( إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً ، أمّا المؤمن فيمنعه الله بايمانه وأما المشرك فيقمعه الله بشركه ، ولكني أخاف عليكم كل منافق عالم اللسان ، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون ) (1).
  وفقاً لهذه الرواية ، إنَّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كان قلقاً على المجتمع الاسلامي من خطر المنافقين ، وقلقه لم ينحصر في العهود الماضية وفي الحجاز فحسب ، بل ان قلقه شامل لجميع العصور والبلاد الاسلامية وحتى الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
  5 ـ التعبير بـ ( النار ) في القرآن
  هناك نتيجتان تترتبان على استخدام القرآن لمفردة ( نار ) لا ( نور ) :
  الاولى : ان الدخان والرماد من لوازم النار ، والمنافق يبلي الآخرين بما ينجم من مضار عن هذه النار التي اججها بنفسه ، المضار التي نتيجتها التفرقة والضغوط التي تفرض على الناس ، هذا مع ان المؤمن ينهل من النور الخالص والمشعل المضيء للايمان.
  الثانية : رغم تظاهر المنافقين بنور الإيمان الا ان واقعهم نار ، واذا تمتعوا فبشعلة ضعيفة وقصيرة مدتها (2).
  6 ـ النور والظلمات
  يقول الله ( وَتَرَكَهُمْ فى ظُلُمَات لا يُبْصِرُونَ ).
  إنَّ مفردة ( ظلمات ) استخدمت 23 مرة في القرآن ، ولم تستخدم في مورد من الموارد بصيغتها المفردة بل كانت في جميع هذه الموارد جمعاً.
  أما مفردة ( النور ) فقد استخدمت 43 مرة في القرآن وفي صيغة المفرد لا الجمع ، ويا ترى أليس في ذلك خطاب ؟
  سر هذا يرجع إلى أنّ القرآن يريد بيان ان النور واحد مهما كان نوعه ، وهو نور الله ( اللهُ

--------------------
(1) نهج البلاغة الرسالة 27 وكذا ميزان الحكمة ، الباب 3934
(2) للمزيد راجع تفسير الأمثل 1 : 96 ـ 100.

أمثال القرآن ـ 31 ـ
  نُورُ السَّمَواتِ والأَرْضِ ) (1) .
  أما نور الايمان ونور العلم ونور اليقين ونور الاتحاد والتلاحم وفكلها ترجع إلى نور واحد ، وهو نور الله ولا نور غيره ، لذلك لم يستخدم القرآن النور الا بصيغة المفرد.
  أمّا النفاق والكفر والاختلاف والتفرقة فهي ليست ظلمة واحدة ، بل ظلمات متعددة ، هناك ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة البخل وظلمة الحسد وظلمة عدم الخوف من الله وظلمة الهوى والهوس وظلمة الوساوس الشيطانية و ... وخلاصة الظلمات متنوعة وليست واحدة ، لذلك استخدمت بصيغة الجمع.
  7 ـ خصال المنافقين الثلاث
  إنّ المنافقين ـ حسب هذه الآية ( 18 ) ـ لهم ثلاث خصال :
  الأولى : صمّ ، وهي صيغة جمع لأصم وتعني عدم السمع.
  الثانية : بكم ، وهي صيغة جمع لأبكم وتعني أخرس.
  والآية تعني أنهم لا يسمعون ولا ينطقون ، إنّ الاصم لا يستطيع التكلم رغم سلامة جهاز النطق عنده ، لأنَّ الإنسان لا يمكنه ان ينطق بكلمة لم يسمعها ولم يتعلمها ، ولذلك جاء القرآن بصفة الاصم قبل صفة الابكم ، وهي تعني في النهاية ان المنافقين صمّ وبكم دائماً.
  الثالثة : عمي ، وهي جمع ( أعمى ) وتعني فاقد البصر ، وعلى هذا فان المنافقين صم بكم وعمي ، أي لا اذن لهم يسمعون بها ولا لسان لهم ينطقون به ولا عين لهم يبصرون بها.
  ومع هذا الحال ، كيف يمكنهم معرفة الطريق الصحيح وكيف يمكنهم ادراك انحرافهم وخطأهم ؟
  إنَّ هذه الحواس والعناصر الثلاثة هي وسائل معرفة الإنسان ، فالاذن وسيلة للتعلم ، واللسان وسيلة لنقل العلوم من جيل إلى آخر ، والبصر هو وسيلة لاكتشاف العلوم والظواهر الجديدة ، والذي يفقد هذه العناصر الثلاثة لا يمكنه الخروج من الطريق المنحرف كما لا يمكنه الرجوع إلى طريق الحق ، لكن يطرح سؤال هنا وهو : انا نشهد المنافقين يتمتعون بالحواس الثلاث ، فلم القرآن ينفيها عنهم ؟

--------------------
(1) النور : 35.

أمثال القرآن ـ 32 ـ
  نقول في الجواب : للقرآن منطقاً خاصاً فينُظر إلى كل شيء في معجم القرآن من حيث الاثار التي تترتب عليه ، ووجود الشيء وعدمه يتوقف على وجود آثاره وعدمها.
  وعلى هذا ، فالذين يتمتعون بنعمة النظر لكنهم لم يستخدموه لمشاهدة آيات الله والاعتبار من مناظر الدنيا هم في الحقيقة عمي حسب رؤية القرآن ، واولئك الذين يتمتعون بنعمة السمع لكنهم لا يصغون لكلام الله ولا صوت المظلومين والمستضعفين فهم صم في منطق القرآن ، واولئك الذين يتمتعون بنعمة اللسان لكنهم لا يشغلونه في ذكر الله والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وارشاد الجاهل و ... فهم بكم في معجم القرآن.
  ووفقاً لهذا المعجم في مقياس اوسع اعتبر بعض الاحياء من الناس أمواتاً ، وبعض الاموات احياءً ، كمثال على ذلك يصف القرآن شهداء طريق الحق بأنهم احياء رغم انهم اموات ظاهراً.
  ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الّذين قُتِلُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (1) .
  إنَّ الشهداء من وجهة نظر القرآن احياء ، وذلك لانهم يحضون بالتأثير الذي يحضى به الإنسان الحي ، فانهم يقوّون الإسلام وذكرهم يداعي في الاذهان المعروف والحسنات.
  ويقول القرآن في مكان آخر : ( إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ ليُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القَولُ على الكَافِرِينَ ) (2) .
  إنّ الأحياء من وجهة نظر القرآن المجيد وفق هذه الاية هم طائفتان :
  الاولى : المؤمنون الذين يعيشون حياة قرآنية .
  الثانية : غير المؤمنين وهم اموات يعيشون بين الأحياء ، فإنّ الذين يفقدون الأذن الصاغية أموات حسب رأي القرآن.
  وفي النتيجة إنّ المنافقين رغم ما يحضون به من اذن وعين ولسان ، يفقدون الآثار الوجودية المترتبة على هذه الحواس.
  لذلك عُدّوا صمّاً وبُكماً وعُمياً من وجهة نظر القرآن ، فهم إذن ( لا يْرجِعُونَ ) أي لا يرجعون عن طريق الباطل ، وذلك لأنهم يفقدون آليات المعرفة ، شأنهم شأن الذي تجتمع فيه صفات الصم والبكم والعمي وقد أخذ بالسقوط ، فإنّا لا يمكننا انقاذه أبداً ،

--------------------
(1) آل عمران : 169.
(2) يس : 69 و 70.

أمثال القرآن ـ 33 ـ
  لأنه لا لسان له ليستنجد ولا اذن له ليسمع تحذيرنا ، ولا يملك عيناً ليرى بها علائم الخطر قبل أن يسقط.
  8 ـ منشأ ( النفاق )
  للنفاق ثلاثة مناشىء :
  الأول ـ العجز عن المواجهة والنزاع المباشر : ان الاعداء عندما يخسرون النزاع ويفقدون القدرة عليه بشكل مباشر ، يتقمصون قميص النفاق ليستمروا بالعداء والخصومة.
  إنّ اعداء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كانوا يتظاهرون بالعداء له ، لكنهم تظاهروا بالاستسلام عندما تغلب الرسول عليهم واستمروا يبطنون الكفر والعداء له وللإسلام وإنَّ أبا سفيان وأمثاله ضلوا منافقين إلى آخر عمرهم (1) .
  ولأجل ذلك كان الإعتقاد بأن النفاق بدأ من المدينة ، لأن الإسلام في مكة كان ضعيفاً ، وما كان أحد يخافه ، لذلك ما كان حاجة للتظاهر بالإسلام وتبطين الكفر الا انا نعتقد ان النفاق بدأ من مكة رغم ان دواعي النفاق في مكة لم تكن الخوف ، بل داعي النفاق آنذاك هو توقع البعض مستقبلا زاهراً للإسلام ، الأمر الذي يضمن لهم مستقبلا وموقعاً جيداً.
  يمكننا مشاهدة هذا الاسلوب من النفاق في جميع الازمنة والثورات منها الثورة الإسلامية في ايران ، فان بعض المنافقين هم الأعداء الذين خسروا المعركة ضد الثورة وعيوا النزاع المباشر والعلني.
  الثاني ـ الإحساس بالحقارة الباطنية : ان الشخصيات الضعيفة والجبانة والتي تفقد الشجاعة اللازمة لابراز الاعتراض والتفوه بما يخالف الآخرين ، تسعى هذه الشخصيات ان تسلك النفاق منهجاًً لحياتها ولتتجنب المواجهة بل تتظاهر بالاتفاق مع الجميع.
  إن المنافق يتظاهر بالإسلام عند المسلمين ويتظاهر بعبادة النار عند عبدة النار ، ويتظاهر

--------------------
(1) إنَّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كان يعلم بحالهم لكن باعتبار ان مواجهتهم العلنية والمباشرة كانت تؤدي إلى نتائج لا يحمد عقباها اجتنب عن منازعتهم ومخاصمتهم وقد قال : ( لولا اني اكره ان يقال : ان محمداً استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه قتلهم لضربت أعناق قوم كثير ) وسائل الشيعة ج 18 ، ابواب حد المرتد ، الباب 5 ، الحديث (3)

أمثال القرآن ـ 34 ـ
  بالعلمانية عند العلمانيين ، وذلك لضعف الشخصية ، فهو لا يتجرأ التفوه بعقيدته الواقعية (1) .
  الثالث ـ حب الدنيا : إنّ النفاق الدولي والعالمي لهذا العصر ينبع من هذا المنشأ .
  إن سبب الازدواجية في التعامل وانطلاق دعوات لاحترام حقوق البشر من قبل بعض الدول الاستكبارية في موارد ، وسكوت ذات الدول في موارد أخرى ، رغم ما تحصل من انتهاكات وجرائم ضد البشرية ، هو حب الدنيا ، فالدول تطلق هذه الدعوات متى ما تعرضت مصالحها للخطر وتستخدم هذه الحربة ضد الدول التي تعرض مصالحها للأخطار ، إلاّ أنها تتغاضى عن هذه الانتهاكات إذا ما صدرت عن احد صديقاتها التي لا تعرّض مصالحها للخطر ، حتى لو كانت الانتهاكات واضحة ولا شبهة فيها ولا تبرير لها.
  القرآن المجيد يحكي نماذج بارزة ومؤلمة عن هذه الطائفة من المنافقين في الايات 75 ـ 77 من سورة التوبة : ( وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ اللَه لَئِنْ آتينا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَدَّقَنَّ ولنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمّا آتاهُم مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُو بِه وتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فى قُلُوبِهِمْ إلى يَومِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ).
  هذه الايات نزلت في ثعلبة بن حاطب ، وكان من الانصار فقال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : ادع الله ان يرزقني مالا ، فقال : ( يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه (2) أمّا لك في رسول الله اسوة حسنة ؟ والذي نفسي بيده لو أردت ان تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت ).
  ثم اتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله ان يرزقني مالا والذي بعثك بالحق ، لئن رزقني الله مالا لاعطين كل ذي حق حقه (3) .
  فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( اللهم ارزق ثعلبة مالا ).

--------------------
(1) في حديث للامام علي ( عليه السلام ) اشار فيه إلى هذا المنشأ ( نفاق المرء من ذل يجده في نفسَه ) ميزان الحكمة الباب 9392 ، الحديث 20258.
(2) مراد الرسول الاكتفاء بالحياة البسيطة والقناعة بها.
(3) من الأمور المستفادة من هذه الرواية هو عدم الاصرار على الطلب.
وقد جربت هذه القضية لمرات عديدة ، فان عدم الاستجابة قد تكون لصالح الإنسان وهو لا يعلم بذلك كما يقول الله ( عَسَى أن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكُم ) الأمر صادق حتى بالنسبة إلى الطلبات المعقولة مثل الاصرار على التوفيق لاداء صلاة الليل فان عدم توفيقه قد يكون لاجل الحول دون ابتلائه بالعجب والرياء.

أمثال القرآن ـ 35 ـ
  فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها ، ثم كثرت نمواً حتى تباعد من المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة ، وبعث رسول الله( صلى الله عليه وآله ) اليه المصدق ليأخذ الصدقة فابى وبخل وقال : ما هذه الا اخت الجزية ، (1) فقال رسول الله( صلى الله عليه وآله ) : ( يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة ) ، وأنزل الله الآيات (2) .
  أرجع القرآن سبب نفاق ثعلبة إلى بخله وحبه للدنيا وخلفه للوعد ، والمدهش أنّ الآية الشريفة اعتبرت نفاق امثال ثعلبة مستمراً إلى يوم القيامة ولا يخرج من قلوبهم إلى يوم يلقون الله ، اللهم اجعل عواقب امورنا خيراً.
  إذا اردنا ان لا نبتلى بهذا المرض الخطر علينا تجنب مناشىء النفاق والابتعاد عنها ، وبخاصة أنا في ليالي شهر رمضان المباركة ، علينا ان ننهل من بركة هذه الليالي في الاسحار وذلك باداء صلاة الليل ولو باختصار ومن دون المستحبات جميعها والسجود واللجوء إلى الله والعوذ به من النفاق وجميع الذنوب والرذائل الأخلاقية.

--------------------
(1) كثير اولئك الذين لا يؤدون ما عليهم من خمس ويبررون عملهم باقاويل مثل : ( نحن حصلنا على هذه الاموال بعرق جبيننا فلماذا نعطيها لغيرنا ؟ ).
(2) تفسير الأمثل 7 : 124 ـ 125.

أمثال القرآن ـ 37 ـ
المثل الثاني : تمثيل آخر للمنافقين
  يقول الله في الايتين 19 و 20 من سورة البقرة : ( أَوْ كَصَيِّب منَ السَّماءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبْرقٌ ، يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُم فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ واللُه مُحِيطٌ بالكَافِرِينَ يَكَادُ البَرْقُ يَخْطِفُ أبصارَهُمْ كُلَّمَا أضاءَ لهُم مَشَوا فيه وإذا أظْلَمَ عليهم قامُوا ولو شَاء اللهُ لذَهَبَ بِسَمْعِهِم وأبصَارِهِم إنّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِيْرٌ ).

تنوع أمثال القرآن
  أمثال القرآن متنوعة جداً ، والله استعان بمختلف الأمثال لاجل ايضاح حقائق مهمة لها تأثير بالغ في تربية الإنسان وسعادته ، تارة يمثل الله بالجمادات كما في الآية 17 من سورة الرعد : ( أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فسَالَتْ أودِيَةٌ بِقَدَرِها فاحْتمَلَ السَّيْلُ زبَداً رابياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةً أو مَتَاع زَبَدٌ مثلُهُ كَذَلك يَضْرِبُ اللُه الحقَّ والبَاطِل ... ).
  لأجل ايضاح ماهية الحق والباطل استعان القرآن هنا بالتمثيل بالمطر ، فانه عندما ينزل من السماء ينزل زلالا طاهراً ، الا انه عندما يجري على الارض يتسخ بالوحل وبما على الارض من أوساخ ، وتتبدل الاوساخ أحياناً إلى رغوة ( زبد ) وعندما يصل هذا الماء الجاري إلى أودية يفقد رغوته تدريجياً ليرجع إلى زلاله ، والحق والباطل مثل هذا الماء فالرغوة الوسخة بمثابة الباطل والماء الجاري الطاهر بمثابة الحق.
  وقد يمثل القرآن بالنباتات كما هو الحال في الاية 24 من سورة ابراهيم : ( ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ

أمثال القرآن ـ 38 ـ
  اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيّبةً كَشَجَرَة طَيّبَة أصلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّماء ).
  إنّ أبرز مصداق للكلمة الطيبة هو كلمة ( لا اله الا الله ) فمثّلها الله بالشجرة الطيبة الخضراء دائماً.
  وقد يمثل القرآن بالحيوانات ونموذج ذلك ما جاء في الاية 26 من سورة البقرة : ( إنَّ اللهَ لا يَسْتَحِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ... ) فمثّل هنا بحيوان صغير ، كما مثل في سورة العنكبوت الآية 41 بالعنكبوت.
  وقد يمثل القرآن بإنسان كما فعل في الآية 171 من سورة البقرة : ( وَمَثَلُ الّذينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً ونِِدَاءً صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ).
  مثل الله تعالى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في الاية بالراعي والكفار بالحيوانات التي يرعاها الراعي.
  إنّ اهم سبب لتنوع أمثال القرآن هو تبسيط الفهم وتعميقه عند المخاطبين الاوائل للقران وهم العرب الاميون في عهد الجاهلية وكذا المسلمون فانهم باستثناء عدد قليل منهم كانوا اميين وما كانوا يتمتعون بحظ وافر من الفهم والتعقل.
  وما كان بالامكان تفهيمهم المفاهيم القرآنية الا بهذا الأسلوب وبآلية التمثيل التي تجسد المفاهيم القرآنية الرفيعة.
  على الجميع وبخاصة العلماء والفقهاء والخطباء و ... ان ينتهجوا منهج القرآن هذا ، ليسهلوا على المخاطب إدراك المفاهيم ويؤثروا في نفسه ويجذبوه نحوها ، إنَّ القرآن الذي هو من تجليات الجمال الإلهي هو بنفسه مظهر للجمال الكلامي ، وعلى هذا ينبغي اتباع القرآن في تسهيل الكلام وتنميقه ، ونحن نعدُّ هذا أصلا قيمياً.
  اولئك الذين تحضى كتابتهم بالتعقيد وصعوبة الفهم ويعدون استخدام اسلوب التسهيل في الكتابة علامة على قلة العلم ، هم في الحقيقة انتهجوا منهجاً عكس المنهج الذي سلكه القرآن (1) .
  نأمل من الجيل الشاب للحوزة العلمية وطلاب الجامعة ان يعدوا سهولة البيان فناً

--------------------
(1) يقول الله في الاية 4 من سورة ابراهيم ( وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلاَّ بِلسَان قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) كما قال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مراراً : ( أمرنا ان نكلم الناس على قدر عقولهم ) بحار الانوار 1 : 85.

أمثال القرآن ـ 39 ـ
  وقيمة ويعدوا صعوبة الكلام وتعقده كعمل غير قيمي بل مخالف للقيم.
  الشرح والتفسيرالآيات ماضية الذكر (1) تحدثت عن المنافقين وخطر النفاق ، وقد تكون آيات المثل السابق ناظرة إلى مجموعة خاصة من المنافقين ، وهذه الايات ناظرة إلى مجموعة أخرى من ذوي الوجهين.
  إنَّ مثل هؤلاء المنافقين حسب هذه الايات كمثل المسافر الذي يضل في صحراء ويتخلف عن قافلته في يوم ممطر ولا ملجأ يأويه ولا صديق يعينه ولا يعلم الطريق ولا ضوء ينير له الطريق ، في وقت ملئت ظلمات الغيوم السماء بحيث لا يصله حتى نور النجوم الضعيف ، والسماء ترتعد ، والبرق لا يزيده الا خوفاً ودهشة ، وذلك لشدة صوت ووقع الرعد والبرق في الصحاري ، وكأنّ البرق يريد أن يخطف بصره ويعميه ، وخوفه من الرعد يجره لوضع اصابعه في اذنيه وهو مرتجف خوف موت الصاعقة ، ان المنافق بمثابة هذا المسافر.
  ( ... واللهُ مُحِيطٌ بالْكَافِرِينَ ) لقد فسرت الاحاطة في الاية بتفسيرين :
  الاول : الاحاطة العلمية لله .
  الثاني : احاطة الله من حيث قدرته ، فاذا كانت الاحاطة بمعناها الاول فالاية تعني أنَّ الله يعلم بالكافرين ، واذا كانت الاحاطة بمعناها الثاني فالاية تعني ان الله قادر على كل شيء ولا يخرج شيء عن دائرة قدرته.
  ( يَكَادُ البَرْقُ يَخْطِفُ أبْصَارَهُم ) وذلك لأنَّ الإنسان إذا اعتاد على مكان مظلم ، ثُمَّ يُسلِّط على عينه ضوءً قوياً ، فانه سيكون حينئذ عرضة للعماء وفقدان البصر.
  ( كُلَّمَا أضَاءَ لَهُم مَشَوْا فِيه ) هذا المسافر عندما يشاهد البرق يفرح لأنّه اضاء له الطريق ، لكن فرصته لم تدم ، لأن الضوء سريعاً ما ينطفئ.
  ( وإذا أظْلِمَ عَلَيْهِم قَامُوا ) أي يتوقف المسافر بعد ان انطفئ نور البرق ، ويرجع إلى حيرته السابقة.

--------------------
(1) الايات 19 ـ 20 من سورة البقرة.

أمثال القرآن ـ 40 ـ
  ( وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ ).
  شأن المنافق شأن هذا المسافر حيث يفيد من نور الايمان ، لكن بما أنّ ايمانه ظاهري لم يستمر الا لمدة محدودة وما يمضي زمن طويل حتى يفتضح ويغرق تارة أخرى في ظلمات ريائه وكفره ونفاقه.

خطابات الآية
  1 ـ كيفية ايجاد البرق والرعد والصاعقة
  إنّ البرق يحصل اثر اصطدام غيمتين أحدهما تحمل شحنات موجبة واخرى شحنات سالبة والاصطدام هذا يولد الضوء المعروف بالبرق ، كما ان صوتاً شديداً يحصل اثر هذا الاصطدام يعرف بالرعد ، وكلما كانت الغيمتان كبيرتين كان البرق والرعد أعظم ، وذلك لكثرة الشحنات المحمولة من قبل كل من الغيمتين.
  أمّا الصاعقة فتحصل اثر اصطدام غيمة ذات شحنات موجبة مع مانع ارضي من قبيل الجبل أو الشجرة أو الإنسان ، ونتيجة ذلك هي اشتعال الشيء المصطدم به ـ إذا كان قابلا للاشتعال ـ وتبدله إلى كومة من الرماد بسرعة مدهشة ، ولذلك يقال : إنَّ الصاعقة خطرة على الإنسان إذا كان في سهل.
  ما يلفت الانتباه هنا هو أنَّ بعض الروايات عدت الرعد والبرق نتيجتين لاعمال موجودات ميتافيزيقية ، فاعتبرت الرعد اصواتاً للملائكة والبرق من آثار جلد الملائكة للغيوم والسحب (1) .
  وهذا أمر يتنافى مع المسلمات العلمية للعصر الحاضر ، كما ان هذا الاختلاف يطبع تساؤلا في ذهن المتأمّل.
  يا ترى أي الامرين هو السبب الحقيقي والواقعي للرعد والبرق ؟
  في الجواب نقول : لا تضاد بين التبرير العلمي والديني لظاهرتي البرق والرعد ، وذلك لأنَّ احد معاني مفردة الملك الواردة في الروايات هو القوى الطبيعية التي خلقها الله ، فالجاذبية

--------------------
(1) من لا يحضره الفقيه 1 : 334 ، الحديث 9 و 10.

أمثال القرآن ـ 41 ـ
  والسحاب وغيرها من الظواهر الطبيعية التي سميت في الروايات ملكاً ، لقد جاء في رواية أنَّ كل قطرة تنزل من السماء يحتضنها ملك وينزلها إلى الارض (1).
  وبهذا التبرير أي اعتبار الجاذبية ملكاً يمكن القول بعدم التضاد بين الرؤى والكشفيات العلمية مع ما ورد في الروايات الدينية ، بل ينطبق احدهما على الاخر وتحل بذلك عقدة التضاد الظاهري بينهما.
  2 ـ الاختلاف بين المثلين
  المثلان يتعلقان بالمسافر الذي ضل الطريق في صحراء ، لكن المسافر في المثل الأول يواجه خطر المجاعة والعطش والافتراس من قبل الحيوانات ، أمّا في المثل الثاني فان الأخطار التي تحدق به هي الاعصار والسيول والرعد والبرق والصاعقة ، ومن الطبيعي ان تكون شدة الاخطار في المورد الثاني اكثر من المورد الأول وتجعل حياته عرضة للموت بشكل اشد.
  يعتقد البعض أنَّ المثلين يحكيان حال طائفة خاصة وهي طائفة المنافقين عموماً ، إلاّ أنِّي أرى أنَّ كلا من المثلين يحكي حال قسم من المنافقين ، فان المنافقين ينقسمون إلى قسمين :
  القسم الاول : هم المسلمون الذين ضعف ايمانهم عن مواجهة المطامع المادية والدنيوية مثل المال والجاه والمقام ، فلا يهابون الكذب وخلف الوعد ونكث العهد ، وصولا لمآربهم الشخصية ، فهم في النتيجة ( مسلمون ضعيفو الإيمان ) امثال ثعلبة بن حاطب الذي تكلمنا عنه في الصفحات الماضية.
  والقسم الآخر للمنافقين : هم اولئك الذين لم يدخل الايمان في قلوبهم ابداً وقد تظاهروا به فحسب دون ان يحملوه ، وذلك خوفاً من قدرة الإسلام أو طمعاً بمصالح المسلمين ، فهم في النتيجة ( كفار متظاهرون بالاسلام ) أمثال أبي سفيان ومعاوية ومروان.
  ومن الواضح أنّ القسم الثاني هم الاعداء اللدودون للإسلام ووجودهم يشكل خطراً على الإسلام والمسلمين يفوق خطر القسم الاول بمرات ، ولذلك نرى أنّ المثل الأول ناظر إلى

--------------------
(1) من لا يحضره الفقيه 1 : 333 ، الحديث 5.

أمثال القرآن ـ 42 ـ
  القسم الاول من المنافقين ، والمثل الثاني ناظر إلى القسم الثاني من المنافقين الذين يعدّ خطرهم أشد وأعظم من خطر القسم الأول.
  3 ـ عالم النفاق أو النفاق العالمي
  للنفاق مستويات مختلفة ، فمنه ذات المستوى الفردي ومنه ذات المستوى الجماعي والحكومي والعالمي ، ومما يؤسف له أنّ عالمنا اليوم عالم منافق حيث يدعو لشيء ويعمل بما يخالف دعوته ، والحدث الآتي ذكره من أبسط مظاهر النفاق العالمي واوضحها في ذات الوقت.
  أرسل الإنسان في سنة من السنوات الماضية كلباً في مركب فضائي وذلك لدراسة تأثير الفضاء على الموجودات الحية ، وبعد هبوط المركبة على وجه الارض وجد الكلب ميتاً.
  اذاعة هذا الخبر آثار إعتراضاً من قبل منظمات الدفاع عن حقوق الحيوانات وكذا غيرها من المؤسسات والجمعيات وقد كان محور الاعتراضات هو : لماذا قتلتم حيواناً في سبيل تجربة علمية ؟
  إنَّ هذه الاعتراضات تكشف عن الوجه الظاهري النزيه للمجتمع الدولي ، إلاّ أنا نشاهد حالياً مقتل العشرات بل المئات والآلاف من المواطنين الجزائريين في مجازر جماعية دون أنْ تطلق صرخات ضد هذه المجازر.
  لمن تلك الايادي التي ترتكب هذه المجازر من دون ان تلاقي اعتراضات معتد بها ؟ يا لها من أيد لا تستطيع الشرطة بل ولا الجيش ان تقف امامها ؟ انها ايدي العالم المتستر والمتقمص قميص الدفاع عن حقوق الحيوانات فضلا عن حقوق البشر ، ألا يمكن ان نقول : ان هذا العالم هو عالم منافق ؟ واي نفاق يرتكبه ؟ انه نفاق وقح ، فيه صرخات تعلو وتشتد لاجل قتل كلب ، كما فيه سكوت على قتل الشعوب وارتكاب المجازر الجماعية.
  إن الإسلام ووجدان البشرية ينفر من هذا النفاق العالمي ونحن مطمئنون بان زعماء النفاق سيفتضحون يوماً ما.
  الهي اكف المستضعفين وبخاصة المسلمين شر هذا النوع من النفاق.

أمثال القرآن ـ 43 ـ
  4 ـ ظهور المنافقين في الإسلام
  هل ( جذور النفاق ) بدأت من المدينة ام من مكة ؟ قضية مختلف فيها.
  ولاجل ايضاح الموضوع ودراسة تاريخ النفاق والمنافقين في الإسلام نستعين بالقرآن المجيد ، فقد جاءت آيات كثيرة في مجال النفاق ، والدراسة الاجمالية للموضوع يكشف عن استخدام هذه المادة 37 مرة في القرآن.
  لكن أمر النفاق والمنافقين لا ينحصر في هذه الموارد المحدودة ، وذلك لانا نجد الكثير من الايات تعرضت لهذه القضية من دون ذكر لهذه المادة أبداً ، كما هو الحال بالنسبة لثلاثة عشر آية من الايات الاوائل لسورة البقرة (1) فقد كان موضوعها النفاق من دون ان يأتي ذكر لمادة النفاق مباشرة بل استخدمت مواد مرادفة لمادة النفاق.
  إنَّ الايات السبع والثلاثين التي تضمنت مادة النفاق ، نزلت كلها في المدينة ، ومن هنا يمكننا ان نستنتج ان القائلين ببدء النفاق من المدينة نظروا إلى ظاهر القرآن ، إلاّ أنّ الافضل لنا ان نرجع إلى الوراء قليلا لننظر إلى تاريخ حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والنبوة وكيفية التبليغ ومراحل جهاد الرسول لاعداء الإسلام.

مراحل جهاد الرسول لاعداء الإسلام
  ان مواجهة الكفار و المشركين للرسول ( صلى الله عليه وآله ) والدين الاسلامي الحنيف ذات مراحل ست :
  المرحلة الاولى : الاستهزاء والاستخفاف بالدين
  بُعث محمد نبياً في غار حراء ونزلت آنذاك اول آيات القرآن عليه ، وأصبحت دعوته علنية بعد ثلاث سنوات من الكتمان والتستر في دعوة الناس إلى الدين الجديد.
  كان المشركون والوثنيون يعتبرون هذا الدين خطراً على مصالحهم ، لكنهم ما كانوا يأخذونه مأخذاً جدياً لذا بادروا إلى الاستهزاء بالرسول ونسبة الجنون اليه.
  يقول الله في هذا المجال في الاية 6 من سورة الحجر : ( قَالُوا يَا أيُّها الّذي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرَ إنَّكَ

--------------------
(1) من الاية الثامنة وحتى العشرين.

أمثال القرآن ـ 44 ـ
  لَمَجْنُونٌ ) (1) وكانوا يستهدفون من ذلك عدم اخذ الناس هذا الدين مأخذاً جدياً ، وعدم الاعتناء والتصديق بكلام الرسول ، إلاّ أنّ المسلمين رغم هذه الاتهامات كانوا يزدادون يوماً بعد اخر ، وكان الناس وبخاصة الشباب (2) منهم يصغون لكلام الرسول وينجذبون اليه ، لذلك باءت مواجهتهم في هذه المرحلة بالفشل ، وباتوا يفكرون بمواجهة أخرى ومرحلة أخرى من التصدي.
  المرحلة الثانية : نسبة السحر والشعر للرسول ( صلى الله عليه وآله )
  بما أنّ الكفار لم ينجحوا في الحد من تأثير الرسول على الناس ، من خلال المرحلة الاولى من المواجهة ، بادروا إلى التصدي له بنعته بالكذب والشعر والسحر ، إنّ النسبة هذه تعني أنهم قالوا للناس : إنّ تأثير الرسول فيهم لأجل كونه ـ نعوذ بالله ـ ساحراً ذكياً وشخصية مرموقة ويجذب النفوس نحوه لعلمه بالشعر وامتهانه مهارة انشاده.
  ولو كان كلامه كلاماً عادياً ما كان يجذب الناس بهذه الشدة ، يقول القرآن في هذا المجال في الاية 4 من سورة ( ص ) : ( وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ ) (3) .
  لم توفّر آلية المواجهة هذه جميع الاهداف التي كانوا يستهدفونها ، وذلك لأن عدد المسلمين لا زال في تزايد مستمر والرجال والنساء والشباب والشيوخ لا زالوا يتوافدون على الرسول ليعلنوا الإسلام ، وكان نتيجة ذلك ان بادر الكفار إلى تغيير اسلوبهم في المواجهة.

--------------------
(1) وقد تكررت هذه الإتهامات في آيات أخرى نقلا عن المشركين ، وهي : الدخان : 14 والطور : 92 ، والقلم : 2 ، و51 والتكوير : 2 (1) ويستفاد من آيات القرآن ان اول مواجهة يخوضها المشركون والكفار لرسول يبعث لهم هي نسبة الجنون إليه .
وللمزيد يمكن مراجعة الايات التالية : الذاريات : 39 و 52 ، الصافات : 36 ، الشعراء : 72 ، نوح : 9.
(2) لقد كان لجيل الشباب دور فاعل في تمكن الإسلام وامتداده في بقاع الارض ، وحالياً للشباب نفس الدور الذي كان للشباب في صدر الإسلام ، فما دام الشباب في حضن الإسلام لا خطر يواجه هذا الدين .
ولهذا ينبغي العناية الخاصة بهذه الشريحة في بلداننا.
(3) ان هذه التهمة لم تختص برسولنا ، بل شملت الكثير من الرسل حيث يقول الله في الاية 52 من سورة الذاريات : ( كَذِلك ما أتَى الّذين مِنْ قَبْلِهِم مِنْ رَسُول إلاّ قَالُوا سَاحِرٌ مَجْنُونٌ ) وقد جاءت آيات كثيرة من القرآن متناولة الموضوع ذاته.

أمثال القرآن ـ 45 ـ
  المرحلة الثالثة : المحاصرة الاقتصادية وقطع العلاقات
  إنَّ فشل أساليب التهم ونسبة الجنون وغيره إلى الرسول جعلت الكفار والمشركين يفكرون بالمواجهة العملية ، لذلك فرضوا حضراً على المسلمين وحبسوهم في مكان يدعى ( شعب ابي طالب ) ، فمنعوا التردد عليهم والتعامل معهم.
  لقد صبر المسلمون مدة ثلاث سنوات في ذلك الشعب الخالي من الماء والكلاء ، وتحملوا المشاكل التي واجهتهم آنذاك وثبتوا ولم تزل أقدامهم (1) .
  والمكان هذا رغم انه مشجر حالياً إلاّ أن الإنسان لا يطيق قراءة الفاتحة على قبر ابي طالب ( عليه السلام ) هناك ، وذلك لشدة الحرارة ، والمسلمون آنذاك صمدوا وثبتوا ، وقد قضى البعض نحبه هناك ، رغم ذلك لم يستسلموا للاعداء.
  وبعد تجييش عواطف اهالي مكة بادر البعض إلى فك الحصار عنهم شيئاً فشيئاً إلى ان فقد الحصار تأثيره وباءت جهود الكفار مرة أخرى بالفشل الذريع وما باتت هذه الآلية تجدي نفعاً.
  المرحلة الرابعة : التدبير لاغتيال الرسول ( صلى الله عليه وآله )
  لقد شاهد المشركون من جانب فشل آليات التصدي للرسول والمسلمين ومن جانب اخر شاهدوا انتشار الدعوة الاسلامية بشكل سريع بين الناس وإدبارهم عن الاصنام ، لذا فكروا باجراءات جدية وخطرة اكثر من ذي قبل وقد استهدفوا في هذه المرحلة شخصية الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ذاتها ، فقد وجد زعماء قريش حلولا ثلاثة لمشكلتهم :
  الأول : نفي الرسول ( صلى الله عليه وآله ) خارج مكة حفظاً لمصالح الكفار في مكة.
  الثاني : حبسه للحيلولة دون اتصاله بالناس والمسلمين.
  الثالث : قتله.

--------------------
(1) ان الإسلام الذي بلغنا حالياً هو نتيجة للمشاق والزحمات والشهادات والتضحيات التي تحملها الاوائل ، لذلك كان علينا لزاماً ان نسعى لحفظ هذا الدين بالقول والعمل.

أمثال القرآن ـ 46 ـ
  نتيجة شوراهم كان قرار قتل الرسول في ليلة المبيت (1) حيث حاصر أربعون شخصاً من شجعان العرب بيت الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه في صباح تلك الليلة.
  اطّلع الرسول ( صلى الله عليه وآله )على مؤامرتهم بوحي الهي فامر الامام علي ( عليه السلام ) ان ينام في فراشه آنذاك ، وخرج بشكل معجز من بيته قاصداً يثرب ( المدينة ) ، إلاّ أنه تحرك خلاف اتجاه وطريق المدينة لخداع المشركين ، وبعد ان اطلع المشركون على تملُّص الرسول قاموا بتعقيبه وتتبع خطواته ، لكنَّ الله شاء بقدرته ان يصل الرسول المدينة بسلامة ليقيم اول حكومة اسلامية زادت من قدرة المسلمين وشوكتهم.
  المرحلة الخامسة : الحروب المتوالية ضد المسلمين
  بعد ما نجع الكفار من النيل من شخصية الرسول ( صلى الله عليه وآله ) سلكوا طريق المواجهة المسلحة ، وذلك لعدم نجاح آليات الحرب النفسية التي سلكوها ضد المسلمين لردهم عن دينهم وللحد من توسع رقعة الإسلام.
  إنّ الإسلام يهدد سلطة الكفار ومصالحهم ، ولاجل القيام بمهمة المواجهة العسكرية هموا في البداية اعداد رجال مكة ثم رجال القبائل الاخرى لبدء سلسلة حروب عسكرية متوالية ومتواصلة كانت معركة ( بدر ) البداية ومعركة الاحزاب (2) هي الذروة.
  لقد استفاد كفار قريش في معركة الاحزاب من جميع ما توفر لهم من امكانيات وقوى ، وكما يبدو من اسمها فان جميع قبائل العرب وطوائفهم اجتمعوا واعدوا انفسهم للنزال ضد الإسلام ولقتل الرسول ورجال المسلمين وللإغارة على اموالهم ولهدم بيوتهم ، وسبي نسائهم والقضاء على الإسلام في النهاية.
  تشير الآيتان 9 و 10 من سورة الاحزاب إلى هذه المرحلة من المواجهة : حكم وجوب الصوم ، وإيضاحاً لأهميته يطرح قضية شمولية الصوم للنحل الاخرى ويقول : ( يَا أيُّها الّذِيْنَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللِهِ عَلَيْكُم إذْ جَاءَتْكُم جُنُودٌ فأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيْحَاً وجُنُودَاً لَم تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ

--------------------
(1) الاصطلاح يطلق على الليلة التي نام فيها الامام علي ( عليه السلام ) مكان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ليموّه على خروج الرسول من بيته ، ولاجل هذه التضحية العظيمة نزلت الاية الشريفة التالية في حقه ( عليه السلام ) : حكم وجوب الصوم ، وإيضاحاً لأهميته يطرح قضية شمولية الصوم للنحل الاخرى ويقول : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ واللهُ رؤوفٌ بالعِبَادِ ).
(2) بعد الاحزاب كانت معارك أخرى الا انها ليست بمستوى الاحزاب من حيث الاهمية.

أمثال القرآن ـ 47 ـ
  بِمَا تَعْمَلُون بَصِيْراً ، إذ جَاؤوكُم مِنْ فَوْقِكُم وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجرَ وتَظُنُّونَ باللهِ الظَّ نُونا ).
  إنّ هذه الايات أهل للتأمل من حيث أنها تكشف عن معاناة المسلمين في صدر الإسلام.
  وحسب هذه الآيات ، فإنّ العَدُو حاصر المدينة مِنْ جميع الجهات ، وقد بلغت اعدادات الاعداء وعدتهم إلى مستوى جعلت أبصار المؤمنين تزيغ ، وقلوبهم تبلغ الحناجر ، وذلك لأن المسلمين قليلون وعدتهم محدودة وأسلحتهم بسيطة ، وهذا هو السبب في نفوذ الرعب والخوف في قلوب ضعاف الايمان من المسلمين حيث كانت عبارات التزلزل والشك تدور في اذهانهم وقد يكون المسلمون جميعاً باستثناء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والإمام علي ( عليه السلام ) وعدة قليلة من المسلمين تزلزلوا إيماناً ، فان ضعيف الإيمان يتزلزل عند مواجهته لأزمة شديدة ، عكس قوي الايمان حيث يقوى ايمانه ويزداد ثباته عند مواجهة الأزمات والمشاكل.
  إنّ معركة الاحزاب كانت ساحة للإختبار لتمييز المؤمنين الحقيقيين عن غيرهم من ضعاف الايمان والمترددين في إيمانهم ، إنّ نهاية هذه المعركة كان لصالح المسلمين ولم تحصل مواجهة واراقة دماء الا في مورد واحد ، حيث قتل الإمام علي ( عليه السلام ) عمرو بن ود.
  عسكر الاعداء ابتلي باعصار شديد ، ولشدته كانت تقلع خيامهم من اماكنها وتقلب قدور الطعام ، كما سادهم خوف واضطراب وخيبة امل اجبرت أبا سفيان وغيره من زعماء الكفر على الرجوع كالجيش الخاسر ، وبذلك تحقق وعد الله بنصر المؤمنين تارة أخرى ، ونجى المؤمنون من خطر كبير كان يهدد وجودهم ودينهم ، فكان نصراً للمسلمين اضفى عليهم قدرة وعظمة جعلت مكة وضواحيها لا تفكر بعدئذ بحرب مع المسلمين ، ولاجل هذا استسلمت بعد فترة من الزمن مكة واهاليها ليصبح الإسلام القوة الوحيدة في بلاد الحجاز.
  المرحلة السادسة ، اللجوء إلى اخطر سلاح ( النفاق )
  رغم انتكاسة الاعداء في حرب الاحزاب وخسرانهم الحرب آنذاك ، ورغم ما ترتب على هذه الانتكاسة من عدم تفكيرهم بعدئذ بدخول حرب مع المسلمين ، إلاّ أنّ ذلك ما كان يعني تركهم لمعارضة الإسلام ومخالفته ، إنّ الأعداء ، اثر ادراكهم فشل وسائل المواجهة السابقة

أمثال القرآن ـ 48 ـ
  واقرارهم بذلك ، بدأوا يفكرون بوسيلة ناجحة وفضلى للتخريب والدمار ، وما كانت وسيلتهم الجديدة إلاّ النفاق.
  إنّ الأعداء خسروا الحرب مع المسلمين ، وهو أمر جعلهم في النهاية يستسلمون ويفتضحون إلاّ أنهم لم ينسوا حربهم مع الإسلام وعدائهم له ، وقد تستروا في هذه المرحلة من المواجهة بنقاب النفاق وانتظروا يترصدون الفرصة للنيل من الإسلام وانزال الضربة القاصمة فيه ، والآية الشريفة الأولى من سورة المنافقين ناظرة إلى هذه المرحلة من المواجهة ( إذا جاَءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللهِ والُله يَعْلَمُ إنّكَ لَرَسُولُه واللهُ يَشْهَدُ إنّ المُنَافِقِينَ لكَاذِبُونَ ).
  وبهذا الشكل تشكّل تيار النفاق ليصبح تدريجياً كالسيل الجارف (1) .
  وظاهر هذه الآية وايات أخرى هو أنّ النفاق بدأ من المدينة ، لكن هذا لا يعني أنّ مكة كانت تخلو من النفاق والمنافقين ، فقد يملك البعض قدرة حدس وتخمين المستقبل وفكراً سياسياً قوياً ، وكان من خلال ذلك قد رأى النصر النتيجة الحتمية لنشاطات الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا يمكن بلوغ المقامات العليا آنذاك إلا من خلال التظاهر بالايمان الواقعي والقوي والتماشي مع هذا التيار.

نتائج الأمثال
  يمكننا الخروج بالنتيجة التالية من الآيات الأربع للمثلين السابقين : ( المنافق لا ثبات له ) وانه يعاني من حالات نفسية منها الوحدة والخوف والوحشة والاضطراب والفضيحة ، كما تُتصور في حقه جميع الأخطار التي عدت للمسافر الذي ضلّ الطريق في الصحراء ، أمّا المؤمن فيحضى بهدوء وسكينة واطمئنان خاص يحصل في ظلّ الإيمان الخالص باللّه.
  ما أحسن ما قال الله تعالى في هذا المجال : ( الّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْم أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) (2) .

--------------------
(1) ان الثورة الاسلامية في ايران واجهت نفس المراحل الست ، وقد شهدناها قبل الثورة وبعدها فكان منها الاستهزاء بالامام الخميني ( قده ) واهانته ونفيه إلى الخارج والحصار الاقتصادي والحروب المسلحة الداخلية منها والخارجية ، والنهاية هو النفاق الذي كانت منظمة خلق ايران نموذجاً بارزاً له.
(2) الأنعام : 82

أمثال القرآن ـ 49 ـ
  وقد فسّر الظلم في الاية بتفسيرين :
  الاول : هو الشرك ، أي أنّ ( إيْمَانَهُمْ بِظُلْم ) تعني الإيمان الخالص الذي لم يمتزج بالشرك .
  والثاني : هو المعنى المعروف والمتبادر من المفردة ، أي أنّ المؤمن الذي لم يمتزج ايمانه بظلم لأحد فله الأمن وهو مهتد.
  ونقرأ في آيات أخرى : ( ألا إنّ أوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُم البُشرَى فِي الحيوةِ الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذَلك هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) (1) .
  إنَّ عدم الأمن والاضطراب والخوف والوحشة في الدنيا ، وعذاب جهنم في الآخرة هو نصيب المنافقين ، أمّا المؤمنون فنصيبهم الأمن والسعادة والفلاح.
  وهذا أمر اثبت العلم الحديث صحته ، ففي مؤتمر حمل عنوان ( تأثير الدين على نفس الإنسان ) ، توصل العلماء المشتركون فيه إلى ان المؤمنين قليلا ما يبتلون بالامراض النفسية وكثيراً ما نجد هذا النوع من الامراض في الذين يفقدون الايمان بالله ، وذلك لأنّ غير المؤمن يشعر بالوحدة دائماً وتهزه ابسط المشاكل.
  أمّا المؤمن فيرى الله معه ، يتوكل عليه في الحوادث ويبدي الثبات والصبر من نفسه دائماً ، فإذا فقد أحد أعزته قال : ( إنَّا للهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ) (2) وبهذا الإعتقاد تسهل عليه الوطئة وتتغمده رحمة الله وألطافه كما تقول الاية 157 من سورة البقرة.
  وهو إذا فقد رأس ماله لا يأسى ولا يحزن ، كما انه إذا اتاه شيء ثمين لا يفرح ولا يفخر ( لَكَيْلا تأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُور ) (3)
  وإذا حصلت له حوادث أخرى فيعدها امتحانات الهية تسلك به نحو الكمال في الدنيا وتدرُّ عليه الثواب والأجر في الآخرة ، فهو لا يلعن الزمان ولا المكان بل يشكر الله ويحكّم ايمانه بالله ويقوّيه ، واذا ما تصفحنا سيرة عظمائنا لوجدنا مفاهيم هذه الايات متجسدة فيهم عملياً.

--------------------
(1) يونس : 26 ـ 64
(2) البقرة : 165.
(3) الحديد : 23

أمثال القرآن ـ 50 ـ
سعيد بن جبير عند الموت
  إن سعيد بن جبير من العظماء والأولياء ، كما انه من انصار الامام السجاد( عليه السلام ) ، فقد كان مؤمناً حنيفاً ومتوكلا على الله في اعماله ، وقد ابتسم عند مقتله.
  عندما جي بسعيد بن جبير إلى الحجاج (1) دار نقاش بينهما استهدف الحجاج عبره النيل والاستهزاء بسعيد ، إلاّ أنَّه ما استطاع ، لقدرة سعيد على الكلام ، فامر بقتله وقال له : اختر أي قتلة شئت ! قال : اختر لنفسك فان القصاص امامك ، ولما أمر بقتله قال ( وَجَّهْتُ وَجْهِي للّذي فَطَرَ السَّمَواتِ والأَرْضَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكينَ ) (2) فقال : شدوا به لغير القبلة ، فقال : ( أيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (3) .
  قال : كُبوَّه على وجهه ، فقال : ( مِنْها خَلَقْنَاكُم وَفِيْها نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارةً أُخْرَى ) (4) .
  وبعدما أمر الحجاج بقتله دعى سعيد بهذا الدعاء ( اللهم لا تسلّطه على احد بعدي ) ، وقد استجيب دعاؤه ولم يبق الحجاج بعده الا خمسة عشرة ليلة (5) ولم يقتل بعده الحجاج احداً ، وقد مات الحجاج اثر مرض كان يشعر خلاله بالبرودة والرعشة بحيث كان يدخل يديه في النار وتحترق وهو لا يشعر بها ، ولما جاءه احد الوجهاء وطلب منه ان يدعو له ، ذكّره بما قد أوصاه سابقاً من عدم الاكثار في القتل.
  نعم إنَّ الامان في الدنيا للمؤمنين فقط دون المنافقين ، ودين الله ليس للاخرة فقط بل هو منهج للحياة الدنيا كذلك.

--------------------
(1) يقول احد الكتّاب في الحجاج : ( لو كانت هناك مسابقة تعرّف من خلالها الملل والنحل طغاتها وجناتها وعرّفنا نحن المسلمون الحجاج في تلك المسابقة لربحنا تلك المسابقة قطعاً ) .
ويبدو انه منصف في كلامه وليس الأمر بعيداً عن الواقع ، فانَّ قطع رؤوس المعارضين له ومشاهدة فوران الدم من الجسد والشرايين هي احد موارد ترفيهه والتذاذه ، وكان يصّرح بالتذاذه بمشاهدة هذه المناظر.
(2) الأنعام : 79.
(3) البقرة : 115.
(4) طه : 55.
(5) سفينة البحار ، مادة سعد.

أمثال القرآن ـ 51 ـ
المثل الثالث: قسوة القلب
  يقول الله في الاية المباركة 74 من سورة البقرة : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْد ذَلك فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدُّ قُسْوَةً وإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءَ وإنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وما اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ ).
  الآية الشريفة جاءت في بني اسرائيل وضربت مثلا جميلا في قسوة قلوبهم; فان دفتر أعمالهم مسوَّد على طول التاريخ.
  وإن التعصب واللجاجة والتحجج والغرور والضغينة تجاه الانبياء والمقاومة قبال الحق من خصال هذا القوم العاصي والكافر لنعم الله.
  لقد شاكس هذا القوم المسلمين ونافق ضدهم ، فمن جانب كانوا يتعاهدون مع المسلمين ومن جانب اخر ينالون منهم بخنجر من الخلف.
  إنَّ عداء هذا القوم المعاند للمسلمين لم تنته ابداً ولا زال مشهوداً في عصرنا هذا ، بل هو حالياً بلغ ذروته.
  ويمكن القول : إنَّ اكبر صفعة نالتها الامة الاسلامية كانت من بني اسرائيل ومن قسم خاص منهم معروف باسم (الصهاينة) ، انهم في الدول الاسلامية منشأ الفساد والقتل والنزاعات والاختلافات والفحشاء واللامبالاة تجاه الاحكام الاسلامية والربا و ... إنَّ انتهاكاتهم ومظالمهم لو جمعت في مكان واحد لاصبحت كتاباً ضخماً بل كتباً.
  إنَّ قسوة قلوبهم بلغت درجة حيث لا يرحمون حتى انبيائهم فضلا عن غيرهم ، وقد حمل منهم نبيهم موسى (عليه السلام) الكثير.

أمثال القرآن ـ 52 ـ
قصة بقرة بني اسرائيل
  الاية الشريفة جاءت بعد آيات حكت قصة بقرة بني اسرائيل ، وخلاصة القصة محكية في الايات 67 ـ 73 من سورة البقرة نأتي بها هنا : قُتِل شخص من بني اسرائيل من دون ان يعرف القاتل ، وهو أمر سبب اختلافاً بين القوم.
  وعادة عندما يُقتل شخص يسعى البعض ان يرجعه إلى عملية تصفية الحسابات فيلقي القتل على عاتق اطراف خاصة.
  وقد كان اصل الحادث ان شخصاً قتل عمه الثري ، وقد كان الشاب الوارث الوحيد لعمه وكان منزعجاً من جراء تأخر وفاة عمه فقتله لينال نصيبه من الارث في وقت مبكر. وقد عدَّ البعض حبّ الشاب لابنة عمه هو سبب القتل ، وذلك لان العم رغم حبه لابن اخيه زوج ابنته من شخص آخر.
  إنَّ بث خبر مقتل هذا الشخص اثار ضجة شديدة جعلت البعض ومنهم القاتل الحقيقي يبحثون عن القاتل ، فكانت الفتنة العظيمة وكان الموقف يوشك على نزاع بين القبائل ليتبدل إلى حرب شاملة ، فطلبوا من موسى ان يحل لهم المشكلة فكانت المساءلة التالية حسب ما دونها القرآن : ( وإذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَومهِ إنَّ الله يَأمُرُكُم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أتتَّخذُنا هُزُواً ) ؟
  ( قَالَ أعُوذُ باللهِ أن أكُون مِنَ الجَاهِلِينَ ) ، أي أنَّ الاستهزاء من عمل الجاهلين ، والانبياء مبرؤون من ذلك.
  بعد أن ايقنوا جدية المسألة ، ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِي ) ؟
  أجابهم موسى ( عليه السلام ) : ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلك ) ، أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة بل متوسطة بين الحالتين ( فافْعَلُوا ماَ تُؤْمَرُونَ ) لكن بني اسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم ، ( قَالُوا ادعُ لَنَا رَبَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا لَوْنُها ) أجابهم موسى ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقرَةٌ صَفْرَاءٌ فَاقِعٌ لَوْنُها تُسِرُّ النَاظِرِينَ ) أي أنَّها حسنة ولا يشوبها لون آخر.
  ثم لجوا مرة أخرى وعاودوا السؤال : ( قَالُوا ادْعُ لَنَا ربَّك يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِيَ إنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ لمُهْتَدُونَ ).
  أجابهم موسى ( قَالَ إنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُول تُثِيرُ الأرضَ ولا تُسْقِى الحَرْثَ ) ، أي ليست

أمثال القرآن ـ 53 ـ
  من النوع المذلل لحرث الارض وسقيها ، وبعد المساعي الحثيثة وجدوا هذه البقرة وذبحوها ولمسوا الاعجاز الالهي.

الشرح والتفسير
  المفروض بهذه الاية العظيمة ان تزيد من ايمان القوم إلا أنَّ ذلك لم يحصل ، بل الآية الشريفة حكت حالهم بعد ذلك بالقول : ( قَسَتْ فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشدُّ قَسْوَةً ) أي لم تزد هذه الاية الكبرى القوم الا لجاجة وقسوة وتمرداً وعصياناً وانتهاكاً لحرمات الانبياء و ... وذلك بسبب قسوة قلوبهم تحجّرها.
  ان مفردة ( قلب ) استخدمت مائة وثلاثين مرة في القرآن ، لكن يا ترى هل يراد من هذه المفردة ذلك العضو الصنوبري الذي يدق في الدقيقة اكثر من سبعين مرة في الجسم ليضخ دم الإنسان إلى جميع اجزاء جسمه مرتين في الدقيقة ؟ إنَّ هذا العضو من عجائب خلق الله حقاً وله في الجسم وظائف مهمة ، لكن مراد الله من القلب في القرآن ليس ذلك العضو.
  نشير هنا باقتضاب إلى مهام هذا العضو وذلك لايضاح اهميته :
  أولا : تغذية جميع خلايا الجسم ، إنَّ الاغذية التي تصل المعدة تمتزج مع ترشحات المعدة لتتهيّأ للذهاب إلى الأمعاء ، وتتم عملية هضم وجذب الاغذية في الامعاء من خلال الدم ، والأخير يوزعها على جميع خلايا الجسم وبذلك تتم عملية تغذية الجسم.
  ثانيا : ارواء الإنسان ، إنَّ الجزء الاكبر من جسم الإنسان عبارة عن الماء واذا ما قلت نسبة الماء في الجسم فانه قد يؤول ذلك الامر إلى الموت إذا ما بلغ مستوى الجفاف.
  ثالثاً : ايصال الحرارة الموحدة للجسم ، ان جسم الإنسان حار ، لكن هل فكرتم من اين قدمت له هذه الحرارة ؟ ان الاوكسجين يدخل الجهاز التنفسي ومن خلال هذا الجهاز يدخل الدم ليصل من خلاله إلى جميع خلايا الجسم ، واثر الاحتراق الذي يوجده الاوكسجين عند تركبه مع اغذية الخلايا تتولد حرارة تنتقل هذه الحرارة بشكل ثابت إلى جميع اجزاء الجسم بواسطة الدم.
  رابعاً : جمع المواد الزائدة والسمية ودفعها ، ان احتراق الاغذية في الجسم يولد مواد سمية

أمثال القرآن ـ 54 ـ
  وزائدة يطرح جسم الإنسان بعضها من خلال الزفير وبعضها الاخر من خلال الكلية والادرار ، وهذه العمليات كلها تتم من خلال الدم.
  حقاً ان القلب مع هذه الظرافة والعمل المتواصل آية إلهية عظمى ، فلو كان هذا القلب من حديد لصدأ وتلف خلال سبعين سنة من عمر الإنسان الا ان قدرة الله اللامتناهية صنعت منه عضواً يعمل اكثر من مائة سنة في بعض الموارد ، والمدهش هنا أنَّ القلب من الاعضاء التي تعمل ليل نهار وفي النوم واليقظة رغم أنَّ نشاطه عند النوم أقل.
  ومن هنا نجد سر تعظيم المؤمنين وتمجيدهم مقولة الله تعالى : ( وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أنْفُسِكُمْ أفَلاَ تُبْصِرُونَ ) (1) .
  لو لم يكن لدينا دليل على عظمة الخالق غير القلب لكان كافياً لادراك قدرته وحكمته السرمدية.
  ولأجل استيعاب عظمة الخلق وادراك اكبر لهذه الهدية الالهية القيمة نقرأ الموضوع التالي :
  القلب الصناعي مرآة لعظمة قلب الإنسان
  كلّفت صناعة قلب صناعي قبل عدة سنوات ثلاثين مليون دولاراً ، إلاَّ أنَّ هذا القلب لم يدم عمله اكثر من ستة أيام ، كما أنَّ المستفيد منه لم يكن قادراً على الحركة والمشي خلال هذه الفترة ، كيف يمكننا شكر الخالق على نعمة القلب التي منحها اياناً مجاناً ؟
  ما أجمل ما قاله القرآن : ( وَفِي أنْفُسِكُم أفَلاَ تُبْصِرُونَ ).
  وبعد ما عرفنا أنَّ المراد من القلب في الاية ليس ذلك العضو الصنوبري نقول هنا : إنَّ المراد منه هو العقل والعاطفة ، يقول الله في سورة الاعراف الاية 179 : ( وَلَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا ) فالمراد من القلب هنا هو العقل والعاطفة ، لأن الفهم والادراك من شأن العقل ، كما أنّ الإحساس والشعور والحب والمعرفة من شأن العاطفة والعقل ، وكنموذج على ذلك يقول الله في الاية 10 من سورة البقرة : ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فزَادَهُم اللهُ مَرَضَاً ).

--------------------
(1) الذاريات : 20 ـ 21

أمثال القرآن ـ 55 ـ
  هل إنَّ قلب المنافق الصنوبري يعطل من جراء مرض النفاق ؟ أو أنَّ مرض النفاق يؤدي إلى اتساع في صمام القلب ؟
  من الواضح أنَّه لا يراد من القلب ذلك العضو الصنوبري ، ولا يراد من المرض تلك الحالة الطبيعية التي تعرض للإنسان وأعضائه.
  إنّ القلب هنا هو العقل والعاطفة اللتان قد يضعفان بسبب مرض النفاق إلى مستوى يسمحان للانسان قتل الابرياء في حرم الامام الرضا( عليه السلام ) ، فهما في الحقيقة يموتان.
  نقرأ في رواية أنّ للأمر بالمعروف ثلاث مراحل : الأمر بالقلب أولا ، وباللسان ثانياً ، وبالعمل ثالثاً ، فاذا كانت المرحلة الأخيرة غير ممكنة فتتوجب المرحلتان الاوليتان ، وإذا استحالت المرحلة الثانية والثالثة فعلينا بالاولى أي علينا ان نكون متذمرين من الظالمين وسلوكهم وأن نكون محبين للمؤمنين والمصلحين.
  واذا ترك شخص الامر بالمعروف بمراحله الثلاث فقد صدق عليه الحديث التالي : ( فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلبَ ، فَجُعِلَ أعلاه اسفله ) (1).
  وهل يراد من القلب هنا هو ذلك العضو الصنوبري ؟ بالطبع لا ، لان ذلك العضو لا يتحرك من مكانه ولا يتزلزل بل المراد منه هو العاطفة والادراك.
  مما مضى نستنتج ان للقلب معينين في القرآن والروايات :
  1 ـ العقل الانساني
  2 ـ العواطف الانسانية .
  وهما ظاهرتان روحيتان يعدان مركزاً للادراك والشعور.
  ولهذا عندما يقال : ( لهم قلوب لكن لا يفقهون ) فان المراد كونهم يملكون القلب لكن ملكة الادراك عندهم معطلة وإذا قيل ( قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) فإنَّ المراد أنَّ عواطفهم ميتة.
  القلب الذي في الاية 46 من سورة الحج ( فإنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي فِي الصُّدُورِ ) قد يعني ذلك العضو الصنوبري بقرينة ( في الصدور ) ، لكن هل الواقع كذلك ؟
  رغم أنَّ العقل ليس في صدر الإنسان ، إلاّ أنَّ له ارتباطاً بالدماغ ولذلك نرى البعض قد تعطل دماغه لكنَّ قلبه لا زال يعمل.
  وعلى هذا فالصدر الذي في الاية ليس ذلك الجزء من البدن المكسو بالقفص بل المراد منه الروح.
  وعليه فالقلب هنا يعني العقل والإدراك ، فمفهوم

--------------------
(1) بحار الانوار 97 : 89 ( طبع بيروت ).