في الإنباء فإن القلوب الساذجة تقبل الوهية خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة ومغلطة بخلاف الوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمراً مبتذلاً جايز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة ، وكذا الإبراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله ، وخاصة إذا القي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون ، ولذلك ذيل الكلام بقوله : إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعويكم الإيمان.
  قوله تعالى : ( َمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) ، عطف على قوله : ورسولاً إلى بني إسرائيل ، وكون المعطوف مبنياً على التكلم مع كون المعطوف عليه مبنياً على الغيبة أعني كون عيسى ( عليه السّلام ) في قوله : ومصدقاً لما بين يدي متكلماً وفي قوله : ورسولاً إلى بني إسرائيل ، غائباً ليس مما يضر بالعطف بعد تفسير قوله : ورسولاً إلى بني إسرائيل ، بقول عيسى : أني قد جئتكم ، فإن وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.
  وتصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة ، وهو التوراة الأصل النازلة على موسى ( عليهما السلام ) فلا دلالة لكونه مصدقاً للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة .
  قوله تعالى : ( وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ )، فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات ، قال تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) الآية النساء ـ 160.
  والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه ( عليه السّلام ) لأحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقة المكتوبة على اليهود ، ولذا قيل ان الإنجيل غير مشتمل على الشريعة ، وقوله : ولاحل ، معطوف على قوله : بآية من ربكم ، واللام للغاية ، والمعنى : قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم.
  قوله تعالى : ( وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) ، الظاهر أنه لبيان أن قوله : فاتقوا الله

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 202 _
  وأطيعون ، متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم ، ويمكن أن يكون هو مراد من قال : إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها فإن مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.
  قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ) ، فيه قطع لعذر من اعتقد الوهيته لتفرسه ( عليه السّلام ) ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله : فيكون طيراً ، وقوله واحيي الموتى ، بقوله : بإذن الله لكن الظاهر من قوله تعالى فيما يحكى قول عيسى ( عليه السّلام ) : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) المائدة ـ 117 ، أن ذلك كان بأمر من ربه ووحي منه .
  قوله تعالى : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ ) ، لما كانت البشارة التي بشر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى ( عليه السّلام ) من حين حمله إلى حين رسالته ودعوته اقتصر عليها اقتصاصاً إيجازاً في الكلام وفرع عليها تتمة الجملة من قصته وهو انتخابه حوارييه ومكر قومه به ومكر الله بهم في تطهيره منهم وتوفيه ورفعه إليه ، وهو تمام القصة.
  وقد اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقائه إلى النصارى حين نزول الآيات ، وهم نصارى نجران : الوفد الذين أتوا المدينة للبحث الاحتجاج ، ولذلك اسقط منها بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة النساء والمائدة والأنبياء والزخرف والصف.
  وفي استعمال لفظ الإحساس في مورد الكفر مع كونه أمراً قلبياً إشعار بظهوره منهم حتى تعلق به الاحساس أو أنهم هموا بإيذائه وقتله بسبب كفرهم فاحس به فقوله ، فلما أحس عيسى أي استشعر واستظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله ؟ وإنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه فيتمحضوا للحق ـ فتستقر فيهم عدة الدين ، وتتمركز فيهم قوته ثم تنتشر من عندهم دعوته ، وهذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية والاجتماعية وغيرها ، إنها إذا شرعت في الفعل ونشر التأثير وبث العمل كان من اللازم أن تتخذ لنفسها كانوناً تجتمع فيه وتعتمد عليه وتستمد منه ولو لا ذلك لم تستقر على عمل ، وذهبت سدى لا تجدي نفعاً .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 203 _
  و نظير ذلك في دعوة الإسلام بيعة العقبة وبيعة الشجرة أراد بها رسول الله صلّى الله عليه وآله ركوز القدرة وتجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة.
  فلما أيقن عيسى ( عليه السّلام ) أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أوجلهم ، وأنهم كافرون به لا محالة ، وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريون على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالإيمان فكان ذلك أساساً لتميز الإيمان من الكفر وظهوره عليه بنشر الدعوة وإقامة الحجة كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ) الصف ـ 14.
  وقد قيد الأنصار في قوله : من أنصاري بقوله : إلى الله ليتم به معنى التشويق والتحريص الذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى : ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) البقرة ـ 245.
  والظرف متعلق بقوله : أنصاري ، بتضمين النصرة معنى السلوك والذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم ( عليه السّلام ) من قوله : ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) الصافات ـ 99.
  وأما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه ولا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصراً كما يعده ناصراً ، ولا يساعد عليه أدب عيسى ( عليه السّلام ) اللائح مما يحكيه القرآن من قوله ، على أن قوله تعالى : قال الحواريون نحن أنصار الله ، أيضاً لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا : نحن أنصارك مع الله فليتأمل .
  قوله تعالى : ( قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ، حواري الإنسان من اختص به من الناس ، وقيل أصله من الحور وهو شدة البياض ، ولم يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى ( عليه السّلام ) من أصحابه.
  وقولهم : آمنا بالله ، بمنزل التفسير لقولهم : نحن أنصار الله وهذا مما يؤيد كون

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 204 _
  قوله : أنصاري إلى الله جارياً مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله ، والإيمان طريق .
  وهل هذا أول إيمانهم بعيسى ( عليه السّلام ) ربما استفيد من قوله تعالى : ( كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ ) الصف ـ 14 ، أنه إيمان بعد إيمان ، ولا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الإيمان والإسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض .
  بل ربما دل قوله تعالى : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) المائدة ـ 111 ، أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله تعالى إليهم ، وأنهم كانوا أنبياء فيكون الإيمان الذي أجابوه به هو الإيمان بعد الإيمان.
  على أن قولهم : وأشهد بأننا مسلمون : ( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ) ، وهذا الإسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم وفيهم ـ يدل أيضاً على ذلك فإن هذا الإسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد بالتوحيد والنبوة مجرد شهادة ، بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الإيمان والإسلام : أن كل مرتبة من الإيمان تسبقها مرتبة من مراتب الإسلام كما يدل عليه قولهم : آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ، حيث أتوا في الإيمان بالفعل وفي الإسلام بالصفة فأول مراتب الإسلام هو التسليم والشهادة على أصل الدين إجمالاً ، ويتلوه الاذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في الجملة ، ويتلوه ( وهو المرتبة الثانية من الإسلام ) التسليم القلبي لمعنى الإيمان وينقطع عنده السخط والاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله ورسوله وهو الاتباع العملي في الدين ، ويتلوه ( وهو المرتبة الثانية من الإيمان ) خلوص العمل واستقرار وصف العبودية في جميع الأعمال والأفعال ويتلوه ( وهو المرتبة الثالثة من الإسلام ) التسليم لمحبة الله وإرادته تعالى فلا يحب ولا يريد شيئاًً إلا بالله ، ولا يقع هناك إلا ما أحبه الله وأراده ولا خبر عن محبة العبد وإرادته في نفسه ، ويتلوه ( وهو المرتبة الثالثة من الإيمان ) شيوع هذا التسليم العبودي في جميع الأعمال.
  فإذا تذكرت هذا الذي ذكرناه ، وتأملت في قوله ( عليه السّلام ) فيما نقل من دعوته : ( فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) الآية ، وجدت أنه ( عليه السّلام ) أمر أولاً بتقوى الله وإطاعة نفسه ثم علل ذلك بقوله : ( إن الله ربي وربكم )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 205 _
  أي إن الله ربكم معشر الامة ورب رسوله الذي أرسله اليكم ، فيجب عليكم أن تتقوه بالإيمان ، وأن تطيعوني بالاتباع ، وبالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى وطاعة الرسول أي الإيمان والاتباع ، فهذا هو المستفاد من هذا الكلام ، ولذا بدّل التقوى والإطاعة في التعليل من قوله : فاعبدوه وإنما فعل ذلك ليتضح ارتباط الأمر بالله لظهور الارتباط به في العبودية ثم ذكر أن هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلاً ينتهي بسالكه إلى الله سبحانه .
  ثم لما أحس منهم الكفر ولاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال من أنصاري إلى الله فطلب أنصاراً لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه ، وهو العبودية أعني التقوى والإطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا : نحن أنصار الله ، ثم ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا : آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ، ومرادهم بالإسلام إطاعته وتبعيته ، ولذا لما خاطبوا ، ربهم خطاب تذلل والتجاء ، وذكروا له ما وعدوا به عيسى ( عليه السّلام ) قالوا : ( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ) ، فبدلوا الإسلام من الاتباع ، ووسعوا في الإيمان بتقييده بجميع ما أنزل الله.
  فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، واتبعوا الرسول في ذلك ، وهذا كما ترى ليس أول درجة من الإيمان بل من أعلى درجاته وأسماها.
  وإنما استشهدوا عيسى ( عليه السّلام ) في إسلامهم واتباعهم ولم يقولوا : آمنا بالله وإنا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم إذ قالوا : ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ، فكأنهم قالوا : ربنا حالنا هذا الحال ، ويشهد بذلك رسولك.
  قوله تعالى : ( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ، مقول قول الحواريين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة وهو من الأساليب اللطيفة في القرآن الكريم ، وقد مر بيانه ، وقد سألوا ربهم أن يكتبهم من الشاهدين ، وفرّعوا ذلك على إيمانهم وإسلامهم جميعاً لأن تبليغ الرسول رسالته إنما يتحقق ببيانه ما أنزله الله عليه قولاً وفعلاً ، أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها ، فالشهادة على التبليغ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 206 _
  إنما يكون بتعلمها من الرسول واتباعه عملاً حتى يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا يتخطاه ولا يتعداه .
  والظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومي إليها قوله تعالى : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف ـ 6 ، وهي الشهادة على التبليغ ، وأما قوله تعالى : ( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) المائدة ـ 83 ، فهو شهادة على حقية رسالة الرسول دون التبليغ ، والله أعلم.
  وربما أمكن أن يستفاد من قولهم ، فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أن المسئول : أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك مما حكاه الله تعالى في دعاء إبراهيم وإسمعيل ( عليهما السلام ) : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) البقرة ـ 128 ، وليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية.
  قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ، الماكرون هم بنو إسرائيل ، بقرينة قوله : فلما أحس عيسى منهم الكفر ، وقد مر الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) البقرة ـ 26.
  قوله تعالى : ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) ، التوفي أخذ الشيء أخذاً تاماً ولذا يستعمل في الموت لأن الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى : ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) الأنعام ـ 61 ، أي أماتته ، وقال تعالى : ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ـ إلى أن قال ـ : قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم ) السجدة ـ 11 ، وقال تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى ) الزمر ـ 42 ، والتأمل في الآيتين الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الأخذ والحفظ ، وبعبارة اخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ للدلالة على أن نفس الإنسان لا يبطل ولا يفني بالموت الذي يظن الجاهل أنه فنآء وبطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه ، وإلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 207 _
   مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) آل عمران ـ 144 ، وقوله تعالى : ( لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) الفاطر ـ 36 ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جداً حتى ما ورد في عيسى ( عليه السّلام ) بنفسه كقوله : ( وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) مريم ـ 33 ، وقوله : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) النساء ـ 159 ، فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت.
  على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود : ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) النساء ـ 159 ، يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعى أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم ( عليه السّلام ) وكذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم ( عليه السّلام ) بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل والآيات كما ترى تكذب قصة القتل والصلب صريحاً .
  والذي يعطيه ظاهر قوله : وإن من أهل الكتاب الآية أنه حي عند الله ولن يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب ، عليهذا فيكون توفيه ( عليه السّلام ) أخذه من بين اليهود لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنما هو الظهور ، وسيجيء تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء.
  قوله تعالى : ( وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) ، الرفع خلاف الوضع ، والطهارة خلاف القذارة ، وقد مر الكلام في معنى الطهارة.
  وحيث قيد الرفع بقوله : إلي ، أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام والجسمانيات بالحلول فيها ، والقرب والبعد منها ، فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية : ثم إلى مرجعكم ، وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه ، نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله : ( أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ ) آل عمران ـ 169 ، وما ذكره في حق إدريس ( عليه السّلام ) : ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) مريم ـ 57.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 208 _
  وربما يقال : إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حياً إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه ، ومحل نزول البركات ، ومسكن الملائكة المكرمين ، ولعلنا نوفق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إنشاء الله تعالى .
  والتطهير من الكافرين حيث أُتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنوي دون الظاهري الصوري ، فهو إبعاده من الكفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود.
  قوله تعالى : ( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ، وعد منه تعالى له ( عليه السّلام ) أنه سيفوّق متبعي عيسى ( عليه السّلام ) على مخالفيه الكافرين بنبوته ، وأن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة ، وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى ( عليه السّلام ) أو غير ذلك.
  غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام ونسخه دين عيسى ، والمسلمون بعد ظهور الإسلام فإنهم هم أتباعه على الحق ، وعلى هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة دون السلطنة والسيطرة ، فمحصل معنى الجملة : أن متبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة ، هذا ما ذكره وارتضاه المفسرون في معنى الآية.
  والذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإن ظاهر قوله إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك : ( مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ) ، أنه إخبار عن المستقبل وأنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف ورفع وتطهير وجعل على أن قوله ، وجاعل الذين اتبعوك ، وعد حسن وبشرى ، وما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي ، ومن المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى ( عليه السّلام ) إلا حجة عيسى نفسه ، وهي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم ، وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع ، وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه ( عليه السّلام ) أقطع لعذر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 209 _
  الكفار ومنبت خصومتهم ، وأوضح في رفع شبههم ، فما معنى وعده ( عليه السّلام ) أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ؟ ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوق بقوله : إلى يوم القيامة ، مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.
  فان قلت : لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس أسمع لحجة المتبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعاً وأوثق ركنا وأشد قوة .
  قلت : مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة والقوة والواقع خلافه ، واحتمال أن يكون إخباراً عن ظهور للمتبعين وتفوق منهم سيتحقق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية ، واما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه ( عليه السّلام ) سيفوقون الكافرين أي يكون ، أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل ، ففيه مضافاً إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرناً أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية وخاصة من جهة كون المقام مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهي على اليهود وشمول الغضب عليهم انما يناسب القهر والاستعلاء : اما من حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة والقوة ، وأما من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر .
  والذي ينبغي أن يقال : أن الذي أخذ في الآية معرفاً للفرقتين هو قوله : الذين اتبعوك ، وقوله : الذين كفروا والفعل إنما يدل على التحقق والحدوث دون التلبس الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين والكافرين ، ومجرد صدور فعل من بعض أفراد امة مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم ، كما أن القرآن يؤنب اليهود ويوبخهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الأنبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف آيات الكتاب وغير ذلك .
  وعليهذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود ، وبالذين اتبعوا النصارى لما صدر من .
  ( 3 ـ الميزان ـ 14 )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 210 _
  صدرهم وسلفهم من الإيمان بعيسى ( عليه السّلام ) واتباعه ـ وقد كان إيماناً مرضياً واتباعاً حقاً ـ وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له ( عليه السّلام ) بعد ظهور الإسلام ، ولا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية.
  فالمراد جعل النصارى ـ وهم الذين اتبع أسلافهم عيسى ( عليه السّلام ) ـ فوق اليهود وهم الذين كفروا بعيسى ( عليه السّلام ) ومكروا به ، والغرض في المقام بيان نزول السخط الإلهي على اليهود ، وحلول المكر بهم ، وتشديد العذاب على امتهم ، ولا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى .
  ويؤيد هذا المعنى تغيير الاسلوب في الآية الآتية أعني قوله : ( وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) ، إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق والنجاة من النصارى والمسلمين فقط كان الأنسب أن يقال : وأما الذين اتبعوك فيوفيهم اجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى .
  وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة ، والتقريب عين التقريب ، وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر.
  قوله تعالى :( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) ، وقد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى وبين الذين اتبعوه والذين كفروا به ، وهذا مآل أمرهم يوم القيامة ، وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبأه.
  قوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ، ظاهره أنه متفرع على قوله : فأحكم بينكم ، تفرع التفصيل على الاجمال فيكون بيانا للحكم الإلهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا وتوفية الأجر للمؤمنين .
  لكن اشتمال التفريع على قوله : في الدنيا ، يدل على كونه متفرعاً ، على مجموع قوله : ( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ) ( الخ ) فيدل على أن نتيجة هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى ، عليهم وفي الآخرة بالنار ، وما لهم في ذلك من ناصرين .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 211 _
  وهذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة والقوة دون التأييد بالحجة .
  وفي قوله : وما لهم من ناصرين دلالة على نفي الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم ، وهو حتم القضاء كما تقدم .
  قوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) ، وهذا وعد حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لأن الاتباع كما عرفت وصف صادق على الامة بمجرد تحققه وصدوره عن عدة من أفرادها وحينئذ إنما يؤثر الأثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصاً دون من انتسب إليه اسماً فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) ، ليستقيم المعنى فإن السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة ـ 62.
  فهذا أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى ( عليه السّلام ) أن الله يوفيهم اجورهم ، وأما غيرهم فليس لهم من ذلك شيء وقد اشير إلى ذلك في الآية بقوله : والله لا يحب الظالمين.
  ومن هنا يظهر السر في ختم الآية ـ وهي آية الرحمة والجنة ـ بمثل قوله : ( وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) مع أن المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى : ( وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) الحديد ـ 10 ، وقوله تعالى : ( إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) التغابن ـ 17 ، وقوله تعالى : ( وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التغابن ـ 9 ، وقوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) الجاثيه ـ 30 ، إلى غير ذلك من الآيات.
  فقوله : ( وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) مسوق لبيان حال الطائفة الاخرى ممن انتسب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 212 _
  إلى عيسى ( عليه السّلام ) بالاتباع وهم غير : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ).
  قوله تعالى : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) إشارة إلى اختتام القصة، والمراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته ، لا يدخله باطل ، ولا يلج فيه هزل.
  قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ، تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلاً ، والإيجاز بعد الإطناب ـ وخاصة في مورد الاحتجاج والاستدلال ـ من مزايا الكلام ، والآيات نازلة في الاحتجاج ومتعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الأنسب ان يوجز البيان في خلقته بعد الاطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشراً مخلوقاً نظير آدم ( عليهما السلام ) فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد وأعظم مما قيل في آدم ، وهو أنه بشر خلقه الله من غير أب.
  فمعنى الآية : أن مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم ، وكيفية خلقه أنه جمع أجزائه من تراب ثم قال له كن فتكون تكوناً بشرياً من غير أب.
  فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الالوهية عن المسيح (ع).
  إحديهما أن عيسى مخلوق لله ـ على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه ـ خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبداً لا رباً.
  وثانيهما : أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بالوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (ع) أيضاً لمكان المماثلة.
  ويظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية وإن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكونه إلى والد.
  والظاهر أن قوله : فيكون ، أُريد به حكاية الحال الماضية ، ولا ينافي ذلك دلالة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 213 _
  قوله : ثم قال له كن على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس ـ 82 ، وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية، وأما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر ـ 50 ، وسيجيء زيادة توضيح لهذا المعنى إنشاء الله تعالى في محله المناسب له .
  على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله : ثم قال له كن إنه تعالى لا يحتاج في خلق شيء إلى الأسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الأشياء بالنسبة إليه تعالى بالامكان والاستحالة ، والهوان والعسر ، والقرب والبعد ، باختلاف أحوال الأسباب الدخيلة في وجوده فما أراده وقال له كن كان ، من غير حاجة إلى الأسباب الدخيلة عادة.
  قوله تعالى : ( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ) تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن ونحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله : ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم الآية ، وفيه تطييب لنفس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأنه على الحق ، وتشجيع له في المحاجة.
  وهذا أعني قوله الحق من ربك من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال : الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك ونسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.
  وذلك أن هذه الأقاويل الحقة والقضايا النفس الأمرية الثابتة كائنة ما كانت وان كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا : الأربعة زوج ، والواحد نصف الاثنين ، ونحو ذلك إلا أن الإنسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود والوجود كله منه تعالى : فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه ، ولذلك كان تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ، فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقاً ، وأما فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 214 _
  ( بحث روائي )
  في تفسير القمي : في قوله تعالى يا مريم إن الله اصطفيك وطهرك واصطفيك على نساء العالمين قال : قال (ع) : اصطفاها مرتين : أما الاولى فاصطفاها أي اختارها ، وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين.
  وفي المجمع قال أبو جعفر (ع) : معنى الآية : ( اصطفاك لذرية الأنبياء ) وطهرك من السفاح ، واصطفيك لولادة عيسى من غير فحل .
  اقول : معنى قوله : اصطفاك لذرية الأنبياء اختارك لتكوني ذرية صالحة جديرة للانتساب إلى الأنبياء ، ومعنى قوله : وطهرك من السفاح أعطاك العصمة منه ، وهو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل ، فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها وتطهيرها ، فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر ، وقد مر دلالة الآية على ذلك.
  وفي الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن حبان والحاكم عن أنس : أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وآسية امرأة فرعون ، قال السيوطي وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلاً .
  وفيه أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون .
  وفيه أخرج ابن مردويه عن الحسن قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة : آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
  وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن فاطمة رضى الله عنها قالت : قال لي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول.
  وفيه أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 215 _
  وفيه أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : أربع نسوة سادات عالمهن : مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأفضلهن عالماً فاطمة .
  وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ابنة خويلد .
  وفي الخصال بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال : خط رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أربع خطوط ثم قال : خير نساء الجنة مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون .
  وفيه أيضاً بإسناده عن أبي الحسن الأول ( عليه السّلام ) قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إن الله عز وجل اختار من النساء أربعاً : مريم وآسية وخديجة وفاطمة ، الخبر.
  أقول : والروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة ، وكون هؤلاء سيدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهن أنفسهن كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدر المنثور وأخبار اُخرى ، وقد مر نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا ) الآية آل عمران ـ 33.
  ومما ينبغي أن يتنبه له أن الواقع في الآية هو الاصطفاء ، وقد مر أنه الاختيار ، والذي وقع في الأخبار هو السيادة ، وبينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب كمال الأول.
  وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ، عن الباقر ( عليه السّلام ) يقرعون بها حين ايتمت من أبيها.
  وفي صتفسير القمي : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ) ، قال : اصطفاها مرتين : أما الاولى فاصطفاها أي اختارها ، وأما الثانية فانها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك على نساء العالمين ـ إلى أن قال القمي ـ ثم قال الله لنبيه : ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك يا محمد وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 216 _
  أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ، قال لما ولدت اختصموا آل عمران فيها وكلهم قالوا : نحن نكفلها فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا ، الخبر.
  أقول : وقد مر من البيان ما يؤيد هذا الخبر وما قبلها .
  واعلم أن هناك روايات كثيرة في بشارة مريم وولادة عيسى ( عليه السّلام ) ودعوته ومعجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهم من البحث التفسيري ، ولذلك تركنا ذكرها إلا ما يهم ذكره منها .
  وفي تفسير القمي في قوله تعالى : ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ ) الآية ، عن الباقر ( عليه السّلام ) أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل : ( إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ )والأكمه هو الأعمى : قالوا ما نرى الذي تصنع إلا سحراً فأرنا آية نعلم أنك صادق قال : أرأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ـ يقول : ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادخرتم بالليل ـ تعلمون أني صادق ؟ قالوا : نعم فكان يقول : أنت أكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا ـ فمنهم من يقبل منه فيؤمن ، ومنهم من يكفر ، وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين .
  اقول : وتغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره ( عليه السّلام ) من الآيات أولاً وآخراً يؤيد هذه الرواية ، وقد مرت الإشارة إليه.
  وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم الآية عن الصادق ( عليه السّلام ) قال كان بين داود وعيسى أربعمأه سنة ، وكانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد والإخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين ، وشرع له في الكتاب : إقام الصلوة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ، ولا أحكام حدود ، ولا فرض مواريث ، وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة ، وهو قول الله في الذي قال عيسى لبني إسرائيل ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، وأمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 217 _
  اقول : وروى الرواية في قصص الأنبياء مفصلة عن الصادق ( عليه السّلام ) وفيها : كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة وثمانون سنة ، ولا يوافق شيئ منهما تاريخ أهل الكتاب.
  وفي العيون عن الرضا ( عليه السّلام ) : أنه سئل لم سمي الحواريون الحواريين ؟ قال : أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل ، وهو اسم مشتق من الخبز الحوار. وأما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير.
  وفي التوحيد عنه ( عليه السّلام ) : إنهم كانوا اثنا عشر رجلاً ، وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا .
  وفي الإكمال عن الصادق ( عليه السّلام ) في حديث : بعث الله عيسى بن مريم ، واستودعه النور والعلم والحكم وجميع علوم الأنبياء قبله ، وزاده الإنجيل ، وبعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه وحكمته ، والى الإيمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم إلا طغياناً وكفراً : ( فلما لم يؤمنوا دعا ربه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم ) آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغياناً وكفراً فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم ويرغبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتى طلبته اليهود ، وادعت أنها عذبته ودفنته في الأرض حياً ، وادعى بعضهم أنهم قتلوه وصلبوه ، وما كان الله ليجعل لهم سلطاناً عليه ، وإنما شبه لهم ، وما قدروا على عذابه وقتله ولا على قتله وصلبه لأنهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيباً لقوله : ولكن رفعه الله بعد أن توفاه .
  أقول : قوله ( عليه السّلام ) : فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعاً من شرارهم .
  وقوله (ع) : فمكث يدعوهم ( الخ ) لعله إشارة إلى مدة عمره على ما هو المشهور فإنه (ع) كان يكلمهم من المهد إلى الكهولة وكان نبياً من صباه على ما يدل عليه قوله على ما حكاه الله عنه : ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) مريم ـ 30.
  وقوله (ع) لكان تكذيباً لقوله : ولكن رفعه الله بعد أن توفاه ، نقل بالمعنى لقوله تعالى : ( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ ) الآية ، وقوله تعالى : ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ) الآية ، وقد استفاد من تقديم التوفي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 218 _
  وفي تفسير القمي عن الباقر (ع) قال : إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلاً فأدخلهم بيتاً ثم خرج إليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه عن الماء فقال : إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة ، ومطهري من اليهود فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي فقال شاب منهم أنا يا روح الله ، قال فأنت هو ذا فقال لهم عيسى : أما إن منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة ، فقال رجل منهم : أنا هو يا نبي الله ! فقال له عيسى : أتحس بذلك في نفسك ؟ فلتكن هو ، ثم قال لهم عيسى .
  أما إنكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق : فرقتين مفتريتين على الله في النار ، وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه.
  ثم قال : إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم ، فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى : إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة ، وأخذوا الشاب الذي القي عليه شبح عيسى فقتل وصلب ، وكفر الذي قال له عيسى : يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة .
  اقول : وروي قريب منه عن ابن عباس وقتادة وغيرهما ، وقال بعضهم : إن الذي القي عليه شبح عيسى هو الذي دلهم ليقبضوا عليه ويقتلوه ، وقيل غير ذلك ، والقرآن ساكت عن ذلك ، وسيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ) الآية النساء ـ 157.
  وفي العيون عن الرضا (ع) قال : إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله وحججه على الناس إلا أمر عيسى وحده لأنه رفع من الأرض حياً وقبض روحه بين السماء والأرض ثم رفع إلى السماء ، ورد عليه روحه ، وذلك قوله عز وجل : إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك ، وقال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة وكنت شهيداً عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد .
  وفي تفسير العياشي عن الصادق (ع) قال : رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 219 _
  اقول : وسيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إنشاء الله تعالى .
  وفي الدر المنثور في قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ ) الآية ، أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا : أن سيدي أهل نجران واسقفيهم السيد والعاقب لقيا نبي الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فسئلاه عن عيسى فقال : كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ ) الآية.
  اقول : وروي ما يقرب منه عن السدي وعكرمة وغيرهما ، وروي القمي في تفسيره أيضاً نزول الآية في المورد.

( بحث روائي آخر في معنى المحدث )
  في البصائر عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن الرسول وعن النبي وعن المحدث قال : الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول : يأمرك كذا وكذا ، والرسول يكون نبياً مع الرسالة.
  والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت : فما علمه أن الذي رأى في منامه حق ؟ قال يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق ولا يعاين الملك ، والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى شاهداً .
  اقول : ورواه في الكافي عن أبي عبد الله (ع) قوله شاهداً أي صائتاً حاضراً ، ويمكن أن يكون حالاً من فاعل لا يرى .
  وفيه أيضاً عن بريد عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) في حديث قال بريد : فما الرسول والنبي والمحدث ؟ قال : الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه ، والنبي يرى في المنام ، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد ، والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك ؟ قال : يوفق لذلك حتى يعرفه ، لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الأنبياء ، الحديث.
  وفيه عن محمد بن مسلم قال : ذكرت المحدث عند أبي عبد الله (ع) قال : فقال : إنه يسمع الصوت ولا يرى الصورة فقلت : أصلحك الله كيف يعلم أنه كلام الملك ؟ قال

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 220 _
  إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك .
  و فيه أيضاً عن أبي بصير عنه (ع) قال : كان علي محدثاً وكان سلمان محدثاً قال : قلت : فما آية المحدث ؟ قال : يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت وكيت.
  وفيه عن حمران بن أعين قال : أخبرني أبو جعفر ( عليهما السلام ) أن علياً كان محدثاً فقال أصحابنا : ما صنعت شيئاًً إلا سألته من يحدثه ؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر فقلت : ألست أخبرتني : أن علياً كان محدثاً ؟ قال : بلى قلت : من كان يحدثه ؟ قال : ملك ، قلت : فأقول : إنه نبي أو رسول ؟ قال لا بل قل مثله مثل صاحب سليمان وصاحب موسى ، ومثله مثل ذي القرنين ، أما سمعت أن علياً سئل عن ذي القرنين أنبياً كان ؟ قال لا ولكن كان عبداً أحب الله فأحبه ، وناصح الله فنصحه فهذا مثله .
  اقول : والروايات في معنى المحدث عن ائمة أهل البيت كثيرة جداً رواها في البصائر والكافي والكنز والاختصاص وغيرها ، ويوجد في روايات أهل السنة أيضاً.
  وأما الفرق الوارد في الأخبار المذكورة بين النبي والرسول والمحدث فقد مر الكلام في الفرق بين الرسول والنبي ، وأن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده ، فهو يوجب العلم اليقيني بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجة ، فمثله في الإلقاءات الإلهية مثل العلوم البديهية التي لا تحتاج في حصولها للإنسان إلى سبب تصديقي كالقياس ونحوه.
  وأما المنام فالروايات كما ترى تفسره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا يراها الإنسان في النوم العادي العارض له في يومه وليلته بل هو حال يشبه الإغماء تسكن فيه حواس الإنسان النبي فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثم يسدده الله سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنه من جانب الله سبحانه لا من تصرف الشيطان.
  وأما التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنه بسمع القلب دون سمع الحس ، وليس من قبيل الخطور الذهني الذي لا يسمى سمع صوت إلا بنحو من المجاز البعيد ، ولذلك ترى أن الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت والنكت في القلب ، وتسميه مع ذلك تحديثاً وتكليماً فالمحدث يسمع صوت الملك في تحديثه ويعيه بسمعه نظير

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 221 _
  ما نسمعه ويسمعه من الكلام المعتاد والأصوات المسموعة في عالم المادة غير أنه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره ، ولذا كان أمراً قلبياً .
  وأما علمه بأن ما حدث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من الله سبحانه وتسديد كما يشير إليه ما في رواية محمد بن مسلم المتقدمة : أنه يعطي السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك ، وذلك أن النزغة الشيطانية إما باطل في صورته الباطلة عند الإنسان المؤمن فظاهر أنه ليس من حديث الملائكة المكرمين الذين لا يعصون الله ، وأما باطل في صورة حق وسيستتبع باطلاً فالنور الإلهي الذي يلازم العبد المؤمن يبين حاله ، قال تعالى : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام ـ 122 ، والنزغة والوسوسة مع ذلك كله لا تخلو عن اضطراب في النفس وتزلزل في القلب كما أن ذكر الله وحديثه لا ينفك عن الوقار وطمأنينة الباطن ، قال تعالى : ( ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ ) آل عمران ـ 175 ، وقال : ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد ـ 28 ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) الاعراف ـ 201 ، فالسكينة والطمأنينة عندما يلقى إلى الإنسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقائاً رحمانياً كما أن الاضطراب والقلق دليل على كونه إلقاءً شيطاناً ، ويلحق بذلك العجلة والجزع والخفة ونحوها.
  وأما ما في الروايات من أن المحدث يسمع الصوت ولا يعاين الملك فمحمول على الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أن الملاك في كون الإنسان محدثاً أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية فإن اتفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لأنه محدث وذلك لأن الآيات صريحا في رؤية بعض المحدثين للملائكة حين التحديث كقوله تعالى في مريم : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا الآيات ) مريم ـ 19 ، وقوله تعالى ـ في زوجة إبراهيم في قصة البشارة ـ : ( وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ ـ إلى إن قال ـ :وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) هود ـ 73.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 222 _
  وهيهنا وجه آخر : وهو أن يكون المراد بالمعاينة المنفية معاينة حقيقة الملك في نفسه دون مثاله الذي يتمثل به فإن الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر .
  وهيهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم : وهو أن المنفي من المعاينة الوحي التشريعي بأن يظهر للمحدث فيلقي إليه حكماً شرعياً وذلك صون من الله لمقام المشرعين من أنبيائه ورسله ، ولا يخلو عن بعد .
  (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ).
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ) ، الفاء للتفريع ، وهو تفريع المباهلة على التعليم الإلهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم ( عليهما السلام ) مع ما أكده في ختمه بقوله : الحق من ربك فلا تكن من الممترين، والضمير في قوله فيه راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة.
  وقد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بياناً إلهياً لا يرتاب فيه مشتملاً على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية ، فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضاً ، ولذلك كان يشمل أثره رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وغيره من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحياً إلهياً لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهاناً يناله العقل السليم ، ولعله لذلك قيل من

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 223 _
  بعد ما جائك من العلم ولم يقل من بعد ما بيناه لهم .
  وهيهنا نكتة اخرى وهي أن في تذكيره ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالعلم تطييباً لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله ، وأن ربه ناصره وغير خاذله البتة.
  قوله تعالى : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ) ، المتكلم مع الغير في قوله : ندع ، غيره في قوله : أبنائنا ونسائنا وأنفسنا فإنه في الأول مجموع المتخاصمين من جانب الإسلام والنصرانية ، وفي الثاني وما يلحق به من جانب الإسلام ، ولذا كان الكلام في معنى : ( قولنا ندع الأبناء والنساء ) والأنفس فندعو نحن أبنائنا ونسائنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبنائكم ونسائكم وأنفسكم ، ففي الكلام إيجاز لطيف .
  والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله وبين رجال النصارى لكن عممت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطمينان الداعي بصدق دعواه وكونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم والشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه ، ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم ، وفي سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذبّ عنهم ، ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم.
  ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين : أن المراد بقوله : ( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) ( الخ ) ندع نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم ، وتدعوا أنتم أبنائنا ونسائنا وأنفسنا. وذلك لإبطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الأبناء والنساء في المباهلة.
  وفي تفصيل التعداد دلالة اخرى على اعتماد الداعي وركونه إلى الحق ، كأنه يقول : ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن والعذاب الأبناء والنساء والأنفس فينقطع بذلك دابر المعاندين ، وينبت أصل المبطلين.
  وبذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الأبناء ولا على كثرة النساء ولا على كثرة الأنفس فإن المقصود الأخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير وكبير ، وذكور وإناث ، وقد أطبق المفسرون واتفقت الرواية وأيده التاريخ : أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا على وفاطمة والحسنان ( عليهم السلام ) فلم يحضر لها إلا نفسان وابنان وامرأة واحدة وقد امتثل أمر الله سبحانه فيها .
  على أن المراد من لفظ الآية أمر ، والمصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 224 _
  الخارج أمر آخر ، وقد كثر في القرآن الحكم أو الوعد والوعيد للجماعة ، ومصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى : ( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ) الآية المجادلة ـ 2 ، وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ) المجادلة ـ 3 ، و قوله تعالى : ( لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) آل عمران ـ 181 ، وقوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة ـ 219 ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع ومصداقها بحسب شأن النزول مفرد .
  قوله تعالى : ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، الابتهال من البهلة بالفتح والضم وهي اللعنة ، هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء والمسألة إذا كان مع إصرار وإلحاح.
  وقوله : فنجعل لعنة الله ، كالبيان للابتهال ، وقد قيل : فنجعل ، ولم يقل ، فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق التوقف والابتناء.
  وقوله : الكاذبين مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وبين النصارى حيث قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إن الله لا إله غيره وإن عيسى عبده ورسوله ، وقالوا : إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله أو إن الله ثالث ثلاثة .
  وعلى هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى والمباهلة عليها بين النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وبين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفرداً والطرف الآخر جمعاً كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد والجمع معاً كقولنا : فنجعل لعنة الله على من كان كاذباً فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة والمباهلة على أي حال إما في جانب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وإما في جانب النصارى ، وهذا يعطى أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهم علي وفاطمة والحسنان ( عليهم السلام ) شركة في الدعوى والدعوة مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 225 _
  بيت نبيه ( عليهم السلام ) كما خصهم باسم الأنفس والنساء والأبناء لرسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من بين رجال الامة ونسائهم وأبنائهم.
  فان قلت : قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد وأن إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة ( عليها السلام ) فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو ؟
  قلت : إن بين المقامين فارقاً وهو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمراً جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم ، وأما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم ، ولا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ) الأحزاب ـ 37 ، وقوله تعالى : ( لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) النحل ـ 103 ، وقوله تعالى : ( إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ـ إلى أن قال :وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) الأحزاب ـ 50.
  وأمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده وهو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم يتحقق في المورد مدّعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله الكاذبين بصيغة الجمع البتة.
  فان قلت : كما أن النصارى الوافدين على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أصحاب دعوى وهي أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلاً ولا بين نسائهم وبين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهي أن الله لا إله إلا هو وأن عيسى بن مريم عبده ورسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أحضر من أحضر منهم على سبيل الانموذج لما اشتملت عليه الآية من الأبناء والنساء والأنفس ، على أن الدعوى غير الدعوة وقد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة.
  ( 3 ـ الميزان ـ 15)