( بيان )
  الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدمها بناء على ما ذكرناه في الآيات السابقة : أن المقام مقام التعرض لحال أهل الكتاب والمشركين ، والتعريض لهم ، فالمراد بالكافرين إن كان يعم أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن توليهم والامتزاج الروحي بالمشركين وبهم جميعاً ، وإن كان المراد بهم المشركين فحسب فالآيات متعرضة لهم ودعوة إلى تركهم والاتصال بحزب الله ، وحب الله وطاعة رسوله.
  قوله تعالى : ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِين ) الاولياء جمع الولي من الولاية وهي في الأصل ملك تدبير أمر الشيء فولي الصغير أو المجنون أو المعتوه هو الذي يملك تدبير امورهم وامور أموالهم فالمال لهم وتدبير أمره لوليهم ، ثم استعمل وكثر استعماله في مورد الحب لكونه يستلزم غالباً تصرف كل من المتحابين في امور الآخر لافضائه الى التقرب والتأثر عن ارادة المحبوب وسائر شؤونه الروحية فلا يخلو الحب عن تصرف المحبوب في امور المحب في حيوته .
  فاتخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحي بهم بحيث يؤدي الى مطاوعتهم والتأثر منهم في الأخلاق وسائر شؤون الحيوة وتصرفهم في ذلك ويدل على ذلك تقييد هذا النهي بقوله : من دون المؤمنين ، فان فيه دلالة على ايثار حبهم على حب المؤمنين ، والقاء أزمة الحيوة اليهم دون المؤمنين ، وفيه الركون اليهم والاتصال بهم والانفصال عن المؤمنين.
  وقد تكرر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولي الكافرين واليهود والنصارى واتخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسر معنى التولي المنهي عنه ، ويعرف كيفية الولاية المنهي عنها كاشتمال هذه الآية على قوله : من دون المؤمنين بعد قوله : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ، واشتمال قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء )الآية المائدة ـ 51 ، على قوله : بعضهم أولياء بعض ، وتعقب قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ) الآية الممتحنة ـ 1 ، بقوله : ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ) الى آخر الآيات.
  وعلى هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 152 _
  دون المؤمنين للدلالة على سبب الحكم وعلته ، وهو أن صفتي الكفر والإيمان مع ما فيهما من البعد والبينونة ولا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما في المعارف والأخلاق وطريق السلوك إلى الله تعالى وسائر شؤون الحيوة لا يلائم حالهما مع الولاية فان الولاية يوجب الاتحاد والامتزاج ، وهاتان الصفتان توجبان التفرق والبينونة ، وإذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين أوجب ذلك فساد خواص الإيمان وآثاره ثم فساد أصله ، ولذلك عقبه بقوله : ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ثم عقبه أيضاً بقوله : الا أن تتقوا منهم تقية ، فاستثنى التقية فان التقية إنما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها .
  ودون في قوله : من دون المؤمنين كأنه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة والقصور ، والمعنى : مبتدئاً من مكان دون مكان المؤمنين فإنهم أعلى مكاناًَ .
  والظاهر أن ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنو مع خصوصية الانخفاض فقولهم دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك واخفض منه كالدرجة دون الدرجة ثم استعمل بمعنى غير كقوله : ( إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ) المائدة ـ 116 ، وقوله : ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) النساء ـ 48 ، أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون من ذلك وأهون ، كذا استعمل اسم فعل كقولهم : دونك زيداً أي الزمه ، كل ذلك من جهة الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظى.
  قوله تعالى : ( وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ ) ، أي ومن يتخذهم أولياء من دون المؤمنين وإنما بدل من لفظ عام للإشعار بنهاية نفرة المتكلم منه حتى أنه لا يتلفظ به الا بلفظ عام كالتكنية عن القبائح ، وهو شائع في اللسان ، ولذلك أيضاً لم يقل : ومن يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صوتاً للمؤمنين من أن ينسب اليهم مثل هذا الفعل.
  ومن في قوله : من الله ، للابتداء ويفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزب أي ليس من حزب الله في شيء كما قال تعالى : ( وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) المائدة ـ 56 ، وكما فيما حكاه عن ابراهيم ( عليه السّلام ) من قوله : ( فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) اِبراهيم ـ 36 ، أي من حزبي ، وكيف كان فالمعنى والله أعلم : ليس من حزب الله مستقراً في شيء من الأحوال والآثار .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 153 _
  قوله تعالى : إلا أن تتقوا منهم تقية الاتقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالاً للمسبب في مورد السبب ولعل التقية في المورد من هذا القبيل.
  والاستثناء منقطع فإن التقرب من الغير خوفاً بإظهار آثار التولي ظاهراً من غير عقد القلب على الحب والولاية ليس من التولي في شيء لان الخوف والحب أمران قلبيان متبائنان ومتنافيان أثراً في القلب فكيف يمكن اتحادهما ؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع .
  وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وهي قوله تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النحل ـ 106.
  وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة ، والاعتبار العقلي يؤكده إذ لا بغية للدين ، ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته ، وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحيوة الحق ما لا يترتب على تركها ، وإنكار ذلك مكابرة وتعسف ، وسنستوفي الكلام فيها في البحث الروائي التالي ، وفي الكلام على قوله تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) النحل ـ 106.
  قوله تعالى : ويحذركم الله نفسه والى الله المصير ، التحذير تفعيل من الحذر وهو الاحتراز من أمر مخيف وقد حذر الله عباده من عذابه كما قال تعالى : ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ) أسرى ـ 57 ، وحذر من المنافقين وفتنة الكفار فقال : ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) المنافقين ـ 4 ، وقال : ( وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ ) المائدة ـ 49 ، وحذرهم من نفسه كما في هذه الآية وما يأتي بعد آيتين ، وليس ذلك إلا للدلالة على أن الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز فيهذه المعصية ، أي ليس بين هذا المجرم وبينه تعالى شيء مخوف آخر حتى يتقى عنه بشيء أو يتحصن منه بحصن ، وإنما هو الله الذي لا عاصم منه ، ولا أن بينه وبين الله سبحانه أمر مرجو في دفع الشر عنه من ولي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 154 _
  ولا شفيع ، ففي الكلام أشد التهديد ، ويزيد في اشتداده تكراره مرتين في مقام واحد ويؤكده تذييله أولاً بقوله : ( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) وثانياً بقوله : والله رؤوف بالعباد على ما سيجيء من بيانه .
  ومن جهة اخرى : يظهر من مطاوي هذه الآية وسائر الآيات الناهية عن اتخاذ غير المؤمنين أولياء أنه خروج عن زي العبودية ، ورفض لولاية الله سبحانه ، ودخول في حزب أعدائه لإفساد أمر الدين ، وبالجملة هو طغيان وإفساد لنظام الدين الذي هو أشد وأضر بحال الدين من كفر الكافرين وشرك المشركين فإن العدو الظاهر عدواته المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء والحذر ، وأما الصديق والحميم إذا استأنس مع الأعداء ودب فيه أخلاقهم وسننهم فلا يلبث فعاله إلا أن يذهب بالحومة وأهلها من حيث لا يشعرون ، وهو الهلاك الذي لا رجاء للحياة والبقاء معه .
  وبالجملة هو طغيان ، وأمر الطاغي في طغيانه الى الله سبحانه نفسه ؛ قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) الفجر ـ 14 ، فالطغيان يسلك بالطاغي مسلكاً يورده المرصاد الذي ليس به إلا الله جلت عظمته فيصب عليه سوط عذاب ولا مانع .
  ومن هنا يظهر : أن التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله : ويحذركم الله نفسه ، لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه وإفساده.
  ويدل على ما ذكرناه قوله تعالى : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ) هود ـ 113 ، وهذه آية ذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله : أنها شيبته ـ على ما في الرواية ـ فإن الآيتين ـ كما هو ظاهر للمتدبر ـ ظاهرتان في أن الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مس النار استتباعاً لا ناصر معه ، وهو الانتقام الإلهي لا عاصم منه ولا دافع له كما تقدم بيانه .
  ومن هنا يظهر أيضاً : أن في قوله : ويحذركم الله نفسه ، دلالة على أن التهديد إنما هو بعذاب مقضي قضائاً حتماً من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدال على عدم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 155 _
  حائل يحول في البين ولا عاصم من الله سبحانه وقد أوعد بالعذاب فينتج قطعية الوقوع كما يدل على مثله قوله في آيتي سورة هود فتمسكم النار وما لكم من ناصرين .
  وفي قوله : ( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) دلالة على أن لا مفر لكم منه ولا صارف له ، ففيه تأكيد التهديد السابق عليه.
  و الآيات أعني قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية وما يتبعها من الآيات من ملاحم القرآن ، وسيجيء بيانه إنشاء الله في سورة المائدة.
  قوله تعالى : ( قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) الآية نظيرة قوله تعالى : ( وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ) البقرة ـ 284 ، غير أنه لما كان الانسب بحال العلم أن يتعلق بالمخفي بخلاف الحساب فإن الانسب له أن يتعلق بالبادي الظاهر قدم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء ، وجرى بالعكس منه في آية البقرة كما قيل .
  وقد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة ـ وهو علمه بما تخفيه أنفسهم أو تبديه ـ من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام ، وليس ذلك إلا ترفعاً عن مخاطبة من يستشعر من حاله أنه سيخالف ما وصاه كما مر ما يشبه ذلك في قوله : ومن يفعل ذلك.
  وفي قوله تعالى : ( وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) مضاهاة لما مر من آية البقرة وقد مر الكلام فيه .
  قوله تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ ) ، الظاهر من اتصال السياق أنه من تتمة القول في الآية السابقة الذي أمر به النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والظرف متعلق بمقدر أي واذكر يوم تجد أو متعلق بقوله : يعلمه الله ويعلم ، ولا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم القيامة فإن هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة الى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة الى تحققه منه تعالى ، وذلك كظهور ملكه وقدرته وقوته في اليوم ، قال تعالى : ( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن ـ 16 ، وقال : ( لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) هود ـ 43 ، وقال : ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ) البقرة ـ 165 ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 156 _
  وقال : ( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار ـ 19 ، إذ من المعلوم أن الله سبحانه له كل الملك والقدرة والقوة والأمر دائما ـ قبل القيامة وفيها وبعدها ـ وإنما اختص يوم القيامة بظهور هذه الامور لنا معاشر الخلائق ظهوراً لا ريب فيه .
  ومن ذلك يظهر أن تعلق الظرف بقوله : يعلمه الله ، لا يفيد تأخر علمه تعالى بسرائر عباده من خير أو شر الى يوم القيامة.
  على أن في قوله تعالى : محضراً ، دون أن يقول : حاضراً دلالة على ذلك فإن الإحضار إنما يتم فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة ، ولا حافظ لها إلا الله سبحانه ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) سبأ ـ 21 ، وقال : ( وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ق ـ 4.
  وقوله : تجد ، من الوجدان خلاف الفقدان ، ومن في قوله : من خير ومن سوء للبيان ، والتنكير للتعميم ، أي تجد كل ما عملت من الخير وإن قل وكذا من السوء وقوله : وما عملت من سوء ، معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق والآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال ، وقد مر البحث عنها في سورة البقرة.
  قوله تعالى : ( تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) ، الظاهر أنه خبر لمبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع الى النفس ، ولو للتمني ، وقد كثر دخوله في القرآن على أن المفتوحة المشددة ، فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من الموارد.
  والأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانية ، قال الراغب في مفردات القرآن : الأمد والأبد يتقاربان ، لكن الابد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ، ولا يتقيد ، لا يقال : أبد كذا ، والأمد مدة لها حد مجهول إذا اطلق وقد ينحصر نحو أن يقال أمد كذا كما يقال زمان كذا والفرق بين الزمان والامد أن الامد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدء والغاية ولذا قال بعضهم الامد والمدى يتقاربان انتهى.
  وفي قوله تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا دلالة على أن حضور سيء العمل يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأن حضور خير العمل يسرها وإنما تود الفاصلة الزمانية بينها وبينه دون أن تود أنه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ الله فلا يسعها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 157 _
  إلا أن تحب بعده وعدم حضوره في أشق الأحوال ، وعند أعظم الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك ، قال تعالى : ( نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ الى أن قال : حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) الزخرف ـ 38.
  قوله تعالى : ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ) ذكر التحذير ثانياً يعطي من أهمية المطلب والبلوغ في التهديد ما لا يخفى ، ويمكن أن يكون هذا التحذير الثاني ناظراً الى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية ، والتحذير الأول ناظراً الى وبالها في الدنيا أو في الأعم من الدنيا والآخرة.
  وأما قوله : ( وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ) فهو ـ على كونه حاكياً عن رأفته وحنانه تعالى المتعلق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبودية والرقية ـ دليل آخر على تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف والتحذير إنما يؤتى بها لتثبيت التخويف وايجاد الإذعان بأن المتكلم ناصح لا يريد الا الخير والصلاح ، تقول : إياك أن تتعرض لي في أمر كذا فإني آليت أن لا اسامح مع من تعرض لي فيه ، انما اخبرك بهذا رأفة بك وشفقة.
  فيؤول المعنى ـ والله أعلم ـ الى مثل أن يقال : ان الله لرأفته بعباده ينهاهم قبلاً أن يتعرضوا لمثل هذه المعصية التي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن يؤثر فيه شفاعة شافع ولا دفع دافع.
  قوله تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) قد تقدم كلام في معنى الحب ، وأنه يتعلق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلق بغيره في تفسير قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ) البقرة ـ 165 الآية .
  ونزيد عليه هيهنا : أنه لا ريب أن الله سبحانه ـ على ما ينادي به كلامه ـ إنما يدعو عبده الى الإيمان به وعبادته بالإخلاص له والاجتناب عن الشرك كما قال تعالى : ( أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) الزمر ـ 3 ، وقال تعالى : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) البينة ـ 5 ، وقال تعالى : ( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) المؤمن ـ 14 ، الى غير ذلك من الآيات.
  ولا شك أن الإخلاص في الدين إنما يتم على الحقيقة إذا لم يتعلق قلب الإنسان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 158 _
  ـ الذي لا يريد شيئاًً ولا يقصد أمراً إلا عن حب نفسي وتعلق قلبي ـ بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية بل ولا مطلوب اخروي كفوز بالجنة أو خلاص من النار وإنما يكون متعلق قلبه هو الله تعالى في معبوديته ، فالإخلاص لله في دينه إنما يكون بحبه تعالى .
  ثم الحب الذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كل طالب بمطلوبه وكل مريد بمراده إنما يجذب المحب الى محبوبه ليجده ويتم بالمحبوب ما للمحب من النقص ولا بشرى للمحب أعظم من أن يبشر أن محبوبه يحبه ، وعند ذلك يتلاقى حبان ، ويتعاكس دلالان.
  فالإنسان إنما يحب الغذاء وينجذب ليجده ويتم به ما يجده في نفسه من النقص الذي آتيه الجوع ، وكذا يحب النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الذي علامته الشبق وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الانس وله يضيق صدره ، وكذا العبد يحب مولاه والخادم ربما يتوله لمخدومه ليكون مولى له حق المولوية ، ومخدوماً له حق المخدومية ، ولو تأملت موارد التعلق والحب أو قرأت قصص العشاق والمتولهين على اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه.
  فالعبد المخلص لله بالحب لا بغية له إلا أن يحبه الله سبحانه كما أنه يحب الله ويكون الله له كما يكون هو لله عز اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أن الله سبحانه لا يعد في كلامه كل حب له حباً ( والحب في الحقيقة هو العلقة الرابطة التي تربط أحد الشيئين بالآخر ) على ما يقضي به ناموس الحب الحاكم في الوجود فإن حب الشيء يقتضي حب جميع ما يتعلق به ، ويوجب الخضوع والتسليم لكل ما هو في جانبه ، والله سبحانه هو الله الواحد الأحد الذي يعتمد عليه كل شيء في جميع شئون وجوده ويبتغي اليه الوسيلة ويصير اليه كل ما دق وجل ، فمن الواجب أن يكون حبه والإخلاص له بالتدين له بدين التوحيد وطريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك الإنسان وشعوره ، وإن الدين عند الله الإسلام وهذا هو الدين الذي يندب اليه سفرائه ، ويدعو اليه أنبيائه ورسله ، وخاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه ، وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوة كما يختم بصادعه الانبياء ( عليهم السلام ) وهذا الذي ذكرناه مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه تعالى .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 159 _
  وقد عرف النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد ، وطريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف ـ 108 ، فذكر أن سبيله الدعوة الى الله على بصيرة والإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة وإخلاص ، واتباعه واقتفاء أثره إنما هو في ذلك فهو صفة من اتبعه.
  ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ) الجاثية ـ 18 ، وذكر أيضاً أنه إسلام لله حيث قال : ( فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) آل عمران ـ 20 ، ثم نسبه إلى نفسه وبين أنه صراطه المستقيم فقال : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه ) الانعام ـ 153 ، فتبين بذلك كله أن الإسلام ( وهو الشريعة المشرعة للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الذي هو مجموع المعارف الأصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحيوة ) هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحب ، فهو دين الإخلاص ، وهو دين الحب.
  ومن جميع ما تقدم على طوله يظهر معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، أعني قوله : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) فالمراد ـ والله أعلم ـ إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب الذي ممثله الإخلاص والإسلام وهو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى ، فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن أحبكم الله وهو أعظم البشارة للمحب ، وعند ذلك تجدون ما تريدون ، وهذا هو الذي يبتغيه محب بحبه ، هذا هو الذي تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها .
  وأما بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء وارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعي في تحققها تحقق الحب بين الإنسان وبين من يتولى كما تقدم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتباع النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إن كانوا صادقين في دعويهم ولاية الله وأنهم من حزبه فان ولاية الله لا يتم باتباع الكافرين في أهوائهم ( ولا ولاية إلا باتباع ) وابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عز ومال بل تحتاج إلى اتباع نبيه في دينه كما قال تعالى : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 160 _
  الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) الجاثية ـ 19 ، انظر إلى الانتقال من معنى الاتباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية.
  فمن الواجب على من يدعي ولاية الله بحبه أن يتبع الرسول حتى ينتهى ذلك إلى ولاية الله له بحبه .
  وإنما ذكر حب الله دون ولايته لأنه الأساس الذي تبتنى عليه الولاية ، وإنما اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأن ولاية النبي والمؤمنين تؤول بالحقيقة إلى ولاية الله.
  قوله تعالى : ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الرحمة الواسعة الإلهية وما عنده من الفيوضات المعنوية والصورية غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده وأصنافهم ، ولا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته ، ولا سبيل يلزمه على الإمساك إلا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره ، قال تعالى : ( وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ) أسرى ـ 20.
  والذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامة القرب والزلفى وجميع الامور التي هي من توابعها كالجنة وما فيها ، وإزالة رينها عن قلب الإنسان ومغفرتها وسترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة والدخول في دار الكرامة ، ولذلك عقب قوله : يحببكم الله بقوله : ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ، فإن الحب كما تقدم يجذب المحب إلى المحبوب ، وكما كان حب العبد لربه يستدعي منه التقرب بالإخلاص له وقصر العبودية فيه كذلك حبه تعالى لعبده يستدعي قربه من العبد ، وكشفه حجب البعد وسبحات الغيبة ، ولا حجاب إلا الذنب فيستدعى ذلك مغفرة الذنوب ، وأما ما بعده من الكرامة والإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدم آنفاً.
  والتأمل في قوله تعالى : ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) المطففين ـ 15 ، مع قوله تعالى فيهذه الآية : ( يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) كاف في تأييد ما ذكرناه.
  قوله تعالى : ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن ) ، لما كانت الآية السابقة تدعو إلى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 161 _
  اتباع الرسول ، والاتباع وهو اقتفاء الأثر لا يتم إلا مع كون المتبع ( اسم مفعول ) سالك سبيل ، والسبيل الذي يسلكه النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إنما هو الصراط المستقيم الذي هو لله سبحانه ، وهو الشريعة التي شرعها لنبيه وافترض طاعته فيه كرر ثانياً في هذه الآية معنى اتباع النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في قالب الإطاعة إشعاراً بأن سبيل الإخلاص الذي هو سبيل النبي هو بعينه مجموع أوامر ونواه ودعوة وإرشاد فيكون اتباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله ورسوله في الشريعة المشرعة.
  ولعل ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأن الأمر واحد ، وذكر الرسول معه سبحانه لان الكلام في اتباعه.
  ومن هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية : أن المعنى : أطيعوا الله في كتابه والرسول في سنته .
  وذلك أنه مناف لما يلوح من المقام من أن قوله : ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ( إلخ) كالمبين لقوله : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ) على أن الآية مشعرة بكون إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة ، ولذا لم يكرر الأمر ، ولو كان مورد الإطاعة مختلفاً في الله ورسوله لكان الأنسب أن يقال : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) كما في قوله تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء ـ 59 ، كما لا يخفى .
  واعلم أن الكلام فيهذه الآية من حيث إطلاقها ومن حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة.
  قوله تعالى : ( فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) ، فيه دلالة على كفر المتولي عن هذا الأمر كما يدل على ذلك سائر آيات النهي عن تولي الكفار وفيه أيضاً إشعار بكون هذه الآية كالمبينة لسابقتها حيث ختمت بنفي الحب عن الكافرين بأمر الإطاعة ، وقد كانت الآية الاولى متضمنة لإثبات الحب للمؤمنين المنقادين لأمر الاتباع فافهم ذلك.
  وقد تبين من الكلام في هذه الآيات الكريمة أُمور :
  أحدها : الرخصة في التقيه في الجملة.
  وثانيها : أن مؤاخذة تولي الكفار والتمرد عن النهي فيه لا يتخلف البتة .
  ( 3 ـ الميزان ـ 11 )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 162 _
  وهي من القضاء الحتم.
  وثالثها : أن الشريعة الإلهية ممثلة للإخلاص لله والإخلاص له ممثل لحب الله سبحانه ، وبعبارة أُخرى الدين الذي هو مجموع المعارف الإلهية والامور الخلقية والأحكام العملية على ما فيها من العرض العريض لا ينتهي بحسب التحليل إلا إلى الإخلاص فقط ، وهو وضع الإنسان ذاته وصفات ذاته ( وهي الأخلاق ) وأعمال ذاته وأفعاله على أساس أنها لله الواحد القهار ، والإخلاص المذكور لا يحلل إلا إلى الحب هذا من جهة التحليل ومن جهة التركيب ينتهي الحب إلى الإخلاص والإخلاص إلى مجموع الشريعة ، كما أن الدين بنظر آخر ينحل إلى التسليم والتسليم إلى التوحيد.
  ورابعها : أن تولي الكافرين كفر والمراد به الكفر في الفروع دون الاصول ككفر مانع الزكوة وتارك الصلوة ، ويمكن أن يكون كفر المتولي بعناية ما ينجر إليه أمر التولى على ما مر بيانه ، وسيأتي في سورة المائدة.

( بحث روائي )
  في الدر المنثور في قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية ، أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وقد بطنوا بنفر من الانصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خثيمة لاولئك النفر اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود ، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى اولئك النفر فأنزل الله : ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ إلى قوله وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).
  أقول : الرواية لا تلائم ظاهر الآية لما تقدم أن الكافرين في القرآن غير معلوم الإطلاق على أهل الكتاب ، فأولى بالقصة أن تكون سبباً لنزول الآيات الناهية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء دون هذه الآيات.
  وفي الصافى في قوله تعالى : إلا أن تتقوا منهم تقية الآية ، عن كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) في حديث : وأمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 163 _
  وإياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك ، وأن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك ، معرض لزوال نعمك ونعمهم ، مذلهم في أيدى أعداء دين الله وقد أمرك الله بإعزازهم .
  وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) قال كان رسول الله يقول : لا دين لمن لا تقية له ، ويقول : قال الله : إلا أن تتقوا منهم تقية .
  وفي الكافي عن الباقر ( عليه السّلام ) : التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم وقد أحل الله له .
  اقول : والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جداً ربما بلغت حد التواتر ، وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع .
  وفي معاني الأخبار عن سعيد بن يسار قال : قال لي أبو عبد الله : هل الدين إلا الحب ؟ إن الله عز وجل يقول : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ).
  اقول : ورواه في الكافي عن الباقر ( عليه السّلام ) وكذا القمى والعياشي في تفسيريهما عن الحذاء عنه عليه السلام ، وكذا العياشي في تفسيره عن بريد عنه ( عليه السّلام ) ، وعن ربعي عن الصادق ( عليه السّلام ) ، والرواية تؤيد ما أوضحناه في البيان المتقدم.
  وفي المعاني عن الصادق ( عليه السّلام ) قال : ما أحب الله من عصاه ثم تمثل بقوله :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه      هـذا لعمري في الفعال iiبديع
لـو كان حبك صادقاً iiلأطعته      إن الـمحب لمن يحب iiمطيع
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السّلام ) في حديث قال : ومن سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله وليتبعنا : ألم يسمع قول الله عز وجل لنبيه : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله : ويغفر لكم ذنوبكم ؟ الحديث.
  اقول : وسيأتي بيان كون اتباعهم اتباع النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الكلام على قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء ـ 59.
  وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 164 _
  من رغب عن سنتي فليس مني ثم تلا هذه الآية : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) إلى آخر الآية.
  وفيه أيضاً أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن يحب على شيء من الجور ، ويبغض على شيء من العدل ، وهل الدين إلا الحب والبغض في الله ؟ قال الله تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ).
  وفيه أيضاً أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن أبى رافع عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : لا ألقين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه.
  ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ـ 34.
  ( بيان )
  افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حق القول فيها ، والاحتجاج على أهل الكتاب فيها وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب.
  قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا ) إلى آخر الآية ، الاصطفاء كما مر بيانه في قوله تعالى : ( لَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ) البقرة ـ 130 ، أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار ، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام ، وهو جرى العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له .
  لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين ، ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال : من العالمين ، وأفاد اختصاص الإسلام بهم واختل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 165 _
  معنى الكلام ، فالاصطفاء على العالمين ، نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.
  ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ) آل عمران ـ 42 ، حيث فرّق بين الاصطفائين فالاصطفاء غير الاصطفاء.
  وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحاً ، فأما آدم فقد اصطفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة ـ 30 ، وأول من فتح به باب التوبة.
  قال تعالى : ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) طه ـ 122 ، وأول من شرّع له الدين ، قال تعالى : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ) الآيات طه ـ 123 ، فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره ، ويا لها من منقبة له ( عليه السّلام ).
  وأما نوح فهو أول الخمسة اولى العزم صاحب الكتاب والشريعه كما مر بيانه في تفسير قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ ) البقرة ـ 213 ، وهو الأب الثاني لهذا النوع ، وقد سلم الله تعالى عليه في العالمين ، قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافات ـ 79.
  ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين ، والآل خاصة الشيء ، قال الراغب في المفردات : الآل قيل مقلوب عن الأهل ، ويصغر على أُهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة ، يقال آل فلان ولا يقال : آل رجل وآل زمان كذا أو موضع كذا ، ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل ، يقال آل الله وآل السلطان ، والأهل يضاف إلى الكل ، يقال : أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا ، وبلد كذا وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغر أُويلاً ، ويستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصاً ذاتياً إما بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة ، فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت.
  فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 166 _
  والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته وسيدهم محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى ( عليه السّلام ) ، وعلى أي تقدير هو من ذرية إبراهيم وكذا آله وقد أُخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم.
  وقد قال الله تعالى فيما قال : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء ـ 54 ، والآية في مقام الإنكار على بني إسرائيل وذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتف بها من الآيات ، ومن ذلك يظهر أن المراد من آل ابراهيم فيها غير بني إسرائيل أعني غير إسحق ويعقوب وذرية يعقوب وهم ( أي ذرية يعقوب ) بنو إسرائيل فلم يبق لآل ابراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل ، وفيهم النبي وآله.
  على أنا سنبين إنشاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأنه داخل في آل ابراهيم بدلالة الآية.
  على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) الآية آل عمران ـ 68 ، وقوله تعالى : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ـ إلى أن قال ـ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ) الآيات البقرة ـ 129.
  فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسمعيل ، والآية ليست في مقام الحصر فلا تنافى بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسمو شأنهم وعلو مقامهم ، وهي آيات متكثرة جداً لا حاجة إلى إيرادها ، فإن إثبات الشيء لا يستلزم نفى ما عداه.
  وكذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 167 _
   إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) الجاثية ـ 16 ، كل ذلك ظاهر .
  ولا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين ولا تفضيل غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة دنيوية أو اخروية على من دونهم من الناس ، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافى بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم ، وهو ظاهر .
  ولا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل الله النبيين على سائر العالمين وفضل بعضهم على بعض ، قال تعالى : ( وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) الأنعام ـ 86 ، وقال أيضاً : ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ) أسرى ـ 55.
  وأما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنة عمران ، وقد تكرر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم ، ولم يرد ذكر عمران أبي موسى حتى في موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه ، وهذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم ( عليها السلام ) وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى ( عليهما السلام ) أو هما وزوجة عمران.
  وأما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم .
  قوله تعالى : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) ؛ الذرية في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثم استعملت في مطلق الأولاد ، وهو المعنى المراد في الآية ، وهي منصوبة عطف بيان .
  وفي قوله : بعضها من بعض دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتديء وينتهي من البعض الآخر واليه.
  ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته ، وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 168 _
  في الأفعال الإلهية ، ومنها الاصطفاء الذي هو منشأ خيرات هامة في العالم.
  قوله تعالى : ( وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم عليم بباطن ضمائرهم ، وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم ، كما أن قوله : ذرية بعضها من بعض ، بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة فالمحصل من الكلام : ( ان الله اصطفى هؤلاء على العالمين ) ، وإنما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنهم ذرية متشابهة الأفراد ، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحق : ( وإنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنه سميع عليم ) يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم .
  ( بحث روائي )
  في العيون في حديث الرضا مع المأمون : فقال المأمون : هل فضل الله العترة على سائر الناس ؟ فقال أبو الحسن : إن الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه فقال المأمون أين ذلك في كتاب الله فقال له الرضا ( عليه السّلام ) في قوله إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض الحديث.
  وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر ( عليهما السلام ) : من زعم أنه فرغ من الأمر فقد كذب لأن المشية لله في خلقه ، يريد ما يشاء ويفعل ما يريد ، قال الله : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، آخرها من أولها وأولها من آخرها فإذا أُخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن وكان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما أُخبرتم عنه.
  أقول : وفيه دلالة على ما تقدم في البيان السابق من معنى قوله : ذرية بعضها من بعض الآية.
  وفيه أيضاً عن الباقر ( عليه السّلام ) : أنه تلا هذه الآية فقال : نحن منهم ونحن بقية تلك العترة.
  أقول : قوله ( عليه السّلام ) ونحن بقية تلك العترة ، العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الذي يعتمد عليه الشيء ، ومنه العترة للأولاد و الأقارب الأدنين ممن مضى ، وبعبارة اخرى العمود المحفوظ في العشيرة ، ومنه يظهر أنه ( عليه السّلام ) استفاد من قوله

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 169 _
  تعالى ذرية بعضها من بعض ، أنها عترة محفوظة آخذة من آدم الى نوح الى آل إبراهيم وآل عمران ، ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهي إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء.
  ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء * فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ) 41 ـ آل عمران .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 170 _
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ، النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب و التحرير هو الاطلاق عن وثاق ، ومنه تحرير العبد عن الرقية ، وتحرير الكتاب كأنه إطلاق للمعاني عن محفظة الذهن والفكر .
  والتقبل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبل الهدية وتقبل الدعاء ونحو ذلك.
  وفي قوله : ( قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي ) ، دلالة على أنها إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملاً ، وأن حملها كان من عمران ، ولا يخلو الكلام من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حياً عندئذ وإلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضاً ما سيأتي من قوله تعالى : ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ )الآية آل عمران ـ 44 ، على ما سيجيء من البيان.
  ومن المعلوم أن تحرير الأب أو الام للولد ليس تحريراً عن الرقية وإنما هو تحرير عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه ، وإذا كان التحرير منذوراً لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه ، أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لولا التحرير ، وقد قيل : إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملأنه في منافعهما : ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الإقامة والرواح فإن أحب أن يقيم أقام ، وإن أحب الرواح ذهب لشأنه .
  وفي الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا اناث حيث إنها تناجى ربها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث : تقول نذرت لك ما في بطني محرراًًً من غير أن تقول مثلاً إن كان ذكراً ونحو ذلك.
  وليس تذكير قوله ، محرراًً ، ً من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التي يستوي فيه المذكر والمؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكراً أو انثى لم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 171 _
  يكن وجه لما قالتها تحزناً وتحسراً لما وضعتها : رب إني وضعتها انثى ، ولا وجه ظاهر لقوله تعالى : والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى ، على ما سيجيء بيانه .
  وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتماداً على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكل ذلك ظن ، والظن لا يغني من الحق شيئاًً ، وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلا مع إبطاله ، وقد قال تعالى : ( اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ) الرعد ـ 8 ، وقال تعالى : ( عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ) لقمان ـ 34 ، فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى ، وقال تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى ) الجن ـ 27 ، فجعل علم غيره بالغيب منتهياً إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهى بوجه إلى الوحي ، ولذلك لما تبينت أن الولد انثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانياً عن جزم وقطع : وإنى اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرية ولا سبيل إلى العلم به ظاهراً .
  ومفعول قولها : فتقبل مني ، وإن كان محذوفاً محتملا لأن يكون هو.
  نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن ، لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرر.
  قوله تعالى : فلما وضعتها قالت : ( رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى ) ، في وضع الضمير المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف ، والمعنى فلما وضعت ما في بطنها وتبينت أنه انثى قالت : رب إنى وضعتها انثى ، وهو خبر اريد به التحسر والتحزن دون الإخبار وهو ظاهر .
  قوله تعالى : ( وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ) ، جملتان معترضتان وهما جميعاً مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران ، ولا أن الثانية مقولة لها والاولى مقولة لله.
  أما الاولى فهي ظاهرة لكن لما كانت قولها : رب إني وضعتها انثى ، مسوقاً لإظهار التحسر كان ظاهر قوله : والله أعلم بما وضعت ، أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 172 _
  انثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه وأرضى طريق ، ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها انثى لم تتحسر ولم تحزن ذاك التحسر والتحزن والحال أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكناً أن يصير مثل هذا الانثى التي وهبناها لها ، ويترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الانثى فإن غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبياً مبرئاً للأكمه والأبرص ومحيياً للموتى لكن هذه الانثى ستتم به كلمة الله وتلد ولداً بغير أب ، وتجعل هي وابنها آية للعالمين ، ويكلم الناس في المهد ، ويكون روحاً وكلمة من الله ، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الانثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى ( عليهما السلام ).
  ومن هنا يظهر : أن قوله : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ) ، مقول له تعالى لا لامرأة عمران ، ولو كان مقولاً لها لكان حق الكلام ان يقال : وليس الانثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإن من كان يرجو شيئاًً شريفاً أو مقاماً عالياً ثم رزق ما هو أخس منه واردأ إنما يقول عند التحسر ، ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه وأبتغيه ، أو ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه ، ولا يقول : ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي رزقته البتة ، وظهر من ذلك أن اللام في الذكر والانثى معا أو في الانثى فقط للعهد .
  وقد أخذ أكثر المفسرين قوله : وليس الذكر كالانثى ، تتمة قول امرأة عمران ، وتكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الانثى بما لا يرجع إلى محصل ، من أراده فليرجع إلى كتبهم .
  قوله تعالى : ( وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) ، معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل ، ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع ، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكراً محرراًً للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدتها بالتسمية للعبادة والخدمة.
  فقولها : وإنى سميتها مريم بمنزلة أن تقول : إني جعلت ما وضعتها محررة لك ، والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى : ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ) الآية.
  ثم أعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمى.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 173 _
  والكلام في قولها : وذريتها ، من حيث أنه قول مطلق من شرط وقيد لا يصح انتفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإنسان من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه ، نظير الكلام في قولها : رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً ، ً على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً ثم لما حملت وتوفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ، ثم لما وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت ، وسمتها مريم ( العابدة ، الخادمة ) وأعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى .
  قوله تعالى : ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ) ، القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا ، فالكلام في معنى قولنا : فتقبلها ربها تقبلاً فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام ، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.
  وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله : فتقبلها إلى قوله : حسناً الجملتان في قولها : وإنى سميتها إلى قولها : الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله : فتقبلها ربها بقبول حسن ، قبولاً لقولها وإنى سميتها مريم ، وقوله : ( وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ) ، قبولاً وإجابة لقولها : وإنى اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ، فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر ، وإعطاء الثواب الاخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم ومحررة فيعود معناه إلى اصطفائها ( وقد مر أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه ) فافهم ذلك.
  والمراد بإنباتها نباتاً حسناً إِعطاء الرشد والزكاة لها ولذريتها ، وإفاضة الحيوة لها ولمن ينمو منها من الذرية حيوة لا يمسها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته ، وهو الطهارة.
  وهذان أعني القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء ، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما اللذان يشير اليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ ) الآية وسنوضحه بياناً إنشاء الله العزيز

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 174 _
  فقد تبين أن اصطفاء مريم وتطهيرها إنما هما استجابة لدعوة امها كما أن اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى ، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى : وليس الذكر كالانثى .
  قوله تعالى : ( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ) ، وانما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفلها ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى : ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) ، الآية.
  قوله تعالى : ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ) ( الخ ) ، المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت ، قال الراغب : ومحراب المسجد ، قيل : سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ، وقيل : سمي بذلك لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريباً ( أي سليباً ) من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر ، وقيل الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمي صدره به وقيل : بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمى صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد ، وكأن هذا أصح ، قال عز وجل : يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ، انتهى.
  وذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح ، وهو مقصورة في مقدم المعبد ، لها باب يصعد إليه بسلم ذى درجات قليلة ، ويكون من فيه محجوباً عمن في المعبد.
  أقول : واليه ينتهي اتخاذ المقصورة في الاسلام.
  وفي تنكير قوله : رزقاً إشعار بكونه رزقاً غير معهود كما قيل : إنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، ويؤيده أنه لو كان من الرزق المعهود ، وكان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خالياً من الرزق بل كان عندها رزق ما دائماً لم يقنع زكريا بقولها : هو من عند الله : ( إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ ) ( الخ ) في جواب قوله : يا مريم أنى لك هذا ، لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان يختلف الى المسجد لغرض حسن أو سيئ.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 175 _
  على أن قوله تعالى : ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ) ( الخ ) ، يدل على أن زكريا تلقى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرية طيبة ، فقد كان الرزق رزقاً يدل بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة ، ومما يشعر بذلك قوله تعالى : قال يا مريم ( الخ ) على ما سيجيء من البيان.
  وقوله : ( قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ ) ( الخ ) فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله : وجد عندها رزقاً ، يدل على أنه ( عليه السّلام ) إنما قال لها ذلك مرة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أن ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربه ذرية طيبة .
  قوله تعالى : ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) ( الخ ) طيب الشيء ملائمته لصاحبه فيما يريده لأجله ، فالبلد الطيب ما يلائم حيوة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك ، قال تعالى : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف ـ 58 ، والعيشة الطيبة والحيوة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها بعضاً ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد الصالح لأبيه مثلاً الذي يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والامنية فقول زكريا ( عليه السّلام ) : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ، لما كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطراً وكرامة ، فكون ذريته طيبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصية في نفسها ، ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله ، ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى ( عليهما السلام ) ، وأجمع الناس لما عند عيسى وامه مريم الصديقة من صفات الكمال والكرامة ، ومن هنا ما سماه تعالى بيحيى وجعله مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى ( عليهما السلام ) على ما سنبينه ان شاء الله تعالى .
  قوله تعالى : فنادته الملائكة وهو قائم يصلّى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى إلى آخر الآية ، ضمائر الغيبة والخطاب لزكريا ، والبشرى والإبشار والتبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده .
  وقوله : ( أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ) ، دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب