الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : لا أخاف على امتي إلا ثلاث خصال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تاويله وما يعلم تاويله إلا الله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) كل من عند ربنا وما يذكر إلا اولوا الألباب ، وأن يكثر علمهم فيضيعونه ولا يبالون به .
  وهذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدل إلا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم، ولا ينفع المستدل إلا الثاني.
  ومثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه ، وعدم دلالتها على النفي مما لا يرتاب فيه .
  ومثل ما في تفسير الآلوسي عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً : أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب .
  والحديث مع كونه مرفوعاً ومعارضاً بما نقل عنه من دعوة الرسول له وادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن : أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر .
  والذي ينبغي أن يقال : أن القرآن يدل على جواز العلم بتاويله لغيره تعالى ، وأما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.
  أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق : أن الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه وتفرق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل الى اتباع المتشابه لريغ في قلبه وثابت على اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه ، فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمهم ، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتاويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الإشارة اِليها ، فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به .
  لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 52 _
  مثل العلم بالغيب قال تعالى : ( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ) النمل ـ 65 ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ ) يونس ـ 20 ، وقال تعالى : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ) الأنعام ـ 59 ، فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) الجن ـ 27.
  أثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول ، ولذلك نظائر في القرآن.
  وأما الجهة الأولى ـ وهي أن القرآن يدل على جواز العلم بتاويله لغيره تعالى في الجملة ـ فبيانه : أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته الى مدلول الآية نسبة الممثل الى المثل ، فهو وإن لم يكن مدلولاً للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعاً من الحكاية والحفظ ، نظير قولك : « في الصيف ضيعت اللبن » لمن أراد أمراً قد فوت أسبابه من قبل ، فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو تضييع المرئة اللبن في الصيف لا ينطبق شيء منه على المورد ، وهو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.
  كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية وإن لم تكن أمراً يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها ويظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والإشارة كما أن قول السيد لخادمه ، اسقني ينتشي عن اقتضاء الطبيعة الإنسانية لكمالها ، فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود والبقاء ، وهو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن ، وهو يقتضي الغذاء اللازم ، وهو يقتضي الري ، وهو يقتضي الأمر بالسقي مثلاًً ؛ فتاويل قوله : اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الإنسانية من اقتضاء الكمال في وجوده وبقائه ، ولو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شيء آخر يباين الأول مثلاً لتبدل الحكم الذي هو الأمر بالسقي الى حكم آخر وكذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانية على اختلافها الفاحش في الآداب والرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن والقبح الذي عندهم وهو يستند الى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية ومكانية وسوابق عادات ورسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه ، وتكرر المشاهدة ممن شاهده

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 53 _
  من أهل منطقته ، فهذه العلة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنها محكيّة مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك ، ولو فرض تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتى به من الفعل أو الترك.
  فالأمر الذي له التأويل سواء كان حكماً أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل لا محالة ، ولذلك ترى أنه تعالى في قوله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) الآية ، لما ذكر اتباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاءاً للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تاويله الذي ليس بتأويل له وليس إلا لأن التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان اتباعهم للمتشابه اتباعاً حقاً غير مذموم وتبدل الأمر الذي يدل عليه المحكم وهو المراد من المتشابه الى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه واتبعوه.
  فقد تبين : أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند اليه آيات القرآن في معارفها وشرائعها وسائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شيء من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين.
  وإذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى : ( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ 4 ، فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند الله أمراً أعلى وأحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطع والتفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتاباً مقرراً وألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله ومعرفته ما دام في ام الكتاب ، وام الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ) الرعد ـ 39 ، وبقوله : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) البروج ـ 22 .
  ويدل على إجمال مضمون الآية أيضاًً قوله تعالى : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود ـ 1 ، فالإحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه ولا فصل ، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وآية آية وتنزيله على النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
  ويدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الأولى قوله تعالى : ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 54 _
  لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) أسرى ـ 106 ، فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق ونزل تنزيلاً واوحي نجوماً .
  وليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على الحال الذي هو عليه الآن عندنا كتاباً مؤلفاً مجموعاً بين الدفتين مثلاًً ثم فرق وانزل على النبي نجوماً ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقري منا قطعات ثم يعلمه ويقريه متعلمه كل يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه.
  وذلك أن بين إنزال القرآن نجوماً على النبي وبين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقاً بيناً وهو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولا شيء من ذلك ولا ما يشبهه في تعلم المتعلم ، فالقطعات المختلفة الملقاة الى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع وينضم بعضها الى بعض في زمان واحد ، ولا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) المائدة ـ 13 ، وقوله تعالى : ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ ) التوبة ـ 123 ، وقوله تعالى : ( قد سمع الله قول : التي تجادلك في زوجها ) المجادلة ـ 1 ، وقوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة ـ 103 ، ونحو ذلك فيلغى سبب النزول وزمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حيوة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فالمراد بالقرآن في قوله : وقرآناً فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة.
  وبالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح.
  من الجسد والمتمثل من المثال ـ وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم ـ وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه ، وليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة ولا المعاني المدلول عليها بها ، وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه.
  وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل ، ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية والنفوس غير المطهرة.
  ثم إنه تعالى قال : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة ـ 79 ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغير ، ومن التغير تصرف الاذهان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 55 _
  بالورود عليه والصدور منه وليس هذا المس إلا نيل الفهم والعلم ومن المعلوم أيضاًً : أن الكتاب المكنون هذا هو ام الكتاب المدلول عليه بقوله يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ، وهو المذكور في قوله : وإنه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم .
  وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم ، وليس ينزلها إلا الله سبحانه ، فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة الى نفسه كقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) الاحزاب ـ 33 ، وقوله تعالى : ( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ ) المائدة ـ 6 ، وما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلا منسوبة الى الله أو بإذنه ، وليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب ، وليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به ويريد به ، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين ، ويرجع الى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان الى الشك ونوسان بين الحق والباطل ، وثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمائل الى اتباع الهوى ونقض ميثاق العلم ، وهذا هو الرسوخ في العلم فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم الى ابتغاء الفتنة ، فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم هذا.
  ولكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان ، فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل ، ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم ، لما أن تطهير قلوبهم منسوب الى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب ، لا أن الراسخين في العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل ، فإن الآية لا تثبت ذلك ، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى : يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية وقد وصف الله تعالى رجالاً من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك ، وشكرهم على الإيمان والعمل الصالح في قوله : ( لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ) الآية النساء ـ 162 ، ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.
  وكذلك إن الآية أعني قوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون لم تثبت للمطهرين إلا مس الكتاب في الجملة ، وأما أنهم يعلمون كل التأويل ولا يجهلون شيئاًً منه ولا في وقت فهي ساكتة عن ذلك ، ولو ثبت لثبت بدليل منفصل .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 56 _
5 ـ ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه ؟
  ومن الاعتراضات التي اوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات وهو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة ، فيه وأنه قول فصل يميز بين الحق والباطل ، ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه ، وليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته ، أفليس أنه لو جعله جلياً نقياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب ، وأقطع لمادة الخلاف والزيغ.
  وأُجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق ومشقة البحث وذلك موجب لمزيد الأجر والثواب ! وكالجواب بأنه لو لم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه ، لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه وكان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به ! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل ، وفي ذلك خروج عن ظلمة التقليد ودخول في ضوء النظر والاجتهاد ! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة ، وفي ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة والصرف والنحو واصول الفقه !
  فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر ، والذي يستحق الايراد والبحث من الأجوبة وجوه ثلثة :
  الأول : أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق ، به فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولاًً واضحاً لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى والتسليم لرسله .
  وفيه أن الخضوع هو نوع انفعال وتأثر من الضعيف في مقابل القوي ، والإنسان إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهوره الادراك كقدرة الله غير المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها ، وأما الامور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر ويغادر باعتقاد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 57 _
  أنه يدركها فما معنى خضوعه لها ؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها وهو لا يعقل .
  الثاني : أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث والتنقير ، لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر ، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان.
  وفيه : أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية إجمالاً في موارد من كلامه ، وتفصيلاً في موارد اخرى كخلق السموات والأرض والجبال والشجر والدواب والإنسان واختلاف ألسنته وألوانه ، وندب إلى التعقل والتفكر والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين ، وحرض على العقل والفكر ، ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في امور ليس إلا مزالق للأقدام ومصارع للأفهام .
  الثالث : أن الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامة والخاصة ، والذكي والبليد والعالم والجاهل ، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء ، فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة فيها بالتسليم وتفويض الأمر إلى الله تعالى .
  وفيه : أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها ، ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف عنها المحكمات ، وعند ذلك يبقى السؤال ( وهو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات ؟ ) على حاله ، ومنشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متبائنين معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات ، ومعان سنخها بحيث لا يتلقاها الا الخاصة من المعارف العالية والحكم الدقيقة ، فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات ، وقد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضاً وغير ذلك.
  والذي ينبغي أن يقال : أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 58 _
  التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضاً بالمعنى الذي أوضحناه للتاويل فيما مر .
  ويتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني والتعليم الإلهي والامور التي بنيت عليها معارفه والغرض الأقصى من ذلك وهي امور :
  منها : أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تاويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية والأحكام والقوانين وسائر ما يتضمنه التعليم الإلهي ، وأن هذا التأويل الذي تستقبله وتتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله وأزال عنهم الرجس ، فإن لهم خاصة أن يمسوه .
  وهذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شيء ، ومفتاحه التطهير الإلهي ، وقد قال تعالى : ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ ) المائدة ـ 7 ، فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.
  وهذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد خاصة ، وإن كانت الدعوة متعلقة بالجميع متوجهة إلى الكل ، فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة وبعض التطهير في آخرين ، ويختلف ذلك باختلاف درجات الناس ، كما أن الاسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل.
  قال تعالى : ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) آل عمران ـ 102 ، ولكن لا يحصل كماله إلا في أفراد وفيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل ، كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم وأفهامهم ، وهكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية والدعوة ، يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن لا ينالها إلا البعض ، ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.
  وبالحقيقه امثال هذه الغابات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه .
  ومنها : أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل : أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدء والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبط به من الواقعيات معرفة حقيقية .
  وأما في ناحية العمل فبتحميل قوانين

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 59 _
  اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حيوته الاجتماعية ، ولا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم والعرفان ، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجه نفسه ، وخلوص قلبه إلى المبدء والمعاد ، وإشرافه على عالم المعنى والطهارة ، والتجنب عن قذارة الماديات وثقلها.
  وأنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر ـ 10 ، وضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى : ( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ ) الآية ، وإلى قوله تعالى : ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) المائدة ـ 105 ، وقوله تعالى : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة ـ 11 ، وما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين وهداية الإنسان إليه ، والسبيل الذي سلكه لذلك فافهم .
  و يتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة : هي أن القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها ، والتكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله وبآياته ، فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية وفساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.
  وهذه النتيجة ـ على أنها واضحة التفرع على البيان ـ تؤيدها التجربة أيضاًً : فإنك إذا تأملت جريان الأمر في طروق الفساد في شئون الدين الإسلامي بين هذه الامة وأمعنت النظر فيه : من أين شرع وفي أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف ، وقد ذكرناك فيما مر : أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات وابتغاء تأويلها ، ولم يزل الأمر على ذلك حتى اليوم.
  ومنها : أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس وركوز العلم بينهم ما أستطيع ، فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة وكيف لا ؟ ولا يوجد بين كتب الوحي كتاب ، ولا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم ويحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن والاسلام !
  وهذا المعنى هو الموجب لان يبين الكتاب للإنسان حقائق المعارف أولاً ، وارتباط ما شرعه له من الأحكام العملية بتلك الحقائق ثانياً ، وبعبارة اخرى أن يفهمه :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 60 _
  أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده ووسط في خلقه وبقائه ملائكته وسائر خلقه من سماء وأرض ونبات وحيوان ومكان وزمان وما عداها وأنه سائر إلى معاده وميعاده سيراً اضطرارياً ، وكادح إلى ربه كدحاً فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله ، أيما إلى جنة ، أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف.
  ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي ، وما تؤديه إلى شقوة النار ما هي ؟ أي يبين له الأحكام العبادية والقوانين الاجتماعية ، وهذه طائفة اخرى.
  ثم يبين له : أن هذه الأحكام والقوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه : أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى ، وأن تشريعها وجعلها للإنسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الإنسان في الدنيا والآخرة ، وهذه طائفة ثالثة .
  وظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة والطائفة الأولى بمنزلة النتيجة ، والطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى ، ودلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة ولا حاجة إلى إيرادها.
  ومنها : أنه لما كانت عامه الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس ولا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة والطبيعة ، وكان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني وكليات القواعد والقوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني والكليات كان ذلك موجباً لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس والمحسوس اختلافاً شديداً ذا عرض عريض على مراتب مختلفة ، وهذا أمر لا ينكره أحد.
  ولا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حيوته وعيشته ، فإن كان مأنوساً بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء ، وإِن كان نائلاً للمعاني الكلية فبما نال وعلى قدر ما نال ، وهذا ينال المعاني من البيان الحسي والعقلي معاً بخلاف المأنوس بالحس .
  ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف وتشمل عامة الطبقات ، وهو ظاهر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 61 _
  وهذا المعنى أعني اختلاف الأفهام وعموم أمر الهداية مع ما عرفت من وجود التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الأمثال ، وهو أن يتخذ ما يعرفه الإنسان ويعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع بالمثاقيل ولا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلا ما بينهما من المناسبة وزناً.
  والآيات القرآنية المذكورة سابقاً كقوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ 4 ، وما يشابهه من الآيات وإن بينت هذا الأمر بطريق الإشارة والكناية ، لكن القرآن لم يكتف بذلك دون أن بينه بما ضربه مثلاًً في أمر الحق والباطل فقال تعالى : ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) الرعد ـ 17 ، فبين أن حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله ، ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد منهما الحق الذي يحويانه ويصاحب كلا منهما امور غير مقصودة ولا نافعة يعلوهما ويربوهما لكنها ستزول وتبطل ، ويبقى الحق الذي ينفع الناس ، وإنما يزول ويزهق بحق آخر هو مثله ، وهذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقاً مقصوداً ، ويصاحبه ويعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود ، لكنه سيزول بحق آخر يظهر الحق الأول على الباطل الذي كان يعلوه ، ليحق الحق بكلماته ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ، والكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم الكون كالكلام في أقواله عز من قائل .
  وبالجملة : المتحصل من الآية الشريفة : أن المعارف الحقة الإلهية كالماء الذي أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب ، من غير تقييد بكمية ولا كيفية ، ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة والضيق ، وهذه الأقدار امور ثابتة كل في محله كالحال في اصول المعارف والأحكام التشريعية ، ومصالح الأحكام التي ذكرنا فيما مر أنها روابط تربط الأحكام بالمعارف الحقة.
  وهذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي، وهي في مسيرها ربما صحبت ما هو

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 62 _
  كالزبد يظهر ظهوراً ثم يسرع في الزوال وذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات ، فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه ويضع مكانه حكماً آخر، هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي.
  وأما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ والدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها ، تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها ، وهذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر ، ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل ، لان الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات والمألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها ، وجل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الاصلية ، ومصالح الأحكام وملاكاتها كما مر ، وأما الأحكام والقوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة ، ومن هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات والمعارف ، دون متن الأحكام والقوانين الدينية.
  ومنها : أنه تحصل من البيان السابق : أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية لأن البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلا الحسيات ولا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات ، ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام والجسمانيات أحد محذورين : فإن الأفهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس والمحسوس انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة ، وفيه بطلان الحقائق وفوت المرادات والمقاصد وإن لم تجمد وانتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة والنقيصة.
  نظير ذلك أنا لو القي الينا المثل السائر : عند الصباح يحمد القوم السرى ، أو تمثل لنا بقول صخر :

أهم  بأمر الحزم لا iiأستطيعه      وقد حيل بين العير والنزوان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 63 _
  فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الأمر الممثل له نجرد المثل عن الخصوصيات المكتنفة بالكلام كالصباح والقوم والسرى ، ونفهم من ذلك أن المراد : أن حسن تأثير عمل وتحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه وبدا أثره ، وأما هو ما دام الإنسان مشتغلاً به محساً تعب فعله فلا يقدر قدره ، ويظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر ، وأما إذا لم نعهد الممثل وجمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل وعاد المثل خبراً من الأخبار ، ولو لم نجمد وانتقلنا إجمالاً إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذي يجب طرحه بالتجريد وما يجب حفظه للفهم وهو ظاهر .
  ولا مخلص عن هذين المحذورين إلا بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة ، وتقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضاً ، ويوضح بعضها أمر بعض ، فيعلم بالتدافع الذي بينها أولاً : أن البيانات أمثال ولها في ما ورائها حقائق ممثلة ، وليست مقاصدها ومرادتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس والمحسوس وثانياً : بعد العلم بأنها أمثال : يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة بالكلام ، وما يجب حفظه منها للحصول على المرام ، وإنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك وذاك نفي بعض ما في هذا.
  وإيضاح المقاصد المبهمة والمطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة والأمثال والأمثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الألسنة واللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم ، ولغة دون لغة ، وليس ذلك إلا لأن الإنسان يشعر بقريحة البيان مساس حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة اخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب .
  فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة ، وأن يرفع التشابه الواقع في آية بالإحكام الواقع في آية اخرى ، واندفع بذلك الإشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية والبيان.
  وقد ظهر من جميع ما تقدم من الأبحاث على طولها امور :
  الأول : أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين : محكم ومتشابه ، وذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه وعدم اشتمالها.
  الثاني : أن لجميع القرآن محكمه ومتشابهه تأويلاً .
  وأن التأويل ليس من قبيل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 64 _
  المفاهيم اللفظية بل من الامور الخارجية ، نسبته إلى المعارف والمقاصد المبينة نسبة الممثل إلى المثال ، وأن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي عند الله.
  الثالث : أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون : « وهم راسخون في العلم ».
  الرابع : أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها ومقاصدها ، وهذا المعنى غير ما ذكرناه في الأمر الثاني من كون معارفه أمثالاً وقد أوضحناه فيما مر .
  الخامس : أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات ، كما أن من الواجب أن يشتمل على المحكمات.
  السادس : أن المحكمات ام الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان .
  السابع : أن الإحكام والتشابه وصفان يقبلان الإضافة والاختلاف بالجهات بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمه من جهة ، متشابهة من جهة اخرى فتكون محكمة بالإضافة إلى آية ومتشابهة بالاضافة إلى اخرى.
  ولا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن ، ولا مانع من وجود محكم على الاطلاق.
  الثامن : أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضاً .
  التاسع : أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى ، مترتبة طولاً من غير أن تكون الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، أو مثل عموم المجاز ، ولا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد ، بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام.
  ولتوضيح ذلك نقول : قال الله تبارك وتعالى : ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) آل عمران ـ 102 ، فأنبأ أن للتقوى الذي هو الانتهاء عما نهى الله عنه والايتمار بما أمر الله به مرتبة هي حق التقوى ، ويعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة ، فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب ودرجات بعضها فوق بعض .
  وقال أيضاًً : ( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) آل عمران ـ 163 ، فبين أن العمل مطلقاً ، سواء كان صالحاً أو طالحاً درجات ومراتب ، والدليل على أن المراد بها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 65 _
  درجات العمل قوله : ( واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ).
  ونظير الآية قوله تعالى : ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) الاحقاف ـ 19 ، وقوله تعالى : ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) الأنعام ـ 132 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وفيها ما يدل على أن درجات الجنة ودركات النار بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها.
  ومن المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد قلبي يناسبه ، وقد استدل تعالى على كفر اليهود وعلى فساد ضمير المشركين وعلى نفاق المنافقين من المسلمين وعلى إيمان عدة من الأنبياء والمؤمنين بأعمالهم وأفعالهم في آيات كثيرة جداً يطول ذكرها فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم ويدل عليه.
  وبالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم ويحصله ويركزه في النفس كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت ـ 69 ، وقال تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) الحجر ـ 99 وقال أيضاًً : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ) الروم ـ 10 ، وقال : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ) البراءة ـ 77 ، والآيات في هذا المعنى أيضاًً كثيرة تدل الجميع على أن العمل صالحاً كان أو طالحاً يولد من أقسام المعارف والجهالات ( وهي العلوم المخالفة للحق ) ما يناسبه .
  وقال تعالى ـ وهو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح والعلم النافع ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) ـ الفاطر ـ 10 ، فبين أن شأن الكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق أن يصعد إلى الله تعالى ويقرب صاحبه منه ، وشأن العمل الصالح أن يرفع هذا العلم والاعتقاد ومن المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من الشك والريب وكمال توجه النفس إليه وعدم تقسم القلب فيه وفي غيره ( وهو مطلق الشرك ) فكلما كمل خلوصه من الشك والخطوات اشتد صعوده وارتفاعه.
  ولفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك ، فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود .
  ( 3 ـ الميزان ـ 5)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 66 _
  ووصف العمل بالرفع ، والصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع ، وهما أعني الصعود والارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلو بنسبته إلى الجانبين فهو صاعد بالنظر إلى قصده العلو واقترابه منه ، ومرتفع من جهة انفصاله من السفل وابتعاده منه ، فالعمل يبعد الإنسان ويفصله من الدنيا والإخلاد إلى الأرض بصرف نفسه عن التعلق بزخارفها الشاغلة والتشتت والتفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية وكلما زاد الرفع والارتفاع زاد صعود الكلم الطيب ، وخلصت المعرفة عن شوائب الأوهام وقذارات الشكوك ، ومن المعلوم أيضاًً كما مر : أن العمل الصالح ذو مراتب ودرجات ، فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب وتوليد العلوم والمعارف الحقة الإلهية على ما يناسب حالها.
  والكلام في العمل الطالح ووضعه الإنسان نظير الكلام في العمل الصالح ورفعه وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) الحمد ـ 6.
  فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم وبعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل والعلم ، ولازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقيه أهل المرتبة والدرجة الاخرى التي فوق هذه أو تحتها فقد ، تبين أن للقرآن معاني مختلفة مترتبة .
  وقد ذكر الله سبحانه أصنافاً من عباده ، وخص كل صنف بنوع من العلم والمعرفة لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين وخص بهم العلم ، بأوصاف ربهم حق العلم قال تعالى : ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافات ـ 160 ، وخص بهم أشياء أُخر من المعرفة والعلم سيجيء بيانها أنشاء الله تعالى ، وكالموقنين وخص بهم مشاهدة ملكوت السموات والأرض قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام ـ 75 ، وكالمنيبين وخص بهم التذكر قال تعالى : ( وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ) المؤمن ـ 13 ، وكالعالمين وخص بهم عقل أمثال القرآن ، قال تعالى : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت ـ 43 ، وكأنهم اولوا الألباب والمتدبرون لقوله تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) محمد ـ 24 ولقوله تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء ـ 82 ، فإن مؤدى الآيات

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 67 _
  الثلاث يرجع إلى معنى واحد وهو العلم بمتشابه القرآن ورده إلى محكمه ، وكالمطهرين خصهم الله بعلم تأويل الكتاب ، قال تعالى : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة ـ 79 ، وكالاولياء وهم أهل الوله والمحبة لله وخص بهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء إلا الله سبحانه ولذلك لا يخافون شيئاًً ولا يحزنون لشيء ، قال تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) يونس ـ 62 ، وكالمقربين والمجتبين والصديقين والصالحين والمؤمنين ولكل منهم خواص من العلم والإدراك يختصون بها ، سنبحث عنها في المحال المناسبة لها .
  ونظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها ، ولها خواص رديئة في باب العلم والمعرفة ، ولها أصحاب كالكافرين والمنافقين والفاسقين والظالمين وغيرهم ، ولهم انصباء من سوء الفهم وردائة الإدراك لآيات الله ومعارفه الحقة ، طوينا ذكرها إيثاراً للاختصار ، وسنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إنشاء الله.
  العاشر : أن للقرآن اتساعاً من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها فالآيه منه لا يختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكاً كالأمثال التي لا تختص بمواردها الاول ، بل تتعداها إلى ما يناسبها ، وهذا المعنى هو المسمى بجرى القرآن ، وقد مر بعض الكلام فيه في أوائل الكتاب.
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي : سئل أبو عبد الله ( عليه السّلام ) عن المحكم والمتشابه قال : المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله .
  اقول : وفيه تلويح إلى أن المتشابه مما يمكن العلم به .
  وفيه أيضاًً عنه ( عليه السّلام ) : أن القرآن محكم ومتشابه : فأما المحكم فتؤمن به وتعمل به وتدين ، وأما المتشابه فتؤمن به ولا تعمل به ، وهو قول الله عز وجل : ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، والراسخون في العلم هم آل محمد .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 68 _
  اقول : وسيجيء كلام في معنى قوله ( عليه السّلام ) : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) هم آل محمد .
  وفيه أيضاًً عن مسعدة بن صدقة قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السّلام ) عن الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه قال : الناسخ الثابت المعمول به ، والمنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله .
  قال : وفي رواية : الناسخ الثابت ، والمنسوخ ما مضى ، والمحكم ما يعمل به ، والمتشابه ما يشبه بعضه بعضاً .
  وفي الكافي عن الباقر ( عليه السّلام ) في حديث قال : فالمنسوخات من المتشابهات.
  وفي العيون عن الرضا ( عليه السّلام ) : من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم .
  ثم قال إن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ، فردوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا .
  أقول : الأخبار كما ترى متقاربة في تفسير المتشابه ، وهي تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق : أن التشابه يقبل الارتفاع ، وأنه إنما يرتفع بتفسير المحكم له .
  وأما كون المنسوخات من المتشابهات فهو كذلك كما تقدم ووجه تشابهها ما يظهر منها من استمرار الحكم وبقائه ، ويفسره الناسخ ببيان أن استمراره مقطوع .
  وأما ما ذكره ( عليه السّلام ) في خبر العيون أن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن ، فقد وردت في هذا المعنى عنهم ( عليهم السلام ) روايات مستفيضة ، والاعتبار يساعده فإن الأخبار لا تشتمل إلا على ما اشتمل عليه القرآن الشريف ، ولا تبين إلا ما تعرض له وقد عرفت فيما مر : أن التشابه من أوصاف المعنى الذي يدل عليه اللفظ وهو كونه بحيث يقبل الانطباق على المقصود وعلى غيره لا من أوصاف اللفظ من حيث دلالته على المعنى نظير الغرابة والاجمال ، ولا من أوصاف الأعم من اللفظ والمعنى.
  وبعبارة اخرى : إنما عرض التشابه لما عرض عليه من الآيات لكون بياناتها جارية مجرى الأمثال بالنسبة إلى المعارف الحقة الإلهية ، وهذا المعنى بعينه موجود في الأخبار ففيها متشابه ومحكم كما في القرآن ، وقد ورد عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنه قال : إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم.
  وفي تفسير العياشي عن جعفر بن محمد عن أبيه ( عليهما السلام ) : أن رجلاً قال لأمير المؤمنين ( عليه السّلام ) : هل تصف لنا ربنا نزداد له حباً ومعرفة ؟ فغضب وخطب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 69 _
  الناس فقال فيما قال ـ عليك يا عبد الله بما دلك عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسول من معرفته ، واستضئ من نور هدايته فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها ، فخذ ما اوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان عليه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ، ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أمره فكل علمه إلى الله ، ولا تقدر عظمة الله واعلم يا عبد الله : أن الراسخين في العلم الذين اختارهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا آمنا به كل من عند ربنا ، وقد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخاً فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
  أقول : قوله ( عليه السّلام ) : واعلم يا عبدالله أن الراسخين في العلم إلخ ظاهر في أنه عليه السلام أخذ الواو في قوله تعالى : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) يقولون ، للاستيناف دون العطف كما استظهرناه من الآية ومقتضى ذلك أن ظهور الآية لا يساعد على كون الراسخين في العلم عالمين بتأويله ، لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به ، فلا ينافي وجود بيان آخر يدل عليه كما تقدم بيانه وهو ظاهر بعض الأخبار عن أئمه أهل البيت كما سيأتي. وقوله ( عليه السّلام ) : الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب ، خبر إن ، والكلام ظاهر في تحضيض المخاطب وترغيبه أن يلزم طريقة الراسخين في العلم بالاعتراف بالجهل فيما جهله فيكون منهم ، وهذا دليل على تفسيره ( عليه السّلام ) الراسخين في العلم بمطلق من لزم ما علمه ولم يتعد إلى ما جهله ، والمراد بالغيوب المحجوبة بالسدد : المعاني المرادة بالمتشابهات المخفية عن الأفهام العامة ولذا أردفه بقوله ثانياً : فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره ، ولم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم .
  وفي الكافي عن الصادق عليه السلام : نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله .
  أقول : والرواية لا تخلو عن ظهور في كون قوله تعالى : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، معطوفاً على المستثنى في قوله : وما يعلم تأويله إلا الله لكن هذا الظهور يرتفع بما مر من البيان وما تقدم من الرواية ، ولا يبعد كل البعد أن يكون المراد بالتأويل هو المعنى المراد بالمتشابه فإن هذا المعنى من التأويل المساوق لتفسير المتشابه كان شائعاً في الصدر الأول بين الناس.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 70 _
  وأما قوله ( عليه السّلام ) : نحن الراسخون في العلم ، وقد تقدم في رواية للعياشي عن الصادق عليه السلام قوله : والراسخون في العلم هم آل محمد ؛ وهذه الجملة مروية في روايات اخر أيضاًً فجميع ذلك من باب الجرى والانطباق كما يشهد بذلك ما تقدم ويأتى من الروايات.
  وفي الكافي أيضاًً عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام إلى أن قال : يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين : انهم قالوا : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ، علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها ، إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله ، لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ينظرها ، ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقاً ، وسره لعلانيته موافقاً ، لان الله عز اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه.
  أقول : قوله ( عليه السّلام ) : لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، في معنى قوله تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) ، وقوله عليه السلام : ومن لم يعقل عن الله « إلخ» أحسن بيان لمعنى الرسوخ في العلم لأن الأمر ما لم يعقل حق التعقل لم ينسد طرق الاحتمالات فيه ، ولم يزل القلب مضطرباً في الإذعان به وإذا تم التعقل وعقد القلب عليه لم يخالفه باتباع ما يخالفه من الهوى فكان ما في قلبه هو الظاهر في جوارحه وكان ما يقوله هو الذي يفعله ، وقوله : ولا يكون أحد كذلك « الخ» بيان لعلامة الرسوخ في العلم.
  وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة ووائلة بن اسقف وأبي الدرداء أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سئل عن الراسخين في العلم فقال : من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم.
  أقول : ويمكن توجيه الرواية بما يرجع إلى معنى الحديث السابق.
  وفي الكافي عن الباقر ( عليه السّلام ) : أن الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه.
  أقول : وهو منطبق على الآية ، فإن الراسخين في العلم قوبل به فيها قوله : ( الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) ، فيكون رسوخ العلم عدم اختلاف العالم وارتيابه.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 71 _
  وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ام سلمة : أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
  قلت يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب ؟ قال نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه ، الحديث.
  أقول : وروي هذا المعنى بطرق عديدة عن عدة من الصحابة كجابر ونواس ابن شمعان وعبد الله بن عمر وأبي هريرة ، والمشهور في هذا الباب ما في حديث نواس : قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن.
  وقد روى اللفظة ( فيما أظن ) الشريف الرضي في المجازات النبوية.
  وروي عن علي ( عليه السّلام ) : أنه قيل له. هل عندكم شيء من الوحي ؟ قال : لا والذي فلق الحبة وبرء النسمة إلا أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه .
  أقول : وهو من غرر الأحاديث ، وأقل ما يدل عليه : أن ما نقل من أعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم.
  وفي الكافي عن الصادق عن أبيه عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله ( عليه السّلام ) : يا أيها الناس إنكم في دار هدنة ، وأنتم على ظهر سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ، ويقربان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود ، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز ، قال : فقام المقداد بن الأسود فقال : يا رسول الله وما دار الهدنة ؟ فقال : دار بلاغ وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع ، وماحل مصدق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له تخوم وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويخلص من نشب ، فإن التفكر حيوة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات ، فعليكم بحسن التخلص ، وقلة التربص.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 72 _
  أقول : ورواه العياشي في تفسيره إلى قوله : فليجل جال .
  وفي الكافي وتفسير العياشي أيضاًً عن الصادق ( عليه السّلام ) قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : القرآن هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الظلمة ، وضياء من الاحداث ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم ، وما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار.
  أقول : والروايات في هذا المساق كثيرة عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والأئمة من أهل بيته ( عليهم السلام ).
  وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا جعفر ( عليه السّلام ) عن هذه الرواية : ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ، وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع ، ما يعني بقوله ظهر وبطن ؟ قال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر ، كلما جاء منه شيء وقع ، قال الله : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، نحن نعلمه .
  أقول : الرواية المنقولة في ضمن الرواية هي ما روته الجماعة عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بألفاظ مختلفة وإن كان المعنى واحداً كما في تفسير الصافي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً ، وفيه عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أيضاًً : إن للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن.
  وقوله ( عليه السّلام ) منه ما مضى ومنه ما يأتي ، ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار اشتماله على التنزيل والتأويل فقوله : يجري كما يجري الشمس والقمر يجري فيهما معاً ، فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الأخبار في انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) التوبة ـ 120 ، على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الأعصار المتأخرة عن زمان نزول الآية ، وهذا نوع من الانطباق ، وكانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس ، وانطباق آيات المنافقين على الفاسقين من المؤمنين ، وهذا نوع آخر من الانطباق أدق من الأول ، وكانطباقها وانطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة والذكر والحضور في تقصيرهم ومساهلتهم في ذكر الله تعالى ، وهذا نوع آخر أدق من ما تقدمه ، وكانطباقها عليهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 73 _
  في قصورهم الذاتي عن أداء حق الربوبية ، وهذا نوع آخر أدق من الجميع.
  ومن هنا يظهر أولاً : أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم ، وقد صور الباحثون عن مقامات الإيمان والولاية من معانيه ما هو أدق مما ذكرناه.
  وثانياً : أن الظهر والبطن أمران نسبيان ، فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس كما يظهر من الرواية التالية.
  وفي تفسير العياشي عن جابر قال : سألت أبا جعفر ( عليه السّلام ) عن شيء من تفسير القرآن فأجابني ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر ، فقلت : جعلت فداك كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم ! فقال : يا جابر إن للقرآن بطناً وللبطن بطن ، وظهراً وللظهر ظهر ، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القران ، إن الآية تكون أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف على وجوه.
  وفيه أيضاًً عنه ( عليه السّلام ) في حديث قال : ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقى من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السموات والأرض ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر .
  وفي المعاني عن حمران بن أعين قال : سألت أبا جعفر ( عليه السّلام ) عن ظهر القرآن وبطنه فقال : ظهره الذين نزل فيهم القرآن ، وبطنه الذين عملوا بأعمالهم ، يجري فيهم ما نزل في اولئك.
  وفي تفسير الصافي عن عليّ ( عليه السّلام ) : ما من آية إلا ولها أربعة معان : ظاهر وباطن وحد ومطلع ، فالظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع هو مراد الله من العبد بها .
  أقول : المراد بالتلاوة ظاهر مدلول اللفظ بدليل أنه ( عليه السّلام ) عده من المعاني ، فالمراد بالفهم في تفسيره الباطن ما هو في باطن الظاهر من المعنى ، والمراد بقوله : هو أحكام الحلال والحرام ظاهر المعارف المتلقاة من القرآن في أوائل المراتب أو أواسطها في مقابل المطلع الذي هو المرتبة العليا ، او الحد والمطلع نسبيان كما أن الظاهر والباطن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 74 _
  نسبيان كما عرفت فيما تقدم ، فكل مرتبة عليا هي مطلع بالنسبة إلى السفلى.
  والمطلع إما بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام اسم مكان من الإطلاع ، أو بفتح الميم واللام وسكون الطاء اسم مكان من الطلوع ، وهو مراد الله من العبد بها كما ذكره ( عليه السّلام ).
  وقد ورد هذه الامور الأربعة في النبوي المعروف هكذا : إن القرآن انزل على سبعة أحرف ، لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع ، وفي رواية : ولكل حد ومطلع.
   ومعنى قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ولكل حد مطلع على ما في إحدى الروايتين : أن لكل واحد من الظهر والبطن الذي هو حد مطلع يشرف عليه ، هذا هو الظاهر ، ويمكن أن يرجع إليه ما في الرواية الاخرى ، ولكل حد ومطلع بأن يكون المعنى : ولكل منهما حد هو نفسه ومطلع وهو ما ينتهي إليه الحد فيشرف على التأويل ، لكن هذا لا يلائم ظاهراً ما في رواية علي ( عليه السّلام ) : ما من آية إلا ولها أربعة معان « إلخ » إلا أن يراد أن لها أربعة اعتبارات من المعنى وإن كان ربما انطبق بعضها على بعض .
  وعلى هذا فالمتحصل من معاني الامور الأربعة أن الظهر هو المعنى الظاهر البادئ من الآية ، والباطن هو الذي تحت الظاهر سواء كان واحداً أو كثيراً ، قريباً منه أو بعيداً بينهما واسطة ، والحد هو نفس المعنى سواء كان ظهراً أو بطناً والمطلع هو المعنى الذي طلع منه الحد وهو بطنه متصلاً به فافهم .
  وفي الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : انزل القرآن على سبعة أحرف.
  اقول : والحديث وإن كان مروياً باختلاف ما في لفظه ، لكن معناها مروي مستفيضاً والروايات متقاربة معنى ، روتها العامة والخاصة.
  وقد اختلف في معنى الحديث اختلافاً شديداً ربما انهي إلى أربعين قولا ، والذي يهون الخطب أن في نفس الأخبار تفسيراً لهذه السبعة الأحرف وعليه التعويل.
  ففي بعض الأخبار : نزل القرآن على سبعة أحرف أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل ، وفي بعضها : زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 75 _
  وعن علي ( عليه السّلام ) : أن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام ، كل منها كاف شاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص.
  فالمتعين حمل السبعة الاحرف على أقسام الخطاب وأنواع البيان وهي سبعة على وحدتها في الدعوة إلى الله وإلى صراطه المستقيم ، ويمكن ان يستفاد من هذه الرواية حصر اصول المعارف الإلهية في الأمثال فإن بقية السبعة لا تلائمها إلا بنوع من العناية على ما لا يخفى .
  ( بحث آخر روائي )
  في الصافي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
  أقول : وهذا المعنى رواه الفريقان ، وفي معناه أحاديث اخر رووه عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ).
  وفي منية المريد عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار.
  أقول : ورواه أبو داود في سننه.
  وفيه عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار .
  وفيه عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.
  أقول : ورواه أبو داود و الترمذي والنسائي.
  وفيه عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : أكثر ما أخاف على امتي من بعدي رجل يناول القرآن يضعه على غير مواضعه .
  وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله ( عليه السّلام ) قال : من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ فهو أبعد من السماء.
  وفيه عن يعقوب بن يزيد عن ياسر عن الرضا ( عليه السّلام ) قال : الرأي في كتاب الله كفر .