ليوم لا ريب فيه وهو يوم القضاء الفصل ، والحكم الحق ووفيت كل نفس ما كسبت والحكم حكم عدل وهم لا يظلمون ، وإذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولوا ويعرضوا مظهرين بذلك أنهم معجزون لله غالبون على أمره فإن القدرة كله لله وما هي إلا أيام مهلة وفتنة.
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال : سألته عن قوله إن الدين عند الله الإسلام فقال : الذي فيه الإيمان.
  وعن ابن شهر آشوب عن الباقر عله السلام في قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام الآية قال : التسليم لعلي بن أبيطالب بالولاية .
  أقول : وهو من الجري ؛ ولعل ذلك هو المراد أيضاً من الرواية السابقة.
  وعنه أيضاً عن علي ( عليه السّلام ) قال : لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ، ولا ينسبها أحد بعدي : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، المؤمن أخذ دينه عن ربه ، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، وإن الكافر يعرف كفره بانكاره .
  أيها الناس ! دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل .
  أقول : قوله ( عليه السّلام ) لأنسبن الإسلام نسبة ، المراد بالنسبة التعريف كما سميت سورة التوحيد في الأخبار بنسبة الرب والذي عرف به تعريف باللازم في غير الأول أعني قوله : الإسلام هو التسليم فإنه تعريف لفظي عرف فيه اللفظ بلفظ آخر أوضح منه ، ويمكن أن يراد بالإسلام المعنى الاصطلاحي له وهو هذا الدين الذي أتى به محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إشارة إلى قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام ، وبالتسليم الخضوع والانقياد ذاتاً وفعلاً فيعود الجميع إلى التعريف باللازم .
  والمعنى ان هذا الدين المسمى بالإسلام يستتبع خضوع الإنسان لله سبحانه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 127 _
  ذاتاً وفعلاً ، ووضعه نفسه وأعماله تحت أمره وإرادته وهو التسليم ، والتسليم لله يستتبع أو يلزم اليقين بالله و ارتفاع الريب فيه ، واليقين يستتبع التصديق وإظهار صدق الدين ، والتصديق يستتبع الإقرار وهو الاذعان بقراره وكونه ثابتاً لا يتزلزل في مقره ولا يزول عن مكانه ، وإقراره يستتبع أدائه ، وأدائه يستتبع العمل.
  وقوله ( عليه السّلام ) وإن الحسنة في غيره لا تقبل المراد بعدم القبول عدم الثواب بإزائه في الآخرة ، أو عدم الأثر الجميل المحمود عند الله في الدنيا بسعادة الحيوة وفي الآخرة بنعيم الجنة فلا ينافي ما ورد أن الكفار يوجرون في مقابل حسناتهم بشيء من حسنات الدنيا ، قال تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) الزلزال ـ 7.
  وفي المجمع عن أبي عبيدة الجراح قال : قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثم قرء : ( وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ) ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنوا إسرائيل ثلثة وأربعين نبياً في ساعة ـ فقام مأة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فامروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً آخر النهار من ذلك اليوم وهو الذي ذكره الله.
  اقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة .
  وفي الدر المنثور : أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دخل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيت المدراس على جماعه من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو وحرث بن زيد على أي دين أنت يا محمد ؟ قال : على ملة إبراهيم ودينه قالا : فإن ابراهيم كان يهودياً ، فقال لهما رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ) إلى قوله : وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون .
  أقول : وروى بعضهم : أن قوله تعالى : ألم تر نزل في قصة الرجم وسيجيء ذكرها في ذيل الكلام على قوله تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 128 _
  كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ) الآية المائدة ـ 15 ، والروايتان من الآحاد وليستا بتلك القوة.
  ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) .
  ( بيان )
  الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما ، بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب وخاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة ، ومن العذاب ما سلب الله عنهم الملك وضرب عليهم الذل والمسكنة إلى يوم القيامة ، وأخذ أنفاسهم ، وذهب باستقلالهم في السؤدد.
  على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم وتدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء ، ويعز من يشاء ، وبالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء ، وهو الآخذ النازع للملك والعزة ولكل خير عمن يشاء ، فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة.
  قوله تعالى : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ) ، أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير على الإطلاق وله القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في قلوب المنافقين والمتمردين من الحق من المشركين وأهل الكتاب فضلوا وهلكوا بما قدروه لانفسهم من الملك والعزة والغنى من الله سبحانه ، ويعرض الملتجي نفسه على إفاضة مفيض الخير والرازق لمن يشاء بغير حساب .
  والملك ( بكسر الميم ) مما نعرفه فيما بيننا ونعهده من غير ارتياب في أصله فمن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 129 _
  الملك ( بكسر الميم ) ما هو حقيقي وهو كون شيء كالإنسان مثلاً بحيث يصح له أن يتصرف في شيء أي تصرف أمكن بحسب التكوين والوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرف في باصرته بإعمالها وإهمالها بأي نحو شاء وأراد ، وكذا في يده بالقبض والبسط ، والأخذ بها والترك ونحو ذلك ، ولا محالة بين المالك وملكه بهذا المعنى رابطة حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغنى عنه ولا يفارقه إلا بالبطلان كالبصر واليد إذا فارقا الإنسان ، ومن هذا القبيل ملكه تعالى ( بكسر الميم ) للعالم ولجميع أجزائه وشئونه على الإطلاق ؛ فله أن يتصرف فيما شاء كيفما شاء .
  ومن الملك ( بكسر الميم ) ما هو وضعي اعتباري وهو كون الشيء كالإنسان بحيث يصح له أن يتصرف في شيء كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات والأغراض الاجتماعية ، وإنما هو محاذاة منهم لما عرفوه في الوجود من الملك الحقيقي وآثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع والدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان والأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقي من ملكه الحقيقي التكويني.
  ولكون الرابطة بين المالك والمملوك في هذا النوع من الملك بالوضع والاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغير والتحول ، فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع والهبة وسائر أسباب النقل.
  وأما الملك ( بالضم ) فهو وإن كان من سنخ الملك ( بالكسر ) إلا أنه ملك لما يملكه جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعياه ، له أن يتصرف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرفهم تصرفه ، ولا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة ملك على ملك ، وهو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد وما في يده ، ولهذا كان للملك ( بالضم ) من الأقسام ما ذكرناه للملك ( بالكسر ).
 والله سبحانه مالك كل شيء ملكاً مطلقاً أما أنه مالك لكل شيء على الإطلاق فلان له الربوبية المطلقة والقيمومة المطلقة على كل شيء فإنه خالق كل شيء وإله كل شيء ، قال تعالى : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن ـ 62 ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 130 _
  وقال تعالى : ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ ) البقرة ـ 255 ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئاًًً فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقل دونه فلا يمنعه فيما أراده منها وفيها شيء ، وهذا هو الملك ( بالكسر ) كما مر .
  وأما أنه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكاً للموجودات فإن الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضاً كالأسباب حيث تملك مسبباتها ، والأشياء تملك قواها الفعالة ، والقوى الفعالة تملك أفعالها كالإنسان يملك أعضائه وقواه الفعالة من سمع وبصر وغير ذلك ، وهي تملك أفعالها ، وإذ كان الله سبحانه يملك كل شيء فهو يملك كل من يملك منها شيئاًًً ، ويملك ما يملكه و ، هذا هو الملك ( بالضم ) فهو مليك على الإطلاق ، قال تعالى : ( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) التغابن ـ 1 ، وقال تعالى : ( عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) القمر ـ 55 ، إلى غير ذلك من الآيات ، هذا هو الحقيقي من المِلك والمُلك.
  وأما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لأنه هو المعطي لكل من يملك شيئاًًً من المال ، ولو لم يملك لم يصح منه ذلك ولكان معطياً لما لا يملك ، لمن لا يملك قال تعالى : ( وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) النور ـ 33.
   وهو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال ، قال تعالى : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ ) الناس ـ 2 ، وقال تعالى : ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) إبراهيم ـ 34 ، وقال تعالى : ( وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) الحديد ـ 7 ، وقال تعالى : ( وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحديد ـ 10 ، وقال تعالى : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) المؤمن ـ 16 ، فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا ويملكه معنا وسيراه بعدنا عز ملكه .
  ومن التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى اللهم مالك الملك ، مسوق .
  اولاً : لبيان ملكه تعالى ( بالكسر ) لكل ملك ( بالضم ) ومالكية الملك ( بالضم ) هو الملك على الملك ( بالضم فيهما ) فهو ملك الملوك الذي هو المعطي لكل ملك ملكه كما قال تعالى : ( أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ) البقرة ـ 258 ، وقال تعالى : ( وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء ـ 54.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 131 _
  وثانياً : يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنه الله جلت كبريائه ، وهو ظاهر .
  وثالثاً : أن المراد بالملك في الآية الشريفة ( والله أعلم ) ما هو أعم من الحقيقي والاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الأولى أعني قوله : تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء : ( وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ) على ما سنوضحه من شؤون الملك الاعتباري وما ذكره في الآية الثانية من شؤون الملك الحقيقي فهو مالك الملك مطلقاً .
  قوله تعالى : تؤتي الملك من تشاء ؛ وتنزع الملك ممن تشاء الملك باطلاقه شامل لكل ملك حقاً أو باطلاً عدلا أو جوراً فان الملك ( كما تقدم بيانه في قوله : ( أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ) الآية البقرة ـ 258 ) في نفسه موهبة من مواهب الله ونعمة يصلح لان يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنساني وقد جبل الله النفوس على حبه والرغبة فيه ، والملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك ، وإنما المذموم إما تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جوراً وغصباً ، وإما سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة ، ويرجع هذا الثاني أيضاً بوجه إلى الأول.
  وبوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه ، وبالنسبة إلى غير أهله نقمة ، وهو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه وفتنة يمتحن به عباده.
  وقد تقدم أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافاً تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبراً في فعله ملزماً عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه وأنّ جرى فعله على المصلحة دائماً.
  قوله تعالى : ( وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ) ، العز كون الشيء بحيث يصعب مناله ، ولذا يقال للشيء النادر الوجود أنه عزيز الوجود أي صعب المنال ، ويقال عزيز القوم لمن يصعب قهره والغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر والغلبة ، وصعب المنال من حيث مقامه فيهم ووجد انه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 132 _
  صعوبة كما يقال : يعز على كذا ، قال تعالى : ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) التوبة ـ 128 ، أي صعب عليه واستعمل في كل غلبة كما يقال .
  من عزّ بزّ أي من غلب سلب ، قال تعالى : ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) ص ـ 23 ، أي غلبني ، والأصل في معناه ما مر .
  ويقابله الذل وهو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ) البقرة ـ 61 ، وقال تعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل ) الاسراء ـ 24 ، وقال تعالى : ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) المائدة ـ 54.
  والعزة من لوازم الملك على الإطلاق ، وكل من سواه إذا تملك شيئاًً فهو تعالى خوله ذلك وملكه ، وإن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى محضاً وما عند غيره منها فانما هو بايتائه وإفضاله قال تعالى : ( أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ) النساء ـ 139 وقال تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون ـ 8 وهذه هي العزة الحقيقية وأما غيرها فانما هي ذل في صورة عز قال تعالى : ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) ص ـ 2 ، ولذا أردفه بقوله : ( كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ص ـ 3.
  وللذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شيء غيره تعالى ذليل في نفسه إلا من أعزه الله تعالى ( تعز من تشاء وتذل من تشاء ).
  قوله تعالى : ( بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، الاصل في معنى الخير هو الانتخاب وإنما نسمي الشيء خيراً لإنا نقيسه إلى شيء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه فهو خير ولا نختاره إلا لكونه متضمناً لما نريده ونقصده فما نريده هو الخير بالحقيقة ، وإن كنا أردناه أيضاً لشيء آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة ، وغيره خير من جهته ، فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيراً لكونه هو المطلوب إذا قيس إلى غيره وهو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحداً منها وترددنا في اختياره من بينها .
  فالشيء كما عرفت إنما يسمى خيراً لكونه منتخباً إذا قيس إلى شيء آخر مؤثراً بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير ولذا قيل : إنه صيغة التفضيل وأصله أخير، وليس بأفعل التفضيل ، وإنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 133 _
  بغيره كما يتعلق أفعل التفضيل ، يقال : زيد أفضل من عمرو ، وزيد أفضلهما ، ويقال : زيد خير من عمرو ، وزيد خيرهما .
  ولو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه ، ويقال أفضل وأفاضل وفضلي وفضليات ، ولا يجري ذلك في خير بل يقال : خير وخيرة وأخيار وخيرات كما يقال : شيخ وشيخة وأشياخ وشيخات فهو صفة مشبهة .
  ومما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى : ( قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ ) الجمعة ـ 11 ، فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى أفعل ، وقد اعتذروا عنه وعن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل ، وهو كما ترى. فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب ، واشتمال ما يقابله من المقيس عليه على شيء من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد.
  ويظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنه الذي ينتهي إليه كل شيء ويرجع إليه كل شيء ، ويطلبه ويقصده كل شيء لكن القرآن الكريم لا يطلق عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسمائه ، وإنما يطلقه عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى : ( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) طه ـ 73 ، وكقوله تعالى : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) يوسف ـ 39.
  نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالاضافة كقوله تعالى : ( وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) الجمعة ـ 11 وقوله : ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) الأعراف ـ 87 ، وقوله : ( وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) الأنعام ـ 57 ، وقوله : ( وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) آل عمران ـ 150 : وقوله : ( وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) آل عمران ـ 54 ، وقوله : ( وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) الاعراف ـ 89 ، وقوله : ( وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) الأعراف ـ 155 ، وقوله : ( وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) الأنبياء ـ 89 ، وقوله : ( وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ) المؤمنون ـ 29 ، وقوله : ( وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) المؤمنون ـ 109.
  ولعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق اطلاق الاسم عليه تعالى صوناً لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق وقد عنت الوجوه لجنابه ، وأما التسمية عند الإضافة والنسبة ، وكذا التوصيف في الموارد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 134 _
  المقتضية لذلك فلا محذور فيه .
  والجملة أعني قوله تعالى : بيدك الخير تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام وتقديم الظرف الذي هو الخبر ؛ والمعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك ، وأنت المعطي المفيض إياه.
  فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله : تؤتي الملك من تشاء ( إلخ) من قبيل تعليل الخاص بما يعمه وغيره أعني أن الخير الذي يؤتيه تعالى أعم من الملك والعزة وهو ظاهر .
  وكما يصح تعليل إيتاء الملك والإعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح تعليل نزع الملك والإذلال فانهما وإن كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع الملك ليس إلا عدم الإعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفائه عنه تعالى هو الاتصاف بما لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد وقبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان وعدم التوفيق كما مر البحث عن ذلك .
  وبالجملة هناك خير وشر تكوينيان كالملك والعزة ونزع الملك والذلة ، والخير التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى ، والشر التكويني إنما هو عدم إيتاء الخير ولا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه غيره ، فإذا أعطى غيره شيئاًً من الخير فله الأمر وله الحمد ، وإن لم يعط أو منع فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الاعطاء ظلماً ، على أن إعطائه ومنعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر بين أجزاء العالم.
  وهناك خير وشر تشريعيان ، وهما أقسام الطاعات والمعاصي ، وهما الأفعال الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره ، ولا تستند من هذه الجهة إلى غير الإنسان قطعاً ، وهذه النسبة هي الملاك لحسنها وقبحها ولو لا فرض اختيار في صدورها لم تتصف بحسن ولا قبح ، وهي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا من حيث توفيقه تعالى وعدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.
  فقد تبين : إن الخير كله بيد الله وبذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 135 _
  وجدان وحرمان وخير وشر.
  وقد ذكر بعض المفسرين : أن في قوله : بيدك الخير ايجازاً بالحذف ، والتقدير : بيدك الخير والشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى : ( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) النحل ـ 81 ، أي والبرد .
  وكأن السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى : وهو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى ، والمعتزلة وان أخطاوا في نفي الانتساب نفياً مطلقاً حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب ، وقد تقدم البحث عن ذلك وبيان حقيقة الأمر.
  قوله تعالى : ( إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن القدرة المطلقة على كل شيء توجب أن لا يقدر أحد على شيء إلا بإقداره تعالى اياه على ذلك ولو قدر أحد على شيء من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان مقدوره من هذه الجهة خارجاً عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديراً على كل شيء ، وإذا كانت لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدوراً عليه له تعالى ، وكان أيضاً كل خير أفاضه غيره منسوباً إليه مفاضاً عن يديه فهو له أيضاً فجنس الخير الذي لا يشذ منه شاذ بيده ، وهذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى : بيدك الخير.
  قوله تعالى : ( تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ، الولوج هو الدخول ، والظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار ، وإيلاج النهار في الليل ما هو المشاهد من اختلاف الليل والنهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع والأمكنة على بسيط الأرض ، واختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيام في الطول والليالي في القصر وهو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالى في الطول من أول الشتاء إلى أول الصيف ، ثم يأخذ الليالي في الطول والأيام في القصر وهو ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء.
  كل ذلك في البقاع الشمالية ، والأمر في البقاع الجنوبية على عكس الشمالية منها ، فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار والنهار في الليل دائماً ، أما الاستواء في خط الاستواء والقطبين فإنما هو بحسب الحس وأما في الحقيقة فحكم التغيير دائم وشامل.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 136 _
  قوله تعالى : ( وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ ) وذلك إخراج المؤمن من صلب الكافر ، وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الإيمان حيوة ونوراً ، والكفر موتاً وظلمة كما قال تعالى : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الأنعام ـ 122 ، ويمكن أن يراد الأعم من ذلك ومن خلق الأحياء كالنبات والحيوان من الأرض العديمة الشعور وإعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه يبدل الميت إلى الحي والحي إلى الميت ، قال تعالى : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ) المؤمنون ـ 15 ، إلى غيرها من الآيات.
  وأما ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة : أن الحيوة التي تنتهي إلى جراثيمها تسلك فيها سلوكاً من جرثومة حية إلى اخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة للشعور ، وذلك لإنكاره الكون الحادث ، فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة في جراثيم الحيوة فتبدل الحيوة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما ، ولبقية الكلام مقام آخر.
  والآية أعني قوله تعالى : تولج الليل في النهار ( إلخ) تصف تصرفه تعالى في الملك الحقيقي التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله : تؤتي الملك من تشاء ( إلخ) تصف تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي وتوابعه.
  وقد وضع في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل فوضع في الاولى إيتاء الملك ونزعه وبحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار وعكسه ، ووضع الإعزاز والإذلال وبحذائهما إخراج الحي من الميت وعكسه ، وفي ذلك من عجيب اللطف ولطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس على الباقين بإعفاء قدر من حريتهم وإطلاقهم الغريزي وإذهابها كتسليط الليل على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار ، ونزع الملك بالعكس من ذلك ، وكذا إعطاء العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الأثر لولاها ، نظير إخراج الحي من الميت ، والإذلال بالعكس من ذلك ، وفي العزة حيوة وفي الذلة ممات.
  وهنا وجه آخر : وهو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة والليل آية ممحوة قال تعالى : ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) الاسراء ـ 12 ، ومظهر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 137 _
  هذا الإثبات والإمحاء في المجتمع الإنساني ظهور الملك والسلطنة وزواله ، وعد الحيوة والموت مصدرين للآثار من العلم والقدرة كما قال تعالى : ( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) النحل ـ 21 ، وخص العزة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين حيث قال : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون ـ 8 ، وهم الذين يذكرهم بالحيوة فصارت العزة والذلة مظهرين في المجتمع الإنساني للحيوة والموت ، ولهذا قابل ما ذكره في الآية الاولى من إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار وعكسه وإخراج الحي من الميت وعكسه.
  ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية : وترزق من تشاء بغير حساب ، وما ذكره في الآية الاولى : بيدك الخير ، كما سيجيء بيانه .
  قوله تعالى : وترزق من تشاء بغير حساب ، المقابلة المذكورة آنفاً تعطي أن يكون قوله : وترزق ( إلخ) بياناً لما سبقه من إيتاء الملك والعز والإيلاج وغيره ، فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله : بيدك الخير ، بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل ، والمعنى : إنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات : ( لأنك ترزق من تشاء بغير حساب ).

معنى الرزق في القرآن
  الرزق معروف والذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوباً من معنى العطاء كرزق الملك الجندي ويقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة : رزقة ، وكان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى : ( وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة ـ 233 ، فلم يعد الكسوة رزقاًً.
  ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقاًً كأنه عطية بحسب الحظ والجد وإن لم يعلم معطيه ، ثم عمم فسمى كل ما يصل إلى الشيء مما ينتفع به رزقاًً وإن لم يكن غذائاً كسائر مزايا الحيوة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك قال تعالى : ( تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) المؤمنون ـ 72 ، وقال فيما يحكي عن شعيب : ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 138 _
  بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنً ) هود ـ 88 ، والمراد به النبوة والعلم ، إلى غير ذلك من الآيات.
  والمتحصل من قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات ـ 58 ، والمقام مقام الحصر : اولا : أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى : ( وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) الجمعة ـ 11 حيث أثبت رازقين وعده تعالى خيرهم ، وقوله : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) النساء ـ 5 ، كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك والعزة لله تعالى لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير.
  وثانياً : أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم والله رازقه ، ويدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى آيات الرزق على كثرتها ـ آيات كثيرة أُخر كالآيات الدالّة على أنَّ الخلق والأمر والحكم والملك ( بكسر الميم ) والمشيّة والتدبير والخير لله محضاً عزّ سلطانه.
  وثالثاً : أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعاً محرماً لكونه سبباً للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنه تعالى نفي نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع ، قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف ـ 28 ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ إلى أن قال : وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) النحل ـ 90 وحاشاه سبحانه أن ينهي عن شيء ثم يأمر به أو ينهي عنه ثم يحصر رزقه فيه .
  ولا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقاًً بحسب التشريع وكونه رزقاًً بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحاً ، وما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين ، وليس البيان الإلهي بموقوف على الأفهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحاً عن التعرض للمعارف الحقيقية ، وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون.
  قال تعالى : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ) الاسراء ـ 82.
  على ان الآيات تنسب الملك الذي لامثال نمرود وفرعون ، والأموال والزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 139 _
  ذلك امتحاناً وإتماماً للحجة وخذلاناً واستدراجاً ونحو ذلك ، وهذا كله نسب تشريعية ، وإذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن والقبح العقلائيين فيها أوضح.
  ثم إنه تعالى ذكر أن كل شيء فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر ـ 21 ، وذكر أيضاً أن ما عنده فهو خير .
  قال تعالى : ( وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ ) القصص ـ 60 ، وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شيء في العالم ويتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعم بسببه كما يفيده أيضاً قوله تعالى : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة ـ 7 ، مع قوله تعالى : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن ـ 64.
  وأما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شراً يستضر به فإنما شريته وإضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيراً نافعاً بالنسبة إلى آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى : ( وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) النساء ـ 79 ، وقد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر .
  وبالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكله خير ينتفع به يكون رزقاً بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشيء المرزوق وربما أشار إليه قوله تعالى : ( ورزق ربك خير ) طه ـ 131.
  ومن هنا يظهر أن الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن امور متساوية فكل رزق خير ومخلوق ، وكل خلق رزق وخير ، وإنما الفرق : أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه والغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها ، والواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به ، وكذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عارياً عن هذه النعمة الإلهية قال تعالى : ( الذي أعطى كل شيء خلقه ) طه ـ 50.
  والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته ، والقوه الغاذية خير للإنسان ، ووجود الإنسان خير له بفرضه محتاجاً طالباً .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 140 _
  وأما الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شيء ثابت أو مفروض فالغذاء مثلاً مخلوق موجد في نفسه ، وكذا القوة الغاذية مخلوقة ، والإنسان مخلوق .
  ولما كان كل رزق لله ، وكل خير لله محضاً فما يعطيه تعالى من عطية ، وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض ، وبلا شيء مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقاً ، ولا استحقاق هناك إذ لا حق لاحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق ، قال تعالى : ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ) هود ـ 6 ، وقال تعالى : ( فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) الذاريات ـ 23.
  فالرزق مع كونه حقاً على الله لكونه حقاً مجعولاً من قبله عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق.
  ومن هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقاً مقدراً من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقاً ثابتاً على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه ويعاقبه عليه.
  وتوضيحه ببيان آخر : أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه ، وكما أن الرحمة رحمتان : رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر ، ومتق وفاجر ، وإنسان وغير إنسان ، ورحمة خاصة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان والتقوى والجنة ، كذلك الرزق منه ما هو رزق عام ، وهو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده ، ومنه ما هو رزق خاص ، وهو الواقع في مجرى الحل.
  وكما أن الرحمة العامة والرزق العام مكتوبان مقدران ، قال تعالى : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) الفرقان ـ 2 ، كذلك الرحمة الخاصة والرزق الخاص مكتوبان مقدران ، وكما أن الهدى ـ وهو رحمة خاصة ـ مكتوب مقدر تقديراً تشريعياً لكل إنسان مؤمناً كان أو كافراً ، ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ، قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) الذاريات ـ 58 ، وقال تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) الاسراء ـ 23 ، فالعبادة وهي تستلزم الهدى وتتوقف عليه مقضية مقدرة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 141 _
  تشريعاً ، كذلك الرزق الخاص ـ هو الذي عن مجرى الحل ـ مقضى مقدر ، قال تعالى : ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ) الأنعام ـ 140 ، وقال تعالى : ( وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء ) النحل ـ 71 ، والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر والمؤمن ومن يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام .
  ومن الواجب أن يعلم : أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن اوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلاً وقلته ، وللكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى : ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) هود ـ 6.
  ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى : ( وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكاً له تعالى محضاً فلا يقابل عطيته منهم شيء فلا حساب لرزقه تعالى .
  وأما كون نفي الحساب راجعاً إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) القمر ـ 49 ، وقوله : ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق ـ 3 ، فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى .
  وقد تحصل من الآيتين اولا : أن الملك ( بضم الميم ) كله لله كما أن الملك ( بكسر الميم ) كله لله.
  وثانياً : أن الخير كله بيده ومنه تعالى .
  وثالثاً : أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض واستحقاق.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 142 _
  ورابعاً : أن الملك والعزة وكل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال والجاه والقوة وغير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق.
  ( بحث روائي )
  في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله ( عليه السّلام ) قال : قلت له : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء أليس قد آتى الله بني أُمية الملك ؟ قال : ليس حيث تذهب ، إن الله عز وجل آتانا الملك ، وأخذته بني أُمية بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو للذي أخذه.
  اقول : وروى مثله العياشي عن داود بن فرقد عنه ( عليه السّلام ) : وإيتاء الملك على ما تقدم بيانه يكون على وجهين : إيتاء تكويني ، وهو انبساط السلطنة على الناس ، ونفوذ القدرة فيهم ، سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في نمرود : ( أن آتاه الله الملك وأثره نفوذ الكلمة ومضى الأمر والإرادة ، وسنبحث عن معنى كونه تكوينياً وإيتاء تشريعي ، وهو القضاء بكونه ملكاً مفترض الطاعة كما قال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) البقرة ـ 247 ، وأثره افتراض الطاعة ، وثبوت الولاية ، ولا يكون إلا العدل ، وهو مقام محمود عند الله سبحانه ، والذي كان لبني أُمية من الملك هو المعنى الأول وأثره وقد اشتبه الأمر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الاول وأخذ معه أثر المعنى الثاني وهو المقام الشرعي ، والحمد الديني فنبهه ( عليه السّلام ) أن الملك بهذا المعنى ليس لبني أُمية بل هو لهم ولهم أثره ، وبعبارة اخرى : الملك الذي لبني أُمية إنما يكون محموداً إذا كان في أيديهم عليهم السلام وأما في أيدي بني أُمية فليس إلا مذموماً لأنه مغصوب وعلى هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلا بنحو المكر والاستدراج كما في ملك نمرود وفرعون.
  وقد اشتبه الأمر على هؤلاء أنفسهم أعني بني أُمية في هذه الآية ففي الإرشاد في قصة إشخاص يزيد بن معاوية رؤوس شهداء الطفّ ، قال المفيد : ولما وضعت الرؤوس وفيها رأس الحسين ( عليه السّلام ) قال يزيد :

نـفلّق هاماً من رجال iiأعزّة      علينا وهم كانوا أعقّ وأظلماً

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 143 _
  قال : ثم أقبل على أهل مجلسه فقال إن هذا كان يفخر عليَّ ويقول أبي خير من أب يزيد ، وامي خير من امه ، وجدي خير من جده ، وأنا خير منه فهذا الذي قتله فأما قوله بأن أبي خير من أب يزيد فلقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه ، وأما قوله بأن امي خير من ام يزيد فلعمري لقد صدق إن فاطمة بنت رسول الله خير من امي ، وأما قوله : جدي خير من جده فليس لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول بأنه خير من محمد ، وأما قوله بأنه خير مني فلعله لم يقرء هذه الآية : قل اللهم مالك الملك الآية.
  وردت زينب بنت علي ( عليه وعليها السلام ) عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق ( عليه السّلام ) في الرواية السابقة على ما رواه السيد بن طاووس وغيره فقالت فيما خاطبته : أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ، وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والامور متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، مهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ) إنما نملي لهم خير لأنفسهم إِنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين الخطبة.
  وفي المجمع في قوله تعالى وتخرج الحي من الميت الآية ، قيل معناه وتخرج المؤمن من الكافر وتخرج الكافر من المؤمن ، قال : وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( عليهما السلام ).
  أقول : وروى قريباً منه الصدوق عن العسكري ( عليه السّلام ).
  وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أو عن سلمان عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) قال : المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
  وفيه أيضاً بالطريق السابق عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : لما خلق الله آدم ( عليه السّلام ) أخرج ذريته فقبض قبضه بيمينه فقال : هؤلاء أهل الجنة ولا ابالي ، وقبض بالاخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال : هؤلاء أهل النار ولا ابالي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 144 _
  فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن ويخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله : تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي.
  أقول : وروي هذا المعنى عن عدة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضاً مقطوعاً ، والرواية من أخبار الذر والميثاق ، وسيجيء بيانها في موضع يليق بها إنشاء الله.
  وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد وعدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر ( عليه السّلام ) قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجة الوداع : ألا إن الروح الأمين نفث في روعي : أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالاً ، ولم يقسمها حراماً فمن اتقى الله وصبر اُتاه رزقه من حله ، ومن هتك حجاب ستر الله عز وجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال ، وحوسب عليه.
  وفي النهج قال ( عليه السّلام ) : الرزق رزقاًن : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك يومك ، كفاك كل يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى جده سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك ، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك ، ولن يسبقك إلى رزقك طالب ، ولن يغلبك عليه غالب ، ولن يبطئ عنك ما قد قدر لك .
  وفي قرب الأسناد : ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه ( عليهما السلام ) قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إن الرزق لينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قدر لها ، ولكن لله فضول فاسألوا الله من فضله .
  أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة وسيجيء استيفاء البحث عن أخبار الرزق في سورة هود إنشاء الله تعالى .

( بحث علمي )
  قد تقدم في بعض ما مر من الأبحاث السابقة : أن اعتبار أصل الملك ( بالكسر ) من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفرداً أو مجتمعا ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 145 _
  وأن أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك ( بالكسر ).
  وأما الملك ( بالضم ) وهو السلطنة على الأفراد فهو أيضاً من الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها لكن الذي يحتاج إليه ابتدائاً هو الاجتماع من حيث تألفه من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متبائنة الإرادات دون الفرد من حيث إنه فرد فإن الأفراد المجتمعين لتبائن إراداتهم واختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع الاختلاف بينهم فيتغلب كل على الآخرين في أخذ ما بأيديهم ، والتعدي على حومة حدودهم وهضم حقوقهم فيقع الهرج والمرج ، ويصير الاجتماع الذي اتخذوه وسيلة إلى سعادة الحيوة ذريعة إلى الشقاء والهلاك ، ويعود الدواء دائاً ، ولا سبيل إلى رفع هذه الغائلة الطارية إلا بجعل قوة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع الأفراد المجتمعين حتى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاق الوسط وترفع الدانية المستهلكة إليه أيضاً فتتحد جميع القوى من حيث المستوى ثم تضع كل واحدة منها في محلها الخاص وتعطي كل ذي حق حقه.
  ولما لم تكن الإنسانية في حين من الاحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام كما مر بيانه سالفا لم يكن الاجتماعات في الاعصار السالفة خالية عن رجال متغلبين على الملك مستعلين على سائر الأفراد المجتمعين ببسط الرقية والتملك على النفوس والأموال وكانت بعض فوائد الملك الذي ذكرناه ـ وهو وجود من يمنع عن طغيان بعض الأفراد على بعض ـ يترتب على وجود هذا الصنف من المتغلبين المستعلين المتظاهرين باسم الملك في الجملة وإن كانوا هم أنفسهم وأعضادهم وجلاوزتهم قوى طاغية من غير حق مرضي ، وذلك لكونهم مضطرين إلى حفظ الأفراد في حال الذلة والاضطهاد حتى لا يتقوى من يثب على حقوق بعض الأفراد فيثب يوماً عليهم أنفسهم كما أنهم أنفسهم وثبوا على ما في أيدي غيرهم.
  وبالجملة بقاء جل الأفراد على حال التسالم خوفاً من الملوك المسيطرين عليهم كان يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعي وإنما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء المتغلبين إِذا لم يبلغ تعديهم مبلغ جهدهم ، ويتظلمون ويشتكون إذا بلغ بهم الجهد ، وحمل عليهم من التعدي ما يفوق طاقتهم .
  ( 3 ـ الميزان ـ 10)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 146 _
  نعم ربما فقدوا بعض هؤلاء المتسمين بالملوك والرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك ، وأحسوا بالفتنة والفساد ، وهددهم اختلال النظم ووقوع الهرج فبادروا إلى تقديم بعض اولي الطول والقوة منهم ، وألقوا إليه زمام الملك فصار ملكاً يملك أزمة الأمور ثم يعود الأمر على ما كان عليه من التعدي والتحميل.
  ولم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتى تضجرت من سوء سير هؤلاء المتسمين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي وإطلاقهم فيما يشائون فوضعت قوانين تعين وظائف الحكومة الجارية بين الامم وأجبرت الملوك باتباعها وصار الملك ملكاً مشروطاً بعد ما كان مطلقاً ، واتحد الناس على التحفظ على ذلك ، وكان الملك موروثاً .
  ثم أحست اجتماعات ببغي ملوكهم وسوء سيرهم ولا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك و ، تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيرة موروثة فبدلوا الملك برئاسة الجمهور فانقلب الملك المؤبد المشروط إلى ملك مؤجل مشروط ، وربما وجد في الأقوام والامم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم التي شاهدوها ممن بيده زمام أمرهم ، وربما حدث في مستقبل الأيام ما لم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن.
  لكن الذي يتحصل من جميع هذه المساعى التي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر أعني إلقاء زمام الامة الى من يدبر أمرها ، ويجمع شتات إراداتها المتضادة وقواها المتنافية : أن لا غنى للمجتمع الإنساني عن هذا المقام وهو مقام الملك وإن تغيرت أسمائه ، وتبدلت شرائطه بحسب اختلاف الامم ، ومرور الأيام فإن طروق الهرج والمرج ، واختلال امر الحياة الاجتماعية على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمة الإرادات والمقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد.
  وهذا هو الذي تقدم في أول الكلام : أن الملك من الاعتبارات الضرورية في الاجتماع الإنساني.
  وهو مثل سائر الموضوعات الاعتبارية التي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها وإصلاحها ورفع نواقصها وآثارها المضادة لسعادة الإنسانية.
  وللنبوة في هذا الإصلاح السهم الأوفي فإن من المسلم في علم الاجتماع : أن انتشار

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 147 _
  قول ما من الأقوال بين العامة وخاصة إذا كان مما يرتبط بالغريزة ، ويستحسنه القريحة ، ويطمأن اليه النفوس المتوقعة أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرقة وجعل الجماعات المتشتتة يداً واحداً تقبض وتبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شيء.
  ومن الضروري : أن النبوة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس الى العدل ، وتمنعهم عن الظلم ، وتندبهم الى عبادة الله والتسليم له ، وتنهاهم عن اتباع الفراعنة الطاغين ، والنماردة المستكبرين المتغلبين ، ولم تزل هذه الدعوة بين الامم منذ قرون متراكمة جيلاً بعد جيل ، وامة بعد امة وإن اختلفت بحسب السعة والضيق باختلاف الامم والازمنة ، ومن المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوى بين الاجتماعات الإنسانية قروناً متمادية وهو منعزل عن الأثر خال عن الفعل.
  وقد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئاًً كثيراً من الوحي المنزل على الأنبياء ( عليهم السلام ) كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربه : ( رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) نوح ـ 23 ، وكذا ما وقع بينه وبين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن ، قال تعالى : ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) الشعراء ـ 113 ، وقول هود ( عليه السّلام ) لقومه : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) الشعراء ـ 130 ، وقول صالح ( عليه السّلام ) لقومه : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ) الشعراء ـ 152.
  ولقد قام موسى ( عليه السّلام ) للدفاع عن بني إسرائيل ومعارضة فرعون في سيرته الجائرة الظالمة ، وانتهض قبله إبراهيم ( عليه السّلام ) لمعارضة نمرود ومن بعده عيسى بن مريم ( عليه السّلام ) وسائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي أعصارهم من الملوك والعظماء ، وتقبيح سيرهم الظالمة ، ودعوة الناس الى رفض طاعة المفسدين واتباع الطاغين.
  وأما القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الإفساد والإباء عن الضيم وإنبائه عن عواقب الظلم والفساد والعدوان والطغيان مما لا يخفى ، قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 148 _
  سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) الفجر ـ 14 ، الى غير ذلك من الآيات.
  وأما أن الملك ( بالضم ) من ضروريات المجتمع الإنساني فيكفي في بيانه أتم بيان قوله تعالى بعد سرد قصة طالوت : ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) البقرة ـ 251 ، وقد مر بيان كيفية دلالة الآية بوجه عام.
  وفي القرآن آيات كثيرة تتعرض للملك والولاية وافتراض الطاعة ونحو ذلك ، واخرى تعده نعمة وموهبة كقوله تعالى : ( وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء ـ 54 ، وقوله تعالى : ( وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ) المائدة ـ 20 ، وقوله تعالى : ( وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء ) البقرة ـ 247 ، الى غير ذلك من الآيات.
  غير أن القرآن إنما يعده كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى من بين جميع ما ربما يتخيل فيه شيء من الكرامة من مزايا الحيوة ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات ـ 13 ، والتقوى حسابه على الله ليس لأحد أن يستعلي به على أحد فلا فخر لأحد على أحد بشيء لأنه إن كان أمراً دنيوياً فلا مزية لأمر دنيوي ، ولا قدر إلا للدين ، وإن كان أمراً اخروياً فأمره إلى الله سبحانه ، وعلى الجملة لا يبقى للإنسان المتلبس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم إلا تحمل الجهد ومشقة التقلد والاعباء نعم له عند ربه عظيم الأجر ومزيد الثواب إن لازم صراط العدل والتقوى.
  وهذا هو روح السيرة الصالحة التي لازمها أولياء الدين ، وسنشبع إن شاء الله العزيز هذا المعنى في بحث مستقل في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله والطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة ، وأنهم لم ينالوا من ملكهم إلا أن يثوروا على الجبابرة في فسادهم في الأرض ويعارضوهم في طغيانهم واستكبارهم.
  ولذلك لم يدع القرآن الناس الى الاجتماع على تأسيس الملك ، وتشييد بنيان القيصرية والكسروية ، وإنما تلقى الملك شأناً من الشئون اللازمة المراعاة في المجتمع الإنساني نظير التعليم أو إعداد القوة لإرهاب الكفار.
  بل إنما دعا الناس الى الاجتماع والاتحاد والاتفاق على الدين ونهاهم عن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 149 _
  التفرق والشقاق فيه وجعله هو الأصل ، فقال تعالى : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) الأنعام ـ 153 ، وقال تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران ـ 64 ، فالقرآن ـ كما ترى ـ لا يدعو الناس إلا إلى التسليم لله وحده ويعتبر من ، المجتمع المجتمع الدينى ، ويدحض ما دون ذلك من عبادة الأنداد ، والخضوع لكل قصر مشيد ، ومنتدي رفيع ، وملك قيصري وكسروي ، والتفرق بافراز الحدود وتفريق الأوطان وغير ذلك.

( بحث فلسفي )
  لا ريب أن الواجب تعالى هو الذي تنتهي إليه سلسلة العلية في العالم ، وأن الرابطة بينه وبين العالم جزءاً وكلاً هي رابطة العلية ، وقد تبين في أبحاث العلة والمعلول أن العلية إنما هي في الوجود بمعنى أن الوجود الحقيقي في المعلول هو المترشح من وجود علته ، وأما غيره كالماهية فهو بمعزل عن الترشح والصدور والافتقار إلى العلة ، وينعكس بعكس النقيض إلى أن ما لا وجود حقيقي له فليس بمعلول ولا منته إلى الواجب تعالى .
  ويشكل الأمر في استناد الامور الاعتبارية المحضة إليه تعالى إذ لا وجود حقيقي لها أصلاً وإنما وجودها وثبوتها ثبوت اعتباري لا يتعدى ظرف الاعتبار والوضع وحيطة الفرض ، وما يشتمل عليه الشريعة من الأمر والنهى والأحكام والأوضاع كلها امور اعتبارية فيشكل نسبتها إليه تعالى ، وكذا أمثال الملك والعز والرزق وغير ذلك.
  والذي تحل به العقدة أنها وإن كانت عارية عن الوجود الحقيقي إلا أن لها آثاراً هي الحافظة لأسمائها كما مر مراراً ، وهذه الآثار امور حقيقية مقصودة بالاعتبار ولها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصححة لنسبتها فالملك الذي بيننا أهل الاجتماع وإن كان أمراً اعتبارياً وضعياً لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقي ، وإنما هو

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 150 _
  معنى متوهم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجية لم يكن يمكننا البلوغ إليها لولا فرض هذا المعنى الموهوم وتقديره ، وهي قهر المتغلبين واولي السطوة والقوة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء والخاملين ، ووضع كل من الأفراد في مقامه الذي له ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وغير ذلك.
  لكن لما كان حقيقة معنى الملك واسمه باقياً ما دامت هذه الآثار الخارجية باقية مترتبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجية إلى عللها الخارجية هو عين استناد الملك إليه ، وكذلك القول في العزة الاعتبارية ، وآثارها الخارجية واستنادها إلى عللها الحقيقة ، وكذلك الأمر في غيرها كالأمر والنهي والحكم والوضع ونحو ذلك.
  ومن هنا يتبين : أن لها جميعاً استناداً إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه على حسب ما يليق بساحة قدسه وعزه.
  ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ * قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )