ضوئه على مستوى اقترابنا من المجتمع الاسلامي المطلوب.
4 ـ دراسة المشبَّه في آية الانفاق
للمفسرين رأيان في تحديد المشبّه في الآية 261 من سورة البقرة ، فبعض قال بأنه المال المنفق ، حيث شُبِّه بالحبة المباركة التي تنتج سبعمائة حبة.
وقال بعض آخر : بأنَّ المشبَّه هو المنفِق الذي ينمو ويتكامل إلى مستوى رفيع جداً.
اكثر المفسرين يعتقد بأنَّ المشبَّه هو المال المنفق ويقدرون جملة محذوفة هنا لتكون حقيقة الآية كالتالي : ( مثل اموال الذين ينفقون ... ).
ونحن نعتقد أنَّ الآية لا تحتاج إلى التقدير ، وحسب الظاهر فإنَّ المشبَّه هو الإنسان المنفِق الذي تعلو شخصيته وتتكامل وتنمو إلى مستوى سبعمائة ضعف ، ومصداق هذا الاعتقاد هو الايات والروايات التي دلت على أنَّ الإنسان كالنبات ينمو ويتكامل.
أولا : يقول الله في الايات 17 و 18 من سورة نوح :
( واللهُ أنْبَتَكُم مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً ثم يُعيدُكُمْ فيهَا ويُخْرِجُكُمْ إخْرَاجاً ) فقد شُبّه الإنسان هنا بالنبات الّذي يُزرع لينمو ويتكامل ثم يجف ثم يحيا مرة أخرى ثم يجف ثم يحيا وهكذا ...
ثانياً : يقول الله في الآية 37 من سورة آل عمران :
( فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُول حَسَن وأنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَريا ... ) فقد استخدم هنا مادة الانبات للاشارة إلى تربية مريم من قبل زكريا ، والشاهد هو تشبيه تربية الإنسان بتنمية الزرع بعد انباته.
ثالثاً : جاء في حديث نقل عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : ( إياكم وخضراء الدمن ! ) قيل وما خضراء الدمن ؟ قال : ( المرأة الحسناء في منبت السوء )
(1) فقد شبه الإنسان هنا بالنبات الذي قد ينبت في مكان سيء.
من جانب آخر ، انَّ في هذا الحديث خطاباً واضحاً ووصية مهمة للشباب المقبلين على تشكيل عائلة ، ففي هذا الحديث يوصي الرسول ( صلى الله عليه وآله ) المؤمنين أنْ لا يجعلوا الجمال المقياس الوحيد لانتخاب الزوجة بل اضافة اليه ينبغي النظر إلى العائلة ، أي المكان الذي تربت فيه
--------------------
(1) وسائل الشيعة ج 41 ، أبواب مقدمات النكاح ، الباب 7 ، الحديث 7 ، والدمن تعني المزبلة.
أمثال القرآن _ 83 _
الزوجة ، وذلك رغم أنَّ الجمال بحد ذاته قيمة إلاّ أنّه يرضي الزوج في الفترة الوجيزة الاولى من الحياة المشتركة ، أمّا القيم الأساسية والمهمة في الحياة العائلية ، وهي التربية والثقافة والفكر والقيم المكتسبة في البيت فيبرز دورها في المراحل اللاحقة من حياة الإنسان. والجميلة إذا لم تتميز بسيرة حسنة واخلاق جميلة بدلت محيط العائلة المقدس إلى جهنم يصعب تحملها.
كما شاهدنا في الايات والروايات السابقة ، فإنَّ الإنسان شبّه بالنبات الذي ينمو ويتكامل ، وبهذا يمكن أنْ نستدل على أنَّ المُراد من المشبَّه في الآية هو الإنسان نفسه.
وفي النتيجة يكون مفهوم الآية كالتالي : أيها الإنسان أنت كالنبات والإنفاق بمثابة الماء الذي يسقي النبات ليمنحه حياة ونمواً.
وبعبارة أخرى : إنَّ الانفاق يُحيي في الإنسان الصفات العليا مثل السخاء والعطاء والمروة والانصاف والشجاعة وغير ذلك.
إنَّ هذه الصفات في البداية تكون ( فعلا ) أو عملا مجرداً ، واذا ما تكررت تصبح عادة وفي صورة الاستمرار تصبح ( حالات ) وفي النهاية تكون ( ملكة )
(1) وجزءاً من وجود الإنسان.
وعلى هذا ، فالانفاق ، قبل ان تكون له عوائد مادية ، له مردودات معنوية ، وكلما كان الانفاق عن اخلاص اشد وكلما كان اطهر وانسب كلما كانت هذه المردودات اكثر وأوسع ، وقد نكون جميعاً جربنا عطاءنا مسكيناً لم يصّرح بحاجته لنا مقداراً من المال ( رغم حاجتنا له ) وجدنا في ذلك لذة معنوية احسسناها بكل وجودنا ، وبلغنا إثر ذلك هدوءاً باطنياً وحالة روحانية ومعنوية خاصة.
ذلك هو النمو والتعالي الذي تشير اليه الآية من خلال مثلها.
إنَّ الله القادر والحكيم بامكانه أنْ يغني الجميع ويجتث جذور الفقر من المجتمعات ، لكنه شاء أن تكون هناك فجوة بين الفقراء والأغنياء يسعى المؤمنون في ملئها ليروا آثار أعمالهم الحسنة وبركات انفاقهم في الدنيا ويشعروا بهذه الاثار ويبلغوا اثر ذلك الدرجات العليا من الكمال والمعنوية.
وعلى هذا فلا نمن على الله بالانفاق ولا على المنفق عليه ، بل الله هو الذي يمن علينا أنْ وفقنا لهذا العمل العظيم
--------------------
(1) مكارم الاخلاق : 474 ، طبع جامعة المدرسين في قم ، نقلا عن اخلاق الأنبياء : (1) ان الملكة تعني ( الصفة الراسخة في البدن ) ، وتوضيح ذلك : إذا حصلت للانسان هيئة خاصة من جراء فعل ما قيل لهذه الهيئة : ( كيفية نفسانية ) ، واذا كانت هذه الكيفية سريعة الزوال قيل لها : ( حال ) ، واذا كانت بطيئة الزوال كانت ملكة أو عادة ( موسوعة دهخدا ينقلها عن الجرجاني ).
أمثال القرآن
_ 84 _
( اللهم وفقنا لما تحب وترضى ).
ومن مجموع ما مضى يمكننا ان نفسر الآية 261 من سورة البقرة بصراحة من دون حاجة إلى تقدير جملة محذوفة.
رغم ذلك فانا لا نصر على تفسيرنا بل نعتبر أنَّ كلا التفسيرين مقبولان ، أي يمكننا القول : الآية تفيد أنَّ مال الفرد المنفق ينمو كما أنَّ شخصيته تنمو من خلال نمو وتكامل خصالها الحسنة (1).
نمو المال المنفق في كلام الرسول ( صلى الله عليه وآله )
في مجال نماء المال المنفق ، للرسول ( صلى الله عليه وآله ) كلام جميل ننقله هنا : ( ما تصدق احد بصدقة من طيب ـ ولا يقبل الله الا الطيب ـ إلاَّ أخذها الله الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون اعظم من الجبل ) (2).
في هذه الرواية نرى عدة نقاط أهلا للإنتباه :
الاولى : الرواية صرحت بأنَّ الله ياخذ الصدقة بيمينه وهذا أمر يطرح تساؤلا : هل لله جسم وأعضاء ؟
من البديهي أنّ الله غير مجسم ، وتعبير ( الاخذ باليمين ) كناية عن قدرة الله الكاملة ، وذلك لأنَّ اليمنى عند الإنسان غالباً اقوى ، لذلك كان مفهوم العبارة أنَّ الله يأخذ الصدقة بقدرة كاملة مع احترام.
الثانية : انّ ما يحضى بالأهمية في الإسلام هو كيفية العمل ودوافعه لا كميته وظاهره.
وعلى هذا ، فإنّ اعطاء تمرة حلال لمسكين من دون منة ولا أذى افضل عند الله من تمر كثير غير حلال أو تزامن مع منة أو أذى.
الثالثة : وفقاً لهذه الرواية ، فإنّ المال المنفق ينمو إلى سبعمائة ضعف أو أكثر.
وعلى هذا الأساس ، فإنَّ المال يبقى عند الله ينمو ويرد إلى صاحبه يوم القيامة ليكون سبباً لانقاذه من
--------------------
(1) الاستاذ كغيره من محققي علم الاصول يجوّز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد.
وبناء على هذا الرأي يتمكن المتكلم النطق بلفظ وارادة عدة معاني منه.
وللمزيد راجع انوار الاصول 1 : 141 فما بعدها.
(2) صحيح مسلم 2 : 702 ، وقد جاء نفس المضمون في روايات اهل البيت ( عليهم السلام ) في وسائل الشيعة ج 6 ، ابواب الصدقة الباب 7 ، الحديث 5 ـ 8.
أمثال القرآن
_ 85 _
نار الجحيم.
( الانفاق ) في تعابير القرآن الجميلة
لاجل بيان اهمية الانفاق في الإسلام وقيمته في القران ، وردت في القرآن تعابير كثيرة عن هذا الأمر ، وهي اهل للالتفات والدقة نكتفي هنا بذكر نموذجين منها :
الأول : جاء في الآية الشريفة 245 من سورة البقرة ما يلي : ( مَنْ ذَا الّذِي يَقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعَافاً كَثِيْرَةً ).
التعبير بالقرض الحسن عن الانفاق تعبير بديع ومدهش ، كيف يمكن لله القادر والمالك لكل شيء أنْ يقترض من الإنسان الفقير والمحتاج لربه في كل حركاته وسكناته وحتى في الشهيق والزفير ؟ ومع لحاظ أنَّ القرض الربوي في الإسلام حرام فإنّ التعبير عن الانفاق بالقرض الحسن لا يكشف إلاّ عن اهمية الانفاق وتشجيع للعباد لاجل اداء هذا العمل بإخلاص.
ويبدو أنَّ ذكر هذه النقطة ضروري ، وهي أنَّ ( القرض الربوي ) ناظر إلى العباد وسلوكهم بينما القرض الحسن ناظر إلى رب العباد ، وهو يعني أنَّ من يقرض الله قرضاً فالله يرجعه مع اضعاف مضاعفة ، والنقطة المدهشة كثيراً هنا هي أنَّ يَد الفقير ـ حسب الآية والروايات المذكورة ـ هي يد الله ، وبيته هو بيت الله.
وفي الحقيقة ان ما يوضع في يد الفقير يوضع في يد الله ، ولذلك كانت الروايات توصينا بأنْ نضع ايدينا في مستوى ادنى من يد الفقير عند التصدق إليه ، لأجل أنْ يَأخذها من أيدينا ، ولأنَّ يده هي يد الله وقدرته الكاملة ، وهو الذي يستلم المال من المتصدق.
حذارا أن تصدر منا اهانة أو تحقير لفقير.
وقد تكررت العبارة المذكورة هنا في الآية 11 من سورة الحديد ، كما قد اضيف لها جملة أخرى : ( مَنْ ذَا الذي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضَاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أجْرٌ كَرِيمٌ ... ).
الثاني : جاء في الآية 92 من سورة آل عمران : ( لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شِيء فإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ... ).
وكذا جاء في الآية الشريفة 267 من سورة البقرة ( يَا أيَّها الَّذِينَ آمنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّباتِ مَا كَسَبْتُم وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) ، أي عليكم أن لا تنفقوا الا من الطيبات فلا تنفقوا من
أمثال القرآن
_ 86 _
الاشياء التي لا فائدة فيها أو مضرة مثل الملابس الخلقة أو الفواكه والمأكولات الفاسدة وما شابه ذلك ، بل تذهب الآية إلى ابعد من ذلك لتأمر بانفاق ما يحبه الإنسان ، والذي هو أهل لان يعطى بيد الله ، فإنَّ غير ذلك ليس أهلا لوضعه بيد الله ، فالانفاق بالاكل ينبغي أنْ يكون من النوع الذي يحبه المنفق له ولعياله وفي الملابس من النوع الذي يحب لبسه المنفق واهل بيته.
إنَّ نظام القيم الحاكم في الإسلام يحكى عن منح الإسلام القيمة والاهمية لكيفية العمل لا كميته ومقداره ، ولهذا يضاعف الله أجرة تمرة واحدة ألف ضعف ، بينما لا يفعل ذلك في تمرة أُخرى ، لأنَّها قد لا تكون مكتسبة من حلال أو قد تنفق بنية الرياء وما شابه.
ننقل هنا حكاية عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) تكشف عن دقائق الانفاق : كان الرسول يعدُّ العدة لاحد غزواته وكان المسلمون يتبرعون لاجل هذه الغزوة ... فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا : مراء ، وهذا القول صدر من المنافقين الذين لا يامن احد من لسانهم ، وجاء أبو عقيل ، الذي ما كان مورده يسعه للتصدق فاضطر للعمل ليل نهار لاجل الاشتراك في هذه التعبئة الجماهيرية ، بنصف صاع فقال المنافقون : إنّ الله لغني عن صدقة هذا ، فنزلت الآية 79 من سورة التوبة : ( الّذِيْنَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ والّذينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُم سَخِرَ اللهُ مِنْهُم وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيْمٌ ) (1).
--------------------
(1) انظر الامثل 6 : 130 ـ 133.
أمثال القرآن
_ 87 _