بل حقيقة الامر : أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل والامم الحية من آثار النبوة والدين ، وقد ملكوها بالوراثة أو التقليد ، فإن الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته وانتحلت به أمم وجماعات هامة ، وهو الداعي الوحيد الذي يدعو إلى الايمان ، والاخلاق الفاضلة والعدل والصلاح ، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم وإن كان قليلا بقايا من آثاره ونتائجه ، فإن التدابير العامة في الاجتماعات المتكونة ثلاثة لا رابع لها : أحدها تدبير الاستبداد وهو يدعو إلى الرقية في جميع الشؤون الانسانية ، وثانيها القوانين المدنية وهي تجري وتحكم في الافعال فحسب ، وتدعو إلى الحرية فيما وراء ذلك من الاخلاق وغيرها ، وثالثها الدين وهو يحكم في الاعتقادات والاخلاق والافعال جميعا ويدعو إلى إصلاح الجميع.
  فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين وتربيته.
  ويشهد بذلك ما نشاهده من أمر الامم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة ، وأهملت أمر الدين والاخلاق ، فإنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح والرحمة والمحبة وصفاء القلب وسائر الفضائل الخلقية والفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم ، ولو كانت أصل الفطرة كافيه ، ولم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئا من ذلك.
  على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الامم المسيحية بعد الحروب الصليبية ، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الاسلامية فتقلدوها وتقدموا بها ، والحال أن المسلمين اتخذوها ورائهم ظهريا ، فتأخر هؤلاء وتقدم أولئك ، والكلام طويل الذيل.
  وبالجملة الاصلان المذكوران ، أعني السراية والوراثة ، وهما التقليد الغريزي في الانسان والتحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك وهو تأثير فعلي.
  فان قلت : فعلى هذا فما فائدد الفطرة فإنها لا تغني طائلا وإنما أمر السعادة بيد النبوة ؟ وما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة.
  قلت : ما قدمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الانسان وكماله يكفي في حل هذه الشبهة ، فإن السعادة والكمال الذي تجلبه النبوة إلى الانسان ليس أمرا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 152 _
  خارجا عن هذا النوع ، ولا غريبا عن الفطرة فإن الفطرة هي التي تهتدي إليه ، لكن هذا الاهتداء لا يتم لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك ، وهذا المعين الذي يعينها على ذلك وهو حقيقة النبوة ليس أيضا أمرا خارجا عن الانسانية وكمالها ، منضما إلى الانسان كالحجر الموضوع في جنب الانسان مثلا ، وإلا كان ما يعود منه إلى الانسان أمرا غير كماله وسعادته كالثقل الذي يضيفه الحجر إلى ثقل الانسان في وزنه ، بل هو أيضا كمال فطري للانسان مذخور في هذا النوع ، وهو شعور خاص وإدراك مخصوص مكمون في حقيقتة لا يهتدي إليه بالفعل إلا آحاد من النوع أخذتهم العناية الالهية كما أن للبالغ من الانسان شعورا خاصا بلذة النكاح ، لا تهتدي إليه بالفعل بقية الافراد غير البالغين بالفعل ، وإن كان الجميع من البالغ وغير البالغ مشتركين في الفطرة الانسانية ، والشعور شعور مرتبط بالفطرة.
  وبالجملة لا حقيقة النبوه أمر زائد على انسانية الانسان الذي يسمى نبيا ، وخارج عن فطرته ، ولا السعادة التي تهتدي سائر الامة إليها أمر خارج عن إنسانيتهم وفطرتهم ، غريب عما يستأنسه وجودهم الانساني ، وإلا لم تكن كمالا وسعادة بالنسبة إليهم.
  فان قلت : فيعود الاشكال على هذا التقرير إلى النبوة ، فإن الفطرة على هذا كافية وحدها والنبوة غير خارجة عن الفطرة.
  فإن المتحصل من هذا الكلام ، هو أن النوع الانساني المتمدن بفطرته والمختلف في اجتماعه يتميز من بين افراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة ، وعقولهم سليمة عن الاوهام والتهوسات ورذائل الصفات ، فيهتدون باستقامة فطرتهم ، وسلامة عقولهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع ، وسعادة الانسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس ، وعمران الدنيا والآخرة ، فإن النبي هو الانسان الصالح الذي له نبوغ اجتماعي.
  قلت : كلا ! وإنما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوة ، ولا ما تستتبعه .
  اما اولا : فلان ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممن لا قدم له في البحث الديني ، والفحص عن حقائق المبدء والمعاد.
  فذكر أن النبوة نبوغ خاص اجتماعي استتبعته استقامة الفطرة وسلامة العقل ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 153 _
  وهذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع ، وما يصلح به هذا الاجتماع المختل ، وما يسعد به الانسان الاجتماعي.
  فهذا النابغة الاجتماعي هو النبي ، والفكر الصالح المترشح من قواه الفكرية هو الوحي ، والقوانين التي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين ، وروحه الطاهر الذي يفيض هذه الافكار إلى قواه الفكرية ولا يخون العالم الانساني باتباع الهوى هو الروح الامين وهو جبرائيل ، والموحي الحقيقي هو الله سبحانه ، والكتاب الذي يتضمن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماوي ، والملائكة هي القوى الطبيعية أو الجهات الداعية إلى الخير ، والشيطان هي النفس الامارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشر والفساد ، وعلى هذا القياس.
  وهذا فرض فاسد ، وقد مر في البحث عن الاعجاز ، أن النبوة بهذا المعنى لان تسمى لعبة سياسية أولى بها من ان تسمى نبوة إلهية.
  وقد تقدم أن هذا الفكر الذي يسمي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاص نبوة من خواص العقل العملي ، الذي يميز بين خير الافعال وشرها بالمصلحة والمفسدة وهو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الانسان ومن هدايا الفطرة المشتركة ، وتقدم أيضا أن هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الاختلاف ، وإذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث هو كذلك على رفع الاختلاف ، واحتاج فيه إلى متمم يتمم أمره ، وقد عرفت أنه يجب أن يكون هذا المتمم نوعا خاصا من الشعور يختص به بحسب الفعلية بعض الآحاد من الانسان وتهتدي به الفطرة إلى سعادة الانسان الحقيقية في معاشه ومعاده.
  ومن هنا يظهر ان هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكري ، بمعنى أن ما يجده الانسان من النتائج الفكرية من طريق مقدماتها العقلية غير ما يجده من طريق الشعور النبوي ، والطريق غير الطريق.
  ولا يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الانسان شعورا نفسيا باطنيا ، ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده ، يفتح له بابا إلى عالم وراء هذا العالم ، ويعطيه عجائب من المعارف والمعلومات ، وراء ما يناله العقل والفكر ، صرح به جميع علماء النفس من قدمائنا وجمع من علماء النفس من اوروبا مثل جمز الانجليزي وغيره.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 154 _
  فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي ، وان النبوة وكذا الشريعة والدين والكتاب والملك والشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني.
  واما ثانيا : فلان المأثور من كلام هؤلاء الانبياء المدعين لمقام النبوة والوحي مثل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعيسى وموسى وإبراهيم ونوح ( عليهم السلام ) وغيرهم ـ وبعضهم يصدق بعضا ـ وكذا الموجود من كتبهم كالقرآن ، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة والوحي ونزول الكتاب والملك وغير ذلك من الحقائق ، فإن صريح الكتاب والسنة وما نقل من الانبياء العظام ( عليهم السلام ) أن هذه الحقائق وآثارها امور خارجة عن سنخ الطبيعة ، ونشأة المادة ، وحكم الحس ، بحيث لا يعد إرجاعها إلى الطبيعة وحكمها إلا تأويلا بما لا يقبله طبع الكلام ، ولا يرتضيه ذوق التخاطب.
  وقد تبين بما ذكرنا أن الامر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الانساني وهو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الانسان.
  فان قلت : فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمرا خارقا للعادة فإنه أمر لا يعرفه أفراد الانسان من انفسهم وانما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم ، فكيف يمكن أن يسوق الجميع إلى اصلاح شأنهم ويهدي النوع إلى سعادته الحقيقية؟ ! وقد مر سابقا أن كل ما فرض هاديا للانسان إلى سعادته وكماله النوعي وجب إن يهديه بالارتباط والاتحاد مع فطرته ، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الانسان إليه.
  قلت : كون هذا الامر خارقا للعادة مما لا ريب فيه ، وكذا كونه أمرا من قبيل الادراكات الباطنية ونحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه ، لكن العقل لا يدفع الامر الخارق للعادة ولا الامر المستور عن الحواس الظاهرة وانما يدفع المحال ، وللعقل طريق إلى تصديق الامور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة فان له أن يستدل على الشئ من طريق علله وهو الاستدلال اللمي ، أو من لوازمه أو آثاره وهو الاستدلال الاني فيثبت بذلك وجوده ، والنبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن ان يستدل عليها بأحد طريقين : فتارة من طريق آثاره وتبعاته وهو اشتمال الدين الذي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 155 _
  يأتي به النبي على سعادة الانسان في دنياه وآخرته ، وتارة من جهة اللوازم وهو ان النبوة لما كانت أمرا خارقا للعادة فدعواها ممن يدعيها هي دعوى ان الذي وراء الطبيعة وهو الهها الذي يهديها إلى سعادتها ويهدي النوع الانساني منها إلى كماله وسعادته يتصرف في بعض أفراد النوع تصرفا خارقا للعادة وهو التصرف بالوحى ، ولو كان هذا التصرف الخارق للعادة جائزا جاز غيره من خوارق العادة ، لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، فلو كانت دعوى النبوة من النبي حقا وكان النبي واجدا لها لكان من الجائز ان يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاك في نبوة هذا المدعى للنبوة ، وهذا الامر الخارق للعادة هي الآية المعجزة وقد تكلمنا في الاعجاز في تفسير قوله تعالى : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) الآية البقرة ـ 23.
  فان قلت : هب ان هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطني المسمى بوحى النبوة وأثبتها النبي بالاعجاز ، وكان على الناس ان يأخذوا بآثاره وهو الدين المشرع الذي جاء به النبي ، لكن ما المؤمن عن الغلط ؟ وما الذي يصون النبي عن الوقوع في الخطأ في تشريعه وهو إنسان طبعه طبع سائر الافراد في جواز الوقوع في الخطأ. ومن المعلوم ان وقوع الخطأ في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعي في سد طريق استكمال النوع الانساني ، وإضلاله هذا النوع في سيرة إلى سعادته ، فيعود المحذور من رأس.
  قلت : الابحاث السابقة تكفي مؤنة حل هذه العقدة ، فإن الذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعلية أعني الامر الروحي الذي يرفع الاختلاف إنما هو الناموس التكويني الذي هو الايصال التكويني لكل نوع من الانواع الوجودية إلى كماله الوجودي وسعادته الحقيقية ، فإن السبب الذي أوجب وجود الانسان في الخارج وجودا حقيقيا كسائر الانواع الخارجية هو الذي يهديه هداية تكوينية خارجية إلى سعادته ، ومن المعلوم ان الامور الخارجية من حيث انها خارجية لا تعرضها الخطاء والغلط ، أعني الوجود الخارجي لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح ان ما في الخارج هو ما في الخارج ! وإنما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقية والامور الفكرية من جهة تطبيقها على الخارج فإن الصدق والكذب من خواص القضايا ، تعرضها من حيث

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 156 _
  مطابقتها للخارج وعدمها ، وإذا فرض ان الذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الايجاد والتكوين لزم ان لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته ، ولا في وسيلة هدايته التي هي روح النبوة وشعور الوحى ، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبي ، ولا هذا الشعور الذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه ، ولو فرضنا له غلطا وخطائا في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء ، فمن الواجب ان يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط.
  فظهر : ان هذا الروح النبوي لا يحل محلا إلا بمصاحبة العصمة ، وهي المصونية عن الخطأ في أمر الدين والشريعة المشرعة ، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقا ، فإن هذه عصمة في تلقي الوحى من الله سبحانه ، وتلك عصمة في مقام العمل والعبودية ، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى ، فإن كلتيهما واقعتان في طريق سعاده الانسان التكوينية وقوعا تكوينيا ، ولا خطاء ولا غلط في التكوين.
  وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو : أنه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطني مثل الشعور الفطري المشترك أعني الشعور الفكري في نحو الوجود بأن يكون محكوما بحكم التغير والتأثر؟ فإن الشعور الفطري وان كان أمرا غير مادي ، ومن الامور القائمة بالنفس المجردة عن المادة إلا انه من جهة ارتباطه بالمادة يقبل الشدة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة ، فكذلك هذا الشعور الباطني أمر متعلق بالبدن المادي نحوا من التعلق ، وان سلم انه غير مادي في ذاته فيجب ان يكون حاله حال الشعور الفكري في قبول التغير والفساد ، ومع امكان عروض التغير والفساد فيه يعود الاشكالات السابقة البتة.
  والجواب : انا بينا ان هذا السوق أعني سوق النوع الانساني نحو سعادته الحقيقية انما يتحقق بيد الصنع والايجاد الخارجي دون العقل الفكري ، ولا معنى لتحقق الخطأ في الوجود الخارجي.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 157 _
  وأما كون هذا الشعور الباطني في معرض التغير والفساد لكونه متعلقا نحو تعلق بالبدن فلا نسلم كون كل شعور متعلق بالبدن معرضا للتغير والفساد ، وانما القدر المسلم من ذلك هذا الشعور الفكري ( وقد مر ان الشعور النبوي ليس من قبيل الشعور الفكري ) وذلك ان من الشعور شعور الانسان بنفسه ، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغير والخطأ فإنه علم حضوري معلومه عين المعلوم الخارجي ، وتتمة هذا الكلام موكول إلى محله.
  فقد تبين مما مر امور : احدهما : انسياق الاجتماع الانساني إلى التمدن والاختلاف.
  ثانيها : ان هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة.
  ثالثها : ان رافع هذا الاختلاف إنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه في بعض آحاد الانسان لا غير.
  رابعها : ان سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الانبياء غير سنخ الشعور الفكري المشترك بين العقلاء من افراد الانسان.
  خامسها : ان هذا الشعور الباطني لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الانساني في سعادته الحقيقية.
  سادسها : ان هذه النتائج ( ويهمنا من بينها الثلثة الاخيرة أعني : لزوم بعثة الانبياء ، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكري سنخا ، وكون النبي معصوما غير غالط في تلقي الوحى ) نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي ، وهو سير كل واحد من الانواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي جهزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبس بها ، والانسان أحد هذه الانواع ، وهو مجهز بما يمكنه به ان يعتقد الاعتقاد الحق ويتلبس بالملكات الفاضلة ، ويعمل عملا صالحا في مدينة صالحة فاضلة ، فلا بد ان يكون الوجود يهيئ له هذه السعادة يوما في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينية ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مر بيانه.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 158 _
   ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) ـ 214.
  ( بيان )
  قد مر ان هذه الآيات آخذة من قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ) إلى آخر هذه الآية ، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض .
  قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ) ، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة ، وهو ان الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ونعمة حباهم الله بها ، فمن الواجب ان يسلموا له ولا يتبعوا خطوات الشيطان ، ولا يلقوا فيه الاختلاف ، ولا يجعلوا الدواء دائا ، ولا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا ونقمة من اتباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم ، فإن المحنة دائمة ، والفتنة قائمة ، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب رب العالمين إلا بالثبات والتسليم.
  وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة ، فإن اصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله : يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه ، وإنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك ، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا .
  وكلمة أم منقطعة تفيد الاضراب ، والمعنى على ما قيل : بل أحسبتم ان تدخلوا الجنة الخ ، والخلاف في أم المنقطعة معروف ، والحق ان ام لافاده الترديد ، وأن الدلالة على معنى الاضراب من حيث انطباق معنى الاضراب على المورد ، لا أنها دلالة وضعية ، فالمعنى في المورد مثلا : هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الايمان والثبات على نعمة الدين ، والاتفاق والاتحاد فيه ام لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة الخ.
  قوله تعالى : ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ) ، المثل بكسر الميم فسكون

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 159 _
  الثاء ، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه ، والمراد به ما يمثل الشئ ويحضره ويشخصه عند السامع ، ومنه المثل بفتحتين ، وهو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة ـ 5 ، ومنه أيضا المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ ) الفرقان ـ 9 ، وإنما قالوا له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : مجنون وساحر وكذاب ونحو ذلك ، وحيث انه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله : مستهم البأساء والضراء إلخ فالمراد به المعنى الاول.
  قوله تعالى : ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ) إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الاجمال الذي دل عليه ) بقوله : ولما ياتكم مثل الذين ، بين ذلك بقوله : مستهم البأساء والضراء والبأساء هو الشدة المتوجهة إلى الانسان في خارج نفسه كالمال والجاه والاهل والامن الذي يحتاج إليه في حيوته ، والضراء هي الشدة التي تصيب الانسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض ، والزلزلة والزلزال معروف واصله من زل بمعنى عثر ، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الارض مثلا تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة ، وهو كصر وصرصر ، وصل وصلصل ، وكب وكبكب ، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادهاش.
  قوله تعالى : ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ) ، قرء بنصب يقول ، والجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها ، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية ، والمعنيان وإن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق ، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله : وزلزلوا لا يناسب السياق كل المناسبة.
  قوله تعالى : ( مَتَى نَصْرُ اللّهِ ) ، الظاهر أنه مقول قول الرسول والذين آمنوا معه جميعا ، ولا ضير في ان يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائا وطلبا للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ) الصافات ـ 172 ، وقال تعالى : ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلد ـ 21 ، وقد قال تعالى أيضا : ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا ) يوسف ـ 110 ، وهو أشد لحنا من هذه الآية.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 160 _
  والظاهر أيضا أن قوله تعالى : ألا إن نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول والذين آمنوا معه .
  والآية ( كما مرت إليه الاشارة سابقا ) تدل على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الامة كما جرى في الامم السابقة.
  وتدل أيضا على اتحاد الوصف والمثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا ، وهو الذي يسمى بتكرر التاريخ وعوده.
  يسألونك ماذا ينفقون ، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ـ 215.
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ) ، قل ما أنفقتم من خير ، قالوا : إن الآية واقعة على أسلوب الحكمة ، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه ، وكان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الانفاق وهو المال على أقسامه ، وكان الاحق بالسؤال إنما هو من ينفق له : صرف الجواب إلى التعرض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيها لهم بحق السؤال.
  والذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا ، وهو أن الآية مع ذلك متعرضه لبيان جنس ما ينفقونه ، فإنها تعرضت لذلك : أولا بقولها : من خير ، إجمالا ، وثانيا بقولها : وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ، ففي الآية دلالة على ان الذي ينفق به هو المال كائنا ما كان ، من قليل أو كثير ، وان ذلك فعل خير والله به عليم ، لكنهم كان عليهم ان يسألوا عمن ينفقون لهم ويعرفوه ، وهم : الوالدان والاقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.
  ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسرين : ان المراد بما في قوله تعالى : ماذا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 161 _
  ينفقون ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي ان ينزل عليه الكلام العربي ولا سيما أفصح الكلام وأبلغه ، بل هو السؤال عن الكيفية ، وانهم كيف ينفقونه ، وفي أي موضع يضعونه ، فاجيب بالصرف في المذكورين في الآية ، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة.
  ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر : ان السؤال وإن كان بلفظ ما إلا ان المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم ان الذي ينفق به هو المال ، وإذا كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم ، وتعين ان السؤال عن الكيفية ، نظير قوله تعالى : ( قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) البقرة ـ 70 ، فكان من المعلوم ان البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا ، فلا وجه لحمل قوله : ما هي على طلب الماهية ، فكان من المتعين ان يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها ، ولذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى : ( إنها بقرة لا ذلول ) الآية البقرة ـ 71.
  وقد اشتبه الامر على هؤلاء ، فإن ما وان لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق ، وهي الحد المؤلف من الجنس والفصل القريبين ، لكنه لا يستلزم ان تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيدة ، حتى يصح لقائل ان يقول عند السؤال عن المستحقين للانفاق : ماذا أنفق : أي على من أنفق ؟ فيجاب عنه بقوله : للوالدين والاقربين ، فإن ذلك من أوضح اللحن.
  بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشئ سواء كان معرفا بالحد والماهية ، أو معرفا بالخواص والاوصاف ، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفية الشئ ، ومنه يعلم ان قوله تعالى : يبين لنا ما هي وقوله تعالى : إنها بقرة لا ذلول سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة ، وهو السؤال عما يعرف الشئ ويخصه والجواب بذلك .
  وأما قول القائل : إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطأ ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إلى غيره.
  ويتلوهما في الغرابة قول من يقول : إن السؤال كان عن الامرين جميعا : ما

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 162 _
  ينفقون ؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر ، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه ! وهو كما ترى.
  وكيف كان لا ينبغي الشك في ان في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على ان الاحق هو السؤال عن من ينفق عليهم ، وإلا فكون الانفاق من الخير والمال ظاهر ، والتحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن ، وهو من الطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ) البقرة ـ 171 وقوله تعالى : ( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) آل عمران ـ 117 وقوله تعالى : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) البقرة ـ 261 ، وقوله تعالى : ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء ـ 89 ، وقوله تعالى : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان ـ 57 ، وقوله تعالى : ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافات ـ 160 ، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.
  قوله تعالى : ( وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، في تبديل الانفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الانفاق وان كان مندوبا إليه من قليل المال وكثيره ، غير انه ينبغي ان يكون خيرا يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة كما قال تعالى : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران ـ 92 ، وكما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ) البقرة ـ 267.
  وايماء إلى ان الانفاق ينبغى ان لا يكون على نحو الشر كالانفاق بالمن والاذى كما قال تعالى : ( ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى ) البقرة ـ 262 ، وقوله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة ـ 219.
  ( بحث روائي )
  في الدر المنثور عن ابن عباس قال ما رأيت قوما كانوا خيرا من اصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن : يسئلونك

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 163 _
  عن الخمر والميسر ، ويسألونك عن الشهر الحرام ، ويسئلونك عن اليتامى ، ويسئلونك عن المحيض ، ويسئلونك عن الانفال ، ويسئلونك ماذا ينفقون ، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم .
  في المجمع في الآية : نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير ، فقال : يا رسول الله ! بماذا أتصدق ؟ وعلى من أتصدق ؟ فأنزل الله هذه الآية.
  اقول : ورواه في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيان ، وقد استضعفوا الرواية ، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه.
  ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال : سأل المؤمنون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اين يضعون أموالهم ؟ فنزلت يسئلونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير ، فذلك النفقة في التطوع ، والزكوة سوى ذلك كله .
  ونظيرها في ذلك ايضا ما رواه عن السدي ، قال : يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة ، وهي النفقة ينفقها الرجل على اهله ، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
  اقول : وليست النسبة بين آية الزكاة : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة ـ 104 ، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلا ان يعني بالنسخ معنى آخر.
   ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 164 _
  دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) ، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع ، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى : ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) النور ـ 61 ، وغير ذلك من الآيات والادلة.
  ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله : وهو كره لكم وهو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك ، وحفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين.
  والكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الانسان من نفسه طبعا أو غير ذلك ، والكره بفتح الكاف : المشقة التي تحمل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه ، قال تعالى : ( لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا ) النساء ـ 19 ، وقال تعالى : ( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) فصلت ـ 11 ، وكون القتال المكتوب كرها للمؤمنين إما لان القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس وتعب الابدان والمضار المالية وارتفاع الامن والرخص والرفاهية ، وغير ذلك مما يستكرهه الانسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها وشاقا للمؤمنين بالطبع ، فإن الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح ، وذكر ان فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم ، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل ، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها ، ومعلوم ان من الجائز

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 165 _
  أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره واكثرهم كارهون ، فهذا وجه.
  وإما لان المؤمنين كانوا يرون ان القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة والقوة لا يتم على صلاح الاسلام والمسلمين ، وان الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الاموال ورسوخ الاستطاعة ، ولذلك كانوا يكرهون الاقدام على القتال والاستعجال في النزال ، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي والنظر ، فإن لله أمرا في هذا الامر هو بالغه ، وهو العالم بحقيقة الامر وهم لا يعلمون إلا ظاهره وهذا وجه آخر.
  وإما لان المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله ، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر ، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة ، والدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك ، ويدخلوا تحت لواء الايمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء ، ونفوس الكفار من الهلاك الابدي والبوار الدائم ، فبين ذلك انهم مخطئون في ذلك ، فإن الله ـ وهو المشرع لحكم القتال ـ يعلم ان الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة ، وانه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة ، فهم في الجامعة الانسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الاعضاء ، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع ويرمي به ، وهذا أيضا وجه.
  فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى : ( وهو كره لكم ) إلا ان الاول أنسب نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب ، على ان التعبير في قوله : كتب عليكم القتال ، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك.
  قوله تعالى : ( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ، قد مر فيما مر ان أمثال عسى ولعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب ، فالله سبحانه إنما يقول : عسى ان يكون كذا لا لانه يرجوه ، تعالى عن ذلك ، بل ليرجوه المخاطب أو

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 166 _
  السامع.
  وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب ، محبين للسلم ، فأرشدهم الله سبحانه على خطأهم في الامرين جميعا ، بيان ذلك : أنه لو قيل : عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم أو تحبوا شيئا وهو شر لكم ، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم وحبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع ، ومثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من اخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط ، وأما من اخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحب الا عتزال ، فالذي تقتضيه البلاغة ان يشار إلى خطأه في الامرين جميعا ، فيقال له : لا في كرهك أصبت ، ولا في حبك اهتديت ، عسى ان تكره شيئا وهو خير لك وعسى ان تحب شيئا وهو شر لك لانك جاهل لا تقدر ان تهتدي بنفسك إلى حقيقة الامر ، ولما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به ايضا قوله تعالى سابقا : أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، نبههم الله بالخطأين بالجملتين المستقلتين وهما : عسى ان تكرهوا ، وعسى ان تحبوا.
  قوله تعالى : ( وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) ، تتميم لبيان خطأهم ، فإنه تعالى تدرج في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم ، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطأهم في كراهتهم للقتال بقوله : عسى ان تكرهوا ، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها ، وزوال صفة الجهل المركب عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئا من حقائق الامور ، والذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا إلا ما علمها الله إياه وكشف عن حقيقته ، فعليكم ان تسلموا إليه سبحانه الامر.
  والآية في إثباته العلم له تعالى على الاطلاق ونفى العلم عن غيره على الاطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) آل عمران ـ 5 ، وقوله تعالى : ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ) البقرة ـ 255 ، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) البقرة ـ 190.
  قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمة بأنه صد عن سبيل الله وكفر ، واشتمالها مع ذلك على ان إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله ، وان الفتنة أكبر من القتل ، يؤذن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 167 _
  بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وان هناك قتلا ، وانه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الآية ، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم ، وطعن الكفار به ، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش وأصحابه.
  قوله تعالى : ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، الصد هو المنع والصرف ، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصة الحج ، والظاهر ان ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد ، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله اي صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.
  والآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام ، وقد قيل : إنها منسوخة بقوله تعالى : ( فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة ـ 6 ، وليس بصواب ، وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.
  قوله تعالى : ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ، أي والذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين ، وهم أهل المسجد الحرام ، منه اكبر من القتال ، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل ، فلا يحق للمشركين ان يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به ، ولم يكن المؤمنون فيما اصابوه منهم إلا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.
  قوله تعالى : ( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) إلى آخر الآية حتى للتعليل أي ليردوكم.
  قوله تعالى : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ) الخ تهديد للمرتد بحبط العمل وخلود النار.

( كلام في الحبط )
  والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره ، ولم ينسب في القرآن إلا إلى العمل كقوله تعالى : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الزمر ـ 65 ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 168 _
  وقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) محمد ـ 33 ، وذيل الآية يدل بالمقابلة على ان الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى : ( وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) هود ـ 16 ، ويقرب منه قوله تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ) الفرقان ـ 23.
  وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير ، وقد قيل : إن اصله من الحبط بالتحريك وهو ان يكثر الحيوان من الاكل فينتفخ بطنه وربما ادى إلى هلاكه.
  والذي ذكره تعالى من اثر الحبط بطلان الاعمال في الدنيا والآخرة معا ، فللحبط تعلق بالاعمال من حيث اثرها في الحياة الآخرة ، فإن الايمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة ، قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) النحل ـ 97 ، وخسران سعى الكافر ، وخاصة من ارتد إلى الكفر بعد الايمان ، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه ، فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت ، وهو الله سبحانه ، يبتهج به عند النعمة ، ويتسلى به عند المصيبة ، ويرجع إليه عند الحاجة ، قال تعالى : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام ـ 122 ، تبين الآية ان للمؤمن في الدنيا حياة ونورا في افعاله ، وليس للكافر ، ومثله قوله تعالى ، ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) طه ـ 124 ، حيث يبين ان معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة ، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيده رحبة وسيعة.
  وقد جمع الجميع ودل على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ) محمد ـ 11.
  فظهر مما قربناه ان المراد بالاعمال مطلق الافعال التي يريد الانسان بها سعادة الحيوة ، لا خصوص الاعمال العبادية ، والافعال القربية التي كان المرتد عملها واتى بها حال الايمان ، مضافا إلى ان الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي ، ولا فعل قربي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 169 _
  لهم كالكفار والمنافقين كقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمد ـ 9 ، وقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) آل عمران ـ 22 ، إلى غير ذلك من الآيات.
  فمحصل الآية كسائر آيات الحبط هو ان الكفر والارتداد يوجب بطلان العمل عن ان يؤثر في سعادة الحياة ، كما ان الايمان يوجب حياة في الاعمال تؤثر بها اثرها في السعادة ، فإن آمن الانسان بعد الكفر حييت اعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة ، وإن ارتد بعد الايمان ماتت اعماله جميعا وحبطت ، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية ولا أخروية ، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردة وان مات على الردة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.
  ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء اعمال المرتد إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه.
  توضيح ذلك : انه ذهب بعضهم إلى ان أعمال المرتد السابقة على ردته باقية إلى حين الموت ، فإن لم يرجع إلى الايمان بطلت بالحبط عند ذلك ، واستدل عليه بقوله تعالى ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية وربما أيده قوله تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ) الفرقان ـ 23 ، فإن الآية تبين حال الكفار عند الموت ، ويتفرع عليه انه لو رجع إلى الايمان تملك اعماله الصالحة السابقة على الارتداد.
  وذهب آخرون إلى ان الردة تحبط الاعمال من اصلها فلا تعود إليه وان آمن من بعد الارتداد ، نعم له ما عمله من الاعمال بعد الايمان ثانيا إلى حين الموت ، واما الآية فإنما اخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع اعماله وافعاله التي عملها في الدنيا !
  وانت بالتدبر فيما ذكرناه تعرف ، ان لا وجه لهذا النزاع اصلا ، وان الآية بصدد بيان بطلان جميع اعماله وافعاله من حيث التأثير في سعادته !

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 170 _
  وهنا مسألة أخرى كالمتفرعة على هذه المسألة وهي مسألة الاحباط والتكفير ، وهي ان الاعمال هل تبطل بعضها بعضا أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيئة حكمها ، نعم الحسنات ربما كفرت السيئات بنص القرآن.
  ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الاعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم ، فمن قائل بأن كل لاحق من السيئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس ، ولازمه ان لا يكون عند الانسان من عمله إلا حسنة فقط أو سيئة فقط ، ومن قائل بالموارنة وهو ان ينقص من الاكثر بمقدار الاقل ويبقى الباقي سليما عن المنافي ، ولازم القولين جميعا ان لا يكون عند الانسان من اعماله إلا نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شيء منهما.
  ويردهما اولا قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) التوبة ـ 102 ، فإن الآية ظاهرة في اختلاف الاعمال وبقائها على حالها إلى ان تلحقها توبة من الله سبحانه ، وهو ينافي التحابط بأي وجه تصوروه.
  وثانيا : أنه تعالى جرى في مسألة تأثير الاعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الانساني من طريق المجازاة ، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيئة على حدة إلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية والعبودية من أصلها فهو مورد الاحباط ، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنية عن الايراد.
  وذهب آخرون إلى أن نوع الاعمال محفوظة ، ولكل عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيئة.
  نعم الحسنة ربما كفرت السيئة كما قال تعالى : ( يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) الانفال ـ 29 ، وقال تعالى : ( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ) الآية البقرة ـ 203 ، وقال تعالى : ( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء ـ 31 ، بل بعض الاعمال يبدل السيئة حسنة كما قال تعالى : ( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان ـ 70.
  وهنا مسألة أخرى هي كالاصل لهاتين المسألتين ، وهي البحث عن وقت استحقاق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 171 _
  الجزاء وموطنه ، فقيل : إنه وقت العمل ، وقيل : حين الموت ، وقيل : الآخرة ، وقيل : وقت العمل بالموافاة بمعنى أنه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحق ذلك إلا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقر عليه ، فيكتب ما يستحقه حال العمل.
  وقد استدل أصحاب كل قول بما يناسبه من الآيات ، فإن فيها ما يناسب كلا من هذه الاوقات بحسب الانطباق ، وربما استدل ببعض وجوه عقلية ملفقة.
  والذي ينبغي أن يقال : إنا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الاعمال على ما بيناه في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) الآية ـ 26 ، كان لازم ذلك كون النفس الانسانية ما دامت متعلقة بالبدن جوهرا متحولا قابلا للتحول في ذاته وفي آثار ذاته من الصور التي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقية ، فإذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب ، وإذا صدر منه معصية فصورة معنوية تقوم بها صورة العقاب ، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول والتغير بحسب ما يطرئها من الحسنات والسيئات كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدلها إلى غيرها ، وهذا شأنها حتى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحول واستعداده ، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتا لا يقبل التحول والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيناه سابقا.
  وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيناه فيما مر كان حال الانسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الالهية وترتب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الاطاعة والمعصية في التكاليف الاجتماعية وترتب المدح والذم عليها ، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذم العاصي والمسئ بمجرد صدور الفعل عن فاعله ، غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح والذم قابلا للتغير والتحول لكونهم يرون الفاعل ممكن التغير والزوال عما هو عليه من الانقياد والتمرد ، فلحوق المدح والذم على فاعل الفعل فعلي عندهم بتحقق الفعل غير أنه موقوف البقاء على عدم تحقق ما ينافيه ، وأما ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قط فإنما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغير قط بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 172 _
  ومن هنا يعلم : أن في جميع الاقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافا عن الحق لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.
  وأن الحق أولا : أن الانسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه قابل للتحول والتغير بعد ، وإنما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.
  وثانيا : أن حبط الاعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الاجر يتحقق عند صدور المعصية ويتحتم عند الموت.
  وثالثا : أن الحبط كما يتعلق بالاعمال الاخروية كذلك يتعلق بالاعمال الدنيوية.
  ورابعا : أن التحابط بين الاعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

( كلام في احكام الاعمال من حيث الجزاء )
  من أحكام الاعمال : أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد ، قال تعالى : ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية وكالكفر بآيات الله والعناد فيه، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا ) آل عمران ـ 22 ، وكذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا والآخرة كالاسلام والتوبة ، قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم ) الزمر ـ 55 ، وقال تعالى : ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) طه ـ 124.
  وأيضا : من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 173 _
   تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) سورة محمد ـ 33 ، فان المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الامر بالاطاعة في معنى النهي عن المشاقة ، وإبطال العمل هو الاحباط ، وكرفع الصوت فوق صوت النبي ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الحجرات ـ 2.
  وكذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة ، قال تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) هود ـ 114 ، وكالحج ، قال تعالى : ( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) البقرة ـ 203 ، وكاجتناب الكبائر ، قال تعالى : ( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء ـ 31 ، وقال تعالى : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) النجم ـ 32.
  وأيضا : ( من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل ، قال تعالى : ( إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) المائدة ـ 29 ، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبي وأئمة أهل البيت ، وكذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجئ.
  وأيضا : من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الانسان لاعينها ، قال تعالى : ( لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْم ) النحل ـ 25 ، وقال : ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ) العنكبوت ـ 13 ، وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الانسان لاعينها ، قال تعالى : ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس ـ 12.
  وأيضا : من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب ، قال تعالى : ( إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَات ) الاسراء ـ 75 ، وقال تعالى : ( يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) الاحزاب ـ 30 ، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالانفاق في سبيل الله ، قال تعالى : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ) البقرة ـ 261 ، ومثله ما في قوله تعالى : ( أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ) القصص ـ 54 ، وما في قوله تعالى : ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 174 _
  نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد ـ 28 ، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا ، قال تعالى : ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) الانعام ـ 160.
  وأيضا : من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات ، قال تعالى : ( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان ـ 70.
  ( وأيضا : من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير ، قال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور ـ 21 ، ويمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الايتام من نسل الظالم ، قال تعالى : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ ) النساء ـ 9.
  وأيضا : من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره ، ويجذب حسنات الغير إليه ، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير ، ويجذب سيئاته إليه ، وهذا من عجيب الامر في باب الجزاء والاستحقاق ، سيجئ البحث عنه في قوله تعالى : ( لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الانفال ـ 37.
  وفي موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلا منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إنشاء الله العزيز.
  وبالتأمل في الآيات السابقة والتدبر فيها يظهر : أن في الاعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم ، وذلك أن فعل الاكل مثلا من حيث انه مجموع حركات جسمانية فعلية وانفعالية ، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا ولا يتخطاه إلى غيره ، ولا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه ، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا ، ولا يتعداه إلى غيره ، ولا يتبدل بغيره ، ولا ينقلب عن هويته وذاته ، وكذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لاغير وكان زيد ضاربا لاغير ، وكان عمرو مضروبا لاغير إلى غير ذلك من الامثلة ، لكن هذه الافعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الاحكام كما قال تعالى :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 175 _
   ( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) البقرة ـ 57 ، وقال تعالى : ( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) الفاطر ـ 43 ، وقال تعالى : ( انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) الانعام ـ 24 ، وقال تعالى : ( ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ) المؤمن ـ 74.
  وبالجملة : عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه ، وربما نقل الفعل واسنده إلى غير فاعله ، وربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني.
  ولا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الاعمال وآثارها ويفسد الحكم العقلي فلا يستقر شيء منه على شيء ، وذلك أنا نرى أن الله سبحانه وتعالى ( فيما حكاه في كتابه ) يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الامور على المجرمين في حال الموت والبرزخ ، وكذا في القيامة والنار والجنة بحجج عقلية تعرفها العقول، قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) الزمر ـ 70 ، وقد تكرر في القرآن الاخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) الآية إبراهيم ـ 22.
  ومن هنا نعلم : أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الاعمال ودار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه.
  والذي يحل به هذه العقدة : ان الله تكلم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان أنفسهم وجرى في مخاطباته إياهم وبياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية ، وتمسك بالاصول والقوانين الدائرة في عالم العبودية والمولوية ، فعد نفسه مولى والناس عبيدا والانبياء رسلا إليهم ، وواصلهم بالامر والنهي والبعث والزجر ، والتبشير والانذار ،