كتاب علمي فني ، فلسفي ، أدبي
تاريخي ، روائي ، اجتماعي ، حديث
يفسر القرآن بالقرآن تأليف
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره
الطبعة الثالثة
منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات




بسم الله الرحمن الرحيم

  ( سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية )
  ( بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيِم * الم* اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ـ 6.
  بيان
  غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين ، والصبر والثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداءاً كاليهود والنصارى والمشركين وقد جمعوا جمعهم وعزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم وبأفواههم.
  ويشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإن آياتها ـ وهي مئتا آية ـ ظاهرة الاتساق والانتظام من أولها إلى آخرها متناسبة آياتها مرتبطة أغراضها.
  ولذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقد استقر له الأمر بعض الاستقرار ولما يتم استقراره فإن فيها ذكر غزوة أُحد ، وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران ، وذكراً من أمر اليهود ، وحثاً على

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 6 _
  المشركين ، ودعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة ، وجميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم وجميع أركانهم ، فمن جانب كانوا يقاومون الفشل والفتور الذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنه اليهود والنصارى ، ويحاجونهم ويجاوبونهم ، ومن جانب كانوا يقاتلون المشركين ، ويعيشون في حال الحرب وانسلاب الأمن ، فقد كان الاسلام في هذه الايام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركي العرب ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم.
  والله سبحانه يذكر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الذي هداهم به ما يطيب به نفوسهم ، ويزول به رين الشبهات والوساوس الشيطانية وتسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم ، ويبين لهم أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه ولم يعجزه خلقه ، وإنما اختار دينه وهدى جمعا من عباده إليه على طريقه العادة الجارية ، والسنة الدائمة ، وهي سنة العلل والأسباب ، فالمؤمن والكافر جاريان على سنة الأسباب ، فيوم للكافر ويوم للمؤمن ، فالدار دار الامتحان واليوم يوم العمل ، والجزاء غداً.
  قوله تعالى : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ، قد مرّ الكلام فيه في تفسير آية الكرسي ، وتحصل من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الايجاد والتدبير ، فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياة تستلزم العلم والقدرة ، فالعلم الإلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شيء منها ، والقدرة مهيمنة عليها لا يقع منها إلا ما شاء وقوعه وأذن فيه ، ولذلك عقبه بقوله بعد آيتين : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ).
  ولما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعة الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل ـ وقد مر ذكر غرض السورة ـ كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلي الذي يستنتج به الغرض كما أن الآيتين الأخيرتين أعنى قوله : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ ) ( الخ ) بمنزلة التعليل بعد البيان ، وعليهذا فالكلام التى يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعني قوله نزل عليك الكتاب إلى قوله عزيز ذو انتقام وعليهذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الله الذي آمنوا به واحد في الوهيته قائم على الخلق والتدبير قيام حياة لا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 7 _
  يغلب في ملكه ولا يكون إلا ما شاء وأذن فيه ، فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه هو المنزل للكتاب الهادي إلى الحق ، والفرقان المميز بين الحق والباطل ، وأنه إنما جرى في ذلك على ما أجرى عليه عالم الأسباب وظرف الاختيار ، فمن آمن فله أجره ، ومن كفر فإن الله سيجزيه لأنه عزيز ذو انتقام ، وذلك أنه : ( الله الذي لا إله غيره حتى يحكم في هذه الجهات ، ولا يخفى عليه أمرهم ) ، ولا يخرج عن إرادته ومشيئه فعالهم وكفرهم.
  قوله تعالى : ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) قد مر أن التنزيل يدل على التدريج كما أن الإنزال يدل على الدفعة.
  وربما ينقض ذلك بقوله : ( لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) الفرقان ـ 32 ، وبقوله تعالى : ( أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً ) المائدة ـ 112 وقوله تعالى : ( لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ) آية الأنعام ـ 37 وقوله تعالى : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ) آية الأنعام ـ 37 ولذلك ذكر بعض المفسرين أن الأولى أن يقال : إن معنى نزل عليك الكتاب أنزله إنزالاً بعد إنزال دفعاً للنقض .
  والجواب : أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول كل جزء من اجزاء الشيء وبين جزئه الآخر بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الاجزاء وبذلك يصير الشيء أمراً واحداً غير منقسم ، والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى : ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء ) الرعد ـ 17 وهو الغيث ونسبتة من حيث وجوده بوجود أجزائه واحداً بعد واحد سواء تخلل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل وهو التدريج ، والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ) الشورى ـ 28.
  ومن هنا يظهر أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة فإن المراد بقوله لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة الآية أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث والأوقات المختلفة وبذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة.
  وأما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 8 _
  لا يدفع شيئاًً من النقض بالآيات المذكورة بل هي بحالها وهو ظاهر .
  قد جرى كلامه تعالى ان يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتنزيل والنزول ، والنزول يستلزم مقاماً أو مكاناً عالياً رفيعاً يخرج منه الشيء نوعاً من الخروج ويقصد مقاماً أو مكاناً آخر أسفل فيستقر فيه ، وقد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو ورفعة الدرجات وقد وصف كتابه أنه من عنده ، قال تعالى : ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الشورى ـ 51 وقال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ) البقرة ـ 89 فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحي في قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد ذكروا أن الحق هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجاً ثابتاً كما ان الصدق هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج ، وعلى هذا فإطلاق الحق على الأعيان الخارجية والامور الواقعية كما يطلق على الله سبحانه : أنه حق ، وعلى الحقائق الخارجية أنها حقه إنما هو من جهة أن كلاً منها حق من جهة الخبر عنها ، وكيف كان فالمراد بالحق في الآية : الأمر الثابت الذي لا يقبل البطلان.
  والظاهر أن الباء في قوله : بالحق للمصاحبة والمعنى نزل عليك الكتاب تنزيلاً يصاحب الحق ولا يفارقه ، فيوجب مصاحبة الحق ان لا يطرء عليه ولا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه ، ففى قوله : نزل عليك الكتاب بالحق استعارة بالكناية وقد قيل في معنى الباء وجوه اخر لا يخلو عن سقم.
  والتصديق من الصدق يقال صدقت مقالا كذا أي قررته على الصدق واعترفت بكونه صدقاً وصدقت فلاناً أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به .
  والمراد مما بين يديه التوراة والانجيل كما قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا )، هدى إلى ان قال وآتيناه الانجيل فيه هدى إلى ان قال : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) الآية المائدة ـ 48 ، والكلام لا يخلو عن دلالة على أن ما بأيدى اليهود والنصارى من التوراة والانجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى وعيسى ( عليهما السلام ) وإن كانا لا يخلوان عن السقط والتحريف ، فان الدائر بينهم في عصر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هو التوراة الموجودة اليوم والاناجيل الأربعة المشهورة فالقرآن يصدق التوراة والانجيل الموجودين ، لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 9 _
  الناطقة بالتحريف والسقط فيهما قال تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل إلى ان قال : وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به إلى ان قال : ( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ) الآية المائدة ـ 14.
  قوله تعالى :( وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ )، التوراة كلمة عبرانية بمعنى الشريعة ، والانجيل لفظ يونانى ، وقيل فارسي الاصل معناه البشارة ، وسيجيء استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُور ) الآيات المائدة ـ 44.
  ومما أصر عليه القرآن تسميه كتاب عيسى ( عليه السّلام ) بالإنجيل بصيغة الافراد والقول بأنه نازل من عند الله سبحانه ، مع أن الاناجيل كثيرة ، والمعروفة منها أعني الأناجيل الأربعة كانت موجوده قبل نزول القرآن وفي عهده وهى التى ينسب تأليفها إلى لوقا ومرقس ومتى ويوحنا ، ولا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم والتوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف والاسقاط ، وكيف كان لا يخلو ذكر التوراة والانجيل في هذه الآية وفي أول السورة من التعريض لليهود والنصارى على ما سيذكره من أمرهم وقصص تولد عيسى ونبوته ورفعه.
  قوله تعالى : وأنزل الفرقان ، الفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل على ما في الصحاح ، واللفظ بمادته يدل على الأعم من ذلك ، وهو كل ما يفرق به بين شيء وشيء، قال تعالى : ( يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) الأنفال ـ 41 ، وقال تعالى : ( يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ) الانفال ـ 29 ، وإذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحق والباطل في العقائد والمعارف وبين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصلية والفرعية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي ، أعم من الكتاب وغيره ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ) الأنبياء ـ 48 وقال تعالى : ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ) البقرة ـ 53 ، وقال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) الفرقان ـ 1.
  وقد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 10 _
   وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) الحديد ـ 25 ، وهو في وزان قوله : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) البقره ـ 213 فالميزان كالفرقان هو الدين الذى يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف ووظائف العبودية ، والله أعلم.
  وقيل المراد بالفرقان القرآن ، وقيل : الدلالة الفاصلة بين الحق والباطل ، وقيل : الحجة القاطعة لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على من حاجه في أمر عيسى وقيل النصر وقيل العقل والوجه ما قدمناه .
  قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ ) إلى قوله ذو انتقام ، الانتقام ، ما قيل مجازاة المسيء على إساءته ، وليس من لازم المعنى أن يكون للتشفى ، فإن ذلك من لوازم الانتقامات التى بيننا حيث إن إساءة المسيء يوجب منقصة وضرراً في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي توجب تشفى قلوبنا ، وأما هو تعالى فأعز ساحة من أن ينتفع أو يتضرر بشيء من أعمال عباده ، لكنه وعد ـ وله الوعد الحق ـ أن سيقضى بين عباده بالحق إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً ، قال تعالى : ( اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) المؤمن ـ 20 ، وقال تعالى : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) النجم ـ 31 ، كيف وهو عزيز على الإطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه وقد قيل إن الأصل في معنى العزة الامتناع.
  وقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) ، من حيث إطلاق العذاب وعدم تقييده بالآخرة أو يوم القيمة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة وهذا من الحقائق القرآنية التي ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه وليس ذلك إلا لكوننا لا نعد شيئاًً عذاباً إلا إذا اشتمل على شيء من الآلام الجسمانية ، أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الأموال وموت الأعزة ونقاهة الأبدان مع أن الذي يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك

كلام في معنى العذاب في القرآن
  القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكاً وإن اتسعت في أعيننا كل الاتساع

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 11 _
  قال تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) طه ـ 124 ، ويعد الأموال والأولاد عذاباً وإن كنا نعدها نعمة هنيئة ، قال تعالى : ( وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة ـ 85.
  وحقيقة الأمر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى : ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) البقرة ـ 35 ، أن سرور الإنسان وغمه وفرحه وحزنه ورغبته ورهبته وتعذبه وتنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة ، هذا أولاً، وأن النعمة والعذاب وما يقاربهما من الامور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة وشقاوة وللجسم سعادة وشقاوة ، وكذا للحيوان منهما شيء وللإنسان منهما شيء وهكذا ، وهذا ثانياً ، والإنسان المادى الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى ، ولم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهي السعادة المعنوية ، فيتولع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة، وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم واللذه على ما صورته له خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالالوف من الألم ، فما دام لم ينل ما يريده كان امنية وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كل فائتة ، فكان أيضاًً حسرة فلا يزال فيما وجده متألماً به معرضا عنه طالباً لما هو خير منه لعله يشفى غليل صدره وفيما لم يجده متقلباً بين الآلام والحسرات ، فهذا حاله فيما وجده ، وذاك حاله فيما فقده .
  وأما القرآن فإنه يرى أن الإنسان أمر مؤلف من روح خالد وبدن مادى متحول متغير ، وهو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال ، فما كان فيه سعادة الروح محضاً كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته وما كان فيه سعادة ، جسمه وروحه معاً كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله ، وموجبة للاخلاد إلى الأرض فهو أيضاًً من سعادته ونعمت السعادة وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى فهو أيضاًً من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهراً.
  وأما ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإنسان وعذاب له والقرآن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 12 _
  يسمى سعادة الجسم فقط متاعاً قليلاً لا ينبغي أن يعبأ به ، قال تعالى : ( لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) آل عمران ـ 196 ، 197.
  وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معاً يعده القرآن عذاباً كما يعدونه عذابا لكن وجه النظر مختلف ، فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم ، وذلك كأنواع العذاب النازلة على الامم السالفة ، قال تعالى : ( ألم أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) الفجر ـ 6 ، 14.
  والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور والادراك فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه ولم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء ، ومن هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادة ، والإنسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقية شقاوة ، وهو كذلك ، فإنه يلقن على أهله : أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله ، ويروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شيء فلا يستقل شيء إلا به ، ولا يقصد شيء إلا له .
  وهذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة : بين ما كان فيه سعادة روحه وجسمه ، وما كان فيه سعادة روحه محضاً ، وأما ما دون ذلك فإنه يراه عذاباً ونكالا ، وأما الإنسان المتعلق بهوى النفس ومادة الدنيا فإنه وإن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيراً ولذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه ، وانقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه ، قال تعالى : ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) المعارج ـ 42 ، وقال تعالى : ( لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق ـ 22 ، وقال تعالى : ( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) النجم ـ 30 ، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلا وهو منغص بما يربو عليه من الغم والهم.
  ومن هنا يظهر : أن الإدراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصة القرآن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 13 _
  غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعاً من نوع واحد هو الإنسان ، وبين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممن لم يستكمل التعليم والتربية الإلهيين.
  فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب وكلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذاباً لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح ، قال تعالى حكاية عن أيوب ( عليه السّلام ) : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) ص ـ 41 ، وقال تعالى : ( وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ) الأعراف ـ 141 ، فسمى ما يصنعون بهم بلاء وامتحاناً من الله وعذاباً في نفسه لا منه سبحانه.
  قوله تعالى : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء إلخ قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفي عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب والانتقام ، فعقب لذلك الكلام بقوله : إن الله لا يخفى عليه فبين أنه عزيز لا يخفى عليه شيء ظاهر على الحواس ولا غائب عنها ، ومن الممكن أن يكون المراد مما في الأرض وما في السماء الأعمال الظاهره القائمة بالجوارح والخفية الكامنة في القلوب على حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى :( لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ ) الآية البقرة ـ 284.
  قوله تعالى : هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء التصوير إلقاء الصورة على الشيء و الصورة تعم ما له ظل كالتمثال وما لا ظل له ، والأرحام جمع رحم وهو مستقر الجنين من الإناث.
  وهذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين ، فإن محصل الآيتين : أن الله تعالى : ( يعذب الذين كفروا بآياته ) لانه العزيز المنتقم العالم بالسر والعلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب ومحصل هذه الآية أن الأمر أعظم من ذلك ومن يكفر بآياته ويخالف عن أمره أذل وأوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه واعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك ، فيغلب هو على أمره تعالى ، ويبطل النظام الأحسن الذي نظم الله سبحانه عليه الخلقة ، فتظهر إرادته على إرادة ربه ، بل الله سبحانه هو أذن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 14 _
  له في ذلك ، بمعنى أنه نظم الامور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الإنسان ، وهو الوصف الذى يمكنه به ركوب صراط الإيمان والطاعة أو التزام طريق الكفر والمعصية ، ليتم بذلك أمر الفتنة والإمتحان ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وما يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
  فما من كفر ولا إيمان ولا غيرهما إلا عن تقدير ، وهو نظم الأشياء على نحو يتيسر لكل شيء ما يتوجه إليه من مقاصده التي سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه، فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه ، يظن الإنسان أنه يفعل ما يشاء ويتصرف فيما يريد ، ويقطعْ بذلك النظم المتصل الذى نظمه الله في الكون فيسبق التقدير ، وهذا بعينه من القدر.
  وهذا هو المراد بقوله : ( يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ) ، أي ينظم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدي إلى ما يشاءه في ختمه مشية اذن لا مشية حتم .
  وإنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الإنسان ولم يذكر التقدير العام الجاري في العالم كله لينطبق على المورد ، ولما مر أن في الآيات تعريضاً للنصارى في قولهم في المسيح ( عليه السّلام ) والآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره ، فإن النصارى لا ينكرون كينونته ( عليه السّلام ) في الرحم وأنه لم يكون نفسه .
  والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعني قوله : يصوركم بعد قوله نزَّل عليك ، للدلاله على أن إيمان المؤمنين أيضاًً ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر ، فتطيب نفوسهم بالرحمة والموهبة الإلهية في حق أنفسهم ، ويتسلوا بما سمعوه من أمر القدر ومن أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.
  قوله تعالى : ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، فيه عود الى ما بدء به الكلام في الآيات من التوحيد ، وهو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد .
  فإن هذه الامور المذكورة أعني : هداية الخلق بعد ايجادهم ، وإنزال الكتاب والفرقان ، وإتقان التدبير بتعذيب الكافرين امور لا بد أن تستند الى إله يدبرها واذ لا إله إلا الله تعالى شأنه فهو الذي يهدي الناس وهو الذي ينزل الكتاب والفرقان ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 15 _
  وهو يعذب الكافرين بآياته وإنما يفعل ما يفعل من الهداية والإنزال والانتقام والتقدير بعزته وحكمته.
  ( بحث روائي )
  في المجمع عن الكلبي ومحمد بن إسحق والربيع بن أنس : نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران ، وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم : العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ، واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة اسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم ، وكانت ملوك الروم قد شرَّفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده ، فقدموا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر ، عليهم ثياب الحبرات : جبب وأردية في جمال رجال بلحرث بن كعب ، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ما رأينا وفداً مثلهم ، وقد حانت صلاتهم ، فأقبلوا يضربون بالناقوس ، وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقالت الصحابة : يا رسول الله هذا في مسجدك ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق ، فكلم السيد والعاقب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال لهما رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أسلما ، قالا قد أسلمنا قبلك .
  قال : كذبتما يمنعكما من الاسلام دعائكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير ، قالا إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى ، فقال لهما النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتيه الفناء ، قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شيء ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاًً ؟ قالوا لا ، قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا لا ، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ، قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذي كما

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 16 _
  يغذي الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ قالوا : بلى ، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بصع وثمانين آية.
  أقول : وروى هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن أبي إسحق وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير وعن ابن إسحق عن محمد بن سهل بن أبي أمامة ، أما القصة فسيجيء نقلها ، وأما نزول أول السورة في ذلك فكأنه اجتهاد منهم وقد تقدم : أن ظاهر سياقها نزولها دفعة.
  عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : الشقي من شقى في بطن أُمه ، والسعيد من سعد في بطن أُمه.
  وفي الكافي عن الباقر ( عليه السّلام ) قال : إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي مما أخذ عليه الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم حرّك الرجل للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري فتفتح بابها ، فتصل النطفة إلى الرحم ، فتردد فيه أربعين يوماً ، ثم تصير علقة أربعين يوماً ، ثم تصير مضغة أربعين يوماً ، ثم تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة ، ثم يبعث الله ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله ، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة ، فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ، ويشقان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى ، ثم يوحي الله إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء فيما تكتبان فيقولان : يا رب ما نكتب ؟ فيوحي الله عز وجل إليهما : أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس امه ، فيرفعان رؤسهما فإذا اللوح يقرع جبهه امه ، فينظر ان فيه ، فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقياً وجميع شأنه ، فيملي أحدهما على صاحبه ، فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان ، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ، ثم يقيمانه قائماً في بطن أُمه ، قال : فربما عتا فانقلب ، ولا يكون ذلك إلا في كل عات أو مارد ، وإذا بلغ أوان خروج الولد تاماً أو غير تام أوحى الله إلى الرحم : أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه ، قال : فتفتح الرحم باب الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج ، فبعث الله عز وجل إليه ملكاً يقال له : زاجر فيزجره زجرة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 17 _
  فيفزع منها الولد فإذا احتبس زجره الملك زجرة اخرى فيفزع منها ، فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة.
  أقول : قوله : إذا أراد أن يخلق النطفة ، أي يجعلها بشراً تاماً سوياً ، وتقييدها بقوله : التي هي مما اخذ عليها الميثاق ِإشارة إلى ما سيجيء بيانه : ان الإنسان الذي في هذه النشأة الدنيوية وأحواله مسبوقة الوجود بنشأة اخرى سابقة عليه تجري هذه على صراط تلك ، وهي المسماة في لسان الأخبار بعالم الذر والميثاق ، فما اخذ عليه الميثاق لا بد من أن يخلق في هذه النشأة الدنيوية ، وما يخلق في هذه النشأة هو مما اخذ عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير والتبديل فذلك من القضاء المحتوم ولذلك ردّد الكلام بينه وبين قوله : أو ما يبدو له فيه أي يبدو له البداء في تمام خلقه ، فلا يتمّ ويعود سقطاً ، فالقسم المقابل له لا بداء فيه كما ذكرنا وقوله ويجعلها في الرحم ، عطف على قوله : يخلق النطفة.
  قوله ( عليه السّلام ) : يقتحمان في بطن المرأة ، من فم المرأة يمكن أن يكون قوله من فم المرأة من كلام الراوي كما يؤيّده وضع الظاهر موضع المضمر وعلى ظاهر الحال من كونه من كلام الإمام ( عليه السّلام ) هو من الشواهد على كون دخولهما واقتحامهما في بطن المرأة من غير سنخ دخول الجسم في الجسم ، إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلا العروق ، ومنها العرق الذي يدرّ منه دم الحيض فينصبّ في الرحم ، وليس هذا المنفذ بأسهل للدخول من جدران الرحم ، فللدخول من الفم سبب غير سهولة الطريق وهو ظاهر .
  قوله ( عليه السّلام ) : وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، كأنها الروح النباتية التي هي المبدء للتغذي والتنمي.
  قوله ( عليه السّلام ) : فينفخان فيها روح الحيوة والبقاء ، ظاهره رجوع الضمير إلى الروح القديمة ، فروح الحيوة والبقاء منفوخة في الروح النباتية ، ولو فرض رجوعه إلى المضغة مثلاًً كانت منفوخة في المضغة الحية بالروح النباتية فتصير المضغة النباتية منفوخة فيها ، وعلى أي حال يفيد الكلام أن نفخ الروح الإنساني إنما هو نوع ترق للروح النباتية بالاشتداد ( على ما يقتضيه القول بالحركة الجوهرية ) ( 3 ـ الميزان ـ 2 )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 18 _
  وبذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فالروح متحد الوجود مع البدن بوجه وهو النطفة وما يمدها من دم الحيض وهي المتحدة مع بدنى الأبوين وهما مع النطفة وهلم جراً ، فما يجري على الإنسان متعين في الجملة في وجود آبائه وامهاته ، مشهود في صور أشخاصهم ، وهو بوجه كالفهرس المأخوذ من الكتاب الموضوع قبله .
  وبه يظهر معنى قوله ( عليه السّلام ) : فيوحي الله عز وجل إليهما أي إلى الملكين أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس امه ، وذلك أن الذي لأبيه من شرح قضائه وقدره قد انقطع عنه بانفصال النطفة ، فما بقي متصلاً به إلا امه ، وهو قوله ( عليه السّلام ) : فإذا اللوح يقرع جبهة امه والجبهة مجتمع حواس الإنسان وطليعة وجهه فينتظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيداً أو شقياً وجميع شأنه ، فيملي أحدهما على صاحبه فنسبتهما شبيهة نسبة الفاعل والقابل فيكتبان جميع ما في اللوح.
  قوله ( عليه السّلام ) : ويشترطان البداء فيما يكتبان ، وذلك لعدم اشتمال صورته على تمام علل حوادثه المستقبلة ، فإن الصورة وإن كانت مبدئاً لجميع ما يجري على الإنسان من أحواله والحوادث المختصة به لكن ليست بالمبدء كله بل للامور والحوادث الخارجة عنه دخالة في ذلك ، ولذلك كان الذي يتراءى منها من الحوادث غير حتمي الوقوع ، فكانت مظنة للبداء.
  وأعلم : أن نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله سبحانه الرجل ، ووحيه إلى الرحم ، وإرسال الملكين الخلاقين والملك الزاجر إلى غير ذلك لا ينافي استناد هذه الحوادث ومنها الولادة إلى أسبابها الطبيعية ، فإن هذين القبيلين من الأسباب أعني الأسباب المعنوية والأسباب المادية واقعان أحدهما في طول الآخر لا في عرضه حتى يبطل أحدهما الآخر ، أو يتدافعا فيبطلا معاً ، أو يعود الأمر إلى تركب العلة التامة من مجموع السببين ، بل كل منهما علة تامة لكن في مرتبته .
  فمن أقامه الله سبحانه لهداية الناس إلى سعادتهم المعنوية وسلوكهم إلى مرضاته وهم الأنبياء ( عليهم السلام ) ـ والطريق طريق الباطن ـ فإنما وظيفته أن يكلم الناس بلسان يسلك بهم مسلك الباطن ويذكرهم مقام ربهم في جميع بياناته ، وهو توسيط الملائكة واستناد الحوادث إلى أعمالهم ، ونسبة السعادة إِلى تأييدهم ، ونسبة الشقاء

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 19 _
  بخصوصياته إلى الشياطين وتسويلهم ، ونسبة الجميع إلى الله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وحضرة ربوبيته ، ليستنتج من ذلك صور الهداية والضلال والربح والخسران ، وبالجملة جميع شؤون الحيوة الآخرة ، وهم مع ذلك لم يهملوا أمر الأسباب الطبيعية ولم يضيعوا حقها ، فإنها أحد ركني حيوة الإنسان والأساس الذي تستند إليه الحيوة الدنيا ، ولا بد للإنسان أن يعرف جملة أمرها كما لا بد له أن يعرف جملة الأمر في الأسباب المعنوية حتى يتم له معرفة نفسه فيعرف ربه.
  ( هوَ الَّذي أنزلَ عليكَ الكتابَ منهُ آياتٌ محكماتٌ هنَّ أمُّ الكتابِ وأخرُ متشابهاتٌ فأمَّا الذينَ في قلوبهمْ زيغٌ فيتبعونَ ما تشابهَ منهُ ابتغاءَ الفتنةَ وابتغاءَ تأويلهِ وما يعلمُ تأويلهُ إلا الله والراسخونَ في العلمِ يقولونَ آمنَّا بهِ كلُّ منْ عندِ ربنَا وما يذَّكَّرُ إلا أولوا الأَلباب * رَبَّنَا لا تزغْ قلوبنا بعدَ إذْ هديتنَا وَهَبْ لنا منْ لدنكَ رحمةً إنَّكَ أنتَ الوهابُ * رَبَّنَا إنكَ جامعُ النَّاس ليومٍ لا ريبَ فيهِ إنَّ الَله لا يخلفُ الميعادَ ) ـ 9.
  ( البيان )
  قوله تعالى : ( هوَ الَّذي أنزلَ عليكَ الكتابَ ) ، عبر تعالى بالإنزال دون التنزيل لأن المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصه ، وهو أنه مشتمل على آيات محكمة واخر متشابهة ترجع إِلى المحكمات وتبين بها ، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمراً واحداً من غير نظر إلى تعدد وتكثر ، فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل.
  قوله تعالى : ( منهُ آياتٌ محكماتٌ هنَّ أمُّ الكتابِ وأخرُ متشابهاتٌ ) ، مادة حكم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 20 _
  تفيد معنى كون الشيء بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعضه أو يخل أمره عليه ، ومنه الإحكام والتحكيم ، والحكم بمعنى القضاء ، والحكمة بمعنى المعرفة التامة والعلم الجازم النافع ، والحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس ، ففى الجميع شيء من معنى المنع والإتقان ، وربما قيل : إن المادة تدل على معنى المنع مع إصلاح.
  والمراد ههنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات ، فإنه تعالى وإن وصف كتابه بإحكام الآيت في قوله : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود ـ 1 ، لكن اشتمال الآية على ذكر التفصيل بعد الإحكام دليل على أن المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزي والتبعض بعد بتكثر الآيات ، فهو إتقانه قبل وجود التبعض ، فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد.
  وبعبارة اخرى لما كان قوله : ( منهُ آياتٌ محكماتٌ هنَّ أمُّ الكتابِ وأخرُ متشابهاتٌ ) مشتملاً على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم والمتشابه علمنا به أن المراد بالاحكام غير الإحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله : كتاب احكمت آياتهْ الآية ، وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله : ( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ) الزمر ـ 23.
  وقد وصف المحكمات بأنها ام الكتاب والام بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء وليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب وهي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر وهي المحكمات ، ومن هنا يظهر : أن الاضافة في قوله : ام الكتاب ليست لاميه كقولنا ام الاطفال بل هي بمعنى من كقولنا نساء القوم وقدماء الفقهاء ونحو ذلك فالكتاب يشتمل على آيات هي ام آيات اخر وفي إفراد كلمة الام من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة .
  وقد قوبلت المحكمات في الآية بقوله : وأخر متشابهات والتشابه توافق أشياء مختلفة واتحادها في بعض الاوصاف والكيفيات وقد وصف الله سبحانه جميع القرآن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 21 _
  بهذا الوصف حيث قال : ( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) الآية الزمر ـ 23 والمراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم ، وإتقان الاسلوب ، وبيان الحقائق والحكم ، والهداية إلى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية ، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب ، وأما التشابه المذكور في هذه الآية ، أعني قوله وأُخر متشابهات ، فمقابلته لقوله : منه آيات محكمات هن ام الكتاب ، وذكر اتباع : ( الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الفتنة وابتغاء التأويل ، كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون ) الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بياناً ، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة ، والآية : ( المحكمة محكمة بنفسها كما أن قوله : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) طه ـ 5 ، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه ، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى ـ 11 ، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك والإحاطة على الخلق دون التمكن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه ، وكذا قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة ـ 23 ، إذا ارجع إلى مثل قوله : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) الأنعام ـ 103 ، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي ، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ وهكذا.
  فهذا ما يتحصل من معنى المحكم والمتشابه ، ويتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) فإن الآية محكمة بلا شك ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً .
  ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدل عليه قوله : منه آيات إلخ ، وبطل العلاج الذي يدل عليه قوله : هن ام الكتاب ، ولم يصدق قوله : ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) حم السجدة ـ 4 ، ولم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء ـ 82 ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور وهدى وتبيان وبيان ومبين وذكر ونحو ذلك

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 22 _
  على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول وهي لا تنطق بمعناها وتضل في مرادها ، بل ما من آية إلا وفيها دلالة على المدلول : إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام ، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض ، وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة وإلا بطلت الدلالة كما عرفت ، وهذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبياً عن الاصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده وبعثة الأنبياء وتشريع الأحكام والمعاد ونحو ذلك ، بل هو موافق لها وهي تستلزمه وتنتجه وتعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة ، فالقرآن بعضه يبين بعضاً ، وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر.
  ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى : ( مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للاصول المسلمة من القرآن وبالمتشابهات الآيات التي تتعين وتتضح معانيها بتلك الاصول.
  فان قلت : رجوع الفروع إلى الاصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك اصول متعرقة وفروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية وغيرها ، لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه ، فما وجه ذلك ؟.
  قلت : وجهه أحد أمرين ، فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين : فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس والمادة ، والافهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي وبين غيره كقوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) الفجر ـ 14 وقوله تعالى : ( وَجَاء رَبُّكَ ) الفجر ـ 22 فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الاحكام معان هي من اوصاف الاجسام وخواصها ، وتزول بالرجوع إلى الاصول التي تشتمل على نفي حكم المادة والجسم عن المورد ، وهذا مما يطرد في جميع المعارف والابحاث غير المادية والغائبة عن الحواس ، ولا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العاليه من غير تحريف ، ويوجد أيضاًً في المباحث الإلهية من الفلسفة ، وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى : ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) الآية الرعد ـ 17 وقوله : ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ 4

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 23 _
  ومنها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية والاحكام الفرعية ، واشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة ، ونزول القرآن نجوماً من جهة اخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها ، ويرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم ، والمنسوخ إلى الناسخ.
  قوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) ، الزيغ هو الميل عن الاستقامة ، ويلزمه اضطراب القلب وقلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ، فإن ) الآية تصف حال الناس بالنسبذ إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه ، وأن منهم من هو زائغ القلب ومائله ومضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاءً للفتنه والتأويل ، ومنهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم ويؤمن بالمتشابه ولا يتبعه ، ويسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية.
  ومن هنا يظهر : أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملاً لا إيماناً ، وان هذا الاتباع المذموم اتباع للمتشابه من غير ارجاعه إلى المحكم ، إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعاً للمحكم ولا ذم فيه .
  والمراد بابتغاء الفتنه طلب إضلال الناس ، فإن الفتنة تقارب الاضلال في المعنى ، يقول تعالى : يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه ، وأمراً آخر هو أعظم من ذلك ، وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله.
  والتأويل من الاول وهو الرجوع ، فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجعِ إليه ، وتأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه .
  وقد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه : ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) الاعراف ـ 53 ، أي بالحق فيما أخبروا به وأنبأوا أن الله هو موليهم الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وان النبوة حق ، وأن الدين حق وأن الله يبعث من في القبور ، وبالجملة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 24 _
  كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها.
  ومن هنا ما قيل : إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالامور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات ( اسم مفعول ) أخبار الأنبياء والرسل والكتب.
  ويرده : ان التأويل على هذا يختص بالايات المخبرة عن الصفات وبعض الافعال وعن ما سيقع يوم القيامة ، وأما الايات المتضمنة لتشريع الاحكام فإنها لاشتمالها على الانشاء لا مطابق لها في الخارج عنها ، وكذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الاخلاق فإن تأويلها معها ، وكذا ما دل على قصص الأنبياء والامم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة ، مع ان ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته.
  ومثلها قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى إلى أن قال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ إلى ان قال : ( بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) يونس ـ 39 ، والايات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.
  ولذلك ذكر بعضهم : أن التأويل هو الأمر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام ، وهو في مورد الاخبار المخبر به الواقع في الخارج ، إما سابقاً كقصص الأنبياء والامم الماضية ، وإما لاحقاً كما في الايات المخبرة عن صفات الله وأسمائه ومواعيده وكل ما سيظهر يوم القيامة ، وفي مورد الانشاء كآيات الاحكام المصالح المتحققة في الخارج كما في قوله تعالى : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أسرى ـ 35 ، فإن تأويل إيفاء الكيل وإقامه الوزن هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع وهو استقامة أمر الاجتماع الإنساني.
  وفيه اولا : أن ظاهر هذه الآية : أن التأويل أمر خارجي وأثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل وإقامة الوزن لا الأمر التشريعي الذي يتضمنه قوله : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ ) الآية ، فالتأويل أمر خارجي هو مرجع ومآل لامر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 25 _
  عن معان خارجية ( كما في الاخبار ) أو تعلقها بأفعال أو امور خارجية ( كما في الانشاء ) لها تأويل ، فالوصف وصف بحال متعلق الشيء لا بحال نفس الشيء.
  وثانياً : أن التأويل وإن كان هو المرجع الذي يرجع ويؤول إليه الشيء لكنه رجوع خاص لا كل رجوع ، فإن المرئوس يرجع إلى رئيسه وليس بتأويل له ، والعدد يرجع إلى الواحد وليس بتأويل له ، فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقاً .
  يدل على ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر ( عليهما السلام ) : ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) الكهف ـ 78 ، وقوله تعالى : ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) الكهف ـ 82 ، والذي نبأه لموسى صور وعناوين لما فعله ( عليه السّلام ) في موارد ثلث كان موسى ( عليه السّلام ) قد غفل عن تلك الصور والعناوين ، وتلقى بدلها صوراً وعناوين اخرى أوجبت اعتراضه بها عليه ، فالموارد الثلث : هي قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ) الكهف ـ 71 ، وقوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ ) الكهف ـ 74 وقوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ) الكهف ـ 77.
  والذي تلقاه موسى ( عليه السّلام ) من صور هذه القضايا وعناوينها قوله : ( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) الكهف ـ 71 ، وقوله : ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ) الكهف ـ 74 وقوله : ( لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) الكهف ـ 77.
  والذي نبأ به الخضر من التأويل قوله : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ) الكهف ـ 82 ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى ( عليه السّلام ) جملة بقوله : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) الكهف ـ 82 ، فالذي اريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشيء إلى صورته وعنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب ورجوع الفصد إلى العلاج ، لا نظير رجوع قولنا : جاء زيد إلى مجيء زيد في الخارج