ويظهر به ايضا ما في قول آخرين ان المراد بالناس بنو اسرائيل حيث ان الله يذكر انهم اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم ، قال تعالى : ( فما اختلفوا الامن بعدما جائهم العلم بغيا بينهم ) الجاثية ـ 16 ، وذلك أنه تفسير من غير دليل ، ومجرد اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم.
  وأفسد من ذلك قول من قال : إن المراد بالناس في الآية هو آدم ( عليه السلام ) ، والمعنى ان آدم ( عليه السلام ) كان أمد واحدة على الهداية ثم اختلف ذريته ، فبعث الله النبيين الخ ، والآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله ولا بعضه .
  ويظهر به ايضا فساد قول بعضهم : إن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى : ( وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) الفتح ـ 7 ، فهو دال على الثبوت ، والمعنى : ان الناس أمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعا فإن الانسان مدني بالطبع لايتم حياة الفرد الواحد منه وحده ، لكثرة حوائجه الوجودية ، واتساع دائرة لوازم حياته ، بحيث لا يتم له الكمال إلا بالاجتماع والتعاون بين الافراد والمبادلة في المساعي ، فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة ويعطي الباقي غيره ، ويأخذ بدله بقية ما يحتاج إليه ويستحقه في وجوده ، فهذا حال الانسان لا يستغني عن الاجتماع والتعاون وقتا من الاوقات ، يدل عليه ما وصل الينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني وكونه اجتماعيا مدنيا لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته غير ان ذلك يؤدي إلى الاختلاف ، واختلال نظام الاجتماع ، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف ، وبلغها إليهم ببعث النبيين مبشرين ومنذرين ، وإنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف.
  فمحصل المعنى ان الناس أمة واحدة مدنية بالطبع لاغنى لهم عن الاجتماع وهو يوجب الاختلاف ، فلذلك بعث الله الانبياء وانزل الكتاب.
  ويرد عليه اولا : انه اخذ المدنية طبعا اوليا للانسان ، والاجتماع والاشتراك في الحياة لازما ذاتيا لهذا النوع ، وقد عرفت فيما مر ان الامر ليس كذلك ، بل امر تصالحي اضطراري ، وان القرآن ايضا يدل على خلافه .
  وثانيا : ان تفريع بعث الانبياء وإنزال الكتب على مجرد كون الانسان مدنيا بالطبع غير مستقيم إلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إلى الاختلاف ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 127 _
  وظهور الفساد ، فيحتاج الكلام إلى التقدير وهو خلاف الظاهر ، والقائل مع ذلك لا يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام.
  وثالثا : أنه مبني على أخذ الاختلاف الذي تذكره الآية وتتعرض به اختلافا واحدا ، والآية كالنص في كون الاختلاف اختلافين اثنين ، حيث تقول : وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فهو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس ، ثم تقول وما اختلف فيه اي في الكتاب إلا الذين أوتوه أي علموا الكتاب وحملوه بغيا بينهم ، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله ، والمختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب وحملته دون جميع الناس ، فأخذ الاختلافين غير الآخر : أحدهما اختلاف عن بغي وعلم ، والآخر بخلافه.
  قوله تعالى : ( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) الخ عبر تعالى بالبعث دون الارسال وما في معناه لان هذه الوحدة المخبر عنها من حال الانسان الاولي حال خمود وسكوت ، وهو يناسب البعث الذي هو الاقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك ، وهذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون ان يعبر بالمرسلين أو الرسل ، على ان البعث وانزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس وتبنيهم بحقيقة أمر وجودهم وخحياتهم ، وإنبائهم انهم مخلوقون لربهم ، وهو الله الذي لا آله إلا الله ، وأنهم سالكون كادحون إلى الله يوم عظيم ، واقفون في منازل من منازل السير ، لاحقيقة له إلالعب وغرور ، فيجب أن يراعو ذالك في هذه الحياة وأفعالها ، وان يجعلو نصب اعينهم انهم من أين ، وهذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه : من استقر عنده النبأ دون الرسول ، ولذالك عبر بالبنين ، وفي أسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الانبياء في تلقيهم الوحى وتبليغهم الرسالة إلى الناس وسيجئ زيادة توضيح لهذا في اخر البيان ، وأما التبشير والانذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه والجنة لمن اتقى ، والوعيد لعذاب الله سبحانه من سخطه والنار لمن گذب وعصى فهما أمس مراتب الدعوة بحال لغير ربهم من ثواب أو عقاب.
  قوله تعالى : ( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) ، الكتاب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 128 _
  فعال بمعنى المكتوب ، والكتاب بحسب المتعارف من اطلاقه وان استلزم كتابه بالقلم لكن اكون العهود والفرامين المفترضة انما يبرم بالكتابة غالبا شاع اطلاقه على كل حكم مفروض واجب الا أو كل بيان بل كل معى لا يقبل النقض في أبرامه وقد كثر استعماله بهذا المعنى في آلقران ، وبهذا المعنى سمي آلقران كتاباوهو كلام ألهي ، قال تعالى : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ) ص ـ 29 ، وقال تعالى : ( إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ) النساء ـ 103 وفي قوله تعالى فيما اختلفوا فيه ، دلالة على ان المعنى : كان الناس امة واحدة فاختلفوا فبعث الله الخ كما مر .
  واللام في الكتاب اما للجنس واما للعهد الذهني والمراد به كتاب نوح ( عليه السلام ) لقوله تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ) الشورى ـ 13 ، فإن الآية في مقام الامتنان وتبين ان الشريعة النازلة على هذه الامة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الانبياء السالفين مع ما يختص بوحيه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالشريعة مختصة بهؤلاء الانبياء العظام : نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  ولما كان قوله تعالى : وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية يدل على ان الشرع إنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام اولا : على ان لنوح ( عليه السلام ) كتابا متضمنا لشريعة ، وانه المراد بقوله تعالى :وانزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، إما وحدة أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام للعهد أو الجنس.
  وثانيا : ان كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة ، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة ولذكرها الله تعالى في قوله : شرع لكم الآية.
  وثالثا : ان هذا العهد الذي يشير تعالى إليه بقوله : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) الآية كان قبل بعثة نوح ( عليه السلام ) وقد حكم فيه كتابه ( عليه السلام ).
  قوله تعالى : ( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُم ) ، قد مر أن المراد به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته ، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) الروم ـ 30 ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 129 _
  الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي.
  وفي قوله تعالى : إلا الذين أوتوه ، دلالة على ان المراد بالجملة هو الاشارة إلى الاصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم أو تدين بغير الدين يكون باغيا وإن كان ضالا عن الصراط السوي ، فإن الله سبحانه لا يعذر الباغي ، وقد عذر من اشتبه عليه الامر ولم يجد حيلة ولم يهتد سبيلا ، قال تعالى : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الشورى ـ 42 ، وقال تعالى : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ـ إلى أن قال ـ : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة ـ 106 ، وقال تعالى : ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) النساء ـ 99.
  على أن الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة ، ولكن تنافي التعمد والبغي ، ولذلك خص البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الالهية ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة ـ 39 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وقد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد ، وبالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم.
  قوله تعالى : ( فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ) بيان لما اختلف فيه وهو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته ، كما دل عليه قوله تعالى : وأنزل معهم الكتاب بالحق ، وعند ذلك عنت الهداية الالهية بشأن الاختلافين معا : الاختلاف في شأن الحياة ، والاختلاف في الحق والمعارف الالهية الذي كان عامله الاصلي بغى حملة الكتاب ، وفي تقييد الهداية بقوله تعالى : بإذنه دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم ، وايجابا على الله تعالى ان يهديهم لايمانهم ، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم ، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه ، بل كانت الهداية بإذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد ، وعلى هذا فقوله تعالى : والله يهدي من يشاء إلى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 130 _
  صراط مستقيم بمنزلة التعليل لقوله بإذنه ، والمعنى إنما هداهم الله بإذنه لان له أن يهديهم وليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد ، بل يهدي من يشاء ، وقد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم .
  وقد تبين من الآية اولا : حد الدين ومعرفه ، وهو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الاخروي ، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه ، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج.
  وثانيا : أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشي عن الفطرة ثم استكمل رافعا للاختلاف الفطري وغير الفطري معا.
  وثالثا : أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة ، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده ، وبالعكس إذا كان دين من الاديان خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج ، قال تعالى : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الاحزاب ـ 40 ، وقال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل ـ 89 ، وقال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) حم السجدة ـ 42.
  ورابعا : أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها.
  وخامسا : السبب في بعث الانبياء وإنزال الكتب ، وبعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية ، وهو أن الانسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني ، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف ، وكيف يدفع شيء ما يجذبه به إليه نفسه ، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم ، وهذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع والايجاد فما هو مقدمته كذلك ، وقد قال تعالى : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه ـ 50 ، فبين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شيء إلى ما يتم به خلقه ، ومن تمام خلقة الانسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة ، وقد قال تعالى أيضا : ( كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الاسراء ـ 20 ، وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الامداد بالعطاء : يمد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 131 _
  كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده ، ويعطيه ما يستحقه ، وأن عطائه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه ، من قبل نفسه لا من قبله تعالى .
  ومن المعلوم أن الانسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية ؟.
  وإذا كانت الطبيعة الانسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للانسان عن الوصول إلى كماله الحري به وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته ، فالاصلاح ( لو كان ) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة ، وهي الجهة الالهية التي هي النبوة بالوحي ، ولذا عبر تعالى عن قيام الانبياء بهذا الاصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع ان قيام الانبياء كسائر الامور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية والمكانية.
  فالنبوة حالة إلهية ( وإن شئت قل غيبية ) نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الادراك والفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الانسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف والتناقض في حياة الانسان ، وهذا الادراك والتلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي ، والحالة التي يتخذها الانسان منه لنفسه بالنبوة .
  ومن هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدي من جهة وإلى الاختلاف من جهة أخرى ، وعنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدء حجة على وجود النبوة وبعبارة أخرى دليل النبوة العامة.
  تقريره : أن نوع الانسان مستخدم بالطبع ، وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف والفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين والايجاد برفعه ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها ، وهداية الانسان إلى كماله وسعادته بأحد أمرين : إما بفطرته وإما بأمر ورائه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها ؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة ، وهو التفهيم الالهي غير الطبيعي المسمى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 132 _
  بالنبوة والوحي ، وهذه الحجه مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم ، وكل واحدة من هذه المقدمات تجربية ، بينتها التجربة للانسان في تاريخ حياته واجتماعاته المتنوعة التي ظهرت وانقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية ، إلى أقدم أعصار الحياة الانسانية التي يذكرها التاريخ.
  فلا الانسان انصرف في حين من احيان حياته عن حكم الاستخدام ، ولا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع وقضى بحياة فردية ، ولا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف ، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية ، ولا ان فطرته وعقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد ، وناهيك في ذلك :
  ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية ، وما هو نصب عينيك من انحطاط الاخلاق وفساد عالم الانسانية ، والحروب المهلكة للحرث والنسل ، والمقاتل المبيدة للملائين بعد الملائين من الناس ، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقى والثقافة والعلم ، فما ظنك بالقرون الخالية ، أعصار الجهل والظلمة ؟.
  وأما أن الصنع والايجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة والبحث ، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة والبحث ، وأما أن التعليم والتربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر يصدقه البحث والتجربة معا : أما البحث : فلان الدين يدعو إلى حقائق المعارف وفواضل الاخلاق ومحاسن الافعال فصلاح العالم الانساني مفروض فيه ، وأما التجربة : فالاسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين ، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الانسان صلحت نفوسهم ، وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس ، على أن جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة والرقي مرهونة التقدم الاسلامي وسريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شك ، وسنستوفي البحث عنه إنشاء الله في محل آخرأليق به .
  وسادسا : أن الدين الذي هو خاتم الاديان يقضي بوقوف الاستكمال الانساني ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 133 _
  قضاء القرآن بختم النبوة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للانسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه.
  وهذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الانسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرنا تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من اجتماعه تقدما باهرا ، وقطع بعدا شاسعا غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية ، وأخلاقه الفاضلة موقفة الذي كان عليه ، ولم يتقدم حتى قدما واحدا ، أو رجع اقداما خلفه القهقري ، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي والجسمي معا .
  وقد اشتبه الامر على من يقول : إن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال البشر وإصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها وارتقائها وصعودها مدارج الكمال ، ولاشك أن النسبة بيننا وبين عصر نزول القرآن ، وتشريع قوانين الاسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر وعصر بعثة عيسى ( عليه السلام ) وموسى ( عليه السلام ) فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر وعصر النبي موجبا لنسخ شرائع الاسلام ووضع قوانين أخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر.
  والجواب عنه : أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي للانسان ، بل اعتبر حقيقة الوجود الانساني ، وبني أساسه على الكمال الروحي والجسمي معا ، وابتغى السعادة المادية والمعنوية جميعا ، ولازم ذلك أن يعتبر فيه حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة والسياسة ، وقد اختلط الامر على هؤلاء الباحثين فإنهم لولوعهم في الابحاث الاجتماعية المادية ( والمادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها ) حسبوا أن الاجتماع الذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني ، فحكموا عليه بالتغير والنسخ حسب تحول الاجتماع المادي ، وقد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط ، بل الجسم والروح جميعا ، وعلى هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع ديني جامع للتربية الدينية والحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد عنده شيء من النقص المفتقر إلى التتميم ، والوهن المحتاج إلى التقوية ؟.
  وسابعا : أن الانبياء ( عليهم السلام ) معصومون عن الخطاء.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 134 _
( كلام في عصمة الانبياء )
  توضيح هذه النتيجة : أن العصمة على ثلاثة أقسام : العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي ، والعصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة ، والعصمة عن المعصية وهي ما فيه هتك حرمة العبودية ومخالفة مولوية ، ويرجع بالاخرة إلى قول أو فعل ينافي العبودية منافاه ما ، ونعني بالعصمة وجود أمر في الانسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ أو المعصية.
  وأما الخطأ في غير باب المعصية وتلقي الوحي والتبليغ ، وبعبارة أخرى في غير باب أخذ الوحي وتبليغه والعمل به كالخطأ في الامور الخارجية نظير الاغلاط الواقعة للانسان في الحواس وإدراكاتها أو الاعتباريات من العلوم ، ونظير الخطأ في تشخيص الامور التكوينية من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر ونحوها فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث.
  وكيف كان فالقرآن يدل على عصمتهم ( عليهم السلام ) في جميع الجهات الثلاث :
  أما العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة : فيدل عليه قوله تعالى في الآية : فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فإنه ظاهر في أن الله سبحانه إنما بعثهم بالتبشير والانذار وانزال الكتاب ( وهذا هو الوحي ) ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد والحق في العمل ، وبعبارة أخرى لهداية الناس إلى حق الاعتقاد وحق العمل ، وهذا هو غرضه سبحانه في بعثهم ، وقد قال تعالى : ( لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) طه ـ 52 ، فبين أنه لا يضل في فعله ولا يخطئ في شأنه فإذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ ، وإذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضل في سلوكه ، وكيف لا وبيده الخلق والامر وله الملك والحكم ، وقد بعث الانبياء بالوحي إليهم وتفهيمهم معارف الدين ولابد أن يكون ، وبالرسالة لتبليغها للناس ولابد أن يكون ! وقال تعالى ايضا : ( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق ـ 3 ، وقال ايضا : ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) يوسف ـ 21.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 135 _
  ويدل على العصمة عن الخطأ أيضا قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) الجن ـ 28 ، فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم ويؤيدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم ، والاحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال والتغير بتغيير الشياطين وكل مغير غيرهم ، ليتحقق إبلاغهم رسالات ربهم ، ونظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة الوحي ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) مريم ـ 64 ، دلت الآيات على أن الوحي من حين شروعه في النزول إلى بلوغه النبي إلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أي مغير يغيره .
  وهذان الوجهان من الاستدلال وإن كانا ناهضين على عصمة الانبياء ( عليهم السلام ) في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قررنا ، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضا بأن الفعل دال كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسنا جائزا كما لو قال : إن الفعل الفلاني حسن جائز فلو تحققت معصية من النبي وهو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضا منه فأن فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين وليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحق فإن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلا للآخر فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة كما لا يخفى .
  ويدل على عصمتهم مطلقا قوله تعالى : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الانعام ـ 90 ، فجميعهم ( عليهم السلام ) كتب عليهم الهداية ، وقد قال تعالى : ( يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ) الزمر ـ 37.
  وقال تعالى : ( مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) الكهف ـ 17 ، فنفى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال ، فلا يوجد فيهم ضلال ، وكل معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ) يس ـ 62 ، فعد كل معصية ضلالا حاصلا بإضلال الشيطان بعد ما عدها عبادة للشيطان فإثبات هدايته

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 136 _
  تعالى في حق الانبياء ( عليهم السلام ) ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية ضلالا تبرئه منه تعالى لساحد انبيائه عن صدور المعصية منهم وكذا عن وقوع الخطأ في فهمهم الوحي وإبلاغهم إياه.
  ويدل عليها أيضا قوله تعالى : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء ـ 68 ، وقال أيضا : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) والحمد ـ 7 ، فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين ، ولو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين وكذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الانبياء : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) مريم ـ 59 ، فجمع في الانبياء أولا الخصلتين : اعني الانعام والهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله وممن هدينا واجتبينا بعد قوله : أنعم الله عليهم ، ووصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية ، ثم وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم ، والفريق الثاني غير الاول لان الفريق الاول رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني ، وإذ وصف الفريق الثاني وعرفهم بأنهم اتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا فالفريق الاول وهم الانبياء ما كانوا يتبعون الشهوات ولا يلحقهم غي ، ومن البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى انهم لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الاطلاق في قوله : أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا.
  وهذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الانبياء من طريق العقل بأن إرسال الرسل وإجراء المعجزات على ايديهم تصديق لقولهم ، فلا يصدر عنهم كذب وكذا تصديق لاهليتهم للتبليغ ، والعقل لا يعد إنسانا يصدر منه المعاصي والافعال المنافية لمرام ومقصد كيف كان أهلا للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي وفي تبليغ الرسالة وفي امتثالهم للتكاليف المتوجة إليهم بالطاعة.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 137 _
  ولا يرد عليه : ان الناس وهم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم وأقسام أغراضهم الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور والتقصير في التبليغ ، فإن ذلك منهم لاحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه ، إما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور والتقصير ، وإما لان مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من الامر المطلوب ، والقبض على اليسير والغض عن الكثير وشئ من الامرين لا يليق بساحته تعالى.
  ولا يرد عليه ايضا : ظاهر قوله تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة ـ 123 ، فإن الآية وإن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه اذن لهم في تبليغ ما تعلموا من الدين وتفقهوا فيه ، لاتصديق لهم فيما أنذروا به وجعل حجية لقولهم على الناس والمحذور انما هو في الثاني دون الاول.
  ومما يدل على عصمتهم ( عليهم السلام ) قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) النساء ـ 64 ، حيث جعل كون الرسول مطاعا غاية للارسال ، وقصر الغاية فيه ، وذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق ارادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول وهو قوله أو فعله لان كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ ، فلو تحقق من الرسول خطاء في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك ارادة منه تعالى للباطل والله سبحانه لا يريد الا الحق.
  وكذا لو صدر عن الرسول معصية قولا أو فعلا والمعصية مبغوضة منهي عنها لكان بعينه متعلق ارادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريدا غير مريد ، آمرا وناهيا ، محبا ومبغضا بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات والافعال علوا كبيرا وهو باطل وان قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم ، فان تكليف مالا يطاق تكليف بالمحال وما نحن فيه تكليف نفسه محال لانه تكليف ولا تكليف وارادة ولا ارادة وحب ولاحب ومدح وذم بالنسبة إلى فعل واحد !
  ومما يدل على ذلك ايضا قوله تعالى : ( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء ـ 165 ، فان الآية ظاهرة في ان الله سبحانه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 138 _
  يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة والمعصية وان لا قاطع للعذر الا الرسل ( عليهم السلام ) ، ومن المعلوم ان قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحجتهم انما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم مالا يوافق ارادة الله ورضاه : من قول أو فعل ، وخطاء أو معصية والا كان للناس ان يتمسكوا به ويحتجوا على ربهم سبحانه وهو نقض لغرضه تعالى .
  فان قلت : الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو ان الانبياء ( عليهم السلام ) لا يقع منهم خطاء ولا يصدر عنهم معصية وليس ذلك من العصمة في شيء فإن العصمة على ما ذكره القوم قوة تمنع الانسان عن الوقوع في الخطأ ، وتردعه عن فعل المعصية واقتراف الخطيئة ، وليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره وانما هي مبدء نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الافعال عن الملكات النفسانية.
  قلت : نعم لكن الذي يحتاج إليه في الابحاث السابقة هو عدم تحقق الخطأ والمعصية من النبي ( عليه السلام ) ولا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صوابا أو طاعة وهو ظاهر .
  ومع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوة رادعة بما مر في البحث عن الاعجاز من دلالة قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق ـ 3 ، وكذا قوله تعالى : ( إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود ـ 56 ، على أن كلا من الحوادث يحتاج إلى مبدء يصدر عنه وسبب يتحقق به ، فهذه الافعال الصادرة عن النبي ( عليه السلام ) على وتيرة واحدة صوابا وطاعة تنتهي إلى سبب مع النبي ( عليه السلام ) وفي نفسه وهي القوة الرادعة ، وتوضيحه : أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الافعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة وبعضها معصية ولا شك أن الفعل الاختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم والمشية ، وإنما يختلف الفعل طاعة ومعصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها ، فإن كان المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الامر مثلا تحققت الطاعة ، وإن كان المطلوب ـ أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية ـ اتباع الهوى واقتراف ما نهى الله عنه تحققت المعصية ، فاختلاف أفعالنا طاعة ومعصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل ، ولو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية وامتثال الامر الالهي لما صدر إلا الطاعة ، ولو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية ( والعياذ بالله ) لم يتحقق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 139 _
  إلا المعصية ، وعلى هذا فصدور الافعال عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بوصف الطاعة دائما ليس إلا لان العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة ، وهو الاذعان بوجوب العبودية دائما ، ومن المعلوم أن الصورة العلمية والهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة والشجاعة والعدالة ونحوها ، ففي النبي ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد وهي القوة الرادعة عن المعصية.
  ومن جهة أخرى النبي لا يخطئ في تلقي الوحي ولا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لا تخطئ في تلقي المعارف وتبليغها ولا تعصي في العمل ولو فرضنا أن هذه الافعال وهي على وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب والطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الاسباب يكون معه ، ولا انضمام من شيء إلى نفس النبي كان معنى ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي ( عليه السلام ) فيه ، ولازم ذلك إبطال علم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإرادته في تأثيرها في أفعاله وفي ذلك خروج الافعال الاختيارية عن كونها اختيارية ، وهو ينافي افتراض كونه فردا من إفراد الانسان الفاعل بالعلم والارادة ، فالعصمة من الله سبحانه إنما هي بإيجاد سبب في الانسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابا وطاعة وهو نوع من العلم الراسخ وهو الملكه كما مر.

( كلام في النبوة )
  والله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة ( وهي وصف إرشاد الناس بالوحي ) في كلامه كثيرا عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم : وهما الرسول والنبي ، قال تعالى : ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ) الزمر ـ 69 ، وقال تعالى : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ) المائدة ـ 109 ، ومعنى الرسول حامل الرسالة ، ومعنى النبي حامل النبأ ، فللرسول شرف الطاعة بين الله سبحانه وبين خلقه والنبي شرف العلم بالله وبما عنده.
  وقد قيل أن الفرق بين النبي والرسول بالعموم والخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبهث فيؤمر بالتبليغ ويحمل الرسالة ، والنبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 140 _
  لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ) مريم ـ 51 ، والآية في مقام المدح والتنظيم ولا يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام كما لا يخفى .
  وكذا قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ) الحج ـ 51 ، حيث جمع في الكلام بين الرسول والنبي ثم جعل كلا منهما مرسلا لكن قوله تعالى : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ) الزمر ـ 69 ، وكذا قوله تعالى : ( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الاحزاب ـ 40 ، وكذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى : فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالارسال إلى الناس نبي ولا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى : وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا الآية ، فإن اللفظين قصد بهما معناهما من غير ان يصيرا اسمين مهجورى المعنى فالمعنى وكان رسولا خبيرا بآيات الله ومعارفه ، وكذا قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية لامكان ان يقال : ان النبي والرسول كليهما مرسلان إلى الناس ، غير ان النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيرا بما عند الله ، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على اصل نباء النبوة كما يشعر به امثال قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) يونس ـ 47 ، وقوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) الاسراء ـ 15 ، وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم ، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على اتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكة أو عذابا أو نحو ذلك قال تعالى : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء ـ 165 ، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم ، ولازمه هو الذي أشرنا إليه من ان للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده وسيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) من الفرق بينهما.
  ثم ان القرآن صريح في ان الانبياء كثيرون وان الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) المؤمن ـ 78 ، إلى غير ذلك والذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 141 _
  بضعة وعشرون نبيا وهم : آدم ، ونوح ، وادريس ، وهود ، وصالح ، وابراهيم ، ولوط ، واسماعيل ، واليسع ، وذو الكفل ، والياس ، ويونس ، واسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، وداود ، وسليمان ، وايوب ، وزكريا ، ويحيى ، واسماعيل صادق الوعد ، وعيسى ، ومحمد صلى لله عليهم أجمعين.
  وهناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية ، قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ) البقرة ـ 246 ، وقال تعالى : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) البقرة ـ 259 ، وقال تعالى : ( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) يس ـ 14 ، وقال تعالى : ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) الكهف ـ 65 ، وقال تعالى : ( وَالأسْبَاطِ ) البقرة ـ 136 ، وهناك من لم يتضح كونه نبيا كفتى موسى في قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ) الكهف ـ 60 ، ومثل ذي القرنين وعمران أبي مريم وعزير من المصرح بأسمائهم.
  وبالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده والذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون وأشهرها رواية ابي ذر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ان الانبياء مئة وأربعة وعشرون الف نبي ، والمرسلون منهم ثلثمائة وثلاثة عشر نبيا .
  واعلم : ان سادات الانبياء هم أولوا العزم منهم وهم : نوح ، وابراهيم ، وموسى وعيسى ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعليهم ، قال تعالى : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) الاحقاف ـ 35 ، وسيجئ ان معنى العزم فيهم الثبات على العهد الاول المأخوذ منهم وعدم نسيانه ، قال تعالى : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) الاحزاب ـ 7 ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) طه ـ 115.
  وكل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع وكتاب ، قال تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ) الشورى ـ 13 ، وقال تعالى : ( إن هذا لفي الصحف الاولى صحف ابراهيم وموسى ) الاعلى ـ 19 ، وقال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ): إلى أن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 142 _
  قال : ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم ) المائدة ـ 51.
  والآيات تبين ان لهم شرائع وان لابراهيم وموسى وعيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتبا ، وأما كتاب نوح فقد عرفت ان الآية اعني قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة الخ ، بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية تدل عليه ، وهذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود ( عليه السلام ) ، قال تعالى : ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء ـ 163 ، ولا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم ، وشيث ، وادريس ، فانها كتب لا تشتمل على الاحكام والشرائع.
  واعلم ان من لوازم النبوه الوحي وهو نوع تكليم الهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) النساء ـ 163 ، وسيجئ استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إنشاء الله.
  ( بحث روائي )
  في المجمع عن الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : كان الناس قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين فبعث الله النبيين.
  وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) في الآية قال : وكان ذلك قبل نوح فقيل : فعلى هدى كانوا ؟ قال بل كانوا ضلالا ، وذلك إنه لما انقرض آدم وصالح ذريته ، وبقي شيث وصيه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته وذلك ان قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل ، فصار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الارض معهم إلا من هو سلف ، ولحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك وتعالى ان يبعث الرسل ، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الامر ، وكذبوا ، إنما هو شيء يحكم الله في كل عام ثم قرء : فيها يفرق كل أمر حكيم ، فيحكم الله تبارك وتعالى : ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك ، ـ قلت أفضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى ؟ قال : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله ، أما تسمع بقول ابراهيم : لئن لم يهدني

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 143 _
  ربي لاكونن من القوم الضالين أي ناسيا للميثاق.
  اقول : قوله : لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله ، يفسر معنى كونهم ضلالا المذكور في أول الحديث ، وأنهم إنما خلوا عن الهداية التفصيلية إلى المعارف الالهية ، واما الهداية الاجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قوله ( عليه السلام ) في رواية المجمع المنقولة آنفا : على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلالا .
  وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أي ناسيا للميثاق ، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجرى على حال من هو ذاكر للميثاق وإن لم يكن ذاكرا له حقيقة وهو حال ساير المؤمنين ولا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية.
  وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال : سأل الزنديق الذي أتى إبا عبد الله فقال : من أين أثبت أنبياء ورسلا ؟ قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إنا لما أثبتنا : ان لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز ان يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجهم ويحاجوه ، فثبت ان له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقائهم ، وفي تركه فنائهم ، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك ان له معبرين وهم الانبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبون بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في احوالهم ، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد ، من احياء الموتى ، وابراء الاكمه والابرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته.
  اقول : والحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلث في مسائل ثلث من النبوة.
  إحداها : الحجة على النبوة العامة وبالتأمل فيما ذكره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تجد انه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة الآية.
  وثانيتها : الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة ، وما ذكره ( عليه السلام ) منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الاعجاز في بيان قوله تعالى : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) البقرة ـ 23.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 144 _
  وثالثتها : مسألة عدم خلو الارض عن الحجة وسيأتي بيانه إنشاء الله.
  وفي المعاني والخصال عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال : قلت يا رسول الله كم النبيون ؟ قال : مأة وأربعة وعشرون الف نبي ، قلت : كم المرسلون منهم؟ قال ثلثمأة وثلاثة عشر جما غفيرا ، قلت من كان أول الانبياء ؟ قال : آدم ، قلت : وكان من الانبياء مرسلا ؟ قال : نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ، ثم قال يا أبا ذر أربعة من الانبياء سريانيون : آدم ، وشيث ، وأخنوخ وهو ادريس وهو أول من خط بالقلم ، ونوح ، وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وستمأة نبي ، قلت : يا رسول الله ! كم أنزل الله تعالى من كتاب ؟ قال : مأة كتاب وأربعة كتب ، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة ، وانزل التوراة ، والانجيل ، والزبور ، والفرقان.
  اقول : والرواية وخاصة صدرها المتعرض لعدد الانبياء والمرسلين من المشهورات روتها الخاصة والعامة في كتبهم ، وروى هذا المعنى الصدوق في الخصال والامالي عن الرضا عن آبائه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعن زيد بن علي عن آبائه عن امير المؤمنين ( عليه السلام ) ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة ، والسيد في الاقبال عن السجاد ( عليه السلام ) ، وفي البصائر عن الباقر ( عليه السلام ).
  وفي الكافي عن الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى : وكان رسولا نبيا الآية قال : النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول الذي يسمع الصوت ولا يرى في المنام ويعاين.
  اقول : وفي هذا المعنى روايات أخر ، ومن الممكن ان يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى : ( فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ) الشعراء ـ 13 ، وليس معناها ان معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود ان النبوة والرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا وخاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي ، وربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان ، وربما كانت نبوة من غير رسالة ، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقا لا مفهوما كما يصرح به الحديث السابق عن ابي ذر حيث يقول : قلت : كم المرسلون منهم ؟
  فقد تبين ان كل رسول نبي ولا عكس ، وبذلك يظهر الجواب عما اعترضه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 145 _
  بعضهم على دلالة قوله تعالى : ( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الاحزاب ـ 40 ، أنه انما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلا بهذه الرواية ونظائرها.
  والجواب : ان النبوة أعم مصداقا من الرسالة وارتفاع الاعم يستلزم ارتفاع الاخص ولا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة والنبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق.
  وفي العيون عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال : إنما سمي أولوا العزم أولي العزم لانهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع ، وذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل ، وكل نبي كان في أيام إبراهيم كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن موسى ، وكل نبي كان في زمن موسى كان على شريعه موسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى أيام عيسى وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على شريعه عيسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهؤلاء الخمسة أولوا العزم ، وهم أفضل الانبياء والرسل ( عليهم السلام ) وشريعة محمد لا تنسخ إلى يوم القيامة ، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه .
  اقول : وروي هذا المعنى صاحب قصص الانبياء عن الصادق ( عليه السلام ).
  وفي تفسير القمى في قوله تعالى : فأصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل الآية ، وهم نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى بن مريم ( عليهم السلام ) ، ومعنى أولي العزم أنهم سبقوا الانبياء إلى الاقرار بالله وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم : وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والاذى.
  اقول : وروي من طرق أهل السنة والجماعة عن ابن عباس وقتادة أن أولي العزم من الانبياء خمسة : نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما رويناه من طرق أهل البيت ، وهناك أقوال أخر منسوبة إلى بعضهم : فذهب بعضهم إلى أنهم ستة : نوح ، وابراهيم ، وإسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وذهب بعضهم إلى أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين ، وذهب بعضهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 146 _
  إلى أنهم أربعة : ابراهيم ، ونوح ، وهود ، ورابعهم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذه أقوال خالية عن الحجة وقد ذكرنا الوجه في ذلك.
  وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال ؟ كان ما بين آدم وبين نوح من الانبياء مستخفين ، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الانبياء الحديث.
  اقول : وروي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة ( عليهم السلام ) بطرق كثيرة.
  وفي الصافي عن المجمع عن علي ( عليه السلام ) بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته.
  وفي النهج قال ( عليه السلام ) في خطبة له يذكر فيها آدم ( عليه السلام ) : فأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية ، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه واتخذوا الانداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبيائه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسى نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة : من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم ، واحداث تتابع عليهم ، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة إو محجة قائمة ، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم : من سابق سمي له من بعده ، أو غابر عرفه من قبله ، على ذلك نسلت القرون ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء ، وخلفت الابناء ، إلى ان بعث الله سبحانه محمدا لانجاز عدته ، وتمام نبوته الخطبة.
  اقول : قوله : اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كل جانب ، وقوله : واتر إليهم ، أي ارسل واحدا بعد واحد ، والاوصاب جمع وصب وهو المرض ، والاحداث جمع الحدث وهو النازلة ، وقوله نسلت القرون اي مضت ، وإنجاز العدة تصديق الوعد ، والمراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبشر به عيسى ( عليه السلام ) وغيره من الانبياء ( عليهم السلام ) ، قال تعالى : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ) الانعام ـ 115.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 147 _
  وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : قال الله تعالى لموسى ( عليه السلام ) : وكتبنا له في الالواح من كل شيء فعلمنا انه لم يكتب لموسى الشئ كله ، وقال تعالى لعيسى : لابين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، وقال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ.
  اقول : وروي في بصائر الدرجات هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين ، وقوله ( عليه السلام ) قال الله لموسى الخ إشارة إلى ان قوله تعالى في الالواح من كل شيء يفسر قوله تعالى في حق التوراة : وتفصيل كل شيء إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شيء لم يصح قوله : في الالواح من كل شيء فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شيء تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم.
  ( بحث فلسفي )
  مسألة النبوة العامة بالنظر إلى كون النبوة نحو تبليغ للاحكام وقوانين مجعولة مشرعة وهي أمور اعتبارية غير حقيقية ، وإن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإن البحث الفلسفي إنما ينال الاشياء من حيث وجوداتها الخارجية وحقائقها العينية ولا يتناول الامور المجعولة الاعتبارية.
  لكنها بالنظر إلى جهة أخرى مسألة فلسفية وبحث حقيقي ، وذلك أن المواد الدينية : من المعارف الاصلية والاحكام الخلقية والعملية لها ارتباط بالنفس الانسانية من جهة أنها تثبت فيها علوما راسخة أو احوالا تؤدي إلى ملكات راسخة ، وهذه العلوم والملكات تكون صورا للنفس الانسانية تعين طريقها إلى السعادة والشقاوة ، والقرب والبعد من الله سبحانه ، فإن الانسان بواسطة الاعمال الصالحة والاعتقادات الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق الا بما هي له عند الله سبحانه من القرب والزلفى ، والرضوان والجنان وبواسطة الاعمال الطالحة والعقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه صورا لا تتعلق إلا بالدنيا الداثرة وزخارفها الفانية ويؤديها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا وانقطاع الاختيار إلى دار البوار ومهاد النار وهذا سير حقيقي.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 148 _
  وعلى هذا فالمسألة حقيقية والحجة التي ذكرناها في البيان السابق واستفدناها من الكتاب العزيز حجة برهانية.
  توضيح ذلك : ان هذه الصور للنفس الانسانية الواقعة في طريق الاستكمال ، والانسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية ، والعلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل إلى كمالها الاخير في وجودها بشهادة التجربة والبرهان ، والواجب تعالى تام الافاضة فيجب أن يكون هناك افاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال ، ويتبدل به قوتها إلى الفعلية ، من الكمال الذي يسمى سعادة ان كانت ذات صفات حسنة وملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة ان كانت ذات رذائل وهيئات ردية.
  واذ كانت هذه الملكات والصور حاصلة لها من طريق الافعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح والفساد ، والخوف والرجاء ، والرغبة إلى المنافع ، والرهبة من المضار ، وجب أن تكون هذه الافاضة أيضا متعلقة بالدعوة الدينية بالتبشير والانذار والتخويف والتطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم ، وخسارا للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم ، والدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها وهو النبي المبعوث من عنده تعالى.
  فان قلت : كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتباع الانسان للحق في الاعتقاد والعمل ، وسلوكه طريق الفضيلة والتقوى ، فأي حاجة إلى بعث الانبياء.
  قلت : العقل الذي يدعو إلى ذلك ، ويأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن والقبح ، دون العقل النظري المدرك لحقائق الاشياء كما مر بيانه سابقا ، والعقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الاحساسات الباطنة ، والاحساسات التي هي بالفعل في الانسان في بادي حاله هي إحساسات القوي الشهوية والغضبية ، وأما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة ، وقد مر أن هذا الاحساس الفطري يدعو إلى الاختلاف ، فهذه التي بالفعل لا تدع الانسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الانسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إلى التوحش والبربرية مع وجود العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم ، فلا غناء عن تأييد إلهي بنبوة تؤيد العقل.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 149 _
  ( بحث اجتماعي )
  فان قلت : هب ان العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في جميع التقادير ولكن الطبيعة تميل دائما إلى ما فيه صلاحها والاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقر بالاخرة على هيئد صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين وهو الاصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي بالاخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الانسانية جالب لسعادة النوع المجتمع الافراد ، ويشهد به ما نشاهده ويؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل وتتمنى الصلاح وتتوجه إلى السعادة اللذيذة عند الانسان ، فمنها ما بلغ مبتغاه وامنيته كما في بعض الامم مثل سويسره ، ومنها ما هو في الطريق ولما يتم له شرائط الكمال وهي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول.
  قلت : تمايل الطبيعة إلى كمالها وسعادتها مما لا يسع أحدا إنكاره ، والاجتماع المنتهى إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إلى الكمال لكن الذي ينبغي الامعان فيه أن هذا التمايل والتوجه لا يستوجب فعلية الكمال والسعادة الحقيقية ، لما ذكرنا من فعلية الكمال الشهوي والغضبي في الانسان وكون مبادي السعادة الحقيقية فيه بالقوة ، والشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية المنقرضة والحاضرة متوجهة إلى الكمال ، ونيل بعضها إلى المدنية الفاضلة السعيدة ، وقرب البعض الآخر أو بعده ، فإن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال والسعادة هو الكمال الجسمي وليس الكمال الجسمي هو كمال الانسان ، فإن الانسان ليس هو الجسم بل هو مركب من جسم وروح ، مؤلف من جهتين مادية ومعنوية له حياة في البدن وحياة بعد مفارقته من غير فناء وزوال ، يحتاج إلى كمال وسعادة تستند إليها في حياته الآخرة ، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية كمالا له وسعادة بالنسبة إليه ، وحقيقته هذه الحقيقة.
  فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إنما يتوجه بالفعل إلى فعلية الكمال الجسماني دون فعلية الكمال الانساني ، وإن كان في قصدها هداية الانسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الانسانية وانحلال تركيبه ، وضلاله عن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 150 _
  صراطه المستقيم ، فهذا الكمال لا يتم له إلا بتأييد من النبوة ، والهداية الالهية.
  فان قلت : لو صحت هذه الدعود النبوية ولها ارتباط بالهداية التكوينية لكان لازمها فعلية التأثير في الاجتماعات الانسانية ، كما ان هداية الانسان بل كل موجود مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعلي جار في الخلقة والتكوين ، فكان من اللازم أن يتلبس به الاجتماعات ، ويجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية ، وليس كذلك ، فكيف يكون إصلاحا حقيقيا ولا تقبله الاجتماعات الانسانية ؟ فليست الدعوة الدينية في رفعها اختلافات الحياة إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة.
  قلت : أولا اثر الدعوة الدينية مشهود معاين ، لا يرتاب فيه الا مكابر ، فإنها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت ، ربت ألوفا وألوفا من الافراد في جانب السعادة ، واضعاف ذلك وأضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول والرد والانقياد والاستكبار ، والايمان والكفر ، مضافا إلى بعض الاجتماعات الدينية المنعقدة احيانا من الزمان ، على ان الدنيا لم تقض عمرها بعد ، ولما ينقرض العالم الانساني ، ومن الممكن أن يتحول الاجتماع الانساني يوما إلى اجتماع ديني صالح ، فيه حياة الانسانية الحقيقية وسعادة الفضائل والاخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلا الله سبحانه ، ويسار فيه بالعدالة والفضيلة وليس من الجائز أن نعد مثل هذا التأثير العظيم هينا لا يعبأ به.
  وثانيا : أن الابحاث الاجتماعية وكذا علم النفس وعلم الاخلاق تثبت أن الافعال المتحققة في الخارج لها ارتباط بالاحوال والملكات من الاخلاق ترتضع من ثدى الصفات النفسانية ، ولها تأثير في النفوس ، فالافعال آثار النفوس وصفاتها ، ولها آثار في النفوس في صفاتها ، ويستنتج من هناك أصلان : أصل سراية الصفات والاخلاق ، وأصل وراثتها ، فهي تتسع وجودا بالسراية عرضا ، وتتسع ببقاء وجودها بالوراثة طولا.
  فهذه الدعوة العظيمة وهي تصاحب الاجتماعات الانسانية من اقدم عهودها ، في تاريخها المضبوط وقبل ضبط التاريخ لا بد أن تكون ذات أثر عميق في حياة الانسان الاجتماعية من حيث الاخلاق الفاضلة والصفات الحسنة الكريمة ، فللدعوة الدينية آثار في النفوس وإن لم تجبها ولم تؤمن بها.