أراضيهم ، فأصبحت أراضيهم بذلك قطعة من الخضار لكثرة التشجير والمزارع والبساتين ، وما كان الله يريد من هذا القوم إلاّ شكر الرب على نعمه الوافرة ، كما يصرّح القرآن بذلك في الآية 15 من سورة سبأ :
( كُلوا مِنْ رِزْقِ ربِّكُمْ واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طيِّبةٌ وربٌّ غَفُورٌ ) لكن باعتبار أنَّ الإنسان ينسى الله عندما يغرق في نعمه ، فكذا قوم سبأ كانوا قد نسوا الله وأصابهم الغرور والطغيان وكفران النعمة ، وهذه من صفات الإنسان إذا كان ضيق الصدر ، حيث ينسى كل شيء عندما يبلغ مستوى الرخاء.
إنّ القرآن يصف العذاب والنقمة التي أصابتهم كالتالي :
( فَأَعْرَضُوا فأرْسَلْنَا عَلَيْهِم سَيْلَ العَرِم وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَتَيْهِم جَنَّتِيْنِ ذَوَاتَي أُكُل خَمْط وَأثْل وَشَيء مِنْ سِدْر قَليل ) (1).
نعم ، إنّ كفران النعمة هو الذي بدّل نعمة السد الترابي إلى نقمة وعذاب.
وقد توفرت مقدمات العذاب ، بعدما أوحى الله لفئران أن تثقب السدّ ، فكان الماء يخرج من الثقوب شيئاً فشيئاً إلى أن توسعت الثقوب لتصل إلى مستوى استطاعت أن تدمّر السدّ ، فتدفّق الماء بشدة ودمّر قصور القوم وبساتينهم وأنعامهم ، وبدّل مزارعهم إلى أراض جرداء.
وفي النتيجة تبدّل هذا السدّ ـ إثر إعراضهم عن الله ـ إلى عذاب ليكون عبرة لمن بعدهم ، ولكي لا يطغى الإنسان أمام الله.
النموذج الآخر ، هو عذاب الله الذي نزل على قوم شعيب من خلال الصيحة ( كما يعبر عنها القرآن في الآية 94 من سورة هود ) أو الصاعقة ، وهي من جهتين تعتبر عذاباً .
الأولى : أنَّها تحرق كل ما تصطدم به.
والثانية : أنّ أمواجها الصوتية تذهب بالسمع.
ويُذكر هنا أنَّ هذه الصاعقة كانت نعمة لهم ، لأنها تسبب هطول الامطار ، تلك النعمة التي يدين لها جميع الأحياء على الكرة الأرضية.
وحسب ما ذكر في الآية 16 من سورة هود ، أنّ الاستئصال كان نتيجة طغيانهم وكفرانهم لنعم الله ، وتبدّلت بذلك الأرض التي هي مهد الإنسان ومسكنه إلى وسيلة عذاب يتعذبون بها.
--------------------
(1) سبأ : 16.
أمثال القرآن
_ 137 _
إنّ اهتزاز الأرض دمر جميع مدنهم ، وقد أنزل الله وابلا من الأحجار عليهم بحيث لم يبق من آثارهم شيءٌ أبداً.
أشرنا سابقاً إلى أن الريح من نعم الله العظمى للمزارعين ، كما أنَّه إذا لم يهب فانَّ عملية لقاح الاشجار سوف لا تتمُّ ، كما أنَّ الهواء إذا لم يتغير فسوف يستهلك الاوكسجين فيه ، وفي النهاية سوف لا تثمر الاشجار والنباتات من جراء ذلك.
3 ـ فلسفة الكوارث الطبيعية
منذ القدم كانت المسألة التالي ذكرها أحد مسائل بحث العدل الإلهي ، وهي : إذا كان الله عادلا فما فلسفه الكوارث والحوادث المؤلمة من قبيل الأمراض والسيول والطوفانات والزلالزل والامطار الشديدة والاعصار المخيفة ؟
هل تتلاءم هذه الامور المؤلمة للإنسان أو المدمّرة له مع عدالة الله ؟
لا نعرف التاريخ الدقيق لطرح هذه الشبهة ، وقد يرجع تاريخها إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح ( عليه السلام ).
وقد دوِّنت في هذا المجال البحوث والكتب الكثيرة ، وهممنا في كتاب ( خمسين درساً عقائدياً ) بالاجابة على هذه الشبهة.
وقد تصدَّى القرآن في بعض آياته للاجابة على هذه الشبهة ، نشير إلى نماذج من تلك الآيات :
1 ـ تعتبر بعض الآيات التنبّه واليقظة من أهداف هذه البلايا والكوارث ، كما هو كذلك في الآية 41 من سورة الروم : ( ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيدِي النَّاسِ ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلوُا لَعلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ).
على أساس هذه الآية ، تعدُّ الكوارث لطفاًُ من الله للغافلين من الناس ، فإنَّها قد تفيق الغافلين عن غفلتهم لعلهم يرجعون إلى الله ، مثلما ابتلى الله الناس في زماننا هذا بمرض الايدز لكثرة فسادهم لعلهم بهذا الابتلاء يرجعون عن فسادهم وينتبهون إلى أنفسهم ، أو مثلما يبتلي شعوب العالم حالياً بالحروب والاختلاف الطبقي الفاحش والانقلابات والسقوط وتدمّر الحضارات البشرية وذلك لتفشي أمراض مثل أكل الربا فيهم.
فهذه الابتلاءات تحلُّّ بالناس
أمثال القرآن
_ 138 _
لعلّها تنبههم وترجعهم إلى الطريق الصواب وتفيقهم من غفلتهم هذه.
إذن ، الابتلاءات هذه مواهب إلهية في الواقع.
ولأجل اتضاح هذه الفلسفة بشكل أفضل التفتوا إلى هذا المثال : نشاهد في بعض الشوارع الطويلة والمستوية بعض العقبات والعكر تعَّمد إيجادها المعنيوّن ، إذا ما سألنا عن سبب ذلك قالوا : إن شوراع من هذا القبيل قد تؤدي إلى غفوة السائق وغفلته الأمر الذي قد يودي ، بحياته وحياة الآخرين ، ولأجل الحيلولة دون غفوة السائق نتعمد إيجاد هذه العكر ليبقى السائق منتبهاً دائماً.
إنّ حياة الإنسان إذا خلت من هذه العقبات قد تؤدي إلى غفلة الإنسان وغفوته وسقوطه في الهاوية في نهاية الأمر ، لكن وجود هذه العقبات تحول دون غفلته وتنجيه من السقوط رغم أنها تؤذيه ولا تريحه.
2 ـ الفلسفة الاخرى المستفادة من الآيات هي أنَّ بعض هذه البلاءات والحوادث نتيجة عمل الإنسان نفسه ، وبتعبير آية المثل : أنَّ الإنسان يظلم نفسه وأنَّ الله لا يظلم أحداً.
على سبيل المثال ، الأبوان اللذان لايكترثان بسوء أو حسن تربية الاطفال ، ولا يهتمان بتعليمهم المسائل الدينية ، ولا يرشدونهم إلى الاماكن الدينية مثل المساجد والحسينيات ولا يعوّدونهم على التردد على هذه الأماكن ، فان النتيجة ستكون اطفالا غير مهذبين أو متعاطين للمخدرات ، الأمر الذي يعود بأضراره لا على نفسيهما فحسب بل على جميع المجتمع ، لكن يا ترى من كان السبّاق والناثر للبذرة الأولى لهذا الشذوذ وهذا الظلم؟ لا أحد غير الأبوين.
إعتبروا قبل مدة جاء شخص محترم لمكتبنا لغرض دفع ما عليه من واجبات مالية ، فقضى الموظفون حاجته وأدى ما عليه ، ثم رحل.
بعد فترة من الزمن جاء نفس الشخص مع صديق له ، وهو يحمل معه الكثير من الهمّ والغمّ ، ورأيته يبكي ، فسألته عن سبب بكائه ؟ فأجابني : أنَّ إطفالي صادروا جميع ما جمعت من المال خلال السنوات الماضية من عمري ، وقد طردوني من البيت ، وأنا الآن أنام في كل ليلة في بيت
أمثال القرآن
_ 139 _
من بيوت المعارف.
ثم أشار إلى صديقه وقال : إنّ الطريق الذي سلكه صديقي كان طريقاً صحيحاً ، فهو سعى منذ البداية في تربية أولاده وتعاليمهم والاحكام الإسلامية وأرشدهم منذ الصغر إلى المساجد والحسينيات ، وأولاده حالياً كالعصى بيد والديهم يحترمونهما ويؤدون واجباتهم تجاههما ، إلاّ اني أخطأت منذ أن فكّرت في إرسالهم للخارج وتعليمهم العلوم من دون الاكتراث بما قد يسيء ذلك إلى تربيتهم.
وحالياً عندما رجعوا إلينا وجدناهم لا يفكرون إلاّ بأنفسهم ومصالحهم المادية ، فلا يهتمون بشيء غير المال ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1).
إنّ لطف الله ورحمته على العباد مثل الغيث الذي يهطل على الأراضي ، ففي بعضها تنبت الزهور والنباتات ، وفي بعضها الآخر تنبت الأدغال ، والاشكال ليس في المطر بل في ذات الأرض.
كما أنه لا اشكال في أنوار الهداية الإلهيّة ، بل الاشكال في قلوب الناس.
وعلى هذا ، فإنَّ الفلسفة الاخرى لهذه الابتلاءات هي أنَّها ردود فعل لأفعالنا نحن.
بالطبع هناك فلسفات اخرى لهذه الظواهر ، نحن نكتفي هنا بالموردين السابقين.
--------------------
(1) جاءت آيات كثيرة بهذا المضمون ، منها الآية 57 من سورة البقرة ، والآية 117 من سورة آل عمران والآية 9 و 16 و 162 و 177 من سورة الاعراف ، والآية 70 من سورة التوبة والآية 44 من سورة يونس.
أمثال القرآن
_ 141 _