( بيان )
  هذه الآيات وهي قوله : يا ايها الذين آمنوا إلى قوله : ( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) الآيه سبع آيات كاملة تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الانسانية وهو الدخول في السلم والقصر على ما ذكره الله من القول وما أراه من طريق العمل ، وانه لم ينفصم وحدة الدين ، ولا ارتحلت سعادة الدارين ، ولا حلت الهلكة دار قوم إلا بالخروج عن السلم ، والتصرف في آيات الله تعالى بتغييرها ووضعها في غير موضعها ، شوهد ذلك في بني إسرائيل وغيرهم من الامم الغابرة وسيجري نظيرها في هذه الامة لكن الله يعدهم بالنصر : الا ان نصر الله قريب.
  قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ) ، السلم والاسلام والتسليم واحدة وكافة كلمة تأكيد بمعنى جميعا ، ولما كان الخطاب للمؤمنين وقد أمروا بالدخول في السلم كافة ، فهو امر متعلق بالمجموع وبكل واحد من اجزائه ، فيجب ذلك على كل مؤمن ، ويجب على الجميع ايضا ان لا يختلفوا في ذلك ويسلموا الامر لله ولرسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وايضا الخطاب للمؤمنين خاصة فالسلم المدعو إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الايمان به فيجب على المؤمنين ان يسلموا الامر إليه ، ولا يذعنوا لانفسهم صلاحا باستبداد من الرأي ولا يضعوا لانفسهم من عند انفسهم طريقا يسلكونه من دون ان يبينه الله ورسوله ، فما هلك قوم إلا باتباع الهوى والقول بغير العلم ، ولم يسلب حق الحياة وسعادة الجد عن قوم إلا عن اختلاف.
  ومن هنا ظهر : ان المراد من اتباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل بل اتباعه فيما يدعو إليه من امر الدين بأن يزين شيئا من طرق الباطل بزينة الحق ويسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الانسان من غير علم ، وعلامة ذلك عدم ذكر الله ورسوله إياه في ضمن التعاليم الدينية.
  وخصوصيات سياق الكلام وقيوده تدل على ذلك ايضا : فإن الخطوات إنما تكون في طريق مسلوك ، وإذا كان سالكه هو المؤمن ، وطريقه إنما هو طريق الايمان فهو طريق شيطاني في الايمان ، وإذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 102 _
  فالطريق الذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان ، واتباعه اتباع خطوات الشيطان.
  فالآية نظيرة قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {البقرة/168} إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة ـ 169 ، وقد مر الكلام في الآية ، وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) النور ـ 21 ، وقوله تعالى : ( كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) الانعام ـ 142 ، والفرق بين هذه الآية وبين تلك أن الدعوة في هذه موجهة إلى الجماعة لمكان قوله تعالى : كافة بخلاف تلك الآيات فهي عامة ، فهذه الآية في معنى قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) آل عمران ـ 103 ، و قوله تعالى : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه ) الانعام ـ 153 ، ويستفاد من الآية أن الاسلام متكفل لجميع ما يحتاج إليه الناس من الاحكام والمعارف التي فيه صلاح الناس.
  قوله تعالى : ( فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ، الزلة هي العثرة ، والمعنى فإن لم تدخلوا في السلم كافة وزللتم ـ والزلة هي اتباع خطوات الشيطان ـ فاعلموا ان الله عزيز غير مغلوب في امره ، حكيم لا يتعدى عما تقتضيه حكمته من القضاء في شأنكم فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته ، ويجريه فيكم من غير ان يمنع عنه مانع.
  قوله تعالى : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ) ( الخ ) ، الظلل جمع ظلة وهي ما يستظل به ، وظاهر الآية ان الملائكه عطف على لفظ الجلالة ، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة وتبديل خطابهم بخطاب رسول الله ش ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاعراض عن مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما اوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتباع خطوات الشيطان والاختلاف والتمزق ، وذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، ويقضي الامر من حيث لا يشعرون ، أو بحيث لا يعبئ بهم وبما يقعون فيه من الهلاك ، وإلى الله ترجع الامور ، فلا مفر من حكمه وقضائه ، فالسياق يقتضي ان يكون قوله : هل ينظرون ، هو الوعيد الذي اوعدهم به في قوله

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 103 _
  تعالى في الآية السابقة ( فاعلموا ان الله عزيز حكيم ).
  ثم إن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب والسنة ان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة الاجسام ولا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث ، ويلازم الفقر والحاجة والنقص ، فقد قال تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى ـ 11 ، وقال تعالى : ( وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر ـ 15 ، وقال تعالى : ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الزمر ـ 62 ، إلى غير ذلك من الآيات ، وهي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن ، فما ورد من الآيات وظاهرها إسناد شيء من الصفات أو الافعال الحادثة إليه تعالى ينبغي ان يرجع إليها ، ويفهم منها معنى من المعاني لا ينافى صفاته العليا واسمائه الحسنى تبارك وتعالى ، فالآيات المشتملة على نسبة المجئ أو الاتيان إليه تعالى كقوله تعالى : ( وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) الفجر ـ 22 ، وقوله تعالى : ( فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) الحشر ـ 2 ، و قوله تعالى : ( فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ ) النحل ـ 26 ، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست اسمائه كالاحاطة ونحوها ولو مجازا ، وعلى هذا فالمراد بالاتيان في قوله تعالى : أن يأتيهم الله الاحاطة بهم للقضاء في حقهم.
  على أنا نجده سبحانه وتعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب وفعلا من الافعال عن استقلال الاسباب ووساطة الاوساط فربما نسبها إلى نفسه وربما نسبها إلى امره ك قوله تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ ) الزمر ـ 42 ، وقوله تعالى : ( يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ) السجدة ـ 11 ، و قوله تعالى : ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) الانعام ـ 61 ، فنسب التوفي تارة إلى نفسه ، وتارة إلى الملائكة ثم قال تعالى : ( في أمر الملائكة بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الانبياء ـ 27 ، وكذلك قوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم ) يونس ـ 93 ، وقوله تعالى : ( فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) المؤمن ـ 78 ، وكما في هذه الآية : ( أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ) الآية وقوله تعالى : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل ـ 33.
  وهذا يوجب صحة تقدير الامر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير : جاء ربك ، ويأتيهم الله ، فالتقدير جاء أمر ربك ويأتيهم أمر الله.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 104 _
  فهذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق وألطف من ذلك ، وذلك أن أمثال قوله تعالى : ( وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر ـ 15 ، وقوله تعالى : ( الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) ص ـ 9 ، وقوله تعالى ( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه ـ 50 ، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشؤونها وأطوارها ، ملئ بما يهبه ويجود به وان كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة وأحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته إليه تعالى ، لكن هذه المعاني إذا جردت عن قيود المادة واوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور فالنقص والحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى ، فإذا لم يصاحب المعنى نقصا وحاجة لتجريده عنه صح اسناده إليه تعالى بل وجب ذلك لان كل ما يقع عليه اسم شيء فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته.
  فالمجئ والاتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة واقترابه منه إذا جرد عن خصوصيه المادة كان هو حصول القرب ، وارتفاع المانع والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات ، وحينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز : فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم ، وهذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الابحاث البرهانية لنيله إلا بعد إمعان في السير ، وركوبها كل سهل ووعر ، وإثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الاصيلة.
  وكيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية السابقة : إن الله عزيز حكيم ، ومن الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل ـ 33 ، ومن الممكن أن يكون وعيد بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ) يونس ـ 47 ، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ) الروم ـ 30 ، وما في سورة الانبياء وغيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة وظهور تام لما في هذه الدنيا ، ومن الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا والآخرة معا ، وكيف كان فقوله في ظلل من الغمام يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 105 _
  قوله تعالى : ( وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ) ، السكوت عن ذكر فاعل القضاء ، وهو الله سبحانه كما يدل عليه قوله : وإلى الله ترجع الامور ، لاظهار الكبرياء على ما يفعله الاعاظم في الاخبار عن وقوع احكامهم وصدور أوامرهم وهو كثير في القرآن.
  ( بحث روائي )
  قد تقدم في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ) الآية عدة روايات تؤيد ما ذكرناه من معنى اتباع خطوات الشيطان فارجع ، وفي بعض الروايات أن السلم هو الولاية وهو من الجرى على ما مر مرارا في نظائره .
  وفي التوحيد والمعاني عن الرضا ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ) قال : يقول : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت ، وعن قول الله عز وجل : ( وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) قال : ان الله عز وجل لا يوصف بالمجئ والذهاب ، تعالى عن الانتقال وانما يعني به وجاء امر ربك والملك صفا صفا .
  اقول : قوله ( عليه السلام ) يقول هل ينظرون ، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير للآية وليس من قبيل القرائه.
  والمعنى الذي ذكره هو بعينه ما قربناه من كون المراد بإتيانه تعالى اتيان أمره فإن الملائكة انما تعمل ما تعمل وتنزل حين تنزل بالامر ، قال تعالى : ( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الانبياء ـ 27 ، وقال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل ـ 2.
  وها هنا معنى آخر احتمله بعضهم وهو ان يكون الاستفهام الانكاري في قوله : هل ينظرون الا ان يأتيهم الله الخ لانكار مجموع الجملة لا لانكار المدخول فقط ، والمعنى أن هؤلاء لا ينتظرون الا امرا محالا وهو : أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام كما يأتي الجسم إلى الجسم ، ويأتي معه الملائكة فيأمرهم وينهاهم وهو محال ، فهو كناية عن استحالة تقويمهم بهذه المواعظ والتنبيهات ، وفيه : أنه لا يلائم ما مر : أن الآيات

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 106 _
  ذات سياق واحد ولازمه أن يكون الكلام متوجها إلى حال المؤمنين ، والمؤمنون لا يلائم حالهم مثل هذا البيان ، على ان الكلام لو كان مسوقا لافاده ذلك لم يخل من الرد عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا ) الفرقان ـ 21 ، وقوله تعالى : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَه ) الانبياء ـ 26.
  على انه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى : في ظلل من الغمام ، ولا نكتة ظاهرة لبقية الكلام وهو ظاهر .
  ( بحث روائي آخر )
  إعلم أنه ورد عن أئمه أهل البيت تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) وتفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادق ( عليه السلام ) ، تفسيرها بظهور المهدي ( عليه السلام ) كما رواه العياشي في تفسيره عن الباقر ( عليه السلام ) بطريقين.
  ونظائره كثيرة فإذا تصفحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد تفسيرها عن أئمه أهل البيت تارة بالقيامة وأخرى بالرجعة وثالثة بالظهور ، وليس ذلك إلا لوحدة وسنخية بين هذه المعاني ، والناس لما لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة ولم يستفرغوا الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم تفرقوا في أمر هذه الروايات ، فمنهم من طرح هذه الروايات ، وهي مآت وربما زادت على خمسمأة رواية في أبواب متفرقة ، ومنهم من اولها على ظهورها وصراحتها ، ومنهم ـ وهم أمثل طريقة ـ من ينقلها ويقف عليها من غير بحث.
  وغير الشيعة وهم عامة المسلمين وإن أذعنوا بظهور المهدي ورووه بطرق متواترة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لكنهم أنكروا الرجعة وعدوا القول بها من مختصات الشيعة ، وربما لحق بهم في هذه الاعصار بعض المنتسبين إلى الشيعة ، وعد ذلك من الدس الذي عمله اليهود وبعض المتظاهرين بالاسلام كعبد الله بن سبأ وأصحابه ، وبعضهم رام إبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي فقال : ما حاصله : إن الموت بحسب العناية الالهية

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 107 _
  لا يطرء على حي حتى يستكمل كمال الحياة ويخرج من القوة إلى الفعل في كل ما له من الكمال فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوة وهو بالفعل ، هذا محال إلا إن يخبر به مخبر صادق وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى وعيسى وإبراهيم ( عليهم السلام ) وغيرهم ، ولم يرد منه تعالى ولا منهم في أمر الرجعة شيء وما يتمسك به المثبتون غير تام ، ثم اخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة ولا سقيمة ، هذا.
  ولم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلا عقليا أبطل صدره ذيله فما كان محالا ذاتيا لم يقبل استثنائا ولم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكنا ، وأن المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقا ولو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطرارا تأويل كلامه إلى ما يكون ممكنا كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الاثنين ، وأن كل صادق فهو بعينه كاذب.
  وما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لكن الصغرى ممنوعة فإنه إنما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى ورجوعهم إلى الدنيا بعد الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه ، وهو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوة إلى الفعل خروجا تاما ثم مفارقتها البدن بطباعها ، وأما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذورا ، فإن من الجائز أن يستعد الانسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الاولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني ، أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط ، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال وتمام الكلام موكول إلى غير هذا المقام.
  وأما ما ناقشه في كل واحد من الروايات ففيه : أن الروايات متواترة معنى عن أئمه أهل البيت ، حتى عد القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة وأئمتهم من لدن الصدر الاول ، والتواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة والمناقشة ، على أن عدة من الآيات النازلة فيها ، والروايات الواردة فيها تامة ه الدلالة قابلة الاعتماد ، وسيجئ التعرض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 108 _
  مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا ) النمل ـ 83 وغيره من الآيات.
  على أن الآيات بنحو الاجمال دالة عليها كقوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ) البقرة ـ 214 ، ومن الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع من إحياء الاموات كما قصه القرآن من قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وغيرهم ، وقد قال رسول الله فيما رواه الفريقان : والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنن بني اسرائيل.
  على أن هذه القضايا التي اخبرنا بها أئمة أهل البيت من الملاحم المتعلقة بآخر الزمان ، وقد أثبتها النقلة والرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفا وكتابة على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كل يوم صدق شطر منها من غير زيادة ونقيصة فلنحقق صحة جميعها وصدق جميع مضامينها .
  ولنرجع إلى بدء الكلام الذي كنا فيه وهو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة تارة ، وبالرجعة أو الظهور تارة أخرى ، فنقول : الذي يتحصل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من اوصاف يوم القيامة ونعوته أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الاسباب ولاشاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الاوهام ويظهر فيه آياته كمال الظهور وهذا يوم لا يبطل وجوده وتحققه تحقق هذا النشأة الجسمانية ووجودها فلا شيء يدل على ذلك من كتاب وسنة بل الامر على خلاف ذلك غير أن الظاهر من الكتاب والسنة أن البشر أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم وزوجته سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم.
  ولا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا ونشأة البعث ، حتى يدفع بعضها بعضا كما ان النشأة البرزخية وهي ثابتة الآن للاموات منا لا تدفع الدنيا ، ولا الدنيا تدفعها ، قال تعالى : ( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل ـ 63.
  فهذه حقيقة يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ، ولذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الاسباب عن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 109 _
  توهم الميت ، فعن علي ( عليه السلام ) ( من مات قامت قيامته ) ، وسيجئ بيان الجميع إنشاء الله.
  والروايات المثبتة للرجعة وإن كانت مختلفة الآحاد إلا أنها على كثرتها متحدة في معنى واحد وهو أن سير النظام الدنيوي متوجه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظهور ، فلا يعصي فيه سبحانه وتعالى بل يعبد عباده خالصة ، لا يشوبها هوى نفس ، ولا يعتريه اغواء الشيطان ، ويعود فيه بعض الاموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إلى الدنيا ، ويفصل الحق من الباطل.
  وهذا يفيد : أن يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة ، وإن كان دونه في الظهور لامكان الشر والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة ، ولذلك ربما ألحق به يوم ظهور المهدي ( عليه السلام ) أيضا تمام لظهور الحق فيه أيضا تمام الظهور وإن كان هو أيضا دون الرجعة وقد ورد عن أئمة أهل البيت : ( أيام الله ثلاثة : يوم الظهور ويوم الكرة ويوم القيامة ) وفي بعضها : ( أيام الله ثلاثة : يوم الموت ويوم الكرة ويوم القيامة ) ، وهذا المعنى أعني الاتحاد بحسب الحقيقة ، والاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم ( عليه السلام ) بعض الآيات بالقيامة تارة وبالرجعة أخرى وبالظهور ثالثة ، وقد عرفت مما تقدم من الكلام أن هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع ، ولا دليل مع المنكر يدل على نفيه .
  ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 110 _
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ ) آية ( الخ ) تثبيت وتأكيد لما اشتمل عليه قوله تعالى : ( فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، الاية من الوعيد بأخذ المخالفين اخذ عزيز مقتدر.
  يقول : هذه بنو إسرائيل في مرآكم ومنظركم وهي الامة التي آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة والملك ، ورزقهم من الطيبات ، وفضلهم على العالمين ، سلهم كم آتيناهم من آية بينة؟ وانظر في امرهم من اين بدئوا والى اين كان مصيرهم؟ حرفوا الكلم عن مواضعه ، ووضعوا في قبال الله وكتابه وآياته أمورا من عند انفسهم بغيا بعد العلم ، فعاقبهم الله أشد العقاب بما حل فيهم من اتخاذ الانداد ، والاختلاف وتشتت الآراء ، وأكل بعضهم بعضا ، وذهاب السودد ، وفناء السعادة ، وعذاب الذلة ، والمسكنة في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون .
  وهذه هي السنة الجارية من الله سبحانه : من يبدل نعمة واخرجها إلى غير مجراها فإن الله يعاقبه ، والله شديد العقاب ، وعلي هذا فقوله : ومن يبدل نعمة الله إلى قوله العقاب من قبيل وضع الكلي موضع الجزئي للدلالة على الحكم ، سنة جارية.
  قوله تعالى : ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) ، في موضع التعليل لما مر ، وإن الملاك في ذلك تزين الحياة الدنيا لهم فانها إذا زينت لانسان دعته إلى هوى النفس وشهواتها ، وأنست كل حق وحقيقة ، فلا يريد الانسان إلانيلها : من جاه ومقام ومال وزينة ، فلا يلبث دون ان يستخدم كل شيء لاجلها وفي سبيلها ، ومن ذلك الدين فيأخذ الدين وسيلة يتوسل بها إلى التميزات والتعينات ، فينقلب الدين إلى تميز الزعماء والرؤساء ومايلائم سوددهم ورئاستهم ، وتقرب التبعة والمقلدة المرئوسين وما يجلب به تمائل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم ، وكنا شاهدناه في بني أسرائيل من قبل ، وظاهر الكفر في القرآن هو الستر أعم من ان يكون كفرا اصطلاحيا أو كفرا مطلقا في مقابل الايمان المطلق فتزين الحياة الدنيا لا يختص بالكفار اصطلاحا بل كل من ستر حقيقة من الحقائق الدينية ، وغير نعمة دينية فهو كافر زينت له الحياة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 111 _
  الدنيا فليتهيأ لشديد العقاب.
  قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الخ ، تبديل الايمان بالتقوى في هذه الجملة لكون الايمان لا ينفع وحده لولا العمل.
   ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ـ 213.
  ( بيان )
  الآية تبين السبب في تشريع أصل الدين وتكليف النوع الانساني به ، وسبب وقوع الاختلاف فيه ببيان : ان الانسان ـ وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون ـ كان في أول اجتماعه امة واحدة ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية ، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة ، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين ، وشفعت بالتبشير والانذار : بالثواب والعقاب ، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين ، وإرسال المرسلين ، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدء والمعاد ، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية ، وظهرت الشعوب والاحزاب ، وتبع ذلك الاختلاف في غيره ، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلابغيا من الذين أوتوا الكتاب ، وظلما وعتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه ، وتمت عليهم الحجة ، فالاختلاف اختلافان : اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم ، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين ، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه ، والله يهدي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 112 _
  من يشاء إلى صراط مستقيم.
  فالدين الالهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الانساني ، والمصلح لامر حياته ، يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها ، وينظم للانسان سلك حياته الدنيوية والاخروية ، والمادية والمعنوية ، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا النوع ( الحياة الاجتماعية والدينية ) على ما تعطيه هذه الآية الشريفة.
  وقد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شؤون مختلفة.

( بدء تكوين الانسان )
  ومحصل ماتبينه تلك الآيات على تفرقها ان النوع الانساني ولاكل نوع إنساني بل هذا النسل الموجود من الانسان ليس نوعا مشتقا من نوع آخر حيواني أو غيره : حولته إليه الطبيعة المتحولة المتكاملة ، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الارض ، فقد كانت الارض وما عليها والسماء ولا انسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع واليهما ينتهي هذا النسل الموجود ، قال تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) الحجرات ـ 13 ، وقال تعالى : ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) الاعراف ـ 189 ، وقال تعالى : ( كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ) آل عمران ـ 59 ، وأما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الانواع وان الانسان مشتق من القرد ، وعليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله بعض فإنما هي فرضية ، والفرضية غير مستند إلى العلم اليقيني وانما توضع لتصحيح التعليلات والبيانات العلمية ، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية ، بل حتى الامكانات الذهنية ، إذ لااعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والاحكام المربوطة بموضوع البحث ، وسنستوعب هذا البحث انشاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ) آل عمران ـ 59.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 113 _
( تركبه من روح وبدن )
  وقد أنشأ الله هذا النوع ، حين ما أنشاء ، مركبا من جزئين ومؤلفا من جوهرين ، مادة بدنية ، وجوهر مجرد هي النفس والروح ، وهما متلازمان ومتصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية ، ثم يموت البدن ويفارقه الروح الحية ، ثم يرجع الانسان إلى الله سبحانه ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) المؤمنون ـ 16 ، ( انظر إلى موضع قوله ثم أنشأناه خلقا آخر ) ، وفي هذا المعنى قوله تعالى : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ص ـ 72 ، وأوضح من الجميع قوله سبحانه : ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) السجدة ـ 11 ، فإنه تعالى أجاب عن اشكالهم بتفرق الاعضاء والاجزاء واستهلاكها في الارض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأن ملك الموت يتوفيهم ويضبطهم فلا يدعهم ، فهم غير أبدانهم ! فأبدانهم تضل في الارض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة ولافائتة ولامستهلكة وسيجئ انشاء الله استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الانساني في المحل المناسب له.

( شعوره الحقيقي وارتباطه بالاشياء )
  وقد خلق الله سبحانه هذا النوع ، وأودع فيه الشعور ، وركب فيه السمع والبصر والفؤاد ، ففيه قوة الادراك والفكر ، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث وما هو موجود في الحال وما كان وما سيكون ويؤل إليه امر الحدوث والوقوع ، فله إحاطة مابجميع الحوادث ، قال تعالى : ( عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) العلق ـ 5 ، وقال تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 114 _
   وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ ) النحل ـ 78 ، وقال تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ) البقرة ـ 31 ، وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شيء ، ويستطيع الانتفاع من كل امر ، اعم من الاتصال أو التوسل به إلى غيره بجعله آلة واداة للاستفادة من غيره ، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية ، وسلوكه في مسالكه الفكرية ، قال تعالى : ( خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) البقرة ـ 29 ، وقال تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) الجاثية ـ 13 ، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الاشياء مسخره للانسان .

( علومه العملية )
  وانتجت هاتان العنايتان : اعني قوة الفكر والادراك ورابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة وهي ان يهيئ لنفسه علوما وإدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة التصرف في الاشياء وفعلية التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده وبقائه.
  توضيح ذلك : انك إذا خليت ذهنك وأقبلت به على الانسان ، هذا الموجود الارضي الفعال بالفكر والارادة ، واعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده وتقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه انه في افعاله الحيوية يوسط إدراكات وافكار جمة غير محصورة يكاد يدهش من كثرتها واتساع اطرافها وتشتت جهاتها العقل ، وهي علوم كانت العوامل في حصولها واجتماعها وتجزيها وتركبها الحواس الظاهرة والباطنة من الانسان ، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفا ابتدائيا أو تصرفا بعد تصرف ، وهذا أمر واضح يجده كل إنسان من نفسه ومن غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه وإيقاظ.
  ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم والادراكات وجدت شطرا منها لا يصلح لان يتوسط بين الانسان وبين افعاله الارادية كمفاهيم الارض والسماء والماء والهواء والانسان والفرس ونحو ذلك من التصورات ، وكمعاني قولنا : الاربعة زوج ، والماء جسم سيال ، والتفاح أحد الثمرات ، وغير ذلك من التصديقات ، وهي علوم وإدراكات تحققت عندنا من الفعل والانفعال الحاصل بين المادة الخارجية وبين حواسنا وأدواتنا الادراكية ، ونظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا وحضورها لدينا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 115 _
  ( ما نحكي عنه بلفظ أنا ) ، والكليات الاخر المعقولة ، فهذه العلوم والادراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إراده ولاصدور فعل ، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية.
  وهناك شطرآخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا : إن هناك حسنا وقبحا وما ينبغي ان يفعل وما يجب ان يترك ، والخير يجب رعايته ، والعدل حسن ، والظلم قبيح ومثل مفاهيم الرئاسة والمرؤسية ، والعبدية والمولوية فهذه سلسلة من الافكار والادراكات لاهم لنا إلا ان نشتغل بها ونستعملها ولا يتم فعل من الافعال الارادية إلا بتوسيطها والتوسل بها لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة.
  وهي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا وعن أفهامنا كما كان الامر كذلك في القسم الاول فهي علوم وإدراكات غير خارجة عن محوطة العمل ولاحاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية ، بل هي مما هيأناه نحن وألهمناه من قبل إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة ، وجهازاتنا العاملة للفعل والعمل ، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل ، ونفورها عما لايلائمها يوجب حدوث صور من الاحساسات : كالحب والبغض ، والشوق والميل والرغبة ، ثم هذه الصور الاحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم والادراكات من معنى الحسن والقبح ، وينبغي ولا ينبغي ، ويجب ويجوز ، إلى غير ذلك ، ثم بتوسطها بيننا وبين المادة الخارجية وفعلنا المتعلق بها يتم لنا الامر ، فقد تبين أن لنا علوما وإدراكات لا قيمة لها إلاالعمل ، ( وهي المسماة بالعلوم العملية ) ولاستيفاء البحث عنها محل آخر.
  والله سبحانه ألهمها الانسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل ، والاخذ بالتصرف في الكون ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، قال تعالى : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه ـ 50 ، وقال تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) الاعلى ـ 3 ، وهذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده ، وسوق له إلى الفعل والعمل لحفظ وجوده وبقائه ، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور.
  وقال تعالى في الانسان خاصة : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس ـ 8 ، فأفاد أن الفجور والتقوى معلومان للانسان بإلهام فطري منه تعالى ، وهما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه وما لا ينبغي ، وهي العلوم العملية التي لااعتبار

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 116 _
  لها خارجة عن النفس الانسانية ، ولعله إليه الاشارة باضافة الفجور والتقوى إلى النفس.
  وقال تعالى : ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت ـ 64 ، فإن اللعب لا حقيقة له إلا الخيال فقط ، كذا الحياة الدنيا : من جاه ومال وتقدم وتأخر ورئاسة ومرؤوسية وغير ذلك إنما هي أمور خيالية لاواقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن ، بمعنى ان الذي في الخارج إنما هو حركات طبيعية يتصرف بها الانسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد الانسان وأحواله.
  فالموجود بحسب الواقع من الانسان الرئيس إنسانيته ، وأما رئاسته فإنما هي في الوهم ، ومن الثوب المملوك الثوب مثلا ، وأما انه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز حد الذهن ، وعلى هذا القياس.

( جريه على استخدام غيره انتفاعا )
  فهذه السلسلة من العلوم والادراكات هي التي تربط الانسان بالعمل في المادة ، ومن جملة هذه الافكار والتصديقات تصديق الانسان بأنه يجب ان يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله ، وبعبارة أخرى إذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه ، ويستبقي حياته بأي سبب أمكن ، وبذلك يأخذ في التصرف في المادة ، ويعمل آلات من المادة ، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع ، واستخدام الابرة للخياطة ، واستخدام الاناء لحبس المايعات ، واستخدام السلم للصعود ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ، ولا يحد من حيث التركيب والتفصيل ، وأنواع الصناعات والفنون المتخذة لبلوغ المقاصد والاغراض المنظور فيها.
  وبذلك يأخذ الانسان ايضا في التصرف في النبات بأنواع التصرف ، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء واللباس والسكنى وغير ذلك ، وبذلك يستخدم ايضا انواع الحيوان في سبيل منافع حياته ، فينتفع من لحمها ودمها وجلدها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 117 _
  وشعرها ووبرها وقرنها وروثها ولبنها ونتاجها وجميع أفعالها ، ولا يقتصر على سائر الحيوان دون ان يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين ، فيستخدمها كل استخدام ممكن ، ويتصرف في وجودها وافعالها بما يتيسر له من التصرف ، كل ذلك مما لا ريب فيه.

( كونه مدنيا بالطبع )
  غير ان الانسان لما وجد ساير الافراد من نوعه ، وهم أمثاله ، يريدون منه ما يريده منهم ، صالحهم ورضى منهم ان ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم ، وهذا حكمه بوجوب اتخاذ المدنية ، والاجتماع التعاوني ويلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه ، ويتعادل النسب والروابط ، وهو العدل الاجتماعي.
  فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني ، والعدل الاجتماعي إنما هو حكم دعا إليه الاضطرار ، ولولا الاضطرار المذكور لم يقض به الانسان أبدا ، وهذا معنى ما يقال : إن الانسان مدني بالطبع ، وإنه يحكم بالعدل الاجتماعي ، فإن ذلك أمر ولده حكم الاستخدام المذكور اضطرارا على ما مر بيانه ، ولذلك كلما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاوني وحكم العدل الاجتماعي أثرا فلا يراعيه القوي في حق الضعيف ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الامم القوية ، وعلى ذلك جرى التاريخ ايضا إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة والحرية.
  وهو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الاحزاب ـ 72 ، وقوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ) المعارج ـ 19 ، وقوله تعالى : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم ـ 34 ، وقوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) العلق ـ 7.
  ولو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الانسان اقتضاء أوليا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل ، وحسن تشريك المساعي ، ومراعاة التساوي ، مع ان المشهود دائما خلاف ذلك ، وإعمال القدرة والغلبة تحميل القوي العزيز مطالبه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 118 _
  الضعيف ، واستدلال الغالب للمغلوب واستعباده في طريق مقاصده ومطامعه.

( حدوث الاختلاف بين افراد الانسان )
  ومن هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الانسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الافراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والاخلاق المستندة إلى ذلك ، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة والضعف يؤدي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي ، فيستفيد القوي من الضعيف اكثر مما يفيده ، وينتفع الغالب من المغلوب من غير ان ينفعه ، ويقابله الضعيف المغلوب مادام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخدعة ، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشد الانتقام ، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج ، وداعيا إلى هلاك الانسانية ، وفناء الفطرة ، وبطلان السعادة.
  وإلى ذلك يشير تعالى بقوله : ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ ) يونس ـ 19 ، وقوله تعالى : ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) هود ـ 119 ، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها : ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية.
  وهذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين افراد المجتمعين من الانسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد ، وإن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الانسانية الواحدة ، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الافكار والافعال بوجه ، واختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الاحساسات والادراكات والاحوال في عين انها متحدة بنحو ، إو اختلافها يؤدي إلى اختلاف الاغراض والمقاصد والآمال ، واختلافها يؤدي إلى اختلاف الافعال ، وهو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع.
  وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع ، وهو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف ، ونيل كل ذي حق حقه ، وتحميلها الناس.
  والطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الانسان أحد طريقين :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 119 _
  الاول : إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة وتسويتهم في الحقوق ، بمعنى ان ينال كل من الافراد ما يليق به من كمال الحياة ، مع الغاء المعارف الدينية ، من التوحيد والاخلاق الفاضلة ، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولامرعي ، وجعل الاخلاق تابعة للاجتماع وتحوله ، فما وافق حال الاجتماع من الاخلاق فهو الخلق الفاضل ، فيوما العفة ، ويوما الخلاعة ، ويوما الصدق ، ويوما الكذب ، ويوما الامانة ، ويوما الخيانة ، وهكذا.
  والثاني : إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الاخلاق واحترامها مع الغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.
  وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الامة المجتمعة من الانسان : أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الانسان فقط ، وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية ، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل ، فيه بوار هذا النوع ، وهلاك الحقيقة الانسانية ، فإن هذا الانسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه ، بدء من عنده وسيعود إليه ، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية ، حياة طويلة الذيل ، غير منقطع الامد ، وهي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية ، وكيفية سلوك الانسان فيها ، واكتسابه الاحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه ، بادئا منه عائدا إليه ، وإذا بنى الانسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده ، وستر حقيقة الامر فقد أهلك نفسه ، واباد حقيقته .
  فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير ، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف : من قتل ، وضرب ، وهتك عرض ، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك ، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم.
  فقال قائل منهم : عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الاعراض والامتعة ، والتمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي ، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 120 _
  وقال قائل منهم : ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على اساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه ، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية ، ويأخذ بالرحمة لرفقائه ، والعطوفة والشهامة والفضيلة ، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الامتعة الموجودة ، فليست إلا لكم ولمنزلكم هذا.
  وقد أخطا القائلان جميعا ، وسهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر ، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغى والهلاك.
  والقائل المصيب بينهم هو من يقول : تمتعوا من هذه الامتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة ، وخذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق ، وما أريد منكم في وطنكم ، وما تريدونه لمقصدكم.

( رفع الاختلاف بالدين )
  ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعا ذلك على أساس التوحيد ، والاعتقاد والاخلاق والافعال ، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على اساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم ، وانهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياه تنفعهم في غد ، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل ، فالتشريع الديني والتقنين الالهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره ، قال تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) يوسف ـ 40 ، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها : فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية ، فقارن بعثة الانبياء بالتبشير والانذار بإنزال الكتاب المشتمل على الاحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم.
  ومن هذا الباب قوله تعالى : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) الجاثية ـ 24 ، فإنهم إنما

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 121 _
  كانوا يصرون على قولهم ذلك ، لا لدفع القول بالمعاد فحسب ، بل لان القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحيا بنحو العبودية ، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية : من العبادات والمعاملات والسياسات.
  وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين ، واتباع أحكامه في الحياة ، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الاحوال والاعمال ، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها.
  وكذا قوله تعالى : ( وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا * فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) النجم ـ 30 ، فبين تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن والجهل ، والله سبحانه يدعو إلى دار السلام ، ويبني دينه على الحق والعلم ، والرسول يدعو الناس إلى مايحييهم ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الانفال ـ 24 ، وهذه الحياة هي التي يشير إليها قوله تعالى : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام ـ 122 ، وقال تعالى : ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) الرعد ـ 19 ، وقال تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف ـ 108 ، وقال تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) الزمر ـ 9 ، وقال تعالى : ( يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ) البقرة ـ 129 ، إلى غير ذلك ، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة إليه والحث به ، وناهيك فيه انه يسمي العهد السابق على ظهور الاسلام عهد الجاهلية كما قيل .
  فما أبعد من الانصاف قول من يقول : ان الدين مبني على التقليد والجهل مضاد للعلم ومباهت له ، وهؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والاجتماعية فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة ، فظنوا عدم الاثبات إثباتا للعدم ، وقد أخطأوا في ظنهم ، وخبطوا في حكمهم ، ثم نظروا إلى ما في أيدي امثالهم من الناس المتهوسين من أمور يسمونه باسم الدين ، ولا حقيقة لها غير الشرك ، والله برئ من المشركين ورسوله ، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد والطاعة فحسبوها تقليدا وقد أخطأوا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 122 _
  في حسبانهم ، والدين أجل شأنا من ان يدعو إلى الجهل والتقليد ، وامنع جانبا من ان يهدي إلى عمل لا علم معه ، أو يرشد إلى قول بغير هدى ولا كتاب منير ، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جائه.

( الاختلاف في نفس الدين )
  وبالجملة فهو تعالى يخبرنا ان الاختلاف في المعاش وأمور الحياة إنما رفع أول ما رفع بالدين ، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين.
  ثم إنه تعالى يخبرنا ان الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإنما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين : من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم وظلما وعتوا ، قال تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى ـ 14 ، وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس ـ 19 ، والكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) الاعراف ـ 24 .
  فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة ، فإن الدين فطري وما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة ولا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم ـ 30 فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة.

( الانسان بعد الدنيا )
  ثم إنه يخبرنا ان الانسان سيرتحل من الدنيا التي فيه حياته الاجتماعية وينزل دارا أخرى سماها البرزخ ، ثم دارا أخرى سماها الآخرة غير ان حياته بعد هذه الدنيا حياة انفرادية ، ومعنى كون الحياة انفرادية ، انها لا ترتبط بالاجتماع التعاوني ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 123 _
  والتشارك والتناصر ، بل السلطنة هناك في جميع احكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثر فيه وجود غيره بالتعاون والتناصر اصلا ، ولو كان هناك هذا النظام الطبيعي المشهود في المادة لم يكن بد عن حكومة التعاون والتشارك ، لكن الانسان خلفه وراء ظهره ، وأقبل إلى ربه ، وبطل عنه جميع علومه العملية ، فلا يرى لزوم الاستخدام والتصرف والمدنية والاجتماع التعاوني ولا سائر أحكامه التي يحكم بها في الدنيا ، وليس له إلا صحابة عمله ، ونتيجة حسناته وسيئاته ، ولا يظهر له إلا حقيقة الامر ويبدو له النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، قال تعالى : ( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) مريم ـ 80 ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) الانعام ـ 94 ، وقال تعالى : ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) يونس ـ 30 ، وقال تعالى : ( مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) الصافات ـ 26 ، وقال تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ابراهيم ـ 48 ، وقال تعالى : ( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى ) النجم ـ 41 ، إلى غير ذلك من الآيات ، فهذه الآيات كما ترى تدل على ان الانسان يبدل بعد الموت نحو حياته فلا يحيى حياة اجتماعية مبنية على التعاون والتناصر ، ولا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العملية ، ولايجنى إلا ثمرة عمله ونتيجة سعيه ، ظهر له ظهورا فيجزى به جزاء.
  قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، الناس معروف وهو الافراد المجتمعون من الانسان ، والامة هي الجماعة من الناس ، وربما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ ) النحل ـ 120 ، وربما يطلق على زمان معتد به كقوله تعالى : ( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) يوسف ـ 45 ، أي بعد سنين و قوله تعالى : ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ) هود ـ 8 ، وربما يطلق على الملة والدين كما قال بعضهم في قوله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) المؤمنون ـ 52 ، وفي قوله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) الانبياء ـ 92 ، وأصل الكلمة من أم يأم إذا قصد فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كل جماعة ، بل على

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 124 _
  جماعة كانت ذات مقصد واحد وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها ، وهو المصحح لاطلاقها على الواحد وعلى سائر معانيها إذا أطلقت.
  وكيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد والاتفاق ، وعلى السذاجة والبساطة ، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في امور الحياة ، ولا اختلاف في المذاهب والاراء ، والدليل على نفي الاختلاف قوله تعالى : فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه ، فقد رتب بعثة الانبياء وحكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم أمة واحدة فالاختلاف في أمور الحياة ناش بعد الاتحاد والوحدة ، والدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فالاختلاف في الدين إنما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي.
  وهذا هو الذي يساعد عليه الاعتبار ، فإنا نشاهد النوع الانساني لا يزال يرقى في العلم والفكر ، ويتقدم في طريق المعرفة والثقافة ، عاما بعد عام ، وجيلا بعد جيل ، وبذلك يستحكم أركان اجتماعه يوما بعد يوم ، ويقوم على رفع دقائق الاحتياج ، والمقاومة قبال مزاحمات الطبيعة ، والاستفادة من مزايا الحياة ، وكلما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه اقل عرفانا برموز الحياة ، وأسرار الطبيعة ، وينتهي بنا هذا السلوك إلى الانسان الاولي الذي لا يوجد عنده الا النزر القليل من المعرفة بشؤون الحياة وحدود العيش ، كأنهم ليس عندهم الا البديهيات ويسير من النظريات الفكرية التي تهيئ لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون ، كالتغذي بالنبات أو شيء من الصيد والايواء إلى الكهوف والدفاع بالحجارة والاخشاب ونحو ذلك ، فهذا حال الانسان في أقدم عهوده ، ومن المعلوم ان قوما حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهورا يعتد به ، ولا يبدو فيهم الفساد بدوا مؤثرا ، كالقطيع من الغنم لا هم لافراده الا الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر ، والتجمع في المسكن والمعلف والمشرب.
  غير ان الانسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما اشرنا إليه فيما مر لا يحبسه هذا الاجتماع القهري من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف والتغالب والتغلب ، وهو كل يوم يزداد علما وقوة على طرق الاستفادة ، ويتنبه بمزايا جديدة ، ويتيقظ لطرق دقيقة في الانتفاع ، وفيهم الاقوياء وأولوا السطوة وارباب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 125 _
  القدرة ، وفيهم الضعفاء ومن في رتبتهم ، وهو منشأ ظهور الاختلاف الاختلاف الفطري الذي دعت إليه قريحة الاستخدام ، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع والمدنية.
  ولا ضير في تزاحم حكمين فطريين ، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما ، ويعدل امرهما ، ويصلح شأنهما ، وذلك كالانسان تتسابق قواه في افعالها ، ويؤدي ذلك إلى التزاحم ، كما ان جاذبة التغذي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة ولا تسعه المعدة ، وهناك عقل يعدل بينهما ، ويقضي لكل بما يناسبه ، ويقدر فعل كل واحدة من هذه القوى الفعالة بما لا يزاحم الاخرى في فعلها .
  والتنافي بين حكمين فطريين فيما نحن فيه من هذا القبيل ، فسلوك فطرة الانسان إلى المدنية ثم سلوكها إلى الاختلاف يؤديان إلى التنافي ، ولكن الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الانبياء بالتبشير والانذار ، وانزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .
  وبهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم : ان المراد بالآية ان الناس كانوا أمة واحدة على الهداية ، لان الاختلاف انما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم ، والبغي من حملة الكتاب ، وقد غفل هذا القائل عن ان الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا ، وقد مر بيانه ، وعن ان الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف ، فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الانبياء وانزال الكتاب وحملهم على البغي بالاختلاف ، واشاعة الفساد ، واثارة غرائز الكفر والفجور ومهلكات الاخلاق مع استبطانها ؟ ويظهر به ايضا : فساد ما ذكره آخرون ان المراد بها ان الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة ، إذ لولاها لم يكن وجه لترتب قوله تعالى : فبعث الله النبيين الخ ، وقد غفل هذا القائل عن ان الله سبحانه يذكر ان هذا الضلال الذي ذكره وهو الذي أشار إليه بقوله سبحانه : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، انما نشاء عن سوء سريرة حملة الكتاب وعلماء الدين بعد نزول الكتاب ، وبيان آياته للناس ، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والانزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي فما المصحح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب وعلماء الدين ؟