الطبيعي كالسلسلة التي تنجر بجر الحلقة منها جميع الحلقات وهو السلسلة فأدنى تغير مفروض في ذرة من ذرات هذا العالم يوجب تغير الحال في الجميع وإن عزب عن علمنا وإدراكنا أو خفي عن إحساسنا فعدم العلم لا يستلزم عدم الوجود ، فهذا مما بينت في الأبحاث العلمية منذ القديم ، وأوضحته الأبحاث الطبيعية والرياضية اليوم أتم ايضاح ، ولقد كان القرآن ينبئنا بذلك أحسن الإنباء قبل أن نأخذ في هذه الأبحاث من فلسفيها وطبيعيها ورياضيها بالنقل عن كتب الآخرين ثم بالاستقلال في البحث ، وذلك بما يذكر من اتصال التدبير في الآيات السماوية والأرضية ، وارتباط ما بينها ، ونفع بعضها في بعض ، واشتراك الجميع في إقامة غرض الخلقة ، ونفوذ القدر في جميعها والسلوك إلى المعاد ، وأن إلى ربك المنتهى.
  وكذلك أوصاف الافعال وعناوين الأعمال مرتبطة الأطراف كارتباط الامور المتقابلة المتعاندة فلولا أحد المتعاندين لم يستقم أمر الآخر كما نشاهده من أمر الصنع والايجاد أن تكون شيء ما يحتاج إلى فساد ، آخر وسبق أمر يتوقف على لحوق آخر.
  ولو لم يتحقق أحد الطرفين من أوصاف الأعمال لم يستقم أمر الآخر في آثاره المطلوبة منه في الاجتماع الإنساني الطبيعي ، ولا في الاجتماع الإلهي الذي هو الدين الحق ، فإن الإطاعة مثلاًً حسنة لأن المعصية سيئة ، والحسنة موجبة للثواب ، لأن السيئة موجبة للعقاب ، والثواب لذيذ للعامل لأن العقاب مولم له ، واللذة سعادة مرغوب فيها لأن الألم شقاوة مهروب عنها ، والسعادة هي التي يتوجه وجوده بحسب الخلقة إليها والشقاوة هي التي يتوجه عنها ، ولولا هذه الحركة الوجودية لبطل الوجود.
  فالاطاعة ثم الحسنة ثم الثواب ثم اللذة ثم السعادة هي بحيال المعصية فالعقاب فالألم فالشقاء وإنما يظهر كل منها بخفاء ما يقابله ويحيى بموته ، وكيف يمكن أن تقع دعوة إلى شيء من غير تحذير عما يخالفه ؟ وكيف يمكن أن يكون خلافه ممكناً دون أن يكون واقعاً بما يدعو إليه من الأغراض والميول ؟
  فقد تبين من ما ذكرناه : أن الواجب في الحكمة أن يشتمل هذا العالم على الفساد كما يشتمل على الصلاح وعلى المعصية كما يشتمل على الطاعة على ما قدره الله في نظام صنعه وخلقه غير أن الكون والفساد في غير الأعمال وأوصافها ينسبان إلى الله سبحانه لأن الخلق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 102 _
  والأمر له لا شريك له .
  وقبيل السعادة من الأعمال تنسب إليه بالهداية نسبة مستقيمة وقبيل الشقاوة منها كوسوسة الشيطان وتسليط الهوى على الإنسان وتأمير الظالمين على الناس ونحو ذلك ينسب إليه تعالى بالإضلال والإخزاء والخذلان ونحوها نسبة غير مستقيمة ، وهي التي يعبر عنها بالاذن فيقال إنه تعالى اذن للشيطان أن ينزع بالوسوسة والتسويل ، ولم يمنع الإنسان أن يتبع الهوى ، ولم يضرب بين الظالم وما يريده من الظلم بحجاب لان السعادة والشقاوة مبنيتان على الاختيار ، فمن سعد فباختياره ، ومن شقي فباختياره ، ولو لا ذلك لم تتم الحجة ، ولم تجر سنة الاختيار والامتحان.
  ولم يمنع هؤلاء الباحثين عن الاسترسال في هذه المباحث إلا استيحاشهم من وخيم نتائجها بزعمهم ، فأما المجبرة منهم فزعموا أن لو قالوا بارتباط الأشياء وضرورة تأثير الأسباب واعترفوا بذلك لزمهم الايجاب في جانب الصانع تعالى وسلب قدرته المطلقة على التصرف في مصنوعاته .
  وأما غيرهم فزعموا أن لو أذعنوا بذلك في مرحلة الأعمال وأسندوها إلى إرادته وقدره تعالى لزمهم القول بالإيجاب والإجبار في جانب المصنوع وهو الإنسان ، وببطلان الاختيار يبطل الثواب والعقاب ، والتكليف والتشريع.
  مع أنهم كان يسعهم أن يستأنسوا من غير استيحاش بكلامه تعالى حيث يقول : ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) يوسف ـ 21 ويقول : ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الاعراف ـ 54 ويقول : ( لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) يونس ـ 55 ، على أنها وما يماثلها آيات تعطي البرهان في ذلك ، وقد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ) البقرة ـ 26.
  ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَات ) فنقول : الظاهر أن فاعل زين غيره تعالى وهو الشيطان أو النفس : أما أولاً فلأن المقام مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال والأولاد واستغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه ، والأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن لا ينسب إليه تعالى .
  وأما ثانياً : فلأنه لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى لكان المراد به الميل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 103 _
  الغريزي الذي للإنسان إلى هذه الامور فكان الأنسب في التعبير أن يقال : زين للإنسان أو لبني آدم ونحوها كقوله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) التين ـ 5 ، وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) الآية الأسرى ـ 70 ، وأما لفظ الناس فالأعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها شيء من إلغاء الميز أو حقاره الشخص ودناءة الفكر نحو قوله : ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ) الأسرى ـ 89 ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ) الحجرات ـ 13 وغير ذلك.
  وأما ثالثاً : فلأن الامور التي عدها تعالى بياناً لهذه الشهوات لا تناسب التزيين الفطري إذ كان الأنسب عليه أن يبدل لفظ النساء بما يؤدي معنى مطلق الزوجية ، ولفظ البنين بالأولاد ، ولفظ القناطير المقنطرة ، بالأموال فإن الحب الطبيعي موجود في النساء بالنسبة إلى الرجال كما هو موجود في الرجال بالنسبة إلى النساء ، وكذا هو مغروز في الإنسان بالنسبة إلى مطلق الأولاد ومطلق الأموال دون خصوص البنين وخصوص القناطير المقنطرة ، ولذلك اضطر القائل بكون فاعل زين هو الله سبحانه أن يقول : إن المراد حب مطلق الزوجية ومطلق الأولاد ومطلق الأموال وإنما ذكرت النساء والبنين والقناطير لكونها أقوى الأفراد وأعرفها ثم تكلف في بيان ذلك بما لا موجب له .
  واما رابعاً : فلان كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه لا يلائم قوله تعالى في آخر الآية : ذلك متاع الحيوة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أاُنبئكم بخير من ذلكم ، فإن ظاهره أنه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية وتوجيه نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان والأزواج والرضوان ، ولا معنى للصرف عن المقدمة إلى ذي المقدمة فإن في ذلك مناقضة ظاهرة وإبطالاً للأمرين معاً كالذي يريد الشبع ويمتنع عن الأكل.
  فان قلت : الآية أعني قوله : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ) ( الخ ) بحسب الملخص من معناها مساوقة لقوله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الأعراف ـ 32 ، ولازم انطباق المعنى أن يكون فاعل التزيين في هذه الآية أيضاً هو الله سبحانه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 104 _
  قلت : بين الآيتين فرق من حيث المقام : فإن المقام فيما نحن فيه : مقام ذم هذه الشهوات المحبوبة للناس لصرفها وإلهائها الناس عما لهم عند الله ، وحثهم على الاعراض عنها والتوجه إلى ما عند الله سبحانه بخلاف تلك الآية فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم زينت للإنسان وأنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا وبالاختصاص في الآخرة ، ولذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد ، وعدت هذه الزينة رزقاً طيباً .
  وان قلت : إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات ، ومن المعلوم أن تزيين الحب للإنسان وجذبه لنفسه وجلبه لقلبه أمر طبيعي وخاصة ذاتية له فيؤول معنى تزيين الحب للناس إلى جعل الحب مؤثراً في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم ، ولا ينسب الخلق إلا إلى الله سبحانه فهو الفاعل في قوله : زين.
  قلت : لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجذب الناس إلى نفسه ويصدهم عن غيره فإن الزينة هي الأمر المطلوب الجالب الذي ينضم إلى غيره ليجلب الإنسان إلى ذلك الغير بتبع جلبه إلى نفسه كما أن المرأة تتزين بضم امور تستصحب الحسن والجمال إلى نفسها ليقصدها الرجل بها فالمقصود هو بالحقيقة تلك الامور والمنتفع من هذا القصد هي المرأة ، وبالجملة فيؤول معنى تزيين الحب للناس إلى جعله في أعينهم بحيث يؤدي إلى التوله فيه والولوع في الاشتغال به لا أصل تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى : ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) مريم ـ 59 ، ويؤيد هذا المعنى ما سيأتي من الكلام في العد الواقع في قوله : من النساء والبنين والقناطير ، على أن لفظ الشهوات ربما لم يخل عن الدلالة بالشغف والولوع وإن كان بمعنى المشتهيات.
  قوله تعالى : ( مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) ( إلخ) النساء جمع لا واحد له من لفظه والبنين جمع ابن وهو ذكور الأولاد بواسطة أو بلا واسطة ، والقناطير جمع قنطار وهو ملاُ مسك ذهباً أو هو المسك المملوء ، والمقنطرة اسم مفعول مشتق من القنطار وهو جامد ، وهذا من دأبهم يعتبرون في الجوامد شيئاًً من النسب يكسب بها معنى مصدرياً ثم يشتقون منه المشتقات كالباقل والتامر والعطار لبائع البقل والتمر والعطر وفائدة توصيف الشيء بالوصف المأخوذ من لفظه تثبيت معناه له ، والتلميح إلى أنه واجد لمعنى لفظه غير فاقده كما يقال : دنانير مدنرة ودواوين

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 105 _
  مدونة ، ويقال : حجاب محجوب وستر مستور ، والخيل هو الأفراس ، والمسوّمة مأخوذة من سامت الإبل سوماً بمعى ذهبت لترعى فهي سائمة ، أو من سمت الإبل في المرعى وأسمتها وسومتها بمعنى أعلمتها فالخيل المسومة إما المرسلة للرعي أو المعلمة والأنعام جمع نعم بفتحتين وهو الإبل والبقر والغنم ، والبهائم أعم منه ويطلق على غير الوحش والطير والحشرات ، والحرث هو الزرع وفيه معنى الكسب وهو تربية النبات أو النبات المربى للانتفاع به في المعاش.
  وبناء التعداد في الآية ليس على تكثر حب الشهوات بحسب تكثر المشتهيات أعني متعلقات الشهوة بمعنى أن الإنسان بحسب طبعه يميل إلى الأزواج والأولاد والمال حتى يتكلف في توجيه التعبيرات الواقعة في الآية كالتعبير عن الإنسان بالناس والتعبير عن الأولاد بخصوص البنين ، والتعبير عن المال بالقناطير المقنطرة ( إلخ) بما تكلف به جمع من المفسرين.
  بل على كون الناس أصنافاً في الشغف والولوع بمشتهيات الدنيا فمن شهواني لا هم له إلا التعشق بالنساء وغرامهن والتقرب اليهن والانس بصحبتهن ، ويستصحب ذلك أذناباً من وجوه الفساد ومعاصي الله سبحانه كاتخاذ المعازف والأغاني وشرب المسكرات وامور أُخر غيرهما وهذا مما يختص بالرجال عادة ، ولا يوجد في النساء إلا في غاية الشذوذ ، ومن محب للبنين والتكاثر والتقوى بهم كما يوجد غالباً في أهل البدو ، ويختص أيضاً بالبنين دون البنات ، ومن مغرم بالمال أكبر همه أن يقنطر القناطير ، ويملأ المخازن من وجوه النقد ، وظهور هذا الجنون أيضاً في جمع المال إنما هو في وجوه النقد من الذهب والفضة أو ما يتقوّم بهما دون أمثال الأثاث إلا أن يراد لأجلهما بوجه ، ويوجد غالباً في الحاضر دون البادي ، أو أن المختار عنده اتخاذ الخيل المسومة كالمغرمين بالفروسة وأمثالهم أو اتخاذ الماشية من الأنعام ، أو يستحب الحرث ، وربما يجتمع البعض من هذه الثلاثة الأخيرة مع البعض وربما تفترق .
  وهذه أقسام الشهوات التي ينسل الناس إليها صنفاً صنفاً بالتعلق بواحد منها وجعله أصلاً في اقتناء مزايا الحيوة ، وجعل غيره فرعاً مقصوداً بالقصد الثاني ، وقلماً يوجد ( أو لا يوجد أصلاً ) في الناس من ساوى بين جميعها ، وقصد الجميع قصداً أولاً معتدلاً .
  وأما مثل الجاه والمقام والصدارة ونحوها فهي جميعاً امور وهمية بالحقيقة إنما

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 106 _
  تتعلق الرغبة إليها بالقصد الثاني لا يعد الالتذاذ بها التذاذاً شهوياً ، على أن الآية ليست في مقام حصر الشهوات.
  ومن هنا يتأيد ما تقدمت الإشارة إليه من أن المراد بحب الشهوات التوغل والانغمار في حبها وهو ( المنسوب إلى الشيطان ) دون أصل الحب المودع في الفطرة ( وهو المنسوب إلى الله سبحانه ).
  قوله تعالى : ( ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي هذه الشهوات امور يتمتع بها لإقامة هذه الحيوة التي هي أقرب الحيوتين منكم ( وهما الحيوة الدنيا والحيوة الاخرى ) ، والحيوة الدنيا وكذا المتاع الذي يتمتع به لها أمر فان داثر ليس لها عاقبة باقية صالحة ، وصلاح العقبى وحسن المآب إنما هو عند الله سبحانه وهو قوله تعالى : والله عنده حسن المآب.
  قوله تعالى : ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ) إلى آخر الآية الآية مسوقة لبيان قوله والله عنده حسن المآب وقد وضع فيها محل هذه الشهوات الفانية الباطلة امور هي خير للإنسان لكونها باقية وحسنة حقيقة من غير بطلان وهي امور مجانسة لهذه الشهوات في ما يريده الإنسان من خواصها وآثارها غير أنها خالية عن القبح والفساد غير صارفة للإنسان عن ما هو خير منها وهي الجنة ومطهرات الازواج ورضوان الله تعالى .
  وقد اختصت الازواج بالذكر مع كون ذكر الجنة كالمشتمل عليها لكون الوقاع أعظم اللذائذ الجسمية عند الإنسان ولذلك أيضاً قدم ذكر النساء في قوله من النساء والبنين والقناطير المقنطرة الخ.
  وأما الرضوان بكسر الراء وضمها فهو الرضا وهو أن يلائم الأمر الواقع نفس صاحبه من غير أن يمتنع منه ويدافعه ويقابله السخط.
  وقد تكرر في القرآن ذكر رضى الله سبحانه وهو منه تعالى كما يتصور بالنسبة إلى فعل عباده في باب الطاعة كذلك يتصور بالنسبة إلى غير باب الطاعة كالاوصاف والاحوال وغير ذلك إلا أن جل الموارد التي ذكر فيها أو كلها من قبيل الرضا بالطاعة ولذلك ربما قوبل بينه وبين رضا العبد فرضاه عن عبده لطاعته ورضى العبد عنه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 107 _
  لجزائه الحسن أو لحكمه كقوله تعالى : ( رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ) البينة ـ 8 ، وقوله تعالى : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) الفجر ـ 28 ، وقوله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) الآية البرائة ـ 100.
  وذكر الرضوان هيهنا أعني في عداد ما هو خير للناس من مشتهيات الحيوة الدنيا يدل على أنه نفسه من مشتهيات الإنسان أو يستلزم أمراً هو كذلك ؛ ولذلك عنى بذكره في مقابل الجنات والأزواج فيهذه الآية ، وكذا في مقابل الفضل والمغفرة والرحمة في قوله : ( فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ) المائدة ـ 2 ، وقوله : ( وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ) الحديد ـ 29 ، وقوله : ( بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ ) البرائة ـ 21.
  ولعل الذي يكشف عن هذا الذي أبهمته هذه الآية هو التدبر في المعنى الذي ذكرناه وفي قوله تعالى : ( رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ ) الآية وقوله : راضية مرضية الآية حيث علق رضاه بأنفسهم ، والرضا عن أنفسهم غير الرضا عن أفعالهم فيعود المعنى إلى أنه لا يمنعهم عن نفسه فيما يسألونه فيؤول إلى معنى قوله : ( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا ) ق ـ 35 ، ففي رضوان الله عن الإنسان المشية المطلقة للإنسان .
  ومن هنا يظهر : أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في الآية السابقة أن الإنسان يحسب أنه لو اقتناها وخاصة القناطير المقنطرة من بينها افادته إطلاق المشية وأعطته سعة القدرة فله ما يشاء ، وعنده ما يريد وقد اشتبه عليه الأمر فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شيء .
  قوله تعالى : ( وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ، لما تحصل من هذه الآية والتي قبلها : أن الله أعد للإنسان في كلتا الدارين ( الدنيا والآخرة ) نعماً يتنعم بها ومآرب اخرى مما تلتذ به نفسه كالأزواج ، وما يؤكل ويشرب ، والملك ونحوها ، وهي متشابهة في الدارين غير أن ما في الدنيا مشترك بين الكافر والمؤمن مبذول لهما معاً وما في الآخرة مختص بالمؤمن لا يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك ، وبلفظ آخر سؤال وجه المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله : ( وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ، ومعناه : أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر ليس مبنياً على العبث والجزاف

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 108 _
  تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمراً هو المستدعي لهذا الفرق والله بصير بهم يرى ما فيهم من الفرق وهو التقوى في المؤمن دون الكافر ، وقد وصف هذا التقوى وعرفه بما يلحق بهذه الآية من قوله : ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ) إلى آخر الآيتين وملخصه : أنهم يظهرون فاقتهم إلى ربهم وعدم استغنائهم عنه ، ويصدقون ذلك بالعمل الصالح ولكن الكافر يستغني عن ربه بشهوات الدنيا وينسى آخرته وعاقبة أمره.
  ومن ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى : ذلك متاع الحيوة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلك إلى آخر الآية وما في معناهما من الآيات كقوله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) الأعراف ـ 32 ، الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على ظواهر الآيات الواصفة لنعم الجنة.
  أما الاشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا العالم لا يشك في أن الأفعال الصادرة منها وأعمالها التي يعملها إنما هي متفرعة على القوى والأدوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده ويحفظ بها بقائه كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية وأن الوجود لا يستند إلى اتفاق أو جزاف أو عبث.
  فهو ذا الإنسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر تغذيه ، وإنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه وإنما يفعل ذلك ليمد وجوده للبقاء ، وأيضاً هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الأدوات والقوى الفعالة والمترتبة ليحفظ بقاء نوعه والأمر في وجود النبات والحيوان نظير الأمر في تجهيز الإنسان.
  ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها وخاصة في تسخير ذوات الشعور منها وهي الحيوان والإنسان بإبداع لذائذ في أفعالها وإيداعها في القوى لتتسابق إلى الأفعال لأجل هذه اللذائذ وهى لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها وهي بقاء الوجود وتغرها بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة ، ويلتذ الفاعل بهذه الزينة التي تغرها ويلعب بها ، فلولا ما في الغذاء والنكاح مثلاًً من اللذة لما قصدهما الإنسان مثلاًً لمجرد كونهما مقدمة للبقاء ، وبطل بذلك غرض الخلقة لكن الله سبحانه أودع

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 109 _
  فيه لذة الغذاء ولذة النكاح لا يستريح الإنسان في طريق النيل إليهما دون أن يتحمل كل تعب وعناء ويقاسي كل مصيبة وبلاء ، وهو في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور بما ليس فيه إلا الغرور ، وأما الصنع والخلقة فينال بغيته ويبلغ امنيته فإنه ما كان يريد بهذا التدبير إلا بقاء وجود الفرد وقد حصل بالتغذي ، وإلا بقاء وجود النوع وقد حصل بالنكاح والسفاد ولم يبق للإنسان مثلاً فيما كان يريده إلا الخيال.
  وإذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لأجل غرض محدود معجل فلا معنى لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض ، فلذة الأكل والشرب وجميع اللذائذ الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لأجل حفظ البدن عن آفة التحلل وفساد التركيب وهو الموت ، ولذة النكاح وجميع اللذائذ المرتبطة به وهي امور جمة إنما تقصدها الخلقة لأجل حفظ النوع من الفناء والاضمحلال ، فلو فرض للإنسان وجود لا يلحقه موت ولا فناء وحيوة مأمونة من كل شر ومكروه فأي فائدة تترتب على وجود القوى البدنية التي تعمل لأجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع ؟ وأي ثمرة يثمرها تجهيزات البدن وأعضائه كالكلي والمثانة والطحال والكبد وغيرها وجميعها إنما أوجدت لأعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد المؤبد.
  وأما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا والنعم التي تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الأرض ليقصدها الإنسان فينجذب إلى الحيوة ويتعلق بها كما قال : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ) الكهف ـ 7 ، وقال : ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الكهف ـ 46 ، وقال : ( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) النساء ـ 94 ، وقال ـ وهو أجمع للغرض ـ : ( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) طه ـ 131 ، وقال أيضاً : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) القصص ـ 60 ، إلى غير ذلك من الآيات ، وجميعها تبين أن هذه النعم الموجودة في الدنيا ، واللذائذ المتعلقة بها امور مقصودة لأجل الحيوة وأمتعة يتمتع بها لأجل الحيوة هذه الحيوة المحدودة التي لا تتعدى أياماً قلائل ، فلو لا الحيوة لما كانت هي مقصودة ولا مخلوقة ، وهذا هو حق الأمر.
  لكن يجب أن يعلم أن وجود الإنسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 110 _
  هيهنا برهة من الزمان بتحوله من طور إلى طور ، وليس ذلك إلا روحاً كائناً من بدن وعلى بدن هو مجموع هذه الأجزاء المأخوذة من هذه العناصر والقوى الفعالة فيها ، ولو فرض ارتفاع هذه الامور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود ولا بقاء أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الإنسان رأساً لا فرض عدم استمرار وجود الإنسان فافهم ذلك.
  فالإنسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفراداً ويأكل ويشرب وينكح ويتصرف في كل شيء بالأخذ والإعطاء ويحس ويتخيل ويعقل ويسر ويفرح ويبتهج وهكذا ، كل ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها وبعضها مقدمة لبعضها ، وهو السائر الدائر في مثل مسافة دورية .
  فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء وكتب عليه الخلود والدوام إما بثواب دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بابطال وجوده وإيجاد وجود باق بل بإثبات وجوده بعد ما كان متغيراً في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ نعم الدنيا لكنها باقية أو نقم ومصائب من سنخ نقم الدنيا ومصائبها وكل ذلك منكوح أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو ذلك.
  فالإنسان هو الإنسان وما يحتاج إليه ويستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه ويستكمل به من مطالبه ومقاصده وإنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء وما يلحق به .
  هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الإنسانية فيقول : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) المؤمنون ـ 16 ، انظر إلى موضع قوله : ولقد خلقنا ، والخلق هو الجمع والتركيب ، وإلى موضع قوله ثم أنشأناه ، الدال على تبديل نحو الخلق والإيجاد ، وإلى موضع قوله : ثم إنكم يوم القيامة ، والمخاطب به هو الذي أُنشئ خلقاً آخر.
  ويقول أيضاً : ( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الأعراف ـ 25 فيفيد أن حيوة الإنسان حيوة أرضية مؤلفة من نعمها ومن نقمها ، وتقدم بعض الكلام

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 111 _
  في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) الآية البقرة ـ 213.
  وقد قال تعالى في هذه النعم الأرضية : ( ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ثم قال : ( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ) الرعد ـ 26 ، فجعل نفس الحيوة الدنيا متاعاً في الآخرة يتمتع به ، وهذا من أبدع البيان ، وباب ينفتح به للمتدبر الف باب ، وفيه تصديق قول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون .
  وبالجملة الحيوة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة وهو الذي يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته وشقائه أي ما يراه فوزاً وفلاحاً لنفسه وما يراه خيبة وخسراناً فيعطي سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها وهما نعيم الجنة وعذاب النار.
  وبعبارة اخرى واضحة ، للإنسان مثلاً سعادة بحسب الطبيعة وشقاء بحسبها في بقائه شخصاً ونوعاً وهما منوطتان بفعله الطبيعي من الأكل والشرب والنكاح وقد زينت له بلذائذ مقدمية وهذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الإنسان في الاستكمال وأخذ في الفعالية بالشعور والإرادة صار نوعاً كماله هو الذي يختاره شعوره وإرادته فما لا يشعر به ولا يشائه ليس كمالاً لهذا الموجود الشاعر المريد وإن كان كمالاً طبيعياً وكذا العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به وإن كان من سعادة الطبيعة كصحة البدن والمال والولد ، ونلتذ بما نشعر به من اللذائذ وإن لم يطابق الخارج كالمريض المعتقد للصحه ونظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير كمالاً حقيقياً لهذا الإنسان وان كانت كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله سبحانه هذا الإنسان بقائاً مخلداً كانت سعادته هي التي يشائها من اللذائذ ، وشقائها هو الذي لا يشائه سواء كانت بحسب الطبيعة مقدمة أو لم يكن ، إذ من البديهي أن خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما يعلم به ويشائه ، وشره فيما يعلم به ولا يريده .
  فقد تحصل أن سعادة الإنسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحيوة في الدنيا من الأكل والشرب والنكاح وما فوق ذلك وهو الجنة ، وشقائه أن لا ينال ذلك وهو النار، قال تعالى : ( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ ) النحل ـ 31.
  قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) وصف

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 112 _
  للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة : للذين اتقوا ، فوصفهم أنهم يقولون ربنا وفيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية واسترحام منه تعالى فيما يسألونه بقولهم ، إننا آمنا ، والجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى فان المن منه تعالى بالإيمان كما قال تعالى : ( بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ) الحجرات ـ 17 بل استنجاز لما وعد الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن منهم ، قال تعالى : ( وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم ) الاحقاف ـ 31 ، ولذلك فرعوا عليه قولهم : فاغفر لنا ذنوبنا ، بفاء التفريع، وفي تأكيد قولهم بان دلالة على صدقهم وثباتهم في إيمانهم.
  والمغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به وعبده من غير استحقاق من العبد يثبت له حقاً على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار ، أو ينعمه بالجنة فإن الإيمان والاطاعة أيضاً من نعمه ولا يملك غيره تعالى منه شيئاًً الا ما جعله على نفسه من حق ، ومن الحق الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم ويقيهم عذاب النار ان آمنوا به ، قال تعالى : ( وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) الاحقاف ـ 31.
  وربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة والجنة كقوله تعالى : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ) الصف ـ 12 ، فإن في الآيتين الاخيرتين تفصيل لما اجمل في الآية الاولى من قوله : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، وهذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه ان وفقنا له .
  قوله تعالى : ( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ) إلى آخر الآية وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها تقوى من متق ، فالصبر لسبقه على بقية الخصال وإطلاقه يشمل أقسام الصبر ، وهي ثلاث : صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر عند المصيبة.
  والصدق وإن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الإنسان من قول وفعل لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر والقنوت وغيرهما وليس بمراد فالمراد به ( والله أعلم ) الصدق في القول فحسب .
  والقنوت هو الخضوع لله سبحانه ويشمل العبادات وأقسام النسك ، والانفاق هو

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 113 _
  بذل المال لمن يستحق البذل ، والاستغفار بالأسحار يستلزم قيام آخر الليل والاستغفار فيه ، والسنة تفسره بصلوة الليل والاستغفار في قنوت الوتر ، وقد ذكر الله أنه سبيل الإنسان إلى ربه كما في سورتي المزمل والدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام الليل والتهجد به : ( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ) المزمل ـ 19 ، الدهر ـ 29.
  قوله تعالى : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ ) ، أصل الشهادة هو المعاينة أعني : تحمل العلم عن حضور وحس ثم استعمل في أدائها وإظهار الشاهد ما تحمله من العلم ثم صار كالمشترك بين التحمل والتأدية بعناية وحدة الغرض فإن التحمل يكون غالباً لحفظ الحق والواقع من أن يبطل بنزاع أو تغلب أو نسيان أو خفاء فكانت الشهادة تحفظاً على الحق والواقع ، فبهذه العناية كان التحمل والتأدية كلاهما شهادة أي حفظاً وإقامة للحق ، والقسط هو العدل.
  ولما كانت الآيات السابقة أعني قوله : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاًًً إلى قوله : ( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ) ، تبين : أن الله سبحانه لا إله غيره ولا يغني عنه شيء وأن ما يحسبه الإنسان مغنياً عنه ويركن إليه في حيوته ليس إلا زينة وإلا متاعاً خلقه الله ليتمتع به في سبيل ما هو خير منه ولا ينال الا بتقوى الله تعالى ، وبعبارة أخرى : هذه النعم التي يحن إليها الإنسان مشتركة في الدنيا بين الكافر والمؤمن مختصة في الآخرة بالمؤمن أقام الشهادة في هذه الآية على أن هذا الذي بينته الآيات حق لا ينبغي أن يرتاب فيه .
  فشهد ( وهو الله عز اسمه ) على أنه لا إله إلا هو واذ ليس هناك إله غيره فليس هناك أحد يغني منه شيئاًًً من مال أو ولد أو غير ذلك من زينة الحيوة أو أي سبب من الأسباب إذ لو أغني شيء من هذه منه شيئاًً لكان الهاً دونه أو معتمداً إلى إله دونه منتهياً إليه ولا إله غيره.
  شهد بهذه الشهادة وهو قائم بالقسط في فعله ، حاكم بالعدل في خلقه إذ دبر أمر العالم بخلق الأسباب والمسببات والقاء الروابط بينها ، وجعل الكل راجعاً إليه بالسير والكدح والتكامل وركوب طبق عن طبق ، ووضع في مسير هذا المقصد نعماً لينتفع ( 3 ـ الميزان ـ 8 )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 114 _
  منها الإنسان في عاجله لآجله وفي طريقه لمقصده لا ليركن إليه ويستقر عنده فالله يشهد بذلك وهو شاهد عدل.
  ومن لطيف الأمر أن عدله يشهد على نفسه وعلى وحدته في الوهيته أي إن عدله ثابت بنفسه ومثبت لوحدانيته ، بيان ذلك : أنا إنما نعتبر في الشاهد العدالة ليكون جارياً على مستوى طريق الحيوة ملازماً لصراط الفطرة من غير أن يميل إلى إفراط أو تفريط فيضع الفعل في غير موضعه فتكون شهادته مأمونة عن الكذب والزور فملازمة الصدق والمجاراة مع صراط التكوين يوجب عدالة الإنسان فنفس النظام الحاكم في العالم والجاري بين أجزائه الذي هو فعله سبحانه هو العدل محضاً .
  ونحن في جميع الوقائع التي لا ترضى بها نفوسنا من الحوادث الكونية أو نجدها على خلاف ما نميل إليه ونطمع فيه ثم نعترض عليها ونناقش فيها إنما نذكر في الاعتراض عليه ما يظهر لنا من حكم عقولنا أو تميل إليه غرائزنا ، وجميع ذلك مأخوذة من نظام الكون ثم نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم ، فنظام الكون وهو فعل الله سبحانه هو العدل فافهم ذلك.
  ولو كان هناك إله يغني منه في شيء من الامور لم يكن نظام التكوين عدلاً مطلقاً بل كان فعل كل إله عدلاً بالنسبه إليه وفي دائرة قضائه وعمله !
  وبالجملة فالله سبحانه يشهد ، وهو شاهد عدل ، على أنه لا إله إلا هو يشهد لذلك بكلامه وهو قوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو على ما هو ، ظاهر الآية الشريفة ، فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى : ( لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ) النساء ـ 166.
  والملائكة يشهدون بأنه لا إله إلا هو ، فإن الله يخبر في آيات مكية نازلة قبل هذه الآيات بأنهم عباد مكرمون لا يعصون ربهم ويعملون بأمره ويسبحونه وفي تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره ، قال تعالى : ( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء ـ 27 ، وقال تعالى : ( وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَّبِّهِمْ ) الشورى ـ 5

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 115 _
  وأولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقية والأنفسية وقد ملات مشاعرهم ورسخت في عقولهم.
  وقد ظهر مما تقدم أولاً : أن المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية الشريفة دون شهادة الفعل وإن كانت صحيحة حقة في نفسها فإن عالم الوجود يشهد على وحدانيته في الالوهية بالنظام الواحد المتصل الجاري فيه ، وبكل جزء من أجزائه التي هي أعيان الموجودات.
  وثانياً : أن قوله تعالى : قائماًً بالقسط حال من فاعل قوله : شهد الله ، والعامل فيه شهد ، وبعبارة اخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى ولا للملائكة واولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائماًً بالقسط يشهد أن لا إله إلاّ هو والملائكة واولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هو ظاهر الآية حيث فرّقت بين قوله : لا إله إلا هو ، وقوله : قائماً بالقسط بتوسيط قوله : والملائكة واولوا العلم ، ولو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال : إنه لا إله إلا هو قائماً بالقسط والملائكة ، ومن ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعاً كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام.
  ومن أردء الاشكال ما ذكره بعضهم : أن حمل الشهادة على الشهادة الكلامية كما مر يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقفاً على صحة الوحي فإن صدق هذه الشهادة يتوقف على كون القرآن وحياً حقاً وهو متوقف عليه فيكون بياناً دورياً ، ومن هنا ذكر بعضهم : أن المراد بالشهادة هنا معنى استعاري بدعوى أن دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة واتصال النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه وإخباره تعالى بأنه واحد لا إله غيره وكذا عبادة ملائكته له وإطاعتهم لأمره ، وكذا ما يشاهده اولوا العلم من أفراد الإنسان من آيات وحدانيته بمنزلة شهادتهم على وحدانيته تعالى .
  والجواب : أن فيه خلطاً ومغالطة فإن النقل إنما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو الحس إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم ، أما لو غرض إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلاً أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أن المتواتر من الخبر أقوى أثراً وأجلى صدقاً من القضية التي أُقيم عليها برهان مؤلف من

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 116 _
  مقدمات عقلية نظرية وإن كانت يقينية وأنتجت اليقين.
  فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب والزور بصريح البرهان كانت شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين ، والله سبحانه ( وهو الله الذي لا سبيل للنقص والباطل إليه ) لا يتصور في حقه الكذب فشهادته على وحدانية نفسه شهادة حق كما أن إخباره عن شهادة الملائكة واولي العلم يثبت شهادتهم.
  على أن من أثبت له شركاء كالأصنام وأربابها فإنما يثبتها بعنوان أنها شفعاء عند الله ووسائط بينه وبين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) الزمر ـ 3 ، وكذا من اتخذ له شريكاً بالشرك الخفي من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنما يتخذه سبباً من الله غير أنه مستقل بالتأثير بعد حصوله له وبالجملة ما اتخذ له من شريك فإِنما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه ، وإذا شهد الله على أنه لم يتخذ لنفسه شريكاً أبطل ذلك دعوى من يدعي له شريكاً ، وجرى الكلام مجرى قوله : ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ) يونس ـ 18 ، فإنه إبطال لدعوى وجود الشريك بأن الله لا يعلم به في السموات والأرض ولا يخفى عليه شيء وبالحقيقة هو خبر مثل سائر الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبية والعظمة كقوله : ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يونس ـ 18 ، ونحو ذلك ، غير أنه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبراً في مورد دعوى ، والمخبر به قائم بالقسط فكان شهادة فعبر بلفظ الشهادة تفنناً في الكلام ، فيؤول المعنى إلى انه لو كان في الوجود أرباب من دون الله مؤثرون في الخلق والتدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله وشهد به لكنه يخبر أنه ليس يعلم لنفسه شريكاً فلا شريك له ، ولعلم واعترف به الملائكة الكرام الذين هم الوسائط المجرون للأمر في الخلق والتدبير لكنهم يشهدون أن لا شريك له ، ولعلم به وشهد أثره اولوا العلم لكنهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات أن لا شريك له .
  فالكلام نظير قولنا : لو كان في المملكة الفلانية ملك مؤثر في شئون المملكة وإداره امورها غير الملك الذي نعرفه لعلم به الملك وعرفه لأنه من المحال أن لا يحس بوجوده وهو يشاركه ، ولعلم به القوى المجريه والعمال المتوسطون بين العرش والرعية وكيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده وهم يحملون أوامره ويجرون أحكامه بين ما في

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 117 _
  أيديهم من الأحكام والاوامر ؟ ولعلم به العقلاء من عامة أهل المملكة ، وكيف لا وهم يطيعون أوامره وعهوده ، ويعيشون في ملكه لكن الملك ينكر وجوده ، وعمال الدولة لا يعرفونه ، وعقلاء الرعية لا يشاهدون ما يدل على وجوده ؟ فليس .
  قوله تعالى : ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، الجملة كالمعترضة الدخيلة في الكلام لاستيفاء حق معترض يفوت لولا ذكره مع عدم كونه مقصوداً في الكلام أصالة ، ومن أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جل شأنه في موارد يذكر أمره ذكراً يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى : ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يونس ـ 68 ، فقوله سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقه تعالى ، ونظيره بوجه قوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) الآية المائدة ـ 64.
  وبالجملة لما اشتمل أول الآية على شهادة الله والملائكة واولي العلم ـ بنفي الشريك كان من حق الله سبحانه على من يحكي ويخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلم ( وهو في الآية هو الله سبحانه ) وعلى من يسمع ذلك أن يوحد الله بنفي الشريك عنه فيقول لا إله إلا هو نظير ذلك قوله تعالى في قصة الافك : ( وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) النور ـ 16 ، فإن من حقه تعالى عليهم أن إذا سمعوا بهتاناً وأرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزهوا الله قبله فإنه تعالى أحق من يجب تنزيهه .
  فموضع قوله : ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حق تعظيمه ولذا تمم بالاسمين العزيز الحكيم ، ولو كان في محل النتيجة من الشهادة لكان حق الكلام أن يتمم بوصفي الوحدة والقيام بالقسط ، فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيته لأنه المتفرد بالعزة التي يمنع جانبه أن يستذل بوجود شريك له في مقام الالوهية ، والمتوحد بالحكمة التي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره وما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده.
  وقد تبين بما مر من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية ، وكذا وجه تتميمها بالاسمين : العزيز الحكيم ، والله العالم.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 118 _
( بحث روائي )
  في المجمع : في قوله تعالى : ( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُون ) الآية روى محمد بن إسحاق عن رجاله قال : لما أصاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم وقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا : يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية.
  أقول : ورواه في الدر المنثور عن ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس ، وروى ما يقرب منه القمي في تفسيره ، وقد عرفت مما تقدم : أن سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملائمة ، وأن الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة احد ، والله أعلم.
  وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) : ما تلذذ الناس في الدنيا والآخرة بلذة أكبر لهم من لذة النساء ، وهو قوله : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين الآية ثم قال : وإن أهل الجنة ما يتلذذون بشيء من الجنة أشهى عندهم من النكاح ، لا طعام ولا شراب.
  أقول : وقد استفيد ذلك من الترتيب المجعول في الآية للشهوات ثم تقديم النساء على باقي المشتهيات ثم جعل هذه الشهوات متاع الدنيا وشهوات الجنة خيرا منها .
  ومراده ( عليه السّلام ) من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنما هو الحصر الإضافي أي أن النكاح أكبر لذة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلقة بجسم الإنسان ، وأما غيرها كالتذاذ الإنسان بوجود نفسه أو التذاذ ولي من أولياء الله تعالى بقرب ربه ومشاهدة آياته الكبرى ولطائف رضوانه وإكرامه وغيرهما فذلك خارج عن مورد كلامه ( عليه السّلام ) وقد قامت البراهين العلمية على أن أعظم اللذائذ التذاذ الشيء بنعمة وجوده ، واخرى على أن التذاذ الأشياء بوجود ربها أعظم من التذاذها بنفسها .
  وهناك روايات كثيرة دالة على أن التذاذ العبد بلذة الحضور والقرب منه تعالى أكبر عنده من كل لذة ، وقد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 119 _
  روي في الكافي عن الباقر ( عليه السّلام ) : كان علي بن الحسين ( عليهما السلام ) يقول : إنه يسخي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) وهو ذهاب العلماء ، وسيجيء عدة من هذه الروايات في المواضع المناسبة لها من هذا الكتاب.
  وفي المجمع في قوله تعالى : القناطير المقنطرة عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) القنطار ملؤ مسك ثور ذهباً.
  وفي تفسير القمي قال ( عليه السّلام ) : الخيل المسومة المرعية.
  وفي الفقيه والخصال عن الصادق ( عليه السّلام ) : من قال في وتره إذا أوتر : أستغفر الله وأتوب إليه سبعين مرة وهو قائم فواظب على ذلك حتى تمضي سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار ووجبت له المغفرة من الله تعالى .
  أقول : وهذا المعنى مروي في روايات أُخر عن أئمة أهل البيت ، وهو من سنن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وروي ما يقرب منه في الدر المنثور أيضاً عن ابن جرير عن جعفر بن محمد قال من صلّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين ، وقوله ( عليه السّلام ) ووجبت له المغفرة من الله ، مستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم : فاغفر لنا ذنوبنا ، فإن في الحكاية لدعائهم من غير رد إمضائاً للاستجابة .
  ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 120 _
  إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) 25 ـ آل عمران
  ( بيان )
  الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب وهم آخر الفرق الثلاث التي تقدم أنها عرضة للكلام في هذه السورة ، وأهمهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ففيهم وفي أمرهم نزل معظم السورة واليهم يعود .
  قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام ، قد مر معنى الإسلام بحسب اللغة وكأن هذا المعنى هو المراد هيهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم بغياً بينهم فيكون المعنى : إن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده إلا به ، ولم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه ، ولم ينصب الآيات الدالة إلا له وهو الإسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد وحق العمل ، وبعبارة اخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام ، وهو وإن اختلف كما وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمراً واحداً ، وإنما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 121 _
  التضاد والتنافي ، والتفاضل بينها بالدرجات ، ويجمع الجميع أنها تسليم وإطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله.
  فهذا هو الدين الذي أراده الله من عباده وبينه لهم ، ولازمه أن يأخذ الإنسان بما تبين له من معارفه حق التبين ، ويقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرف فيها من عند نفسه وأما اختلاف أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الدين مع نزول الكتاب الإلهي عليهم ، وبيانه تعالى لما هو عنده دين وهو الإسلام له فلم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر وكون الدين واحداً بل كانوا عالمين بذلك ، وانما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر وذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الأمر وحقيقته لا بالله فإنهم يعترفون به ، ومن يكفر بآيات الله : ( فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ، يحاسبه سريعاً في دنياه وآخرته : أما في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحيوة عنه ، وأما في الآخرة فبأليم عذاب النار.
  والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا والآخرة قوله تعالى بعد آيتين : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ).
  ومما تقدم يظهر أولاً : أن المراد بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعاً واحداً لا يختلف إلا بالدرجات وبحسب استعدادات الامم المختلفة دون كونه واحداً بحسب التكوين بمعنى كونه واحداً مودعاً في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة.
  وثانياً : أن المراد بالآيات هو آيات الوحي ، والبيانات الإلهية التي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية وما يزاملها من المعارف الإلهية.
  والآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدل عليه بالبغي وهو الانتقام ، كما يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة : ( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ) الآية على تهديد المشركين والكفار ، ولعل هذا هو السبب في أنه جمع أهل الكتاب والمشركين معاً في الآية التالية في الخطاب بقوله : قل للذين اوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم ( إلخ) وفيه إشعار بالتهديد أيضاً.
  قوله تعالى : ( فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) ، الضمير في حاجوك

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 122 _
  راجع إلى أهل الكتاب وهو ظاهر والمراد به محاجتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا أن اختلافنا ليس لبغى منا بعد البيان بل إنما هو شيء ساقنا إليه عقولنا وأفهامنا واجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحق سبحانه وأن ما تراه وتدعو إليه يا محمد من هذا القبيل ، أو يقولوا ما يشابه ذلك ، والدليل على ذلك قوله : فقل : أسلمت وجهي لله ، وقوله : ( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ) أأسلمتم ، فإن الجملتين حجة سيقت لقطع خصامهم وحجاجهم لا إعراض عن المحاجة معهم.
  ومعناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها : أن الدين عند الله الإسلام لا يختلف فيه كتب الله ولا يرتاب فيه سليم العقل ، ويتفرع عليه أن لا حجة عليك في إسلامك وأنت مسلم ، فإن حاجوك في أمر الدين فقل : أسلمت وجهي لله ومن اتبعن فهذا هو الدين ولا حجة بعد الدين في أمر الدين ثم سلهم ، أأسلموا فإن أسلموا فقد اهتدوا وليقبلوا ما أنزل الله عليك وعلى من قبلك ولا حجة عليهم ولا مخاصمة بعد ذلك بينكم ، وإن تولوا فلا تخاصمهم ولا تحاجهم فلا ينبغي الخصام في أمر ضروري ، وهو أن الدين هو التسليم لله سبحانه ، وما عليك إلا البلاغ.
  وقد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب والاميين بقوله : ( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ) ، لكون الدين مشتركاً بينهم وإن اختلفوا في التوحيد و التشريك.
  وقد علق الإسلام على الوجه ـ وهو ما يستقبلك من الشيء أو الوجه بالمعنى الأخص لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواس والمشاعر إسلاماً لجميع البدن ـ ليدل على معنى الإقبال والخضوع لأمر الرب تعالى وعطف قوله : ومن اتبعن حفظاً لمقام التبعية وتشريفاً للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
  قوله تعالى : ( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ) إلى آخر الآية ، المراد بالاميين المشركين سموا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب ، وكذا كان أهل الكتاب يسمونهم كما حكاه تعالى من قوله : ( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) آل عمران ـ 75 ، والامي هو الذي لا يكتب ولا يقرء .
  وفي قوله تعالى : ( وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) دلالة.
  اولا : على النهي عن المراء والإلحاح في المحاجة فإن المحاجة مع من ينكر الضروري

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 123 _
  لا تكون إلا مرائاً ولجاجاً في البحث.
  وثانياً : على أن الحكم في حق الناس والأمر مطلقا إلى الله سبحانه ، وليس للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْء ) آل عمران ـ 128 ، وقال تعالى : ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) الغاشية ـ 23.
  وثالثاً : على تهديد أهل الكتاب والمشركين فإن ختم الكلام بقوله : ( وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ، بعد قوله : ( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ لا يخلو من ذلك ، ويدل على ذلك ما وقع من التهديد في نظير ) الآية وهو قوله تعالى : ( قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ إلى أن قال : وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) البقرة ـ 137 ، تذكر الآية أن أهل الكتاب إن تولوا عن الإسلام فهم مصرون على الخلاف ثم يهددهم بما يسلي به النبي ويطيب نفسه ، فالآية أعني قوله : ( وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ ) ، كناية عن الأمر بتخلية ما بينهم وبين ربهم ، وإرجاع أمرهم إليه ، وهو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم ويسأله لسان استعدادهم.
  ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعض المفسرين ، أن في الآية دليلاً على حرية الاعتقاد في أمر الدين وأن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإن الآية كما عرفت مسوقه لغير ذلك.
  وفي قوله : بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبودية ولم يقل : بصير بهم أو بصير بالناس ونحو ذلك إشعار بأن حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنهم عباده ومربوبون له أسلموا أو تولوا.
  قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ) إلى آخر الآية ، الكلام في الآية وإن كان مسوقاً سوق الاستيناف لكنه مع ذلك لا يخلو عن إشعار وبيان للتهديد الذي يشعر به آخر الآية السابقة فإن مضمونها منطبق على أهل الكتاب وخاصة اليهود.
  وقوله : يكفرون ، ويقتلون ، في موضعين للاستمرار ويدلان على كون الكفر بآيات الله وهو الكفر بعد البيان بغياً وقتل الأنبياء وهو قتل من غير حق ، وقتل الذين يدعون إلى القسط والعدل وينهون عن الظلم والبغي دأباً وعادة جارية فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود فقد قتلوا جمعاً كثيراً وجماً غفيراً من أنبيائهم وعبادهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكذا النصارى جروا مجريهم .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 124 _
  وقوله : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ تصريح بشمول الغضب ونزول السخط ) وليس هو العذاب الاخروي فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ( إلخ) فهم مبشرون بالعذاب الدنيوي والاخروي معاً ، أما الاخروي فأليم عذاب النار ، وأما الدنيوي فهو ما لقوه من التقتيل والإجلاء وذهاب الأموال والأنفس ، وما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة على ما تصرح به آيات الكتاب العزيز.
  وفي قوله تعالى : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) ، دلالة اولا : على حبط عمل من قتل رجلاً من جهة أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر وثانيا : على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله : وما لهم من ناصرين .
  قوله تعالى : ( } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ ) إلى آخر الآية يومي إلى تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم وأنهم يبغون باتخاذ الخلاف وإيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم يسلموا له وتولوا وأعرضوا عنه وليس ذلك إلا باغترارهم بقولهم لن تمسنا ( الخ) وبما افتروه على الله في دينهم.
  والمراد بالذين اوتوا نصيباً من الكتاب أهل الكتاب وإنما لم يقل : اوتوا الكتاب ، وقيل : اوتوا نصيباً من الكتاب ليدل على أن الذي في أيديهم من الكتاب ليس إلا نصيباً منه دون جميعه لأن تحريفهم له وتغييرهم وتصرفهم في كتاب الله أذهب كثيراً من أجزائه كما يومي إليه قوله في آخر الآية التالية : وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ، وكيف كان فالمراد ـ والله أعلم ـ أنهم يتولون عن حكم كتاب الله اعتزازاً بما قالوا واغتراراً بما وضعوه من عند أنفسهم واستغنائاً به عن الكتاب.
  قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ ) ( الخ) معناه واضح ، واغترارهم بفريتهم التي افترتها أنفسهم مع أن الإنسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنها خدعة باطلة إنما هو لكون المغرورين غير المفترين ؛ وعلى هذا فنسبة الافتراء الذي توسل إليها سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم امه واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض .
  وإما لأن الاغترار بغرور النفس والغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 125 _
  باطلة وذكر المغرور أنه هو الذي افترى ما يغتر به من الفرية ليس من أهل الكتاب ومن اليهود خاصة ببعيد ، وقد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال تعالى : ( وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) البقرة ـ 77.
  على أن الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية ، والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به كما أن المعتاد باستعمال المضرات كالبنج والدخان وأكل التراب ونحوها يستعملها وهو يعلم أنها مضرة ، وأن استعمال المضر مما لا ينبغي إلا أن الهيئة الحاصلة في نفسه ملذة له جاذبة إياه إلى الاستعمال لا تدع له مجالاً للتفكر والاجتناب ، ونظائر ذلك كثيرة.
  فهم لاستحكام الكبر والبغي وحب الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم ، وهم مع ذلك كرروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه ولم يزالوا يكررونه ويلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به أي اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم ، وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحق الذي أنزله في كتابه .
  قوله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ) إلى آخر الآية ، مدخول كيف مقدر يدل عليه الكلام مثل يصنعون ونحوه ، وفي الآية إيعاد : ( لهؤلاء الذين تولوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم وهم معرضون ) غير أنه لما اريد بيان أنهم غير معجزين لله سبحانه اخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة وهم مستسلمون يومئذ ما يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله وهم غير مسلمين له مستكبرون عنه ، ولهذا اخذ بالمحاذاة بين الكلامين ، وعبر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل قوله : ( إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ) ( الخ ) دون أن يقال : إذا أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك.
  والمعنى ـ والله أعلم ـ أنهم يتولون ويعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم اغتراراً بما افتروه في دينهم واستكباراً عن الحق فكيف يصنعون إذا جمعناهم