كنيسة ( أياصوفيا ) ).
  وادعى وراثة هذا المنصب الديني أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببية كانت بينهم وبين قياصرة الروم ، وكانت الروس تنصرت في القرن العاشر الميلادي فصارت ملوك روسيا قسيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة روما ، وكان ذلك سنة 1454 الميلادية.
  وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتى قتل ( تزار نيكولا ) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة 1918 الميلادية بيد الشيوعيين فعادت كنيسة روما تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.
  لكن الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حيوة الناس في القرون الوسطى التي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتدينين تخلصاً من القيود التي كانت تحملها عليهم الكنيسة.
  فخرجت طائفة عن تبعية أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيلي على ما يفهمه مجامعهم ، ويقرره اتفاق علمائهم وقسيسهم وهؤلاء هم الأورثوذكس.
  وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة روما أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيلي لكنيسة روما ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.
  فأنشعب العالم المسيحي اليوم إلى ثلاث فرق : الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة روما وتعليمها ، والاورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها ، وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصة بعد انتقال كنيسة قسطنطينية إلى مسكو بروسيا ( كما تقدم ) والبروتستانت ، وهي الخارجة عن تبعية الكنيسة وتعليمها جميعاً ، وقد استقلت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلادي.
  هذا إجمال ما جرى عليه امر الدعوة المسيحية في زمان يقرب من عشرين قرناً ، والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أن القصد من ذكر جمل تاريخهم :
  أولاً : أن يكون الباحث على بصيرة من التحولات التاريخية في مذهبهم والمعاني التي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينية بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 327 _
  أو الإلف والعادة من عقائد الوثنية والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.
  وثانياً : أن اقتدار الكنيسة وخاصة كنيسة روما بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلادية إلى نهاية أوجه حتى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسي الملك بأوربا فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا (1).
  يروى أن البابا مرة أمر إمبراطور ألمانيا أن يقف ثلاثة أيام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلة صدرت منه يريد ان يغفرها له (2).
  ورفس البابا مرة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة (3).
  وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلا أن يروا دين الإسلام دين الوثنية ، يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار التي نظموها في استنهاض النصارى وتهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبية التي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة .
  فإنهم كانوا (4) يرون أن المسلمين يعبدون الأصنام وأن لهم آلهة ثلاثة أسمائها على الترتيب ( ماهوم ) ويسمى بافوميد وماهومند وهو أول الآلهة ، وهو ( محمد ) وبعده ( ايلين ) وهو الثاني ، وبعده ( ترفاجان ) وهو الثالث ، وربما يظهر من بعض كلماتهم أن للمسلمين إلهين آخرين ، وهما ( مارتوان ) و ( جوبين ) ولكنهما بعد الثلاثة المتقدمة رتبة ، وكانوا يقولون : إن محمداً بنى دعوته على دعوى الالوهية ، وربما قالوا : إنه كان اتخذ لنفسه صنماً من ذهب.
  وفي أشعار ريشار التي قالها لاستنهاض الافرنج على المسلمين : ( قوموا وقلبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرباً من إلهكم ).
  وفي أشعار رولان في وصف ( ماهوم ) إله المسلمين : ( إنه مصنوع تاماً من الذهب والفضة ، ولو رأيته أيقنت أنه لا يمكن لصانع أن يصور في خياله أجمل منه ثم

--------------------
(1) الفتوحات الإسلامية.
(2) المدرك السابق.
(3) المدرك السابق.
(4) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب ( هنري دوكاستري ) في الديانة الإسلامية الفصل الأول منه.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 328 _
  يصنعه ، عظيمة جثته ، جيدة صنعته ، وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ، ماهوم مصنوع من الذهب والفضة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر ، وقد أقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها ، بطنه خال ، وربما أحس الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصعة بالأحجار الثمينة المتلألئة ، يرى باطنه من ظاهره ، ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير .
  ولما كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدة ، وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم ، بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الذي كان بمكة ( يعني محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، يروي بعض من شاهد الواقعة : أن الإله ( يعني محمداً ) جائهم وقد أحاط به جم غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضة ويتغنون ويرقصون حتى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح ، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه ، فلما رآه قام على ساقه ، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.
  ويذكر ( ريشار ) أيضاًً في وصف وحي الإله ياهوم الذي سمعت وصفه فيقول : ( إن السحرة سخروا واحداً من الجن وجعلوه في بطن ذلك الصنم ، وكان ذلك الجني يرعد ويعربد أولاً ثم يأخذ في تكليم المسلمين وهم ينصتون له ).
  وأمثال هذه الطرف توجد كثيراً في كتبهم المؤلفة في سني الحروب الصليبية أو المتعرضة لشؤونها وإن كان ربما أبهتت القاري وأدهشته تعجباً وحيرة ، وكاد أن لا يصدق صحة النقل حين يحدث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة ولا رآها في نومة أو نعسة .
  وثالثاً : أن يتحقق الباحث المتدبر كيفية طرق التطور على الدعوة المسيحية في مسيرها خلال القرون الماضية حتى اليوم ، فإن العقائد الوثنية وردت فيها بخفي دبيبها أولأ بالغلو في حق المسيح ( عليه السّلام ) ثم تمكنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث الأب والإبن والروح ، والقول بالصلب والفداء ، واستلزم ذلك القول برفض العمل والاكتفاء بالاعتقاد .
  وكان ذلك أولا في صورة الدين وكان يعقد أزمتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم وصلوة وتعميد لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه ويقوي روحه ويبرز الانشعابات حتى ظهرت البروتستانت ، وقامت القوانين الرسمية مقام الهرج والمرج في السياسات مدونة على أساس الحرية في ما وراء القانون ( الأحكام العملية المضمونة الإجراء ) فلم يزل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 329 _
  التعليم الديني يضعف أثراً ويخيب سعياً حتى انثلمت تدريجاً أركان الأخلاق والفضائل الإنسانية عقيب شيوع المادية التي استتبعتها الحرية التامة.
  وظهرت الشيوعية والاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك ورفض القول باللاهوت والأخلاق الفاضلة الثابتة والأعمال الدينية فانهدمت الإنسانية المعنوية ، وورثتها الحيوانية المادية مؤلفة من سبعية وبهيمية ، وانتهضت الدنيا تسير إليها سيراً حثيثاً .
  وأما النهضات الدينية التي عمت الدنيا أخيراً فليست إلا ملاعب سياسية يلعب بها رجال السياسة للتوسل بها إلى غاياتهم وأمانيهم فالسياسة الفنية اليوم تدق كل باب وتدب كل جحر وثقب.
  ذكر الدكتور ( جوزف شيتلر ) استاذ العلوم الدينية في كلية لوتران في شيكاغو : ( أن النهضة الدينية الجديدة في أمريكا ليست إلا تطبيق الدين على المجموعة من شؤون الحيوة في المدنية الحديثة ، وتثبيت أن المدنية الحاضرة لا تضاد الدين.
  وإن فيه خطر أن يعتقد عامة الناس أنهم متدينون بالدين الحق بما في أيديهم من نتايج المدنية الحاضرة حتى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقية الدينية لو ظهرت يوماً بينهم فلا يلتفتوا إليها (1).
  وذكر الدكتور جرج فلوروفسكي أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بامريكا أن التعليمات الدينية بامريكا ليست إلا سلوة كاذبة للقلوب لأنها لو كانت نهضة حية حقيقية دينية لكان من الواجب أن تتكئ على تعليمات عميقة واقعية (2).
  فانظر من أين خرج وفد الدين وفي أين نزل بدأت الدعوة باسم إحياء الدين ( العقيدة ) والأخلاق ( الملكات الحسنة ) والشريعة ( الأعمال ) واختتمت بالغاء الجميع ووضع التمتع الحيواني موضعها .
  وليس ذلك كله إلا تطور الانحراف الأولى الواقع من بولس المدعو بالقديس ،

--------------------
(1) المجلة الأمريكية ( لايف ) الجزء المؤرخ 6 فوريه 1956.
(2) كسابقه .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 330 _
  بولس الحواري وأعضاده فلو أنهم سموا هذه المدنية الحاضرة التي تعترف الدنيا بأنها تهدد الإنسانية بالفناء ( مدنية بولسية ) كان أحق بالتصديق من قولهم : إن المسيح هو قائد الحضارة والمدنية الحاضرة وحامل لوائها .

( بحث روائي )
  في تفسير القمي : في قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ ) الآية : إن عيسى لم يقل للناس : ( إني خلقتكم فكونوا عباداً لي من دون الله ) ، ولكن قال لهم كونوا ربانيين أي علماء.
  أقول : وقد مر في البيان السابق ما يؤيده من القرائن وقوله لم يقل للناس إني خلقتكم بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن يخبرهم بأنه خلقهم ولم يخبر ولم يفعل .
  وفيه أيضاً : في قوله تعالى : ( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا ) الآية ، قال : كان قوم يعبدون الملائكة ، وقوم من النصارى زعموا أن عيسى رب ، واليهود قالوا : عزير ابن الله فقال الله : ( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا ).
  أقول : وقد تقدم بيانه .
  وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود ، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ودعاهم إلى الإسلام أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني ، يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد ؟
  فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ، فأنزل الله من قولهما : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ ) ـ إلى قوله ـ : بعد إذ أنتم مسلمون .
  وفيه أيضاً وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، قال : بلغني أن رجلاً قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك ؟ قال : لا ولكن أكرموا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 331 _
  نبيكم ، واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب ـ إلى قوله ـ : بعد إذ أنتم مسلمون .
  أقول : وقد روى في سبب النزول غير هذين السببين ، والظاهر أن ذلك من الاستنباط النظري ، وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ، ومن الممكن أن تجتمع عدة أسباب في نزول آية ، والله أعلم.
  ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
  ( بيان )
  الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها ، والسياق سياق واحد مستمر جار على وحدته ، وكأنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حملوه من علم الكتاب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 332 _
  والدين يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويستغشون بتلبيس الأمر على الناس والتفرقة بين النبيين وإنكار آيات نبوة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ونفى أن يكون نبي من الأنبياء كموسى وعيسى ( عليهما السلام ) : ( يأمرهم باتخاذ نفسه أو غيره من النبيين والملائكة أرباباً ) على ما هو صريح قول النصارى ، وظاهر قول اليهود.
  شدد النكير عليهم في ذلك بأنه كيف يتأتى ذلك وقد : ( أخذ الله الميثاق من النبيين أن يؤمنوا ) بكل نبي يأتيهم ممن تقدمهم أو تأخر عنهم وينصروه ، وذلك بتصديق كل منهم لمن تقدم عليه من الأنبياء ، وتبشيره بمن تأخر عنه كتصديق عيسى ( عليه السّلام ) لموسى وشريعته ، وتبشيره بمحمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من أُممهم وأشهدهم عليهم ، وبين أن هذا هو الإسلام الذي شمل حكمه من في السموات والأرض.
  ثم أمر نبيه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول وطاعة فيؤمن بالله وبجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم ، وأن يسلم لله سبحانه ، وأن يأتي بذلك عن نفسه وعن أمته ، وهو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة ومن امته بواسطته كما سيجيء بيانه .
  قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) ، الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ ، وقد أخذ الله هذا الميثاق للنبيين كما يدل عليه قوله تعالى : ( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ) ( إلخ) كما أنه تعالى أخذه من النبيين على ما يدل عليه قوله : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ( إلخ ) ، وقوله بعد : ( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ ) إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيين ومأخوذ منهم وإن كان مأخوذاً من غيرهم أيضاً بواسطتهم .
  وعلى هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى : ميثاق النبيين الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم والميثاق واحد ، وبعبارة اخرى يجوز أن يراد بالنبيين ، المأخوذ لهم الميثاق والمأخوذ منهم الميثاق إلا أن سياق قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ ) إلى آخر الآيتين في اتصاله بهذه الآية يؤيد كون المراد بالنبيين هم الذين أخذ منهم الميثاق فإن وحدة السياق تعطي أن المراد : ( أن النبيين بعدما آتاهم الله الكتاب والحكم ) والنبوة لا يتأتى لهم أن يدعوا إلى الشريك وكيف يتأتى لهم ذلك ؟ وقد أخذ منهم الميثاق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 333 _
  على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيين الذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه ، فالأنسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيين.
  وقوله : لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، القراءة المشهورة ، وهي قراءة غير حمزة بفتح اللام والتخفيف في ( لما ) وعليها فما موصولة وآتيتكم ـ ، وقرأ آتيناكم ـ صلته ، والضمير محذوف ، يدل عليه قوله : من كتاب وحكمة ، والموصول مبتدأ حبره قوله : لتؤمنن به ( إلخ ) واللام في لما ابتدائية ، وفي لتؤمنن به لام القسم ، والمجموع بيان للميثاق المأخوذ ، والمعنى : للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتة.
  ويمكن أن يكون ما شرطية وجزاؤها قوله لتؤمنن به ، والمعنى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ، وهذا أحسن لأن دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر ، والمعنى عليه أسلس وأوضح ، والشرط في موارد المواثيق أعرف ، وأما قراءة كسر اللام في ( لما ) فاللام فيها للتعليل وما موصولة ، والترجيح لقراءة الفتح.
  والخطاب في قوله : آتيتكم ، وقوله جاءكم ، وإن كان بحسب النظر البدؤي للنبيين لكن قوله بعد : ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) ، قرينة على أن الخطاب للنبيين واممهم جميعاً أي ان الخطاب مختص بهم وحكمه شامل لهم ولاممهم جميعاً فعلى الامم أن يؤمنوا وينصروا كما على النبيين أن يؤمنوا وينصروا .
  وظاهر قوله : ( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ ) ، التراخي الزماني أي أن على النبي السابق أن يؤمن وينصر النبي اللاحق ، وأما ما يظهر من قوله : قل آمنا بالله ( إلخ ) أن الميثاق مأخوذ من كل من السابق واللاحق للآخر ، وأن على اللاحق أن يؤمن وينصر السابق كالعكس فإنما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجيء إن شاء الله العزيز.
  وقوله : لتؤمن به ولتنصرنه ، الضمير الأول وإن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبي لنبي آخر ، قال تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) الآية البقرة ـ 285 ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 334 _
  لكن الظاهر من قوله : ( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) ( إلخ) رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة ، ورجوع الضمير الثاني إلى الرسول ، والمعنى : ( لتؤمنن بما آتيتكم من كتاب وحكمة ولتنصرن الرسول الذي جاءكم مصدقاً ) لما معكم .
  قوله تعالى : ( قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا ) ، الاستفهام للتقرير ، والإقرار معروف ، والإصر هو العهد ، وهو مفعول أخذتم ، وأخذ العهد يستلزم مأخوذاً ، منه غير الآخذ وليس إلا أمم الأنبياء ، فالمعنى أأقررتم أنتم بالميثاق ، وأخذتم على ذلكم عهدي من اممكم قالوا : أقررنا.
  وقيل : المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لانفسهم فيكون قوله وأخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله أقررتم ، ويؤيده قوله : قالوا أقررنا من غير أن يذكر الأخذ في الجواب ، وعلى هذا يكون الميثاق لا يتعدى الأنبياء إلى غيرهم من الامم ويبعده قوله : قال فاشهدوا ، لظهور الشهادة في أنها على الغير ، وكذا قوله بعد : ( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ ) ( إلخ ) من غير أن يقول : قل آمنت فإن ظاهره أنه إيمان من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من قبل نفسه وامته إلا أن يقال : إن اشتراك الامم مع الأنبياء إنما يستفاد من هاتين الجملتين : أعني قوله : فاشهدوا ، وقوله : ( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ ) ، من غير أن يفيد قوله : وأخذتم ، في ذلك شيئاً .
  قوله تعالى : ( قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) ، ظاهر الشهادة كما مر أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء واممهم جميعاً ، ويشهد لذلك كما مر قوله : قل آمنا بالله ، ويشهد لذلك السياق أيضاً ، فإن الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كما أنها تحتج عليهم في ما نسبوه إلى عيسى وموسى ( عليهما السلام ) وغيرهما كما يدل عليه قوله تعالى : ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ ) ، وغيره.
  وربما يقال : إن المراد بقوله : فأشهدوا ، شهادة بعض الأنبياء على بعض كما ربما يقال : إن المخاطبين بقوله : فاشهدوا ، هم الملائكة دون الأنبياء.
  والمعنيان وإن كانا جائزين في نفسهما غير أن اللفظ غير ظاهر في شيء منهما بغير قرينة وقد عرفت أن القرينة على الخلاف.
  ومن اللطائف الواقعة في الآية أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 335 _
  قوله : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ ) ـ إلى قوله ـ : ( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ) ، وقد مر في ذيل قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً )الآية البقرة ـ 213 ، الفرق بين النبوة والرسالة وأن الرسول أخص مصداقاً من النبي.
  فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذاً من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس.
  وبذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أن المحصل من معنى الآية أن الميثاق مأخوذ من عامة النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض ، أي إن الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء ، وهو ظاهر .
  فمحصل معنى الآية على ما مر : أن الله أخذ الميثاق من الأنبياء واممهم أن لو آتاهم الله الكتاب والحكمة وجاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن بما آتاهم وينصرن الرسول وذلك من الأنبياء تصديق من المتأخر للمتقدم والمعاصر وبشارة من المتقدم بالمتأخر وتوصية الامة ، ومن الامة الإيمان والتصديق والنصرة ، ولازم ذلك وحدة الدين الإلهي.
  وما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالآية أن الله أخذ الميثاق من النبيين أن يصدقوا محمداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ويبشروا أممهم بمبعثه ، فهو وإن كان صحيحاً إلا أنه أمر يدل عليه سياق الآيات كما مرت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم وكتمان آيات النبوة والعناد والعتو مع صريح الحق.
  قوله تعالى : ( فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِك ) ( إلخ) تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور ، والمعنى واضح.
  قوله تعالى : ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ ) ، تفريع على الآية السابقة المتضمنة لأخذ ميثاق النبيين ، والمعنى فإذا كان دين الله واحداً وهو الذي أُخذ عليه الميثاق من عامة النبيين واممهم وكان على المتقدم من الأنبياء والامم أن يبشروا بالرسول المتأخر ويؤمنوا بما عنده ويصدقوه فماذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب وقد كفروا بك وظاهر حالهم أنهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الذي هو دين الله الوحيد ؟

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 336 _
  ولذلك لا يصدقونك ولا يتمسكون بدين الإسلام مع أنه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لانه الدين الذي يبتني على الفطرة ، وكذلك يجب أن يكون ، الدين والدليل عليه أن : ( مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) من أولي العقل والشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.
  قوله تعالى : ( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) ، هذا الإسلام الذي يعم : من في السموات والأرض ومنهم أهل الكتاب الذين يذكر ) أنهم غير مسلمين ، ولفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضي والتحقق لا محالة وهو التسليم التكويني لامر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبودي ، ويؤيده أو يدل عليه قوله طوعاً وكرهاً.
  وعلى هذا فقوله : وله أسلم ، من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل والسبب عن ذكر المدلول والمسبب ، وتقدير الكلام : أفغير الإسلام يبغون ؟ وهو دين الله لأن من في السموات والأرض مسلمون له منقادون لأمره ، فإن رضوا به كان انقيادهم طوعاً من أنفسهم ، وإن كرهوا ما شائه وأرادوا غيره كان الأمر أمره وجرى عليهم كرهاً من غير طوع .
  ومن هنا يظهر أن الواو في قوله : طوعاً وكرهاً ، للتقسيم ، وأن المراد بالطوع والكره رضاهم بما أراد الله فيهم مما يحبونه ، وكراهتهم لما أراده فيهم مما لا يحبونه كالموت والفقر والمرض ونحوها.
  قوله تعالى : وإليه يرجعون هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام ديناً فإن مرجعهم إلى الله موليهم الحق لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم و شركهم .
  قوله تعالى : ( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ) ، أمر النبي أن يجري على الميثاق الذي أخذ منه ومن غيره فيقول عن نفسه وعن المؤمنين من امته : آمنا بالله وما أنزل علينا الخ.
  وهذا من الشواهد على أن الميثاق مأخوذ من الأنبياء واممهم جميعاً كما مرت الإشارة إليه آنفاً.
  قوله تعالى : ( وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ) إلى آخر الآية ، هؤلاء المذكورون بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم ، ولا تخلو الآية من إشعار بأن المراد بالأسباط

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 337 _
  هم الأنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود وسليمان ويونس وأيوب وغيرهم.
  وقوله : والنبيون من ربهم ، تعميم للكلام ليشمل آدم ونوحاً ومن دونهما ، ثم جمع الجميع بقوله : ( لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ).
  قوله تعالى : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) ( إلخ ) نفي لغير مورد الإثبات من الميثاق المأخوذ ، وفيه تأكيد لوجوب الجرى على الميثاق.
  ( بحث روائي )
  في المجمع عن أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) : إن الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبينا أن يخبروا اممهم بمبعثه ونعته ، ويبشروهم به ويأمروهم بتصديقه .
  وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : لم يبعث الله نبياً آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ) الآية.
  اقول : والروايتان تفسران الآية بمجموع ما يدل عليه اللفظ والسياق كما مر .
  وفي المجمع والجوامع عن الصادق ( عليه السّلام ) : في الآية معناه وإذ أخذ الله ميثاق امم النبيين كل أُمة بتصديق نبيها ، والعمل بما جائهم به فما وفوا به وتركوا كثيراً من شرائعهم وحرفوا كثيراً .
  أقول : وما ذكر في الرواية من قبيل ذكر المصداق المنطبقة عليه الآية فلا ينافي شمول المراد بالآية الأنبياء وأممهم جميعاً .
  وفي المجمع أيضاً عن أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) : في قوله تعالى : ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ ) الآية ، قال أأقررتم وأخذتم العهد بذلك على اممكم ، قالوا أي قال الأنبياء واممهم : أقررنا بما أمرتنا .
  ( 3 ـ الميزان ـ 22)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 338 _
  بالإقرار به ، قال الله : فاشهدوا بذلك على اممكم ( وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) عليكم وعلى اممكم.
  وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله : قال فاشهدوا يقول : ( فاشهدوا على أممكم بذلك ، وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) عليكم وعليهم فمن تولى عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم فأولئك هم الفاسقون ، هم العاصون في الكفر.
  أقول : وقد مر توجيه معنى الرواية.
  وفي تفسير القمي عن الصادق ( عليه السّلام ) : قال لهم في الذر : ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي )أي عهدي قالوا : أقررنا ، قال الله للملائكة فاشهدوا .
  أقول : لفظ الآية لا يأباه وإن كان لا يستفاد من ظاهره كما تقدم .
  وفي الدر المنثور في قوله تعالى : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا ) الآية ، أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلوة فتقول : يا رب أنا الصلوة فيقول : إنك على خير ، وتجيء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول : إنك على خير ، ثم يجيء الصيام فيقول : أنا الصيام فيقول ، إنك على خير ، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله : إنك على خير بك اليوم آخذ وبك أعطي ، قال الله في كتابه : ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ).
  وفي التوحيد وتفسير العياشي في الآية عن الصادق ( عليه السّلام ) : هو توحيدهم لله عز وجل .
  أقول : التوحيد المذكور يلازم التسليم في جميع ما يريده الله تعالى من عباده فيرجع إلى المعنى الذي قدمناه في البيان.
  ولو اريد به مجرد نفي الشريك كان الطوع والكره هما الدلالة الاختيارية والاضطرارية.
   واعلم : أن هيهنا عدة روايات أُخر رواها العياشي والقمي في تفسيريهما وغيرهما

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 339 _
  في معنى قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ ) الآية ، وفيها لتؤمنن برسول الله ، ولتنصرن أمير المؤمنين عليهما الصلوة والسلام ، وظاهرها تفسير الآية بإرجاع ضمير لتؤمنن به إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وضمير ولتنصرنه إلى أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) من غير دليل يدل عليه من اللفظ.
  لكن في ما رواه العياشي ما رواه عن سلام بن المستنير عن أبي عبد الله ( عليه السّلام ) قال : لقد تسموا باسم ما سمي الله به أحداً إلا علي بن أبي طالب وما جاء تأويله .
  قلت : جعلت فداك متى يجيء تأويله ؟ قال : إذا جاء جمع الله أمامه النبيين والمؤمنين حتى ينصروه وهو قول الله : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ) ـ إلى قوله : وأنا معكم من الشاهدين.
  وبذلك يهون أمر الإشكال فإنه إنما يرد لو كانت الروايات واردة مورد التفسير وأما التأويل فقد عرفت أنه ليس من قبيل المعنى ، ولا مرتبطاً باللفظ في ما تقدم من تفسير قوله : ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) الآية آل عمران ـ 7
  ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 340 _
   أأَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ )
  ( بيان )
  الآيات ممكنة الارتباط بما تقدمها من الكلام على أهل الكتاب وإن كان يمكن أن تستقل بنفسها وتنفصل عما تقدمها ، وهو ظاهر .
  قوله تعالى : ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ) ، الاستفهام يفيد الاستبعاد والإنكار والمراد به استحالة الهداية ، وقد ختم الآية بقوله : ( وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، وقد مر في نظير هذه الجملة أن الوصف مشعر بالعلية أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم ، وذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم وتوبتهم منه .
  وأما قوله : ( وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ) ، فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أن آيات النبوة التي عندهم منطبقة على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كما يفيده قوله وجائهم البينات وإن كان المراد بهم أهل الردة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقراراً صورياً مبنياً على الجهالة والحمية ونحوهما بل إقراراً مستنداً إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله وجائهم البينات.
  وكيف كان الأمر فانضمام قوله : وشهدوا ( إلخ) إلى أول الكلام يفيد أن المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحق وتمام الحجة فيكون كفراً عن عناد مع الحق ولجاج مع أهله وهو البغي بغير الحق والظلم الذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة والفلاح.
  وقد قيل في قوله : وشهدوا ( إلخ) إنه معطوف على قوله : إيمانهم لما فيه من معنى الفعل ، والتقدير : ( كفروا بعد أن آمنوا وشهدوا ) ( إلخ) أو أن الواو للحال ، والجملة حالية بتقدير ( قد ).
  قوله تعالى : ( أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ ـ إلى قوله ـ : وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ )، قد مر الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى : ( أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) البقرة ـ 159.
  قوله تعالى : ( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ ) ( إلخ) أي دخلوا في الصلاح ، والمراد به كون توبتهم نصوحاً تغسل عنهم درن الكفر وتطهر باطنهم بالإيمان ، وأما

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 341 _
  الإتيان بالأعمال الصالحة فهو وإن كان مما يتفرع على ذلك ويلزمه غير أنه ليس بمقوم لهذه التوبة ولا ركناً منها ، ولا في الآية دلالة عليه.
  وفي قوله : ( فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) وضع العلة موضع المعلول والتقدير فيغفر الله له ويرحمه : ( فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
  قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا ) إلى آخر الآيتين تعليل لما يشتمل عليه قوله أولاً : ( كيف يهدي الله قوماً كفروا ) ( إلخ) وهو من قبيل التعليل بتطبيق الكلي العام على الفرد الخاص ، والمعنى أن الذي يكفر بعد ظهور الحق وتمام الحجة عليه ، ولا يتوب بعده توبة مصلحة إنما هو أحد رجلين إما كافر يكفر ثم يزيد كفراً فيطغي ، ولا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله ولا يقبل توبته لانه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال ، ولا مطمع في اهتدائه.
  وإما كافر يموت على كفره وعناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنة إذ لم يرجع إلى ربه ولا بدل لذلك حتى يفتدي به ، ولا شفيع ولا ناصر حتى يشفع له أو ينصره .
  ومن هنا يظهر أن قوله : وأولئك هم الضالون باشتماله على اسمية الجملة ، والإشارة البعيدة في أولئك ، وضمير الفصل ، والاسمية واللام في الخبر يدل على تأكد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.
  وكذا يظهر أن المراد بقوله : وما لهم من ناصرين نفي انتفاعهم بالشفعاء الذين هم الناصرون يوم القيامة فإن الإتيان بصيغة الجمع يدل على تحقق ناصرين يوم القيامة كما مر نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ) الآية في مبحث الشفاعة ( آية 48 من سورة البقرة ) فارجع إليه.
  وقد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء والناصرين لكونهما كالبدل ، والبدل إنما يكون من فائت يفوت الإنسان ، وقد فاتتهم التوبة في الدنيا ولا بدل لها يحل محلها في الآخرة.
  ومن هنا يظهر أن قوله : وماتوا وهم كفار في معنى : وفاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 342 _
   السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) النساء ـ 18 ، فإن المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة وانقطاع الدنيا ، وتفوت عند ذلك التوبة.
  والملء في قوله : ملء الأرض ذهباً مقدار ما يسعه الإناء من شيء ، فاعتبر الأرض إناء يملأه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييلية والاستعارة بالكناية .
  ( بحث روائي )
  في المجمع في قوله تعالى : ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا ) الآية : قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت ، وكان قتل المجدر بن زياد البلوي غدراً ، وهرب وارتد عن الإسلام ، ولحق بمكة ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هل لي من توبة ؟ فسألوا فنزلت الآية ـ إلى قوله ـ : ( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ) فحملها إليه رجل من قومه فقال : إني لأعلم أنك لصدوق ، ورسول الله أصدق منك ، وان الله أصدق الثلاثة ، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه ، عن مجاهد والسدي وهو المروي عن أبي عبد الله ( عليه السّلام ).
  وفي الدر المنثور أخرج ابن إسحق وابن المنذر عن ابن عباس : أن الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ثم لحق بقريش فكان بمكة ثم بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه : ( كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا ) إلى آخر القصة.
  اقول : وروى القصة بطرق اخرى وفيها اختلافات ، ومن جملتها ما رواه عن عكرمة : أنها نزلت في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة ؟ فنزلت إلا الذين تابوا من بعد ذلك الآيات.
  ومنها ما في المجمع في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا )الآية ، أنها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث قالوا نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلما

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 343 _
  افتتح رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مكة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن مات منهم كافراً : ( إن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ )الآية ، نسبها إلى بعضهم.
  وقيل إنها نزلت في أهل الكتاب ، وقيل إن قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا ) الآية نزلت في اليهود خاصة حيث آمنوا ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلّى الله عليه وآله وعليهما ، وقيل غير ذلك .
  والتأمل في هذه الأقوال والروايات يعطي أن جميعها من الأنظار الاجتهادية من سلف المفسرين كما تنبه له بعضهم .
  وأما الرواية عن الصادق ( عليه السّلام ) فمرسلة ضعيفة ، على أن من الممكن أن يتعدد أسباب النزول في آية أو آيات ، والله أعلم.
  ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ * ( الجزء الرابع ) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
  ( بيان )
  ارتباط الآية الأولى بما قبلها غير واضح ، ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات التي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض ، وقد عرفت نظير هذا الاشكال في قوله تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ )الآية آل عمران ـ 64 ، من حيث تاريخ النزول.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 344 _
  وربما يقال : إن الخطاب في الآية موجه إلى بني إسرائيل ، ولا يزال موجهاً إليهم ، ومحصل المعنى بعد ما مر من توبيخهم ولومهم على حب الدنيا وإيثار المال والمنال على دين الله : أنكم كاذبون في دعويكم أنكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنكم أهل البر والتقوى ، فإنكم تحبون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها ، ولا تنفقون منها إلا الردي الذي لا تتعلق به النفوس مما لا يعبأ بزواله وفقده مع أنه لا ينال البر إلا بإنفاق الإنسان ما يحبه من كرائم ماله ، ولا يفوت الله سبحانه حفظه هذا محصل ما قيل : وفيه تمحل ظاهر !
  وأما بقية الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.
  قوله تعالى : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) ، النيل هو الوصول ، والبر هو التوسع في فعل الخير ، قال الراغب : البر خلاف البحر ، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر أي التوسع في فعل الخير انتهى.
  ومراده من فعل الخير أعم مما هو فعل القلب كالاعتقاد الحق والنية الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله والإنفاق في سبيل الله تعالى ، وقد اشتمل على القسمين جميعاً قوله تعالى : ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ )الآية البقرة ـ 177.
  ومن انضمام الآية إلى قوله : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ ) الآية ، يتبين أن المراد بها أن إنفاق المال على حبه ، أحد أركان البر التي لا يتم إلا باجتماعها نعم جعل الإنفاق غاية لنيل البر لا يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلق القلبي بما جمعه من المال ، وعده كأنه جزء من نفسه إذا فقده فكأنه فقد جزء من حيوة نفسه بخلاف سائر العبادات والأعمال التي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه .
  ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إن البر هو الإنفاق مما تحبون ، وكأن هذا القائل : جعلها من قبيل قول القائل لا تنجو من ألم الجوع حتى تأكل ، ونحو ذلك ، لكنه محجوج بما مر من الآية.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 345 _
  ويتبين من آية البقرة المذكورة أيضاً أن المراد بالبر هو ظاهر معناه اللغوي أعني التوسع في الخير فإنها بينته بمجامع الخيرات الاعتقادية والعملية ، ومنه يظهر ما في قول بعضهم : أن المراد بالبر هو إحسان الله وإنعامه وما في قول آخرين : أن المراد به الجنة.
  قوله تعالى : ( وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، تطبيب لنفوس المنفقين أن ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدوراً من غير أجر : ( فإن الله الذي يأمرهم به عليم ) بإنفاقهم وما ينفقونه .
  قوله تعالى : ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ) ، الطعام كل ما يطعم ويتغذى به وكان يطلق عند أهل الحجاز على البر خاصة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق ، والحل مقابل الحرمة ، وكأنه مأخوذ من الحل مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الإطلاق وإسرائيل هو يعقوب النبي ( عليه السّلام ) سمي به لانه كان مجاهداً في الله مظفراً به ، ويقول أهل الكتاب : إن معناه المظفر الغالب على الله سبحانه لانه صارع الله في موضع يسمى فنيئيل ( فغلبه على ما في التوراة ) وهو مما يكذبه القرآن ويحيله العقل.
  وقوله : إلا ما حرم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفاً ، وقوله : من قبل أن تنزل التوراة متعلق بكان في الجملة الأولى ، والمعنى لم يحرم الله قبل نزول التوراة شيئاً من الطعام على بني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه .
  وفي قوله تعالى : ( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ، دلالة على أنهم كانوا ينكرون ذلك ، أعني حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة ، ويدل عليه أنهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مر ذكره في ذيل قوله تعالى : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ) الآية البقرة ـ 106 ، فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) النساء ـ 160.
  وكذا يدل قوله تعالى : ( ُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) ، أنهم كانوا يجعلون ما ينكرونه ( من حلية كل الطعام عليهم قبل ، التوراة وكون التحريم إنما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحل بالحرمة ) وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين ، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن ربه أن دينه هو ملة إبراهيم الحنيف ، وهي ملة فطرية لا إفراط فيها ولا تفريط ، كيف ؟ وهم كانوا يقولون : إن إبراهيم كان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 346 _
  يهودياً على شريعة التوراة ، فكيف يمكن أن تشتمل ملته على حلية ما حرمتها التوراة ، والنسخ غير جائز ؟
  فقد تبين أن الآية إنما تتعرض لدفع شبهة أوردتها اليهود ، ويظهر من عدم تعرض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) المائدة ـ 64 ، وقوله : ( وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَة ) البقرة ـ 80 ، وقوله : ( وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ) البقرة ـ 88 ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
  وكذا قوله تعالى بعد عدة آيات : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ ـ إلى أن قال ـ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) الآيات آل عمران ـ 100.
  وبالجملة يظهر من ذلك أنها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.
  وحاصلها أنه كيف يكون النبي صادقاً وهو يخبر بالنسخ ، وأن الله إنما حرم الطيبات على بني إسرائيل لظلمهم ، وهذا نسخ لحل سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرمات محرمة دائماً من غير إمكان تغيير لحكم الله ، وحاصل الجواب من النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بتعليم من الله تعالى : أن التوراة ناطقة بكون كل الطعام حلا قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم ، وهو قوله تعالى : ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ـ إلى قوله ـ : إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ).
  فإن أبيتم الاتيان بالتوراة وتلاوتها : ( فاعترفوا بأنكم المفترون على الله الكذب وأنكم الظالمون ) ، وذلك قوله تعالى : ( فَمَنِ افْتَرَىَ ـ إلى قوله ـ ظَّالِمُونَ ).
  وقد تبين بذلك أني صادق في دعوتي فاتبعوا ملتي وهي : ( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) ، وذلك قوله تعالى : ( قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ) إلى آخر الآية.
  وللمفسرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنهم على أي حال ذكروا أن الآية متعرضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مر .
  وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم : أن الآية متعرضة لجواب شبهة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 347 _
  أوردتها اليهود في النسخ ، وتقريرها : أن اليهود كأنها قالت إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين بعده ـ كما تدعي ـ فكيف تستحل ما كان محرماً عليه وعليهم كلحم الإبل ؟ أما وقد استبحت ما كان محرماً عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم ، وموافق في الدين ، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر فتقول : إني أولى به .
  ومحصل الجواب : أن كل الطعام كان حلاً لعامة الناس ومنهم بنو إسرائيل لكن بني إسرائيل حرموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي ، والسيئات كما قال تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) الآية النساء ـ 160 ، فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم ، لا يعقوب وحده ، ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم : أنهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيئات فكانت سبباً للتحريم ، وقوله : من قبل أن تنزل التوراة متعلق بقوله : حرم إسرائيل ، ولو كان المراد بقوله : إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله : من قبل أن تنزل التوراة لغواً زائداً من الكلام لبداهة أن يعقوب كان قبل التوراة زماناً فلا وجه لذكره .
  هذا محصل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلا أنه قال : إن المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعاً من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهلية تفعل ذلك على ما قصه الله تعالى في كتابه .
  وقد ارتكبا جميعاً من التكلف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه ، وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى : من قبل أن تنزل التوراة على أنه متعلق بقوله : حرم إسرائيل ، مع كونه متعلقاً بقوله : كان حلا ، في صدر الكلام وقوله إلا ما حرم ، استثناء معترض .
  ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.
  على أن إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزاً على حد قولهم : بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب و بني نزار وبني عدنان لكنه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول ، ولا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 348 _
  أن القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة ( في غير هذا المورد الذي يدعيانه ) مع أن بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعاً ، ومن جملتها نفس هذه الآية : ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية ؟ حيث عبر عنهم أولاً ببني إسرائيل ، ثم أردف ذلك بقوله إسرائيل مع أن المقام من أوضح مقامات الالتباس ، وناهيك في ذلك أن الجم الغفير من المفسرين فهموا منه أن المراد به يعقوب لا بنوه .
  ومن أحسن الشواهد على أن المراد به يعقوب قوله تعالى : على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال : على نفسها أو على أنفسهم.
  قوله تعالى : ( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) أي حق يتبين أن أي الفريقين على الحق ، أنا أم أنتم ، وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
  قوله تعالى : ( فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ، ظاهره أنه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأن أعدائه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله ، وتعريض لليهود ، والكلام يجري مجري الكناية.
  وأما احتمال كون الكلام من تتمة كلام النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الاشارة في قوله : من بعد ذلك ، وعلى هذا أيضاً يجري الكلام مجري الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) سبأ ـ 24 ، والمشار إليه بذلك هو البيان والحجة.
  وإنما قال : من بعد ذلك مع أن المفتري ظالم على أي حال لأن الظلم لا يتحقق قبل التبين كما قيل ، والقصر في قوله : فاولئك هم الظالمون قصر قلب على أي حال .
  قوله تعالى : ( قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) ( إلخ) أي فإذا كان الحق معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتبعوا ديني واعترفوا بحليه لحم الإبل وغيره من الطيبات التي أحلها الله ، وإنما كان حرمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 349 _
  فقوله : فاتبعوا ( إلخ) كالكناية عن اتباع دينه ، وإنما لم يذكره بعينه لأنهم كانوا معترفين بملة إبراهيم ، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفاً فطرياً لأن الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيبات من اللحوم وسائر الرزق.
  ( بحث روائي )
  في الكافي وتفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) : أن إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل وذلك قبل أن تنزل التوراة فلما نزلت التوراة لم يحرمه ولم يأكله .
  أقول : وما يقرب منه مروي من طرق أهل السنة والجماعة.
  وقوله في الرواية : لم يحرمه ولم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه ، والمعنى لم يحرمه موسى ولم يأكله ، ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل ، ويظهر من التاج أن التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد.
  ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )
  ( بيان )
  الآيتان جواب عن شبهة اخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ ، وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة ، وقد مر في تفسير قوله تعالى : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) الآية البقرة ـ 144 ، أن تحويل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 350 _
  القبلة كان من الامور الهامة التي كانت له تأثيرات عميقة مادية ومعنوية في حيوة أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ مضافاً إلى كونه مخالفاً لمذهبهم من النسخ ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد .
  والمستفاد من الآية ـ إن أول بيت ( إلخ) ـ أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة : أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالاً باطلاً ؟
  والجواب : أن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك ووضعها للعبادة ، وفيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم ، وأما بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون .
  قوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ) إلى آخر الآية ، البيت معروف ، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه ، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه ، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك ، والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدى للعالمين وغير ذلك ، ويشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلوة وغيرهما من العبادات والمناسك ، وأما كونه أول بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.
  والمراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها ، وربما قيل إن بكة هي مكة ، وإنه من تبديل الميم باء كما في قولهم : لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك ، وقيل : هو اسم للحرم ، وقيل : المسجد ، وقيل : المطاف.
  والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير ، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه ، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيوية والأخروية ، إلا أن ظاهر مقابلتها مع قوله : هدىً للعالمين أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق وتوفر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحج إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي