ويقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصه يوسف ( عليه السّلام ) كقوله تعالى : ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) يوسف ـ 4 ، وقوله تعالى : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) يوسف ـ 100 ، فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه وإخوته له وإن كان رجوعاً لكنه من قبيل رجوع المثال إلى الممثل وكذا قوله تعالى : ( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ) ، قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد امة أنا انبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا إلى أن قال : ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ) يوسف ـ 48.
  وكذا قوله تعالى : ( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) ، وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نريك من المحسنين إلى ان قال : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) يوسف ـ 41.
  وكذا قوله تعالى : ( وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) يوسف ـ 61 وقوله تعالى : ( وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) يوسف ـ 21 ، وقوله تعالى : ( وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) يوسف ـ 101 ، فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصة يوسف ( عليه السّلام ) فيما يرجع إليه الرؤيا من الحوادث ، وهو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة والمثال ، فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر بها ، والحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به ، كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصة موسى والخضر ( عليهما السلام ) ، وكذا في قوله تعالى : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُم ) إلى قوله : ( وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) الآية اسرى ـ 35.
  والتدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضاًً في لفظة التأويل في قوله تعالى : ( بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) الآية ، وقوله تعالى : ( هَلْ يَنظُرُونَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 27 _
  إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ) الآية فإن أمثال قوله تعالى : ( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق ـ 22 ، تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب وأنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها والنظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتن ، ا هذه وسيجيء مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب والنبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل.
  فقد تبين بما مر أولا : أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة .
  وثانياً : أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا .
  وثالثاً : أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ بل هو من الامور الخارجية العينية ، واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق ، وأما إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلاً على كونه هو المراد من قوله تعالى : وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الآية ، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله عن قريب .
  قوله تعالى : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه ، لقربه كما هو الظاهر أيضاًً في قوله : وابتغاء تأويله وقد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصوراً على الآيات المتشابهة ، ومن الممكن أيضاًً رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله : ما تشابه منه .
  وظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصوراً عليه سبحانه ، وأما قوله : والراسخون في العلم ، فظاهر الكلام أن الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفاً للترديد الذي يدل عليه قوله في صدر الآية : فأما الذين في قلوبهم زيغ ، والمعنى : أن الناس في الأخذ بالكتاب قسمان : فمنهم من يتبع ما تشابه منه ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه : آمنا به كل من عند ربنا ، وإنما اختلفا لاختلافهم من جهه زيغ القلب ورسوخ العلم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 28 _
  على أنه لو كان الواو للعطف ، وكان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهو أفضلهم وكيف يتصور أن ينزل القرآن على قلبه وهو لا يدري ما اريد به ، ومن دأب القرآن إذا ذكر الامة أو وصف أمر جماعة وفيهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يفرده بالذكر أولاً ويميزه بالشخص تشريفاً له وتعظيماً لأمره ثم يذكرهم جميعاً كقوله تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) البقره ـ 285 ، وقوله تعالى : ( ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) التوبه ـ 26 وقوله تعالى : ( لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ) التوبه ـ 88 ، وقوله تعالى : ( وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) آل عمران ـ 68 ، وقوله تعالى : ( لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) التحريم ـ 8 ، إلى غير ذلك ، فلو كان المراد بقوله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، إنهم عالمون بالتأويل ـ ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) منهم قطعاً ـ كان حق الكلام كما عرفت أن يقال : وما يعلم تأويله إلا الله ورسوله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، هذا وإن أمكن أن يقال : ( إن قوله في صدر الآية ) ، ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) ( إلخ) يدل على كون النبي عالماً بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانياً .
  فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى ، ولا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) الجن ـ 27 ، ولا ينافيه أيضاًً : كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم ، إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم ، وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان والتسليم في مقابل الزائغين قلباً وبين أن تدل آيات اخر على أنهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته على ما سيجيء بيانه .
  قوله تعالى : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) ، الرسوخ هو أشد الثبات ، ووقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ثم توصيفهم بأنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يدل على تمام تعريفهم ، وهو أن لهم علماً بالله وبآياته لا يدخله ريب وشك ، فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل ، وهم يؤمنون به ويتبعونه أي يعلمون به وإذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها وتوقفوا عن اتباعها عملاً

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 29 _
  وفي قولهم : آمنا به كل من عند ربنا ذكر الدليل والنتيجة معاً فإن كون المحكم والمتشابه جميعاً من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكل : محكمه ومتشابهه ، ووضوح المراد في المحكم يوجب اتباعه عملاً ، والتوقف في المتشابه من غير رده لأنه من عند الله ولا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم ، وهذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله : كل من عند ربنا بمنزلة الدليل على الأمرين جميعاً ، أعني : الإيمان والعمل في المحكم ، والإيمان فقط في المتشابه والرجوع في العمل إلى المحكم.
  قوله تعالى : ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) ، التذكر هو الانتقال إلى دليل الشيء لاستنتاجه ، ولما كان قولهم : كل من عند ربنا كما مر استدلالاً منهم وانتقالاً لما يدل على فعلهم سماه الله تعالى تذكراً ومدحهم به .
  والألباب جمع لب وهو العقل الزكي الخالص من الشوائب ، وقد مدحهم الله تعالى مدحاً جميلاً في موارد من كلامه ، وعرَّفهم بأنهم أهل الإيمان بالله والإنابه إليه واتباع أحسن القول ، ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائماً فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) الزمر ـ 18 ، وقال تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ) آل عمران ـ 191 وهذا الذكر الدائم وما يتبعه من التذلل والخضوع هو الانابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله وانتقالهم إلى المعارف الحقة كما قال تعالى : ( وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ) الغافر ـ 13 : (وقد قال وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) البقره ـ 269 ، آل عمران ـ 7.
  قوله تعالى : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ، وهذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم ، وعقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده ، وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاًً فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجأوا إلى ربهم ، وسألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم ، وأن يهب لهم من لدنه رحمة تبقى لهم هذه النعمة ، ويعينهم على السير في

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 30 _
  صراط الهداية ، والسلوك في مراتب القرب.
  وأما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأن عدم إزاغه القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم وينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم ولا أشقياء بالازاغة بل في حال الجهل والاستضعاف ، وهم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم ، ومع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله سبحانه ، وهم مستشعرون بحاجتهم هذه ، والدليل عليه قولهم بعد : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه .
  فقولهم : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) ، استعاذه من نزول الزيغ إلى قلوبهم وإزاحته العلم الراسخ الذي فيها ، وقولهم : ( وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم ، وتنكير الرحمة ، وتوصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة ، وأنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم يعلمون أنه لولا رحمة من ربهم ولولا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر.
  وفي الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضاً واستيهاب الرحمة من لدنه محضاً دلالة على أنهم يرون تمام الملك لله محضاً من غير توجه إلى أمر الأسباب.
  قوله تعالى : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) ، هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة ، وذلك لعلمهم بان إقامة نظام الخلقة ودعوة الدين وكدح الإنسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا يغني فيه ولا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ، إلا من رحم الله ) الدخان ـ 42 ، ولذلك سألوا رحمة من ربهم وفوضوا تعيينها وتشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم.
  وقد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال والدعاء ، وعللوا هذا التوصيف أيضاًً بقولهم : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) لأن شأنهم الرسوخ في العلم ، ولا يرسخ العلم بشيء ولا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة ، وعلة عدم ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 31 _
  ونظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم وهب لنا من لدنك رحمة ، بقولهم : ( إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ، فكونه تعالى وهاباً يعلل به سؤالهم الرحمة ، وإتيانهم بلفظة أنت وتعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلل به قولهم : من لدنك ، الدال على الاختصاص ، وكذا يجري مثل الوجه في قولهم : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ) ، حيث عقبوه بما يجري مجرى العله بالنسبة إليه ، وهو قولهم بعد إذ هديتنا ، وقد مر آنفاً أن قولهم : آمنا به ، من حيث تعقيبه بقولهم ، كل من عند ربنا ، من هذا القبيل أيضاًًً.
  فهؤلاء رجال آمنوا بربهم وثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه ، وكمل عقولهم فلا يقولون الا عن علم ، ولا يفعلون الا عن علم فسماهم الله تعالى راسخين في العلم ، وكنى عنهم باولي الألباب ، وأنت إذا تدبرت ما عرف الله به اولى الألباب وجدته منطبقاً على ما ذكره من شأنهم في هذه الآيات ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) الزمر ـ 18 فوصفهم بالإيمان ، واتباع أحسن القول ، والإنابة إلى الله سبحانه ، وقد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات.
  وأما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله ان الله لا يخلف الميعاد فلأن هذا الميعاد لا يختص بهم بل يعمهم وغيرهم فكان الأولى تبديل قولهم : ربنا ، إلى لفظة الجلالة لأن حكم الالوهية عام شامل لكل شيء .

كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل
  هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم والمتشابه والتأويل فيما مر هو الذي يتحصل من تدبر كلامه سبحانه ، ويستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) سيجيء في البحث الروائي.
  لكن القوم اختلفوا في المقام ، وقد شاع الخلاف واشتد الانحراف بينهم ، وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة والتابعين ، وقلما يوجد في ما نقل الينا من كلامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلاً عن أن ينطبق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 32 _
  ليه تمام الانطباق.
  والسبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث عن معنى التأويل ، فأوجب ذلك اختلالاً عجيباً في عقد المسألة وكيفية البحث والنتيجة المأخوذة منه ، ونحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث وما قيل فيها وما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول :

1 ـ المحكم والمتشابه
  الإحكام والتشابه من الألفاظ المبينة المفاهيم في اللغة ، وقد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ) هود ـ 1 ، وقوله تعالى : ( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ) الزمر ـ 23 ، ولم يتصف بهما الا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه وبيانه ومن جهة تشابه نظمه وبيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان والإحكام.
  لكن قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) الآية ، لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات والمتشابهات علمنا أن المراد بالإحكام والتشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب ، وكان من الحري البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات ، وفيه أقوال ربما تجاوزت العشرة :
  أحدها أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام : ( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ) إلى آخر الآيات الثلاث الأنعام ـ 152 و المتشابهات هي التي تشابهت على اليهود ، وهي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل ألم وألر وحم وذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل ، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الامة وعمرها فاشتبه عليهم الأمر ، نسب إلى ابن عباس من الصحابة.
  وفيه أنه قول من غير دليل ولو سلم فلا دليل على انحصارهما فيهما ، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه .
  لكن الحق أن النسبة في غير محلها ، والذي نقل عن ابن عباس : أنه قال : إن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 33 _
  الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث ، ففي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن قيس سمعت ابن عباس يقول في قوله منه آيات محكمات ، قال : الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات : قل تعالوا ، والآيتان بعدها .
  ويؤيد ذلك ما رواه عنه أيضاًًً في قوله : آيات محكمات ، قال من هاهنا : قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات ، ومن هاهنا : وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه إلى آخر ثلاث آيات فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها .
  وثانيها : عكس الأول وهو أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها، نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى : هن ام الكتاب أنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن : ألم ذلك الكتاب ، منها استخرجت البقره : ( الم * اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ، منها استخرجت آل عمران. وعن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله : هن ام الكتاب ، قال : أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب ، انتهى، ويدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات والجمل ، كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.
  وفيه : مضافاً إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلاً أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه ، وقد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه ، وعده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى : ( وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ ) الأعراف ـ 157 ، وغيره من الآيات.
  وثالثها : أن المتشابه هو ما يسمى مجملاً والمحكم هو المبين.
  وفيه : أن ما بين من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل والمبين ، بيان ذلك : أن اجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات 3 ـ الميزان ـ 3

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 34 _
  معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها ، ويوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبيناً فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه ، فلو كان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم دون نفس المحكم ، وكان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتباع المتشابه أمراً يلحقه الذم ويوجب زيغ القلب.
  رابعها : أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها ولا يعمل بها ، والمحكمات هي الآيات الناسخة لأنها يؤمن بها ويعمل بها ، ونسب إلى ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة ، ولذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.
  وفيه : أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والأفعال ، على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه.
  وفيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم والمتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ والمنسوخ ، وأنه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور : أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ عن ابن عباس قال : المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به انتهى.
  خامسها : أن المحكمات ما كان دليله واضحاً لائحاً كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ، والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل وتدبر.
  وفيه : أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحاً لائحاً أو محتاجاً إلى التأمل والتدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهى وعدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح ، وحينئذ يكون اتباعها مذموماً مع انها واجبه الاتباع ، وإن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 35 _
  كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب وعدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة ، وكيف لا ؟ وهو كتاب متشابه مثاني ، ونور ، ومبين ولازمه كون الجميع محكماً وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب وهو خلف الفرض وخلاف النص.
  سادسها : أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي ، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه.
  وفيه : أن الأحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث أنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية ، والذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل ، ولا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره ، وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهدة اللفظ ؟ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى ، وأنه نور ، وأنه مبين ، وأنه في معرض فهم الكافرين فضلاً عن المؤمنين حيث قال : ( تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ) حم السجدة ـ 4 وقال تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء ـ 82 ، فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم ، ولا الوقوف عليه مستحيل ، وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابهاً .
  على أن في هذا القول خلطاً بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مر .
  سابعها : أن المحكمات آيات الأحكام والمتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضاً ، نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره.
  وفيه : أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص ، والتقييد بالمقيد وسائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضاًًً كغيرها متشابهات ، وإن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه ، ويتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشيء

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 36 _
  من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها ، ويتبين بذلك معانيها .
  ثامنها : أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً كثيرة ونسب إلى الشافعي ، وكأن المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص والظاهر القوي في ظهوره والمتشابه خلافه .
  وفيه : أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئاًً ، فقد بّدل لفظ المحكم بما ليس له إلا معنى واحد ، والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة ، على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنه خطأ ، ولو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله ، أو بالله وبالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، والمؤمن والكافر والراسخون في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء .
  تاسعها : أن المحكم ما احكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع اممهم ، والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة ، ولازم هذا القوم اختصاص التقسيم بآيات القصص.
  وفيه : أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلاً ، على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم والمتشابه وهو ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه ، فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها ، وتوجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.
  عاشرها : أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه وهذا الوجه منسوب إلى الامام أحمد.
  وفيه أن آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع أنها من المحكمات قطعاً لما تقدم بيانه مراراً ، وكذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.
  الحادي عشر : أن المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به ، ونسب إلى ابن تيمية ، ولعل المراد به : أن الأخبار متشابهات والإنشاءات

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 37 _
  محكمات كما استظهره بعضهم وإلا لم يكن قولاً برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة.
  وفيه : أن لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات ، ولازمه أن لا يمكن حصول العلم بشيء من المعارف الإلهية في غير الأحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها ، ومن جهة اخرى : الآيات المنسوخة إنشائات وليست بمحكمات قطعاً.
  والظاهر أن مراده من الإيمان والعمل بالمحكم والإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، إلا أن الأمرين أعني الإيمان والعمل معاً في المحكم والإيمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم والمتشابه قبلاً حتى يؤدي وظيفته وعليهذا فلا يكفي معرفة المحكم والمتشابه بهما في تشخيص مصداقهما وهو ظاهر .
  الثاني عشر : أن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله سبحانه كالعليم والقدير والحكيم والخبير ، وصفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم ( عليهما السلام ) : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) النساء ـ 171 ، وما يشبه ذلك ، نسب إلى ابن تيمية .
  وفيه : أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها .
  والذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله : أنه يأخذ المحكم والمتشابه بمعناهما اللغوي وهو ما احكمت دلالته وما تشابهت احتمالاته والمعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة وعلمها آخرون بالبحث وهم العلماء ، وهذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس ، فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب واليد والعين وغير ذلك اموراً جسمانية أو معاني ليست بالحق ، وتقوم بذلك الفتن ، وتظهر البدع ، وتنشأ المذاهب ، فهذا معنى المحكم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 38 _
  والمتشابه ، وكلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم ، والذي لا يمكن نيله والعلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات ، فهب أنّا علمنا معنى قوله : إن الله على كل شيء قدير ، وإن الله بكل شيء عليم ونحو ذلك لكنا لا ندري حقيقة علمه وقدرته وسائر صفاته وكيفية أفعاله الخاصة به ، فهذا هو تأويل المتشابهات الذي لا يعلمها إلا الله تعالى ، انتهى ملخصاً ، وسيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إنشاء الله.
  الثالث عشر : أن المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه .
  وفيه : أنه قول من غير دليل ، والآيات القرآنية وإن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل وما ليس للعقل إليه سبيل ، لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم والمتشابه فيهذه الآية استيفاء هذا التقسيم ، وشيء مما ذكر فيها من نعوت المحكم والمتشابه لا ينطبق عليه انطباقاً صحيحاً على أنه منقوض بآيات الأحكام فإنها محكمة ولا سبيل للعقل إليها.
  الرابع عشر : أن المحكم ما اريد به ظاهره والمتشابه ما اريد به خلاف ظاهره ، وهذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث ، وعليه يبتني اصطلاحهم في التأويل : أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام ، وكأنه ايضا مراد من قال : إن المحكم ما تأويله تنزيله : والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل .
  وفيه : أنه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم والمتشابه فإن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله ، وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزاً عن المحكم بأن له تأويلاً ، بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها ومتشابهها كما مر بيانه على أنه ليس في القرآن آية اريد فيها ما يخالف ظاهرها ، وما يوهم ذلك من الآيات إنما اريد بها معان يعطيها لها آيات اخر محكمة والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، ومن المعلوم أن المعنى الذي تعطيه القرائن ـ متصلة أو منفصلة ـ للفظ ليس بخارج عن ظهوره وبالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ويرتفع كل اختلاف وتناف مترائي بالتدبر ، فيه قال تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء ـ 82

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 39 _
  الخامس عشر : ما عن الأصم : أن المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه وكأن المراد بالإجماع والاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه الأنظار أو لا يختلف .
  وفيه : أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابهاً وينافيه التقسيم الذي في الآية إذ ما من آيه من آي الكتاب إلا وفيه اختلاف ما إما لفظاً أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها ، حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلاً بقوله تعالى : ( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا ) الزمر ـ 23 ، غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدل به آية محكمة وهو يناقض قوله ، وذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له .
  السادس عشر : أن المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الاشكال من جهة اللفظ أو من جهة المعنى ، ذكره الراغب.
  قال في مفردات القرآن والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ ، أو من حيث المعنى ، فقال الفقهاء المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده ، وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب محكم على الاطلاق ومتشابه على الاطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه .
  فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب متشابه من جهة اللفظ فقط ومتشابه من جهة المعنى فقط ، ومتشابه من جهتهما ، والمتشابه من جهة اللفظ ضربان : أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة ، وذلك إما من جهة غرابته نحو الأبّ ويزفّون وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين ، والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب ، وذلك ثلاثة أضرب : ضرب لاختصار الكلام نحو ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء ) وضرب لبسط الكلام نحو ليس كمثله شيء لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع ، وضرب لنظم الكلام نحو ( أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا ) تقديره الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً ، وقوله : ولو لا رجال مؤمنون إلى قوله لو تزيلوا .
  والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة ، فإن تلك

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 40 _
  الصفات لا تتصور لنا ، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه ، أو لم يكن من جنس ما لم نحسه .
  والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب : الأول : من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين ، والثاني : من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو فانكحوا ما طاب لكم ، والثالث : من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتقوا الله حق تقاته ، والرابع : من جهة المكان أو الامور التي نزلت فيها نحو وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، وقوله : انما النسيء زيادة في الكفر ، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية ، والخامس : من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلوة والنكاح.
  وهذه الجملة إذا تصورت علم : أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه ألم ، وقول قتادة : المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ ، وقول الأصم : المحكم ما اجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه .
  ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب : ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج دابة الأرض وكيفية الدابة ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة وضرب متردد بين الأمرين ، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم ، وهو الضرب المشار إليه بقوله ( عليه السّلام ) في علي رضي الله عنه : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ، وقوله لابن عباس مثل ذلك ، انتهى كلامه وهو أعم الأقوال في معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الأقوال المتقدمة.
  وفيه : أولا : أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ وإغلاق التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية ، فإن الآية جعلت المحكمات مرجعاً يرجع إليه المتشابهات ، ومن المعلوم أن غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات ، بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتضح به .
  وأيضاًًً : الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة ، ومن المعلوم : أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه ، والمطلق من غير رجوع إلى مقيده

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 41 _
  وأخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجباً لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه.
  وثانياً : أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس وما لا يمكن فهمه لأحد وما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه ، وقد عرفت خلافه.
  هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه وتمييز مواردهما ، وقد عرفت ما فيها ، وعرفت أيضاًًً أن الذي يظهر من الآية على ظهورها وسطوع نورها خلاف ذلك كله ، وأن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه : أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العام والمطلق إلى المخصص والمقيد ونحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية اخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة.
  ومن المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلا مع كون ما يتبع من المعنى مألوفاً مأنوساً عند الأفهام العامية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الافهام الضعيفة الادراك والتعقل.
  وأنت إذا تتبعت البدع والأهواء والمذاهب الفاسدة التي انحرف فيها الفرق الإسلاميه عن الحق القويم بعد زمن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سواء كان في المعارف أو في الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه ، والتأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه .
  ففرقة تتمسك من القرآن بآيات للتجسيم ، واخرى للجبر ، واخرى للتفويض واخرى لعثرة الأنبياء ، واخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات ، واخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات ، إلى غير ذلك ، كل ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه .
  وطائفة ذكرت : أن الأحكام الدينية إنما شرّعت لتكون طريقاً إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعيناً لمن ركبه فإنما المطلوب هو الوصول بأي طريق اتفق وتيسر ، واخرى قالت : إن التكليف إنما هو لبلوغ الكمال ، ولا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 42 _
  وقد كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلامية قائمة ومقامة في عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تنقص وتسقط حكماً فحكماً ، يوماً فيوماً بيد الحكومات الإسلامية ، ولم يبطل حكم أو حد إلا واعتذر المبطلون : أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس ، وما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم ، حتى آل الأمر إلى ما يقال : إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا باجرائها ، والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية ولا تهضمها بل تستدعى وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم وأجرائها ، وإلى ما يقال : إن التلبس بالأعمال الدينية لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكرة والارادة الصالحتين ، والقلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية ، والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بامثال الوضوء والغسل والصلوه والصوم.
  إذا تأملت في هذه وأمثالها ـ وهي لا تحصى كثرة ـ وتدبرت في قوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) الآية ، لم تشك في صحة ما ذكرناه ، وقضيت بأن هذه الفتن والمحن التي غادرت الإسلام والمسلمين لم تستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه ، وابتغاء تأويل القرآن.
  و هذا ـ والله أعلم ـ هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب ، وإصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والالحاد في آيات الله والقول فيها بغير علم واتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار ، ومودة ذوي القربى ، وقرار أزواج النبي ، ومعاملة الربا ، واتحاد الكلمة في الدين وغير ذلك.
  ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسد طريق ابتغاء الفتنة الذين منشأهما الركون إلى الدنيا والاخلاد إلى الأرض واتباع الهوى إلا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى : ( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ص ـ 26 ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ).

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 43 _
2 ـ ما معنى كون المحكمات ام الكتاب ؟
  ذكر جماعة : أن كون الآيات المحكمة ام الكتاب كونها أصلاً في الكتاب عليه تبتني قواعد الدين واركانها فيؤمن بها ويعمل بها ، وليس الدين إلا مجموعاً ، من الاعتقاد والعمل ، وأما الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها وتشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنما يؤمن بها إيماناً.
  وأنت بالتأمل فيما تقدم من الأقوال تعلم أن هذا لازم بعض الأقوال المتقدمة ، وهي التي ترى أن المتشابه إنما صار متشابهاً لاشتماله على تأويل يتعذر الوصول إليه وفهمه ، أو أن المتشابه يمكن حصول العلم به ورفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية.
  وقال آخرون : أن معنى امومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها وكلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع ، فظاهر بعضهم : أن المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الإيمان والاتباع العملي في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها ويرجع في موردها إلى العمل بالناسخة ، وهذا القول لا يغاير القول الأول كثير مغائرة ، وظاهر بعض آخر أن معناها كون المحكمات مبينة للمتشابهات ، رافعة لتشابهها .
  والحق هو المعنى الثالث ، فإن معنى الامومة الذي تدل عليه قوله هن ام الكتاب ـ الآية ـ يتضمن عناية زائدة وهو أخص من معنى الأصل الذي فسرت به الام في القول الأول ، فإن في هذه اللفظة أعني لفظة الام عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعض ، فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرع على المحكمات ، ولازمه كون المحكمات مبينة للمتشابهات .
  على أن المتشابه إنما كان متشابهاً لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل ، فإن التأويل كما مر يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فللمتشابه مفسر وليس الا المحكم ، مثال ذلك قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة ـ 23 ، فإنه آية متشابهة ، وبإرجاعها إلى قوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى ـ 11 ، وقوله تعالى : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) الأنعام ـ 103 ، يتبين : أن المراد بها نظرة ورؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي ، وقد قال تعالى : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 44 _
  أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى إلى أن قال لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) النجم ـ 18 ، فأثبت للقلب رؤية تخصه ، وليس هو الفكر فإن الفكر إنما يتعلق بالتصديق والمركب الذهني والرؤية إنما تتعلق بالمفرد العيني ، فيتبين بذلك أنه توجه من القلب ليست بالحسية المادية ولا بالعقلية الذهنية ، والأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.

3 ـ ما معنى التأويل ؟
  فسر قوم من المفسرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام ، وإذ كان المراد من بعض الآيات معلوماً بالضرورة كان المراد بالتأويل عليهذا من قوله تعالى : ( وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) الآية ، هو المعنى المراد بالآية المتشابهة ، فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابهة على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره وغير الراسخين في العلم.
  وقالت طائفة اخرى : أن المراد بالتأويل : هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ ، وقد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقه ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع.
  وكيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين كما أن المعنى الأول هو الذي كان شائعاً بين قدماء المفسرين ، سواء فيه من كان يقول : إن التأويل لا يعلمه إلا الله ، ومن كان يقول إن الراسخين في العلم أيضاًًً يعلمونه كما نقل عن ابن عباس : أنه كان يقول : أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله .
  وذهب طائفة اخرى : إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلا الله تعالى ، أو لا يعلمه إلا الله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) مع عدم كونه خلاف ظاهر ، اللفظ فيرجع الأمر إلى أن للآية المتشابهة معاني متعددة بعضها تحت بعض ، منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام ، ومنها ما هو أبعد منه لا يناله إلا الله سبحانه أو هو تعالى : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ).
  وقد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد وإلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير جائز على ما بين في محله ، فهي لا محالة معان مترتبة في

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 45 _
  الطول : فقيل إنها لوازم معنى اللفظ إلا أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معني مطابقي وله لازم وللازمه لازم وهكذا ، وقيل : إنها معان مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره ، فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ وإرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما أنك إذا قلت : اسقني فلا تطلب بذلك إلا السقي وهو بعينه طلب للإرواء وطلب لرفع الحاجة الوجودية ، وطلب للكمال الوجودي وليس هناك أربعة أوامر ومطالب ، بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الامور التي بعضها في باطن بعض والسقي مرتبط بها ومعتمد عليها.
  وهيهنا قول رابع : وهو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام فإن كان الكلام ، حكماً إنشائياً كالأمر والنهي فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم وجعله وتشريعه ، فتأويل قوله : أقيموا الصلاة مثلاًً هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء والمنكر ، وإن كان الكلام خبريا فإن كان إخباراً عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي ، كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء والامم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي ، وإن كان إخباراً عن الحوادث والامور الحالية والمستقبلة فهو على قسمين : فإما أن يكون المخبر به من الامور التي تناله الحواس أو تدركه العقول كان أيضاًً تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة كقوله تعالى : ( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) التوبة ـ 47 وقوله تعالى : ( غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ) الروم ـ 4 وإن كان من الامور المستقبلة الغيبية التي لا تناله حواسنا الدنيوية ولا يدرك حقيقتها عقولنا كالامور المربوطة بيوم القيامة ووقت الساعة وحشر الأموات والجمع والسؤال والحساب وتطائر الكتب ، أو كان مما هو خارج من سنخ الزمان وإدراك العقول كحقيقة صفاته وأفعاله تعالى فتأويلها أيضاًً نفس حقائقها الخارجية.
  والفرق بين هذا القسم أعني الآيات المبينة لحال صفات الله تعالى وأفعاله وما يلحق بها من أحوال يوم القيامة ونحوها وبين الأقسام الاخر أن الأقسام الاخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم ، فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلا الله تعالى نعم يمكن ان يناله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 46 _
  وأما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه .
  فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل ، وهي أربعة.
  وهيهنا أقوال أُخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأول وإن تحاشى القائلون بها عن قبوله .
  فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل ، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل ، وأكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهية ، ويستعمل التفسير فيها وفي غيرها.
  ومن جملتها : أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلا وجهاً واحداً والتأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطاً.
  ومن جملتها : أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ والتأويل ترجيح أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها ، وهو قريب من سابقه .
  ومن جملتها : أن التفسير بيان دليل المراد والتأويل بيان حقيقه المراد ، مثاله : قوله تعالى : إن ربك لبالمرصاد فتفسيره : أن المرصاد مفعال من قولهم : رصد يرصد إذا راقب ، وتاويله التحذير عن التهاون بامر الله والغفلة عنه .
  ومن جملتها : أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ والتأويل بيان المعنى المشكل.
  ومن جملتها : أن التفسير يتعلق بالرواية والتأويل يتعلق بالدراية .
  ومن جملتها : أن التفسير يتعلق بالاتباع والسماع والتأويل يتعلق بالاستنباط والنظر فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأول الذي نقلناه ، يرد عليها ما يرد عليه وكيف كان فلا يصح الركون إلى شيء من هذه الأقوال الأربعة وما ينشعب منها .
  أما إجمالاً : فلأنك قد عرفت : أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوماً من المفاهيم تدل عليه الآية سواء كان مخالفاً لظاهرها أو موافقاً ، بل هو من قبيل الامور الخارجية ، ولا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تاويلا له ، بل أمر خارجي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 47 _
  مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل ( بفتحتين ) والباطن إلى الظاهر.
  وأما تفصيلاً فيرد على القول الأول : أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الأفهام ، وليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بانه أنما أنزل قرآناً ليناله الأفهام ، ولا مناص لصاحب هذا القول إلا أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الأفهام ، ويرد عليه : أنه لا دليل عليه ، ومجرد كون التاويل مشتملاً على معنى الرجوع وكون التفسير أيضاً غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التاويل هو التفسير كما أن الام مرجع لأولادها وليست بتأويل لهم ، والرئيس مرجع للمرؤوس وليس بتأويل له.
  على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه وهو يوجد في غير فواتح السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنما حدثت باتباع علل الأحكام وآيات الصفات وغيرها.
  وأما القول الثاني فيرد عليه : أن لازمه وجود آيات في القرآن اريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات ، ومرجعه إلى أن في القرآن اختلافاً بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام ، وهذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء ـ 82 ، إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بان يقال : إنه اريد بإحديهما أو بهما معاً غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تاويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلاًً لم تنجح حجة الآية ، فان انتفاء الاختلاف بالتاويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام ولو كان لغير الله أمر ممكن ولا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر إذ من الواضح أن كل كلام حتى القطعي الكذب واللغو يمكن إِرجاعه إلى الصدق والحق بالتأويل والصرف عن ظاهره ، فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال وتناقض الآراء ، والسهو والنسيان والخطاء والتكامل بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية ، فالآية بلسان احتجاجها صريح في أن القرآن معرض لعامة الأفهام ، ومسرح للبحث والتامل والتدبر ، وليس فيه آية اريد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 48 _
  بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي ولا أن فيه احجية وتعمية .
  وأما القول الثالث فيرد عليه : أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر ، إلا أنها جميعاً ـ وخاصة لو قلنا أنها لوازم المعنى مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام وذكاء السامع المتدبر وبلادته ، وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التاويل : وما يعلم تاويله إلا الله ، فان المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى وطهارة النفس بل من حيث الحدة وعدمها ، وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران والعلية كما هو ظاهر قوله : وما يعلم تاويله إلا الله.
  وأما القول الرابع فيرد عليه : أنه وإِن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في بعضه الآخر فإنه وإن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن ، وأن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تاويلاً للكلام ، وفي حصر المتشابه الذي لا يعلم تاويله في آيات الصفات وآيات القيامة.
  توضيحه أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى : ( وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) ( إلخ ) إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله : ولا يعلم تاويله إلا الله ( إلخ) فإن كثيراً من تأويل القرآن وهو تاويلات القصص بل الأحكام أيضاًً وآيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى وغير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلباً على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم ، وكذا الحقائق الخلقية والمصالح التي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات والمعاملات وسائر الامور المشرعة.
  وإن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) إلخ ، وأفاد أن غيره تعالى وغير الراسخين في العلم مثلاًً لا ينبغي لهم ابتغاء تاويل المتشابه ، وهو يؤدي الى الفتنة وإِضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تاويله في آيات الصفات والقيامة فإن الفتنة والضلال كما يوجد في تاويلها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 49 _
  يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام والقصص وغيرهما كأن يقول القائل ( وقد قيل ) إن المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنسانيّ بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح ، فلو فرض أنَّ صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع ، أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه وإلغاء الحكم الديني المشرع، وكأن يقول القائل ( وقد قيل ) إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن امور عادية ، وإنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم وخضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقاً للعادة قاهراً لقوانين الطبيعة. ويوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شيء كثير من هذه الأقاويل وجميعها من التأويل في القرآن ابتغاءاً للفتنة بلا شك ، فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات وآيات القيامة.
  إذا عرفت ما مر علمت : أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة ، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها ، وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الامور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ ، وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهى كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى : ( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ 4 وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى.
  على أنك قد عرفت فيما مر من البيان : أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي استعملها ـ وهي ستة عشر مورداً على ما عدت ـ إلا في المعنى الذي ذكرناه.

4 ـ هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه ؟
  هذه المسألة أيضاً من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين ، ومنشأه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى :( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) الآية ، وأن الواو هل هو للعطف أو للاستيناف ، فذهب بعض القدماء والشافعية ومعظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف وأن الراسخين في العلم يعلمون ( 3 ـ الميزان ـ 4)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 50 _
  تاويل المتشابه من القرآن ، وذهب معظم القدماء والحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستيناف وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله وهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه ، وقد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة ، وببعض الروايات.
  والطائفة الثانية بوجوه اخر وعدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه وتمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها.
  والذي ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أول ما دارت بينهم ووقعت مورداً للبحث والتنقير ، فاختلط رجوع المتشابه الى المحكم، وبعبارة اخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونا به المسألة وقررنا عليه الخلاف وقول كل من الطرفين آنفاً.
  ولذلك تركنا التعرض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط، وأما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة ، أعنى الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفاً للمعنى المراد من لفظ المتشابه ولا تأويل في القرآن بهذا المعنى، كما روي من طرق أهل السنة : أن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) دعا لابن عباس فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ، وما روي من قول ابن عباس : أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تاويله ، ومن قوله : إن المحكمات هي الآيات الناسخة والمتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تاويلاً للآية المتشابهة وهو الذي أشرنا إليه أن التأويل بهذا المعنى ليس مورداً لنظر الآية.
  وأما الروايات النافية أعني الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روى أن ابن عباس كان يقرأ : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ) ويقول الراسخون في العلم آمنا به وكذلك كان يقرأ أُبي بن كعب ، وما روي أن ابن مسعود كان يقرأ : وإن تاويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، فهذه لا تصلح لاثبات شيء أما أولاً : فلأن هذه القراءاتْ لا حجية فيها وأما ثانياً : فلأن غاية دلالتها أن الآية لا تدل على علم الراسخين في العلم بالتأويل وعدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر.
  ومثل ما في الدر المنثور عن الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول