اقول : وفي معناها روايات اخر مروية في العيون والخصال وتفسير العياشي وغيرها.
  قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من فسر القرآن برأيه ، الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد وربما اطلق على القول عن الهوى والاستحسان وكيف كان لما ورد قوله : برأيه مع الإضافة إلى الضمير علم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتى يكون بالملازمة أمراً بالاتباع والاقتصار بما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبي وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم على ما يراه أهل الحديث ، على أنه ينافي الآيات الكثيرة الدالة على كون القرآن عربياً مبيناً ، والآمرة بالتدبر فيه ، وكذا ينافي الروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى القرآن وعرض الأخبار عليه.
  بل الإضافة في قوله : برأيه تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي ، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس فإن قطعة من الكلام من أي متكلم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ونحكم بذلك : أنه أراد كذا كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما ، كل ذلك لكون بياننا مبنياً على ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقة ومجازاً.
  والبيان القرآني غير جار هذا المجرى على ما تقدم بيانه في الأبحاث السابقة بل هو كلام موصول بعضها ببعض في عين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض كما قاله علي ( عليه السّلام ) فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء ـ 82 ، وقد مر بيانه في الكلام على الايجاز وغيره.
  فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف وبعبارة اخرى إنما نهى ( عليه السّلام ) عن تفهم كلامه على نحو ما يتفهم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهم ربما صادف الواقع ، والدليل على ذلك قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في الرواية الاخرى : من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ فإن الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 77 _
  لكون الخطأ في الطريق وكذا قوله ( عليه السّلام ) في حديث العياشي : إن أصاب لم يوجر .
  ويؤيده ما كان عليه الأمر في زمن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فإن القرآن لم يكن مؤلفاً بعد ولم يكن منه إلا سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس فكان في تفسير كل قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.
  والمحصل : أن المنهي عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه ، وهذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة ، وكونه هي السنة ينافي القرآن ونفس السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الأخبار عليه ، فلا يبقى للرجوع إليه والاستعداد منه في تفسير القرآن إلا نفس القرآن.
  ومن هنا يظهر حال ما فسروا به حديث التفسير بالرأي فقد تشتتوا في معناه على أقوال.
  احدها : أن المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير ، وهي خمسة عشر علماً على ما أنهاه السيوطي في الإتقان : اللغة ، والنحو ، والتصريف ، و الاشتقاق ، والمعاني ، والبيان ، والبديع ، والقراءة ، واصول الدين ، واصول الفقه ، وأسباب النزول وكذا القصص ، والناسخ والمنسوخ ، والفقه والاحاديث المبينة لتفسير المجملات والمبهمات ، وعلم الموهبة ، ويعني بالأخير ما أشار إليه الحديث النبوي : من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم .
  الثاني : أن المراد به تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
  الثالث : التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تبعاً فيرد إليه بأِي طريق أمكن وإن كان ضعيفاً .
  الرابع : التفسير بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل.
  الخامس : التفسير بالاستحسان والهوى : وهذه الوجوه الخمسة نقلها ابن النقيب على ما ذكره السيوطي في الإتقان ، وهنا وجوه اخر نتبعها بها .
  السادس : أن المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 78 _
  الأوائل من الصحابة والتابعين ، ففيه تعرض لسخط الله تعالى .
  السابع : القول في القرآن بما يعلم أن الحق غيره ، نقلهما ابن الأنباري.
  الثامن : أن المراد به القول في القرآن بغير علم وتثبت ، سواء علم أن الحق خلافه أم لا.
  التاسع : هو الأخذ بظاهر القرآن بناءاً على أنه لا ظهور له بل يتبع في مورد الآية النص الوارد عن المعصوم ، وليس ذلك تفسيراً للآية بل اتباعاً للنص ، ويكون التفسير على هذا من الشئون الموقوفة على المعصوم.
  العاشر : أنه لأخذ بظاهر القرآن بنائاً على أن له ظهوراً لا نفهمه بل المتبع في تفسير الآية هو النص عن المعصوم.
  فهذه وجوه عشرة ، وربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض ، وكيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل ، على أن بعضها ظاهر البطلان أو يظهر بطلانه بما تقدم في المباحث السابقة ، فلا نطيل بالتكرار.
  وبالجملة فالمتحصل من الروايات والآيات التي تؤيدها كقوله تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) الآية ، وقوله تعالى : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) الحجر ـ 91 ، وقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الآية حم السجدة ـ 40 ، وقوله تعالى : ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) النساء ـ 46 ، وقوله تعالى : ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) أسرى ـ 36 ، إلى غير ذلك أن النهي في الروايات إنما هو متوجه إلى الطريق وهو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين.
  وليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ وسرد الجمل وإعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي وقد قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) إبراهيم ـ 4 ، وقال تعالى : ( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) النحل ـ 103 ، وقال تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الزخرف ـ 3.
  وإنما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 79 _
  توضيح ذلك : أنا من جهة تعلق وجودنا بالطبيعة الجسمانية وقطوننا المعجل في الدنيا المادية ألفنا من كل معنى مصداقه المادي ، واعتدنا بالأجسام والجسمانيات فإذا سمعنا كلام واحد من الناس الذين هم أمثالنا يحكي عن حال أمر من الامور وفهمنا منه معناه حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق والنظام الحاكم فيه لعلمنا بأنه لا يعني إلا ذلك لكونه مثلنا لا يشعر إلا بذلك ، وعند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم فربما خصص به العام أو عمم به الخاص أو تصرف في المفهوم بأي تصرف آخر وهو الذي نسميه بتصرف القرائن العقلية غير اللفظية.
  مثال ذلك أنا إذا سمعنا عزيزاً من أعزتنا ذا سؤدد وثروة يقول : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ، وتعقلنا مفهوم الكلام ومعاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق ، أن له أبنية محصورة حصينة تسع شيئاًً كثيراً من المظروفات فان الخزانة هكذا تتخذ إذا اتخذت ، وأن له فيها مقداراً وفراً من الذهب والفضة والورق والأثاث والزينه والسلاح ، فإن هذه الامور هي التي يمكن أن تخزن عندنا وتحفظ حفظاً ، وأما الأرض والسماء والبر والبحر والكوكب والإنسان فهي وإن كانت أشياء لكنها لا تخزن ولا تتراكم ، ولذلك نحكم بأن المراد من الشيء بعض من أفراده غير المحصورة ، وكذا من الخزائن قليل من كثير فقد عاد النظام الموجود في المصداق وهو أن كثيراً من الأشياء لا يخزن ، وأن ما يختزن منها إنما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة والغارة أوجب تقييداً عجيباً في إطلاق مفهوم الشيء والخزائن.
  ثم إذا سمعنا الله تعالى ينزل على رسوله قوله : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ) الحجر ـ 21 ، فإن لم يرق أذهاننا عن مستواها الساذج الأولي فسرنا كلامه بعين ما فسرنا به كلام الواحد من الناس مع أنه لا دليل لنا على ذلك البتة فهو تفسير بما نراه من غير علم.
  وإن رقت أذهاننا عن ذلك قليلاً ، وأذعنا بأنه تعالى لا يخزن المال وخاصة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية : ( وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) ، ويقول أيضاً : ( وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) الجاثية ـ 5 ، حكمنا بأن المراد بالشيء الرزق من الخبز والماء وأن المراد بنزوله نزول المطر لأنا لا نشعر بشيء ينزل من السماء غير المطر فاختزان كل شيء عند الله ثم نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 80 _
  ونزوله لتهيئة المواد الغذائية، وهذا أيضاً تفسير بما نراه من غير علم إذ لا مستند له إلا أنّا لا نعلم شيئاًً ينزل من السماء غير المطر ، والذي بأيدينا هيهنا عدم العلم دون العلم بالعدم .
  وإن تعالينا عن هذا المستوى أيضاً واجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم وأبقينا الكلام على إطلاقه التام ، وحكمنا أن قوله : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ) يبين أمر الخلقة غير أنا لما كنا لا نشك في أن ما نجده من الأشياء المتجددة بالخلقة كالإنسان والحيوان والنبات وغيرها لا تنزل من السماء ، وإنما تحدث حدوثاً في الأرض حكمنا بأن قوله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ، كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادة الله تعالى ، وأن الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة وإنما يخرج منه وينزل من عنده تعالى ، ما يتعلق به مشيته تعالى ، وهذا أيضاً كما ترى تفسير للآية بما نراه من غير علم ، إذ لا مستند لنا فيه سوى أنا نجد الأشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى الذي نعهده من النزول ، ولا علم لنا بغيره .
  وإذا تأملت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله والقيامة وما يتعلق بها ، وحكم أحكامه وملاكاتها ، وتأملت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية وجدت أن ذلك كله من قبيل التفسير بالرأي من غير علم ، وتحريف لكلمه عن مواضعها .
  وقد تقدم في الفصل الخامس من البحث في المحكم والمتشابه أن البيانات القرآنية بالنسبة الى المعارف الإلهية كالأمثال أو هي أمثال بالنسبة الى ممثلاًتها. وقد فرقت في الآيات المتفرقة ، وبينت ببيانات مختلفة ليتبين ببعض الآيات ما يمكن أن يختفي معناه في بعض ، ولذلك كان بعضها شاهداً على البعض ، والآية مفسرة للآية ، ولولا ذلك لاختل أمر المعارف الإلهية في حقالقها ، ولم يمكن التخلص في تفسير الآية من القول بغير علم على ما تقدم بيانه .
  ومن هنا يظهر أن التفسير بالرأي كما بيناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير الحديث النبوي السابق : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
  ومن هنا يظهر أيضاً : أن ذلك يؤدي الى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدي الى وقوع الآية في غير

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 81 _
  موقعها ، ووضع الكلمة في غير موضعها .
  ويلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها كما يتأول المجبرة آيات الاختيار ، والمفوضة آيات القدر ، وغالب المذاهب في الإسلام لا يخلو عن التأول في الآيات القرآنية وهي الآيات التي لا يوافق ظاهرها مذهبهم ، فيتشبثون في ذلك بذيل التأويل استناداً إلى القرينة العقلية ، وهو قولهم : إن الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه.
  وبالجملة يؤدي ذلك إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها ، ودفع مقاصد بعضها ببعض ، ويبطل بذلك المراد ان جميعاً إذ لا اختلاف في القرآن فظهور الاختلاف بين الآيات ـ بعضها مع بعض ـ ليس إلا لاختلال الأمر واختلاط المراد فيهما معاً .
  وهذا هو الذي ورد التعبير عنه في الروايات بضرب بعض القرآن ببعض كما في الروايات التالية :
  في الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عن أبيه ( عليهما السلام ) قال : ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.
  وفي المعاني والمحاسن مسنداً وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.
  قال الصدوق سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث فقال : هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية اخرى.
  أقول : ما أجاب به لا يخلو عن إبهام ، فإن أراد به الخلط المذكور وما هو المعمول عند الباحثين في مناظراتهم من معارضة الآية بالآية وتأويل البعض بالتمسك بالبعض فحق ، وإن أراد به تفسير الآية بالآية والاستشهاد بالبعض للبعض فخطأ ، والروايتان التاليتان تدفعانه .
  وفي تفسير النعماني بإسناده إلى إسمعيل بن جابر قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السلام ) يقول : إِن الله تبارك وتعالى بعث محمداً فختم به الأنبياء فلا نبي بعده ، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده ، أحل فيه حلالاً وحرم .
  ( 3 ـ الميزان ـ 6 )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 82 _
  حراماً ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم ، وجعله النبي صلّى الله عليه وآله علماً باقياً في أوصيائه ، فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان ، وعدلوا عنهم ثم قتلوهم ، واتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم ، قال الله سبحانه : ( وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ) وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض ، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ ، واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام ، واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا.
  واعلموا رحمكم الله : أنه من لم يعرف من كتاب الله عز وجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام ، والمحكم من المتشابه ، والرخص من العزائم ، والمكي والمدني وأسباب التنزيل ، والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة ، وما فيه من علم القضاء والقدر ، والتقديم والتأخير ، والمبين والعميق ، والظاهر والباطن ، والابتداء والانتهاء ، والسؤال والجواب ، والقطع والوصل ، والمستثنى منه والجار فيه ، والصفة لما قبل مما يدل على ما بعد ، والمؤكد منه والمفصل ، وعزائمه ورخصه ، ومواضع فرائضه وأحكامه ، ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون ، والموصول من الألفاظ ، والمحمول على ما قبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله.
  ومتى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب ورسوله : ( وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ).
  وفي نهج البلاغة والاحتجاج قال ( عليه السّلام ) : ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعاً وإلههم واحد ونبيهم واحد ، وكتابهم واحد ، فأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فاطاعوه ؟ أم نهاهم عنه فعصوه ؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ؟ أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ؟ أم أنزل الله ديناً تاماً فقصر الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن تبليغه وأدائه ؟ والله سبحانه يقول : ما فرطنا في الكتاب من شيء وفيه تبيان كل شيء ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 83 _
  وذكر أن الكتّاب يصدق بعضه بعضاً ، وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ، وإن القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق لا تحصى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلا به.
  أقول : والرواية كما ترى ناصة على أن كل نظر ديني يجب أن ينتهي إلى القرآن ، وقوله : فيه تبيان ، نقل للآية بالمعنى .
  وفي الدر المنثور وأخرج ابن سعد وابن الضريس في فضائله وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب فقال : بهذا ضلت الامم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم ، وضرب الكتاب بعضه ببعض ، قال : وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً ، فما عرفتم فاعملوا به ، وما تشابه عليكم فآمنوا به .
  وفيه أيضاً وأخرج أحمد من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سمع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قوماً يتدارئون فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وانما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه.
  أقول : والروايات كما ترى يعد ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلاً لتصديق بعض القرآن بعضاً وهو الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها ، والإخلال بترتيب مقاصدها كأخذ المحكم متشابهاً والمتشابه محكماً ونحو ذلك.
  فالتكلم في القرآن بالرأي ، والقول في القرآن بغير علم كما هو موضوع الروايات المنقولة سابقاً وضرب القرآن بعضه ببعضه كما هو مضمون الروايات المنقولة آنفاً يحوم الجميع حول معنى واحد وهو الاستمداد في تفسير القرآن بغيره .
  فان قلت : لا ريب أن القرآن إنما نزل ليعقله الناس ويفهموه كما قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ ) الزمر ـ 41 ، وقال تعالى : ( هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ) آل عمران ـ 138 ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولا ريب أن مبينه هو الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كما قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل ـ 44 ، وقد بينه للصحابة ، ثم أخذ عنهم التابعون فما نقلوه عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الينا فهو بيان نبوي لا يجوز

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 84 _
  التجافي والإغماض عنه بنص القرآن ، وما تكلموا فيه من غير إسناده إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فهو وإن لم يجر مجرى النبويات في حجيتها لكن القلب إليه أسكن فإن ما ذكروه في تفسير الآيات إما مسموع من النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أو شيء هداهم إليه الذوق المكتسب من بيانه وتعليمه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكذا ما ذكره تلامذتهم من التابعين ومن يتلوهم ، وكيف يخفى عليهم معاني القرآن مع تعرقهم في العربية ، وسعيهم في تلقيها من مصدر الرسالة ، واجتهادهم البالغ في فقه الدين على ما يقصه التاريخ من مساعي رجال الدين في صدر الاسلام.
  ومن هنا يظهر أن العدول عن طريقتهم وسنتهم ، والخروج من جماعتهم ، وتفسير آية من الآيات بما لا يوجد بين أقوالهم وآرائهم بدعة ن والسكوت عما سكتوا عنه واجب.
  وفي ما نقل عنهم كفاية لمن أراد فهم كتاب الله تعالى ، فانه يبلغ زهاء الوف من الروايات ، وقد ذكر السيوطي أنه أنهاه إلى سبعة عشر ألف رواية عن النبي وعن الصحابة والتابعين.
  قلت : قد مر فيما تقدم أن الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممن شاهد عصر النزول أو غاب عنه إلى تعقل القرآن وتامله والتدبر فيه وخاصة قوله تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء ـ 82 تدل دلالة واضحة على أن المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر والبحث ، ويرتفع به ما يترائى من الاختلاف بين الآيات ، والآية في مقام التحدي ، ولا معنى لارجاع فهم معاني الآيات ـ والمقام هذا المقام ـ إلى فهم الصحابة وتلامذتهم من التابعين حتى إلى بيان النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فإن ما بينه إما أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام فهو مما يؤدى إليه اللفظ ولو بعد التدبر والتأمل والبحث ، وإما أن يكون معنى لا يوافق الظاهر ولا أن الكلام يؤدي إليه فهو مما لا يلائم التحدي ولا تتم به الحجة وهو ظاهر .
  نعم تفاصيل الأحكام مما لا سبيل إلى تلقيه من غير بيان النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر ـ 7 وما في معناه من الآيات ، وكذا تفاصيل القصص والمعاد مثلاًً .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 85 _
  ومن هنا يظهر أن شأن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في هذا المقام هو التعليم فحسب والتعليم إنما هو هداية المعلم الخبير ذهن المتعلم وإرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به والحصول عليه لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم ، فإنما التعليم تسهيل للطريق وتقريب للمقصد ، لا ايجاد للطريق وخلق للمقصد والمعلم في تعليمه إنما يروم ترتيب المطالب العلمية ونضدها على نحو يستسهله ذهن المتعلم ويأنس به فلا يقع في جهد الترتيب وكدّ التنظيم فيتلف العمر وموهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة.
  وهذا هو الذي يدل عليه أمثال قوله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) الآية النحل ـ 44 ، وقوله تعالى : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) الجمعة ـ 2 فالنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إنما يعلم الناس ويبين لهم ما يدل عليه القرآن بنفسه ، ويبينه الله سبحانه بكلامه ، ويمكن للناس الحصول عليه بالآخرة لأنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يبين لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى فإن ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى : ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) فصلت ـ 3 ، وقوله تعالى : ( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) النحل ـ 103.
  على أن الأخبار المتواترة عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن والأخذ به وعرض الروايات المنقولة عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مما يمكن استفادته من الكتاب ولو توقف ذلك على بيان النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان من الدور الباطل وهو ظاهر .
  على أن ما ورد به النقل من كلام الصحابة مع قطع النظر عن طرقه لا يخلو عن الاختلاف فيما بين الصحابة أنفسهم بل عن الاختلاف فيما نقل عن الواحد منهم على ما لا يخفى على المتتبع المتأمل في أخبارهم ، والقول بأن الواجب حينئذ أن يختاروا أحد الأقوال المختلفة المنقولة عنهم في الآية ، ويجتنب عن خرق إجماعهم ، والخروج عن جماعتهم مردود بأنهم أنفسهم لم يسلكوا هذا الطريق ، ولم يستلزموا هذا المنهج ولم يبالوا بالخلاف فيما بينهم فكيف يجب على غيرهم ، أن يقفوا على ما قالوا به ولم يختصوا بحجية قولهم على غيرهم ولا بتحريم الخلاف على غيرهم دونهم.
  على أن هذا الطريق وهو الاقتصار على ما نقل من مفسري صدر الاسلام من

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 86 _
  الصحابة والتابعين في معاني الآيات القرآنية يوجب توقف العلم في سيره ، وبطلان البحث في أثره كما هو مشهود في ما بأيدينا من كلمات الأوايل والكتب المؤلفة في التفسير في القرون الاولى من الإسلام ولم ينقل منهم في التفسير إلا معان ساذجة بسيطة خالية عن تعمق البحث وتدقيق النظر فأين ما يشير إليه قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل ـ 89 من دقائق المعارف في القرآن ؟
  وأما استبعاد أن يختفى عليهم معاني القرآن مع ما هم عليه من الفهم والجد والاجتهاد فيبطله نفس الخلاف الواقع بينهم في معاني كثير من الآيات والتناقض الواقع في الكلمات المنقولة عنهم إذ لا يتصور اختلاف ولا تناقض إلا مع فرض خفاء الحق واختلاط طريقه بغيره .
  فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود ، وإن البيان الإلهي والذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه ، أي انه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق ، فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنه هدى وأنه نور وأنه تبيان لكل شيء مفتقراً إلى هاد غيره ومستنيراً بنور غيره ومبيناً بأمر غيره ؟
  فإن قلت : قد صح عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنه قال في آخر خطبة خطبها : إني تارك فيكم الثقلين : الثقل الاكبر والثقل الاصغر ، فأما الأكبر فكتاب ربي ، وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما رواه الفريقان بطرق متواترة عن جم غفير من أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عنه أنهى علماء الحديث عدتهم إلى خمس وثلاثين صحابياً ، وفي بعض الطرق : لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، والحديث دال على حجية قول أهل البيت ( عليهم السلام ) في القرآن ووجوب اتباع ما ورد عنهم في تفسيره والاقتصار على ذلك وإلا لزم التفرقة بينهم وبينه.
  قلت : ما ذكرناه في معنى اتباع بيان النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) آنفاً جار هيهنا بعينه ، والحديث غير مسوق لإبطال حجية ظاهر القرآن وقصر الحجية على ظاهر بيان أهل البيت ( عليهم السلام ) كيف وهو ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : لن يفترقا ، فيجعل الحجية لهما معاً فللقرآن الدلالة على معانيه والكشف عن المعارف الإلهية ولأهل البيت الدلالة على الطريق وهداية الناس إلى أغراضه ومقاصده.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 87 _
  على أن نظير ما ورد عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في دعوة الناس إلى الأخذ بالقرآن والتدبر فيه وعرض ما نقل عنه عليه وارد عن أهل البيت ( عليهم السلام ).
  على أن جماً غفيراً من الروايات التفسيرية الواردة عنهم ( عليهم السلام ) مشتملة على الاستدلال بآية على آية ، والاستشهاد بمعنى على معنى ، ولا يستقيم ذلك إلا بكون المعنى مما يمكن أن يناله المخاطب ويستقل به ذهنه لوروده من طريقه المتعين له .
  على أن هيهنا روايات عنهم ( عليهم السلام ) تدل على ذلك بالمطابقة كما رواه في المحاسن بإسناده عن أبى لبيد البحراني عن أبي جعفر ( عليه السّلام ) في حديث قال : فمن زعم أن كتاب الله مبهم فقد هلك وأهلك.
  ويقرب منه ما فيه وفي الاحتجاج عنه ( عليه السّلام ) قال : إذا حدثتكم بشيء ـ فاسألوني عنه من كتاب الله الحديث.
  وبما مر من البيان يجمع بين أمثال هذه الأحاديث الدالة على إمكان نيل المعارف القرآنية منه وعدم احتجابها من العقول وبين ما ظاهره خلافه كما في تفسير العياشي عن جابر قال : قال أبو عبد الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إن للقرآن بطناً وللبطن ظهراً ، ثم قال : يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال منه إن الآية لتنزل أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف على وجوه ، وهذا المعنى وارد في عدة روايات ، وقد رويت الجملة أعني قوله ، وليس شيء أبعد ( إلخ) في بعضها عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقد روي عن علي ( عليه السّلام ) : أن القرآن حمال ذو وجوه الحديث ، فالذي ندب إليه تفسيره من طريقه والذي نهى عنه تفسيره من غير طريقه وقد تبين أن المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه وتفسير الآية بالآية وذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم وتهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود ، والله الهادي.
  ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 88 _
  َذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ * زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ * شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ـ 18.

( بيان )
  قد تقدم أن المسلمين عند نزول السورة كانوا مبتلين في داخل جماعتهم بالمنافقين وآخرين سماعين لهم ولما يلقيه إليهم أعداء الاسلام من النزعات والوساوس لتقليب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 89 _
  الامور عليهم وإفساد دعوتهم ومبتلين في خارج جمعهم بثوران الدنيا عليهم وانتهاض المشركين واليهود والنصارى لإبطال دعوتهم وإخماد نارهم وإطفاء نورهم بأى وسيلة أمكنت من لسان أو يد وأن غرض السورة دعوتهم إلى توحيد الكلمة وإلى الصبر والثبات ليصلح بذلك أمرهم وينقطع ما نشأ من الفساد في داخل جوهم ، وما يطرأ ويهجم عليهم منه من خارجه.
  وقد كانت الآيات السابقة أعني قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) تعريضاً للمنافقين والزائغين قلباً ودعوة للمسلمين إلى التثبت فيما فهموه من معارف الدين ، والتسليم والإيمان فيما اشتبه لهم ولم يفتهموه من كنهه وحقيقته بالتنبيه على أن شر ما يفسد أمر الدين ويجر المسلمين إلى الفتنة واختلال نظام السعادة هو اتباع المتشابهات وابتغاء التأويل فيتحول بذلك الهداية الدينية إلى الغي والضلال ويتبدل به الاجتماع افتراقاً ، والشمل شتاتاً .
  ثم وقع التعرض في هذه الآيات لحال الكفار والمشركين وأنهم سيغلبون وليسوا بمعجزين لله سبحانه ولا ناجحين في عتوهم بالتنبيه على أن الذي أوجب ضلالهم والالتباس عليهم هو ما زين لهم من مشتهيات الدنيا فزعموا بما رزقوا من مالها وولدها أن ذلك مغن لهم من الله سبحانه شيئاً وقد أخطأوا في زعمهم فالله سبحانه هو الغالب في أمره ، ولو كان المال والأولاد وما أشبهها مغنية من الله شيئاًً لأغنت آل فرعون ومن قبلهم من الامم الظالمة اولي الشوكة والقدرة لكنها لم تغن عنهم شيئاًً وأخذهم الله بذنوبهم فكذلك هؤلاء سيغلبون ويؤخذون فمن الواجب على المؤمنين أن يتقوا الله في هذه المشتهيات حتى ينالوا بذلك سعادة الدنيا وثواب الآخرة ورضوان ربهم سبحانه .
  فالآيات كما تعطيه مضامينها متعرضة لحال الكفار كما أن الآيات التالية لهذه الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب من اليهود والنصارى على ما سيأتي.
  قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا ) أغنى عنه ماله من فلان أي أعطاه الغنى ورفع حاجته فلا حاجة به إليه ، والإنسان في بادي تكونه وشعوره يرى نفسه محتاجة الى الخارج منه ، وهذا أول علمه الفطري الى احتياجه الى الصانع المدبر ثم إنه لما توسط في الأسباب وأحس بحوائجه بدء بإحساس الحاجة الى كماله البدني النباتي وهو الغذاء والولد ، ثم عرفت له نفسه سائر الكمالات

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 90 _
  الحيوانية ، وهي التي يزينها له الخيال من زخارف الدنيا من زينة الملبس والمسكن والمنكح وغير ذلك ، وعندئذ يتبدل طلب الغذاء الى طلب المال الذي يظنه مفتاحاً لحل جميع مشكلات الحيوة لأن العادة الغالبة تجري على ذلك فيظن أن سعادة حيوته في المال والولد بعد ما كان يظن أن ضامن سعادته هو الغذاء والولد ، ثم انكباب نفسه على مشتهياته ، وقصر همه على الأسباب يوجب أن يقف قلبه عند الأسباب ، ويعطي لها الاستقلال ، وحينئذ ينسى ربه ، ويتشبث بذيل المال والولد ، وفي هذا الجهل هلاكه فإنه يستر به آيات ربه ويكفر بها ، وقد التبس عليه الأمر فإن ربه هو : ( اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) لا يستغني عنه شيء بحال ولا يغني عنه شيء بحال .
  وبهذا البيان يظهر وجه تقديم الاموال على الأولاد في الآية فإن الركون الى المال ـ وقد عرفت أن الأصل فيه الغذاء ـ أقدم عند الإنسان من الركون إلى الأولاد وأعرف منه وإن كان حب الولد ربما غلب عند الإنسان على حب المال.
  وفي الآية إيجاز شبيه دفع الدخل ، والتقدير : إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا وزعموا أن أموالهم وأولادهم تغنيهم من الله ، وقد أخطأوا فلا غنى من الله سبحانه في وقت ولا في شيء ، على ما تدل عليه الآية التالية.
  قوله تعالى : واولئك هم وقود النار ، الوقود بفتح الواو ما توقد به النار وتشتعل ، والآية جارية مجرى قوله تعالى : ( فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) البقرة ـ 24 ، قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الأنبياء ـ 98 ، وقد مر بعض الكلام في معنى ذلك في سورة البقرة.
  والاتيان بالجملة الاسمية ، والابتداء باسم الإشارة ، وكونه دالاً على البعد وتوسيط ضمير الفصل ، وإضافه الوقود إلى النار دون أن يقال وقود ، كل ذلك يؤكد ظهور الكلام في الحصر ، ولازمه كون المكذبين من الكفار هم الأصل في عذاب النار وإيقاد جهنم ، وأِن غيرهم إنما يحترقون بنارهم ، ويتأيد بذلك ما سيأتي بيانه في قوله تعالى : ( لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ ) الآية الانفال ـ 37.
  قوله تعالى : كدأب آل فرعون والذين من قبلهم إلى آخر الآية ، الدأب على ما ذكروه هو السير المستمر ، قال تعالى : ( وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ ) إبراهيم ـ 33

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 91 _
  ومنه تسمية العادة دأباً لأنه سير مستمر ، وهذا المعنى هو المراد في الآية.
  وقوله : كدأب ، متعلق بمقدر يدل عليه قوله في الآية السابقة : لن تغني عنهم ، ويفسر الدأب قوله : كذبوا بآياتنا وهو في موضع الحال ، وتقدير الكلام كما مرت اليه الإشارة : ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) واستمروا عليها دائبين فزعموا أن في أموالهم وأولادهم غنى لهم من الله كدأب آل فرعون ومن قبلهم وقد كذبوا بآياتنا.
  وقوله : فأخذهم الله بذنوبهم ، ظاهر الباء أنها تفيد السببية ، يقال : أخذته بذنبه أي بسبب ذنبه لكن مقتضى المحاذاة التي بين الآيتين ؛ وقياسه حال هؤلاء الذين كفروا في دأبهم على آل فرعون والذين من قبلهم في دأبهم أن يكون البناء للآلة ، فإنه ذكر في الذين كفروا أنهم وقود النار تشتعل عليهم أنفسهم ويعذبون بها فكذلك آل فرعون ومن قبلهم إنما أخذوا بذنوبهم وكان العذاب الذي حل بساحتهم هو عين الذنوب التي اذنبوها ، وكان مكرهم هو الحائق بهم ، وظلمهم عائداً إليهم ، قال تعالى : ( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) الفاطر ـ 43 ، وقال تعالى : ( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) البقرة ـ 57.
  ومن هنا يتبين معنى كونه شديد العقاب ، فإن عقابه تعالى لا يقصد الإنسان ولا يتوجه إليه من جهة دون جهة ، وفي محل دون محل ، وعلى شرط دون شرط كما أن عقاب غيره كذلك فإن الشر الذي يوجهه إلى الإنسان مثله مثلاًً إنما يتوجه إليه من بعض الجهات دون بعض كفوق وتحت ، وفي بعض الأماكن دون بعض فيدفع بالفرار والتوقي والإلتجاء مثلاًً ، وهذا بخلاف عقاب تعالى فإنه يأخذ الإنسان بعمله وذنبه وهو مع الإنسان في باطنه وظاهره من غير أن ينفك عنه ، ويجعل الإنسان وقوداً لنار أحاط به سرداقها ، ولا ينفعه فرار ولا قرار ولا ، يوجد منه مناص ولا خلاص ، فهو شديد العقاب.
  وفي قوله تعالى : ( كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ ) ، التفات من الغيبة إلى الحضور أولاً ثم من الحضور إلى الغيبة ثانياً أما قوله : كذبوا بآياتنا ففيه تنشيط لذهن السامع وتقريب للخبر إلى الصدق فإنه بمنزلة أن يقول القائل : إن فلاناً بذي فحاش سيىء المحاضرة وقد ابتليت به فيجب الاجتناب عن معاشرته ، فجملة : وقد ابتليت به

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 92 _
  تصحيح للخبر وإثبات لصدقه بإرجاعه إلى الدراية ونحو من الشهادة.
  فالمعنى ـ والله أعلم ـ أن آل فرعون كانوا دائبين على دأب هؤلاء الذين كفروا في الكفر وتكذيب الآيات ـ ولا ريب في هذا الخبر فإنا كنا حاضرين شاهدين وقد : ( كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ) نحن فأخذناهم .
  وأما قوله : فأخذهم الله ، فهو رجوع بعد استيفاء المقصود إلى الأصل في الكلام وهو اسلوب الغيبة ، وفيه مع ذلك إِرجاع الحكم إلى مقام الالوهية القائمة بجميع شئون العالم والمهيمنة على كل ما دق وجل ، ولذلك كرر لفظ الجلالة ثانياً في قوله : ( وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ولم يقل : وهو شديد العقاب للدلالة على أن كفرهم وتكذيبهم هذا منازعة ومحاربة مع من له جلال الالوهية ويهون عليه أخذ المذنب بذنبه ، وهو شديد العقاب لانه الله جل اسمه.
  قوله تعالى : ( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ) إلى آخر الآية ، الحشر هو اخراج الجماعة عن مقرهم بالازعاج ، ولا يستعمل في الواحد ، قال تعالى : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) الكهف ـ 47 ، والمهاد هو الفراش ، وظاهر السياق أن المراد بالذين كفروا هم المشركون كما انه ظاهر الآية السابقة : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ ) ( الخ ) دون اليهود ، وهذا هو الأنسب لاتصال الآيتين حيث تذكر هذه الآية الغلبظة عليهم وحشرهم إلى جهنم وقد أشارت الآية السابقة إلى تقويم وتعززهم بالاموال والأولاد.
  قوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا ، ظاهر السياق أن يكون الخطاب للذين كفروا ، والكلام من تتمة قول النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ستغلبون وتحشرون ( الخ) ومن الممكن أن يكون خطاباً للمؤمنين بدعوتهم إلى الاعتبار والتفكر بما من الله عليهم يوم بدر حيث أيدهم بنصره تأييداً عجيباً بالتصرف في إبصار العيون وعليهذا يكون الكلام مشتملاً على نوع من الالتفات بتوسعة خطاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في قوله : ( قُل لِّلَّذِينَ ) بتوجيهه إليه وإلى من معه من المؤمنين ، لكن السياق ـ كما عرفت ـ للأول أنسب.
  والآية ـ بما تشتمل عليه من قصة التقاء الفئتين ونصره تعالى للفئة المقاتلة في سبيل الله ـ وان لم تتعرض بتشخيص القصة وتسمية الوقعة غير أنها قابلة الانطباق على وقعة بدر ، والسورة نازلة بعدها بل وبعد احد.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 93 _
  على أن الآية ظاهرة في أن هذه القصة كانت معهودة عند المخاطبين بهذه الخصوصية وهم على ذكر منها حيث يقول : قد كان لكم آية ( الخ ) ولم يقص تعالى قصة يذكر فيها التصرف في أبصار المقاتلين غير قصة بدر ، والذي ذكره في قصة بدر في سورة الانفال من قوله تعالى : ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ ) الأنفال ـ 44 ، وإن كان هو التقليل دون التكثير لكن لا يبعد أن يكون قد قلل فيها المؤمنين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم ولا يتولوا عن المقارعة ، ثم كثرهم في أعينهم بعد التلاقي والاختلاط لينهزموا بذلك .
  وكيف كان فالمعتمد ما كان في ذكرهم من التكثير في العيون فعلى تقدير أن يكون الخطاب في الآية متوجهاً إلى المشركين لا تنطبق الآية على غير وقعة بدر ، على أن قرائة ترونهم بالتاء أيضاً تؤيد ما ذكرناه.
  فمحصل معنى الآية : أنكم أيها المشركون لو كنتم من اولى الأبصار والبصائر لكفاكم في الاعتبار والدلالة على أن الغلبة للحق وأن الله يؤيد بنصره من يشاء ولا يغلب بمال ولا ولد ما رأيتموه يوم بدر فقد كان المؤمنون مقاتلين في سبيل الله سبحانه ، وقد كانوا فئة قليلة مستذلين لا يبلغون ثلث الفئة الكافرة ، ولا يقاسون بهم قوة ، كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ليس لهم إلا ستة أدرع وثمانية سيوف وفرسان ، وكان جيش المشركين قريباً من ألف مقاتل لهم من العدة والقوة والخيل والجمال والهيئة ما لا يقدر بقدر ، فنصر الله المؤمنين على قلتهم وذلتهم على أعدائه وكثّرهم في أعينهم فكانوا يرونهم مثليهم رأى العين ، وأيدهم الملائكة فلم ينفع المشركين ما كانوا يتعززون به من أموال وأولاد ولم يغنهم جمعهم ولا كثرتهم وقوتهم من الله شيئاًً .
  وقد ذكر الله سبحانه دأب آل فرعون : ( والذين من قبلهم في تكذيب آيات الله وأخذهم بذنوبهم ) في سورة الأنفال عند ذكر القصة مرتين كما ذكره هيهنا بعينه .
  وفي موعظتهم بتذكير وقعة بدر إيماء إلى أن المراد بالغلبة في الآيات السابقة الغلبة بالقتل والإبادة ، ففى آياته تهديد بالقتال .
  قوله تعالى : ( فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ) ، لم يقل وأُخرى في سبيل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 94 _
  الشيطان أو في سبيل الطاغوت ونحو ذلك لأن الكلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين بل لبيان أن لا غنى من الله تعالى ، وأن الغلبة له فالمقابلة بالحقيقة بين الإيمان بالله والجهاد في سبيله وبين الكفر به تعالى .
  والظاهر من السياق أن الضميرين في قوله يرونهم مثليهم راجعان إلى قوله : فئة تقاتل ، أي الفئة الكافرة يرون المؤمنين مثلي المؤمنين فهم يرونهم ستمائة وستة وعشرين ولقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وأما احتمال اختلاف الضميرين مرجعاً بأن يكون المعنى : يرون المؤمنين مثلي عدد الكافرين فبعيد عن اللفظ ، وهو ظاهر .
  وربما احتمل أن يكون الضميران راجعين إلى الفئة الكافرة ، ويكون المعنى يرى الكافرون أنفسهم مضاعفة مثلي عددهم ( يرون الالف ألفين ) ولازمه تقليلهم المؤمنين في النسبة فكانوا يرونهم سدس أنفسهم عددا مع كونهم ثلثاً لهم في النسبة وذلك ليطابق ما ذكره في هذه الآية قوله تعالى في قصة بدر : ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) الأنفال ـ 44 ، فإن الآية تنافي الآية.
  وأُجيب بأن ذلك يؤدي إلى اللبس غير اللائق بأبلغ الكلام بل كان من اللازم عليهذا أن يقال : يرون أنفسهم مثليهم أو ما يؤدي ذلك وأما التنافي بين الآيتين فإنما يتحقق مع اتحاد الموقف والمقام ، ولا دليل على ذلك لإمكان أن يقلل الله سبحانه كلا من الطائفتين في عين صاحبتها في بدء التلاقي لتشد بذلك قلوبهم وتزيد جرأتهم حتى إذا نشبت المقارعة وحمي الوطيس رأى الكافرون المؤمنين مثلي عددهم فانهزموا بذلك وولوا الأدبار ، وهذا نظير قوله تعالى في وصف يوم القيامة : ( لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ) الرحمن ـ 39 ، مع قوله : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون ) الصافات ـ 24 ، وليس إلا أن الموقف غير الموقف.
  وفي شأن الضميرين أعني في قوله يرونهم مثليهم ، احتمالات أُخر ذكروها غير أن الجميع تشترك في كونها خلاف ظاهر اللفظ ، ولذلك تركنا ذكرها ، والله العالم.
  قوله تعالى : ( وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء ) ، إن في ذلك لعبرة لاولي الأبصار ، التأييد من الأيد وهو القوة ، والمراد بالأبصار قيل : هو العيون الظاهرية لكون الآية مشتملة على التصرف في رؤية العيون ، وقيل : هو البصائر لأن العبرة إنما تكون

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 95 _
  بالبصيرة القلبية دون البصر الظاهري ، والأمر هين ، فإن الله سبحانه في كلامه يعدّ من لا يعتبر بالعبر والمثلات أعمى ، ويذكر أن العين يجب أن تبصر وتميز الحق من الباطل وفي ذلك دعوى أن الحق الذي يدعو إليه ظاهر متجسد محسوس يجب أن يبصره البصر الظاهر ، وأن البصيرة والبصر في مورد المعارف الإلهية واحد ( بنوع من الاستعارة ) لنهاية ظهورها ووضوحها ، والآيات في ذلك كثيرة جداً ، ومن أحسنها دلالة على ما ذكرنا قوله تعالى : ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحج ـ 46 ، أي أن الأبصار إنما هي في القلوب دون الرؤوس ، وقوله تعالى : ( وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ) الأعراف ـ 179 ، والآية في مقام التعجيب ، وقوله تعالى : ( وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) الجاثية ـ 23 ، إلى غير ذلك من الآيات ، فالمراد بالأبصار فيما نحن فيه هو العيون الظاهرية بدعوى أنها هي التي تعتبر وتفهم فهو من الاستعارة بالكناية ، والنكتة فيه ظهور المعنى كأنه بالغ حد الحس ، ويزيد في لطفه أن المورد يتضمن التصرف في رؤية العين الظاهرة.
  وظاهر قوله : إن في ذلك ( إلخ ) أنه تتمة لكلامه تعالى الذي يخاطب به النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وليس تتمة لقول النبي المدلول عليه بقوله : ( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ) ( إلخ) والدليل عليه الكاف في قوله : ذلك ، فإنه خطاب للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وفيهذا العدول إلى الخطاب الخاص بالنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إيماء إلى قلة فهمهم وعمى قلوبهم أن يعتبروا بأمثال هذه العبر.
  قوله تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء ) ( إلخ ) ، الآية وما يتلوها بمنزلة البيان وشرح حقيقة الحال لما تقدم من قوله تعالى آنفاً : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا ) ( إلخ ) إذ يظهر منه أنهم يعتقدون الاستغناء بالأموال والأولاد من الله سبحانه فالآية تبين أن سبب ذلك أنهم انكبوا على حب هذه المشتهيات وانقطعوا إليها عن ما يهمهم من أمر الآخرة ، وقد اشتبه عليهم الأمر فإن ذلك متاع الحيوة الدنيا ، ليس لها الا انها مقدمة لنيل ما عند الله من حسن المآب مع أنهم غير مبدعين في هذا الحب والاشتهاء ولا مبتكرون بل مسخرون بالتسخير الإلهي بتغريز أصل هذا الحب فيهم ليتم لهم الحيوة الأرضية فلو لا ذلك لم يستقم أمر النوع الإنساني في حيوته وبقائه بحسب ما قدره الله سبحانه من أمرهم حيث قال : ( وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) البقرة ـ 36.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 96 _
  وإنما قدر لهم ذلك ليتخذوها وسيلة إلى الدار الآخرة ويأخذوا من متاع هذه ما يتمتعون به في تلك لا لينظروا إلى ما في الدنيا من زخرفها وزينتها بعين الاستقلال وينسوا بها ما ورائها ، ويأخذوا الطريق مكان المقصد في عين أنهم سائرون إلى ربهم ، قال تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) الكهف ـ 8.
  إلا أن هؤلاء المغفلين أخذوا هذه الوسائل الظاهرة الإلهية التي هي مقدمات وذرائع إلى رضوان الله سبحانه اموراً مستقلة في نفسها محبوبة لذاتها وزعموا أنها تغني عنهم من الله شيئاًً فصارت نقمة عليهم بعد ما كانت نعمة ووبالاً بعد ما كانت مثوبة مقربة قال تعالى : ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء ) فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس إلى أن قال : ويوم يحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركائكم فزيلنا بينهم إلى أن قال : ( وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) يونس ـ 30 ، تشير الآيات إلى أن أمر الحيوة وزينتها بيده تعالى لاولي لها دونه لكن الإنسان باغتراره بظاهرها يظن أن أمرها إليه ، وأنه قادر على تدبيرها وتنظيمها فيتخذ لنفسه فيها شركاء ـ كالأصنام وما بمعناها من المال والولد وغيرهما ، إن الله سيوقفه على زلته فيذهب هذه الزينة ، ويزيل الروابط التي بينه وبين شركائه ، وعند ذلك يضل عن الإنسان ما افتراه على الله من شريك في التأثير ويظهر له معنى ما علمه في الدنيا وحقيقته ، ورد إلى الله موليه الحق.
  وهذا التزين أعني ظهور الدنيا للإنسان بزينة الاستقلال وجمال الغاية والمقصد لا يستند إلى الله سبحانه : ( فإن الرب العليم الحكيم ) أمنع ساحة من أن يدبر خلقه بتدبير لا يبلغ به غايته الصالحة ، وقد قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق ـ 3 ، وقال تعالى : ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) يوسف ـ 21 ، بل إن استند فإنما يستند إلى الشيطان قال تعالى : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) الأنعام ـ 43 ، وقال تعالى : ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُم ) الأنفال ـ 48.
  نعم لله سبحانه الإذن في ذلك ليتم أمر الفتنة ، وتستقيم التربية كما قال تعالى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 97 _
  : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) العنكبوت ـ 4 ، وعليهذا الاذن يمكن أن يحمل قوله تعالى : ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) الأنعام ـ 108 ، وإن أمكن أيضاً أن يحمل على ما مر من معنى التزيين المنسوب إليه تعالى في قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف ـ 7.
  وبالجملة التزيين تزيينان : تزيين للتوسل بالدنيا إلى الآخرة وابتغاء مرضاته في مواقف الحياة المتنوعة بالأعمال المختلفة المتعلقة بالمال والجاه والأولاد والنفوس ، وهو سلوك إلهي حسن ، نسبه الله تعالى إلى نفسه كما مر من قوله : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ) الآيات ، وكقوله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف ـ 32.
  وتزيين لجلب القلوب وإيقافها على الزينة وإلهائها عن ذكر الله وهو تصرف شيطاني مذموم ، نسبه الله سبحانه إلى الشيطان ، وحذر عباده عنه كما مر من قوله تعالى : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) الآية ، وقوله تعالى فيما يحكيه من قول الشيطان : ( قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر ـ 39 ، وقوله تعالى : ( زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ) التوبة ـ 37 ، إلى غير ذلك من الآيات.
  وهذا القسم ربما نسب إليه تعالى من حيث أن الشيطان وكل سبب من أسباب الخير أو الشر إنما يعمل ما يعمل ويتصرف في ملكه ما يتصرف بإذنه لينفذ ما أراده وشاءه ، وينتظم بذلك أمر الصنع والإيجاد ، ويفوز الفائزون بحسن إرادتهم واختيارهم ، ويمتاز المجرمون.
  وبما مر من البيان يظهر أن المراد من فاعل التزيين المبهم في قوله : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ) ( إلخ) ليس هو الله سبحانه فإن التزيين المذكور وإن كان له نسبة إليه تعالى سواء كان تزييناً صالحاً لأن يدعو إلى عبادته تعالى وهو المنسوب إليه بالاستقامة أو تزييناً ملهياً عن ذكره تعالى وهو المنسوب إليه بالإذن لكن لاشتمال الآية على ما .
  ( 3 ـ الميزان ـ 7)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 98 _
  لا ينسب إليه مستقيماً كما يجيء بيانه كان الأليق بأدب القرآن أن ينسب إلى غيره تعالى كالشيطان أو النفس.
  ومن هنا يظهر صحة ما ذكره بعض المفسرين : أن فاعل زين هو الشيطان لأن حب الشهوات أمر مذموم ، وكذا حب كثرة المال مذموم ، وقد خص تعالى بنفسه ما ذكره في آخر الآية وفي ما يتلوها .
  ويظهر به فساد ما ذكره بعضهم : أن الكلام في طبيعة البشر والحب الناشي فيها ومثله لا يسند إلى الشيطان بحال وإنما يسند إليه ما هو قبيل الوسوسة التي تزين للإنسان عملاً قبيحاً .
  قال : ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال ، قال تعالى : ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) وقال : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) وأما الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له ، قال عز وجل : ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) وقال : ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) فالكلام في الامم كلام في طبائع الاجتماع ، انتهى.
  وجه الفساد : أنه وإن أصاب في قوله : إن الحقائق وطبائع الأشياء لا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له لكنه أخطأ في قوله : إن الكلام في طبيعة البشر وما ينشأ منها بحسب الطبع ، وذلك أن السورة كما علمت في مقام بيان أن الله سبحانه هو القيوم على خلقه في جميع ما هم عليه من الخلق والتدبير والإيمان والكفر والإطاعة والعصيان ، خلق الخلق وهداهم إلى سعادتهم ، وأن الذين نافقوا في دينه من المنافقين أو كفروا بأياته من الكافرين أو بغوا بالاختلاف في كتابه من أهل الكتاب ، وبالجملة الذين أطاعوا الشيطان واتبعوا الهوى ليسوا بمعجزين لله غالبين عليه مفسدين لقيمومته بل الجميع راجع إلى قدره وتدبيره أمر خلقه في تحكيم ناموس الأسباب لتقوم بذلك سنّه الامتحان فهو الخالق للطبائع وقواها وميولها وأفعالها لتسلك بها إلى جوار ربها جوار القرب والكرامة وهو الذي أذن لإبليس ولم يمنعه من الوسوسة والنزعة ولم يمنع الإنسان من اتباعه باتباع الهوى ليتم أمر الامتحان وليعلم الله : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ) وإنما بين ذلك في هذه السورة ليتسلى بذلك نفوس المؤمنين ، ويطيب بذلك قلوبهم بما هم عليه عند نزول السورة من العسرة والشدة والابتلاء من الداخل بنفاق المنافقين وجهالة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 99 _
  الذين في قلوبهم مرض بإفساد الامور وتقليبها عليهم ، والتقصير في طاعة الله ورسوله ، ومن الخارج بالدعوة الشاقة الدينية ، ووثوب الكفار من العرب عليهم من جانب ، وأهل الكتاب واليهود منهم خاصه من جانب آخر ، وتهديد الكفار كالروم والعجم بالقوة والعدة من جانب آخر ، وهؤلاء الكافرون ومن يحذو حذوهم اشتبه عليهم الأمر في الركون إلى الدنيا وزخارفها حيث أخذوها غاية وهي مقدمة والغاية أمامها.
  فالسورة كما ترى تبحث عن طبائع الامم لكن بنحو وسيع يشمل جهات خلقهم وتكوينهم وجميع ما يتعقب ذلك في مسير حيوتهم من الخصائل وأعمال السعادة والشقاوة والطاعة والمعصية فتبين أن ذلك كله تحت قيمومته تعالى لا يقهر في قدرته ، ولا يغلب في أمره لا في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الدنيا فإنما هو إذن وامتحان ، وأما في الآخرة فإنما هو الجزاء إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
  وكذلك الآيات أعني قوله : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم إلى تمام تسع آيات في مقام بيان أن الكفار وإن كذبوا آيات ربهم وبدلوا نعم الله التي أنعمها عليهم ليتوسلوا بها إلى رضوانه وجنته فركنوا واعتمدوا عليها واستغنوا بها عن ربهم ، ونسوا مقامه ليسوا بمعجزين ولا غالبين فسيأخذهم الله بنفس أعمالهم ، ويؤيد عباده المؤمنين عليهم وسيحشرهم إلى جهنم وبئس المهاد ، وهم مع ذلك غالطون في الركون إلى ما ليس إلا متاعاً في الحياة الدنيا وعند الله حسن المآب ، فالآيات أيضاً تبحث عن طبيعة الكفار لكن بنحو وسيع يشمل الصالح والطالح من أعمالهم.
  على أن الآية التي ذكرها هذا القائل مستشهداً بها على أن الحقائق لا تسند إلا إلى الله وإنما يسند إلى الشيطان الأعمال أعني قوله تعالى : ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) يدل بما حف عليه من القرائن على خلاف ذلك ويؤيد ما ذكرناه وهو قوله تعالى : ( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) الأنعام ـ 108 ، وهو ظاهر .
  وكذا يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن التزيين على قسمين محمود ومذموم والأعمال نوعان حسنة وسيئة ، وإنما يسند إلى الله سبحانه ما هو منها محمود ممدوح حسن ، والباقي للشيطان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 100 _
  وهو وإن كان حقاً من وجه ولكنه إنما يصح في النسبة المستقيمة التي يعبر عنه بالفعل ونحوه فالله سبحانه لا يفعل إلا الجميل ، ولا يأمر بالسوء والفحشاء ، وأما النسبة غير المستقيمة وبالواسطة التي يعبر عنه بالإذن ونحوه فلا مانع عنها ، ولولا ذلك لم يستقم ربوبيته لكل شيء وخلقه لكل شيء وملكه لكل شيء وانتفاء الشريك عنه على الاطلاق ، والقرآن مشحون من هذه النسبة كقوله تعالى : ( يُضِلُّ مَن يَشَاء ) الرعد ـ 27 وقوله : ( أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف ـ 5 ، وقوله الله : ( يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ) البقرة ـ 15 ، وقوله : ( أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ ) الاسراء ـ 16 ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولم ينشأ خطأهم هذا إلا من جهة ما قصروا في البحث عن روابط الأشياء وآثارها وأفعالها فحسبوا كل واحد من هذه الامور الموجودة أمراً مستقل الوجود منقطع الذات عما يحتف به من مجموعة الأشياء وقبيل المصنوعات وما يتقدم عليها وما يتأخر عنها.
  ولزم ذلك أن يضعوا الحوادث التي هي نتائج تفاعل الأسباب والعلل على ما فطرها الله عليه في مسير السببية متقطعة متفرقة غير متصلة ولا مرتبطة فكانت كل حادثة حدثت عن أسبابها وكل فعل فعله فاعله منقطع الوجود عن غيره مملوكاً لصاحبه ليس لغير سببه المتصل به فيه نصيب ولا في حدوثه حظ ، فأجرام تدور ، وبحر تسري وفلك تجري ، وأرض تقل ، ونبات ينبت ، وحيوان يدبّ ، وإنسان يعيش ويكدح لا التيام روحي معنوي يجمعها ولا وحدة جسمية من المادة وقوتها توحدها .
  ثم تعقب ذلك أن يظنوا نظير هذا الانفصال والتلاشي بين عناوين الأعمال وصور الأفعال من خير وشر ، وسعادة وشقاء ، وهدى وضلال ، وطاعة ومعصية وإحسان وإساءه ، وعدل وظلم ، وغير ذلك فكانت غير مرتبطة الوجود ولا متشابكة التحقق.
  وقد ذهلوا عن أن هذا العالم بما يشتمل عليه من أعيان الموجودات وأنواع المخلوقات مرتبط الأجزاء متلائم الأبعاض ، يتبدل جزء منه إلى جزء ، ويتحول بعضه إلى بعض ، فيوماً إنسان ، ويوماً نبات ، ويوماً جماد ، ويوماً جمع ، ويوماً فرق ، وحيوة البعض بعينها ممات الآخر ، وكون الجديد منه فساد للقديم بعينه.
  وكذلك الحوادث الجارية مرتبطة ارتباط حلقات السلسلة أي وضع فرض لواحدة منها مؤثر في أوضاع ما يقارنها وما يتقدمها إلى أقدم العهود المفروضة للعالم