقيقتان في مجال استخدام ( اذاق ) مع ( لباس ) نشير إليهما هنا :
  الف ـ اللباس يضم الجسم كله ويحتويه ، وكذا العذاب الإلهي فانه يشمل جميع القرية.
  باء ـ بالنسبة إلى عبارة ( أذَاقَهَا ) ينبغي الالتفات إلى أنّ إحساس الإنسان واستيعابه ذات مراحل ومراتب : قد يدرك الإنسان شيئاً من خلال حاسة السمع ، كأن يسمع بصوت النار ، فيدرك وجود حريق.
  وقد يرى الإنسان النار فيستوعب وجودها بالباصرة ، وهذا الادراك ذات مرتبة أعلى من سابقه.
  وقد يلمس النار فيدرك وجودها ، وهذا النوع من الادراك يقع في مرتبة أعلى من السابقتين.
  وقد يدرك الإنسان الشيء من خلال تذوّقه ، وهذا أعلى درجات الاحساس ، وسبب

أمثال القرآن _ 282 _
  استخدام الآية الشريفة لمادة الاذاقة هو أنها تريد الأشارة إلى شدّة إدراكهم وتحسسهم للعذاب الإلهي وطعمه المر.
  ( بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) أي أنَّ صنيعة أهل القرية هو السبب في نزول هذا العذاب الإلهي ، فانَّ الإنسان قد يقترف الذنوب التي ترجع عواقبها عليه ، رغم صعوبة تحمّلها.
  على سبيل المثال ، إذا حلَّ النظام الطبقي في مجتمع ما ، وكان الاغنياء لا يكترثون من معاناة الفقراء ، فإنَّ الأمان الاقتصادي سيسلب من هذا المجتمع وتعود مردوداته جُلّها على الاغنياء أنفسهم ، وسبب ذلك ليس إلاّ بخل الاغنياء وامتناعهم عن الانفاق وإعانة الفقراء.
  لذلك جاء في رواية : ( إذا بخل الغنيّ بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه ) (1).
  أي أنّ الفقر هو السبب في السرقات وفي النهاية السبب في فقدان الأمن في المجتمع.
  كما جاء في رواية اخرى : ( سُوسُوا أموالكم بالصّدقة ) (2).
  أي أنَّ طريقة حفظ الأموال ليست هي ادخارها ، بل في التصدُّق ببعضها لكي لا يؤدي نار الفقر إلى إحراق أمن المجتمع وإحراقها في النهاية.
  خطابات الآية
  1 ـ العذاب والبؤس نتيجتان لأعمالنا
  إن الذي يُستشفُّ من آيات القرآن ، وبخاصة الايتين هنا ، هو أنَّ مشاكلنا وما نتحمله من العذاب هو نتيجة أعمالنا وأنَّ الله لا يظلم أحداً.
  إذا كان معظم الشباب في مجتمع لا يتمتعون بأبسط وسائل العيش ولا يمكنهم التقدم على الزواج ، ومن جانب آخر فيه أفراد يتمتعون بأفضل وسائل العيش ويوفّرون لأولادهم مبالغ كبيرة كصداق لزواجهم ويصرفون الملايين في هذا المجال ، وشاع في هذا المجتمع الفساد والفحشاء وعدم الأمن ، فهل المقصر في هذه الظواهر غير أفراد المجتمع ذاتهم ؟! مَنْ يُلامُ غير أفراده ؟

--------------------
(1) بحار الأنوار 47 : 741 ، ونهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 364.
(2) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 146.

أمثال القرآن _ 283 _
  من هنا يقول القرآن المجيد في الآية (41) من سورة الروم : ( ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِّ بِمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ لِيُذِيْقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمَلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ).
  نعم ، إنَّ منشأ جميع هذه المصائب والمشاكل هو ذات الإنسان .
  إنَّ الأب الذي لا يفكر إلاّ في جمع المال وادخاره ولا يكترث بتربية الأولاد والعائلة ، إذا واجه في المستقبل مشاكل اخلاقية ومصائب من قبيل تعاطي أولاده للمخدرات ، فلا يلوم إلاّ نفسه ، لأنّه هو السبب في تلك المشاكل لا غيره.
  عندما اعتقلنا عام 1342 هـ . ش بصحبة بعض الشخصيات السياسية والدينية ، واُرسلنا إلى معتقل طهران ، كنا نسمع في بعض الأيام أصواتاً مرعبة ، كنت أتصور أنها نتيجة التعذيب الروحي الذي كان يلحقه أفراد الأمن بالسجناء ، إلاّ أنّي علمت بعد ذلك أنّ منشأها هو المتعاطون للمخدرات وقد حان الوقت لتناولهم هذه المواد ، وباعتبار فقدانها في السجن كانوا يواجهون آلآماً شديدة ... لا شك أنَّ هذه المصائب نتيجة لأعمالهم.
  ليت النتائج تتوقف إلى هذا الحد ، بل إنَّها قد تطال العرض ، فيبيع هذا الشخص عرضه مقابل مقدار بسيط من هذه المخدرات.
  شخص من أهل الهوى والهوس كان يحب بنتاً ولا يتوفق للقاء بها رغم أنّه جرّب جميع الطرق ، إلى أن فكّر في جرّ أخيها إلى المخدرات وتعاطيها ، فتوفق في ذلك ، وبعد الاعتياد عليه قطعها عنه ، وقال له : لا طريق لك إليها بعد ذلك إلاّ أن تصطحب اختك معك.
  وبذلك توفق من النيل من هذه البنت.
  لقد استفاد العدو من طرق كثيرة لإيقاع شبابنا في الفخ.
  والمخدرات هي أحد تلك الطرق التي استفاد منها ، وهو يعلم أنَّ الشاب الذي يتعاطى هذه المادة ويبتلي بهذا المرض يفقد إرادته ويمكن جرّه إلى أي عمل شاء.
  2 ـ هل كان وجود خارجي لهذه القرية ؟
  المستفاد من الآية هو أنَّ للقرية ذات المواصفات الاربع وجوداً خارجياً ، لذلك كان النقاش بين المفسّرين في تحديد مكانها.

أمثال القرآن _ 284 _
  هناك احتمالات كثيرة نضمّن بحثنا هذا اثنين منها فقط :
  1 ـ يعتقد بعض المفسّرين أنَّ هذه القرية الآمنة هي مكة ، (1) فهي مصداق بارز للقرية الآمنة ، كما أنَّها في الحقيقة تحضى بنعمة توفّر جميع انواع الثمار فيها ، ورغم أنها تفقد بذاتها بعض النعم ، إلاّ أن ذلك البعض يفدها من باقي المناطق والدول ، وهي بذلك تحضى بنعم قلما نجد مكاناً يحضى بها.
  عندما هجر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مكة قاصداً المدينة ، كانت مكة تعاني من الجفاف الذي دام سبع سنوات ، وكانت هذه المحنة نتيجة كفرانهم نعمة تواجد الرسول فيهم ، وقد بلغ بهم الجفاف أنَّ رسول الرحمة ( صلى الله عليه وآله ) أرسل لهم أغذية من المدينة ، كما أنَّ الجفاف هذا اقترن مع فقدان الأمن فيها.
  نعم ، إنّ كفران النعمة سيتبعه عذاباً إلهياً وهذه سنة إلهية صادقة في كل مكان وزمان ، وتكرّر في كل مكان تتكرر فيه كفران النعمة.
  2 ـ يعتقد بعض آخر من المفسرين أنّ المراد من هذه القرية هو مدينة سبأ (2) حسب ما جاء في سورة سبأ ، فإنَّ تلك البلدة كانت عامرة كثيراً ، وكان فيها سدّ يُدعى ( مأرب ) تبدلت هذه البلدة بفضل هذا السدّ إلى قطعة من الخضار ، وكانت النعم فيها متوفرة بشكل لا يحتاج قاصدها إلى أن يصطحب معه غذاء ومتاع ، لأنَّه يكفيه أن يضع سلة على رأسه ويمشي في طرقها ، فإنَّ السلة ستمتلئ بعد فترة وجيزة بثمار الاشجار التي في طرفي الشارع.
  إنّ هذه المدينة كانت تتمتع بالأمن والاستقرار والنعم الوافرة ، إلاّ أن أهلها اختاروا طريق الكفر لهذه النعم ، فأوحى الله إلى فئران أن دمّري هذه المدينة ، فأثقبت هذه الفئران السد ، وتوسعت هذه الثقوب تدريجياً إلى أن دمّرت السد في ليلة ، وأخذ الماء بسيوله الجارفة المدينة بأجمعها ودمّر ما فيها من قصور ومزارع وبيوت وأشجار وبساتين.
  وكان التدمير إلى درجة اضطّر بعده للهجرة من سلم من أهالي المدينة ، وما استطاعوا العيش فيها.

--------------------
(1) انظر تفسير مجمع البيان ، 6 :390 ، التبيان 6 :432.
(2) انظر تفسير الأمثل 8 :311 ـ 312.

أمثال القرآن _ 285 _
  لقد ذاق عصرنا حالياً ثمرة كفران النعمة ، فاوربا قبل الحرب العالمية الثانية كانت غارقة في النعم وكانت مدنها معمورة وذات حضارة متقدمة وتقنية عالية و ... فقد كانت تحضى بكل شيء ، إلاّ أنَّ كفرانهم للنعم أبلاهم بحرب شاملة كان ضحيتها ثلاثين مليوناً من القتلى وثلاثين مليوناً آخرين بين معوّق أو مجروح ، وتدمّر إثر ذلك قسم كبير من أوربا.
  وعلى هذا ، فإنَّ الآيات هذه تحذير لنا بأن لا نكفر بنعم الله المعنوية والمادية ، ما علينا هو شكرها.

أمثال القرآن _ 287 _
المثل الحادي والثلاثون : أمثال الكفَّار
  يقول الله تعالى في الآية 48 من سورة الاسراء : ( اُنظُر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطيعُونَ سَبيلاً ).

تصوير البحث
  هذا المثل يختلف عمَّا تقدَّم وعمَّا سيأتي من أمثال ، لأنَّ الأمثال التي جاءت في القرآن أوضحت أموراً عقلية معقَّدة وغير حسية ، أمَّا هذه الآية فحكت الأمثال التي جرت على ألسن الكفَّار في حق الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي أمثال استهدفوا بها الإضلال ، عكس أمثال الله حيث استهدفت الهداية والإرشاد.

الشرح والتفسير
  لأجل معرفة ما جاء على لسان الكفار في حق الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ينبغي الرجوع إلى الآيات التي سبقت هذه الآية.
  يقول الله في الآية 45 من سورة الاسراء : ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً ).
  ما هو الحجاب المستور ؟
  اختلف المفسرون في معنى الحجاب المستور ، فبعض اعتبره الستار الحقيقي الذي يمنع من

أمثال القرآن _ 288 _
  رؤية الأشياء التي خلفه.
  وعندما كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يتلو القرآن يُجعل ستار حائل بينه وبين الكفار يمنع من رؤيتهم إيَّاه ، لكنهم كانوا يسمعون صوته.
  والمراد من المستور هنا هو غير المرئي ، أي أنَّه كان ستاراً لا يُرى بالعين يُجعل بين الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والكفار.
  فلسفة هذا الستار غير المرئي هي أنَّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عندما كان ينشغل بتلاوة القرآن يقرأ آيات في ذمِّ الكفّار والمشركين والأصنام وآيات عن مستقبل الاسلام وانتصاراته ممَّا قد يغيظ الكفار ويجعلهم ينفجرون غيضاً وكمداً ، وهو أمر يشكِّل خطراً على حياة الرسول ، لاحتمال هجومهم على الرسول وتعرّضه لبعض المساوئ ، وقد جعل الله هذا الستار لكي يحول بينه وبينهم (1).
  يعتقد بعض آخر من المفسرين أنَّ عبارة ( حجاباً مستوراً ) كناية عن الحجاب المعنوي من اللجاجة والتعصّب والجهل والعداوة ، فهذه الصفات المذمومة تبلورت على نحو حجاب للمشركين حالت دون فهمهم آيات القرآن ، التي هي سبب هداية القلوب وضيائها ، لكنها لا تؤثر في هذه القلوب بسبب هذا الحجاب المضمر (2).
  إذن ، كلا التفسيرين في مقام بيان مفهوم أنَّ هذا الحجاب كان مانعاً عن نفوذ الآيات في قلوب المشركين.
  جاء في الآية 46 من نفس السورة : ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أدْبَارِهِمْ نُفُوراً ).
  بلغ تعصّبهم ولجالجتهم مستوى جعلهم يولّون أدبارهم عن الحق ويعرضون عنه نفرةً منه بدلاً من أن يولوا أدبارهم عن الباطل ويعرضوا عنه.
  ولهذا جاء التعبير العجيب واللافت التالي على لسان نوح ( عليه السلام ) في الآية 7 من سورة نوح : ( وَإنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُم جَعَلُوا أصَابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأصَرُّوا وَاسْتَكْبَروا اسْتِكْبَاراً ) .
  الآية تحكي مستوى جهل وعناد معاصري النبيّ نوح ( عليه السلام ) حيث ما كانوا يكتفون بوضع

--------------------
(1) انظر مجمع البيان 6 : 418.
(2) انظر تفسير الأمثل 9 : 18 ـ 22.

أمثال القرآن _ 289 _
  أصابعهم في آذانهم بل كانوا يستغشون ثيابهم ويضعونها على رؤوسهم لكي ينتفي بالكلية احتمال سماعهم شيئاً من كلام نوح ( عليه السلام ) الحق.
  نعوذ بالله جميعاً من بلاء التعصّب واللجاجة وحفظنا من حريق ناره.
  جاء في الآية 47 من سورة الاسراء : ( نَحْنُ أعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُون إلَيْكَ وَإذْ هُمْ نَجْوى إذ يَقُولُ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً ).
  والآية تشير إلى شيطنتهم من الاستماع ثم التسقيط والتنقيص بغية منع الناس من الإهتداء ، فيناجي أحدهم الآخر ويقول : إنَّ النبي رجل مسحور.
  إنَّ الرجل المسحور يُعدُّ من الأمثال التي قالها المشركون في حق الرسول.
  ما تعني المسحور ؟
  عرب الجاهلية كانوا يرون سبب الجنون مساس الجن أو حلوله في الانسان (1) ويدعون الذي حلَّ فيه الجن مجنوناً ، كما يرون سبباً آخر للجنون ، وهو سحر السحرة ويدعون المبتلى بهذا مسحوراً.
  وبناءً على هذا شبَّه المشركون الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالمسحور علَّهم بذلك يحولون دون ترك أثر لكلام الرسول الجذّاب في قلوب الناس.
  يستفاد من آية المثل الشريفة أنَّ المشركين كانوا قد ضربوا للرسول أكثر من مثل واحد عَدُّوه فيها مسحوراً أو مجنوناً أو كاهناً (2) وساحراً وشاعراً.

أسلحة الجاحدين
  على طول التاريخ كان ولا زال الرسل وأوصياؤهم والأئمة ونوّابهم الخواص والعوام

--------------------
(1) ولأجل ذلك كانوا ينهالون على المجانين بالضرب.
(2) الكاهن هو الذي يتنبّأ ويُخبر عن الغيب ، وقد كان معروفاً أنَّ الكهنة كانوا ذا علاقة بالجن والشياطين ، وكانوا يستلمون الأخبار منهم.

أمثال القرآن _ 290 _
  والعلماء والفقهاء وكلُّ من خطى خُطاهم موضع إتِّهام من قبل الجاحدين ومنكري الله ، ولا ينفكون دائماً عن إلصاق مختلف التهم والتخرُّصات والأكاذيب بهؤلاء الثلَّة من سالكي طريق الحق والحقيقة لغرض إبعاد طلاَّب المعارف الإلهية عنهم ، كما فعلوا ذلك عند الثورة الاسلامية في إيران وقد شهدنا الأعداء دائماً يلصقون التُّهم بالثوّار وبالامام ( رحمه الله ) وبأتباعه وأنصاره الأوفياء ، لكنَّا نعلم جميعاً أن حبل الكذب قصير ، ولا تبقى الحقيقة خافية دائماً.
  من التهم التي الصقوها بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) تهمتان رائجتان سبق وأن اتُّهم بهما باقي الأنبياء ، وهما : ساحر ومجنون ، وفي ذلك يقول القرآن : ( كَذَلِكَ مَا أتى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) (1).
  كما قلنا فإن هذه التهم والتخرُّصات ما كانت إلاَّ لإغفال الناس ، لكنها لم تترك أثراً ، لذلك ما انفكوا عن تبديلها وتغييرها إلى مستوى التناقض أحياناً من قبيل نسبة السحر والكهانة والجنون للرسول وهي متناقضة ، لأن السحر والكهانة يستدعيان الذاكرة القوية والذهنية الناشطة ، ولا يمكن لمجنون أن يكون ساحراً أو كاهناً.

الحقائق المستبطنة في الاتهامات
  في هذه الاتهامات حقائق مستبطنة ينشرها الأعداء بنحو لا إرادي ، فهم ينسبون الجنون والسحر للرسول مثلاً ، وفلسفة هذه النسبة المستقبحة أنهم جاءوا للرسول وقالوا له : ما الهدف من دعوتك للدين الجديد ؟ إذا كان هدفك جمع المال فسنعطيك مالاً تصبح به اغنى رجال مكة وإن كنت ترغب الزواج فسنزوّجك أفضل نساء مكة ، وإذا كنت ترغب في الرئاسة فسنجعلك رئيساً علينا.
  لكن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أجابهم بعبارته التالية : ( والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ) (2).

--------------------
(1) الذاريات : 52.
(2) سيرة ابن هشام 1 : 265.

أمثال القرآن _ 291 _
  ولأجل هذا الجواب الصريح كانوا ينسبون له الجنون ، لأن شخصاً يترك أفضل النساء والجاه والمقام والثروة لغرض الدعوة للتوحيد لابدَّ وأن يكون ـ حسب عقليتهم ـ مجنوناً.
  نعم ، إنَّ الموحِّدين مجانين من وجهة نظر عبدة الدنيا ، الموحِّد عندما يجد ضالة في الشارع أو الزقاق يسعى متواصلاً للحصول على صاحبها ، وهذا العمل يُعدُّ جنوناً من وجهة نظر الدنيويين ، لأن العقل من وجهة نظرهم هو عبادة الدنيا ، أمَّا الطهارة والتقوى فجنون !
  من هذه التهم التي أطلقها الأعداء نفهم أن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كان رجلاً لا يراهن على مبادئ الاسلام ولا يستبدلها بأي شيء ، ولذلك دُعي مجنوناً ومسحوراً.
  ونستفيد من نسبة الكهانة إليه أنه كان يعلم الغيب ويخبر عنه دون أن يخطأ بحيث يصدق إخباره ويتطابق مع الواقع ، ولهذا جاء ما يلي في الآيات الاولى من سورة الروم : ( غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ ويَوْمَئِذ يَفْرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
  وفقاً للآية غُلبت الروم بواسطة الفرس ، وبعد فترة غير طويلة غلبت الروم الفرس ، وتزامن مع ذلك انتصار المسلمين ، وعندما شاهد الكفار تحقُّق هذا الأمر وصدق إخبار الرسول بالغيب نسبوا إليه الكهانة ، واين هو من الكهانة مع أن إخباره عن الغيب يكشف عن واقع وحقيقة مستقبلية لا كذباً ولا وهماً.
  لماذا نسبوا إليه الشعر ؟
  سبب نسبة الشعر إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) هو أنَّ آيات القرآن كانت فصيحة وبليغة وموزونة بدرجة استقطبت قلوب الناس ، فما كان مفرٌّ للكفار إلاَّ أن يقولوا : إنَّه شاعر ، وقد أجابهم القرآن الكريم من الآية 69 من سورة ياسين بما يلي : ( وَمَا عَلَّمنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وقُرآنٌ مُبِينٌ ).
  نسبة الشعر للرسول ( صلى الله عليه وآله ) تكشف عن جاذبية ولطافة وظرافة في القرآن.
  ونسبة السحر للرسول ( صلى الله عليه وآله ) تحكي عن آثار مهمة ومعجزة ترشَّحت عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، الأمر الذي أعجزهم عن مواجهته بالحق والحقيقة والواقعية فاضطرَّهم ذلك لإلصاق هذه

أمثال القرآن _ 292 _
  التهمة ، وقصة أسعد بن زرارة التي مضى ذكرها في الجزء الاول شاهد حسن على ما نقول.

خطاب الآيات التربوي
  الآيات المزبورة تعلِّمنا أنَّا إذا أردنا إدراك الحقيقة فعلينا إزالة الحُجُب التي تمنع من الإدراك وبخاصة حجاب التكبّر والتعصُّب والأنانية واللجاجة ، وإذا لم تزل هذه الحجب فسيبدو الباطل حقاً ، وعندها ينحرف الانسان عن طريق الحق.
  يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( مَن كانَ فِي قَلْبِه مِثْقالُ حبَّة مِن خَرْدَل من عصبيّة بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية ) (1).
  إذن ، ينبغي إزالة حجاب التعصُّب لرؤية الحق.

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 2743 ، الحديث 12733.

أمثال القرآن _ 293 _
المثل الثاني والثلاثون : المستكبرون والمستضعفون
  إثنى عشر آية من سورة الكهف ( وهي الآية 32 إلى 44 ) تشكِّل المثل الثاني والثلاثين من بحثنا ، يقول الله في هذه الآيات : ( وَاضرِب لَهُم مَثَلاً رَجُلَينِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعْنَابِ وحَفَفْناهُما بِنَخل وجَعلنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كلتا الجَنَّتَينِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظلِم مِنْهُ شَيئاً وفجَّرنَا خِلالهُمَا نَهَراً * وكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصَاحِبِه وهَوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أكْثَرُ مِنكَ مَالاً وأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفسِه قَالَ مَا أُظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحاورُهُ أكفَرْتَ بالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ثُمَّ مِن نُطفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَداً * وَلَولاَ إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ إنْ تَرَنِ أَنَا أقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسى رَبِّي أَن يُؤتِيَنِ خَيْراً مِن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسَباناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أوْ يُصِبحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَستَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأصْبَحَ يُقلِّبُ كَفَّيهِ عَلَى مَا أنَفَقَ فِيهَا وهي خَاويةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أحَداً * وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ ومَا كَانَ مُنتَصِراً * هُنَالِكَ الوَلايةُ لله الحَقِّ هُوَ خيرٌ ثَوَاباً وَخيرٌ عُقْباً )

تصوير البحث
  تضمَّنت الآيات الإثنى عشر مثلاً هو من أكبر أمثال القرآن ، وهو مثل المؤمنين والكافرين

أمثال القرآن _ 294 _
  أو المستكبرين والمستضعفين ، فشبَّه الله الطائفتين بشخصين ، أحدهما : ثري ومغرور بماله وثروته ، والآخر : مستضعف لكنه موحِّد.
  ونهاية هذين الشخصين زوال ثروة الثري وفناءها ، ممَّا أدى إلى استيقاظه من نوم الغفلة.
  والمثل يستبطن نكات ظريفة ولطيفة نعرض لها تدريجياً.

علاقة آيات المثل بسابقاتها
  لماذا طرح الله هذا المثل ضمن هذه السورة ؟ وهل هناك علاقة بين آيات المثل والآيات التي سبقتها ؟
  الجواب : إذا راجعنا الآيات السابقة للمثل وجدنا علاقة بينها وبين آيات المثل ، وبذلك تبدو ضرورة بيان هذا المثل في هذه السورة.
  ولأجل ذلك يقول الله في الآية 28 من نفس السورة : ( وَاصْبِر نَفْسَك مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغَدَوة والعَشِيِّ يُريدُونَ وَجهَهُ وَلاَ تعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَة الحَيَاةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبعَ هَواهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً ).
  قيل في شأن نزول الآية : إنَّ مجموعة من أثرياء العرب المشركين جاءوا للرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأعربوا عن رغبتهم للإلتحاق بدين الرسول ولكنهم قالوا : ما يمنعنا من الالتحاق بركبك وجود فقراء حواليك من أمثال سلمان وأبي ذر وصهيب وخبَّاب ، فلا تناسب بيننا وبينهم فأبعدهم عنك لكي نلتفَّ حولك (1).
  ولهذا الشأن نزلت الآية وأوضحت معيار الاسلام الأصيل ومنهجه في هذا المجال ، وأوضحت وظيفة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) تجاه القضية.

تحطيم القيم الكاذبة من أهداف الأنبياء
  من الأهداف المهمة للأنبياء والأولياء وبخاصة الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) هو تحطيم القيم الكاذبة ، لأنه كان للمال والثروة أرفع قيمة من وجهة نظر عَبَدَة الأصنام عهد الجاهلية ، ولا

--------------------
(1) انظر تفسير الأمثل 9 : 228 ـ 229.