من هنا كان توصيف وبيان هذه الحالات والأعمال بالالفاظ الدنيوية أمراً مستحيلا ولا يمكن بيانها بوضوح ، لذلك كان علينا مزاولة هذا العمل باستخدام المفاهيم الدنيوية المشابهة لتلك المفاهيم والألفاظ الأقرب لهذا البيان ، لترتسم بذلك صور قريبة لواقع النعم والعذاب الاخروي.
  كمثال على ذلك ، عندما يقال بأنَّ في الجنة أشجاراً ، فإنّه لا يمكن القياس والمقارنة بين فوائد الأشجار في العالمين.
  وبالنسبة إلى تفسير الآية 54 من سورة الرحمن ( وَجَنَى الجَنّتَيْنِ دَان ) فيقال : إنَّ ثمار أشجار الجنة قريبة غير بعيدة بحيث تكون سهلة الوصول.
  وفي تفسير الآية 48 من السورة المذكورة ( ذَوَاتَا أفْنَان ) يقال : إنّ الغصن الواحد يضمّ ثماراً مختلفة ، لكن لا يعرف أنَّ الثمار هناك هي نفسها التي هنا.
  أو أنَّ أصحاب الجنة إذا ما أرادوا الاصغاء إلى الأنغام والموسيقى ، أخذت غصون الاشجار تتلاطم وتخرج من نفسها أصواتاً وأنغاماً.
  وعلى هذا ، فنحن ندرك وجوه الشبه بين أشجار الدنيا والآخرة ، لكنا لا ندرك ولا نشعر بها ولا بما يتولد من أنغام وموسيقى وثمار.
  إيضاح
  مع الالتفات إلى المقدمة ، فإنَّ الآية من جملة الآيات التي هي في صدد عرض تشابيه للجنة ، وبيان أو ترسيم موقع المتقين فيها.
  من هنا كان خبر الآية محذوفاً ، أي أنَّ الآية كانت بهذا الشكل : ( مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ كجنة تََجْرِي ... ) أي أنَّ في الجنة بساتين ليست مثل بساتين دنيانا ، لأنّه
  أولا : أن منابع المياه فيها ذاتية وتلقائية ، وتوجد عين قرب كل شجرة ولا حاجة لتأمين المياه من الخارج.
  ثانياً : أنَّ ثمار الجنة دائمية وفي جميع الفصول.
  ثالثاً : أنَّ ظل الاشجار هناك دائمي وخالد ، أي أنَّ أوراق الاشجار لا تتساقط أبداً.

الخطابات المهمة للآية
  المستفاد من الآيات العديدة هو كون التقوى هو مقياس الثواب الإلهي في الآخرة.

أمثال القرآن _ 236 _

  في مجال التقوى دوّنت البحوث الكثيرة ، ولأجل الاستيعاب الأكثر لهذا المضمون ، الذي هو جواز دخول الجنة وميزان قيمة الإنسان وزاده في الآخرة نشير إلى روايتين وردتا هنا :
  1 ـ يقول الرسول في حديث مختصر وذات مغزى عميق في نفس الوقت : ( تمام التقوى أن تتعلّم ما جهلت وتعمل بما علمت ) (1).
  بناءً على هذه الرواية ، لا يُعدُّ الجهل عذراً ، بل على الإنسان أن يتعلّم ما يجهل ليعمل بما علم ويُعاتب الذين يبرّرون أعمالهم بأنهم جهال ، ويقال لهم : لماذا لم تتعلموا ؟ (2)
  2 ـ يقول الإمام علي( عليه السلام ) في حديث مختصر ومميّز : ( من ملك شهوته كان تقياً ) (3).
  إنَّ الإنسان بتقواه يتمالك غضبه وشهوته وحب الجاه والمقام وحب الشهرة والتطرّف و ... فهو سيتحكم بهذه الامور جميعاً.
  إنَّ هذين الروايتين يعرضان تعريفاً جميلا وجامعاً ومفهوماً للتقوى ، ينبغي السعي والعمل لأجل تحقيق ما ورد في هذين الروايتين الشريفتين وبخاصة في شهر رمضان المبارك ، باعتبار أنَّ التقوى هي جواز دخول الجنّة وزاد الآخرة.

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 4173 ، الحديث 22179.
(2) بحار الانوار 2 : 29 و 180 ، 7 : 285.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 4173 ، الحديث 22174.

أمثال القرآن _ 237 _
المثل الثالث والعشرون : أعمال الكفّار
  يقول القرآن في الآية 18 من سورة إبراهيم : ( مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم أعْمَالُهُمْ كَرَمَاد اشتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْم عَاصِف لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيء ذَلك هُوَ الضَّلال البَعِيْدُ ).

تصوير البحث
  تناولت الآية بيان أعمال الكفار الصالحة ، وتلمّح بأنَّ أعمالهم بسبب كفرهم غير مقبولة.
  من هنا كان احتمال حساب أعمالهم الصالحة بمعزل عن كفرهم أمراً مرفوضاً.

ارتباط آية المثل بسابقاتها
  الآيات السابقة تناولت دراسة من اصطلحت عليه ( جَبَّار عَنِيْد ) وهو الشقي الذي يأس من ألطاف الله ورحمته ، وأنَّ جهنم ستتطلع إلى أمثال هذا ، وسيسقى من ماء متعفن ، نتنة رائحته.
  وهنا يطرح سؤال وهو : هل سيُتغاضى عن أعمال الكفار الصالحة ؟
  المتعارف أنَّ الأعمال الصالحة قد تصدر من هؤلاء الاشقياء ، فيقال عن فرعون مثلا : كان له مطبخ واسع يغذي به بيوت المدينة ، وكان يستفيد الجميع من هذا المطبخ ومن طعامه ، من الفقراء والمرضى والحوامل وغيرهم.
  قد تنجز أعمال خيرية مهمة على يد حكام ظلمة ، وهناك الكثير من المساجد التاريخية

أمثال القرآن _ 238 _
  الفخمة التي بنيت على يد هؤلاء الظلمة.
  إن العتبات المقدسة للائمة المعصومين وغيرهم ( عليه السلام ) كثيراً ما بُنيت أو عمّرت ووسعت على يد الظلمة ، وكمثال على ذلك المسجد الحرام ومسجد النبيّ حيث وسِّعا من قبل زمرة آل سعود الظالمة ، كما أن كثيراً من المستشفيات المهمة والجامعات الضخمة والمستوصفات والمدارس العلمية وما شابه ذلك بنيت على يد أمثال هؤلاء الظلمة وبأمر منهم ، لكن يا ترى هل أنَّ هذه الأعمال الصالحة والعظيمة تفقد الأثر ولا تفيد صاحبها شيئاً في الآخرة ؟ ألا تتغمّد هؤلاء الطاف الله ورحمته بسبب هذه الأعمال الكبيرة ؟
  إنَّ آية المثل التي سنقبل على شرحها وتفسيرها في الاسطر المقبلة هي بصدد الاجابة على هذا السؤال المقدر الذي قد يخطر في ذهن القارئ للآيات التي سبقتها.
  الشرح والتفسير
  ( مَثَلُ الّذِيْنَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم ) إنَّ أمثال القرآن على قسمين : قسم يُضرب على أعمال الإنسان ، وآية المثل هذه من هذا القسم حيث تناولت دراسة أعمال الكفار.
  القسم الآخر هو الامثال التي تضرب على الشخصيات ذاتها بأن يشبّه الاشخاص أنفسهم بشيء ما مثل ما مرّ في الآية الشريفة 261 من سورة البقرة ، حيث شبّهت المنفق بحبة الحنطة التي تنتج سبعمائة حبّة.
  على أي حال ، الآية الشريفة تناولت اولئك الذين كفروا بربهم ، لكن الملفت في الآية هنا هو أنَّها استخدمت مفردة ( رب ) بدل مفردة ( الله ) ، وكأنها تريد الاشارة إلى الآثار الربوبية في كل مكان ورحمة الله وبركاته على جميع أعضاء جسم الإنسان وفي جميع اللحظات ، فهي تريد القول للإنسان : إنَّك تفيد من نعم الله ـ التي يكفي واحدة منها لشكر الله ـ كل يوم وعلى طول العمر ، رغم ذلك تكفر وتجحد به ، مع أنَّ على الإنسان أن يكون شاكراً لله على نعمه دائماً.
  ( أعْمَالُهُمْ كَرَمَاد ) الآية شبَّهت أعمال الكفار الصالحة بالرماد ، ولم تتطرق الآية إلى أعمال الكفار السيئة ، وذلك لأنَّها دون القيمة التي تستدعي التطرّق لها وبحثها.

أمثال القرآن _ 239 _
فوائد الرماد
  نشير هنا إلى بعض من فوائد الرماد وآثاره :
  1 ـ إذا خلط الرماد بالتربة سينتج سماداً مفيداً جداً ، ولهذا نرى البعض يحرق ما تبقى من المزارع بعد الحصاد بغية تبديله إلى سماد جيد.
  2 ـ إنَّ الرماد ينظف الاشياء الوسخة ويذهب بصدئها ويصقلها ، وفي الازمنة السابقة كان الناس يصقلون بعض الصفائح الفلزية بالرماد لكي يصنعوا منها مرآة شفافة.
  3 ـ الفائدة الاخرى للرماد أنّه يحافظ على النار وحرارته ، بحيث إذا ألقينا التراب على النار أنطفأت النار ، لكن إذا ألقينا رماداً عليها ضلّت النار تحافظ على نفسها وما انطفأت إلاّ في زمن متأخر.
  ( اشْتَدّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْم عَاصِف لاَ يَقْدِرُونَ على شيء مِمّا كَسَبُوا ) من الواضح أنَّ اليوم اذا كان عاصفاً أخذ الريح معه كل ما كان خفيفاً ودقيقاً ، وكلما كان ذلك الشيء أدق كلّما صعب جمعه ، أما اذا كان رماداً فاستحال الجمع ، وذلك لصغر الأجزاء المكونة للرماد وتلوّنها بلون البيئة التي تسقط فيه.
  وإذا اجتمع اهالي المدينة كلهم ـ لا صاحب الرماد فحسب ـ ما استطاعوا أن يجمعوا شيئاً مما فقدوه من الرماد ولو بمقدار مثقال.
  إنّ عاصفة الكفر والجحود تعمل بأعمال الكافر كما تعمل العاصفة الطبيعية بالرماد ، بحيث لا يبقى شيء من ذلك العمل للكافر يتمتع به.
  ( ذَلك هُوَ الضّلاَلُ البَعِيْدُ ) إنَّ انحراف هؤلاء عن الصراط المستقيم كالانحراف والضلال البعيد عن الطريق الذي يصعب جبرانه والرجوع عنه نحو الطريق الصواب.

خطابات الآية
  1 ـ الايمان شرط صحة الأعمال
  رصيد الأعمال الحسنة والصالحة هو الايمان ، فاذا لم يقترن العمل بالايمان فانه سيفقد قيمته.
  ذكر الفقهاء : أنّ الايمان هو شرط قبول العبادة ، بل شرط صحتها ، أي أنَّ الصلاة والصوم

أمثال القرآن _ 240 _
  والحج والانفاق وإعانة المحتاجين وغير ذلك من الاعمال تكون فاقدة للقيمة إذا لم تتزامن مع الإيمان.
  ولقد طرح نفس البحث في قضية ( الولاية ) فاعتقد البعض أنَّ الولاية شرط قبول الأعمال ، أي رغم أنَّ الأعمال ـ من وجهة نظر شيعية ـ صحيحة إلاّ أنَّ الله لا يقبلها إذا لم تقترن بالاعتقاد بالولاية .
  وقد يعتقد البعض أنَّها شرط القبول والصحة أي لا يسقط التكليف من ذمة من لا يعتقد بها وإن جاء به .
  في هذا المجال وردت روايات كثيرة في كتب الشيعة نأتي بنموذج واحد منها : يقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حقُّ في ثوابه أبداً ) (1).
  إنّ هذه الآية طرحت ذات البحث في أصل الايمان بالله ولّمحت بأنّ الذي لا ايمان له لا ثواب له رغم اتيانه بأفضل الأعمال ، وقد طرح هذا البحث في آيات عديدة أُخرى نشير إلى بعض منها :
  الف ـ لقد جاء في الآية 264 من سورة البقرة التي مرّ الحديث عنها ما يلي : ( ... كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيء مِمّا كَسَبُوا واللهُ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِينَ ).
  باء ـ جاء في الآية 39 من سورة النور : ( وَالّذِيْنَ كَفَرُوا أعْمَالُهُم كَسَرَاب بَقِيْعَة يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتّى إذا جآءَه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَه فَوَفّاهُ حِسَابَهُ واللهُ سَرِيْعُ الحِسَابِ ).
  جيم ـ ويقول الله في الآية 23 من سورة الفرقان : ( وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِن عَمَل فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُورَاً ) وهذه الآية كغيرها لم تمنح أي قيمة

--------------------
(1) وسائل الشيعة 1 : 91.

أمثال القرآن _ 241 _
  للعمل إذا لم ينشأ عن إيمان.
  دال ـ جاء في الآية 54 من سورة التوبة : ( وَمَا مَنَعَهُم أنْ تُقْبَلَ نَفَقَاتُهُمْ إلاّ أنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ ورَسُولِهِ ولا يأتُونَ الصَّلاةَ إلاّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ ).
  إنَّ هذه الآية كذلك تعتبر الإيمان شرط قبول العمل.
  وعليه ، فإنّ الآية المذكورة وآيات وروايات كثيرة اخرى عدّت الإيمان شرطاً لصحة العمل وكماله ، كما أنَّ بعض الآيات والروايات اعتبرت الولاية بنفس المستوى ومنحت الاعتقاد بها نفس القيمة التي منحتها هذه الآيات لمبدأ الايمان بالله.
  لماذا الإيمان والولاية شرطان لصحة العمل ؟
  بعبارة أُخرى : لماذا لم يفتح الله لاعمال الكفار الصالحة أو الطالحة حساباً مستقلا ، بأن يحاسب الكافر على أعماله الطالحة بمعزل عن حسابه لأعماله الصالحة ؟
  الجواب : لقد جاء جواب هذا السؤال في الآيات والروايات التي عدّت الولاية والإيمان شرطين لصحة الأعمال.
  جاء في رواية تقدمت أنَّ الإمام ( عليه السلام ) يقول : ( ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ) ، أي أنَّ للأعمال الصالحة شروطاً ومقدمات وملابسات يحدّدها الإمام المعصوم نفسه وإذا لم تتم بتنسيق معه فانها قد تكون ناشئة عن هوى وهوس وتصبّ في غير مجالها.
  إنّ غير المؤمنين عندما يؤدون أعمالا صالحة مثل المرضى الذين يداوون أنفسهم بعقاقير خاصة من دون مراجعة طبيب ، ومعالجة من هذا القبيل قد تلحق بالإنسان أضراراً كثيرة تصل إلى الموت أحياناً.
  إنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والأئمّة ( عليهم السلام ) هم أطباء روحيون ، ولأجل أن يداوي إنسان أوجاعه ، عليه بالعمل حسب وصفتهم لا وصفة غيرهم.
  من هنا يقسم الإمام علي ( عليه السلام ) ـ في كلام جميل يخاطب به كميل بن زياد ـ الناس إلى ثلاثة أصناف :

أمثال القرآن _ 242 _
  1 ـ العلماء الربانيون الذين وجدوا وسلكوا طريق الهداية والصراط المستقيم.
  2 ـ المتعلّمون والذين هم في طريقهم إلى المعرفة ويفيدون من العلماء والاساتذة لبلوغ طريق الهداية والنجاة.
  إنّ مثل هذين الاثنين كمثل الشمس والقمر حيث احدهما يعدّ مصدراً ومنبعاً للنور والإضاءة ، والآخر رغم أنَّه ليس مصدراً للنور إلاّ أنه يلهم من نور الآخرين ليتنوّر ويكون مصباح هداية في الليالي الظلمانية.
  3 ـ الصنف الثالث هو أولئك الذين لا هم أساتذة وعلماء ولا هم متعلمون ولا هم في طريقهم إلى العلم ، فلا هم مصدر للنور ومنبع له ولا هم متنورون بنور الاخرين ، بل انّهم اناس غير هادفين ولا يعتمدون شيئاً في حياتهم إلاّ الخواء ، وهم مثل البعوضة التي يهددها أبسط نسيم ويذهب بها إلى أي جهة شاء.
  إنَّ الذين ينتشلون أنفسهم من خط المعصومين ( عليهم السلام ) ويرفضون الولاية ، رغم ذلك يؤدون أعمالا صالحة ، هم من الصنف الثالث ، وحياتهم كلها اضطراب واعوجاج ، وشأنهم شأن الشجرة التي ترقص مع كل ريح.
  وعلى هذا ، فإنَّ فلسفة اشتراط الايمان والولاية هو هداية الأعمال باتجاه الصراط المستقيم ، وشأن ذلك شأن المريض الذي يتداوى تحت رعاية الطبيب المختص.
  2 ـ الدوافع المعنوية لغير المؤمنين
  ثاني خطاب للآية هو أنّ غير المؤمنين لا يملكون الدوافع المعنوية ، بل دوافعهم كثيراً ما تكون مادية ، كنموذج لذلك هو الخدمات الإنسانية التي يقوم بها ثلة من البشر ، في اطار المنظمات الإنسانية الدولية ، فهي من جهة خدمات إنسانية اخلاقية وتصل المحتاجين إليها من البشر ، لكنها في نفس الوقت كثيراً ما تكون غطاءً لممارسة التجسس لصالح الدول الكبرى.
  قد يكون الهدف من هذه الاعانات هو الحفاظ على حياة هؤلاء المستضعفين لاجل استغلالهم أكثر فأكثر ، كما كان يفعل النخاسون وأصحاب العبيد حيث كانوا يطعمون عبيدهم المقدار الذي يحافظ على حياتهم وهو مقدار لا يشبعهم ، ولذلك نرى أنَّ بعض هذه الخدمات

أمثال القرآن _ 243 _
  الإنسانية تستهدف اغراضاً مادية غير إنسانية.
  وقد أشارت الآية 54 من سورة التوبة ـ التى مضى شرحها ـ إلى هذا المطلب ، حيث قالت : ( وَمَا مَنَعَهُم أنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُم إلاّ أنّهُمْ كَفَرُوا باللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يُأتُونَ الصَّلاَةَ إلاّ وَهُم كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إلاّ وَهُم كَارِهُونَ ).
  من هنا خاطب الإمام علي ( عليه السلام ) مالك الاشتر في عهده له طالباً منه أن يختار لصلاته أفضل أوقاته ، (1) وذلك لأنك اذا أحكمت علاقتك بخالقك فالله سيحكم علاقتك بباقي المخلوقات.
  على أساس الآية الكريمة ، أنّ انفاق المنافقين وغير المؤمنين وإعاناتهم المادية لم تنشأ عن نية خالصة بل نشأت عن كراهة وعدم رغبة.
  لا قيمة لانفاقهم ولو بذلوا أفضل أموالهم وأكثرها ، وذلك لعدم ايمانهم بالله وبالولاية ، كما أنَّ عملهم لم يكن عن صدق نية.
  على سبيل المثال إذا أراد المؤمن بناء مدرسة اختار منطقة محرومة لرفع الحاجة عن تلك المنطقة كما أنّه سوف لا يبخل في احكام بناء المدرسة وصرف المبالغ في هذا السبيل ، أما الإنسان غير المؤمن أو المنافق بما أنَّ هدفه الرياء والتظاهر لذلك يختار مكاناً ذا طلعة وفي مرأى من الناس وفي منطقة قد تكون مستغنية عن المدرسة ، ولا يفكر في إحكام البناء ، وذلك لأنّ جمال البناء يحقق اهدافه.
  إنَّ أعمال غير المؤمنين غالباً ما تكون عن هوى وهوس ، ولاجل كسب الشهرة والجاه والمورد ، ولا علاقة لهم بالنية الخالصة.
  اضافة إلى هذا ، نحن نعتقد أنَّ غير المؤمنين لا يمكنهم التحلّي بالاخلاق الحسنة.

الاحباط في القرآن
  كما أنَّ الايمان والولاية شرطان في البداية ، ولا قيمة لعمل بدونهما ، كذلك ادامة واستمراراً ، فالمفروض أن يستمر هذان الشرطان حتى نهاية العمر والانتقال من هذا العالم إلى عالم الآخرة.

--------------------
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 53.

أمثال القرآن _ 244 _
  وعلى هذا ، لو أنّ شخصاً جاء بجميع الاعمال الحسنة ، لكنه في اللحظات الأخيرة من عمره رحل خلو الايمان ، فإنَّ أعماله التي انجزها في الدنيا سوف لا تفيده شيئاً في الاخرة أبداً.
  هذه المسألة من مصاديق ( الاحباط ) الذي تعرّض له القرآن بشكل واسع.
  إنَّ ست عشر آية أشارت إلى قضية الاحباط في العمل ، نتعرض لاثنين منها.
  1 ـ جاء في الآية 88 من سورة الأنعام ما يلي : ( وَلَو أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ) تعدّ هذه الآية الشرك أحد عوامل إحباط الأعمال الحسنة.
  2 ـ وجاء في الآية 65 من سورة الزمر : ( وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلى الّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ ).
  رغم أنَّ الآية تخاطب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، لكن من الواضح أنَّه هو مركز التوحيد والحنيفية ولا يتوقع منه أن يكون مشركاً يوماً ، لذلك نقول : إنّ الآية تحذير للآخرين لا له.

الحبط في عالم الطبيعة
  هل من العدالة أن تحبط الأعمال الكثيرة بذنب ما؟ بعبارة اخرى : هل الأمر يتفق مع قوانين الطبيعة ؟
  الجواب : أنَّ الاحباط مشهود في عالم الطبيعة والتكوين وموجود كذلك في عالم التشريع والقوانين الدينية ، كما أنَّه موجود في أعمالنا الروتينية.
  قد يعمل المزارع ليل نهار ويبذل قصارى جهده للحفاظ على البستان الكبير والمليء بالثمار المتنوعة ، إلاّ أنَّه قد يوقد النار في جانب منه ويغفل لفترة ليرى أنَّ النار سرت إلى جميع البستان وأكلت كل جهوده التي بذلها لانضاج ثمار هذا البستان.
  وقد يقوم الإنسان السليم خلال سنوات من العمر بكل ما تستدعيه اصول الصحة والرعاية الصحية ، لكنه لأسباب واخرى يتعاطى المخدرات ليصبح بعد عدة أيام إنساناً سقيماً لا حول له ولا قوة ولا صبر ولا صحة ولا طاقة ولا بهجة.
  وعلى هذا ، فانَّ النار احبطت ما زرع المزارع وما أنتج ، والمخدرات أحبطت سلامة الإنسان ودمرتها.
  ويمكن الاتيان بمثال ثالث وهو : بناء سدّ ضخم يستدعي استخدام طاقة عمال ومهندسين لمدة سنوات متوالية ، وبعد ملئه بالماء واستخدامه في الاغراض الخاصة ، يأتي سيل عظيم يغفل

أمثال القرآن _ 245 _
  المشرفون عليه عن فتح المنافذ والبوابات المخصصة لتقليل وطأة ضغط الماء على السدّ ، الأمر الذي يؤدي إلى كسر السدّ وإذهاب جهود سنوات من العمل سدى.
  و على هذا ، فمسألة الحبط لا تختص بالقضايا الدينية والعقائدية ، بل إنَّها جارية في قضايا التكوين والممارسات اليومية والعادية للإنسان ، ولا يتنافى ذلك مع العدالة الإلهية.
  علماً أنَّ المسبب الأساسي لهذا الاحباط هو الإنسان نفسه ، فهو نفسه المسبب في اندلاع الحريق في البستان وتبدد طاقات جسم الإنسان المتعاطي للمخدرات وانكسار السد وتهديمه.
  إذن ، على المسلمين أن لا يفكروا بالاتيان بالأعمال الحسنة فحسب ، بل عليهم التفكير في الحفاظ على هذه الأعمال.
  فإنَّ الحفاظ على الأعمال أصعب بمرات من الاتيان بها ، فقد يقدم الإنسان على إحراق بستان حياته بوسائل بسيطة جداً ، وكمثال على ذلك ما ورد في الآية 264 من سورة البقرة ، التي اعتبرت أنّ المنّ والأذى عوامل لاحباط الانفاق والصدقات.
  إذا تبنى شخص يتيماً وربّاه منذ صغره وأنفق عليه الكثير وأرسله إلى المدرسة الابتدائية ثم الاعدادية والجامعة ، ثم وفّر له فرصة الزواج وعمل على تزويجه ، وفي يوم من الأيام وفي مجلس عام أراد أن يتباهى هذا الشخص ويمنّ على اليتيم فقال له : ( لم تكن إلاّ طفلا يتيماً فأعلتك وأنفقت عليك وأرسلتك إلى المدرسة والجامعة وأنا الذي منحتك هذا الشأن و ... ) ، فوفقاً لمفاد آيات القرآن ، هذا الشخص أحبط أعماله التي أنجزها طوال حياته.
  وحسب المستفاد من بعض آيات القرآن ، انَّ المسلمين ما كان لهم الحقّ أن يسيئوا الادب للرسول ( صلى الله عليه وآله ) أو يرفعوا أصواتهم عليه ، وإلاّ فتحبط أعمالهم : ( يَا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُم فَوْقَ صَوْتِ النّبيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهْرِ بَعْضِكُم لِبَعْض أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُم وَأنْتُم لاَ تَشْعُرُونَ ) (1).
  كما أنَّه عدّ مرض الحسد النفسي من عوامل الاحباط ... في بعض الروايات.
  يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( إيّاكم والحسد فإنّه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) (2).
  في النهاية : انّ الايمان والولاية شرطان لصحة الأعمال ، وعدمهما يحبط العمل سواء كان في بداية العمر أو أثنائه.

--------------------
(1) الحجرات : 2.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 850 ، الحديث 1394 ، كما جاء نفس المضمون في الحديث 3938.

أمثال القرآن _ 247 _
المثل الرابع والعشرون والخامس والعشرون : الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة
  جاء في الآيات 24 و 25 و 26 من سورة إبراهيم ما يلي : ( أَلَم تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرة طَيّبة أصْلُها ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّماءِ تُؤْتِي أكُلَهَا كُلّ حِيْن بِإذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمثَال للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَة خَبِيْثَة كَشَجَرَة خَبِيْثَة اجتُثَّتْ مِنْ فَوقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار ).

تصوير البحث
  هذه الآيات من أجمل الآيات ومن أبلغ الأمثال القرآنية.
  إنّ في الآيات الثلاث تمثيلا جميلا وبليغاً للكلمة الطيبة من جانب ، وللكلمة الخبيثة من جانب آخر ، وفيها يعدّ الله الفوائد والآثار المترتبة على كل واحدة منهما.

ارتباط آيات المثل بسابقاتها
  إنَّ ذكر هذين المثلين لا يخلو من ارتباط بما ورد في الآيات السابقة من نسبة الكلمة الطيبة إلى الله والخبيثة إلى الشيطان ، كما أنّها قد تضمّنت مضامين ومفاهيم رفيعة.
  وهنا نص الآية 22 من سورة إبراهيم : ( وَقَالَ الشّيْطَانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاّ أنْ دَعَوْتُكُم فاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُوْنِي وَلُوْمُوا أنْفُسَكُمْ مَا أنَا بِمصْرِخِكُمْ وَمَا أنْتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إنّي كَفَرتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبلُ إنَّ الظَالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ ).

أمثال القرآن _ 248 _
  ينبغي الالتفات إلى أنّه نقل كلامان في الآية ، أحدهما لله ، وهو وعده الحقّ الذي أوفى به ، وهو مصداق للكلمة الطيبة.
  والثاني هو للشيطان الذي هو وعد باطل ولم يفِ به الشيطان ، كما أنّه مصداق للكلمة الخبيثة.
  حسب ماورد في الآية الشريفة ، فإنَّ استجابة دعوة الشيطان اختيارية غير جبرية ، وكل من تابع الشيطان فبارادته ، لذلك يلوم الشيطان الإنسان يوم القيامة ، لأنّ الإنسان يعلم بطبيعة الشيطان الخبيثة رغم ذلك يلتحق بركبه.
  ألا يعلم الإنسان بمعاملة الشيطان لابيه آدم ( عليه السلام ) ؟ إنّ مكره هو الذي أدى به إلى خروجه وانقطاع نسل الإنسان من الجنّة بالكامل (1).
  ألم يسمع الإنسان بقسم الشيطان باتيان الإنسان من بين يديه ومن خلفه لاجل إغوائه وحرفه عن الصراط المستقيم ؟ (2) إذن لماذا الإنسان ، رغم علمه الوافر ، يغرّه الشيطان بوعوده الباطلة والكاذبة ويترك كلام الله الصادق ؟!
  الشرح والتفسير
  ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجرَة ).
  إنَّ هذه الشجرة التي ضرب الله بها مثلا ذات خمس خصائص :
  1 ـ ( طَيِّبَةً ) أول خصائصها أنها طيّبة أي طاهرة وذات رائحة مطلوبة.
  إنَّ بعض الاشجار يستفاد من جميع أجزائها من الاوراق والاغصان والثمار والجذور وأصماغها ، كما أنّ منظرها جميل وعطرها مريح ، إلاّ أنّ بعض الاشجار ذات منظر قبيح ورائحة كريهة وجذور نتنة وثمارها مُرّة.
  إنَّ الشجرة التي ضرب الله بها مثلا هي شجرة طاهرة وجميلة وبالجملة طيبة.
  2 ـ ( أصْلُهَا ثَابِتٌ ) الخاصية الاخرى لهذه الشجرة أن جذورها ثابتة ومحكمة في الأرض.
  من مظاهر قدرة الله تعالى أنه جعل تناسباً بين غصون الشجرة وجذورها فكلما كانت

--------------------
(1) مضمون الآية 36 من سورة البقرة.
(2) كما هو مضمون الآيتين 16 و 17 من سورة الاعراف.

أمثال القرآن _ 249 _
  الغصون أعظم وأكثر ، كانت الجذور عظيمة وكثيرة وعميقة بتلك النسبة التي للغصون ، وهي تحفظ الشجرة وغصونها من العواصف والفيضانات كما يفعل الحبل بما شدّ به.
  3 ـ ( فَرْعُهَا فِي السَّماءِ ) الخاصية الاخرى أنّ نموها صعودي وعمودي نحو السماء.
  مما لا شك فيه أنّ دور الجذور هو تغذية الغصون والاوراق ، لكن ما دور الغصون المرتفعة جداً والمتجهة نحو السماء ؟
  للغصون المرتفعة فوائد وآثار مختلفة نشير إلى بعض منها :
  الف ـ الغصون المرتفعة تتنفس الهواء بشكل أفضل من غيرها من الغصون الاخرى.
  المعروف هو أنَّ أوراق الاشجار تتنفس ، والعجيب هنا هو أن مردود هذا التنفّس عكس مردود تنفس الإنسان ، فالأشجار تستنشق ثاني اوكسيد الكاربون وتطرح الاوكسيجين ، بينما الإنسان يستنشق الاوكسيجين ويطرح ثاني اوكسيد الكاربون.
  إنَّ فلسفة المفارقة هذه هي أنَّ الأشجار لو كانت تتنفس نفس الغازات التي يتنفسها ويحتاجها الإنسان ، لأصبحت الأرض بعد فترة وجيزة من الزمن غير صالحة للعيش ، لأنّ الاوكسيجين سينفد تدريجياً ، ولا يبقى في الجو غير ثاني اوكسيد الكاربون ، وهو غاز قاتل بالنسبة للإنسان.
  لذلك كان علينا أن نزرع في المدن وبخاصة المدن الكبرى أشجاراً لتصفية الهواء من الغازات السامة الناشئة عن استهلاك الوقود في السيارات والمعامل ، اضافة إلى أنَّ الأشجار توفر لنا غاز الأوكسيجين.
  من فوائد الريح أنه يبدل الهواء الملوّث الخالي من الاوكسيجين بهواء نقي فيه مقدار كاف من الاوكسيجين.
  إنّ رحمة الله تأتي بالهواء النقي وتذهب بهواء المدن الملوّث.
  باء ـ تستفيد الاغصان المرتفعة من نور الشمس بشكل أفضل.
  إنَّ هذا النور يؤثر كثيراً على عملية جذب ثاني اوكسيد الكاربون وطرح الاوكسيجين ، ولذلك كانت الحدائق في النهار ذات جو وهواء أفضل من هوائها الليلي الخانق.
  جيم ـ انَّ الاغصان المرتفعة في مأمن من الغبار والتلوّثات التي يوجدها الإنسان على

أمثال القرآن _ 250 _
  سطح الأرض ، وقلما تطال هذه التلوثات الاغصان المرتفعة كثيراً.

نقطة مهمة في مجال المعرفة
  من دروس المعرفة الإلهيّة التي ننتقيها هنا هي أنَّ الأرض تجذب المياه التي تعلو سطحها وتمتصها إلى أدنى مستوى ممكن أي نهاية القشرة ، وهذا قانون عام ، لكن المدهش هنا هو أنَّ الأشجار تجتذب الماء الذي في حواليها وتحول دون نفوذ المياه إلى الطبقات السفلى من قشرة الأرض ليتحول إلى مياه جوفية.
  فالاشجار بايصالها الماء إلى الغصون والاوراق مهما علت تعمل عكس تيار جاذبية الأرض ، وعملها يشبه مضخة الماء الضخمة التي قد تمد غابة كثيفة باطنان كثيرة من الماء لكن من دون صوت وعكس اتجاه الجاذبية الأرضية.
  وهل غير الله القادر يستطيع أن يفعل هكذا ؟!
  في النهاية نقول : إنّ ثالث خاصية للشجرة الطيبة هو احتواؤها على أغصان مرتفعة جداً تفيد من الهواء النقي المرتفع عن سطح الأرض كما تفيد من نور الشمس بشكل أفضل ، وهي أخيراً في مأمن من تلوّثات الهواء في الطبقات الدنيا من جو الأرض.
  4 ـ ( بإذْنِ رَبِّهَا ) الخاصية الاخيرة لهذه الشجرة هي أنَّها رغم كون ثمارها تنضج في جميع الفصول ، إلاّ أنَّها تنمو وتعمل حسب قوانين الطبيعة ولا تشذّ عنها ، وهي مطيعة لهذه السنن التي جعلها الله تعالى.
  إن هذا الأمر لم يختص بأمثال هذه الشجرة ، بل جميع ما في الطبيعة خاضع وخاشع له : ( وَلَهُ أسْلَمَ من فِي السّمَاوَاتِ والأرْضِ ) (1).
  ( وَمَثَلُ كَلِمَة خَبِيْثَة كَشَجَرَة خَبِيْثَة ) إنّ لهذه الشجرة الخبيثة خاصيتين :
  1 ـ ( اجتُثَّتْ مِنْ فَوقِ الأرْضِ ) أي أنَّها عكس الطيبة ذات الجذور الثابتة والمحكمة في الأرض ، فجذور الخبيثة مقتلعة من الأرض ولا تستطيع هذه الجذور الحفاظ على الشجرة من الطوفان والسيول والاعصار ، فهي مجتثة الجذور.
  2 ـ ( مَا لَهَا مِنْ قَرَار ) أي لاثبات لها ويطرأ عليها التزلزل لأدنى ريح عاصف.

--------------------
(1) آل عمران : 83.

أمثال القرآن _ 251 _
  إنّ شجرة تخلو من الثمار والعطر ولا يمكنها ايجاد الظل المناسب لا تفيد إلاّ للايقاد.

ماهي ( الكلمة الطيبة ) ؟
  هناك بحث بين المفسرين في تفسير معنى ( الكلمة الطيبة ) ، نشير إلى بعض النظريات في هذا المجال :
  1 ـ يعتقد البعض أنَّ المراد من ( الكلمة الطيبة ) هي كلمة ( لاَ إله إلاَّ اللّه ) (1) فإنَّ هذه الكلمة كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وهي في الحقيقة شجرة سعادة الإنسان.
  إنّ هذه الشجرة التي هي حقيقة التوحيد ، تحيي قلب الإنسان وتكسر كل ما فيه من أصنام ، بحيث تجعله لا يسجد أمام أصنام المال والرشوة والربا والسرقة والاعتداء.
  ولا يكذب الآف الكذبات لأجل الحفاظ على مقامه ، ولا يرتكب الجرائم لأجل الحفاظ على مال الدنيا ، وذلك لأنّ أعمالا كهذه تعدّ شركاً ولذلك يُدعى المرائي في الاخرة منافقاً أو فاجراً (2).
  إن التوحيد إذا حل وحيى في قلب الإنسان قضى على الهوى والهوس الذي هو السبب الرئيسي لجميع الانحرافات ودمّره.
  من هنا جاءت رواية جميلة في هذا المجال : ( أبغض إله عُبد على وجه الأرض الهوى ) (3).
  إن شجرة التوحيد الطيبة إذا زرعت في قلب الإنسان طردت كل ما حولها من أصنام.
  2 ـ يعتقد بعض آخر من المفسرين أنَّ المراد من الكلمة الطيبة هو ( المؤمن ) ، فقد اطلق على الموجودات ( كلمة الله ) في القرآن المجيد ، والمؤمن كلام إلهي كذلك ، الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض كلها كلمات الله ، فهي في كتاب الله التكويني من كلمات هذا الكتاب ، كما أنَّ هذا المصطلح استخدم في حق السيد المسيح ( عليه السلام ) (4).
  إنَّ شجرة وجود المؤمن هي من قبيل الشجرة الطيبة التي تثمر في جميع الفصول ، وثمارها

--------------------
(1) مجمع البيان 6 :312.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 1409 ، الحديث 6784.
(3) المحجة البيضاء 8 :44.
(4) آل عمران : 39.

أمثال القرآن _ 252 _
  السخاء والشجاعة والجود والرحمة والحب والاحسان والايمان وما شابه ذلك (1).
  3 ـ وقد فسّر البعض الكلمة الطيبة بالأئمّة المعصومين ( عليهم السلام ).
  إنَّ هؤلاء بمثابة الشجرة الطيبة التي ملأت غصونها بالثمار ، وكل من طالع تاريخ حياتهم وسيرتهم أو اقترب لمزارهم وحرمهم أو أصغى أو طالع كلماتهم وخطبهم أو مدّ يد العون إليهم فسوف لا يبقى خلو اليدين (2).
  4 ـ إنَّ ( العلماء ) هو تفسير آخر للكلمة الطيبة ، وذلك لأنّ الناس يفيد من ثمار وجودهم.
  5 ـ ( الفكر النزيه ) هو خامس تفسير للكلمة الطيبة ، فإنَّ الافكار النزيهة والطاهرة هي بمثابة الشجرة الطيبة التي ثبتت على طول التاريخ.
  6 ـ ( الحديث الحسن ) هو تفسير سادس ذكر للكلمة الطيبة ، فإنَّ الحديث الحسن قد يخلد ويثبت ويفيد منه المجتمع (3).
  وهناك رواية معروفة عن النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) مدوّنة في كتاب ( إرشاد الديلمي ) حيث يقول فيها : ( ما أهدى المرء المسلم عن أخيه المسلم هديّة أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى ويردّه عن ردىً ) (4).
  لقد جاء في قصة النبيّ موسى ( عليه السلام ) والخضر ( عليه السلام ) انهما عندما بلغا مدينة انطاكية واجهوا جفاءً من قبل ساكني المدينة ، خرجوا من المدينة ووجدوا هناك حائطاً خرباً ، أمر الخضر ببنائه ، فكان أمر الخضر لموسى مزعجاً فقال له الخضر آنذاك : إنَّ تحت الحائط كنزاً ليتيمين كان ابوهما امرئ جيداً ويؤمل أن يكونا كذلك.
  لقد ورد في بعض الروايات أنَّ الكنز هناك لم يكن ذهباً وفضةً ، بل مجموعة من الحكم التي تركها أبوهما لهما ، (5) كما هو الحال بالنسبة إلى الكلام الثمين لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فهو أغلى من أي

--------------------
(1) انظر التبيان 6 :292.
(2) انظر تفسير الأمثل 7 : 440 ـ 446.
(3) وقد ذكرت تفاسير اخرى للكلمة الطيبة راجع الميزان وتفسير الامثل ، ذيل الآية.
(4) ميزان الحكمة ، الباب 4011 ، الحديث 21208.
(5) مجمع البيان ، 6 : 488.

أمثال القرآن _ 253 _
  كنز وهو يصلح لجميع العصور والأجيال.

كلمة طيّبة من الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام )
  إنّ جنادة بن أبي سفيان من أصحاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) المخلصين ، طلب من الإمام أن يعظه في الساعات الاخيرة من عمره المبارك ، ورغم أنّ الإمام كان في وضع صحي غير مناسب ، إلاّ أنه استطاع أن يزوّد هذا الإنسان المخلص ببعض النصائح الجميلة وذات المغزى العميق ، منها الجمل التالية : ( إن أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فأخرج عن ذلِّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّوجلّ ) (1).
  نعم ، كلام حق ، فإنَّ العزة والاعتبار والسلطة في طاعة الله والعبودية له ( فإنَّ العِزَّة للهِ جَمِيْعاً ) (2).

--------------------
(1) مسند الإمام الحسن المجتبى( عليه السلام ) : 556.
(2) النساء : 139.

أمثال القرآن _ 255 _
المثل السادس والعشرون : لله المثل الأعلى
  يقول الله تعالى في الآية الكريمة 60 من سورة النحل : ( لِلّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأعْلَى وَهُو العَزِيْزُ الحَكِيْم ).

تصوير البحث
  كما ذكرنا سابقاً ، فإنّ الهدف من أمثال القرآن هو بيان المسائل العقلية المعقدة في صيغة مسائل حسية قابلة للاستيعاب من قبل الجميع ، وذلك لأنَّ القرآن للجميع ، فكما أنّه يخاطب النوابغ من العلماء ، يخاطب ابسط الناس والاميين منهم كذلك.
  هناك بحث بين المفسّرين في أنَّ هذه الآية تُعدُّ من أمثال القرآن أم لا ؟
  سبب الاختلاف هو وجود تفسرين للآية ، على أساس أحدهما تكون الآية مثلا ، وعلى أساس الاخر تكون الآية ليست مثلا ، ولأجل اتضاح الأمر ، نأتي بالتفسيرين هنا :
  التفسير الأوّل طبقاً للتفسير الأوّل ، انّ مفردة المثل جاءت بمعنى الصفة ، أي أنَّ الذين لا يؤمنون بالقيامة يحملون صفات قبيحة وغير مطلوبة.
  والحقيقة كذلك ، لأنَّ الذين يظلمون ويرتشون ويكذبون ويقتلون و ... لابدّ أنهم لا يعتقدون بيوم القيامة ، وإلاّ ما ارتكبوا هذه الذنوب.
  يقول القرآن الكريم في الآية 4 من سورة المطففين : ( ألاَ يَظُنُ أُولَئِكَ أنَّهُم مَبْعُوثُونَ لِيَوْم عَظِيْم ).

أمثال القرآن _ 256 _
  وحسب ما يستشفُّ من الآية ، فإنَّ سبب تطفيف المطففين هو عدم اعتقادهم وايمانهم بيوم القيامة.
  نعم ، إنَّ غير المؤمنين بيوم القيامة يحملون صفات سيئة وقبيحة.
  من هنا كان على الإنسان أن يخطو جميع خطاه في ظلّ منهج يتحكّم بسلوكه ويضبطه ، وإلاّ فكثير هم الذين يقترفون الذنب وإن عظم لأجل كسب المال والمنافع ، مهما كانت تافهة وحقيرة.
  ( وللهِ المَثَلُ الأعْلَى ) لأنَّه قدير لا يمكن هزمه ، كما أنّه حكيم وذات منهج قويم.
  إنّ ذوي السلطة الظاهرية هم كثيراً ما يكونون غير حكماء ، ولا يفيدون من سلطتهم بشكل مطلوب.
  إنَّ للسلطة آفات كثيرة ، منها الغفلة عن البرمجة والنظام والحكمة ، لكن الله القادر ـ وله أرفع قدرة وسلطة ـ هو الحكيم المطلق.
  وعلى أساس هذا التفسير ، فالآية الشريفة لا تُعدُّ مثلا.
 التفسير الثاني طبقاً لهذا التفسير ، انَّ مفردة المثل حافظت هنا على معناها اللغوي.
  إنَّ الذين لا يؤمنون بيوم القيامة والمعاد لا في العمل ولا في العقيدة ، لهم مثل السوء كالامثال التي ذكرت لهم في القرآن المجيد.
  إنَّ المثل الذي ذكر في الآية 17 من سورة البقرة ، والذي كان في حق المنافقين ، هو من جملة الأمثال السيئة التي تُضرب لغير المؤمنين بالمعاد.
  يقول الله هنا : ( مَثَلُهُم كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لاَ يُبْصِرُونَ ) (1).
  ومن الأمثال التي جاءت في هذا المجال هو المثل المذكور في الآية 176 من سورة الاعراف ، حيث شبّه الله المشركين هناك بالكلب المريض الذي يلهث والذي لا يحترم الصديق ولا العدو.

--------------------
(1) لقد مرّ شرح وتفسير هذا المثل و ما بعده في أوائل الكتاب.

أمثال القرآن _ 257 _
  ( وَللهِ المَثَلُ الأعْلَى وَهُو العَزِيزُ الحَكِيْم ) أي أنَّ لله من الأمثال ما ليس لغيره ، فلله المثل الأعلى ، ويُعدُّ كل مثل في حقه ناقصاً مهما ارتفع شأنه ، وذلك لأن أمثلتنا من عالم الموجودات الممكنة ، وهي جميعاً ناقصة ومحدودة ، ولا يمكن تصوير اللامحدود بالمحدود.
  والآية التالية : ( فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأمْثَالَ ) تشير إلى هذا المطلب.
  رغم ذلك ، إذا أردنا بيان مثال لله تعالى فالآية 35 من سورة النور هي أنسب ما يمكن الاتيان به ، فإنَّ الله هناك شُبِّه بالنور ، وذلك لأنّه لا موجود أكثر فائدة وبركة ولطافة وسرعة من النور ، فإنَّ لله الامثال العليا والرفيعة.
  سؤال : قد يخطر في الذهن هذا السؤل : خلق الله كل شيء ، لكن مَن خلق الله ؟
  الجواب : نعم ، انَّ الله خلق كل شيء ، لكن لم يخلق أحدٌ الله ، وذلك لأنّ الله موجود أزلي وأبدي ، أي كان ويكون وسوف يكون.
  إنّه لم يُخلق أبداً لكي نبحث عن خالق له.
  لأجل اتضاح المطلب نسترعي انتباهكم إلى المثال التالي الذي فيه صياغة للامور المعقولة في قوالب محسوسة : إنّ الفحم الحجري الذي هو نفايا الغابات في العصور الغابرة معلول للطاقة الشمسية.
  وحتى النفط الذي هو الآن أكبر مصدر للطاقة في العالم معلول للطاقة الشمسية ، وذلك لأنَّه يقال : إنََّ النفط عبارة عن بقايا أو مستحاثات الحيوانات في العهود الماضية دُفنت لتتحول إلى هذه المادة بعد قرون.
  ومن الطبيعي أنَّ الحيوانات تتغذى من النباتات ، والاخيرة تفيد من نور الشمس ولو لم تكن الأخيرة لما كانت النباتات.
  إنَّ المحركات الضخمة التي تُنصب على الشلالات لأجل توليد الطاقة تستمد طاقتها من الشمس بالشكل التالي : الشمس تسطع على البحار ، فتتبخّر مياه البحار ، فتتبدل المياه إلى سحب ، لتنزل على الأرض تارة اخرى بشكل مطر وغيث مبارك ، وهذه الامطار تتبدل إلى سيول تحرك المحركات لتوّلد الطاقة الكهربائية.
  أما طاقة الشمس فذاتية ، أي لا تصلها من خارج الشمس ، بل في الشمس نفسها ما يمنحها الطاقة دون الحاجة إلى ما هو خارج عنها.
  وعليه ، رغم أنَّ الشمس مخلوقة إلاّ أنَّها لا تحتاج إلى من يولّد لها الطاقة.
  وهذا المثال يمكنه

أمثال القرآن _ 258 _
  أن يوضح أزلية الله وأبديته وأنه غني عن الخالق ومن يمنحه الوجود أو السلطة.
  في النتيجة : انَّ التفسير الثاني للآية الشريفة يجعل الآية من أمثال القرآن.

ارتباط آية المثل بسابقتها
  تحدثت الآيات التي سبقت هذه الآية ( أي الآيات 57 و 58 و 59 ) عن العادات والعقائد القبيحة لعرب الجاهلية التي منها وأد البنات.
  جاء في الآيتين 58 و 59 ما يلي : ( وإذَا بُشِّرَ أحَدُهُم بالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيْمٌ يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوْءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أيُمْسِكُهُ عَلَى هَوْنَ أمْ يَدُسُّهُ فِيِ التُّرابِ ألاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ).
  المستفاد من الآيتين هو أنَّ العرب كانوا يغتمون إذا رزقوا بنتاً ، وهذا أمر يجعل الجميع يتساءل عن سبب ذلك.

لماذا كان عرب الجاهلية يئدون بناتهم ؟
  إنَّ الدراسات كشفت عن وجود علتين لهذه الظاهرة :
  1 ـ كانوا يظنون أنَّ الذكور مولّدون للثروات والمال ، أما البنات فمستهلكات لهذه الثروة.
  ما كان للنساء آنذاك نشاط اقتصادي ، أما الذكور فكانوا ينتجون في قطاعات اقتصادية مختلفة أو في مجال السرقات وقطع الطريق وما شابه.
  لذلك كانوا يقولون : إن حقّ العيش خاص بالذكور ، أما الاُناث فلا حقّ لهنَّ في الحياة الدنيا.
  2 ـ التعصّب الأعمى ، يقال : إنًّ حرباً حصلت بين قبيلتين من العرب ، وقد أسرت القبيلة المنتصرة رجال ونساء وبنات القبيلة الخاسرة.
  وفي فترة الأسر تزوجت نساء القبيلة الخاسرة من رجال القبيلة المنتصرة.
  وبعد زمن انتهى أمر القبيلتين إلى الصلح وتبادل القبيلتان أسراهم ، لكن النساء اللاتي تزوجن رفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، الأمر الذي تبع ملامات وافرة ضد تلك النساء.
  ومن شخصيات القبيلة الخاسرة شخص أقسم أن يقتل البنت

أمثال القرآن _ 259 _
  إذا ولدت له لكي لا يرى بعد ذلك عاراً كهذا (1).
  سرى هذا المرض تدريجياً إلى الآخرين ، ليتخذ هذا الذنب العظيم عنواناً مقدساً مثل ( الدفاع عن العرض ) أو ( حفظ الغيرة والحميّة ) وما شابه ذلك.
  لقد أصبح متعارفاً في الوقت الراهن أن ترتكب الجرائم العظمى بعناوين مقدسة ، ومن جملة تلك العناوين هي عنوان ( حقوق البشر ) ، وبهذا الشعار يسلبون حقوق الكثير من الناس والشعوب.
  كما أنهم يأسرون الإنسان تحت عنوان ( الحرية ) أو يقترفون الذنوب والجرائم تحت عنوان ( التحضّر ) ، وهي جرائم لم يرتكبها الإنسان البدائي وغير المتحضّر.
  على أي حال ، إنّ عرب الجاهلية كانوا ملوّثين بهذا الذنب العظيم ، إلاّ أن مجيء الإسلام أغلق اضبارة هذه الجريمة العظمى ليتوج الإنسانية ويقدّم للنساء خدمة عظمى.
  من جانب آخر ، هؤلاء العرب الذين كانوا يعتبرون البنات موجودات مشؤومة ، كانوا يعتقدون أنّ ملائكة الله بنات ، وكانوا يعبدونها ليكسبوا رضا الله.
  ولذلك جاء في الآية 57 من سورة النحل ما يلي : ( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ).
  خاطب الله في الآية العرب وكلمهم بالمنطق الذي يعتقدون به ، وسألهم إذا كنتم تعدّون الملائكة بنات الله ، فلماذا تئدون البنت عندما يرزقكم الله إياها ؟!
  بالطبع ترسبات هذا الفكر الجاهلي لا زال موجوداً في أذهان البعض ، ولذلك عندما يريدون رسم الملائكة يرسمونها على شكل بنات.

البنت كشدّة الورد
  من المؤسف أنَّ هذا الفكر الجاهلي الخاطيء لا زال يشغل حيزاً في أدمغة بعض العوائل ولا يرون مساواة بين الذكر والانثى ، ويتأذون من سماع ولادة بنت لهم.
  هناك الكثير من الروايات في مصادرنا الإسلامية تبنّت الردّ على هذه الافكار ، نشير إلى

--------------------
(1) انظر تفسير الأمثل ، 8 : 197 ـ 204.

أمثال القرآن _ 260 _
  نموذجين منها ، نأمل أن نزيل بهما وبالروايات الاخرى هذه الافكار المشؤومة.
  1 ـ بُشِّر النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) بابنة فنظر إلى وجوه أصحابه فرأى الكراهة فيهم ، فقال : ( مالكم ؟ ريحانة أشمّها ورزقها على الله عزّوجلّ ) (1).
  كثير من الاولاد كانوا وبالا على والديهم وسبباً لنكستهم ، وكثيراً من البنات كنّ سبباً لرفعة رأس والديهن.
  إن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) كانت فخراً لابيها ، ونسل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كله يرجع إلى هذه البنت.
  2 ـ جاء في ذيل الآية الشريفة : ( وأمّا الغُلاَمُ فَكَانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِيْنَا أنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فأرَدْنَا أنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرَاً مِنْهُ زَكَوةً وَأقْرَبُ رُحْماً ) (2) إنَّ الله رزق هذين الأبوين بنتاً كانت كشدة الورد ، لا أنَّها لم تسبب نكسة للابوين فقط بل كانت سبباً لرفعة رأسهم ، وذلك لأنَّ سبعين نبيّاً كان من نسلها ، (3) فهل هذه البنت شؤم والذكر جيد وحسن ؟!
  وفقاً لآية المثل ، إنَّ الكفار بالله وباليوم الآخر لهم أسوأ الامثال ، وكلامهم بذيء ، ويعتقدون أنّ لله بنات ، مع أنَّه ليس كذلك ، فهو لم يلد ولم يولد.
  لحيثيتين يحتاج الإنسان إلى ولده :
  الاولى : أنَّ عمر الإنسان محدود ، ويحتاج الإنسان إلى الاولاد لكي يحافظ على نسله.
  الاخرى : لا يتمكن الإنسان الحفاظ على قواه حتى نهاية عمره ، بل يضعف الإنسان كثيراً ببداية الكهولة ، وحينئذ يحتاج إلى من يعتمد عليه ويعينه في تلك الأيام.
  اما بالنسبة إلى الله ، فهو أزلي وأبدي ولا معنى للموت بالنسبة إلى ذاته المقدسة ، كما أنَّه قادر وقوي مطلقاً فلا يحتاج إلى الولد ذكراً أو أنثى.
  اضافة إلى هذا ، امتلاك الولد يستلزم الجسمانية ، وبديهي أن ذات الحق ليست جسماً ( تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلك عُلُوّاً كَبِيْرَاً ).

--------------------
(1) وسائل الشيعة 15 : 102.
(2) سورة الكهف : 80 ـ 81.
(3) انظر نور الثقلين 3 : 286 ـ 287 نقلا عن تفسير الأمثل 9 : 295.

أمثال القرآن _ 261 _
المثل السابع والعشرون : عبيد الأصنام وعباد الله
  يقول الله تعالى في المثل السابع والعشرين وفي الآية 75 من سورة النحل ما يلي : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلا عَبْدَاً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيء وَمن رَزَقْنَاهُ منّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْرَاً هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ للهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ).

تصوير البحث
  تحدّثت الآية عن عبيد الأصنام والمؤمنين.
  ويشبّه الله عبدة الأصنام هنا بالعبد المملوك الذي لا يملك شيئاً من المال ، كما أنّه غير حرّ في اتخاذ القرار.
  أمّا المؤمنون فإنّ الله هو رازقهم ، كما أنهم يشركون الاخرين بأرزاقهم ، وذلك بالانفاق سراً وجهراً.

ارتباط آية المثل بسابقاتها
  تحدثت الآيات السابقة عن عبادة الأصنام ، وعن سبب عبادة الإنسان لموجودات لا يمكنها حل أي مشكلة من مشاكله ، رغم أنّه عاقل والمفروض بأعماله أن تكون هادفة.
  من هنا جاء في الآية 73 من نفس السورة ما يلي : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُم رِزْقاً مِنَ السّمَاوَاتِ والأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ ).

دوافع العبادة
  للعبادة دوافع عديدة ، ومن دوافع عبادة الله القادر هو قضية ( شكر المنعم ) ، فالإنسان

أمثال القرآن _ 262 _
  عندما ينظر إلى ذاته وحواليه يرى نفسه غارقة بالنعم العديدة من العين والاذن واليد والرجل والفكر والسماء والأرض والشمس والهواء والاشجار والغابات وأمثال ذلك ، ولهذا يحكم وجدانه بضرورة شكر المنعم وتقديره.
  هل يمكن شكر المنعم دون معرفته ؟ من هنا كان الشكر سبباً لمعرفة الله.
  وعليه ، شكر المنعم هو من دوافع عبادة خالق المخلوقات.
  قد يكون المعبود خالياً من التأثير على حياة الإنسان ، لا أنه لا فائدة فيه ، ولا يزوّد عابديه بأي خير ، بل إنّه لا يستطيع الدفاع حتى عن نفسه ، وهو بحاجة إلى حماية الاخرين.
  وإنّ موجوداً كهذا ليس أهلا للعبادة ، ولا شك أنّ عقل الإنسان يرفض هذا النوع من العبادة.
  بالطبع ، إنَّ عبدة الأصنام لا يعدون أصنامهم هي خالقة المخلوقات ، بل حسب ما ورد في القرآن : لو سألناهم مَن خلق السماوات والأرض لأجابوا : الله هو الذي خلقها (1) لا أصنامهم العاجزة.
  وهذا يكشف عن أنَّهم لم يكونوا مشركين في الخلق ، كما أنَّهم كانوا يعدّون الله الرازق الوحيد (2).
  غاية الأمر أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ الاصنام تبتُّ بحل المشاكل بشكل مباشر ومستقل أو كشفعاء عند الله ، لذلك جاءت الآية 3 من سورة الزمر لتقول : ( ألا للهِ الدّينُ الخَالِصُ والّذِين اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِيَاءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إلَى اللهِ زُلْفَى ).
  لا شك أنَّ كلام المشركين باطل وواضح عدم صحته ، كيف يمكن لأصنام أن تحلّ مشاكل الآخرين رغم أنّها عاجزة عن حلّ مشاكلها ذاتاً.
  وفقاً لما جاء في النص القرآني ، فإنَّ إبراهيم ( عليه السلام ) عندما حطّم الأصنام ( في تلك القصة المعروفة والجميلة ) قال : ( أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُم أُفّ لَكُم وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقلُونَ ) (3).

--------------------
(1) جاء هذا المضمون في آيات عديدة ، منها : الآية 16 من سورة العنكبوت والآية 25 من سورة لقمان والآية 38 من سورة الزمر والآية 9 و87 من سورة الزخرف.
(2) إنّ الآية 24 من سورة سبأ من جملة الآيات التي تدل على هذا المعنى.
(3) الأنبياء : 66 ـ 67.

أمثال القرآن _ 263 _
  فالإنسان العاقل ـ إذن ـ لا يستسلم ولا يركع أمام أصنام كهذه.
  تعقيباً على ما ورد في هذه الآيات من نهي الإنسان عن عبادة الأصنام جاءت آية المثل.
  الشرح والتفسير
  الآية سعت للتمييز بين المؤمن ( عبدالله ) والمشرك ( عابد الصنم ) ، فشبّهت المشرك بالرق الذي لا إرادة له بل إرادته تابعة لمولاه ، كما أنّه لا يملك شيئاً من المال ولا يملك قرار نفسه ، بل إنَّ بعض المالكين يجيزون لأنفسهم قتل عبيدهم في حالة الغضب والضجر ، فهم كانوا يعتقدون أنَّ المالك له الحق في التصرف بأمواله بأي شكل شاء.
  إنّ المشركين لهم شأن كهذا الرق الذي يفقد الارادة والاختيار.
  أمّا المؤمن الموحّد فهو بمثابة الإنسان الحر الذي رزقه على الله هنيئاً مريئاً ، ويشرك الاخرين في هذا الرزق الحسن بالانفاق إليهم في السر والعلانية.
  هل يتساوى هذان الاثنان ؟ طبعاً لا يتساوون.
  إنَّ الذي جرّ هؤلاء المشركين إلى هذا العمل هو جهلهم.
  خطابات الآية
  1 ـ العبيد في الإسلام
  هل امتلاك العبيد أمر مطلوب ؟
  هل يسمح الوجدان البشري بممارسة العبودية ؟
  لماذا لم يحرر الإسلام العبيد عند ظهوره ؟ ولماذا لم يلغ هذه الظاهرة بالكامل ؟
  لماذا هناك احكام خاصة في الفقه تتعلق بالعبيد ؟
  لماذا لم يتساو العبيد والاحرار في حقوقهم الإنسانية ؟
  وآخر سؤال هو : هل تتفق روحية العبودية مع الإسلام الذي هو دين فطري ؟
  إنَّ جواب الاسئلة الماضية نجدها في كتاب مستقل يحمل عنوان ( الإسلام وتحرير

أمثال القرآن _ 264 _
  العبيد ) (1) وكذلك في محال متعددة من تفسير الأمثل ، رغم ذلك نشير إلى الاجابات بشكل مختصر هنا : إنَّ تحرير العبيد من الأهداف المهمة لدين الإسلام ، وقد تحقق هذا الهدف تدريجياً وبمرور الزمان.
  وينبغي الالتفات هنا إلى أنَّ ظاهرة سيئة ما إذا تجذّرت في المجتمع فلا يمكن اقتلاعها في فترة قصيرة ، بل ينبغي اتخاذ اجراءات ابتدائية خاصة لأجل اجتثاثها من المجتمع ، وفي غير هذه الحالة ، فان مشاكل جمة ستواجه المجتمع والقائمين على اصلاح سلوكياته.
  لو بتَّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) منذ البداية بإلغاء هذه الممارسة مباشرة ، وقام المسلمون بتحرير عبيدهم ( الذين يفقدون رأس المال ) وبإخراجهم من بيوتهم ، لأدى ذلك إلى مشاكل عديدة ومفاسد اجتماعية من قبيل السرقة والزنا واللواط ، وهم في النتيجة سيهدمون أساس المجتمع ، لذلك كان تحريرهم المفاجيء أمراً غير صحيح.
  من هنا وضع الإسلام منهجاً تدريجياً خاصاً لتحرير العبيد ولضمهم إلى المجتمع الحر ومن دون حصول هذه المشاكل المحتملة.
  عمل الإسلام في البداية على قطع مناشىء التعبيد في المستقبل ، لكي لا يُرقّ إنسان فيما بعد ، ولم يبق إلاّ طريق واحد وهو الإسترقاق عن طريق الحرب ، وذلك عند أسر الأعداء ، رغم ذلك جعل الإسلام بديلا لذلك حيث منح المسلمين الحق في تحرير الاسرى أو تبديلهم بفدية ، ومن جانب آخر أكد على استحباب تحرير العبيد وفرض لذلك ثواباً عظيماً (2) لكي يتشجّع المسلمون على تحرير عبيدهم.
  وقد ورد في بعض الروايات أن عليّاً أعتق ألف عبد من كدّ يده (3).
  كما قد جاء في رواية أن الإمام الحسن ( عليه السلام ) حرّر جارية له بمجرد أن أهدت له يوماً زهرة ، وقال لها : ( أنتِ حرة لوجه الله ) ، وبعد تعجب أحد أصحابه على عمله هذا ، قال له : ( أدّبنا الله تعالى ) (4).

--------------------
(1) الكتاب بالفارسية ، و فى هذا المجال كتب عربية اُخرى ، منها ما ورد فى الهامش اللاحق.
(2) راجع كتاب وسائل الشيعة ، ج61 ، أبواب العتق ، الباب الأوّل.
(3) بحار الأنوار 14 : 43.
(4) مسند الإمام المجتبى( عليه السلام ) : 702.

أمثال القرآن _ 265 _
  وتمشياً مع مبدأ التحرير المطلق للعبيد ، فرض الإسلام تحرير الرقّ ككفارة لكثير من الذنوب.
  إنَّ الشخص إذا أفطر في شهر رمضان عمداً ، فعليه ـ اضافة إلى القضاء ـ الكفارة ، وأحد خيارات الكفارة المفروضة هو تحرير عبد ، وكذا الحال بالنسبة إلى حنث اليمين والعهد والنذر فإنَّ تحرير عبد هو أحد الخيارات المفروضة هنا.
  وبهذا المنهج الدقيق للإسلام تحقق التحرير التدريجي للعبيد ، قبل أن تُعلن الدنيا عن قرار تحرير العبيد بمئات السنين.
  2 ـ العبودية المتطوّرة
  يعتبر القرآن المجيد المؤمنين أحراراً والمشركين عبيداً.
  ومن هنا ندرك أنَّ مصطلح ( العبيد ) لا ينحصر في معناه المتعارف ، بل هناك أنواع اُخرى للعبودية ، وهي عبودية الشهوة والهوى والهوس والمال والثروة والجاه والمقام وأصناف اُخرى للعبودية المتطوّرة.
  يقول ابن عباس : ( إنَّ أول درهم ودينار ضرباً في الأرض نظر إليها إبليس فلمّا عاينهما أخذهما فوضعهما على عينيه ، ثمّ ضمّهما إلى صدره ، ثمّ صرخ ثم ضمهما إلى صدره ثمّ قال : أنتما قرة عيني ، وثمر فؤادي ، ما اُبالي من بني آدم إذا أحبّوكما أن لا يعبدوا وثناً ، حسبي من بني أدم أن يحبّوكما ) (1).
  أي أن صنم المال والثروة وعبودية المال والدنيا هي أخطر من العبودية المتعارفة.
  العالم اليوم الذي أعلن عن تحرير العبيد ، هو في الحقيقة غيّر نوعية العبودية ولم يزلها بالكامل.
  أرباب القوى العظمى عند تبريرهم للجرائم التي يرتكبونها يقولون بصراحة : إنَّ هذه الجرائم تقتضيها مصالحنا ، فإنَّه لو لم يكن هناك حرب وإهراق للدماء وقتل واختلاف وتفرقة ، فإنَّ معامل الاسلحة ستتعطّل.
  ألم يكن هذا شركاً وعبادة للأصنام ؟!

--------------------
(1) بحار الأنوار 7 : 137.

أمثال القرآن _ 266 _
  أليس هؤلاء أسرى أموالهم وثرواتهم وعبيداً لها ؟ !
  هناك بعض يغتمون كثيراً ويقيمون العزاء لأجل حرمانهم من تجمّلات الدنيا وزخرفها! إن هؤلاء أسرى حقيقيون.

يوسف ( عليه السلام ) إنسان حرٌّ
  المستفاد من القرآن المجيد هو أنَّ زليخا ( زوجة عزيز مصر ) لم تكن الوحيدة التي دعته لتنفيذ رغباتها وشهواتها الشيطانية ، بل إنَّ كثيراً من نساء اشراف مصر وكبارها كنَّ يشجّعن يوسف( عليه السلام ) على إطاعة زليخا والقيام بهذا العمل الشيطاني ، لذلك جاء في كلام يوسف( عليه السلام ) : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلي مِمَّا يَدْعُونَنِي إليْهِ ) (1).
  هناك احتمالات في مضمون الكلام المستخدم لتشجيع يوسف ( عليه السلام ) ، فقد يكون مضمون الكلام هو : ( يوسف! أنت شاب وزليخا إمرأة جميلة فلماذا لا تستسلم لها ) ؟ وقد يكون : ( إذا لم تهو جمال زليخا وحسنها ، فلا أقل فكّر في مقامها وجاهها ، فانك قد ترتقي مقاماً من خلالها ) ، وقد يكون : ( إذا لم تكن من أهل الجمال والجاه والمقام ، فخف انتقام زليخا وطعنها بك ).
  أما يوسف الحر فقد قاوم هذه الوساوس التي تقمّصت ثياباً جميلة وجذابة ورجّح عبودية الله على أي شيء آخر وقال : ( رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَى مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ).
  إلهي ! إنَّ هذه النسوة الملوّثات يدعنني لتحمّل أسر الهوى والهوس ، وأنا أبغي الحرية وأحبها رغم أنّها قد لا تحصل إلاّ في الزنزانات والسجون ، وذلك أحب إلي من أسر النفس الأمارة ، يا إلهي العظيم !
  إنّ هذه المحنة عصيبة جداً وأنا غير قادر عليها لوحدي فلا تتركني دون عناية منك ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
  انَّ الله أعان يوسف الحر وجعله يعيش الحرية في سجون العزيز ، التي اقترنت مع رفعة رأس وافتخار ، كما أنها كانت مقدمة لحكومته وسلطانه وإثبات نزاهته وطهارته.

--------------------
(1) يوسف : 33.

أمثال القرآن _ 267 _
  إنَّ يوسف ( عليه السلام ) لو لم يذهب إلى السجن لما توافرت له فرصة تعبير المنام ، وتعبير المنام لو لم تتوافر فرصته لما تبرّء من الاتهامات ولما اقترب من السلطان ولما حكم في النهاية.
  إلهي ! نحن جميعاً أسارى الهوى والهوس نوعاً ما ، لكن نحب أن تنقذنا من أسرنا ، فأعنّا على ذلك.

علي ( عليه السلام ) حرٌّ آخر
  من التفاسير الواردة في تفسير المؤمن الذي ورد في آية المثل هو الإمام علي بن أبي طالب( عليه السلام ) (1).
  نعم إنّه كان حرّاً من عبودية الهوى والهوس والمال والثروة.
  كان ينفق كل ما عنده من ثروة في سبيل الله حتى في اثناء الصلاة.
  نال الحكومة الظاهرية بعد سكوت وقعود في البيت ومظلومية تحّملها مدة سنوات ، وقد أصبح آنذاك حاكماً وذا سلطة ، رغم ذلك ما كان يجرؤ على التلاعب في بيت المال وإنفاقه بما تروق له نفسه.
  وقصته مع أخيه عقيل خير شاهد على هذا ، ولنقرأ القصة على لسان أخيه هنا ، وقد مرّت على لسان الإمام علي ( عليه السلام ) فيما سبق : ( أقويت ( أي افتقرت ) وأصابتني مخمصة شديدة ، فسألته فلم تند صفاته ( التعبير كناية عن بخل الإمام ) فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضر ظاهران عليهم.
  فقال : ( ائتني عشية لأدفع إليك شيئاً ) ، فجئته يقودني أحد ولدي ، فأمره بالتنحي ثم قال : ( ألا فدونك ) ، فأهويت حريصاً قد غلبني الجشع ( الحرص الشديد ) أظنها صرّة ، فوضعت يدي على حديد تلتهب ناراً ، فلمّا قبضتها نبذتها وخرت كما يخور ( أي يصيح ) الثور تحت جازره ، فقال لي : ( ثكلتك اُمّك هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا ، فكيف بك وبي غداً إن سلكنا في سلاسل جهنّم ) ؟ ثم قرأ : ( إِذْ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِم وَالسَلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ) (2) ثم قال : ( ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلاّ ما ترى ) فانصرف إلى أهلك ) (3).

--------------------
(1) منهج الصادقين 5 : 212.
(2) المؤمن : 71.
(3) بحار الانوار 42 : 118