شيء بيده ، لأنّه ما من موجود إلاّ وهو يحتاج إلى الله الغني ، فالكل يحتاج إليه فكل شيء عاجز ، وهو القادر ، وكل شيء ضعيف ، وهو القوي والقادر المطلق ، فلا يصح الذهاب لا لمعبد الأصنام فحسب بل لكل شيء غير الله.

خطابات الآية
  1 ـ هل التوسّل بالمعصومين ( عليهم السلام ) شرك ؟
  وبعبارة اُخرى : هل أنَّ الأدعية والتوسلات بالأئمة تشملها الآية الشريفة وينهى عنها الشارع المقدس وينبغي الاجتناب عنها ؟
  نقول جواباً عن التساؤل الماضي : إنَّ التوجه لهؤلاء العظماء لا يعني طلبنا منهم حل المشاكل بشكل مباشر ، بل نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله ويبحثوا لنا عن حلّ لنا من الله القادر المطلق ، وذلك لأنّا نعتقد أنَّ هؤلاء إذا استطاعوا فعل شيء فبأذن من الله.
  أما الوهابيون الذين ينسبون لنا الشرك والكفر لأجل هذه الأدعية والتوسلات فانّهم على خطأ ، وهم لا يعرفون المعنى الحقيقي للشرك والكفر ، كما أنَّهم لم يستوعبوا ماهية التوسل الذي عند الشيعة.
  في رحلتي لمكة والمدينة عام 1419 هـ . ق التي كانت لغرض أداء العمرة ، حضرت صلاة الجمعة في اليوم الثاني والعشرين من شعبان في المسجد الحرام ، وكنت أصغي لما يقول الخطيب.
  والمدهش هنا أنَّ الخطيب كان يقرأ عن ورقة قد أعدّها من ذي قبل ، يبدو أنّه ما كان مجازاً لإضافة او تنقيص ولو كلمة واحدة ، فتذكرت خطبة الجمعة في مدن ايران ومدى ما يتمتع به الخطيب من حرية التعبير والتحليل .
  وعلى أي حال هاجم هذا الخطيب في أثناء خطبته اولئك الذين يتوسلون عند القبور المشرّفة ورماهم بالشرك والكفر.
  بالطبع لم نسكت أمام هجوم هذا الخطيب ، بل كتبنا رسالة إلى زعماء السعودية اعترضنا فيها عما تفوّه به هذا الشخص.
  إنَّ الذين يعتقدون بالدعاء والتوسّل لا يعتبرون أولياء الله شركاء لله ، بل شفعاء عنده .
  وبعبارة اُخرى : أنَّ اعتقادنا هو تجسيد للآية الشريفة ( المائدة 110 ) التي تحدّثت عن السيد

أمثال القرآن _ 205 _

  المسيح ( على نبينا وآله وعليه السلام ) ( وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كِهْيئَةِ الطَّيْر بإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإذْنِي وَتُبْرِئ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإذْنِي ... ).
  في هذه الآية نسب الخلق والاحياء والشفاء كلها للسيد المسيح ( عليه السلام ) لكن بإذن من الله تعالى (1).
  والشيعة لا تقول شيئاً غير هذا الذي في الآية الكريمة ، فالشيعة تعتقد أنَّ العظماء والأولياء يمكنهم فعل الكثير الذي يعجز عنه البشر لكن باذن الله ، كما يمكنهم أن يشفعوا للعباد عند الله لحل مشاكلهم.
  وعلى هذا فدعاء الشيعة وتوسلهم لا شرك ولا كفر.
  ومع هذه الايضاحات نقول : إنَّ الذي يعدُّ الشيعة لاجل دعائهم وتوسلهم مشركين ، فهو يعدُّ السيد المسيح مشركاً كذلك.
  ويمكننا أن نستفيد مما سبق ضمنياً أن المعجزة قد لا تحصل بدعاء النبي وإجابة الله مباشرة ، بل قد تكون من النبيّ أو الولي مباشرة لكن بإذن من الله تعالى كما هو الحال بالنسبة لمعجزة شق القمر (2) التي صدرت عن رسولنا ( صلى الله عليه وآله ) ، وهذا أمر غير مستبعد.
  2 ـ الصور المختلفة لعبادة الأصنام
  لعبادة الاصنام تاريخ طويل واشكال مختلفة ، فقد تكون بشكل صنم يُصنع بأيدي الناس من الحجر أو الخشب أو الفلز بل وحتى من الاغذية ، ثم يقع لها الإنسان ساجداّ وعابداً.
  في برهة من الزمن كان المشركون يقدمون على انتخاب موجودات غير ذات شعور يعتبرونها أصناماً للعبادة ، لذلك عبد البعض الشمس ، والآخر النجوم أو القمر ، (3) بل انّ البعض أقدم على عبادة أنهار أو بحيرات مهمة مثل نهر النيل أو بحيرة ساوة في ايران ، وقد يكون جفاف بحيرة ساوه وانطفاء معبد فارس عند ولادة الرسول (4) بسبب أنها كانت معابد للإنسان آنذاك.

--------------------
(1) حُكي هذا المطلب على لسان السيد المسيح نفسه في الآية 49 من سورة آل عمران.
(2) تجد شرح هذه المعجزة في كتاب ( المعراج ـ شق القمر ـ العبادة في القطبين ) بالفارسية.
(3) اُشير إلى هذا المطلب في الآيات 76 ـ 78 من سورة الأنعام.
(4) لقد حدثت معاجز كثيرة بولادة الرسول (صلى الله عليه وآله) كان منها انطفاء نار معبد فارس وجفاف بحيرة ساوه .
وللمزيد راجع منتهى الامال 1 : 44.

أمثال القرآن _ 206 _
  وفي بعض من بقاع العالم كان البعض يعبد الاشجار وبخاصة شجرة الصنوبر التي كانت منذ القدم معبوداً لمجموعة من الناس.
  من هنا اعتقد بعض المفسرين أنَّ ( أصحاب الأيكة ) هم أنفسهم عبدة شجرة الصنوبر الذين كانوا منشأ لخرافة ( سيزده به در ) أي الثالث عشر من بداية السنة الشمسية.
  وفي زمن كانت الحيوانات آلهة لبعض من الناس.
  ومِمّا يؤسف له أنّ هذا النوع من العبادة لا زال موجوداً في بعض المناطق من الهند.
  وقد ألّه البعض أشخاصاً من البشر ، كما هو الحال بالنسبة لفرعون حيث كان البعض يعبده كربّ لهم ، ويقول القرآن المجيد نقلا عن فرعون نفسه : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيُّهَا المَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي ) (1) وقد ألّه البعض الملائكة في بعض الأحيان.
  يقول أحد المؤرخين : ( كل شيء في العالم قد تألّه ، وكان يُعبدُ في يوم ما ونحن لا نعرف شيئاً لم يتألَّه ولم يُعبد في يوم من الأيام ).
  على كل حال ، أنَّ ما يجمع عبادة الأصنام هو التوجه إلى ما سوى الله والغفلة عن الله رب العالمين ، وقد جاء على لسان بعض العظماء : ( كلّ ما شغلك عن الله فهو صنمك ).
  من هنا عُدَّ المال والبنون والمرأة والثروة والمقام والصديق وكل شيء يغفلنا عن الله صنماً.
  القرآن قد شطب على كل شيء سوى الله ، ولا يرى أهلية العبادة لغير ذاته الحقة ، فإنَّ جميع المخلوقات فقيرة وتحتاجه وتفتقر فيضه في كل آن ولحظة ، ليس في بداية الخلق فحسب بل لادامة الحياة واستمراريتها كذلك.
  إنّ مثل حاجة الإنسان إلى الله كمثل حاجة المصباح إلى مولد الكهرباء ، فكما أنَّ المصباح يحتاج إلى المولد في كل لحظة ما دام متقداً ، كذلك الإنسان فانه يفتقر فيض الله في كل لحظاته ما دام حياً.
  وبعبارة أُخرى : أنَّ كل لحظة من لحظات العمر هي خلق وصنع جديد ( كُلَّ يَوْم هُوَ فِي

--------------------
(1) القصص الآية 38.

أمثال القرآن _ 207 _
  شَأن ) (1) وبخاصة إذا فسرنا ذلك حسب رؤية ( الحركة الجوهرية ) فإنَّ الأمر سَيكون أوضح (2).

الدعاء من وجهة نظر القرآن والروايات
  إنّ الدعاء قضية مهمة جداً وقد انعكست بشكل واسع في القرآن وروايات المعصومين ( عليهم السلام ) .
  وفي هذا المجال مباحث وأسئلة عديدة نشير إلى بعضها هنا :
  1 ـ ما هي فلسفة الدعاء ؟ إذا كنا مستحقين للاجابة فالله العالم بالظاهر والباطن سيستجيب لطلباتنا من دون حاجة إلى دعاء ، وإذا لم نستحق الاجابة فإنَّ الله سوف لا يجيب لطلباتنا سواء دعوناه أم لم ندعه ، ولا تأثير لدعائنا هنا !
  وبتعبير آخر : أنَّ طلبتنا إذا كانت بمصلحتنا فسيوفرها لنا الله من دون حاجة إلى دعاء ، وإذا لم تكن بمصلحتنا فانه سوف لا يوفرها مهما أصررنا بالدعاء والتوسّل.
  إذن ما فلسفة الدعاء وما دوره ؟
  2 ـ ما هي شروط إجابة الدعاء ؟ وما علينا فعله لكي يستجيب لنا الله الدعاء ولكي نبلغ هدف الاجابة ؟
  3 ـ ما هي موانع استجابة الدعاء ؟ لماذا لم يُستجب لبعض الأدعية رغم الاصرار الوافر في طلبها ؟
  4 ـ ما هو أسوأ دعاء ؟

الدعاء أفضل عبادة
  المستفاد من الآيات والروايات هو أنَّ الدعاء ليس كونه عبادة فحسب ، بل من أفضل العبادات.

--------------------
(1) الرحمن الآية 29.
(2) للمزيد راجع تفسير الأمثل 17 : 373 ـ 374.

أمثال القرآن _ 208 _
  ولأجل إيضاح أهمية الدعاء نشير إلى ثلاث آيات من القرآن وست روايات من المعصومين :
  1 ـ يقول الله تعالى في الآية 60 من سورة غافر ( المؤمن ) : ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الّذِين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّم دَاخِرِينَ ).
  استخدمت الآية في البداية مادة ( الدعاء ) ثم أبدلتها بمادة ( العبادة ) في نهاية الآية.
  لماذا عبّر القرآن بالعبادة عن الدعاء ؟
  قال البعض : إنَّ العبادة بمعناها المطلق هي دعاء ، ولأجل ذلك كان تعبير الروايات بأنَّ ( الدعاء مخ العبادة ) (1).
  2 ـ يقول الله تعالى في الآية 77 ( آخر آية ) من سورة الفرقان : ( قُلْ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُم فَقَد كَذَّبْتُم فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً ).
  إنَّ هذا التعبير ( ما يعبؤُ بِكُم ... ) والذي يعني عدم اهتمام الله بكم لو لم تدعوا ، لم يستعمل في العبادات الاخرى مثل الحج والصوم والجهاد وغير ذلك ، وقد استخدم في الدعاء فقط ، وهو تعبير يعني باطلاقه أنّ الذي يجعل الله يهتم بكم ويعتني رغم الذنوب والآثام هو الدعاء ، فقدروا هذه العبادة وثمّنوها.
  3 ـ يقول الله تعالى في الآية 186 من سورة البقرة بعد الحديث عن فضيلة واحكام شهر رمضان المبارك : ( وإذا سَألك عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيْبٌ أُجِيْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَليُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ).
  لا شكّ أنّ تعبير الآية التالية : ( نحن أقْرَبُ إلَيكْمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ ) (2) للإشارة إلى قرب الخالق إلى المخلوق ، هو أجمل تعبير يمكن أن يرد في هذا المجال.
  وعلى هذا ، فإنَّ التفكير في الآيات السابقة يرشدنا إلى أنَّ الدعاء من وجهة نظر الإسلام أمر مهم جداً بحيث اضافة إلى كونه عبادة يوجب اعتناء الرب بالإنسان ، كونه وسيلة لتقرّب العبد إلى مولاه.

الدعاء في الروايات

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 1189 ، الحديث 5519.
(2) سورة ق . الآية 16.

أمثال القرآن _ 209 _
  قلنا سابقاً : إنَّ الكثير من الروايات تناولت قضايا الدعاء ، نكتفي هنا بذكر ست منها.
  1 ـ يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( الدعاءُ سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض ) (1).
  نعم ، رغم أنَّ الدعاء عبادة سهلة ، لكنّه ، حسب ما يستفاد من كلمات الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ـ يحضى بشأن رفيع عند الله .
  إلاّ أنَّ الإنسان غافل عنه بسبب سهولته وبساطته.
  2 ـ يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( الدعاءُ مفتاحُ الرحمة ومصباح الظُّلمة ) (2).
  نعم ، هو مصباح ليس في الدنيا فحسب بل في الآخرة كذلك.
  3 ـ يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في رواية اخرى : ( عمل البرّ كلّه نصف العبادة ، والدعاء نصف ) (3).
  4 ـ يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( أكْثِرْ من الدعاء فإِنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلِّ حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلاّ بالدعاء ، وليس باب يكثر قرعه إلاّ يوشك أن يفتح لصاحبه ) (4).
  وعلى هذا ، فالإنسان لا ينبغي أن يخيب أمله بمجرد عدم الإجابة ، لأنّ الله قد يريد تطهير قلب العبد وتأديبه وتربيته من خلال الدعاء.
  5 ـ يصف الإمام الصادق ( عليه السلام ) الدعاء بالشكل التالي : ( أفضل العبادة الدعاء ) (5).
  6 ـ يقول الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) : ( عليكم بسلاح الأنبياء ) ، قيل : ما سلاح الأنبياء ؟ قال : ( الدعاء ) (6).
  يستشف مما سبق من الآيات والروايات أنَّ للدعاء شأناً عظيماً في الإسلام ويحضى بأهمية كبيرة.

سر الدعاء في الإسلام

--------------------
(1) الكافي 2 : 468.
(2) بحار الأنوار 90 :30.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 1189 ، الحديث 5533.
(4) ميزان الحكمة ، الباب 1169 ، الحديث 5585.
(5) ميزان الحكمة الباب 1189 ، الحديث 5516 و 5532.
(6) الكافي 2 : 468.

أمثال القرآن _ 210 _
  لماذا يحضى الدعاء في الدين بدرجة وقيمة كبيرة ، بحيث عُدَّ أفضل العبادات وسلاحاً للمؤمن وعموداً للدين ونور السماوات والأرض ومفتاح الرحمة ومصباح الهداية ونصف العبادة وسر النصر وسلاح الأنبياء وسبباً لرفعة شأن الإنسان عند الله ؟
  إذا دققنا في هذه التحفة والهدية الإلهية ودرسناها جيداً لوجدناها أهلا لهذه الأُمور كلها.
  إنَّ الدعاء يترك آثاراً مهمةً في الإنسان ، وأهم تلك الآثار هو التربية ، فإنَّ الدعاء سبب لتربية الإنسان وتزكيته.
  إنَّ التعليم والتربية اللتين ابتنيت عليهما بعثة الأنبياء ، يُعدان من أهم أهداف البعثة ، (1) ومما لا شك فيه أن التعليم مقدمة للتربية ، لذلك كانت التربية الهدف النهائي للبعثة.

العلاقة بين الدعاء والتربية
  للدعاء آثار تربوية كثيرة نشير إلى ثلاثة منها : إنّ الأثر الأوّل هو إيجاد نور الأمل في قلوب الناس ، فالإنسان الخائب الأمل يكون في عداد الموتى.
  إنَّ المريض يتحسّن إذا كان قد ملأ قلبه بنور الأمل وسوف لا يتحسّن إذا فقد أمله في التحسن ، كما أنَّ السبب الرئيسي لنجاح المقاتلين في ميادين الحرب هو الأمل والمعنويات العالية ، أما العسكر الذي يفقد الأمل ولا يتحلى بمعنويات عالية فسوف يخسر المعركة ولو كان قد عُدَّت له العدة وجُهِّز بأكثر الاسلحة تطوراً.
  إنَّ الدعاء يعكس ضوء الأمل في قلب الإنسان.
  إنَّ أصحاب الدعاء والمتوكلين على الله ـ رغم مشاكلهم الكثيرة وأعداءهم الجسورين وفقرهم المالي ـ إذا توجهوا إلى الله وناجوه ، حيث قلوبهم نضحت بنور الأمل ، وتفاءلوا بالمستقبل ، وكأنّهم مُنحوا حياة جديدة ، وذلك لأنّهم مدوا أيدي العون إلى من كانت أصعب الشدائد عنده أسهلها ، مدوا أيديهم إلى الله الذي لا موقع للصعب والسهل عنده ، وذلك لأنَّ الصعب يعني الشيء الذي فوق القدرة والسهل يعني الشيء الذي أدنى من القدرة ، وهل هناك

--------------------
(1) سورة الجمعة الآية الثانية.

أمثال القرآن _ 211 _
  شيء يفوق قدرة اللّه ؟
  وعلى هذا ، فلا اختلاف عند الله بين الصعب والسهل ، فاذا أراد شيئاً قال له (كن) فيكون في لحظة حتى لو كان ذلك الشيء هو صنع ملايين من الشموس المثيلة لشمس الأرض.
  إنَّ الإنسان إذا دعا وناجى من يملك مثل هذه القدرة وسجد له وخشع وبكى وطرح مشاكله عليه ، فلا شك أنَّ نور الأمل سيستحوذ على قلب هذا الشخص.
  2 ـ الاثر الثاني للدعاء هو ايجاد نور التقوى في الإنسان الذي هو السبب في تقرّب الإنسان إلى ربّه (1).
  التقوى هو زاد نجاة الإنسان يوم القيامة ، (2) وهو جواز دخول الجنة (3).
  الدعاء يحيي هذه الجوهرة الثمينة في قلب الإنسان ، إنَّ الإنسان إذا ناجى الله وتوسل به ودعاه باسمائه الحسنى وصفات جماله وجلاله ، فإنَّ ذكر هذه الصفات سيترك أثراً يسوق الإنسان نحو الله بشكل يشعر الإنسان بأنه إذا أراد الاستجابة تاب وأناب إلى الله.
  إنَّ الدعاء يدعو الإنسان إلى التوبة ، والتوبة تدعو الإنسان لاعادة النظر في حياته ، وفي نهاية هذه الحركة يتقد نور التقوى في حياة الإنسان.
  جاء في حديث : ( من تقدّم في الدعاء استجيبت له إذا نزل به البلاء ، وقالت الملائكة : صوت معروف ولم يحجب عن السماء ، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة : إنّ ذا الصوت لا نعرفه ) (4).
  يقول الإمام علي ( عليه السلام ) في خطبة همّام القيمّة عند بيانه لأوصاف المتقين : ( نُزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزلّت في الرّخاء ) (5).
  ولهذا ، لا فائدة في مناجاة فرعون وإقراره بالتوحيد ، فقد جاء في الحديث ما يلي :

--------------------
(1) كما هو مضمون الآية 13 من سورة الحجرات ( ... إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم ).
(2) كما هو مضمون الآية 197 من سورة البقرة : ( وَتَزوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التّقْوَى ... ).
(3) كما هو مضمون الآية 63 من سورة مريم : ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيَّاً ).
(4) ميزان الحكمة ، الباب 1194 الحديث 5563.
(5) نهج البلاغة ، الخطبة 193.

أمثال القرآن _ 212 _
  ( ... قال جبرائيل : ... لمّا غرق والله فرعون قال : آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو اسرائيل ، فأخذت حمأة (جكومة من طين) فوضعتها في فمه ... ) (1).
  3 ـ إنّ الاثر التربوي الثالث للدعاء هو تقوية نور المعرفة.
  إنّ الإنسان عندما يتجه إلى الله سوف يبدأ بالتفكير بأن الله قادر وعالم بما خفي عنا وبما ظهر ومحيط بجميع الأسرار ، وهذا سوف يرفع من مستوى معرفة الإنسان ، وبخاصة إذا كانت الأدعية المقروءة من الصحيفة السجادية أو المناجاة الشعبانية أو الصباح أو كميل أو الندبة ، فهي تضمّ أرقى الدروس العرفانية ، ومع وجود أدعية ، أمثال هذه ، لا داعي بالنسبة لطلبة العرفان أن يلجؤوا إلى كتب مشكوك في أمرها.
  وعلى هذا ، فالدعاء يوقد نور التقوى والمعرفة في قلب الإنسان.
  سؤال : نقرأ في دعاء شهر رجب ـ الذي يستحب قراءته بعد كل صلاة من الشهر ـ العبارة التالية : ( يا من يعطي من سأله ، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه ) .
  وعلى أساس هذه العبارة فان الله يعطي كل شخص سواء دعاه أم لم يدعه ، وسواء كان عارفاً به أم لم يكن .
  وعلى هذا فما فائدة الدعاء وجدواه ؟
  الجواب : إنّ لفيض الله وبركاته أقساماً وأنواعاً : قسم يمنحه الله لجميع البشر ، مثل الغيث ، فالجميع من الكافر والمؤمن والعارف وغيره يفيدون منه.
  وقسم من البركات تمنح للعارفين من المؤمنين ولا تشمل غيرهم.
  وقسم من البركات والفيض يُمنح للداعين فقط دون غيرهم.
  جاء في حديث : ( لا تقل إنَّ الأمر قد فرغ منه ، إنَّ عند الله منزلة لا تُنال إلاّ بمسألة ) (2).
  وعلى هذا ، فإنَّ القسم الأول هو الوحيد الذي يشمل الجميع أما القسم الثاني والثالث فالإيمان والدعاء يؤثران فيهما.

موانع وشروط استجابة الدعاء

--------------------
(1) مما لا شك فيه أنّ الآية تعني كل شخص يحمل نفس المواصفات المذكورة في الآية ، وشأنها شأن باقي الآيات حيث نزلت في مورد خاص لكن شأنها يعم ... وبخاصة بالنسبة للآيات هذه فإنَّ هناك حديثاً للإمام يقول فيه : ( ( إنَّ الآية تعم جميع أهل القبلة ) ).
للمزيد راجع الأمثل ج 5 ذيل الآية 175.

أمثال القرآن _ 213 _
  لماذا لم يُستجب لبعض أدعيتنا ؟ لماذا لم تتحقق وعود الله في مجال استجابة الدعاء؟ هل الاشكال من قبل الله ـ نعوذ بالله ـ أم الاشكال من قبل الداعين أنفسهم ؟
  إنَّ هذه الشبهات كان يطرحها الصحابة والمسلمون في زمن الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، وكان أهل الذكر ( الائمة ) يجيبون عليها في روايات وردت عنهم.
  مجموع الروايات السابقة وروايات اخرى جاءت في هذا المجال ( ولم تتضمن أسئلة ) تكشف عن أنّ هناك شروطاً لاستجابة الدعاء ، على الداعين توفيرها وتحصيلها ، كما عليهم إزالة الموانع والعقبات عن الاستجابة.
  وعلى هذا ، فإنَّ الإنسان إذا دعى من دون تحصيل الشروط ورفع العقبات والموانع ، ولم يستجب دعاؤه ، فما عليه أن يلوم إلاّ نفسه .
  إنَّ مَثَلَ الداعي من دون تحصيل الشروط ورفع الموانع مَثَلُ المريض الذي يذهب للطبيب للتداوي فيكتب الطبيب له نسخة تتضمن إرشاد المريض بحقن ابر في كل يومين مرة ، وبعد استلام المريض الدواء واستهلاكه وعدم الشفاء يرجع المريض للطبيب قائلا له بعصبية : ( أي طبيب أنت وأي دواء كتبت لي ؟! لم أشف منه أبداً ) فيسأله الطبيب : ( هل حقنت الابر في كل يومين مرة ؟ ) فيجيبه : ( لا بل في كل ثلاثة أيام ).
  ويسأله مرة اخرى هل : ( استخدمت المضادات الحيوية في كل ثمان ساعات ؟ ) فيجيبه المريض : ( كنت أبتلع في اليوم كبسولة واحدة) ويسأله مرة اخرى : ( امرتك بالاستراحة لمدة اربعة أيام هل استرحت فيها أم لا ؟ ) فيجيبه : ( وهل هذا أمر ممكن رغم ما نعانيه من غلاء في السلع والأغذية ؟ فاني رجعت للعمل في نفس اليوم ).
  فيهز الطبيب رأسه ويقول له : ( لا إشكال في الأدوية التي كتبتها لك ، والاشكال هو فيك من حيث إنَّك لم تعمل بما أمرتك به ، الامر الذي أدى بك أن لا تسترجع صحتك وعافيتك فلا تلم إلا نفسك ).
  كذا الحال لو أعطى متخصص زراعي بذوراً لفلاح وأمره بنثرها وزرعها والعناية بها بشكل خاص وسقيها في أوقات محددة ، والفلاح لم يعمل بوصايا المتخصص ، وكانت النتيجة هي عدم إثمار البذور ، فإنَّ المقصّر هنا هو الفلاح نفسه لا شخص آخر.
  اعزتي : أيها الصيام المحترمون ! إخواني وأخواتي الأعزة ! إن أدعيتنا مثل البذور فلا يكفي

أمثال القرآن _ 214 _
  نثرها على الأرض ، بل هي بحاجة إلى سقي وعناية خاصة واستخدام الأسمدة والسموم لمكافحة الآفات.
  إنّ ما تقرّه الروايات هو ضرورة توافر الظروف والشروط وارتفاع الموانع لأجل الاستجابة.
  لكن المؤسف هنا هو توقعنا الأجابة من دون توفير هذين الأمرين ، وذلك غير معقول.
  نشير هنا إلى بعض من شروط وموانع استجابة الدعاء :
  1 ـ عدم معرفة الله أهم مانع عن الإستجابة
  بعبارة اخرى : أَنَّ معرفة الله من الشروط الاساسية بل أهم شرط لاستجابة الدعاء.
  وهل يمكن الطلب مِمَّن لا يُعرف وممَّن نجهله ؟!
  في رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) سأله البعض عن سبب عدم استجابة الدعاء فأجابهم : ( لأنّكم تدعون من لا تعرفونه ) (1).
  وعليه ، فكما قلنا سابقاً : إنّ الدعاء يلقي بنور المعرفة في قلب الإنسان ، والمعرفة هي الأساس للدعاء ، أي أنّ لهذين آثاراً متبادلة.
  يقول الله في القرآن : ( إنَّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ ) (2) أي أنَّ المجتمع المصلي لا يتلوّث بالذنوب وكذا الأفراد ، لأنَّ الصلاة هي الضمان والأمان من الذنوب.
  مع ملاحظة الآية الشريفة السابقة ، لماذا نرى بعض المصلين يرتكبون الذنوب ؟ هل الاشكال ـ نعوذ بالله ـ من الآية نفسها أم من المصلي ذاته ؟ المصلي إذا ما كان عارفاً بالذي يصلي إليه ويسجد له ، فإنَّ صلاته سوف لا تكون تأميناً له من الذنوب ومانعاً له عن المعصية.
  إنَّ معرفة الله جوهرة ثمينة وهي شرط لكثير من العبادات ، بل هي شرط حتى للزيارات ، وذلك لأنَّ ثواب وآثار الزيارات تخص ذلك البعض الذي تقترن زيارته بمعرفة اللّه (3).

--------------------
(1) بحار الانوار 90 : 368.
(2) العنكبوت الآية 45.
(3) نجد نموذجاً من هذه الروايات في كتاب وسائل الشيعة ج 10 ابواب المزار ، الباب 82.

أمثال القرآن _ 215 _
  وعلى هذا ، فإنَّ الشرط الأوّل لاجابة الدعاء هو معرفة صفات جلال الله وجماله وأفعاله واسمائه الحسنى ، وعلى كل شخص أن يحوي هذه المعرفة قدر طاقته وامكانه.
  2 ـ النيّة الصادقة والقلب المخلص
  إنَّ الشرط الثاني لاجابة الدعاء هو النية الصادقة والطاهرة والقلب المخلص والعاري عن الرياء.
  وفي هذا المجال يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( إنّ العبد إذا دعا الله تبارك وتعالى بنيّة وقلب مخلص استجيب له بعد وفائه بعهد الله عزّوجلّ ) (1). إنَّ العمل بعهد الله والوفاء به ـ والذي هو صفاء القلب والاخلاص في النية ـ هو شرط قبول الدعاء.
  ينبغي الالتفات إلى كيفية تربية الدعاء للإنسان ، إنَّا نطرق باب الله لقضاء الحاجة وحلّ المشاكل ، إلاّ أنَّه علينا أن نعلم بعدم امكانية الاستجابة إلاّ بالاخلاص وصفاء القلب ، لذلك كان علينا السعي في التزكية وتهذيب النفس.
  3 ـ الاكل الحلال شرط مهم وصعب لاجابة الدعاء
  يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في رواية جميلة جداً ومنذرة كذلك : ( أطب كسبك تستجاب دعوتك ، فإنّ الرجل يرفع إلى فيه حراماً فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً ) (2).
  بعض الناس تلوثت أموالهم ومكاسبهم بالحرام وذلك بالتطفيف والربا وظلم الآخرين وعدم أداء الواجبات المالية ، رغم ذلك يتوقعون من الله الإجابة.
  المستفاد من الكلام الثمين لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هو أنَّ الدعاء عامل مهم في تربية الإنسان ويحضُّ الإنسان على رعاية الحلال والحرام.

--------------------
(1) مكارم الاخلاق 2 : 874.
(2) مكارم الاخلاق 2 :20.

أمثال القرآن _ 216 _
  من الإنصاف أن نقول : إنَّ رعاية الحلال والحرام له دور مهم في حياة الإنسان ، وأنَّ الناس إذا اهتموا بهذا الجانب من حياتهم لما تكدست الاضبارات والشكاوى في المحاكم.
  إذا راعى الناس الحلال والحرام ما كان مجتمعنا يضمُّ هذا المقدار من الفقراء.
  أسفاً أنّ البعض غافل عن هذا ويبرّر عمله بشكل أو آخر ويقول : أين الحلال والحرام؟ لا وجود للحلال لكي نراه.
  يقول أحد هؤلاء الذين يتمسكون بتبريرات هي هراء في الواقع : ( إنَّ الحلال الوحيد في الدنيا هو ماء المطر ويمكنك الاستفادة منه في وسط النهر فقط لأنه مكان نطمئن بعدم غصبه ، فعند هطول الامطار قف هناك وافتح فمك لتناول القطرات ، وهذا هو المقدار الوحيد المسلّم بحليته ).
  إن أُناساً مثل هذا يخادعون أنفسهم ( يُخَادِعُونَ اللهَ وَالّذينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) (1).
  وبعبارة اخرى : أنَّهم يغالطون أنفسهم ، وذلك لأنَّ حديثنا في الحلال والحرام الظاهريين ، وهم يتحدثون عن الحلال والحرام الواقعيين ، مع أنَّا مأمورون بالعمل حسب الظاهر لا الواقع.
  ألم يهيء أئمتنا مأكولاتهم ومشروباتهم من سوق المسلمين هذا ، وهم في الوقت ذاته يلتزمون بالظواهر ولا يحتاطون إلاّ في الاماكن المناسبة.
  مثلا كانوا يفيدون من الخبز واللحم اللذين لم تدفع زكاتهما ؟
  ومن المناسب لنا كذلك أن نعدّ مقدار استهلاكنا السنوي للخبز واللحم وندفع زكاته ، لأنّ الكثير من المزارعين والرعاة لا يدفعون زكوات أموالهم ونحن نفيد من محصولاتهم ومنتجاتهم ، وهذا مؤسف حقاً ، لأنه ابتلاء لنا.
  رغم أننا معذورون بسبب عدم العلم إلاّ أنَّ عدم الدفع سوف يترك أثره الوضعي.
  ولذلك كان عده ودفع زكاته أمراً مستحسناً ويسبب الطهارة القلبية والنزاهة الروحية.
  النتيجة هي أنَّ الأكل الحلال لا يؤثر في الدعاء فحسب ، بل في جميع عبادات الإنسان من

--------------------
(1) سورة البقرة : 9.

أمثال القرآن _ 217 _
  الصلاة والصوم والحج والزيارات الواجبة والمستحبة وأمثال ذلك.
  ومن ناحية أُخرى ، انّ الأكل الحرام لا يمنع عن استجابة الدعاء ، بل يؤثر سلباً على نشاط الإنسان ومعنوياته وعباداته وزياراته ويجره إلى الكسل عن قراءة القرآن واقامة الصلاة ، وهو في النهاية يحول دون الالتذاذ بهذه الأعمال.
  4 ـ حضور القلب
  الشرط الرابع لاستجابة الدُّعاء هو حضور القلب ، ومن الواضح أنَّه شرط ذات أهمية وقيمة ، لما جاء في رواية : سُئل النبي ( صلى الله عليه وآله ) عن اسم الله الأعظم ؟ فقال : ( كل اسم من اسماء الله أعظم ففرِّغ قلبك من كلِّ ما سواه وادعه بأي اسم شئت ) (1).
  من هنا يتضح أنَّ الأسم الأعظم ليس لفظاً خاصاً ـ كما يتصوره البعض ـ لكي يُنطق به وتحل به جميع المشاكل ، بل إنّه حالة وصفة خاصة ينبغي ايجادها في باطن الإنسان ، وهي عبارة عن تطهير القلب (2).
  القلب إذا كان مركزاً للأصنام ( صنم المال وصنم المقام وصنم الشهرة وصنم الزوجة والاولاد وما شابه ذلك ) فالدعاء إذا صدر فيصدر من معبد الأصنام هذا.
  ومن الواضح أنَّ دعاءً كهذا لا يستجاب.
  الخطوة الأولى للاستجابة هو الاقتداء بما فعله ابراهيم ( عليه السلام ) وعلي ( عليه السلام ) في كسرهما الأصنام ، فبذلك تطهر القلوب ، فهي آنذاك تصفى للواحد الأحد ، ثم ادعه بأي اسم شئت ، وسوف لا تكون النتيجة إلاّ الاستجابة.
  مع الالتفات إلى الشروط الاربعة الماضية نقول : هل نحن وفرّنا هذه الشروط ؟ هل كان طعامنا من حلال ؟ هل كان قلبنا خالياً من الأغيار ؟ هل كان الصفاء والاخلاص في النية هو الذي يحكمنا ؟ هل كنا نعرف الله ؟

--------------------
(1) بحار الانوار 90 : 322.
(2) للمزيد راجع ما ورد عن ( الاسم الاعظم ) في تفسير الامثل فقد تناثرت البحوث في هذا المجال في ثنايا الكتاب.

أمثال القرآن _ 218 _
  إذا كنا نفقد هذه الشروط علينا السعي في كسبها وبخاصة في شهر رمضان المبارك ، شهر الرحمة واللطف الالهي ، وهو شهر تستعدُّ فيه روح الإنسان لهذه الامور أكثر ، كما هو فرصة مناسبة للدعاء ...

استجابة بعض الأدعية ليست بمصلحة الإنسان !
  رغم أنَّا كُلّفنا بالدعاء ونأمل الاجابة ، لكن ينبغي الالتفات إلى أنَّ إجابة بعض الأدعية ليس بمصلحة الإنسان رغم أنَّه يراها بمصلحته وأنها توفر سعادته ، لكن الله يرى فيها الهلاك والشقاء لذلك لا يستجيب لها.
  قلنا في قصة ثعلبة الانصاري التي مضت في البحوث السابقة : إنَّ ما أراده وطلبه من الله لم يكن بمصلحته ، إلاّ أنَّه كان يصرّ على دعائه وطلبه ، وكانت نتيجة الاستجابة هي فقده الايمان وضلالته واعتراضه على بعض القوانين الإلهية.
  وهذه القصة تتضمن دروساً وعبراً عظيمة للجميع.
  قد يُقدم شاب على خطبة بنت ترفض الزواج منه ، فيدعو الله ويتوسل إليه كثيراً لكي يميل رأيها ويغيره نحوه ، رغم ذلك لا يستجاب دعاؤه ، فتضلّ في ذاكرته فترة طويلة من الزمن ، إلاّ أنّه يلتفت إلى مصلحة عدم استجابة الدعاء بعد ما يفهم أنَّ المرأة تلد اطفالا معتوهين مثلا.
  وعلى هذا ، ما علينا أنْ نقلق من عدم استجابة أدعيتنا ، وذلك لأنَّه يمكن أن تكون عدم الاستجابة بسبب عدم المصلحة.
  إضافة إلى هذا ، فإنَّ هناك روايات وردت عن المعصومين ( عليهم السلام ) حكت عن أنَّ الله يعطي العبد في الآخرة ما يعادل أدعيته غير المستجابة (1).

سؤالان مهمان عن الدعاء
  السؤال الأوّل : نجد فيما ورد عن أئمتنا أدعية لا تستجاب أبداً ، كما هو الحال في أدعية شهر

--------------------
(1) لقد وردت في هذا المجال روايات كثيرة حكت عن وجود أثر للدعاء حتى لو لم يستجب.
راجع ميزان الحكمة ، الباب 1209.

أمثال القرآن _ 219 _
  رمضان الذي تضمّن بعضها عبارة : ( اللهم اقضِ دين كلّ مدين ) مع أنَّا نعلم أنَّ هذا الدعاء لا يستجاب ، لأنَّه ما دامت الدنيا موجودة فهناك ديون للناس ، والحياة من دون هذه الديون حياة خيالية لا أكثر ، فما الهدف من هذه الأدعية ؟
  الجواب : إنَّ الديون على قسمين ، قسم نشهد ممارسته من قبل التجار والكسبة بأن يستلفوا السلع دون دفع ثمنها ، ويسددون الثمن بعد بيعها ، أو استلاف الموظفين والعمال السلف من أصحاب العمل ، وتسديدها تدريجياً من إيراداتهم الشهرية.
  والقسم الآخر هو الدين الذي لا تتوفر للإنسان أرضية دفعه ، رغم ذلك هو مجبور على استلافه ويعلم بعجزه عن الدفع.
  ويبدو أنَّ مراد الامام من الدين هو القسم الثاني لا الأول.
  القسم الثاني من الديون لا أنه يستحسن الدعاء فيه ويمكن تحقق الاجابة له ، بل إنَّه بناءً على ما أمر به الإسلام ينبغي تزامن الدعاء مع اجراءات عملية ، وذلك لأنَّ في المجتمع الإسلامي المتكامل ـ وهو مجتمع صاحب العصر والزمان (عج) ـ لا ينبغي وجود حتى جائع واحد أو عار واحد أو فقير واحد ، لذلك نقرأ في الدعاء : ( اللهم أشبع كلَّ جائع ، اللهمَّ اكسُ كلَّ عُريان ، اللهم أغن كلّ فقير ).
  إنَّ شاهد هذا الحديث هو رواية وردت عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إنَّ الله عزّوجلّ فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم ) (1).
  ومضمون الرواية السابقة وغيرها هو أنَّ الناس لو دفعوا ما عليهم من واجبات مالية لما بقي جائع ولا فقير ولا عاري في المجتمع ، وإذا وجدت هذه الشرائح فبسبب عصيان الاغنياء ومنعهم الفقراء عن حقهم.
  إنَّ مجتمع صاحب الزمان يخلو من الفقر والجوع والدين ... والدعاء لرفع هذه المشاكل لا تبعد إجابته.
  السؤال الثاني : من الاعمال ذات الفضيلة الوافرة في ليلة القدر هي وضع القرآن على

--------------------
(1) وسائل الشيعة ابواب الزكاة ، الباب 1 ، الحديث 2 و 3 و 6 و 9.

أمثال القرآن _ 220 _
  الرأس ، رغم أنَّ القرآن كوصفة الطبيب ( وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمُؤمِنِيْنَ ) ، ولكنها وصفة لا تنفع إلاّ بعد العمل بها ، فما جدوى وضع القرآن على الرأس عند الدعاء في تلك الليلة ؟
  الجواب : القرآن ذات جانبين ووصفة الطبيب ذات جانب واحد.
  فإنَّ القرآن هو كلام الله من جهة ، وهو ذات الفاظ بذاتها مقدسة من جهة أُخرى.
  ولذلك يعتقد المسلمون بلزوم الوضوء إذا أرادوا لمسه ، ومن جهة أخرى ، مضمونه مقدس ، لذلك عدّ القرآن ( الثقل الأكبر ) وأهل البيت ( عليهم السلام ) ( الثقل الأصغر ) ، ولهذا لا يصح قياس وصفة الطبيب على القرآن.
  بالطبع ، انَّ هذا العمل ( وضع القرآن على الرأس ) يحمل في طياته رسالات خاصة ، فهو يعلمنا لزوم عدم وضع القرآن تحت الأيدي والارجل ( من حيث الظاهر ) ، ومن حيث المحتوى والمضون فهو يعلمنا اعتبار القرآن على رأس قائمة الاعمال والنشاطات ، وعلى العمل بقوانينه بشكل متواصل ، وعدم نسيان أحكامه.

أمثال القرآن _ 221 _
المثل الحادي والعشرون : الحق والباطل
  من أجمل امثال القرآن هو مثل الحق والباطل ، يقول الله تعالى في بيان هذا المثل ذات المغزى العميق في الآية 17 من سورة الرعد : ( أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدَاً رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَة أوْ مَتَاع زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الحقَّ والبَاطِلُ فأمَّا الزَّبَدُ فيَذهَبُ جُفَاءً وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ ).

تصوير البحث
  إنَّ الحديث في هذا المثل عن الحقّ والباطل وسعتهما ومجاليهما وعلائمهما وآثارهما وتعريفهما ، وفي النهاية المواجهة الطويلة والمتواصلة بينهما التي كانت على طول التاريخ.

الشرح والتفسير
  ( أنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فسالَتْ أوْدِيةٌ بِقَدَرِهَا ) إنَّ نتيجة هطول الامطار على الجبال ونزوله منها هو تجمع المياه في الاودية حسب حجمها ، وجريانه وصيرورته أنهاراً صغاراً ، وإذا التقت صنعت نهراً كبيراً ، واذا تجاوز الماء سعة النهر تبدّل إلى سيول عظيمة ومخرّبة.
  ( فاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً ) هذه الانهار كثيراً ما يحصل فيها أمواج تضرب الاحجار والموانع التي تقع في طريقها ، وهذه العملية توجد زبداً في الماء يشبه الزبد الذي يوجده

أمثال القرآن _ 222 _
  مسحوق الغسيل ، يتجمّع على سطح النهر يبدو ساكناً ، أمّا النهر فيستمر في حركته تحت الزبد.
  ( ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِليَة أو مَتَاع زَبَدٌ مِثْلُهُ ) هذا الزبد الاجوف والمتكبّر لا يختص بالماء بل قد يحصل للفلزات عند الصهر والذوبان مثل الحديد والنحاس وغيرهما.
  ما يلفت النظر هنا هو أنَّ عبارة ( مِمَّا يُوْقِدُونَ عَلَيْهِ ) أشارت بظاهرها إلى أنَّ النار تُسلّط من الفوق على هذه المعادن رغم أنَّ النار في السابق كانت توقد على الفلزات من تحت أمّا حالياً فمعامل الصهر المتطوّرة تسلّط النار من فوق ومن تحت أي لم تستغن عن تسليط النار على الفلز من الاعلى ، وهو أمر أشار له القرآن منذ ذلك الحين.
  ( كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ والبَاطِلَ ) أي أنَّ الله لأجل إيضاح المواجهة بين الحق والباطل والتي يمتد عمرها إلى طول التاريخ يضرب هذا المثل ، فيشبّه الحق بالماء والباطل بالزبد الأجوف.
  ( فأمّا الزّبدُ فيَذْهَبُ جُفَاءً ) فإنَّ الزبد ، رغم تفوقه على الماء ورغم علوه عليه ، يذهب جفاء وكأنَّه لا شيء.
  إنّ الأمواج التي توجدها السيول هي السبب في ايجاد هذا الزبد ، وبمجرد أن تصل المياه المتلاطمة إلى سهول تصبح آسنة وسرعان ما يذهب الزبد وتترسب الاوساخ العالقة في الماء ولا يبقى إلاَّ الماء الخالص ، ذلك لأنّ عمر الباطل قصير ، والهلاك هو نهايته.
  ( وأمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ ) فالذي يبقى هو ما ينفع الناس من الماء الصافي والفلزات الخالصة.
  فالماء ، إمَّا أن يركد في مكان يستخدم للشرب والسقي وإمَّا أن ينفذ في الأرض ليلتحق بالمياه الجوفية ذخراً للمستقبل ، يستخدم بعد ما يخرج كعيون تلقائياً أو من خلال حفر الآبار.
  ( كَذَلك يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ ) أي يبيّن الله هذه الأمور للناس في صورة أمثال لكي تدرك بشكل أفضل.

خطابات الآية
  لقد تناولت الآية قضايا دقيقة جداً ممّا يتعلّق بالحق والباطل باقتضاب ، نقوم هنا بتفصيل هذه القضايا وبيانها.

أمثال القرآن _ 223 _
  1 ـ تعريف الحق والباطل
  على أساس هذه الآية ، فإنَّ الحق يعني الحقائق والواقعيات ، وأما الباطل فيعني الاوهام والخيالات التي لا أساس لها.
  إنَّ الماء واقع وحقيقةً ، يتطابق ظاهره مع باطنه ، وله آثار واقعية.
  أمّا الزبد فله ظاهر خادع من دون أن يكون له باطن ، كما هو الحال في الخيالات والاوهام.
  لقد جاء في الآيتين 117 و 118 من سورة الاعراف في بيان قصة موسى ( عليه السلام ) مع السحرة كما يلي : ( وأوْحَيْنَا إلى مُوْسَى أنْ ألقِ عَصَاكَ فإذا هِيَ تَلْقَفُ ما تَأفِكُونَ فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
  إنّ الحق هو معجزة النبيّ موسى ( عليه السلام ) ، والباطل هو سحر السحرة ، فالمعجزة حقيقة وواقع ، لأنَّ عصا موسى(عليه السلام) تبدلت واقعاً إلى أفعى ولم تكن الحادثة تلك شعوذة ـ نعوذ بالله ـ أمّا أفاعي السحرة فكانت شعوذة خالصة ولم تكن واقعاً ، بل إفكاً ، كما يعبر عنها القرآن.
  إنَّ السحرة كانوا قد أعدوا عصياً وحبالا ملؤوها بالزئبق ، ووضعوها جميعاً في مكان ما ، وكان الناس وفرعون والسحرة وكذا موسى ( عليه السلام ) جالسين يشاهدون ما يحصل.
  عندما سطعت الشمس على هذه الحبال والعصي ارتفعت درجة حرارة الزئبق ، الأمر الذي جعل الحبال والعصي تتحرك وتلتوي على بعضها البعض بحيث تبدوا كانها أفاعي ، ولكنَّها في الواقع خيال لا أكثر.
  2 ـ علائم الحق والباطل
  مما يستفاد من الآية هو أنَّ علامة الحق كونه مفيداً للناس ، وعلامة الباطل كونه مضراً لهم ، فالماء مفيد وله تأثير ، والزبد مضر ولا فائدة تتوخى منه ، وذلك لأن الزبد لا يروي ضمأ العطشان ولا يسقي الزرع ولا يُنميه ولا يولّد شيئاً من الطاقة ، ولا يُشغّل طاحونة أو دولاباً.
  ومن العلائم الاخرى للحق والباطل هو كون الحق خاضعاً ومتواضعاً ، أما الباطل فمتكبر.
  فالحق هو الماء المتواضع تحت الزبد ، وأما الباطل فهو الزبد العالي والمتكبّر.
  العلامة الثالثة للحق والباطل هو أنَّ الباطل ضوضائي ، أما الحق فهاديء وساكن ، فالماء

أمثال القرآن _ 224 _
  هادئ وساكن ، أمّا الزبد فصارخ وصاخب ، ولا يمكنه العيش دون هذا الضوضاء والصراخ والصخب.
  3 ـ سعة الحق والباطل
  إنَّ سعة الحق والباطل بسعة مفاهيم الحياة.
  فالحق والباطل لا ينحصران في جانب من الحياة ، بل يعمان جميع شؤونها ويشملانها ، من السياسة والثقافة والصحافة وغير ذلك.
  وبعبارة اخرى : يشمل جميع الجوانب المادية والمعنوية للحياة.
  وهذا المعنى يستفاد من القرآن المجيد ومن آية المثل ذاتها ، فكما أنَّ الزبد لا يختص بالماء كذلك الباطل لا يختص في شيء ما.
  4 ـ عاقبة المواجهة بين الحق والباطل
  في هذه المواجهة يبقى الحق ويزهق الباطل ويمحق ، إلاّ أنَّ انتصار الحق على شكلين مؤقت وزمني وآخر نهائي.
  إن أنصار الحقّ إذا استقاموا ولم ينحرفوا فسينتصرون في أزمنة مختلفة ما داموا مستقيمين غير منحرفين ، أمّا النصر النهائي فلا يحصل إلاّ بظهور صاحب العصر والزمان بقية الله الأعظم ( عجل الله تعالى فرجه ) ، وحينئذ سيتغير وجه الدنيا وستحكم الدنيا حكومة عالمية حقة.
  من الآيات التي فسرت في الحجة بن الحسن العسكري ( عليه السلام ) هي هذه الآية ، حيث فسِّر الماء في المثل بوجود الحجة المبارك ، والزبد بالظلم والجور والانتهاز والاستعمار فانها ستزول يوماً ما.
  5 ـ المواجهة بين الحق والباطل دائمة
  كما أشرنا سابقاً ، فإنَّ المواجهة بين الحق والباطل بدأت منذ بداية الخلق ، والعصور جميعها ضمت هذين الظاهرتين ، وستضم العصور المقبلة هذين الظاهرتين وستستمر هذه المواجهة

أمثال القرآن _ 225 _
  حتى النهاية.
  لقد كان لكل نبي شيطان ، (1) فقبال آدم ( عليه السلام ) كان ابليس ، وقبال الأنبياء الآخرين شياطين اخرون ، كما تكشف الآية التالية عن هذا الأمر : ( وَكَذَلك جَعَلْنَا لُكِلِّ نبىّ عَدُّواً شَيَاطِينَ الأنْسِ والجِنِ ) (2).
  المستفاد من الآية الشريفة هو أنَّ الشيطان ليس شيئاً خفياً دائماً ، بل قد يكون من الناس أنفسهم ، وقد يكون هذا هو سبب تقديم الآية شياطين الانس على الجنّ.
  وعلى هذا ، فإنَّ المواجهة بين الحق والباطل لا زالت مستمرة حتى استقرار حكومة الحق وبسط سيطرتها على بقاع الأرض جميعاً ، وتتحقق الآية الشريفة التالية : ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوْقاً ) (3) في ظل ظهور المهدي ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) ، والمواجهة قبل ذلك متواصلة.
  6 ـ كيفية تبلور الباطل
  كيف نشأ الباطل وتبلور ؟ هل الله تعالى هو الذي خلق بعض الموجودات الباطلة رغم أنَّه حق بل ابرز وأرفع حق ؟
  إنَّ الباطل موجود عدمي وهو وهم وخيال قد تلبّس ثوب الحق ، مثل الزبد الأجوف ، ذات الظاهر الخلاب والخادع.
  الجميل هنا هو أنَّ الباطل اذا عمل على إبطال نفسه فذلك ببركة الحق.
  إنَّ المزيفين ـ الذين يعتمدون الزيف كمهنة لهم ـ إذا لم يتقمّصوا قمصان ذوي الشأن والاعتبار سوف لا يتوفقون في عملهم الباطل هذا ، كذلك الكذّابين فإنَّهم إذا لم يتمسكوا بالحق ولم يتظاهروا بالصدق لما صدّقهم أحد.
  والمنافق إذا لم يرتدِ ثوب الإنسان الصالح ، والعدو إذا لم يتقمص قميص الصديق

--------------------
(1) للشيطان معنيان .
الف : هو من مادة (شطن) وتعني (بعد) ، ولذلك كان (بئر شطون) يعني بئراً عميقاً ، فالشيطان حسب هذا التفسير موجود بعيد عن رحمة الله.
ب : قد يكون من مادة (شاط) ويعني (احترق) و (هلك) ، وعلى هذا الشيطان يعني الموجود الذي يهلك ويحترق هو وأتباعه.
(2) الأنعام : 112.
(3) الاسراء : 81.

أمثال القرآن _ 226 _
  والزبد إذا لم يطفو على الماء ، وبالجملة مالم يجتمع الباطل بمختلف مصاديقه إلى جنب الحق فلا تكون هناك مواجهة.
  وعليه فالباطل عدمي ووجوده يتوقف على الحق.
  أمّا الحق ، فأمر وجودي وهو مصدر البركات والمنافع وذا آثار كثيرة للإنسان.

الحق والباطل من وجهة نظر الآيات والروايات
  بما أنَّ أهم بحث في حياة الإنسان هو قضية ( الحق والباطل ) ، وهي تحضى بموقع خاص عند جميع البشر بمختلف توجهاتهم الفكرية ، لذلك كان من المناسب دراسة هذه القضية من وجهة نظر الآيات والروايات : لقد تحدث القرآن عن الحق والباطل بمقدار كثير ، وتكررت مفردة الحق 244 مرة ، مع أنَّ مفردة الباطل تكررت 26 مرة فقط.
  وهذه النسبة تكشف عن أنَّ القرآن المجيد ذاته من مصاديق الحق.

  ما هي مصاديق الحق ؟   لقد ذكر في القرآن مصاديق مختلفة للحق نشير إلى بعض منها هنا :
  1 ـ أبرز وأرفع مصداق للحق هو ذات الله القدسية ، وهي في الحقيقة جامعة لجميع مصاديق الحق ، وهي عين الواقع والوجود المطلق.
  من هنا صرّح الله في الآية الكريمة 62 من سورة الأنعام ما يلي : ( ثُمّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلَيهُم الحَقِّ ألا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الحَاسِبِيْنَ ) فعلى أساس هذه الآية ، إنَّ الله الذي لا مثيل له هو الحقّ.
  2 ـ النموذج الآخر وهو من أبرز مصاديق الحقّ عبارة عن خلق السموات والأرض أو الكون أجمع.
  تقول الآية الشريفة 22 من سورة الجاثية : ( وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ بالحَقِّ ).
  3 ـ المصداق الثالث للحق هو القرآن نفسه ، وذلك لأن الآية 48 من سورة المائدة عند بيانها لهذا المطلب تقول : ( وأنْزَلْنَا إليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ ).

أمثال القرآن _ 227 _
  4 ـ الدين المبين والمنقذ للبشرية ، أي الإسلام ، وهو مصداق واضح آخر من مصاديق الحق. لذلك يقول الله تعالى في الآية 28 من سورة الفتح : ( هُوَ الّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِيْنَ الحَقِّ ليُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ ) (1).
  وخلاصةً ، كل وجود هو منبع لخير البشر وسعادتهم يُعدّ حقاً ، لذلك كان الله الحق المطلق ، لأنَّه منبع جميع البركات والسعادات ، كما أن السماوات والأرض والقرآن المجيد ودين الإسلام والتوحيد ، باعتبارها جميعاً منشأ للهداية والبركة ، عدّت حقاً.
  وكل شيء هو منبع ومصدر للشقاء فهو باطل ، مثل الشيطان والأصنام وعبادتهما والرياء والتظاهر والنفاق وامثال ذلك.

جولة الباطل ودولة الحق
  المستفاد من الروايات هو أنَّ الباطل قد يكون له جولة وصراخ وصخب إلاّ أنَّ عمره مهما كان فهو قصير ومؤقّت : ( للباطل جولةٌ وللحقّ دولة ) (2) والدولة هي الثبات والبقاء والخلود ، والجولة هي النفاق والخداع المؤقت.

كن مع الحق دائماً
  حسب ما ورد في الروايات الإسلامية ، على المسلم في كل حال أن يكون مع الحقّ والحقيقة.
  إذا أردت التسلّح بسلاح النصر أمام الأعداء ، فعليك التمسك بسيف الحقّ الصارم ، كما قال الإمام علي ( عليه السلام ) : ( الحق سيف قاطع ) (3).
  إذا أردت أن تكون من أهل النجاة في مقام العمل ، وأن تكون صاحب حجة وبرهان في مقام الكلام ، فعليك بالتوجّه نحو الحقّ ، كما يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : ( الحقّ منجاة لكل عامل

--------------------
(1) وقد تكررت الآية ذاتها في سورة الصف الآية 9.
(2) غرر الحكم : 68 و71 ، طبع مركز البحث والتحقيق للعلوم الإسلامية.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 885 ، الحديث 4082.

أمثال القرآن _ 228 _
  وحجّة لكلِّ قايل ) (1).
  إذا أردت من الاخرين قبول كلامك ، واذا ابتغيت النصر ، فقل الحقّ والتزمه.
  وإذا أردت مركبا هادئاً يوصلك إلى غايتك فكن مع الحقّ.
  يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : ( ألا وإنّ الحق مطايا ذلل ، ركبها أهلها ، وأعطوا أزّمتها ، فسارت بهم الهوينا حتى أتت ظلاًّ ظليلا ) (2).

الحق مرُّ والباطل حلوٌ
  تقترن مع الحق والدفاع عنه مشاكل ، وذلك لأنّه مرُّ والباطل حلو.
  إنَّ مرارة الحقّ كمرارة الدواء الذي فيه شفاء ، وحلاوة الباطل كحلاوة السم القاتل ، لذلك قال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( الحق ثقيل مرٌّ ، والباطل خفيف حلوٌ ، ورُبَّ شهوة ساعة تورث حزناً طويلا ) (3).
  نعم ، انَّ الحقّ ثقيل ومرّ ، لأنَّه لا يكون في صالح الإنسان دائماً بل قد يضره ، وقد يكون عكس ما تروق له النفس والشهوات الإنسانية ، وقد يتزامن مع لوم الاخرين وعتابهم ومع مشاكل جمّة يثقل على الإنسان تحّملها ، أما الباطل فخفيف وحلو ، لكنه كالسم القاتل ، لذلك قد يؤدي إلى ندم يرافق الإنسان حتى موته ، كما لو ارتكب الإنسان ذنباً لم يستغرق فترة طويلة ، لكن عقابه الحبس المؤبد ، فذلك يعني كفارة ساعة من الذنب عمر في الحبس والسجن.

الباطل يتقمّص قميص الحق دائماً
  المهم هنا هو أنّ الباطل لا يظهر بثوبه الحقيقي دائماً ، وذلك لأنَّ اتضاح واقعه يعني عدم تمكّنه من الخداع ، بل إنّه يظهر بمظهر الحق لكي يغرَّ ويخدع الكثير.
  يقول الإمام علي ( عليه السلام ) في هذا المجال في الخطبة رقم خمسين من نهج البلاغة : ( يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهناك يستولي الشيطان على أوليائه ).

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 885 ، الحديث 4084.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 885 ، الحديث 4089.
(3) ميزان الحكمة ، الباب 888 ، الحديث 4100 ، وقد جاءت روايات أُخرى في نفس الباب تضمنت المعنى ذاته.

أمثال القرآن _ 229 _
  أي بما أنَّه لا زبون للباطل المحض ، لذلك يمزجه أتباعه مع شيء من الحق ليبدو وكأنه حقّ ، فعندئذ يأتي دور الشيطان ليستولي على أوليائه وأصحابه.
  لذلك علينا أن لا ننخدع بالظاهر ، إذا أردنا شراء كتاب مثلا فما علينا أن ننخدع بغلافه الجميل أو يغرّنا عنوانه الخلاّب وشعاراته ، وذلك لأنّ أهل الباطل قد يستخدمون هذه الخدع لترويج سمومهم وأباطيلهم.
  وهذا الأمر نفسه صادق بالنسبة للافلام والمسرحيات والجرائد والمجلات والاساتذة والمعلمين والجيران والأحزاب و ... إنَّ أهل المعرفة والبصيرة هم الذين يميزون الباطل عن الحقّ ، وذلك لما أعطاهم الله من ( فرقان ) منحةً لتقواهم.

علي ( عليه السلام ) محور الحقّ
  هناك الكثير من المطالب المدونة عن فضائل الإمام علي ( عليه السلام ) وشخصيته وردت في كتب السنة والشيعة ، ومن جملة ما اتفق الفريقان على نقله هو الحديث العجيب واللطيف القائل : ( علي مع الحقّ والحقّ معه وعلى لسانه ، والحقّ يدور حيثما دار عليّ ) (1) وهو حديث منقول عن الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله ).
  إنّ هذا الحديث مقياس معتبر لتمييز الحقّ عن الباطل ، ولذلك أفادت بعض الروايات أنَّ المسلمين في صدر الإسلام عندما يتشابه عليهم المسلمون والمنافقون والمتظاهرون بالإسلام ويصعب تمييز ذلك ، أفادوا من هذا المقياس واعتبروا المسلمين هم المحبون لعلي وأتباعه ، المنافقون هم الذين يكنّون العداء والبغض له (2).
  إنَّ الشيعة تفتخر بأن لها زعيماً عظيماً ومحقاً ما كان يمنعه شيء عن احقاق الحقوق ، ما كان يتحمل الانحراف عن جادة الحقّ ولو كان صادراً من صحابي أو أحد أقربائه ، وكان يأمر بالجبران بمجرد حصوله.

--------------------
(1) بحار الانوار 38 : 82 ، الملفت هنا هو أنَّ مضمون هذه الرواية عنوان لباب مفصّل ، والرواية الواردة هنا نموذج من روايات ذلك الباب.
(2) لقد جاء حديث بهذا المضمون في ميزان الحكمة الباب 3932 ، الحديث 20292.

أمثال القرآن _ 230 _
  من جملة مصاديق هذا الكلام هو قصة قنبر غلام علي الوفي وعضده التنفيذي في حكومته ، لقد أُمر هذا الغلام بإِجراء حدِّ الجلد ، إلاّ أنه أخطا في التنفيذ وزاد على الحدّ ثلاث جلدات على المجرم ، فأمر هذا القائد المحق قنبر أن يعدّ نفسه لأجل اقتصاص المجرم منه (1).
  ونقرأ في قضية عقيل أنه ما وافق منحه شيئاً زائداً على ما منحه للمسلمين ، بل أحمى حديدة وقرّبها من يد عقيل ، فصاح عقيل من شدّة الحرارة (2).

--------------------
(1) وسائل الشيعة ج81 ، أبواب مقدمات الحدود ، الباب 3 ، الحديث3.
(2) تقدم بيان هذه القصة في البحوث السابقة.


أمثال القرآن _ 231 _
المثل الثاني والعشرون : التقوى جواز دخول الجنة
  يقول الله تعالى في الآية 35 من سورة الرعد : ( مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقوا وعُقبى الكَافِرِيْنَ النَّارُ ).

تصوير البحث
  الآية السابقة ، رغم بساطة ظاهرها ، تعدّ من أعقد الأمثال القرآنية ، إنها بتّت بتشبيه الجنة ـ التي هي مأوى المتقين ـ وذكرت لها ثلاث خصال.

الشرح والتفسير
  إنَّ التشبيه المستخدم في الآية يبدو تشبيهاً بسيطاً ، إلاّ أنَّه في الواقع ـ كما قلنا سابقاً ـ من أعقد التشابيه المستخدمة في القرآن المجيد.
  يعتقد المفسّرون أنَّ في الآية شيئاً محذوفاً ، وهو جملة يجب تقديرها إمَّا في بداية الآية لكي تتلقى الآية خبراً للمبتدأ المحذوف ، أو أن نقول بأنَّ صدر الآية مبتدأ ، وخبرها محذوف.
  نعتقد نحن أنَّ خبر الآية محذوف ، ولأجل اتضاح الأمر نقدّم مقدمة :

المراحل الأربع قبل الولادة
  إن الإنسان يجتاز أربع مراحل ليكتمل ويكون إنساناً.

أمثال القرآن _ 232 _
  في البداية يكون الإنسان عبارة عن تراب تنمو فيه نبتة أو شجرة ، فيصبح هذا التراب جزءاً من النبات ، يأكل حيوان ما هذا النبات ليصبح جزاءاً من بدنه ، يتناول الإنسان لحم هذا الحيوان فيصبح لحم الحيوان هذا جزءاً من بدن الإنسان.
  يمكن بيان المراحل الأربع هذه بشكل آخر بأن نقول : إن الإنسان كان تراباً في يوم من الإيام ( المرحلة الأولى ) ومن الطبيعي أن الإنسان لا يمكنه تناول التراب مباشرة بل ما تبدّل منه إلى نبات أو حيوان ( المرحلة الثانية ) في ( المرحلة الثالثة ) يتبدل النبات أو الحيوان إلى نطفة إنسانية.
  الجنين في مراحله الأولى ينمو نمواً نباتياً ، لأنه يفقد الحس والحركة ، فهو ينمو فقط ، وبعد الشهر الرابع حيث يكون قادراً على الحركة والحس ، و عندها تبدأ ( المرحلة الرابعة ) ، وهي تستمر حتى تعلّق الروح بالجنين.
  إنّ لهذه المراحل الأربع عجائب كثيرة ، والمرحلة الجنينية من أعجبها.

عجائب من عالم الجنين
  استطاع العلماء اليوم إعداد صور حيّة عن الجنين ، وصنع فيلم مدّته نصف ساعة يصوّر المراحل الجنينية جميعها ، وهذا الفيلم بمثابة هدية عجيبة قدّمت للإنسانية في عصرنا الحالي.
  كيف استطاع الله خلق هذه العجائب كلها ؟ نلفت انتباهكم إلى نموذجين من هذه العجائب.
  1 ـ نطفة الإنسان تبدأ من خلية واحدة ، ثم تنتصف هذه الخلية لتصبح اثنين ، وكلٌّ من هذين الخليتين ينتصفان كذلك لتصبح الخلايا أربعاً ، ويستمر الانقسام هكذا بشكل تصاعدي.
  إنّ هذا التكاثر في الخلايا يستمر حتى تتكون خلايا متشابهة بالكامل وتنقسم حيندئذ إلى مجاميع.
  بعض منها يتكفل بخلق رأس الإنسان وبعض يؤمر بخلق العين أو اليد أو الرجل أو غير ذلك.
  إنَّ هذه الخلايا جميعاً متشابهة لكن كيف حصل أن تخصصت البعض في صنع اليد والبعض الآخر بصنع الرجل ؟ من أمر هذه الخلايا بالصنع المختلف رغم التشابه الموجود فيها ؟ كيف تلهم هذه الخلايا ؟ ومن الذي ألهمها هذه القابلية ؟! لم يستطع أحد الكشف عن هذه الأسرار بعد.

أمثال القرآن _ 233 _
  2 ـ إنَّ الجنين في بطن أمه يسبح في كيس خاص مليء بسائل غليظ وزنه يعادل وزن الطفل تقريباً.
  وعلى هذا ، فالجنين لا يضغط بشكل مباشر على جسم الأم ، كما أنَّ الأُم لا تحمّل الطفل ضغطاً مباشراً.
  يا ترى ما يحدث لو لم يكن ذلك الكيس ؟
  كيف يمكن للجنين أن يحافظ على نفسه ويستمر في حياته رغم ظرافته ونعومته ورغم ما يتعّرض له من ضربات تنشأ عن الجلسة الخاصة للأُم أو نومها في اتجاهات مختلفة ؟
  أعدَّ الله العالم القادر محيطاً وبيئة للجنين تشبه حالة الإنسان عند فقدان الجاذبية ، بحيث لا يتأثر بالضغط إذا تعرض له مهما كان اتجاهه ، ولهذا عندما يلد يشعر بالوزن ، الأمر الذي يحرّضه على الصراخ والصياح.
  إنَّ كيس السائل هو أفضل مكان للجنين.
  فإنَّ هذا الكيس يصدّ الضربات من أي اتجاه وردت ، كما أنَّه يعدّل درجة الحرارة ، بحيث إنَّ الام اذا تعرّضت للحرارة الشديدة أو البرودة الشديدة سوف لا تنتقل هذه الحرارة أو البرودة إلى الجنين مباشرة ، بل ينتقلان إلى الجنين بعد مرورهما بالسائل الموجودة في الكيس ودور السائل هنا هو تعديل درجة الحرارة ونقلها بعد ذلك لجسم الجنين.
  وعلى هذا الأساس ، يقول الله في الآية السادسة من سورة الزمر : ( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وأنْزَلَ لَكُم مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أزْوَاج يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْق فِي ظُلُمَات ثَلاث ذلِكُم اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لاَ إلهَ إلاّ هُوَ فأنَّى تُصْرَفُونَ ) (1).

مراحل كمال الإنسان الأربع
  لاجل بلوغ الكمال ، على الإنسان أن يطوي أربع مراحل أو عوالم :
  1 ـ عالم رحم الاُم.
  2 ـ عالم الدنيا.
  3 ـ عالم البرزخ.
  4 ـ عالم القيامة.
  والمدهش هنا أنَّ الإنسان يجتاز كل مرحلة ، وهو لا يعلم بالضبط بما تضمّ وتؤول إليه المرحلة اللاحقة.
  إنَّ الطفل في رحم الام لا يمكنه تصوّر مفاهيم الدنيا ، حتى لو كان له عقل

--------------------
(1) وقد أشارت الآية 14 من سورة المؤمنون إلى نفس المضمون.

أمثال القرآن _ 234 _
  وذكاء كذكاء وفهم ابو علي ابن سيناء ، وحتى لو استطاع أن يتواصل مع امه لتحكي له عن القمر والشمس والليل والنهار والنجوم والاشجار والأزهار والنباتات ، وقد استطاعت أن تبيّن له هذه الأمور بأفصح بيان وأبلغه ، رغم ذلك فهو سوف لا يفهم شيئاً.
  إنَّ مثلنا نحن بالنسبة إلى البرزخ كمثل هذا الطفل بالنسبة إلى الحياة الدنيا ، نحن سمعنا بوجود عالم باسم البرزخ قطعاً ، لكن ما هي الف باء تلك الحياة ؟ ما معنى أنّ الشهداء هناك أحياء ؟ كيف أنهم يرزقون في ذلك العالم ؟ كيف يعذّب الله الروح أو ينعم عليها ؟
  نحن لا ندرك أياً من هذه الامور.
  إنّ بعض اولياء الله استطاع أن يتصل بعالم البرزخ فسأل أهل البرزخ عن ذلك العالم فأجابوه لا يمكننا وصف هذا العالم بالألفاظ والمفاهيم التي تدركونها انتم في الحياة الدنيا.
  إنّ مثل مفاهيم البرزخ وألفاظ الدنيا كمثل المصفاة والماء ، وهل يتوقف الماء في المصفاة ؟!
  إنَّ موقف البرزخيين تجاه مفاهيم القيامة كموقفنا تجاه البرزخ لا يمكنهم استيعاب نعم الجنة ، كما لا يمكنهم استيعاب أنواع العذاب في جهنّم.
  وعلى هذا الأساس ، تقول الآية الشريفة 17 من سورة السجدة : ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).
  إذا أخذنا مفردة ( نفس ) باطلاقها كانت شاملة للأنبياء والائمة ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وذلك يعني هؤلاء أيضاً لا يعلمون ما أُعدَّ للمؤمنين من نعم في الجنة.
  جاء في حديث قدسي ما يلي : ( عددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) (1).
  أي أنَّها نعم لم ترَ في المنام ولا في اليقظة ولا في عالم الخيال ولا التصور ، وذلك لأنّ عالم القيامة لا يمكن استيعابه.
  وعلى هذا ، فمن جهة أنَّ مفاهيم عالم القيامة مفاهيم لا يمكن استيعابها وإدراكها ، ومن جهة أخرى ينبغي بيان نعم الجنة وعذاب الآخرة بشكل يسوق البشر نحو الأعمال الحسنة ويبعدهم عن الأعمال السيئة.

--------------------
(1) ميزان الحكمة ، الباب 546 ، الحديث 2529.