الله سبحانه كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم ، قال تعالى : ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ) مريم ـ 7.
  وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشر به زكريا قبل تولد يحيى وخلقه يؤيد ما ذكرناه آنفاً : أن الذي طلبه زكريا من ربه أن يرزقه ولداً يكون شأنه شأن مريم ، وقد كانت مريم هي وابنها عيسى ( عليهما السلام ) آية واحدة كما قال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء ـ 91.
  فروعي في يحيى ما روعي فيهما من عند الله سبحانه ، وقد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم ، فالمرعي في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى ( عليهما السلام ) فيما يمكن ذلك ، ولعيسى في ذلك كله التقدم التام لأن وجوده كان مقدراً قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى ، ولذلك سبقه عيسى في كونه من اولي العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.
  وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم فقال في يحيى : ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ـ إلى أن قال ـ : يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) مريم ـ 15 ، وقال في عيسى ( عليه السّلام ) : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا إلى أن قال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا إلى أن قال ـ : قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ـ إلى أن قال ـ : فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) مريم ـ 33 ، ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التي نحن فيها عند التطبيق.
  و بالجملة فقد سماه الله سبحانه يحيى وسمى ابن مريم عيسى وهو بمعنى ( يعيش ) على ما قيل وجعله مصدقاً بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى : ( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ) وآتاه الحكم وعلمه الكتاب صبياً كما فعل بعيسى ، وعده حناناً من لدنه وزكاة وبراً بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك ، وسلم عليه في المواطن الثلاث

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 177 _
  كعيسى ، وعده سيداً كما جعل عيسى وجيها عنده ، وجعله حصوراً ونبياً ومن الصالحين مثل عيسى ، كل ذلك استجابة لمسئلة زكريا ودعوته حيث سأل ذرية طيبة وولياً رضياً عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مر بيانه .
  وفي قوله : مصدقاً بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم .
  والسيد هو الذي يتولى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حيوتهم ومعاشهم أو في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولي المذكور يستلزم شرفاً بالحكم أو المال أو فضيلة اخرى.
  والحصور هو الذي لا يأتي النساء ، والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهداً.
  قوله تعالى : ( قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ) ـ استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأن الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما منشأ للتعجب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال : ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ) مريم ـ 5.
  لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه ( عليه السّلام ) لما انقلب حالاً من مشاهدة أمر مريم وتذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلا وقد سأل ربه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثره وتحزنه وهو بلوغ الكبر ، وكون امرأته عاقراً ، فلما استجيبت دعوته وبشر بالولد كأنه صحا وأفاق مما كان عليه من الحال ، وأخذ يتعجب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر ، فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيره إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور .
  على أن ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفية رفع واحد واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الإفاضة والإنعام التذاذاً بالنعمة الفائضة بعد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 178 _
  النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية ، قال تعالى : ( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ) الحجر ـ 56 ، فذكر في جواب نهي الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضال والقنوط ضلالة ، بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالاً يؤذن بالقرب والانس والكرامة أوجب ذلك انبساطاً من العبد وابتهاجاً يستدعي تلذذه من كل حديث ، وتمتعه في كل باب .
  وفي قوله : وقد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معاً فإن ذلك ظاهر قوله : وكانت امرأتي عاقراً ، ولم يقل : وامرأتي عاقر.
  قوله تعالى : قال : ( كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ) ، فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحياً أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه فالقول على اي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنه بأمره ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصة : ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم ـ 9.
  ومنه يظهر اولا : أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولاً. وثانياً : أن قوله : كذلك ، خبر لمبتدء محذوف ، والتقدير ، الأمر كذلك أي الذي بشرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة ، وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى : ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ـ إلى أن قال : وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) مريم ـ 21 ، وثالثا أن قوله الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله : كذلك اه.
  قوله تعالى :( قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 179 _
  رَمْزًا ) إلى آخر الآية ، قال في المجمع : الرمز الايماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجب والعين واليد ، والأول أغلب ، انتهى ، والعشي الطرف المؤخر من النهار ، وكأنه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفاً للوقت لرواحه إلى الظلمة ، والإبكار صدر النهار والطرف المقدم منه ، و الأصل في معناه الاستعجال.
  ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولده : ( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ) مريم ـ 26.
  وسؤاله ( عليه السّلام ) من ربه أن يجعل له آية ـ والآية هي العلامة الدالة على الشيء هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه ، وبعبارة أُخرى هو خطاب رحماني ملكي لا شيطاني ؟ أو لأنه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته ، ويعلم وقت الحمل ، خلاف بين المفسرين.
  والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصة لكن الذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أن الخطاب رحماني هو ما ذكروه : أن الأنبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان ، ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الإفهام.
  وهو كلام حق لكن يجب أن يعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا من ربه أن يجعل له آية يعرف به ذلك ؟ وأي محذور في ذلك ؟ نعم لو لم يستجب دعائه ولم يجعل الله له آية كان الإشكال في محله .
  على أن خصوصية نفس الآية ـ وهي عدم التكليم ثلاثة أيام ـ تؤيد بل تدل على ذلك فإن الشيطان وإن أمكن أن يمس الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين كما يدل عليه قوله تعالى : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 180 _
  بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) ص ـ 41 ، وقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ) الآية الحج ـ 52 ، وقوله تعالى : ( فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ ) الكهف ـ 63.
  لكن هذه وأمثالها من مس الشيطان وتعرضه لا تنتج إلا إيذاء النبي وأما مسه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك ، وقد مر في ما تقدم من المباحث إثبات عصمتهم ( عليهم السلام ).
  والذي جعله الله تعالى آيه لزكريا على ما يدل عليه قوله : آيتك أن لا تكلم الناس ثلثه أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار هو أنه كان لا يقدر ثلثه أيام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلا بذكر الله وتسبيحه ، وهذه آية واقعة على نفس النبي ولسانه وتصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلا رحمانياً وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأول دون الوجه الثاني.
  فان قلت : لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك : ( يَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء ) الآية ، فإن ظاهره أنه خاطب ربه وسأله ما سأل ثم أُجيب بما أُجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكاً في أمر النداء ؟ ولو لم يكن شاكاً عندئذ فما معنى سؤال التمييز ؟.
  قلت : مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت نفسه على كون النداء رحمانياً من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب منه نفسه الشريفة كما مر فيجاب بنداء آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية توجب اليقين بأنه كان رحمانياً فيزيد بذلك وثوقاً وطمأنينة .
  مما يؤيد ذلك قوله تعالى : فنادته الملائكة ، فإن النداء إنما يكون من بعيد ولذلك كثر اطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد ، وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا : ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا ) مريم ـ 3 ، فقد أطلق عليه النداء بعنايه تذلل زكريا وتواضعه قبال تعزز الله سبحانه وترفعه وتعاليه ، ثم وصف النداء بالخفاء ، فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه ، وإنما سمع صوتاً يهتف به هاتف .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 181 _
  وقد ذكر بعض المفسرين : أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلثة أيام ، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه ، قال : الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه ويبشر أهله فسأل عن الكيفية ، ولما أُجيب بما اجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره ، ويكون اتمامه إياها آية وعلامة على حصول المقصود ، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلثه أيام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مسائاً صباحاً مده ثلثه أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيمائاً ، على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال ، انتهى.
  وأنت خبير بأنه ليس لما ذكره ( من مسألته عبادة تكون شكراً للمنحة ، وانتهائها إلى حصول المقصود ، وكون انتهائها هو الآية وكون قوله : أن لا تكلم مسوقاً للنهي التشريعي وكذا إرادته بشارة أهله ) في الآية عين ولا أثر.

( كلام في الخواطر الملكية والشيطانية وما يلحق بها من التكليم )
  قد مر كراراً أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها وأن القول أو الكلام مثلاً إنما يسمى به الصوت لافادته معنى مقصودا يصح السكوت عليه ، فما يفاد به ذلك ، كلام وقول سواء كان مفيده صوتاً واحداً أو أصواتاً متعددة مؤلفة أو غير صوت كالايماء والرمز ، والناس لا يتوقفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامة كلاماً وإن لم يخرج عن شق فم ، وكذلك في تسمية الإيماء قولاً وكلاماً وإن لم يشتمل على صوت .
  والقرآن أيضاً يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاماً له وقولاً منه ، قال تعالى حكاية عن الشيطان : ( وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ ) النساء ـ 119 ، وقال : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُر ) الحشر ـ 16 ، وقال : ( يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس ـ 5 ، وقال : ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ ) الأنعام ـ 112 ، وقال أيضاً حكاية عن إبليس : ( إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ ) إبراهيم ـ 22 ، وقال : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 182 _
  وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) البقرة ـ 269 ، ومن الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب ، نسبت إلى الشيطان ، وسميت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد ، وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شق فم ولا تحريك لسان.
  ومن هنا يعلم : أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان ، وقد سماه تعالى الحكمة ، ومثلها قوله تعالى : ( وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد ـ 28 ، وقوله : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الفتح ـ 4 ، وقد مر بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى : ( فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) البقرة ـ 248 ، وكذا قوله : ( فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) الأنعام ـ 125 ، وقد سمى الوسوسة رجزاً فقال : ( رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) الأنفال ـ 11 ، فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين والملائكة يكلمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه .
  وهنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) الآية الشورى ـ 51 ، فسماه تكليماً وقسمه إلى الوحي ، وهو الذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلم ، وإلى التكليم من وراء حجاب هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين .
  أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان وبين ربه ، ومن المحال أن يقع هناك لبس ، وهو ظاهر ، وأما غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.
  وأما الكلام الملكي والشيطاني فالآيات المذكورة آنفاً تكفي في التمييز بينها فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر ، ويدعو إلى المغفرة والفضل وينتهي بالاخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه وسنة نبيه ، والخاطر الشيطاني يلازم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 183 _
  تضيق الصدر ، وشح النفس ويدعو إلى متابعة الهوى ، ويعد الفقر ، ويأمر بالفحشاء ، وبالاخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنة ، ويخالف الفطرة.
  ثم إن الأنبياء ومن يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز وأما مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين وينتهي بالاخرة إلى تمييز الوحي ، وهو ظاهر .
  ( بحث روائي )
  في تفسير القمي في قوله تعالى : ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ ) الآية عن الصادق ( عليه السّلام ) قال إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكراً سوياً مباركاً : ( وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي ام مريم فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلاماً فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها انثى ، وليس الذكر كالانثى لا تكون البنت رسولا ، يقول الله والله أعلم بما وضعت فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه فإذا قلنا في الرجل منا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.
  أقول : وروى قريباً منه في الكافي عنه ( عليه السّلام ) وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السّلام ).
  وفي تفسير العياشي في الآية عن الصادق ( عليه السّلام ) : أن المحرر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى إن الانثى تحيض فتخرج من المسجد ، والمحرر لا يخرج من المسجد.
  وفيه عن أحدهما : نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد ، وليس الذكر كالانثى في الخدمة قال فشبت وكانت تخدمهم وتناولهم حتى بلغت فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد.
  أقول : والروايات كما ترى تنطبق على ما قدمناه في البيان السابق إلا أن ظاهرها : أن قوله وليس الذكر كالانثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى ، ويبقى عليه وجه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 184 _
  تقديم الذكر على الانثى في الجملة ، مع أن مقتضى القواعد العربية خلافه ، وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم ، وقد مر أنه في معنى التحرير إلا أن يفرق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمل .
  وفي الرواية الاولى دلالة على كون عمران نبياً يوحي إليه ، ويدل عليه ما في البحار عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر ( عليهما السلام ) عن عمران أكان نبياً ؟ فقال نعم كان نبياً مرسلاً إلى قومه ، الحديث.
  وتدل الرواية أيضاً على كون اسم امرأة عمران : حنة ، وهو المشهور ، وفي بعض الروايات : مرثار ، ولا يهمنا البحث عن ذلك.
  وفي تفسير القمي في ذيل الرواية السابقة : فلما بلغت مريم صارت في المحراب ، وأرخت على نفسها ستراً ، وكان لا يراها أحد ، وكان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول : أنى لك هذا فتقول هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
  وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) قال : ان زكريا لما دعا ربه أن يهب له ولداً فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثه أيام فلما أمسك لسانه ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله ، وذلك قول الله رب اجعل لي آية.
  اقول : وروى قريباً منه القمي في تفسيره ، وقد عرفت فيما تقدم أن سياق الآيات لا يأبى عن ذلك.
  وبعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها ، وكون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال : إن هذه امور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها ، ولا رسوله قالها ، ولا هي مما يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتد به ، وليس هناك الا روايات إسرائيلية وغير إسرائيلية ، ولا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام.
  وهو منه كلام من غير حجة ، والروايات وإن كانت آحاداً غير خالية عن ضعف

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 185 _
  الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها ، والاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات يقرب الذهن منها ، والذي نقل منها عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل.
  نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين امور غير معقولة كما نقل عن قتادة وعكرمة : أن الشيطان جاء إلى زكريا وشككه في كون البشارة من الله تعالى ، وقال : ( لو كانت من الله لأخفى لك ) في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان لا مجوز لتسليمها كما ورد في انجيل لوقا : أن جبرئيل قال لزكريا : ( وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته ) انجيل لوقا 1 ـ 20
  ( بحث روائي آخر )
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السّلام ) : ما من قلب إلا وله اذنان على إحديهما ملك مرشد ، وعلى الاخرى شيطان مفتن : هذا يأمره ، وهذا يزجره ، الشيطان يأمره بالمعاصى ، والملك يزجره عنها ، وذلك قول الله عز وجل : ( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) عن اليمين وعن الشمال قعيد .
  أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها ، وتطبيقه ( عليه السّلام ) الآية على الملك والشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إياها على الملكين الكاتبين للحسنات والسيئات في رواية اخرى فإن الآية : ( لا تدل على أزيد من وجود رقيب عتيد ) عند الإنسان يرقبه في جميع ما يتكلم به ، وأنه متعدد عن يمين الإنسان وشماله ، وأما أنه من الملائكة محضاً أو ملك وشيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كل من المحتملين.
  وفيه أيضاً عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السّلام ) عن الرسول وعن النبي وعن المحدث ، قال : الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول : يأمرك كذا وكذا ، والرسول يكون نبياً مع الرسالة ، والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء إِلنبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه ، قلت فما علمه أن الذي في منامه حق ؟ قال : يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق ، ولا يعاين الملك ، الحديث.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 186 _
  اقول : قوله : والرسول يكون نبياً إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين وقد تقدم الكلام في معنى الرسالة والنبوة في تفسير قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ الآية ) البقرة ـ 213.
  وقوله : فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام ، وأن معناه الغيبة عن الحس دون المنام المعروف ، وقوله : ( يبينه الله ) ( الخ ) إشارة إلى التمييز بين الإلقاء الملكى والشيطانى بما بينه الله من الحق.
  وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) في حديث قال بريد : فما الرسول والنبى والمحدث ؟ قال الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه ، والنبي يرى في المنام ، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد ، والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة ، قال : قلت : أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك ؟ قال : يوفق لذلك حتى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الأنبياء ، الحديث.
  اقول : وهو في مساق الحديث السابق ، وبيانه ( عليه السّلام ) واف بتمييز المحدث ما يسمعه من صوت الهاتف ، وفي قوله : لقد ختم الله ( الخ ) إشارة إلى ذلك ، وسيأتي الكلام في المحدث في ذيل الآيات التالية.
  ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 187 _
   وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 188 _
  فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ) ـ 60.
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ ) ، الجملة معطوفة على قوله : إذ قالت امرأة عمران ، فتكون شرحاً مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى ) ، الآية.
  وفي الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضاً قوله في سورة مريم : فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً إلى آخر الآيات ، وسيأتي الكلام في المحدث.
  وقد تقدم في قوله تعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن ، الآية : أن ذلك بيان لاستجابة دعوة ام مريم : وإني سميتها مريم : وإني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، الآية وأن قول الملائكة لمريم : ( إن الله اصطفيك وطهرك ) إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك.
  فاصطفائها تقبلها لعبادة الله ، وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة ، وربما قيل ، إن المراد من تطهيرها جعلها بتولاً لا تحيض فيتهيأ لها بذلك أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة ، ولا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 189 _
  قوله تعالى : ( وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ) قد تقدم في قوله تعالى : إن الله اصطفى إلى قوله : على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم ، وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم ، وعلى هذا فاصطفائها على نساء العالمين تقديم لها عليهن.
  وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها ؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية : ( إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ ) ، الآية ، وقوله تعالى : ( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء ـ 91 ، وقوله تعالى : ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) التحريم ـ 12 ، حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح ( عليه السّلام ) أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين.
  وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه ، والقنوت وكونها محدثة فهي امور لا تختص بها بل يوجد في غيرها ، وأما ما قيل : إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه .
  قوله تعالى : ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) ، القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل ، والسجدة معروفة والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل.
  ولما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى ( اسم مفعول ) وتوجيه فهمه نحو المنادي ( اسم فاعل ) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها : إن لك عندنا نبأ بعد نبأ فاستمعي لهما وأصغي اليهما : أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك عند الله ، والثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة ، وهو ما لله سبحانه عندك ، فيكون هذا إيفائاً للعبودية وشكراً للمنزلة فيؤول معنى الكلام إلى كون قوله : يا مريم اقنتي ( الخ ) بمنزلة التفريع لقوله : يا مريم إن الله اصطفيك ( الخ ) أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين ، ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعاً لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة ، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 190 _
  قوله تعالى : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ ) ، عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف ( عليه السّلام ) من أنباء الغيب التي توحي إلى رسول الله ، قال تعالى : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) يوسف ـ 102 ، وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيراً من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.
  ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية : وما كنت لديهم إذ يلقون ( الخ ).
  على أن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقومه كانوا اميين غير عالمين بهذه القصص ولا أنهم قرئوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح : ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ) هود ـ 49 ، والوجه الأول أوفق بسياق الآية.
  قوله تعالى : ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) ( الخ ) ، القلم بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة ، ويسمى سهماً أيضاً ، وجمعه أقلام ، فقوله : يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم .
  وفي هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله : ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) إنما هو اختصامهم وتشاحهم في كفالة مريم ، وأنهم لم يتناهوا حتى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله : وكفلها زكريا ، الآية.
  وربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريا عن كفالتها ، وكأن منشائه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريا في أثنائها ، فيكونان واقعتين اثنتين.
  وفيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة ـ : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) يوسف ـ 102 ، يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة : ( إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 191 _
   أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ـ إلى أن قال ـ :لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) ـ يوسف ـ 10.
  قوله تعالى : ( إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ ) ( الخ ) ، الظاهر أن هذه البشارة هي التى يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) الآيات مريم ـ 19 ، فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هيهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.
  وقد قيل في وجهه أن المراد بالملائكة هو جبرئيل ، عبر بالجمع عن الواحد تعظيماً لأمره كما يقال : سافر فلان فركب الدواب وركب السفن ، وإنما ركب دابة واحدة وسفينة واحدة ، ويقال : قال له الناس كذا ، وإنما قاله واحد وهكذا ، ونظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة ، فنادته الملائكة ثم قوله : قال : ( كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ) الآية.
  وربما قيل : إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها .
  والذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدماً وتأخراً من حيث مقام القرب ، وأن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة ، عين فعل المتقدم ، وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول : رأته عيناي وسمعته اذناي ، ورأيته وسمعته ، ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدي ورسمته أناملي وفعلته .
  أنا وكتبته ، أنا وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لامره بعينه ، وقوله قولهم من غير اختلاف ، وبالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله ، كما قال تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) الزمر ـ 42 ، فنسب التوفي إلى نفسه ، وقال : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) السجدة ـ 11 ، فنسبه إلى ملك الموت وقال : ( حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) الأنعام ـ 61 ، فنسبه إلى جمع من الملائكة.
  ونظيره قوله تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) النساء ـ 163 ، وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ) الشعراء ـ 194 ، وقوله : ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 192 _
   قَلْبِكَ ) البقرة ـ 97 ، وقوله : ( كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) عبس ـ 16.
  فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير ـ 21 ، وسيأتي زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر انشاء الله تعالى .
  ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية : قال كذلك الله يفعل ما يشاء ، فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح ، قال تعالى : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ الآيات ) مريم ـ 21.
  وفي تكلم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) مريم ـ 17 ، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته ، وسيجيء تمام الكلام في المعنى في البحث الروائي الآتي إنشاء الله.
  قوله تعالى : ( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ، قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) البقرة ـ 253.
  والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى ، وعلى الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائماً ، هذا بحسب اللغة ، وأما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد وهو قوله تعالى لشيء أراده : كن ، أو كلمة الوحي والإلهام ونحو ذلك.
  وأما المراد بالكلمة فقد قيل : إن المراد به المسيح ( عليه السّلام ) من جهة أن من سبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل ، بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 193 _
  عليه السلام : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ ) الأعراف ـ 137 ، وفيه أن ذلك وإن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشراً لا مبشراً به ، على أن سياق قوله : اسمه المسيح لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلاً لا نفس عيسى ، وظاهر قوله : اسمه المسيح ، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة.
  وربما قيل إن المراد به عيسى ( عليه السّلام ) لايضاحه مراده تعالى بالتوراة ، وبيانه تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من امور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل : ( وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) الزخرف ـ 63 ، وفيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن.
  وربما قيل : إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها ، وهي الإخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله : ( يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ) يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر ، وفيه أن سياق الذيل أعني قوله : اسمه المسيح ، لا يلائمه وهو ظاهر .
  وربما قيل : إن المراد به عيسى ( عليه السّلام ) من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله : كن وإنما اختص عيسى ( عليه السّلام ) بذلك مع كون كل إنسان بل كل شيء موجوداً بكلمة كن التكوينية لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث ، وعمل العوامل المقارنة في ذلك ، ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها ، ولما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) النساء ـ 171 ، وقوله تعالى في آخر هذه الآيات : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) الآية ، وهذا أحسن الوجوه.
  والمسيح هو الممسوح سمي به عيسى ( عليه السّلام ) لأنه كان مسيحاً باليمن والبركه أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب ، أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 194 _
  به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان ، أو لأنه كان يمسح رؤوس اليتامى ، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر ، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهه بيده إلا برء ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.
  لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعاً في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم ( عليها السّلام ) على ما يحكيه تعالى بقوله إن : ( اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) ، وهذا اللفظ بعينه معرب ( مشيحا ) الواقع في كتب العهدين.
  والذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدّس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحاً فمعناه : إما الملك وإما المبارك.
  وقد يظهر من كتبهم أنه ( عليهم السلام ) إنما سمي مشيحاً من جهة كون بشارته متضمناً لملكه ، وأنه سيظهر في بني إسرائيل ملكاً عليهم منجياً لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم ، قال : فلما دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء ، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما هذا السلام ، فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله ، وأنت تحبلين وتلدين ابناً وتدعين اسمه يسوع ، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب له كرسي داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء لوقا 1 ـ 34.
  ولذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى ( عليه السّلام ) لأنه لم ينل الملك أيام دعوته وفي حيوته ، ولذلك أيضاً ربما وجهته النصارى وتبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري.
  أقول : وليس من البعيد أن يقال : إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركاً فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك ، ويؤيده قوله تعالى : ( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ) مريم ـ 31.
  وعيسى أصله يشوع ، فسروه بالمخلص وهو المنجي ، وفي بعض الأخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 195 _
  هذين النبيين.
  وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب ، ويكون معروفاً بهذا النعت ، وأن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء ـ 91.
  قوله تعالى : ( وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) ، الوجاهة هي المقبولية ، وكونه ( عليه السّلام ) مقبولاً في الدنيا مما لاخفاء فيه ، وكذا في الآخرة بنص القرآن.
  ومعنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء والمقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله : ( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) النساء ـ 172 ، وقد عرف تعالى معنى التقريب بقوله : ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ـ إلى أن قال ـ : وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ـ إلى أن قال ـ :وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة ـ 11 ، والآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب وهو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شيء قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) الانشقاق ـ 6 ، وقال تعالى : ( أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى ـ 53.
  وأنت إذا تأملت كون المقربين صفة الأفراد من الإنسان وصفة الأفراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاماً اكتسابياً فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهيه والمقربون من الإنسان بالعمل .
  وقوله وجيهاً في الدنيا والآخرة ، حال وكذا ما عطف عليه من قوله : ومن المقربين ، ويكلم اه ، ومن الصالحين ، ويكلمه اه ، رسولاً اه.
  قوله تعالى : ( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ) ، المهد ما يهياً للصبي من الفراش ، والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة ، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلاً تاماً قوياً ، ولذا قيل : الكهل من وخطه الشيب أي خالطه ، وربما قيل : إن الكهل من بلغ أربعاً وثلاثين.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 196 _
  وكيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة اخرى لمريم .
  وفي التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه ، ولذا ربما قيل إن تكليمه للناس كهلاً إنما هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة ، وربما قيل : إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى ( عليه السّلام ) عاش نحواً من أربع وستين سنه خلافاً لما يظهر من الأناجيل.
  والذي يظهر من سياق قوله : في المهد وكهلاً ، أنه لا يبلغ سن الشيخوخة ، وإنما ينتهي إلى سن الكهولة ، وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره ، الصبي والكهولة.
  والمعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالباً ، وهو سن الكلام فكلام الصبي في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم الناس في المهد كلاماً تاماً يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل ، وبعبارة أُخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلاً ، والكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة .
  على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لأول ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبي لأول يوم ولادته آية خارقة لا محالة ، قال تعالى : ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ) الآيات مريم ـ 31 .
  قوله تعالى : ( قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي ) بشر ، خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بنائاً على ما تقدم أن خطاب الملائكة وخطاب الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجهاً إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربها.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 197 _
  ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى : ( قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) المؤمنون ـ 99 ، فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.
  قوله سبحانه : قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون قد مرت الإشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله : ( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) مريم ـ 21 ، يفيد أن يكون قوله هيهنا : كذلك كلاماً تاماً تقديره : الأمر كذلك ومعناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له .
  وأما التعجب من هذا الأمر فإنما يصح لو كان هذا الأمر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق : أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء ، وأما صعوبته ومشقته فإن العسر والصعوبة إنما يتصور إذا كان الأمر مما يتوسل إليه بالأسباب فكلما كثرت المقدمات والأسباب وعزت وبعد منالها اشتد الأمر صعوبة ، والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون .
  فقد ظهر أن قوله : كذلك كلام تام أُريد به رفع اضطراب مريم وتردد نفسها ، وقوله : الله يخلق ما يشاء ، رفع العجز الذي يوهمه التعجب ، وقوله : إذا قضى ، رفع لتوهم العسر والصعوبة.
  قوله تعالى : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) ، اللام في الكتاب والحكمة للجنس ، وقد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس ، والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل ، وعلى هذا فعطف التوراة والإنجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لاهمية في اختصاصه بالذكر ، وليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى : ( وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) الزخرف ـ 63 ، وقد مر بيانه .
  وأما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى ( عليه السّلام ) في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف ، وأما الذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بختنصر من ملوك بابل وكورش

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 198 _
  من ملوك الفرس ، غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلية وإن لعبت بها يد التحريف ، ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.
  وأما الإنجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتاباً واحداً نازلاً على عيسى فهو الوحي المختص به ، قال تعالى : ( وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ ) آل عمران ـ 4 ، وأما هذه الأناجيل المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا فهي كتب مؤلفة بعده ( عليه السّلام ).
  ويدل أيضاً على أن الأحكام إنما هي في التوراة ، وأن الإنجيل لا تشتمل إلا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات : ( َمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) الآية ، وقوله : ( وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ ) ، المائدة ـ 47 : ( ولا يبعد أن يستفاد من ) الآية أن فيه بعض الأحكام الاثباتية.
  ويدل أيضاً على أن الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كالتوراة ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ) الأعراف ـ 157.
  قوله تعالى : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ، ظاهره أنه ( عليه السّلام ) كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى ( عليه السّلام ) ، وقد مر في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ الآية ) البقرة ـ 213 ، أن عيسى ( عليه السّلام ) كموسى من أُولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة .
  لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبي أن النبوة هي منصب البعث والتبليغ ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس ، إما بالبقاء والنعمة ، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) يونس ـ 47.
  وبعبارة اخرى النبي هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس ، والرسول هو المبعوث لاداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيده بل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 199 _
  يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم ( عليهم السلام ).
  وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم وكان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبياً مبعوثاً إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى ( عليهما السلام ).
  وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون ، قال تعالى : ( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) طه ـ 24 ، وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل ، قال تعالى : ( قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) طه ـ 70 ، ودعوة قوم فرعون ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) الدخان ـ 17 ، ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به ( عليه السّلام ) قبل بعثة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الروم وأُمم عظيمة من الغربيين كالإفرنج والنمسا والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل ، والقرآن لم يخص ـ فيما يذكر فيه النصارى ـ نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع.
  قوله تعالى : ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ ) ـ إلى قوله ـ : واحيي الموتى بإذن الله ، الخلق جمع أجزاء الشيء وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضاً قوله تعالى : ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون ـ 14 .
  والأكمه هو الذي يولد مطموس العين ، وقد يقال لمن تذهب عينه ، قال : كمهت عيناه حتى ابيضتا ، قاله الراغب ، والأبرص من كان به برص وهو مرض جلدى معروف .
  وفي قوله : واحيي الموتى حيث علق الإحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقل من الإشعار بالكثرة والتعدد.
  وكذا قوله بإذن الله ، سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه ( عليه السّلام ) مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى ( عليه السّلام ) بشيء من ذلك ، وإنما كرر تكراراً يشعر بالإصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بالوهيته

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 200 _
  استدلالاً بالآيات المعجزة الصادرة عنه ( عليه السّلام ) ، ولذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله : إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم .
  وظاهر قوله : أني أخلق لكم ( الخ) أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدوراً خارجياً لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج والتحدي ، ولو كان مجرد قول لقطع العذر وإتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا : إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك.
  على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه الآيات أتم الدلالة ، قال : إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ـ إلى إن قال ـ : ( وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى ) الآية المائدة ـ 110.
  ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر ، وأنه احتج على الناس بذلك ، وأتم الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئاًً من ذلك لأتى به ، أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك.
  قوله تعالى : ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) ، وهذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى ، ومن خصه من رسله بالوحي ، وهو آية اخرى وإخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك والريب فإن الإنسان لا يشك عادة فيما أكله ولا فيما ادخره في بيته .
  وإنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما قال : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) المؤمن ـ 78 ، لأن هذه الآية عبر عنها بالانباء وهو كلام قائم بعيسى ( عليه السّلام ) يعد فعلاً له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والاحياء فإنها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه .
  على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه