المثل السادس عشر : العالم المنحرف
  يقول الله تعالى في الآيات 175 و 176 و 177 من سورة الأعراف في مثله السادس عشر : ( واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذي آتَيْنَاهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ مِنْهَا فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلَدَ إلى الأرْضِ واتَّبَع هويَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلك مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا فاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ ).

تصوير البحث
  الحديث في الآيات الثلاث عن العالم الذي كان في الطريق الصواب والصحيح وبلغ في هذا الطريق مقامات رفيعة ، إلاّ أنّه تدريجياً انحرف وطُرد من الساحة الربانية ، فيشبّه الله هذا العالم بالكلب ليعتبر الآخرين منه.

شأن نزول الآية
  هناك بحث وخلاف بين المفسرين حول المراد من هذا العالم الذي تحدثت عنه الآية.
  وأكثر المفسرين يعتقد أنَّه ( بلعم بن باعورا ) فهو من علماء بني اسرائيل وقد نال بعبادته مقامات عليا إلى مستوى انه حصل على اسم الله الأعظم ، وأصبح مستجاب الدعوة.
  وعندما بعث موسى ( على نبينا وآله وعليه السلام ) نبيّاً ونال هذا المقام الشامخ ، كانت بعثته قد اثارت حسد بلعم ،

أمثال القرآن _ 170 _

  وقد كان الحسد يزداد كل يوم ، ويأكل حسناته شيئاً فشيئاً ، كما أنَّ هذا الحسد من جهة ، وحب الدنيا من جهة اخرى بلغا به إلى مستوى أن لجأ إلى فرعون وبلاطه ليصبح من وعّاظ السلاطين.
  ففقد بذلك كل افتخاراته وكانت عاقبته السوء ، فبيّن القرآن قصة هذا العالم المنحرف ليكون عبرة للآخرين.
  يعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم في الآيات هو ( أمية بن الصلت ) فهو من الشعراء المعروفين في عهد الجاهلية ، أسلم في البداية ، لكنه بعد ذلك شاكس وخالف ، حسداً للرسول ومقام نبوّته.
  ويعتقد مفسرون آخرون أنَّ العالم هنا هو ( أبو عامر النصراني ) فقد كان راهباً مسيحياً أسلم ثم التحق بركب المنافقين ، ثم سافر إلى الروم للتحالف مع سلطانه ، ثمّ رجع إلى المدينة والتحقق بدينه بعض المنافقين ، وبنى مسجد ( ضرار ) المعروف.
  إنَّ القول الأوّل هو أصح الثلاثة ، والآخران مستبعدان من حيث أنَّ صدر الآية ( واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الّذي ... ) قرينة على حكاية قصة تتعلق بالأقوام السالفة (1).

الشرح والتفسير
  ( واتْلُ عَلَيْهِم نَبَأ الَّذي آتَينَاهُ آياتِنَا ) يطلب الله من الرسول أن يحكي للأصحاب قصة ذاك العالم.
  المراد من الآيات هو أحكام التوراة ومواعظها ، فإنَّ هذا العالم كان عالماً باحكام التوراة ومواعظها ، كما كان عاملا بها.
  ويعتقد البعض أنَّ المراد من الآيات هو الاسم الأعظم ، ولهذا كان بلعم بن باعورا مستجاب الدعوة وكان صاحب نفوذ وجاه رفيع في المجتمع.
  ( فانْسَلَخَ مِنْهَا فأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِيْنَ ) إنَّ مادة السلخ تعني نزع جلد الحيوان ، ولذلك قيل لمن ينزع جلد الخروف سلاّخاً.
  إلاّ أنَّ كلمة ( فاتبعه ) لها معنيان :

--------------------
(1) مما لا شك فيه أنّ الآية تعني كل شخص يحمل نفس المواصفات المذكورة في الآية ، وشأنها شأن باقي الآيات حيث نزلت في مورد خاص لكن شأنها يعم ... وبخاصة بالنسبة للآيات هذه فإنَّ هناك حديثاً للإمام يقول فيه : ( ( إنَّ الآية تعم جميع أهل القبلة ) ).
للمزيد راجع الأمثل ج5 ذيل الآية 175.

أمثال القرآن _ 171 _
  الف ـ تعني تبع ولحق ، أي أنَّ الشيطان جعل العالم تبعاً له.
  باء ـ أنَّ الفعل استخدم هنا بمعناه لو كان ثلاثياً مجرداً بحيث يكون المعنى أنّ الشيطان اتّبع هذا العالم ، بعبارة اخرى : أنّه سبق الشيطان في الضلالة ، وتجاوزه مهارة في هذا المجال.
  مثله مثل ذلك الشخص الذي كان يفعل عملا قبيحاً جداً بطريقة جديدة وكان يلعن الشيطان دائماً على فعله هذا ، فظهر له الشيطان وقال : اللعن عليك لا عليَّ ، لأني رغم مهارتي في الشيطنة ما كنت أعلم بهذه الطريقة ، بل انت الذي علمتني إياها.
  وعلى هذا ، فالآية تعني أنّ بلعم بن باعورا خُلِّي من آيات الله ، وانسلخت هذه الآيات عنه رغم أنَّه كان يحيط بها جميعاً ، لكنها انسلخت واتّبع الشيطان ، أو أنَّ الشيطان اتّبعه ، وكانت عاقبته الشر والشقاء فكان في عداد الاشقياء والضالين.
  ( وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأرْضِ واتّبَعَ هَوَاهُ ) أي أنا لو أردنا إجباره على البقاء على الحق لفعلنا لكنّا تركناه لنرى ما يفعل باختياره وإرادته ، وذلك لأنَّ في الإسلام الاختيار لا الاجبار ، ( إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًاً وإمَّا كَفُورَاً ) (1) فالله يستطيع أن يجعل جميع الاعمال من قبيل الحج والصوم والصلاة جزءاً من غرائز الإنسان ، كما جعل الأكل والشرب ، لكنّه لم يفعل ذلك ، بل خلق الإنسان حراً ومختاراً ليكون هناك هداية وتكامل وتقدّم واختبار وثواب وعقاب و ... ولكي لا تفقد هذه المفاهيم معانيها.
  وفي النهاية يكون معنى الآية هو : أنّا تركنا بلعم بن باعورا إلى نفسه ، إلاّ أنَّ هذا العالم المنحرف ـ الذي سبق وأن كان مبلغاً قوياً لموسى ( عليه السلام ) ـ تبع الهوى والهوس حباً للدنيا وحسداً من موسى ( عليه السلام ) وانجذاباً بوعود فرعون ، وكان عاقبته الطرد من الساحة الربانية.
  وعلى هذا ، فإنَّ شيئين كانا سبباً لسقوط بلعم بن باعورا هما :
  أوّلا : حبّ الدنيا والميل إلى فرعون.
  وثانياً : الهوى واتباع الشيطان.
  ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) ، إنَّ الكلاب عادة ذات منفعة متعارفة يفيد منها الإنسان ولذلك يصح اجراء معاملة عليها في الفقه الإسلامي ، إلاّ أنَّ بعض

--------------------
(1) الإنسان : 3.

أمثال القرآن _ 172 _
  الكلاب تكون مسعورة دائماً إثر ابتلائها بداء الكَلَب ، وهو مرض يجعلها تلهث دائماً وتصيح ، وتفرز سماً ، وإذا عضت الإنسان يمكن أن تؤدي هذه العضة إلى موته أو ابتلاءه بالجنون.
  والكلاب تُعد حينئذ فاقدة للقيمة لا تُجرى معاملة عليها ، لأنَّها تفقد الفائدة اضافة إلى ما فيها من مضايقة للآخرين.
  علائم هذا المرض في الكلاب هو أنَّها تفتح فمها وتحرك لسانها دائماً ، وذلك لتخفِّف من الحرارة الداخلية التي تشعر بها ، وحركة اللسان عندها بمثابة المروحة التي تدفع بالهواء لتبرّد الجسم.
  ومن علائمه أيضاً العطش الدائم ... وعلى كل حال يكون هذا الكلب مهاجماً.
  والقرآن بمثله الجميل هذا يشبِّه العالم المنحرف بالكلب الذي يفقد القيمة ويحمل أخطاراً كثيرة ... فحب الدنيا والهوى والهوس يُحرف العالم ويفقده البصر والبصيرة بحيث يصبح لا يميز صديقه عن عدوّه.
  ( ذَلك مَثَلُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1) أي أنَّ هذا مثل المجتمعات التي كذّبت بآيات الله فاقصص ـ أيها النبيّ ـ على الناس وبخاصة اليهود والنصارى هذه القصص ليعتبروا منها ، ولكي يعلموا أنَّهم إذا كذّبوا بايات الله فإنَّ مصيرهم سيكون كمصير بلعم بن باعورا.

خطابات الآية
  خطر العلماء المنحرفين
  لقد سقط بلعم بن باعورا من مقامه الرفيع من جراء حبه للدنيا وتبعيته للشيطان ، وقد كان سقوطه بدرجه أن شبّهه القرآن بالكلب المتوحش الذي لا يرحم شخصاً وكأنّه مجنون.
  إنّ حب الدنيا والهوى والتبعية للشيطان أجنّت عالماً كان قد حصل على الاسم الأعظم ، وكان جنونه بشكل يبدو عطشاناً للدنيا دائماً ولا يبدو مرتوياً منها أبداً ، إنَّ عالماً مثل هذا يحمل معه

--------------------
(1) إنّ هذا الجزء من الآية يدل على حكايتها للعصور السالفة لا عصر النبيّ ، لذا كانت الآية تدل على بلعم بن باعورا لا غيره.

أمثال القرآن _ 173 _
  أخطاراً جمّة نشير إلى بعض منها هنا :
  الف ـ أنَّ عالماً كهذا يكون في خدمة الظلمة ، كما هو الحال بالنسبة إلى وعّاظ السلاطين الذين كانوا في خدمة أهل الجور من الحكام والملوك.
  ومن الواضح أنَّ خطر علماء كهذا لا يقل عن خطر الظلمة ذاتهم.
  أراد سلطان في العصور الماضية أن ينفذ مشروعاً خاصاً ، فطلب أحد علماء البلاد يسأله عن رأي الشارع في المشروع ، فأجابه العالم : ( إن رأي الشارع متسع ، والأمر يتوقف على إرادة السلطان ) أي يمكنه أن يجعل مخرجاً شرعياً لكل ما يريد السلطان.
  نعم ، انَّ علماء كهذا يمكنهم أن يبرروا ظلم السلاطين الظلمة!
  هؤلاء هم الذين يحكّمون أسس الظلم ، ويصرفون الناس عن أي رد فعل تجاه الظلم.
  إن علماء كهؤلاء ، استطاعوا فترة حكومة بني امية وبني العباس أن يزوّروا أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) ويمتدحوا في بعضها سلاطين ظلمة من سلسلة بني العباس وبني امية !
  باء ـ أنّ علماء كهذا يمكنهم أن يزلزوا الأسس الاعتقادية للناس ، فإنَّ الناس العوام ، عندما يشاهدون عالماً غير عامل ، يتزلزل اعتقادهم في الدين ، بل قد يترددون في حقائق من قبيل الجنة والنار ويوم الحساب والقيامة فيقولون لأنفسهم : ( إذا كانت هناك قيامة فالآمرين بالدين والتدين أولى بأن يعملوا لذلك اليوم ).
  وعلى هذا ، فالسلاطين إذا أظلموا على الناس دنياهم ، فالعلماء المنحرفون يُظلمون على الناس أُخراهم.
  جيم ـ العالم المنحرف يجرُّ الناس نحو الذنب.
  إنَّ الدول المخالفة للإسلام أسسوا في القرن الأخير ـ لأجل مواجهة الإسلام ـ فرقة ضالة ، ولأجل تقوية هذه الفرقة ربُّوا في أحضانهم عالماً منحرفاً استطاع تأليف كتاب أيّد فيه الفرقة واستفاد في تأييده للفرقة من الآيات ، وكان كتابه بدرجة من الضلالة بحيث عدّت خدمته للفرقة أكثر من خدمة مؤسسها لها.
  من هنا على متعلمي المعارف الإلهية أن يعلموا أن سبب هكذا انحراف هو عدم الإخلاص ، فإنَّ بعض الطلاب يبغي العلوم لا لوجه الله تعالى بل لأغراض دنيوية مثل الهوى والهوس وحب الدنيا ، وبهذه الأغراض تتهدم آخرته لتصبح جحيماً.

أمثال القرآن _ 174 _
  الإنسان مهما بلغ من مقام ، عليه أن لا يرى نفسه في أمان من وساوس الشيطان ، فإنَّ هذا الاحساس هو بداية الانحراف والسقوط ، بل على الإنسان أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء ، الخوف من الهوى والهوس والوساوس الشيطانية ، والرجاء والأمل برحمة الله ولطفه ، فهو أرحم الراحمين.
  عالم الدين من وجهة نظر الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام )
  ينقل الفقيه الشيخ الأعظم الأنصاري ـ رضوان الله عليه ـ في كتابه القيّم ( فرائد الأصول ) حديثاً جميلا من التفسير الجليل المنسوب للإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) نأتي به هنا : ( ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكري ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( وِمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ ... ) الآية من أنَّه قال رجل للصادق ( عليه السلام ) : فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون ، ومن علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلدون علمائهم ؟ فإنْ لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.
  فقال ( عليه السلام ) : ( بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة ، أمّا من حيث استووا فإنَّ الله تعالى ذمَّ عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علمائهم ، واما من حيث افترقوا فلا ).
  قال : بيّن لي يا بن رسول الله!
  قال : ( إن عوام اليهود قد عرفوا علمائهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشاء وتغيير الاحكام عن وجهها ... فلذلك ذمّهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل بها بما يؤديه إليهم عمّن لا يشاهدوه.
  ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ... وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة ... فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.
  فأمّا من

أمثال القرآن _ 175 _
  ركب من القبائح ... وآخرون يتعمدون الكذب علينا ... فضلوا أو أضلوا اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد ( لعنة الله عليه ) على الحسين بن علي ( عليه السلام ) ) (1).
  سؤال : لماذا كان العلماء المنحرفون أسوأ حالا من جنود يزيد ؟
  الجواب : إنَّ جند يزيد أعلنوا بصراحة عدائهم ، إلاَّ أنَّ علماء السوء بمثابة الذئاب الذين تقمصوا قمصان الرعاة وهم يكيدون بالدين باسم الدين.
  وواضح أنَّ خطر هؤلاء أشدّ من خطر من أعلن عدائه بصراحة.
  إنَّ ما يفتخر به الشيعة هو أنّهم خلال العصور الماضية كانوا تبعاً للمراجع والعلماء الذين اجتمعت فيهم شرائط الزعامة حسب ما أراده الأئمّة ( عليهم السلام ) ، وأنَّهم كانوا ولا زالوا تحت مضلّة وألطاف هؤلاء العظماء.
  ولا شكّ أن تقليد علماء زهّاد ذوي بصيرة لا أنّه غير مذموم فحسب بل واجب حسب ما نستشفه من آيات القرآن وروايات أهل البيت ( عليهم السلام ).

--------------------
(1) فرائد الاصول : 58 ، طبعة المجلد الواحد ، رغم أنَّ هناك بحثاً في سند الرواية ، لكنها ـ كما قال الشيخ الأعظم ـ من حيث النص بدرجة من الاستحكام والجمال حيث تجعلنا نطمئن بمصدرها ، كما هو الحال بالنسبة لمضمون نهج البلاغة والصحيفة السجادية ، فان مضامينها تكشف عن صحة مصادرها.

أمثال القرآن _ 177 _
المثل السابع عشر: مسجد ضرار
  يقول الله تعالى في الآيات (107 ـ 109) من سورة التوبة : ( والّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْراً وَتَفْرِيْقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحلِفُنَّ إنْ أرَدْنَا إلاَّ الحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فيه أبَدَاً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْم أحَقَُّ أنْ تَقُومَ فيهِ فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ أفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه على تَقَوى مِنَ اللهِ ورِضْوَان خَيْرٌ أمْ مَنْ أسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُف هَار فانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ).

تصوير البحث
  إنَّ الآيات الثلاث التي تعتبر المثل السابع عشر للقرآن تحدثت عن مسجد ضرار الذي اسّسه أعداء الدين لأجل مواجهة الدين الجديد واعتبروه متراساً ومرصداً محكماً لهم لمواجهة الدين بالدين.

شأن النزول
  أشار أكثر المفسرين إلى شأن نزول الآية، (1) ونحن هنا نذكر شأن النزول أيضاً :

--------------------
(1) راجع تفسير الميزان 9 : 391 ، وكذا تفسير مجمع البيان 5 : 72.

أمثال القرآن _ 178 _
  إنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا ، وبعثوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا : نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد ، وكانوا اثني عشر رجلا ، وقيل : خمسة عشر رجلا ، منهم : ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشير ونبتل بن الحارث فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا.
  فلّما بنوه أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية ، وإنّا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا وتدعو بالبركة فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( انّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه ) ، فلمّا انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

الشرح والتفسير
  ( والّذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَارَاً وَكُفْرَاً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤمِنِينَ وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل ).
  نعم إنّ جبرئيل ( عليه السلام ) نزل على الرسول مانعاً إياه عن الصلاة في هذا المسجد ، وذلك رغم أنَّ ظاهره للعبادة ، لكن واقعه معبد للأصنام ومركز للتآمر ضدّ المسلمين ، فالآية هنا بيّنت أربعة أهداف من وراء بناء هذا المسجد.
  1 ـ ( ضِرَارَاً ) إي أنَّ مؤسسي هذا المجسد كانوا يستهدفون الإضرار بالمسلمين من خلاله وذلك بجعله متراساً لأعداء الإسلام.
  2 ـ ( كُفْراً ) إنّ الهدف الآخر لهم من وراء بناء هذا المسجد هو تقوية أسس الكفر ، والمسجد دوره هنا كمركز لدعم الشرك والكفر.
  3 ـ ( تَفْرِيقَاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ ) الهدف الآخر لهم وهو من أخطر الاهداف عبارة عن إيجاد الفرقة بين المسلمين ، واستهلاك الطاقة الموحدة التي يمتلكونها ، في النزاعات فيما بينهم ، الأمر الذي يُضرّ بالاطراف الإسلامية المتنازعة أكثر من اضراره في شيء آخر ، وهذا مبدأ يحكم جميع الاختلافات.
  4 ـ ( إرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل ) إي إعداد مركز للاعداء في قلب الدولة الإسلامية ، الأعداء الذين يكنون العداء لله ورسوله من ذي قبل.

أمثال القرآن _ 179 _
أبو عامر النصراني العدّو اللدود للإسلام
  عن ( مجمع البيان ) : ( إنّه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبي المسوح فلمّا قدم النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) المدينة حسده ، وحزّب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف.
  فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، وخرج إلى الروم وتنصر وهو أحد المسبيبين والموقدين لحرب أحد.
  وسمّى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبا عامر ( الفاسق ) ، وكان قد أرسل إلى المنافقين ان استعدوا وابنوا مسجداً فإني أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود ، وأخرج محمداً من المدينة ، فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم ) (1).
  وبعد هذا طلب هؤلاء من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أن يفتتح المسجد ، لكن جبرائيل نزل ونهاه عن ذلك بهذا الخطاب : ( وَلاَ تَقُمْ فِيهِ أبَدَاً ) والرسول ( صلى الله عليه واله ) لم يقم فيه ولم يصلّ فيه أبداً.
  ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أوَّلِ يَوْم أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيْهِ ) أي أنَّ مسجد ضرار ليس محلا مناسباً لعبادة الله الواحد ، والمسجد المؤهل لذلك يتسم بالسمات التالية :
  1 ـ أن يكون أساس تأسيسه هو الإيمان والتقوى ، وهذا القسم من الآية يعلمنا أن يكون أساس تأسيس مراكز مثل الحسينيات والمدارس الدينية والسياسية والاقتصادية والادارية هو الايمان والتقوى ، فهما روح الأعمال.
  2 ـ السمة الاخرى هي أن يكون الحضور من المتقين والطاهرين ، وذلك لأن المصلين في المسجد يعدون معرّفاً للمسجد.
  إن السمتين حاصلتان في مسجد قبا ، فقد كان أساس تأسيسه الإيمان والتقوى ، كما أنّ مصليه كانوا من المؤمنين عكس ما كان في مسجد ضرار فلا أساسه كان يعتمد الإيمان والتقوى ولا حضوره كانوا من المؤمنين.

الأمر بتخريب مسجد ضرار
  الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يكتف بعدم افتتاح المسجد والصلاة فيه ، بل أمر المسلمين بإحراقه ثم

--------------------
(1) تفسير الأمثل 6 : 200 ـ 201.

أمثال القرآن _ 180 _
  تخريب جدرانه وتهيئته ليكون مرمى للنفايات.
  ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَه عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوان خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرْف هَار ).
  ( الشفا ) يعني الطرف من كلّ شيء ، واطلقت هذه المفردة على شفاه الفهم لأجل ذلك.
  ( الجرف ) يعني الجنب فجرف الشيء أي ما يجانبه ولذلك اطلق على شاطئ النهر جرف.
  ( هار ) يطلق على الشيء الآخذ بالسقوط.
  إنَّ النهر قد يفرغ جرفه من الداخل ليصبح الجرف أجوف ، والإنسان الذي لا يعلم بذلك قد يقدم على المشي على هذا الجرف فيسقط فيه ويغرق.
  الله تعالى يشبّه بناء مسجد ضرار ببناء على جرف نهر ، والجرف لا يشرف على ماء النهر ، فانّ ذلك قد لا يؤدي بالإنسان إلى موته وهلاكه الحتمي لانه قد يكون عارفاً بالسباحة ، بل إنَّ هذا الجرف مشرف على جهنّم ذاتها بحيث إذا سقط إنسان فيه فذلك يعني هلاكه الكامل وانتفاء احتمال نجاته ... وهل الإنسان إذا كان عاقلا يرضى باقامة بنيانه في أرض رخوة كهذا الجرف ويتحمل ما فيه من مخاطر ؟
  نعم ، إنَّ المسجد الذي أساسه التقوى ورضاء الله فبناؤه يكون محكماً جداً ولا يؤدي بالإنسان إلاّ إلى النجاة ، أمَّا المسجد الذي يؤسّس على أساس الكفر والشرك ويكون مقراً للأعداء فهو بدرجة كبيرة من الخطورة ويؤدي بالإنسان إلى السقوط.
  وحسب ما تذكر الآية إنه سقوط في جهنّم.
  هل يمكن العثور على تعبير أجمل ومَثَل أوضح لمصادر الشرك والنفاق مثل التعبير الذي تضمنته الآية الكريمة ؟!

خطابات الآية
  1 ـ إنّ المستفاد من الآية هو ضرورة مراقبة المسلمين أعمالهم ، وأنَّ الأعداء قد يواجهون الدين بالدين نفسه وبآلياته ذاتها ... ولهذا عندما نقرأ تاريخ الإسلام نعثر على الكثير من الفرق

أمثال القرآن _ 181 _
  التي أسسها الأعداء لضرب الإسلام الخالص.
  من المذاهب الموضوعة ( فرقة البهائية الضالة ) التي اتضح حالياً للجميع مكان تأسيس هذه الفرقة وشخصيات المؤسسين والمستفيدين من تأسيس هذه الفرقة (1).
  2 ـ على المسلمين أن يكونوا كيّسين وأن لا تغرّهم الظواهر.
  ما أن تحصل فتنة فعلى المسلمين أن يتعرّفوا على متوليها ومموّليها والمستفيدين والمتضررين منها ، وذلك خوف الاغترار باولئك الذين ينوون تخريب البلاد باسم استعماره ، أو أسر المسلمين باسم تحريرهم أو سلب الدين عنهم باسم الدين نفسه.
  وقد قال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المجال : ( المؤمن كيّسٌ فطن حذرٌ ) (2).

--------------------
(1) للمزيد راجع الكتابين ( ارمغان استعمار ) و ( باى سخنان بدر ) ـ بالفارسية.
(2) ميزان الحكمة ، الباب 291 ، الحديث 1449.

أمثال القرآن _ 183 _
المثل الثامن عشر : الدنيا العابرة
  يقول الله تعالى في الآية 24 من سورة يونس : ( إنَّمَا مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأكُلُ والنَّاسُ وَالأنْعَامُ حتَّى إذَا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازّيَّنتْ وظَنَّ أهْلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أتَاهَا أمْرُنا لَيْلا أوْ نَهَارَاً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ كَذَلك نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ).

تصوير البحث
  الحديث في المثل عن الحياة الدنيا العابرة ، والتذكير بها خوف أن يغتر الإنسان بظاهرها الخلاّب ويتعلّق بها ، فإنَّ الإنسان قد يفقد كل شيء في وقت يتصوّر أنّ كل شيء قد تهيّأ وأُعد لصالحه.
  ويدعو الله في نهاية الآية الإنسان للتفكير لعلّه ينقذه ويجد لنفسه من خلاله مخرجاً.

الشرح والتفسير
  ( إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) استخدمت عبارة ( الحياة الدنيا ) ما يقرب السبعين مرة في القرآن ، والدنيا قد تعني أحد المعنيين التاليين :
  الف ـ أن تعني القرب ، ودنيا مؤنث ( أدنى ) ، وذلك باعتبار أن الحياة الدنيا أقرب قياساً للحياة الآخرة التي هي بعيدة نسبياً.
  باء ـ أن يراد منها السافلة أو التافهة ، ومنها اطلاق ( الدني ) على الإنسان الساقط

أمثال القرآن _ 184 _
  والسافل ، وباعتبار أنَّ الحياة الدنيا حياة تافهة وتفقد القيمة الكافية فهي حياة دنيا عكس ما عليه الحياة الآخرة فإنَّها عليا وتمتاز بالقيمة المتفوّقة.
  هذا ، اضافة إلى أنَّه يستفاد من آيات قرآنية مثل الآية التالية : ( وإنّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ ) (1) أنَّ الحياة هي الحياة الآخرة فحسب ، أمّا الدنيا فهي لا تستحق من الحياة إلاّ الاسم ، بل هي موت تدريجي !
  على كل حال ، فإنَّ الحياة الدنيا إمّا أنّها حياة لا قيمة لها ، أو أنّها ليست حياة بالكلية.
  ( كَمَاء أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهَ نَبَاتُ الأرْضِ ) أي مثل هذه الحياة العابرة كمثل الماء الذي ينزل من السماء بقطراته الشفافة والفاقدة للون ، وباختلاطه بالأرض تنمو نباتات ومحاصيل متنوّعه.
  المراد من الاختلاط في الآية هو تنوّع النباتات.
  إنّ النباتات على ثلاثة أقسام :
  1 ـ القسم الذي يشكل الأغذية للإنسان مثل الفواكه والخضروات والحبوب ( مِمَّا يَأكُلُ النَّاسَ ).
  2 ـ القسم الذي يشكل أغذية للحيوانات ( مِمّا يَأكُلَ ... الأنْعَامُ ) وهي قد تشترك ـ نوعاً ما ـ بين الحيوان والإنسان كالاشجار التي يفيد الإنسان من ثمارها ، والحيوان يفيد من أوراقها وغصونها.
  وقد تكون خاصة بالحيوانات مثل العلف.
  3 ـ القسم الآخر هو النباتات والأشجار التي تزيّن الطبيعة مثل الأزهار والحشائش الاخرى ( حَتَّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وازيَّنت وَظَنَّ أهلُهَا أنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيْها ).
  أي في الوقت الذي هطل فيه المطر وأثمرت الاشجار وحان الوقت لجني الثمار في هذا الوقت تحدث حادثة وتخلبط كل حسابات الإنسان وتحول دون جنيه ثمار ما زرع.
  وهذا أمر مؤلم لمن تعلّق بالدنيا.
  ( أتَيها أمْرُنَا لَيْلا أو نَهَارَاً ) نعم ، في الوقت الذي يرى الإنسان أن الدنيا أقبلت عليه

--------------------
(1) رغم أنَّ الاحتمالات الثلاثة غير متما نعة مع مضمون الآية الشريفة ، إلاّ أنّه باعتبار الآية السابقة لها فإنَّ الأول هو الأصح ، وذلك لأن الآية السابقة ( 116 من سورة آل عمران ) تصرّح بموضوعها ، أي الكفّار.

أمثال القرآن _ 185 _
  وكشفت عن وجهها الخلاب والخادع ، ويجد أنَّ كل شيء حسب ما يرام ، في هذا الوقت يصدر أمر الله بالعذاب ليلا أو نهاراً لتتدمر بذلك كل الآمال والزحمات ، بحيث تبدو الدنيا لم تكن شيئاً مذكوراً.
  إنّ كلمة ( أمْرُنَا ) في الآية الشريفة تدعونا للدقة والتأمل الوافر من حيث إنّها تضمُّ موارد ومصاديق كثيرة وتشمل كل أنواع العذاب الذي يصدر من الله.
  نشير إلى بعض من تلك المصاديق.
  1 ـ قد تؤمر مجموعة من الحيوانات تبدو كأنها ضعيفة مثل الجراد ، فتؤمر الجراد لتهجم على مزرعة بشكل كتلة ، لم تبقِ منها شيئاً إلاّ أكلته أو دمرته ، كما يحصل ذلك بين الحين والآخر في بعض الدول.
  2 ـ وقد يلقى هذا الأمر على عاتق السموم من الرياح ، فيؤمر بتنفيذ مهمة العذاب الإلهي ، وهو عندما يمرّ بشيء يسمّه ويجفّفه ، بحيث إذا مرّ من مزرعة أبدلها إلى رماد يذهب مع الريح.
  3 ـ وقد يتكفل بتنفيذ المهام الإلهية موجود هو أخطر من ريح السموم ، مثل الصاعقة (1) التي تدمّر كل شيء تصطدم به مثل الجبال والاشجار والانعام والناس ، أو مثل موجودات أخرى نشير إليها في البحوث المقبلة.
  هناك نقطة مثيرة تضّمنتها عبارة ( لَيْلا أوْ نَهَارَاً ) وهي أنَّ الإنسان لا خيار له غير التسليم والخضوع للعذاب الإلهي .
  ولا يفرق في ذلك الليل والنهار ولا يتصّور أن الإنسان سوف يخضع للعذاب في الليل باعتباره مسلوب القدرة آنذاك ، بل انَّ العذاب إذا نزل سيستسلم له الإنسان سواء كان نازلا في الليل أو في النهار.
  ( فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ ) أي عندما يصدر أمر بالعذاب تتهدم ممتلكات الإنسان وتدمّر مزارعه في آن ، بحيث لا تبدو الأرض وكأنها كانت مزروعة قبل لحظات ، بل تبدّل إلى كومة من الرماد.
  ( كَذَلك نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) أي أنَّ اهداف هذا المثل لا يدركها إلاّ الذين

--------------------
(1) لقد مرَّ التعريف العلمي للصاعقة وفرقها مع الرعد والبرق في البحوث السابقة.

أمثال القرآن _ 186 _
  يتفكّرون فيه ، ولا يدرك غور هذه الآيات الإلهية إلاّ بالتفكّر والتأمل الذي لا توجد عبادة أرفع مستوى منه (1).

فلسفة المثل
  لأجل استيعاب فلسفة المثل نشير هنا إلى ثلاث من خصائص الحياة الدنيا :
  1 ـ الحياة الدنيا عابرة ولا ثبات ولا دوام فيها.
  2 ـ الحياة الدنيا جوفاء ، ظاهرها فاتن وباطنها خال من المحتوى ، وقد تبلورت بوضوح في حياة بعض الناس الذين تجذبنا حياتهم من بعيد وتجعلنا نأسف على حياتنا ونتحسّر على حياتهم ، لكن عندما نقترب لهم نحمد الله كثيراً على كون حياتنا ليست مثل حياتهم من حيث كثرة المساوىء والابتلاءات.
  3 ـ الحياة الدنيا تُُغرُّ الإنسان وتخدعه.
  وفي حديث للرسول ( صلى الله عليه وآله ) أشار فيه إلى هذه الخصائص الثلاث : ( الدّنيا تغر وتضر وتمر ) (2).
  من هنا نستوعب فلسفة المثل في أنَّه من دونه لا يمكننا إدراك ماهية الحياة الدنيا.
  والإنسان من خلال المثل يدرك حقيقة الدنيا وماهيتها أفضل.
  ولذلك تمسك الله به إيضاحاً وبياناً.

تفسير وتطبيق للمثل المذكور
  في الآية الشريفة شُبِّه الإنسان وحياته الدنيا بالمطر ، وبذلك يشير القرآن إلى قابليته وأهليته العالية ، فاذا فُعّلت هذه الأهلية لأمطرت عليه ثماراً من قبيل الابتكار والخلاقية المتنوّعة ، ولاستخدم كل طاقته في سبيل الحياة الأفضل ، ولنشط في مختلف المجالات ، ولاستهلك طاقات جمة في سبيل بلوغ الأهداف الخاصة.
  إلاّ أنَّ حادثة تحصل فجأة تخيّب كل

--------------------
(1) جاء ما يلي في ميزان الحكمة ، الباب 3253 ، الحديث 15920 : ( لا عبادة كالتفكّر في صنعة الله عزّوجلّ ).
(2) بحار الانوار 7 : 911 ، وقد نقل هذا الحديث كأحد كلمات الإمام علي ( عليه السلام ) القصار في نهج البلاغة الكلمة 385.

أمثال القرآن _ 187 _
  آماله وتدمّر كل ما جناه في حياته حتى هذه اللحظة ليبدو وكأنه لم يفعل شيئاً لحياته أبداً ولم يكن قد فعل وتحمّل لأجل ضمان المستقبل.
  إنَّ هذه الحوادث هي ( الأمر الالهي ) ، وقد تتبلور في داخل جسم الإنسان ويسلّم لها الإنسان رغم ضعتها وصغرها.
  وعلى سبيل المثال قد تحصل جلطة في دم الإنسان تسري في الشرايين لتصل إلى القلب فتحدث سكتة فيه ، أو تصل إلى الدماغ فتحصل سكتة فيه أيضاً قد تتسبب في شل جزء من جسمه إذا لم تمته.
  والأبسط من ذلك هو أن يأمر الله تعالى خلية من خلايا جسم الإنسان للتتكاثر بشكل غير متعارف وبتصاعد هندسي كأن تصبح الخلية خليتين والخليتان أربع خلايا والأربع ثمانية والثمانية ستة عشر وهكذا إلى أن تتبدّل فجأة إلى غدة سرطانية تنتشر في جميع بدنة شيئاً فشيئاً لتجعل من الإنسان قعيد البيت ( فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ) فيبدو وكأنه قد مات منذ سنوات وآماله قد اندثرت منذ ذلك الحين.
  وقد يلقى الأمر الإلهي في عهدة حادثة خارجية مثل الزلزلة أو الطوفان أو الاعصار أو الشهاب السماوي او غير ذلك.
  هذا المثل وما شابهه من الحوادث التي شهدناها طوال عمرنا مرات عديدة بمثابة صافرة الانذار تحذرنا أن لا تغرّنا الحياة الدنيا ولا نتعلّق بها ولا نرتكب الجرائم لأجل بلوغ الأهداف الدنيوية الآنية.
  من المناسب أن نفكر بعمق في هذه الآية الشريفة وفي أمثالها ، ونعدّها كالمصباح نستنير به الطريق.

خطابات الآية
  1 ـ معرفة الله
  إنّ الله بتشبيهه الحياة بقطرات المطر علمنا شيئاً من دروس المعرفة ، ورسّخ في قلوبنا الايمان بالله.
  الآية تعلّمنا أنَّ الله بواسطة هذا الماء الشفاف الذي لا لون له يستطيع أن يخلق ألواناً مختلفة.

أمثال القرآن _ 188 _
  إنّ الأرض تُسقى بماء واحد ( يُسْقَى بِمَاء وَاحد ) ، (1) لكنّ الثمار والفواكه والاشجار تنبت متنوّعة ، فيخرج من هذا الماء أحلى الفواكه وأشدّها حموضة وأشد السموم مرارة ، وأجمل الأزهار و ... هذه كلها من ماء واحد وتراب واحد .
  إنَّ قدرة الله عجيبة حقاً ! لكن أسفاً للعادة لكونها تحجبنا وتمنعنا دون أن نفكر في هذا الكتاب الناطق لله .
  2 ـ كل ما في الكون مخلوق على أساس من النظم
  إنَّ الله جعل ماء المطر سبباً للبركة والعمران ، وهو بذاته إذا زاد عن حدّه المتعارف سبب الدمار والكوارث ، وإذا قلّ عن مقداره المتعارف سبّب الجفاف والقحط.
  وهذا درس آخر للإنسان في أن يكون معتدلا ومنتظماً في جميع مجالات حياته ويجتنب الإفراط والتفريط.
  على الإنسان أنْ لا يفرط حتى في العداء والخصومة ، ولهذا فرض الإسلام آداباً للحرب وهي عبارة عن أوامر جميلة ولطيفة محذراً من خلالها المسلمين التفريط في العداء.
  وعليه ، فالمسلم يكون منتظما ومبرمجاً في جميع شؤونه.
  3 ـ قد تتبدّل النعمة إلى نقمة
  أي قد يكون الشيء الذي يمنح الإنسان الحياة هو بذاته يكون سبباً لدمار الإنسان وموته ، وذلك بأمر من الله تعالى.
  إن الماء يمنح الإنسان حياة في هذه الدنيا لكنّه قد يتبدل إلى سيل جارف وقاتل.
  4 ـ إذا جرى الماء كان سالماً وهنيئاً وذا طعم لذيذ
  أمّا اذا ركد الماء تعفّن وتلوّث ويكون غير صالح للشرب.
  ففي هذه الحالة لا أنَّه لا يمنح الحياة فحسب ، بل يكون سبباً للتلوّث.
  إنَّ الاموال والثروات ذات نفس الخصلة هذه ،

--------------------
(1) الرعد الآية 4.

أمثال القرآن _ 189 _
  فيمكنها أن تنمّي اقتصاد البلاد إذا كانت جارية ويتداولها الناس ، إلاّ أنها عندما تحتكر وتركد في مكان واحد فقد تسبب السقم في اقتصاد البلد.
  5 ـ بعض النباتات سامة رغم جمالها
  بعض النباتات تبدو زينة جميلة مثلما تبدو بعض الزهور لكنها في الواقع سموم قاتلة.
  لهذا كان علينا أن لا نغتر بالظاهر وإن كان جميلا ، بل علينا سبر الغور والتفكّر فيه لكشف الواقع ثم انتخاب المناسب.
  وفي نهاية الآية وصية للتفكير ، ومدح للعلماء والمفكّرين.
  يقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( أعطوا أعينكُم حظها من العبادة ).
  قالوا : وما حظها من العبادة يا رسول الله ؟ قال : ( النظر في المصحف والتفكّر فيه والاعتبار عند عجائبه ) (1).
  فكّروا في آيات القرآن لكي لا تبتلوا بما ابتلى به النماردة والفراعنة وامثال ابو لهب كما فكروا من جهة اخرى بامثال سليمان وموسى وداود و ... توقفوا وتأملوا في عجائب آيات القرآن.
  لا تكتفوا بقراءة القرآن رغم ما لهذه القراءة ـ وبخاصة في شهر رمضان المبارك ـ من أجر وثواب جزيل ، بل لتقترن مع التدبّر والتأمّل.

--------------------
(1) المحجة البيضاء 2 : 231 ، تفسير البرهان 1 : 331 ، الحديث 11.

أمثال القرآن _ 190 _
المثل التاسع عشر : الكافر والمؤمن
  يقول الله تعالى في الآية 24 من سورة هود : ( مَثَلُ الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأَصَمّ والبَصِيْرِ وَالسَّميعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثلا أفلا تَذَكَّرُونَ ).

تصوير البحث
  يقارن الله العظيم في هذا المثل بين الكافرين والمؤمنين ، ويشبِّه أحد الفريقين بالأعمى والأصم والآخر بالبصير والسميع ، وذلك لأنَّ الايمان والتقوى يورثان السمع والبصر ، أما اللجاجة والتعصب والكفر فيحجبان عن هذين الموهبتين الالهيتين.

إشارة إلى الآيات ما قبل آية المثل
  الآيات التي تسبق آية المثل هذه تبيّن أحوال المؤمنين والكفار ، ومن الضروري إلقاء نظرة عليها لكي نتمكن من شرح الآيات وتفسيرها ببصيرة أكثر.

سيرة الكافرين
  شرحت الآية 19 من سورة هود أحوال الكافرين حيث قالت : ( الَّذِيْنَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وَيْبغُونَها عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ).
  لقد بيّنت الآية ثلاثاً من خصال الكفّار :

أمثال القرآن _ 192 _
  1 ـ الكفار يمنعون عن سبيل الله ويحولون دون دخول الآخرين في هذا السبيل.
  2 ـ الكفار يبغون الأعوجاج عن طريق الحق ، أو أنَّهم يريدون إظهاره معوجّاً ، مع أنه ـ حسب سورة الحمد ـ طريق مستقيم ولا إعوجاج ولا افراط ولا تفريط فيه بل هو متعادل ومتوازن.
  3 ـ الكفار ينكرون المعاد والحياة بعد الموت.
  ويبدو أن هذه القضية هي السبب الأساس في انحطاطهم ، وذلك لأنَّهم عندما أنكروا المعاد سعوا في اظهار طريق الحق معوجاً ومنعوا من اهتداء الآخرين إلى هذا الطريق.
  ثم يقول الله في الآية 22 من نفس السورة : ( لاَ جَرَم أنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأخْسَرُونَ ).
  أي أنَّ الكفار الذين منعوا من اهتداء الناس إلى طريق الحق ، وأظهروه وكأنّه معوجاً ، وفي النهاية أنكروا المعاد ، إنّهم في المعاد أخسر من الجميع.

سيرة المؤمنين
  الآية 23 من سورد هود همّت بدراسة الفريق الثاني ( المؤمنين ) وقالت : ( إنَّ الّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ أولئك أصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ).
  بيّنت الآية الشريفة ثلاث خصال للمؤمنين :
  1 و 2 ـ الإيمان والعمل الصالح ، إنّ هذين الخصلتين ذكرتا معاً في كثير من الآيات القرآنية ، فهما لازم وملزوم ولا يمكن تفكيكهما ، (1) ولهذا كان إدعاء الإيمان بالنسبة للذين لا يعملون إدعاء خواء ، وهم غير مؤمنين في الواقع. ومن جانب آخر ، أنَّ الصادقين الذين يعملون صالحاً من دون إدعاء ، هم المؤمنون الحقيقيون ، وذلك لأنّهم ـ كما أشرنا سابقاً ـ بمثابة الغصون والاوراق لشجرة واحدة.
  3 ـ الخصلة الثالثة التي يحملها المؤمنون هي خصلة ( الاخبات ).
  إنَّ ( الاخبات ) جمع ( خبت ) والاخيرة تعني ـ في الاصل ـ الصحراء الواسعة والمستوية ، وقد اُطلقت بعد ذلك على

--------------------
(1) ذكرا معاً في ما يقارب من سبعين آية.

أمثال القرآن _ 193 _
  بعض خصائص الإنسان ، نشير هنا إلى ثلاث حالات منها :
  الف ـ تستخدم في الإنسان ذي الروح المتواضعة ، فكما أنَّ الصحراء المستوية تتواضع أمام الماء وتسمح له بالسير في جميع بقاعها ، كذلك روح الإنسان المتواضع فإنَّها تستسلم للحق ببساطة.
  باء ـ أنَّ مفردة ( مخبتْ ) كما تُطلق على الإنسان المتواضع تطلق كذلك على من سلّم نفسه لله تعالى ، أي كما أنَّ الأرض المستوية مستسلمة ، كذلك روح الإنسان المؤمن.
  جيم ـ تطلق هذه المفردة على من اطمئنَّ بالله تعالى.
  الإنسان عموماً عندما يخطو في الصحراء يخطو باطمئان ومن دون خوف وذعر ، عكس ما لو كان يمشي في جبال وأراض وعرة ، فإنَّ خطاه ستقترن بالخوف والذعر ، وخطى الإنسان المؤمن في طريق العبودية تقترن بالاطمئنان.
  وعلى هذا ، فالمؤمنون الذين يحملون هذه الصفات ( الايمان والعمل الصالح والاخبات ) هم اصحاب الجنة خالدين فيها ويتمتعون بنعمها.
  الشرح والتفسير
  ( مَثَلُ الفَرِيْقَيْنِ كالأعْمَى والأصمِّ والبَصِيْرِ والسَّمِيع ) بعد أن بيّن الله خصائص الفريقين في الآيات السابقة نعت هنا كلا من الفريقين بصفات فقال : إن الكافر مثل الأعمى والأصمّ ، والمؤمن مثل البصير والسميع.
  ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) والسؤال هنا استنكاري أي أنَّ الفريقين لا يستويان فالأعمى ليس كالبصير والأصم ليس كالسميع ، كذلك المؤمن فهو غير الكافر وليس مثله.
  المفروض بهذه المقارنة أن تثير مخاطبي الآية وتذكّرهم ، أليس كذلك ؟!
  لأجل الوقوف على عمق هذا المطلب واستيعاب آثار الايمان والقدرة اللامتناهية لرب العالمين ، نقوم في البداية بدراسة أهمية العين والاذن ودورهما في جسم الإنسان.

العين من أعظم آيات الله
  لا شك أنَّ العين من أعظم الآيات الإلهية ، بل يمكننا القول : إنها أعجب آيات الله سخرها

أمثال القرآن _ 194 _
  تعالى في خدمتنا. إنّ العين ذات بناء معقد جداً ، والأعجب من ذلك أن البناء يتشكل من مواد بسيطة جداً ، فهي تتكون من مقدار قليل من الشحوم والعضلات ومقدار بسيط من السوائل.
  إنَّ هذا يكفي للكشف عن قدرة الله تعالى ، فهو يستطيع بناء وسيلة معقدة من مواد بسيطة جداً.
  للعين سبع طبقات ممتازة ومجزّأة ، وهي مستقلة عن بعضها البعض بالكامل وقد رتّبت بشكل لطيف جداً ، كما أنه تعالى جعل لكل طبقة وظائف خاصة.
  لا يوجد في الدنيا كاميرا يمكنها التصوير تلقائياً مثل ما تعمل العين ، فهي تعمل دون حاجة إلى منظّم لعدستها ، فهي تنظم نفسها لتصوير أدنى وأقصى نقطة في أقل زمن ممكن.
  مع أن تنظيم العدسة للاماكن البعيدة في كاميرات التصوير يحتاج إلى وقت غير قصير نسبياً ، وقد يستدعي هذا الأمر ساعة من الزمن إذا أُريد تصوير لقطة حساسة.
  كذلك الأمر بالنسبة لتنظيم النور ، فاذا كنا ـ مثلا ـ في محيط مضيء ثم انطفأت الكهرباء فيه وساد الظلام ، فإنَّ بؤبؤة العين توسع نفسها لتتكيف مع المحيط وتتمكن من الرؤية.
  وفي العين يوجد عضلات تتحرك في ست جهات تمكنها من الحركة إلى الأمام والخلف اضافة إلى الحركات الاربع أي اليمين واليسار والفوق والتحت.
  ومن عجائب العين الاخرى هو السائل الذي يترشح منها ويسمى الدمع.
  إنَّ الدمع غذاء للعين كما أنَّه سائل لغسلها ولتطهير هذا البناء الدقيق والظريف من أي تعفن يحتمل حصوله.
  من خصائص العين أنَّها هي بنفسها تقوم بترميم ما يطرأ عليها من اشكالات ونواقص.
  هل هناك شيءٌ من مصنوعات الإنسان يحضى بهذه الخصائص ؟ لننصف ونرى لو لم يكن هناك دليل وآية على اثبات الخالق غير هذه العين أليس ذلك بكاف ؟ (1) كيف يمكن تصديق أن الطبيعة الفاقدة للأحاسيس والشعور يمكنها خلق جهاز بهذه العظمة ؟

الاُذن آية الله الاخرى
  رغم أنَّ بناء الاذن قياساً للعين ليس بنفس الدرجة من حيث التعقد والظرافة ، إلاّ أنَّه

--------------------
(1) للمزيد راجع الأمثل 20 : 198 ـ 200.

أمثال القرآن _ 195 _
  يحكي كما هو حال العين عن قدرة الله تعالى.
  إنَّ الاذن تتكون من الجزء الخارجي والداخلي والوسط.
  والاقسام تقع في مناطق متجزءة عن بعضها الآخر ، ولكلٍّ وظائف خاصة ومستقلة.
  هناك عظام يشبه عملها عمل المضرب ، كما أنَّ هناك طبلة ترتعش بضربات المضرب ، والارتعاشات هذه عندما تنتقل إلى الدماغ بواسطة الأعصاب تُفسَّر هناك.
  والعجيب في هذا كله أنَّ الاذن يمكنها تعيين جهة الصوت.
  إنَّ العين والاذن نعمتان إلهيتان أنعمهما الله علينا ، وهما عجيبتان جداً ، وفي توصيفهما كتبت كتب كثيرة ، ولكلّ منهما من حيث الطبابة مختصون ، بل انَّ في العين لوحدها عدة تخصصات.

العين والاذن وسيلتان مهمتان للمعرفة
  إنَّ أهمّ وسائل المعرفة عند الإنسان هي العين والاذن.
  إنّ الإنسان عندما يولد يكون خلواً من أي علم ( وَاللهُ أخْرَجَكُم مِنَ بُطُونِ أمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) (1).
  والإنسان يحصل على العلوم بعد أن تنمو عنده حاسة السمع والبصر.
  إنَّ العلوم التجريبية تنتقل للإنسان عبر حاسة البصر ، فالإنسان يبلغ النتائج المختلفة في المختبرات بعدما يراها بعينه ، ورؤيته هذه هي التي تنقل النتائج إلى الذهن.
  أما العلوم النقلية ـ وبخاصة العلوم التي قدمت من الوحي الالهي ـ فهي تنتقل عبر حاسة السمع ( الاذن ).
  بالطبع أن العلوم العقلية تعتمد في الأساس على العلوم الحسية أي أنَّ الأشياء ما لم تر أ و لم تسمع فلا يتمكن العقل من إداركها ، وذلك لأنَّ أساس العلوم العقلية هو ( تجريد ) و ( تعميم ) المحسوسات ، ولهذا اذا كان هناك إنسان بالغ أصم وأعمى ـ وهو بالنتيجة أخرس ـ فان مستوى فهمه سيكون بمستوى فهم طفل عمره خمس سنوات حتى لو كان يحضى بدماغ بمستوى دماغ ابن سيناء ، لأنَّ هكذا انسان يكون فاقداً لعمودين أساسيين من أعمدة العلوم العقلية وهما البصر والسمع.

--------------------
(1) النحل : 78.

أمثال القرآن _ 196 _
الكافر يفتقد وسائل المعرفة
  وفقاً لما ذكرت الآية ، أنّ الكافر أعمى وأصم ، أي أنَّه يفقد وسائل المعرفة أو أنَّ هذه الوسائل مسلوبة منه ، لذلك لا يدرك شيئاً من نور الأيمان. أما المؤمن فهو ـ بفضل نور الإيمان ـ يتمتع بحاسة السمع والبصر بشكل كامل ، ويفيد من العلوم ، ووسائل المعرفة.
  لماذا كان الكافر أعمى وأصم ؟
  الوصف المستخدم في الآية يفيد أنّ العمى والصم هما بسبب حاجب الكفر الذي يحول دون السمع والنظر ( خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى أبْصَارِهْم غِشَاوَةٌ ) (1).
  إنَّ اللجاجة مع الله وعدم التسليم له والصفات الرذيلة الاخرى سببت عدم إدراك الكفار للحقائق.
  يقول الإمام السجاد ( عليه السلام ) في دعائه العرفاني ( أبو حمزة الثمالي ) : ( إنّك لا تُحْجَب عن خلقك إلاّ أن تحجبه الأعمالُ دونك ).
  وعلى أساس هذا الدعاء ، فإنَّ أعمال الناس هي التي تحجب الإنسان عن الله.
  وفي بعض نسخ هذا الدعاء ذكرت مفردة ( آمال ) مكان أعمال ، وعلى هذه النسخة ، فإنَّ الآمال هي التي تحجب الإنسان عن الحقائق والمعارف الإلهية.
  الإيمان عندما يظهر في الإنسان فإنَّ حجب التعصب والجهل والغرور والكبرياء والأنانية تتلاشى لوحدها ، ويتضح للإنسان بعد ذلك كل شيء ، بل الله نفسه يهديه من الظلمات إلى نور الإيمان ، لذلك قال الله في الآية 257 من سورة البقرة : ( اللهُ وَلىُّ الِّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُورِ والّذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوت يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّوْرِ إلَى الظُّلُماتِ أُوْلئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُونَ ).

كيف يمكن إزالة الحجب ؟
  كيف يمكن أن يكون لنا عين واُذن قرآنية ؟ كيف يمكن أن يكون لنا عين ترى الحقيقة ؟ وفقاً

--------------------
(1) البقرة : 7.

أمثال القرآن _ 197 _
  لما أقرَّته الآية الشريفة فإنَّ هذه الحجب تزال إذا أزلنا عن أنفسنا ستار الجهل والتعصب واللجاجة لنرى ما يرى أولياء الله.
  ما علينا هو أن نكون مؤمنين.
  لقد ذكرت علامات للمؤمن في روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ولأجل الاطلاع نأتي بنموذجين هنا :

علامات المؤمن
  1 ـ يقول رسول الله( صلى الله عليه وآله ) : ( لا يؤمن عبدٌ حتّى يحب للناس ما يُحب لنفسه ) (1).
  2 ـ في رواية اخرى يقول الإمام الصادق( عليه السلام ) : ( إنَّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك ) (2).
  وحسب هذه الرواية فإنَّ الحقيقة والصدق من علائم المؤمن ، وهي تحمل في طيّاتها خطاباً للأحزاب والتكتلات السياسية في البلد بأن يقوم نشاطهم على الصدق والحقيقة وتجنّب الزيف.
  إنهم إذا بلغوا مرحلة يرجّحون فيها حديث عنصرهم الطالح على حديث العنصر الصالح للتكتل المنافس فذلك يعني أنّهم لم يدركوا حقيقة الايمان ، ودعواهم الايمان زيف لا أكثر.
  اللهم ارزق جميع المسلمين الايمان الكامل.

--------------------
(1) ميزان الحكمة 1 : 193.
(2) بحار الانوار 67 : 106.

أمثال القرآن _ 199 _
المثل العشرون : الذين يدعون من دون الله
  يقول الله في الآية 14 من سورة الرعد : ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والّذِيْنَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيء إلاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاّ فِي ضَلال ).

تصوير البحث
  إنّ آية المثل درست قضية الدعاء والتوسّل ، وهي تسعى لتعليم الإنسان إلى مَن يمدّ يده ؟ ثم مثَّلت أولئك الذين يطرقون أبواب المخلوقات دون خالقهم طالبين حاجاتهم بمن بسط يديه إلى الماء ...
  سؤال : قبل البتِّ بشرح وتفسير آية المثل ينبغي التساؤل عن سبب عدم التطرّق إلى بعض الأمثال التي جاءت قبل سورة الرعد ، مثل الآية الشريفة 32 من سورة المائدة التي اعتبرت قتل النفس البريئة بمثابة قتل الناس جميعاً واحياء نفس بريئة بمثابة احياء الناس جميعاً.
  فإنّ فيها تشبيهاً وتمثيلا نوعاً ما ، فَلِم لم تأت في البحث.
  الجواب : في القرآن امثال وتشابيه كثيرة ، لكن بحثنا في الامثال القرآنية لا التشابيه.
  إنَّ التشبيه هو تنظير شيء بشيء كأن يقال : ( إن حسن كالأسد ).
  فهذا تشبيه وليس مثلا ،

أمثال القرآن _ 200 _
  أما المثل فهو تجسيد وبيان لقصة أو جماعة أو قضية أو مطلب عقلي ليس في متناول أذهان الناس ، كما لو أنَّ الله أراد بيان قضية الحق والباطل وهما قضيتان غير حسية مثّلهما بالمطر والسيل والزبد الذي يتجمع على الماء ، فيمثّل الحق بالماء والباطل بالزبد ، من حيث أنّ الزبد رغم ابهته وارتفاعه وظهوره إلاّ أنه أجوف ويتلاشى بسرعة ... وبناءً على هذا الايضاح فقد حصلنا على معيار كلي للتمييز بين الأمثال والتشابيه.

البرق والسحب الثّقال
  لأجل الاستيعاب الأفضل للمثل المذكور علينا شرح الآيات 12 و 13 من سورة الرعد باقتضاب.
  يقول الله تعالى في الآية 12 من سورة الرعد : ( هُوَ الَّذِي يَرُيْكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنْشِأُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ).
  إنّ البرق من آثار عظمة الله تعالى ، فهو يزرع الأمل في نفس الإنسان كما يزرع الخوف والقلق.
  إنّ البرق يبشّر الناس بهدية المطر الإلهية ، وذلك لأن الرعد والبرق يتسببان في نزول الكثير من المطر.
  كيف يسبب البرق نزول المطر ؟
  اصطدام السحب التي تحمل شحنات كهربائية متضادة يوجد حرارة تقدّر بخمسة عشر ألف درجة سانتيغراد.
  إن هذه الحرارة تحرق الهواء المحيط بها وبذلك يقل ضغط الجو الأمر الذي يؤدي إلى هبوط المطر.
  من جانب آخر قد يتبلور البرق على شكل صاعقة فيحرق حينئذ ما يصطدم به من الغابات والقرى والاشخاص والحيوانات والمزارع ، وهذا هو الذي ينجم عنه خوف الإنسان.
  ( وَيُنْشِأُ السِّحَابَ الثِّقَالَ ) قد يتصور كثير من الناس أنَّ السُّحُب لا تختلف ، وهي تعمل على وتيرة واحدة ، مع أنَّ الحقيقة شيء آخر ، وهي تختلف عن بعضها الآخر كثيراً.

أمثال القرآن _ 201 _
  ممّا تختلف فيه السحب هو أنّها تنقسم إلى ثقال وخفاف ، والثقال تتموقع في جوّ أقرب إلى سطح الأرض ، أمَّا الخفاف ففي جوّ مرتفع أكثر عن سطح الأرض ، وسبب اقتراب الثقال هو كثرة الرطوبة والماء فيها ، الأمر الذي يمنعها من التصاعد إلى أجواء أبعد.

الرعد دليل على عظمة الله
  يقول الله تعالى في الآية 13 من سورة الرعد : ( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيْدُ المِحَالِ ).
  تشير الآية الشريفة إلى موضوعين ، أحدهما : الرعد ، والثاني : الصواعق.
  وبما أنَّا تناولنا موضوع الصواعق في البحوث السابقة لذا نخص بحثنا هنا بالرعد.
  لقد قلنا سابقاً : إنَّ اصطدام سحب ذوات شحنات كهربائية مختلفة تولّد قدحة ضوئية وصوت ، فالنور يقال له : برق ، أما الصوت فيقال له : رعد.
  إنَّ الصوت والضوء يحصلان في وقت واحد ، لكن بما أنَّ سرعة الضوء أسرع من الصوت بمرات ، لذلك يصلنا الضوء قبل أن يصلنا صوت الاصطدام.
  رغم ما يبدو من بساطة في ظاهرة الرعد ، إلاّ أنّه يُعد من آيات الله العظمى ، وله تأثير مهم على حياة جميع الموجودات.
  لقد ذكر العلماء آثاراً كثيرة للرعد والبرق نشير هنا إلى أهمها :
  1 ـ هطول الأمطار هي أول فوائد الرعد والبرق ، وهي فائدة تعم جميع الموجودات سواء الإنسان أو الحيوان أو النباتات أو الجمادات.
  2 ـ يقتل الرعد والبرق بعض الآفات النباتية ، وذلك لأنَّ الحرارة التي توجد من خلال هذين الظاهرتين تسبب أكسجة الماء أي خلق ماء مؤكسج يتكون من ذرتين من الأوكسجين بدل ذرة واحدة مع ذرتين من الهيدروجين.
  ومن فوائد هذا الماء أنه من المطهرات ويمكنه قتل بعض الآفات والموجودات المضرة.
  إنَّ هذا الماء متوفّر في الصيدليات ويستخدم لغرض التطهير.
  وكلما زادت ظاهرتا الرعد والبرق كلّما قلت الآفات النباتية.
  الفائدة الاخرى للرعد والبرق هو انتاج الكثير من الاسمدة للنباتات.
  إنّ هذين الظاهرتين

أمثال القرآن _ 202 _
  تنتجان كل عام عشرات الملايين من الاطنان من الأسمدة القوية والمفيدة والمؤثرة على جميع النباتات.
  طريقة ايجاد هذه الاسمدة هو أنَّ الحرارة الناشئة عن الرعد والبرق تسبب تركيب الماء بذرات الكاربون فينتج أوكسيد الكاربون ، وعندما يهبط هذا الاوكسيد على الأرض يتركب مع الاتربة فينتج نوعاً من السماد المفيد والقوي والمؤثر.
  نعم ، إنَّ الرعد والبرق لهما هذه الآثار ، وهما من آيات الله العظمى.
  والمدهش أنَّ الله كشف عن هذه الأسرار العلمية في وقت لم تخطر في ذهن الإنسان هذه الامور أبداً.
  طبقاً للآية الشريفة ، الرعد يحمد الله ويسبّح له ، والتسبيح هنا يعني تنزيه الله من أي عيب ونقص ، ألم يكن قتل الآفات النباتية تنزيهاً لله من كل عيب ونقص ؟ أليست هذه الظاهرة تسبيحاً لله نوعاً ما ؟
  إنَّ الرعد يحمد الله على صفاته وجلاله وجماله.
  ألم تكن تغذيه النباتات نوعاً من الحمد والثناء لله في عالم الممكنات والمخلوقات ؟
  لا شكَّ أنَّ الآيات 12 و 13 تشير إلى هذه النقطة وتعدّها من وجوه عظمة الخالق.
  الخلاصة : أنَّ الآيتين أشارتا إلى بعض من الآيات الإلهية المهمة ، أي الرعد والبرق والمطر والصاعقة.
  الشرح والتفسير
  ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ ) يختلف المفسرون في المراد من هذه الجملة ، فالبعض يرى أنها تعني التوحيد ، والتوحيد خاص بذاته تعالى.
  ويعتقد بعض آخر أنَّ المراد منها هو القرآن المجيد ، فهي تشير إلى هذا الكتاب الإلهي.
  وكثير من المفسرين فسَّرها بالدعاء ، أي إذا أراد الإنسان أن يستجاب دعاؤه دعى الله خالصاً ، فغيره لا يحلّ شيئاً من المشاكل بل الله هو الوحيد القادر على استجابة الدعاء وحل المشاكل.
  والشاهد على هذا الرأي ( الرأي الثالث ) الذي نحن نذهب إليه هو ذيل الآية ، حيث تقول :

أمثال القرآن _ 203 _
  ( وَمَا دُعَاءُ الكَافِرينَ إلاّ فِي ضَلاَل ).
  إنَّ سبب كون دعاء الكافرين في ضلال هو أنَّهم يسألون من لا يقدر حتى على الدفاع عن نفسه ، ولا يستطيع كسب منفعة لنفسه فضلا عن نفعه الآخرين.
  ( والّذِيْنَ يَدْعُونَ مِنْ دُوْنِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيء إلاّ كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى الماءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) إنّ شاهد حديثنا في المثل العشرين هو هذا الجزء من الآية.
  إن الذين يدعون غير الله ويقصدون معابد الاصنام ويتوسلون بها لأجل حلّ مشاكلهم ، فمشاكلهم سوف لا تُحل.
  ومثل إنسان كهذا مثل الذي يبسط يده ويمدها ليأخذ الماء ويشرب ، وهو لا يستطيع من خلال هذا العمل شرب الماء أبداً.
  اختلف المفسرون في تفسير ( كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَآءِ ... ) نشير إلى أقوالهم هنا :
  1 ـ المراد منها هو شخص عطشان يريد إرواء عطشه فيقصد بئراً ليس فيه حبل ولا دلو ، وعمق البئر كثير جداً ، فيبسط هذا الشخص يديه في البئر ، لكن يديه لا تمتدان إلى أكثر من متر واحد .
  ولا شك أنَّ شخصاً مثل هذا سوف لا يبلغ هدفه ولا يروي عطشه.
  2 ـ مراد الآية هو الشخص الذي يقف بجنب البئر ويشير للماء لكي يصعد ويشرب منه.
  ومن الواضح أن الماء هنا لا يُنال بالاشارة إليه ، بل هناك حاجة واقعية لوسيلة ترفعه.
  نعم ، دعاء الكافرين عند معبد الأصنام ضلال ، وحالهم حال إنسان كهذا.
  3 ـ إنَّ ( باسط ) تعني الذي يفتح يديه ولا يحنيهما بحيث يتمكن الاغتراف بهما.
  فإنَّ هذا الشخص يذهب إلى جنب الماء ويغترف منه بيديه حال كونه فاتح يديه وباسطهما ، وهو أمر لا يوفّر له الماء فيضطر للابتعاد عن مصدر الماء ، وهو عطشان.
  نرى أنَّ التفسير الأوّل هو أنسب الثلاثة ، رغم إمكانية القول بأنّ الثلاثة صحيحة وكلها تبيّن مراداً واحداً ، وذلك لانَّا نعتقد بامكانية استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى واحد (1).
  وعلى ما تقدم علينا ـ لأجل حل المشاكل ـ أن لا نطرق غير باب الله ، بل نقصد بابه منذ البداية ، فهو الخالق والرازق والمحيي والمييت وهو حلاّل المشاكل وكل شيء بيده ، اما غيره فلا

--------------------
(1) إنّ هذه قضية اصولية طرحت في كتب الأصول ، وللمزيد راجع انوار الاصول 1 : 145.