بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) إبراهيم ـ 37.
  وكونه هدىً هو إرائته للناس سعادة آخرتهم ، وإيصاله إياهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة ، وبما شرّع عنده من أقسام الطاعات والنسك ، ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين .
  وقد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم ( عليه السّلام ) بعد الفراغ من بنائه ، قال تعالى : ( وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) البقرة ـ 125 ، وقال : خطاباً لإبراهيم : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) الحج ـ 27 ، والآية كما ترى تدل على أن هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل .
  ودل أيضاً على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره ومعروفيته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى ( عليهما السلام ) : ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ) القصص ـ 27 ، فقد أراد بالحج السنة وليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها بتكرره .
  وكذا في دعوة إبراهيم ( عليه السّلام ) شيء كثير يدل على كون البيت لم يزل معموراً بالعبادة آية في الهداية ( راجع سورة إبراهيم ).
  وكان عرب الجاهلية يعظمونه ويأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم ، وقد ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضاً كانوا يعظمونه ، وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجه إلى الله سبحانه وذكره ، وأما بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح ، وقد ملأ ذكره مشارق الأرض ومغاربها ، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره ، وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم.
  فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي : ( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) من عباد الله المخلصين

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 352 _
  على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة وائتلاف الامة وشهادة منافعهم ، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتتة.
  ومن هنا يظهر أولاً : أنه هدى إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنه هدى بجميع مراتب الهداية ، فالهداية مطلقة .
  وثانياً : أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.
  قوله تعالى : ( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ) ، الآيات وإن وصفت بالبينات ، وأفاد ذلك تخصصاً ما في الموصوف إلا إنها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام ، والمقام مقام بيان مزايا البيت ومفاخره التي بها يتقدم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلا الإتيان ببيان واضح ، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال ، وهذا من الشواهد على كون قوله : ( مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ ) إلى آخر الآية بياناً لقوله : آيات بينات فالآيات هي : مقام إبراهيم ، وتقرير الأمن فيه ، وإيجاب حجه على الناس المستطيعين.
  لكن لا كما يترائى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلاً أو عطف بيان من قوله : آيات لوضوح أن ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا هي مقام إبراهيم ، والأمن لمن دخله ، وحجه لمن استطاع إليه سبيلاً ، وفي ذلك إرجاع قوله : ومن دخله ، سواء كان إنشاءاً أو إخباراً إلى المفرد بتقدير أن وإرجاع قوله : ولله على الناس ، وهي جملة إنشائية إلى الخبرية ثم عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أن فيها أيضاً ، وكل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام البتة.
  وإنما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله : مقام إبراهيم ( إلخ) ، كل لغرض خاص من إخبار أو إنشاء حكم ثم تتبين بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال : فلان رجل شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أن نتبعه .
  قوله تعالى : ( مقام إبراهيم مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم ) ، وهو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل ( عليه السّلام ) ، وقد استفاض النقل بأن الحجر مدفون

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 353 _
  في المكان الذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافة المطاف حيال الملتزم ، وقد أشار إليه أبو طالب عم النبي في قصيدته اللامية :

وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة      عـلى  قـدميه حـافياً غير ناعل
  وربما يفهم من قوله : مقام إبراهيم أن البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه .
  ويمكن أن يكون تقدير الكلام هي مقام إبراهيم والأمن والحج ثم وضع قوله : ومن دخله ، وقوله : ولله على الناس ، وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائي موضع الخبرين ، وهذا من أعاجيب اسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين ، ويحفظ الجهتين كحكايه الكلام في موضع الإخبار كقوله : ( كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) البقرة ـ 285 ، وكما مر في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ ) الآية البقرة ـ 258 ، وقوله : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ) الآية البقرة ـ 259 ، وقد بينا النكتة في ذلك في تفسير الثانية ، وكما في قوله تعالى : ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء ـ 89 ، وكما في قوله تعالى : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ) الآية البقرة ـ 177 ، حيث وضع صاحب البر مكان البر ، وكما في قوله تعالى : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ ) الآية البقرة ـ 171 ، ومثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.
  وعلى هذا فوزان قوله فيه آيات بينات مقام إبراهيم ـ إلى قوله ـ عن العالمين في التردد بين الإنشاء والإخبار ، وزان قوله : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ص ـ 44.
  و هذا الذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدلية ، وإن كان بدلاً ولا بد فالأولى جعل قوله ، مقام إبراهيم بدلاً ، وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين
  ( 3 ـ الميزان ـ 23)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 354 _
  دالتين على بدلين محذوفين ، والتقدير فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحج المستطيع للبيت .
  ولا ريب في كون كل واحد من هذه الامور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه مذكرة لمقامه إذ ليست الآية إلا العلامة الدالة على الشيء بوجه ، وأي علامة دالة عليه تعالى مذكرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن حرم آمن يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر بتكرر السنين ، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيام ، وأما كون كل آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً للسنة الطبيعة فليس من الواجب ، ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه ، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه .
  قال تعالى : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا )الآية البقرة ـ 106 ، وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً ، وقال تعالى : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) الشعراء ـ 128 ، إلى غير ذلك من الآيات.
  ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسرين على توجيه كون المقام آية خارقة ، وكون الأمن والحج مذكورين لغير غرض بيان الآية.
  وكذا إصرار آخرين على أن المراد بالآيات البينات امور اخر من خواص الكعبة ( وقد أغمضنا عن ذكرها ، ومن أرادها فليراجع بعض مطولات التفاسير ) فإن ذلك مبني على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة ، ولا دليل على ذلك كما مر .
  فالحق أن قوله ومن دخله كان آمناً : مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصة تكوينية غير أن الظاهر أن يكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا الحق محفوظاً للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية ويتصل بزمن إبراهيم ( عليه السّلام ).
  وأما كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأن الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه ، وخاصة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية ، وقوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) العنكبوت ـ 67 ، لا يدل على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم ، وليس ذلك إلا لما يراه الناس من

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 355 _
  حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم ( عليه السّلام ) وينتهي بالآخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه .
  وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى : ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ) إبراهيم ـ 35 ، وقوله : ( رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا ) البقرة ـ 126 حيث سأل الأمن لبلد مكة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقاً قلبياً إلى تسليم ذلك وقبوله زماناً بعد زمان .
  قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) الحج بالكسر ( وقرئ بالفتح ) هو القصد ثم اختص استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بيِّنه الشرع ، وقوله : سبيلاً تمييز من قوله : استطاع.
  والآية تتضمن تشريع الحج إمضائاً لما شرع لإبراهيم ( عليه السّلام ) كما يدل عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) الآية الحج ـ 27 ، ومن هنا يظهر أن وزان قوله : ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ ) ( إلخ) وزان قوله تعالى : ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) في كونه إخباراً عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاء على نحو الامضاء لكن الأظهر من السياق هو الأول كما لا يخفى .
  قوله تعالى : ( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) ، الكفر هيهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلوة والزكوة فالمراد بالكفر الترك، والكلام من قبيل وضع المسبب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أن قوله : ( فَإِنَّ الله غَنِيٌّ ) ( إلخ) من قبيل وضع العلة موضع المعلول ، والتقدير : ومن ترك الحج فلا يضر الله شيئاً : ( فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ).
  ( بحث روائي )
  عن ابن شهر آشوب عن أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) : في قوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ )الآية فقال : له رجل أهو أول بيت ؟ قال لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً ، فيه الهدى والرحمة والبركة ، وأول من بناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 356 _
  وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبي طالب في قوله : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة قال كانت البيوت قبله ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله.
  أقول : ورواه أيضاً عن ابن جرير عن مطر مثله ، والروايات في هذه المعاني كثيرة .
  وفي العلل عن الصادق ( عليه السّلام ) : موضع البيت بكة ، والقرية مكة .
  وفيه أيضاً عنه ( عليه السّلام ) : إنما سميت بكة بكة لأن الناس يبكون فيها .
  أقول : يعني يزدحمون .
  وفيه عن الباقر ( عليه السّلام ) : إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال والنساء ، المرأة تصلي بين يديك ، وعن يمينك ، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنما يكره ذلك في سائر البلدان.
  وفيه عن الباقر ( عليه السّلام ) قال : لما أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجاً ثم أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلاً من زبد ثم دحى الأرض من تحته وهو قول الله : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا ) ، فأول بقعه خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها .
  اقول : والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة ، وليست مخالفة الكتاب ، ولا أن هناك برهاناً يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أن الأرض عنصر بسيط قديم ، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان .
  وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أن الكعبة أول بيت ( أي بقعة ) في الأرض وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الاوليان.
  وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) في قوله تعالى : فيه آيات بينات : أنه سئل ما هذه الآيات البينات ؟ قال : مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه ، والحجر الأسود ، ومنزل إسماعيل.
  أقول : وفي هذا المعنى روايات أُخر ، ولعل ذكره هذه الامور من باب العد وإن لم تشتمل على بعضها الآية.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 357 _
  وفي تفسير العياشي عن عبد الصمد ، قال : طلب أبو جعفر أن يشتري من أهل مكة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أبا عبد الله ( عليه السّلام ) فقال له : أني سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم وأفنيتهم لنزيد في المسجد وقد منعوا في ذلك فقد غمني غماً شديداً ، فقال أبو عبد الله ( عليه السّلام ) : لم يغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة ؟ فقال : وبما أحتج عليهم ؟ فقال : بكتاب الله ، فقال في أي موضع ؟ فقال : قول الله : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ) ، وقد أخبرك الله أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم ، وإن كان البيت قديماً فيهم فله فنائه ، فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له : اصنع ما أحببت.
  وفيه عن الحسن بن علي بن النعمان ، قال : لما بنى المهدي في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا ، فسأل عن ذلك الفقهاء فكل قال له : إنه لا ينبغي أن تدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً ، فقال له علي بن يقطين ، يا أمير المؤمنين إني أكتب إلى موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) لاخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها ، فكيف المخرج من ذلك ؟
  فقال ذلك لأبي الحسن ( عليه السّلام ) ، فقال ابو الحسن ( عليه السّلام ) : فلا بد من الجواب في هذا ؟ فقال له : الأمر لا بد منه ، فقال له : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها : وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها .
  فلما أتي الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبّله ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن ( عليه السّلام ) فسألوه أن يكتب إلى المهدي كتاباً في ثمن دارهم فكتب إليه أن اوضح (1) لهم شيئاً فأرضاهم .
  أقول : والروايتان مشتملتان على استدلال لطيف ، وكأن أبا جعفر المنصور كان هو البادئ بتوسعة المسجد الحرام ثم تم الأمر للمهدي .

--------------------
(1) ارضخ ( خ ).

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 358 _
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السّلام ) في قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) ( إلخ) ، يعني به الحج والعمرة جميعا لأنهما مفروضان .
  أقول : ورواه العياشي في تفسيره ، وقد فسر الحج فيه بمعناه اللغوي وهو القصد.
  وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) : ومن كفر قال : ترك .
  أقول : ورواه الشيخ في التهذيب ، وقد عرفت أن الكفر ذو مراتب كالإيمان ، وأن المراد منه الكفر بالفروع .
  وفي الكافي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى ( عليه السّلام ) في حديث قال : قلت فمن لم يحج منا فقد كفر ؟ قال : لا ، ولكن من قال : ليس هذا هكذا فقد كفر .
  أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة ، والكفر في الرواية بمعنى الرد ، والآية تحتمله ، فالكفر فيها بمعناه اللغوي وهو الستر على الحق ، وعلى حسب الموارد تتعين له مصاديق .

( بحث تاريخي )
  من المتواتر المقطوع به أن الذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل ( عليه السّلام ) وكان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربع تقريباً وزواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسر عليها الرياح ولا تضرها مهما اشتدت.
  ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جددها العمالقة ثم بنو جرهم ( أو بالعكس ) كما مر في الرواية عن أمير المؤمنين ( عليه السّلام ).
  ثم لما آل أمر الكعبة إلى قصى بن كلاب أحد أجداد النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ( القرن الثاني قبل الهجرة ) هدمها وبناها فأحكم بنائها ، وسقفها بخشب الدوم وجذوع النخل وبنى إلى جانبها دار الندوة ، وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه ، ثم قسم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة ، وفتحوا عليه أبواب دورهم.
  وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 359 _
  وكان الذي يبنيها ياقوم الرومي ويساعده عليه نجار مصري ، ولما انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أن أيها يختص بشرف وضعه فرأوا أن يحكموا محمداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وسنه إذ ذاك خمس وثلثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه ، فطلب رداء ووضع عليه الحجر ، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو فوضعه بيده في موضعه .
  وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بنائها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.
  وكان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبدالله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد ابن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة ، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدِمت وأُحرقت كسوتها وبعض أخشابها ، ثم انكشف عنها لموت يزيد ، فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بنائها فأتى لها بالجص النقي من اليمن ، وبناها به ، وأدخل الحجر في البيت ، وألصق الباب بالأرض ، وجعل قبالته باباً آخر ليدخل الناس من باب ويخرجوا من آخر ، وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً ولما فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعبير داخلاً وخارجاً ، وكساها بالديباج ، وكان فراغه من بنائها 17 رجب سنه 64 هجرية.
  ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتى غلبه فقتله ، ودخل البيت فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة ، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول ، فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة أذرع وشبراً ، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ، ورفع الباب الشرقي وسد الغربي ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها .
  ولما تولى السلطان سليمان العثماني الملك سنة ستين وتسعمأة غير سقفها ، ولما تولى السلطان أحمد العثماني سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً ولما حدث السيل العظيم سنة تسع وثلثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشمالية والشرقية والغربية فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها ، ولم يزل على ذلك حتى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مأة وخمس وسبعين هجرية قمرية وسنة ألف وثلاثمأه وثمانية وثلاثين هجرية شمسية .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 360 _
  شكل الكعبة : شكل الكعبة مربع تقريباً وهي مبنية بالحجارة الزرقاء الصلبة ويبلغ ارتفاعها ستة عشر متراً ، وقد كانت في زمن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) علياً ( عليه السّلام ) على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام التي كانت على الكعبة وكسرها .
  وطول الضلع الذي فيه الميزاب والذي قبالته عشرة أمتار وعشرة سانتي مترات ، وطول الضلع الذي فيه الباب والذي قبالته اثنا عشر متراً ، والباب على ارتفاع مترين من الأرض ، وفي الركن الذي على يسار الباب للداخل ، الحجر الأسود على ارتفاع متر ونصف من أرض المطاف ، والحجر الأسود حجر ثقيل بيضي الشكل غير منتظم ، لونه أسود ضارب إلى الحمرة ، وفيه نقط حمراء ، وتعاريج صفراء ، وهي أثر لحام القطع التي كانت تكسرت منه قطره نحو ثلثين سانتي متراً .
  وتسمى زوايا الكعبة من قديم أيامها بالأركان فيسمى الشمالي بالركن العراقي ، والغربي بالشامي والجنوبي باليماني ، والشرقي إلذي فيه الحجر الأسود بالأسود ، وتسمى المسافة التي بين الباب وركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إياه في دعائه واستغاثته ، وأما الميزاب على الحائط الشمالي ويسمى ميزاب الرحمة فمما أحدثه الحجاج بن يوسف ثم غيره السلطان سليمان سنة 954 إلى ميزاب من الفضة ثم أبدله السلطان أحمد سنة 1021 بآخر من فضة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخللها نقوش ذهبية ، ثم أرسل السلطان عبد المجيد من آل عثمان سنة 1273 ميزاباً من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن.
  وقبالة الميزاب حائط قوسي يسمى بالحطيم ، وهو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشمالية والغربية ، ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات ، ويبلغ ارتفاعه متراً وسمكه متراً ونصف متر ، وهو مبطن بالرخام المنقوش ، والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار وأربعة وأربعون سانتيمتراً .
  والفضاء الواقع بين الحطيم وبين حائط البيت هو المسمى بحجر إسماعيل ، وقد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم ، والباقي كان زريبة لغنم هاجر وولدها ، ويقال : إن هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر.
  وأما تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير وترميم ، وما للبيت من السنن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 361 _
  والتشريفات فلا يهمنا التعرض له.
  كسوة الكعبة : قد تقدم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصة هاجر وإسماعيل ونزولهما أرض مكة أن هاجر علق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها .
  وأما كسوة البيت نفسه فيقال : إن أول من كساها تبع أبو بكر أسعد كساها بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة ، وتبعه خلفائه ثم أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض ، وكلما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصى ، ووضع قصى على العرب رفادة لكسوتها سنوياً واستمر ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة .
  وقد كساها النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالثياب اليمانية ، وكان على ذلك حتى إذا حج الخليفة العباسي المهدي شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة ، وذكروا أنه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية ، وإبدالها بكسوة واحدة كل سنة ، وجرى العمل على ذلك حتى اليوم ، وللكعبة كسوة من داخل ، وأول من كساها من داخل ام العباس بن عبد المطلب لنذر نذرته في ابنها العباس.
  منزلة الكعبة : كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الامم المختلفة فكانت الهنود يعظمونها ، ويقولون : إن روح ( سيفا ) وهو الاقنوم الثالث عندهم حلت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.
  وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة (1) وربما قيل : إنه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه .
  وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أن روح هرمز حلت فيها ، وربما حجوا إليها زائرين.
  وكانت اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم ، وكان بها صور

--------------------
(1) البيوت المعظمة هي : 1 ـ الكعبة ، 2 ـ مارس على رأس جبل باصفهان ، 3 ـ مندوسان ببلاد الهند ، 4 ـ نوبهار بمدينة بلخ ، 5 ـ بيت غمدان بمدينة صنعاء ، 6 ـ كلوسان بمدينة فرغانة من خراسان ، 7 ـ بيت بأعالي بلاد الصين.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 362 _
  وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل ، وبأيديهما الأزلام ومنها صورتا العذراء والمسيح ، ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لامرها أيضاً كاليهود .
  وكانت العرب أيضاً تعظمها كل التعظيم ، وتعدها بيتاً لله تعالى ، وكانوا يحجون إليها من كل جهة وهم يعدون البيت بناء لإبرهيم ، والحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث .
  ولاية الكعبة : كانت الولاية على الكعبة لاسماعيل ثم لولده من بعده حتى تغلبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثم ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم ، وقد كانوا ينزلون أسفل مكة كما أن جرهم كانت تنزل أعلى مكة وفيهم ملوكهم .
  ثم كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولوها نحواً من ثلاثمأة سنة ، وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.
  ثم لما نشأت ولد إسماعيل وكثروا وصاروا ذوي قوة ومنعة وضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكة ، ومقدم الإسماعيليين يومئذ عمرو بن لحى ، وهو كبير خزاعة فاستولى على مكة وتولى أمر البيت ، وهو الذي وضع الأصنام على الكعبة ودعى الناس إلى عبادتها ، وأول صنم وضعه عليها هو ( هبل ) ، حمله معه من الشام إلى مكة ووضعه عليها ثم أتبعه بغيره حتى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب ، وهجرت الحنيفية.
  وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهمي يخاطب عمرو بن لحى .
يا  عمرو إنك قد أحدثت iiآلهة      شتى بمكة حول البيت أنصاباً
وكـان  للبيت رب واحد iiأبداً      فقد جعلت له في الناس iiأرباباً
لـتعرفن  بـأن الله في iiمهل      سيصطفي دونكم للبيت iiحجاباً
  وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعي فجعلها حليل من بعده لابنته وكانت تحت قصي بن كلاب ، وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمى أبا غبشان الخزاعي فباعه أبو غبشان من قصي بن كلاب ببعير وزق خمر ، وفي ذلك يضرب المثل السائر ( أخسر من صفقة أبي غبشان ).
  فانتقلت الولاية إلى قريش ، وجدد قصي بناء البيت كما قدمناه وكان الأمر على

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 363 _
  ذلك حتى فتح النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مكة ، ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت ، وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت ، وقد كان مقام إبراهيم وهو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم موضوعاً بمعجن في جوار الكعبة ثم دفن في محله الذي يعرف به الآن ، وهو قبة قائمة على أربعة أعمدة يقصدها الطائفون للصلاة .
  وأخبار الكعبة وما يتعلق بها من المعاهد الدينية كثيرة طويلة الذيل اقتصرنا منها على ما تمسه حاجة الباحث المتدبر في آيات الحج والكعبة.
  ومن خواص هذا البيت الذي بارك الله فيه وجعله هدى أنه لم يختلف في شأنه أحد من طوائف الاسلام.
( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
  ( بيان )
  الآيات كما ترى باتصال السياق تدل على أن أهل الكتاب ( فريق منهم وهم اليهود أو فريق من اليهود ) كانوا يكفرون بآيات الله ، ويصدون المؤمنين عن سبيل الله بارائته إياهم عوجاً غير مستقيم ، وتمثيل سبيل الضلال المعوج المنحرف سبيلاً لله

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 364 _
  وذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحق باطلاً ، والباطل الذي يدعونهم إليه حقاً والآيات السابقة تدل على ما انحرفوا فيه من إنكار حلية كل الطعام قبل التوراة ، وإنكار نسخ استقبال بيت المقدس فهذه الآيات متممات للآيات السابقة المتعرضة لحل الطعام قبل التوراة ، وكون الكعبة أول بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإنكار والتوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات وتفتينهم المؤمنين في دينهم ، وتحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين ، وترغيب وتحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإيمان وتدوم هدايتهم.
  وقد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطي في لباب النقول على ما قيل (1) : أن شاش بن قيس ـ وكان يهودياً ـ مر على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون فغاظه ما رأى من تألفهم بعد العداوة فأمر شاباً معه من اليهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل ، فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان.
  أوس بن قرظي من الأوس ، وجبار بن صخر من الخزرج فتقاولا وغضب الفريقان ، وتواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فجاء حتى وعظهم وأصلح بينهم فسمعوا وأطاعوا فأنزل الله في أوس وجبار : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) ، الآية وفي شاش بن قيس : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) الآية.
  والرواية مختصرة مستخرجة مما رواه في الدر المنثور عن زيد بن أسلم مفصلاً وروي ما يقرب منها عن ابن عباس وغيره.
  وكيف كان ، الآيات أقرب انطباقاً على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر ، على أن الآيات يذكر الكفر والإيمان ، وشهادة اليهود ، وتلاوة آيات الله على المؤمنين ، ونحو ذلك ، وكل ذلك لما ذكرناه أنسب ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ) الآية البقرة ـ 109 ، فالحق كما ذكرنا أن الآيات متممة لسابقتها .
  قوله تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ) ( إلخ) المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلية الطعام قبل نزول التوراة ، وكون القبلة هي الكعبة في الاسلام.

--------------------
(1) المجلد الرابع من تفسير المنار : سورة آل عمران ـ تفسير الآية.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 365 _
  قوله تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) إلى قوله : عوجاً ، الصد الصرف ، وقوله : تبغونها أي تطلبون السبيل ، وقوله : عوجاً : العوج المعطوف المحرف ، والمراد طلب سبيل الله معوجاً من غير استقامة.
  قوله تعالى : ( وَأَنتُمْ شُهَدَاء ) ، أي تعلمون أن الطعام كان حلاً قبل نزول التوراة وأن من خصائص النبوة تحويل القبلة إلى الكعبة ، وقد حاذى في عدهم شهداء في هذه الآية ما في الآية السابقة من عد نفسه تعالى شهيداً على فعلهم وكفرهم ، وفيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقية ما ينكرونه والله شهيد علي إنكارهم وكفرهم.
  ولما نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيل به الآية السابقة أعني قوله : ( وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ) من قوله في ذيل هذه الآية : ( وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) فأفاد ذلك أنهم شهداء على الحقية ، والله سبحانه شهيد على الجميع.
  قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ ) ـ إلى قوله ـ : وفيكم رسوله ، المراد بالفريق كما تقدم هم اليهود أو فريق منهم ، وقوله تعالى : ( وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ ) وفيكم رسوله أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله والتدبر فيها ثم الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداء إلى رسوله الذي هو فيكم غير محتجب عنكم ولا بعيد منكم ، واستظهار الحق بالرجوع إليه ثم إبطال شبه القتها اليهود إليكم والتمسك بآيات الله وبرسوله والاعتصام بهما اعتصام بالله ، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم .
  فالمراد بالكفر في قوله : ( وكيف تكفرون الكفر بعد الإيمان ) ، وقوله وأنتم تتلى عليكم ، كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله وبرسوله ، وقوله : ويعتصم بالله ، بمنزلة الكبرى الكلية لذلك والمراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت وهو الصراط الذي لا يختلف ولا يتخلف أمره ، ويجمع سالكيه في مستواه ولا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا .
  وفي تحقيق الماضي في قوله : فقد هدى ، مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل من غير شعور بفاعله .
  ويتبين من الآية أن الكتاب والسنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 366 _
  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ * وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 367 _
  ( بيان )
  الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم ، وأن عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا ولا يسقطوا في حفر المهالك ، وهي مع ذلك كلام اعتقبه كلام ، ولا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد ، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات : لن يضروكم إلا أذى ( إلخ).
  قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) ، قد مر فيما مر أن التقوى وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنباً وتحرزاً من عذابه كما قال تعالى : ( فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) البقرة ـ 24 ، وذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى ، والانتهاء عن نواهيه ، والشكر لنعمه ، والصبر عند بلائه ، ويرجع الاخيران جميعاً إلى الشكر بمعنى وضع الشيء موضعه وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع .
  لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبودية التي لا تشوبها إنية وغفلة ، وهي الطاعة من غير معصية ، والشكر من غير كفر والذكر من غير نسيان ، وهو الاسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته ، وعلى هذا يرجع معنى قوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون إلى نحو قولنا : ودوموا على هذه الحال ( حق التقوى ) حتى تموتوا .
  وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) التغابن ـ 16 ، فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شيء مما تستطيعونه غير أن الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم ، ولا ريب أن حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس ، فإن في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلا العالمون ، ودقائق ولطائف لا يتنبه لها إلا المخلصون ، فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الإنسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم ، وأقبلوا بهممهم على ما هو أشق وأصعب.
  فقوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) الآية كلام يتلقاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 368 _
  حسب ما يطبقه كل فهم على ما يستطيعه صاحبه ثم يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله : ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) أن المراد أن يقعوا في صراط حق التقوى ، ويقصدوا نيل هذا المقام والشخوص والمثول فيه ، وذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الذي لا يتمكن منه إلا الأوحديون ، ومع ذلك يدعى إليه جميع الناس ، فيكون محصل الآيتين : ( اتقوا الله حق تقاته ـ فاتقوا الله ما استطعتم ) أن يندب جميع الناس ويدعوا إلى حق التقوى ثم يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا واستطاعوا ، وينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلا أنهم في مراحل مختلفة ، وعلى درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام والهمم ، وعلى ما يفاض عليهم من توفيق الله وتأييده وتسديده ، فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين.
  ومنه يظهر : أن الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون ، ولا أن الآية الاولى أعني قوله : اتقوا الله حق تقاته الآية ، اريد بها عين ما اريد من قوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) الآية ، بل الآية الاولى تدعو إلى المقصد والثانية تبين كيفية السلوك.
  قوله تعالى : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون الموت من الامور التكوينية التي هي خارجة عن حومة اختيارنا ، ولذلك يكون الأمر والنهي المتعلقان به وبأمثاله أمراً ونهياً تكوينيين كقوله : ( فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ) البقرة ـ 243 ، وقوله : ( أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس ـ 82 ، إلا أنه ربما يجعل الأمر غير الاختياري مضافاً إلى أمر اختياري فيتركبان بنحو وينسب المركب إلى الاختيار فيتأتى الأمر والنهي الاعتباري حينئذ كقوله تعالى : ( فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) البقرة ـ 147 ، وقوله : ( وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) هود ـ 42 ، وقوله : ( وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) التوبة ـ 119 ، وغير ذلك ، فإن أصل الكون لازم تكويني للإنسان لا أثر لاختياره فيه لكنه بارتباطه بأمر اختياري كالامتراء والكفر والتزام الصدق مثلاًً يعد أمراً اختيارياً فيؤمر به وينهى عنه أمراً ونهياً مولويين .
  وبالجملة النهي عن الموت إلا مع الاسلام إنما هو لمكان عده اختيارياً ويرجع بالآخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الاسلام في جميع الحالات ، حتى يقع الموت في واحدة من هذه الحالات فيكون الميت مات في حال الاسلام.
  قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) ، ذكر سبحانه فيما مر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 369 _
  من قوله : ( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ ) الآية أن التمسك بآيات الله وبرسوله ( الكتاب والسنة ) اعتصام بالله مأمون معه المتمسك المعتصم ، مضمون له الهدى ، والتمسك بذيل الرسول تمسك بذيل الكتاب فإن الكتاب هو الذي يأمر بذلك في مثل قوله : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر ـ 7.
  وقد بدل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله فأنتج ذلك أن حبل الله هو الكتاب المنزل من عند الله ، وهو الذي يصل ما بين العبد والرب ويربط السماء بالأرض ، وإن شئت قلت : إن حبل الله هو القرآن والنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقد عرفت أن مآل الجميع واحد.
  والقرآن وإن لم يدع إلا إلى حق التقوى والاسلام الثابت لكن غرض هذه الآية غير غرض الآية السابقة الآمرة بحق التقوى والموت على الاسلام فإن الآية السابقة تتعرض لحكم الفرد ، وهذه الآية تتعرض لحكم الجماعة المجتمعة والدليل عليه قوله : ( جَمِيعاً ) وقوله : ( وَلَا تَتَفَرَّقُوا ) فالآيات تأمر المجتمع الاسلامي بالاعتصام بالكتاب والسنة كما تأمر الفرد بذلك .
  قوله تعالى : ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) جملة إذ كنتم ، بيان لما ذكر من ، النعمة وعليه يعطف قوله : ( وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ).
  والأمر بذكر هذه النعمة مبني على ما عليه دأب القرآن أن يضع تعليمه على بيان العلل والأسباب ، ويدعو إلى الخير والهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامي المعمى ، وحاشا التعليم الإلهي أن يهدي الناس إلى السعادة وهي العلم النافع والعمل الصالح ثم يأمر بالوقوع في تيه التقليد وظلمة الجهل.
  لكن يجب أن لا يشتبه الأمر ولا يختلط الحال على المتدبر الباحث ، فالله سبحانه يعلم الناس حقيقة سعادتهم ، ويعلم الوجه فيها ليتبصروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض ، وأن الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنه الله رب العالمين
  ( 3 ـ المزان ـ 24)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 370 _
  واعتصامهم بحبله لأنه حبل الله رب العالمين كما يومي إليه ما في آخر الآيات من قوله : تلك آيات الله نتلوها عليك ، الآيتان.
  وبالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولاً ، ولا يطيعوا أمراً إلا عن علم بوجهه ، ثم أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه وبين وجهه أنه هو الله الذي يملكهم على الإطلاق فليس لهم إلا ما أراده فيهم وتصرف فيه منهم ، وأمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلغه رسوله وبين وجهه بأنه رسول لا شأن له إلا البلاغ ، ثم يكلمهم بحقائق المعارف ، وبيان طرق السعادة ، وبيّن الوجه العام في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف ، وطرق السعادة فيتحققوا أصل التوحيد ، وليتأدبوا بهذا الأدب الإلهي فيتسلطوا على سبيل التفكر الصحيح ، ويعرفوا طريق التكلم الحق فيكونوا أحياء بالعلم أحراراً من التقليد ، ونتيجة ذلك أنهم لو عرفوا وجه الأمر في شيء من المعارف الثابتة الدينية أو ما يلحق بها أخذوا به ، ولو لم يعرفوا وقفوا عن الرد ورجعوا نيله بالبحث والتدبر من غير رد أو اعتراض بعد ثبوته .
  وهذا غير أن يقال إن الدين موضوع على أن لا يقبل شيء حتى من الله ورسوله إلا عن دليل فإن ذلك من أسفه الرأي وأردأ القول ، ومرجعه إلى أن الله يريد من عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإن ربوبيته وملكه أصل كل دليل على وجوب التسليم ونفوذ الحكم.
  ورسالة رسوله هو الدليل على أن ما يؤديه عن الله سبحانه فافهم ذلك ، أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيته فيما يتصرف فيه بربوبيته وليس إلا التناقض ، والحاصل أن المسلك الاسلامي والطريق النبوي ليس إلا الدعوة إلى العلم دون التقليد على ما يزعمه هؤلاء المقلدة المتسمون بالناقدين .
  ولعل الوجه في ذكر أن هذا المذكور نعمة ( نعمة الله عليكم ) هو الاشارة إلى ما ذكرناه أي إن الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتحاد والاجتماع هو ما شاهدتموه من مرارة العداوة وحلاوة المحبة والالفة والاخوة والإشراف على حفرة النار والتخلص منها ، وإنما نذكركم بهذا الدليل لا لأن علينا أن نؤيد قولنا بما لولاه لم يكن حقاً فإنما قولنا حق سواء دللنا عليه أو لا ، بل لأن تعلموا أن ذلك نعمة منا عليكم فتعرفوا أن في هذا الاجتماع كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم وراحتكم ومفازتكم .
  وما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما وهو قوله إذ كنتم أعداء مبتن على أصل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 371 _
  التجربة ، والثاني وهو قوله : وكنتم على شفا حفرة ، على طريقة البيان العقلي كما هو ظاهر .
  وفي قوله : فأصبحتم بنعمته إخواناً تكرار للامتنان الذي يدل عليه قوله : ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ) ، والمراد بالنعمة هو التأليف ، فالمراد بالاخوّة التي توجده وتحققه هذه النعمة أيضاً تألف القلوب فالاخوة هاهنا حقيقة ادعائية.
  ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الآية ـ الحجرات ـ 10 ، من تشريع الاخوة بينهم فإن بين المؤمنين أُخوّة مشرعة تتعلق بها حقوق هامة.
  قوله تعالى : ( وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) ، شفا الحفرة طرفها الذي يشرف على السقوط فيها من كان به .
  والمراد من النار إن كان نار الآخرة ، فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنهم كانوا كافرين ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلا الموت الذي هو أقرب إلى الإنسان من سواد العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالإيمان .
  وإن كان المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الذي كانوا فيه قبل إيمانهم وتألف قلوبهم ، وكان المراد بالنار هي الحروب والمنازعات ـ وهو من الاستعمالات الشائعة بطريق الاستعارة ـ فالمقصود أن المجتمع الذي بني على تشتت القلوب واختلاف المقاصد والأهواء ، ولا محالة لا يسير مثل هذا المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة بل بأدلة شتى تختلف باختلاف الميول الشخصية والتحكمات الفردية اللاغية التي تهديهم إلى أشد الخلاف والاختلاف ـ يشرفهم إلى أردأ التنازع ـ ويهددهم دائماً بالقتال والنزال ، ويعدهم الفناء والزوال ، وهي النار التي لا تبقى ولا تذر على حفرة الجهالة التي لا منجا ولا مخلص للساقط فيها .
  فهؤلاء وهم طائفة من المسلمين كانوا آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم ، وهم المخاطبون الأقربون بهذه الآيات لم يكونوا يعيشون مدى حيوتهم قبل الاسلام إلا في حال تهددهم الحروب والمقاتلات آناً بعد آن ، فلا أمن ولا راحة ولا فراغ ، ولم يكونوا يفقهون ما حقيقة الأمن العام الذي يعم المجتمع بجميع جهاتها من جاه ومال وعرض ونفس وغير ذلك.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 372 _
  ثم لما اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله ، ولاحت لهم آيات السعادة ، وذاقوا شيئاً من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكّرهم به الله من هنيء النعمة ولذيذ السعادة فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم.
  ولذلك بني الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرد التقدير والفرض فليس العيان كالبيان ، ولا التجارب كالفرض والتقدير ، ولذلك بعينه أشار في التحذير الآتي في قوله : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ ) ( إلخ) إلى حال من قبلهم فإن مآل حالهم بمرأى ومسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل إليه أمرهم فلا يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم .
  ثم نبههم الله على خصوصية هذا البيان فقال : كذلك : ( يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ).
  قوله تعالى : ( ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ( الخ) التجربة القطعية تدل على أن المعلومات التي يهيئها الإنسان لنفسه في حياته ـ ولا يهيء ولا يدخر لنفسه إلا ما ينتفع به ـ من أي طريق هيأها وبأي وجه ادخرها تزول عنه إذا لم يذكرها ولم يدم على تكرارها بالعمل ، ولا نشك أن العمل في جميع شؤونه يدور مدار العلم يقوي بقوته ، ويضعف بضعفه ويصلح بصلاحه ، ويفسد بفساده ، وقد مثل الله سبحانه حالهما في قوله : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا ) الآية الأعراف ـ 58.
  ولا نشك أن العلم والعمل متعاكسان في التأثير فالعلم أقوى داع إلى العمل والعمل الواقع المشهود أقوى معلم يعلم الإنسان.
  وهذا الذي ذكر هو الذي يدعو المجتمع الصالح الذي عندهم العلم النافع والعمل الصالح أن يتحفظوا على معرفتهم وثقافتهم ، وأن يردوا المتخلف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه ، وأن لا يدعوا المائل عن طريق الخير المعروف وهو الواقع في مهبط الشر المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشر وينهوه عنه.
  وهذه هي الدعوة بالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي التي يذكرها الله في هذه الآية بقوله : ( يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ).

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 373 _
  ومن هنا يظهر السر في تعبيره تعالى عن الخير والشر بالمعروف والمنكر فإن الكلام مبني على ما في الآية السابقة من قوله : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) ( إلخ)، ومن المعلوم أن المجتمع الذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير ، والمنكر فيه هو الشر ، ولو لا العبرة بهذه النكتة لكان الوجه في تسمية الخير والشر بالمعروف والمنكر كون الخير والشر معروفاً ومنكراً بحسب نظر الدين لا بحسب العمل الخارجي.
  وأما قوله : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ ) فقد قيل : إن ( من ) للتبعيض بناء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذا الدعوة من الواجبات الكفائية.
  وربما قيل : إن ( من ) بيانية والمراد منه ولتكونوا بهذا الاجتماع الصالح امة يدعون إلى الخير فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا ليكن لي منك صديق أي كن صديقاً لي. والظاهر أن المراد بكون ( من ) بيانية كونها نشوئية ابتدائية.
  والذي ينبغي أن يقال : أن البحث في كون من تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى ثمرة محصلة فإن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائية إذ لا معنى للدعوة والأمر والنهي المذكورات بعد حصول الغرض فلو فرضت الامة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف فالأمر قائم بالبعض على أي حال ، والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك ، وإن كان للكل كان أيضاً باعتبار البعض ، وبعبارة اخرى المسؤول بها الكل والمثاب بها البعض ، ولذلك عقبه بقوله : وأولئك هم المفلحون فالظاهر أن من تبعيضية ، وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إلى غيره إلا بدليل .
  واعلم أن هذه الموضوعات الثلاثة أعني الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذوات أبحاث تفسيرية طويلة عميقة سنتعرض لها في موضع آخر يناسبها إنشاء الله تعالى ، وكذا ما يتعلق بها من الأبحاث العلمية والنفسية والاجتماعية.
  قوله تعالى : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ، لا يبعد أن يكون قوله : من بعد ما جائهم البينات متعلقاً بقوله : واختلفوا فقط وحينئذ كان المراد بالاختلاف التفرق من حيث الاعتقاد ، بالتفرق الاختلاف والتشتت

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 374 _
  من حيث الأبدان وقدم التفرق على الاختلاف لأنه كالمقدمة المؤدية إليه لأن القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتصلت عقائد بعضهم ببعض واتحدت بالتماس والتفاعل ، وحفظهم ذلك من الاختلاف فإذا تفرقوا وانقطع بعضهم عن بعض أداهم ذلك إلى اختلاف المشارب والمسالك ، ولم يلبثوا دون أن يستقل أفكارهم وآرائهم بعضها عن بعض ، وبرز فيهم الفرقة ، وانشق عصا الوحدة فكأنه تعالى يقول : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا بالأبدان ) أولاً ، وخرجوا من الجماعة ، وأفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد و الآراء أخيراً.
  وقد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي. قال تعالى : ( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) البقرة ـ 213 ، مع أن ظهور الاختلاف في العقائد والآراء ضروري بين الأفراد لاختلاف الأفهام لكن كما أن ظهور هذا الاختلاف ضروري كذلك دفع الاجتماع لذلك ، ورده المختلفين إلى ساحة الاتحاد أيضاً ضروري فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة ، وإعراض الامة عن ذلك بغي منهم ، وإلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف.
  وقد أكد القرآن الدعوة إلى الاتحاد ، وبالغ في النهي عن الاختلاف ، وليس ذلك إلا لما كان يتفرس من أمر هذه الأمة ، أنهم سيختلفون كالذين من قبلهم بل يزيدون عليهم في ذلك ، وقد تقدم مراراً أن من دأب القرآن أنه إذا بالغ في التحذير عن شيء والنهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه وارتكابه ، وهذا أمر أخبر به النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أيضاً كما أخبر به القرآن وأن الاختلاف سيدب في أمته ثم يظهر في صورة الفرق المتنوعة ، وأن امته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل وسيجيء الرواية في البحث الروائي.
  وقد صدق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنية فلم تلبث الامة بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) دون أن تفرقوا شذر مدر ، واختلفوا في مذاهب شتى بعضهم يكفر بعضاً من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا ، وكلما رام أحد أن يوفق بين مختلفين منها أولد ذلك مذهباً ثالثاً .
  والذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية أن أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم فإنك لو

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 375 _
  تدبرت ما يذكره الله تعالى في حقهم في سور البقرة والتوبة والأحزاب والمنافقين وغيرها لرأيت عجباً ، وكان هذا حالهم في عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولما ينقطع الوحي ثم لما توفاه الله غاب ذكرهم وسكنت أجراسهم دفعة.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا      أنـيس ولـم يـسمر بـمكة سامر
  ولم يلبث الناس دؤن أن وجدوا أنفسهم وقد تفرقوا أيادي سبا ، وباعدت بينهم شتى المذاهب ، واستعبدتهم حكومات التحكم والاستبداد ، وأبدلوا سعادة الحيوة بشقاء الضلال والغي، والله المستعان ، والمرجو من فضل الله أن يوفقنا لاستيفاء هذا البحث في تفسير سورة البرائة إنشاء الله.
  قوله تعالى : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) إلى آخر الآيتين ، لما كان المقام مقام الكفر بالنعمة وهو نظير الخيانة مما يوجب خسة الانفعال والخجل ذكر سبحانه من بين أنواع عذاب الآخرة ما يناسبها بحسب التمثيل وهو سواد الوجه الذي يكنى به في الدنيا عن الانفعال والخجل ونحوهما كما يشعر أو يدل على ذلك قوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ).
  وكذا ذكر من ثواب الشاكرين لهذه النعمة ما يناسب الشكر وهو بياض الوجه المكنى به في الدنيا عن الارتضاء والرضا.
  قوله تعالى : ( تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ) ، الظرف متعلق بقوله : نتلوها ، والمراد كون التلاوة تلاوة حق من غير أن يكون باطلاً شيطانياً ، أو متعلق بالآيات باستشمام معنى الوصف فيه أو مستقر متعلق بمقدر ، والمعنى أن هذه الآيات الكاشفة عن ما يصنع الله بالطائفتين : الكافرين والشاكرين مصاحبة للحق من غير أن تجري على نحو الباطل والظلم ، وهذا الوجه أوفق لما يتعقبه من قوله : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا ).
  قوله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ) ، تنكير الظلم وهو في سياق النفي يفيد الاستغراق وظاهر قوله للعالمين وهو جمع محلى باللام أن يفيد الاستغراق ، والمعنى على هذا أن الله لا يريد ظلماً أي ظلم فرض لجميع العالمين ، وكافة الجماعات ، وهو كذلك فإنما التفرق بين الناس أمر يعود أثره المشؤوم إلى جميع العالمين وكافة الناس.
  قوله تعالى : ( وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ، لما ذكر أن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 376 _
  الله لا يريد الظلم علل ذلك بما يزول معه توهم صدور الظلم فذكر أن الله تعالى يملك جميع الأشياء من جميع الجهات فله أن يتصرف فيها كيف يشاء فلا يتصور في حقه التصرف فيما لا يملكه حتى يكون ظلماً وتعدياً.
  على أن الشخص إنما ينحو الظلم إذا كان له حاجة لا يتمكن من رفعها إلا بالتعدي على ما لا يملكه : ( والله الغني الذي له ما في السموات والأرض ) هذا ما قرره بعضهم لكنه لا يلائم ظاهر الآية فإن هذا الجواب يبتني بالحقيقة على غناه تعالى دون ملكه ، والمذكور في الآية هو الملك دون الغنى ، وكيف كان فملكه دليل أنه تعالى ليس بظالم .
  وهناك دليل آخر وهو أن مرجع جميع الامور أياً ما كانت إليه تعالى فليس لغيره تعالى من الأمر شيء حتى يسلبه الله عنه وينتزعه من يده ويجري فيه إرادة نفسه فيكون بذلك ظالماً وهذا هو الذي يشير إليه قوله : ( وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ).
  والوجهان كما ترى متلازمان أحدهما مبني على أن كل شيء له تعالى والثاني مبني على أن شيئاً من الامور ليس لغيره تعالى .
  قوله تعالى : كنتم خير أُمة أُخرجت للناس ، المراد بإخراج الامة للناس ( والله أعلم ) إظهارها لهم ، ومزية هذه اللفظة ( الاخراج ) أن فيها إشعاراً بالحدوث والتكون قال تعالى : ( الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ) الاعلى ـ 4 ، والخطاب للمؤمنين فيكون قرينة على أن المراد بالناس عامة البشر والفعل أعني قوله : كنتم منسلخ عن الزمان ـ على ما قيل ـ والامة إنما تطلق على الجماعة والفرد لكونهم ذوي هدف ومقصد يؤمرونه ويقصدونه وذكر الإيمان بالله بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل ذكر الكل بعد الجزء أو الأصل بعد الفرع.
  فمعنى الآية أنكم معاشر المسلمين خير امة أظهرها الله للناس بهدايتها لأنكم على الجماعة تؤمنون بالله وتأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن المعلوم أن انبساط هذا التشريف على جميع الامة لكون البعض متصفين بحقيقة الإيمان والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا محصل ما ذكروه في المقام.
  والظاهر ( والله أعلم ) أن قوله كنتم غير منسلخ عن الزمان ، والآية تمدح حال

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 377 _
  المؤمنين في أول ظهور الإسلام من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والمراد الإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق فيه في مقابل الكفر به على ما يدل عليه قوله قبل : ( أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) الآية ، وكذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضاً فيؤول المعنى إلى أنكم معاشر امة الإسلام كنتم في أول ما تكوّنتم وظهرتم للناس خير امة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتعتصمون بحبل الله متفقين متحدين كنفس واحدة ، ولو كان أهل الكتاب على هذا الوصف أيضاً لكان خيراً لهم لكنهم اختلفوا منهم امة مؤمنون وأكثرهم فاسقون .
  وأعلم أن في الآيات موارد من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ومن خطاب الجمع إلى خطاب المفرد وبالعكس ، وفيها موارد من وضع الظاهر موضع الضمير كتكرر لفظ الجلالة في عدة مواضع ، والنكتة في الجميع ظاهرة للمتأمل .
  ( بحث روائي )
  في المعاني وتفسير العياشي عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السّلام ) عن قول الله عز وجل : اتقوا الله حق تقاته قال : يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر .
  وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : اتقوا الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى .
  وفيه أخرج الخطيب عن انس قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه .
  أقول : قد مر في البيان المتقدم كيفية استفادة معنى الحديثين الأولين من الآية وأما الحديث الثالث فإنما هو تفسير بلازم المعنى ، وهو ظاهر .
  وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع عن عبد خير قال : سألت علي بن أبي طالب عن قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) قال : والله ما عمل بها غير بيت رسول الله نحن ذكرناه فلا ننساه ، ونحن شكرناه فلن نكفره ، ونحن أطعناه فلم نعصه ، فلما نزلت هذه الآية قال الصحابة لا نطيق ذلك فأنزل الله :
  ( 3 ـ الميزان ـ 25 )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 378 _
  ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) قال وكيع : ما أطقتم الحديث.
  وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السّلام ) عن قول الله : ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) ، قال : منسوخة ، قلت : وما نسختها ؟ قال : قول الله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ).
  أقول : ويستفاد من رواية وكيع أن المراد بالنسخ في رواية العياشي بيان مراتب التقوى ، وأما النسخ بمعناه المصطلح كما نقل عن بعض المفسرين فهو معنى يرده ظاهر الكتاب.
  وفي المجمع عن الصادق ( عليه السّلام ) في الآية : وأنتم مسلمون بالتشديد .
  وفي الدر المنثور في قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا ) الآية أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.
  وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تزالوا ولن تضلوا بعده أبداً.
  وفي المعاني عن السجاد ( عليه السّلام ) في حديث : وحبل الله هو القرآن.
  أقول : وفي هذا المعنى روايات اخرى من طرق الفريقين.
  وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السّلام ) : آل محمد هم حبل الله الذي أمر بالاعتصام به فقال : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ).
  أقول : وفي هذا المعنى روايات اخر ، وقد تقدم في البيان ما يتأيد به معناها ، ويؤيدها أيضاً ما يأتي من الروايات.
  وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إني لكم فرط ، وإنكم واردون علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين ؟ قيل : وما الثقلان يا رسول الله ؟ قال : الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به لن تزالوا ولن تضلوا ، والأصغر عترتي ، وإنهما لن يفترقا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 379 _
  حتى يردا عليّ الحوض، وسألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم .
  أقول : وحديث الثقلين من المتواترات التي أجمع على روايتها الفريقان ، وقد تقدم في أول السورة أن بعض علماء الحديث أنهى رواته من الصحابة إلى خمس وثلثين راوياً من الرجال والنساء ، وقد رواه عنهم جم غفير من الرواة وأهل الحديث.
  وفي الدر المنثور أيضاً أخرج ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ، انس قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة ، وإن أُمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة ، قالوا : يا رسول الله ومن هذه الواحدة ؟ قال : الجماعة ، ثم قال : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا ).
  أقول : والرواية أيضاً من المشهورات ، وقد روتها الشيعة بنحو آخر كما في الخصال والمعاني والاحتجاج والأمالي وكتاب سليم بن قيس وتفسير العياشي واللفظ لما في الخصال بإسناده إلى سليمان بن مهران عن جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) قال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : إن امة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة فرقة منها ناجية وسبعون في النار ، وافترقت امة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية ، وإحدى وسبعون في النار ، وإن امتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية ، واثنتان وسبعون في النار.
  أقول : وهي الموافقة لما يأتي .
  وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( عليه السّلام ) : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة .
  أقول : وهذا المعنى مروي بطرق اخرى عن معاوية وغيره.
  فيه أخرج الحاكم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : يأتي على امتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح امه علانية كان في امتي مثله إن بني إسرائيل افترقوا على بإحدى وسبعين ملة ، وتفترق امتي على

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 380 _
  ثلاث وسبعين ملة ، كلها في النار إلا ملة واحدة ، فقيل له : ما الواحدة ؟ قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي.
  أقول : وعن جامع الاصول لابن الأثير عن الترمذي عن ابن عمرو بن العاص عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مثله .
  وفي كمال الدين بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : كل ما كان في الامم السالفة فإنه يكون في هذه الامة مثله حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة .
  وفي تفسير القمي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة ، لا تخطؤون طريقهم ولا يخطى ، شبر بشبر ، وذراع بذراع ، وباع بباع ، حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنصارى تعني يا رسول الله ؟ قال : فمن أعني ؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة ، وآخره الصلوة.
  وعن جامع الاصول فيما استخرجه من الصحاح ، وعن صحيح الترمذي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنه قال : والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم ( وزاد رزين ) حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى إن كان فيهم من أتى امه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا ؟
  أقول : وهذه الرواية أيضاً من المشهورات ، رواها أهل السنة في صحاحهم وغيرها ، وروتها الشيعة في جوامعهم.
  وفي الصحيحين عن أنس أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا اختلجوا دوني ، فلأقولن : أي رب أصحابي فليقالن : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك .
  وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ـ أو قال من امتي ـ فيحلؤون عن الحوض فأقول : يا رب أصحابي فيقول : لا علم لك بما أحدثوا بعدك ارتدوا على أعقابهم القهقرى فيحلؤون .
  أقول : وهذا الحديث أيضاً من المشهورات ، رواها الفريقان في صحاحهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 381 _
  وجوامعهم عن عدة من الصحابة كابن مسعود وأنس وسهل بن ساعد وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعائشة وام سلمة وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم وعن بعض أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ).
  والروايات على كثرتها وتفننها تصدق ما استفدناه من ظاهر الآيات الكريمة ، وتوالي الحوادث والفتن يصدق الروايات.
  وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه ، ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته ميتة جاهلية .
  أقول : والرواية أيضاً من المشهورات مضموناً ، وقد روى الفريقان عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنه قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية .
  وعن جامع الاصول من الترمذي وسنن أبي داود عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : لا تزال طائفة من امتي على الحق.
  وفي المجمع : في قوله تعالى : ( أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ الآية ) عن أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) : هم أهل البدع والأهواء والآراء الباطلة من هذه الامة.
  وفيه وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : كنتم خير امة اخرجت للناس الآية عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق ( عليه السّلام ) قال : يعني الامة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ، وهم الامة التي بعث الله فيها ومنها واليها ، وهم الامة الوسطى ، وهم خير امة أُخرجت للناس .
  أقول : وقد مر الكلام في توضيح معنى الرواية في تفسير قوله تعالى : ( وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) البقرة ـ 128.
  وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر كنتم خير امة اخرجت للناس قال : أهل بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
  وفيه أخرج أحمد بسند حسن عن علي ، قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : اعطيت ما لم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 382 _
  يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، واعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت امتي خير الامم.
  ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 383 _
   صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )
  ( بيان )
  الآيات الكريمة ـ كما ترى ـ تنعطف إلى ما كان الكلام فيه قبل من التعرض لحال أهل الكتاب وخاصة اليهود في كفرهم بآيات الله وإغوائهم أنفسهم ، وصدهم المؤمنين عن سبيل الله ، وإنما كانت الآيات العشر المتقدمة من قبيل الكلام في طي الكلام ، فاتصال الآيات على حاله .
  قوله تعالى : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ) ( إلخ) الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر : إما في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيوياً كان أو أخروياً على ما ذكره الراغب مفردات القرآن.
  قوله تعالى : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ) ، الذلة بناء نوع من الذل ، والذل بالضم ما كان عن قهر ، وبالكسر ما كان عن تصعب وشماس على ما ذكره الراغب ، ومعناه العام حال الانكسار والمطاوعة ، ويقابله العز وهو الامتناع.
  وقوله : ثقفوا أي وجدوا ، والحبل السبب الذي يوجب التمسك به العصمة ، وقد استعير لكل ما يوجب نوعاً من الأمن والعصمة والوقاية كالعهد والذمة والأمان ، والمراد ( والله أعلم ) : أن الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفاز أو كضرب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 384 _
  الخيمة على الإنسان فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل وسبب من الله ، وحبل وسبب من الناس.
  وقد كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالاضافة فانه من الله القضاء والحكم تكويناً أو تشريعاً ، ومن الناس البناء والعمل.
  والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم ، والدليل على ذلك قوله : أينما ثقفوا فإن ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم ، وهو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية.
  فيؤول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي إلا أن يدخلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء.
  وظاهر بعض المفسرين أن قوله : ضربت عليهم الذلة ، ليس في مقام تشريع الحكم بل إخبار عن ما جرى عليه أمرهم بقضاء من الله وقدر فإن الإسلام أدرك اليهود وهم يؤدون الجزية إلى المجوس ، وبعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى.
  وهذا المعنى لا بأس به وربما أيده ذيل الكلام إلى آخر الآية فإنه ظاهر في أن السبب في ضرب الذلة والمسكنة عليهم ما كسبته أيديهم من الكفر بآيات الله ، وقتل الأنبياء ، والاعتداء المستمر إلا أن لازم هذا المعنى اختصاص الكلام في الآية باليهود ولا مخصص ظاهراً وسيجيء في ذلك كلام في تفسير قوله تعالى : ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء ) المائدة ـ 64.
  قوله تعالى : ( وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ) ، بائوا أي اتخذوا مبائة ومكاناً ، أو رجعوا ، والمسكنة أشد الفقر ، والظاهر أن المسكنة أن لا يجد الإنسان سبيلاً إلى النجاة والخلاص عما يهدده من فقر أو أي عدم ، وعلى هذا فيتلائم معنى الآية صدراً وذيلاً.
  قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) ، والمعنى أنهم عصوا وكانوا قبل ذلك يستمرون على الاعتداء.
  قوله تعالى : ( لَيْسُواْ سَوَاء ) ـ إلى قوله ـ بالمتقين ، السواء مصدر اريد به معنى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 385 _
  الوصف أي ليسوا مستوين في الوصف والحكم فإن منهم امة قائمة يتلون آيات الله ( الخ) ومن هنا يظهر أن قوله : من أهل الكتاب ( الخ) في مقام التعليل يبين به وجه عدم استواء أهل الكتاب.
  وقد اختلف في قوله قائمة فقيل أي ثابتة على أمر الله ، وقيل : أي عادلة ، وقيل : أي ذو امة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة ، والحق أن اللفظ مطلق يحتمل الجميع غير أن ذكر الكتاب وذكر أعمالهم الصالحة يعين أن المراد هو القيام على الإيمان والطاعة.
  والآناء جمع إني بكسر الهمزة أو فتحها ، وقيل : إنو وهو الوقت.
  والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة من السرعة قال في المجمع ، والفرق بين السرعة والعجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه ، وهي محمودة ، وضدها الإبطاء ، وهو مذموم ، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة ، وضدها الأناة وهي محمودة ، انتهى ، والظاهر أن السرعة في الأصل وصف للحركة ، والعجلة وصف للمتحرك .
  والخيرات مطلق الأعمال الصالحة من عبادة أو إنفاق أو عدل أو قضاء حاجة وهو جمع محلى باللام ، ومعناه الاستغراق ، ويكثر إطلاقه على الخيرات المالية كما أن الخير يكثر إطلاقه على المال.
  وقد عد الله سبحانه لهم جمل مهمات الصالحات ، وهي الإيمان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمسارعة في كل خير ، ثم وصفهم بأنهم صالحون فهم أهل الصراط المستقيم وزملاء النبيين والصديقين والشهداء لقوله تعالى : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) الحمد ـ 7 ، وقوله تعالى : ( فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ) الآية النساء ـ 69 ، قيل : المراد بهؤلاء الممدوحين عبد الله بن سلام وأصحابه.
  قوله تعالى : ( وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ ) ، من الكفران مقابل الشكر أي يشكر الله لهم فيرده إليهم من غير ضيعة كما قال تعالى : ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 386 _
  شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) البقرة ـ 158 ، وقال : ( وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ـ إلى أن قال ـ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) البقرة ـ 272.
  قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ ) ، ظاهر وحدة السياق أن المراد بهؤلاء ، الذين كفروا هم الطائفة الاخرى من أهل الكتاب الذين لم يستجيبوا دعوة النبوة ، وكانوا يوطؤون على الإسلام ، ولا يألون جهداً في إطفاء نوره .
  وربما قيل : إن الآية ناظرة إلى حال المشركين فتكون التوطئة لما سيشير إليه من قصة أُحد لكن لا يلائمه ما سيأتي من قوله : وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا ( الخ) فإن ذلك بيان لحال اليهود مع المسلمين دون حال المشركين ، ومن هناك يظهر أن اتصال السياق لم ينقطع بعد .
  وربما جمع بعض المفسرين بين حمل هذه الآية على المشركين وحمل تلك على اليهود وهو خطأ .
  قوله تعالى : ( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الآية الصر البرد الشديد ، وإنما قيد الممثل بقوله : في هذه الحيوة الدنيا ليدل على أنهم منقطعون عن الدار الآخرة فلا يتعلق إنفاقهم إلا بهذه الحيوة ، وقيد حرث القوم بقوله : ظلموا أنفسهم ليحسن ارتباطه بقوله بعده وما ظلمهم الله.
  ومحصل الكلام أن إنفاقهم في هذه الحيوة وهم يريدون به إصلاح شأنهم ونيل مقاصدهم الفاسدة لا يثمر لهم إلا الشقاء ، وفساد ما يريدونه ويحسبونه سعادة لأ نفسهم كالريح التي فيها صر تهلك حرث الظالمين ، وليس ذلك إلا ظلماً منهم لأنفسهم فإن العمل الفاسد لا يأتي إلا بالأثر الفاسد.
  قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ) الآية سميت الوليجة بطانة وهي ما يلي البدن من الثوب وهي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الإنسان وما يضمره ويستسره ، وقوله : لا يألونكم أي لا يقصرون فيكم ، وقوله : خبالاً أي شراً وفساداً ، ومنه الخبل للجنون لأنه فساد العقل ، وقوله : ودوا ما عنتّم ، ما مصدرية أي ودوا وأحبوا عنتكم وشدة ضرركم ، وقوله : قد بدت البغضاء من أفواههم أُريد به ظهور البغضاء والعداوة من لحن قولهم وفلتات لسانهم ففيه استعارة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 387 _
  لطيفة وكناية ، ولم يبين ما في صدورهم بل أبهم قوله : وما تخفي صدورهم أكبر للإيماء إلى أنه لا يوصف لتنوعه وعظمته وبه يتأكد قوله : أكبر.
  قوله تعالى : ( هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ ) الآية ، الظاهر أن اولاء اسم إشارة ولفظة ها للتنبيه ، وقد تخلل لفظة أنتم بين ها واولاء ، والمعنى أنتم هؤلاء على حد قولهم زيد هذا وهند هذه كذا وكذا.
  وقوله : وتؤمنون بالكتاب كله ، اللام للجنس أي وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية النازلة من عند الله : كتابهم ، وكتابكم وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وقوله ، وإذا لقوكم قالوا آمنا ، أي إنهم منافقون ، وقوله : وإذا خلوا عصوا عليكم الأنامل من الغيظ العض هو الأخذ بالأسنان مع ضغط ، والأنامل جمع أنملة وهي طرف الاصبع والغيظ هو الحنق وعض الانامل على شيء مثل يضرب للتحسر والتأسف غضباً وحنقاً .
  وقوله : قل موتوا بغيظكم دعاء عليهم في صورة الأمر وبذلك تتصل الجملة بقوله : إن الله عليم بذات الصدور أي اللهم امتهم بغيظهم إنك عليم بذات الصدور أي القلوب أي النفوس.
  قوله تعالى : ( إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ) ، المسائة خلاف السرور ، وفي الآية دلالة على أن الأمن من كيدهم مشروط بالصبر والتقوى.