يتوقف في اعتباره إنسان وهو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا ولك ذلك ، ولي ان افعل كذا ولك ان تفعل كذا .
  ويشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عش أو كن أو وكر أو ما أصطاده أو وجده ، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج ونحو ذلك ، وما نشاهده من تشاجر الاطفال فيما حازوه من غذاء ونحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي ، ثم إن ورود الانسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته وقضاء غريزته لا يستحكم به إلا ما ادركه بأصل الفطرة إجمالا ، ولا يوجب إلا إصلاح ما كان وضعه أولا وترتيبه وتعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة ، وعند ذلك يتنوع الاختصاص الاجمالي المذكور أنواعا متفرقه ذوات أسام مختلفه فيسمى الاختصاص المالي بالملك وغيره بالحق وغير ذلك .
  وهم وإن أمكن ان يختلفوا في تحقق الملك من جهة اسبابه كالوراثة والبيع والشراء والغصب بقوة السلطان وغير ذلك ، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك كالانسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من الجهات ، فيزيدوا في بعض ، وينقصوا من بعض ، ويثبتوا لبعض وينفوا عن بعض ، لكن اصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره ، ولذلك نرى ان المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد وينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم وهم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من اصله ولن يقدروا على ذلك فالحكم فطري ، وفي بطلان الفطرة فناء الانسان .
  وسنبحث في ما يتعلق بهذا الاصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة والربح والارث والغنيمة والحيازة ومن حيث الموضوع كالبالغ والصغير وغيرهما في موارد يناسب ذلك انشاء الله العزيز

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 55 _

  ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ـ 189 .
  ( بيان )
  قوله تعالى :يسئلونك إلى قوله : والحج ، الاهلة جمع هلال ويسمى القمر هلالا اول الشهر القمري إذا خرج من تحت شعاع الشمس الليلة الاولى والثانية كما قيل ، وقال بعضهم الليالي الثلاثة الاول ، وقال بعضهم حتى يتحجر ، والتحجر ان يستدير بخطة دقيقة ، وقال بعضهم : حتى يبهر نوره ظلمة الليل وذلك في الليلة السابعة ثم يسمى قمرا ويسمى في الرابعة عشر بدرا ، واسمه العام عند العرب الزبرقان .
  والهلال مأخوذ من استهل الصبي إذا بكى عند الولادة أو صاح ، ومن قولهم : أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، سمي به لان الناس يهلون بذكره إذا راوا. والمواقيت جمع ميقات وهو الوقت المضروب للفعل ، ويطلق ايضا : على المكان المعين للفعل كميقات أهل الشام وميقات أهل اليمن ، والمراد هلهنا الاول.
  وفي قوله تعالى : يسئلونك عن الاهلة ، وان لم يشرح ان السؤال في امرها عماذا عن حقيقة القمر وسبب تشكلاتها المختلفة في صورالهلال والقمر والبدر كما قيل ، أو عن حقيقة الهلال فقط ، الظاهر بعد المحاق في اول الشهر القمري كما ذكره بعضهم أو عن غير ذلك .
  ولكن اتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل : يسئلونك عن الاهلة دليل على ان السؤال لم يكن عن ماهية القمر واختلاف تشكلاته إذ لو كان كذلك لكان الانسب ان يقال : يسئلونك عن القمر لا عن الاهلة وايضا لو كان السؤال عن حقيقة الهلال وسبب تشكله الخاص كان الانسب ان يقال : يسئلونك عن الهلال إذ لا غرض

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 56 _
  حينئذ يتعلق بالجمع ، ففي اتيان الاهلة بصيغة الجمع دلالة على ان السؤال انما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال ورسمه الشهور القمرية وعبر عن ذلك بالاهلة لانها هي المحققة لذلك فاجيب بالفائدة .
  ويستفاد ذلك من خصوص الجواب : قل هي مواقيت للناس والحج ، فإن المواقيت وهي الازمان المضروبة للافعال ، والاعمال انما هي الشهور دون الاهلة التي ليست بأزمنة وانما هي أشكال وصور في القمر .
  وبالجملة قد تحصل ان الغرض في السؤال انما كان متعلقا بشأن الشهور القمرية من حيث السبب أو الفائدة فاجيب ببيان الفائدة وانها أزمان وأوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم ومعادهم فإن الانسان لا بد له من حيث الخلقة من ان يقدر أفعاله واعماله التي جميعها من سنخ الحركة بالزمان ، ولازم ذلك ان يتقطع الزمان الممتد الذي ينطبق عليه أمورهم قطعا صغارا وكبارا مثل الليل والنهار واليوم والشهر والفصول والسنين بالعناية الالهية التي تدبر امور خلقه وتهديهم إلى صلاح حياتهم ، والتقطيع الظاهر الذي يستفيد منه العالم والجاهل والبدوي والحضري ويسهل حفظه على الجميع انما هو تقطيع الايام بالشهور القمرية التي يدركه كل صحيح الادراك مستقيم الحواس من الناس دون الشهور الشمسية التي ما تنبه لشأنها ولم ينل دقيق حسابها الانسان الا بعد قرون واحقاب من بدء حياته في الارض وهو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائما .
  فالشهور القمرية أوقات مضروبة معينة للناس في امور دينهم ودنياهم وللحج خاصة فإنه أشهر معلومات ، وكأن اختصاص الحج بالذكر ثانيا تمهيد لما سيذكر في الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور .
  قوله تعالى : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ) إلى قوله : من ابوابها ، ثبت بالنقل ان جماعة من العرب الجاهلي كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقبا من ظهورها ودخلوا منه فنهى عن ذلك الاسلام وامرهم بدخول البيوت من ابوابها ، ونزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن ، وبذلك يصح الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله .
  ولو لا ذلك لامكن ان يقال : ان قوله : وليس البرالى آخره ، كناية عن النهي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 57_
  عن امتثال الاوامر الالهية والعمل بالاحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي شرعت عليه ، فلا يجوز الحج في غير أشهره ، ولا الصيام في غير شهر رمضان وهكذا وكانت الجملة على هذا متمما لاول الاية ، وكان المعنى : ان هذه الشهور أوقات مضروبة لاعمال شرعت فيها ولايجوز التعدي بها عنها إلى غيرها كالحج في غير أشهره ، والصوم في غير شهر رمضان وهكذا فكانت الاية مشتملة على بيان حكم واحد .
  وعلى التقدير الاول الذي يؤيده النقل فنفى البر عن إتيان البيوت من ظهورها يدل على ان العمل المذكور لم يكن مما امضاه الدين وإلا لم يكن معنى لنفى كونه برا فانما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر ، وأثبت ان البر هو التقوي ، وكان الظاهر ان يقال : ولكن البر هو التقوي ، وانما عدل إلى قوله : ولكن البر من اتقى ، اشعارا بان الكمال انما هو في الاتصاف بالتقوى وهو المقصود دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى : ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ ) الآية .
  والامر في قوله تعالى : وإتوا البيوت من أبوابها ، ليس امرا مولويا وإنما هو إرشاد إلى حسن اتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجرى على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت ووضع الباب مدخلا ومخرجا فيها ، فإن الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي ، فلا يدل على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب ، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة .
  قوله تعالى : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، قد عرفت في أول السورة ان التقوى من الصفات التي يجامع جميع مراتب الايمان ومقامات الكمال ، ومن المعلوم ان جميع المقامات لا يستوجب الفلاح والسعادة كما يستوجبه المقامات الاخيرة التي تنفي عن صاحبها الشرك والضلال وإنما تهدي إلى الفلاح وتبشر بالسعادة ، ولذلك قال تعالى : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، فأتى بكلمة الترجي ، ويمكن ان يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الامر الخاص الموجود في الآية وترك ما ذمه من إتيان البيوت من ظهورها .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 58 _
( بحث روائي )
  في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس قال : سأل الناس رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الاهلة فنزلت هذه الآية ( يسئلونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس ) يعلمون بها أجل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم.
  أقول : وروى هذا المعنى فيه بطرق أخر عن ابي العالية وقتادة وغيرهما ، وروي أيضا أن بعضهم سأل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن حالات القمرالمختلفة فنزلت الآية، وهذا هو الذي ذكرنا آنفا انه مخالف لظاهر الآية فلا عبرة به.
  وفي الدر المنثور أيضا : أخرج وكيع ، والبخاري ، وابن جرير عن البراء : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها.
  وفي الدر المنثور أيضا اخرج ابن ابي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال : كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الابواب في الاحرام وكانت الانصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الاحرام فبينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الانصاري فقالوا : يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر وإنه خرج معك من الباب فقال له : ما حملك على ما فعلت قال : رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت قال : إني رجل أحمس قال : فإن ديني دينك فأنزل الله ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها.
  اقول : وقد روي قريبا من هذا المعنى بطرق أخرى ، والحمس جمع أحمس كحمر وأحمر من الحماسة وهي الشدة سميت به قريش لشدتهم في امر دينهم أو لصلابتهم وشدة باسهم.
  وظاهر الرواية ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من ظهور البيوت لغير قريش ولذا عاتبه بقوله : ما حملك على ما صنعت ( الخ) ، وعلى هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة ، وهي تنسخ حكما مشرعا من غير آية هذا ، ولكنك قد عرفت ان الآية تنافيه حيث تقول : ليس البر بأن تأتوا ، وحاشا الله سبحانه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 59 _
  ان يشرع هو أو رسوله بأمره حكما من الاحكام ثم يذمه أو يقبحه وينسخه بعد ذلك وهو ظاهر.
  وفي محاسن البرقي عن الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى : وأتوا البيوت من أبوابها قال يعني ان يأتي الامر من وجهه أي الامور كان.
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : الاوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتي ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه.
  أقول : الرواية من الجرى وبيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الذي فسرت به في الرواية الاولى ، ولا شك ان الآية بحسب المعنى عامة وإن كانت بحسب مورد النزول خاصة ، وقوله ( عليه السلام ) ولولاهم ما عرف الله ، يعني البيان الحق والدعوة التامة الذين معهم ، وله معنى آخر أدق لعلنا نشير إليه فيما سيأتي إنشاء الله والروايات في معنى الروايتين كثيرة.
  ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ) ـ 190 ، ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ) ـ 191 ، ( فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ـ 192 ، ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ـ 193 ، ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ـ 194 ، ( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ـ 195

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 60 _
( بيان )
  سياق الآيات الشريفة يدل على انها نازلة دفعة واحدة ، وقد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لاول مرة مع مشركي مكة ، فإن فيها تعرضا لاخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين ، وللفتنة ، وللقصاص ، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده ، وكل ذلك امور مربوطة بمشركي مكة ، على انه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) ، وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم ان قاتلوكم وهو ظاهر ، ولا قيدا احترازيا ، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم ، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته ، ويقال : لا تقاتله بل انما الصحيح النهى عن قتله دون قتاله.
  بل الظاهر ان الفعل اعني يقاتلونكم ، للحال والوصف للاشارة ، والمراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركوا مكة.
  فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) الحج ـ 40 ، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.
  على ان الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه فقوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله ، لاصل الحكم ، وقوله تعالى : لا تعتدوا الخ ، تحديد له من حيث الانتظام ، وقوله تعالى : واقتلوهم ( الخ ) تحديد له من حيث التشديد ، و قوله تعالى : ( وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ( الخ ) ، تحديد له من حيث المكان ، و قوله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ) ( الخ) تحديد له من حيث الامد والزمان ، وقوله تعالى : الشهر الحرام ( الخ) ، بيان ان هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل ومعاملة بالمثل معهم ، وقوله تعالى : وأنفقوا ، إيجاب لمقدمته المالية وهو الانفاق للتجهيز والتجهز ، فيقرب ان يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم ، ولا ان تكون نازلة في شؤون متفرقه كما

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 61 _
  ذكره آخرون ، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين.
  قوله تعالى : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) ، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله ، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد ، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنما هو في الاسلام دفاع يحفظ به حق الانسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه ، فان الدفاع محدود بالذات ، والتعدي خروج عن الحد ، ولذلك عقبه بقوله تعالى : ( وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ) .
  قوله تعالى : ( وَلاَ تَعْتَدُواْ ) ( الخ) الاعتداء هو الخروج عن الحد ، يقال عدا واعتدى إذا جاوز حده ، والنهى عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق ، والابتداء بالقتال ، وقتل النساء والصبيان ، وعدم الانتهاء إلى العدو ، وغير ذلك مما بينه السنة النبوية.
  قوله تعالى : ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) إلى قوله : من القتل ، يقال ثقف ثقافة أي وجد وادرك فمعنى الآية معنى قوله : ( فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة ـ 6 ، والفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشئ ، ولذلك يطلق على نفس الامتحان والابتلاء وعلى ما يلازمه غالبا وهو الشدة والعذاب على ما يستعقبه كالضلال والشرك ، وقد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني ، والمراد به في الآية الشرك بالله ورسوله بالزجر والعذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقبلها.
  فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك ، وما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة والفتنة أشد من القتل لان في القتل انقطاع الحياة الدنيا ، وفي الفتنة انقطاع الحياتين وانهدام الدارين.
  قوله تعالى : ( وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ) ( الخ) ، فيه نهى عن القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه ، والضمير في قوله : فيه راجع إلى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 62 _
  المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد.
  قوله تعالى : ( فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، الانتهاء الامتناع والكف ، والمراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين وقبول الاسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا : فإن انتهوا فلا عدوان ، وأما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه وهو قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد ، وعلى هذا فكل من الجملتين اعني قوله تعالى : فإن انتهوا فان الله ، و قوله تعالى : فان انتهوا فلا عدوان ، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار.
  وفي قوله تعالى : ( فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم ، والمعنى ( فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
  قوله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ ) ، تحديد لامد القتال كما مر ذكره ، والفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الاصنام كما كان يفعله ويكره عليه المشركون بمكه ، ويدل عليه قوله تعالى : ( وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ ): والآية نظيرة لقوله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الانفال ـ 40 ، وفي الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال وان ردت فلا ولاية الا لله ونعم المولى ونعم النصير ، ينصر عباده المؤمنين ، ومن المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله ، ولا معنى لقتال هذا شأنه وغايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق وهو الدين الذى يستقر على التوحيد.
  ويظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى : ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة ـ 30 ، بناء على أن دينهم لله سبحانه وتعالى ، وذلك أن الآية أعني قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة خاصة بالمشركين غير شاملة لاهل الكتاب ، فالمراد ، بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الاصنام ويقر بالتوحيد ، وأهل الكتاب مقرون به ، وإن كان ذلك كفرامنهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى : إنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ، لكن الاسلام قنع منهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 63 _
  بمجرد التوحيد ، وإنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزيه لاعلاء كلمة الحق على كلمتهم وإظهار الاسلام على الدين كله .
  قوله تعالى : ( فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ، أي فإن انتهوا عن الفتنة وآمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين ، فهو من وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى : ( فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الآية ، فالآية كقوله تعالى : ( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) التوبة ـ 12
  قوله تعالى : ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ) ، الحرمات جمع حرمة وهي ما يحرم هتكه ويجب تعظيمه ورعاية جانبه ، والحرمات : حرمة الشهر الحرام وحرمة الحرم وحرمة المسجد الحرام ، والمعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه ، وقد هتكوا حين صدوا النبي وأصحابه عن الحج عام الحديبية ورموهم بالسهام والحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه وليس بهتك ، فإنما يجاهدون في سبيل الله ويمتثلون أمره في إعلاء كلمته ولو هتكوا حرمة الحرم والمسجد الحرام بالقتال فيه وعنده جاز للمؤمنين معا ملتهم بالمثل ، فقوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات وأعم من هذا البيان العام قوله تعالى عقيبه : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، فالمعنى أن الله سبحانه إنما شرع القصاص في الشهر الحرام لانه شرع القصاص في جميع الحرمات وإنما شرع القصاص في الحرمات لانه شرع جواز الاعتداء بالمثل.
  ثم ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لان فيه استعمالا للشدة والبأس والسطوة وسائر القوى الداعية إلى الطغيان والانحراف عن جادة الاعتدال والله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين ، وهم أحوج إلى محبة الله تعالى وولايته ونصره فقال تعالى : واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين.
  وأما أمره تعالى بالاعتداء مع انه لا يحب المعتدين فأن الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابله اعتداء وأما إذا كان في مقابله الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان وارتقاء عن حضيض الاستعباد والظلم والضيم ، كالتكبر مع المتكبر ، والجهر بالسوء لمن ظلم .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 64 _
  قوله تعالى : ( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ، أمر بانفاق المال لاقامة القتال في سبيل الله والكلام في تقييد الانفاق هيهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في اول الآيات بكونه في سبيل الله ، كما مر ، والباء في قوله : بأيديكم زائدة للتأكيد ، والمعنى : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوة والاستطاعة والقدرة فان اليد مظهر لذلك ، وربما يقال : ان الباء للسببية ومفعول لا تلقوا محذوف ، والمعنى : لا تلقوا أنفسكم بأيدى أنفسكم إلى التهلكة ، والتهلكة والهلاك واحد وهو مصير الانسان بحيث لا يدري أين هو ، وهو على وزن تفعلة بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره.
  والكلام مطلق أريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط كما أن البخل والامساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة وذهاب القدرة ، وفيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم ، وكما أن التبذير بانفاق جميع المال يوجب الفقر والمسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروة.
  ثم ختم سبحانه وتعالى الكلام بالاحسان فقال : ( وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ، وليس المراد بالاحسان الكف عن القتال أو الرأفه في قتل أعداء الدين وما يشبههما بل الاحسان هو الاتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال ، والكف في مورد الكف ، والشدة في مورد الشدة ، والعفو في مورد العفو ، فدفع الظالم بما يستحقه إحسان على الانسانية باستيفاء حقها المشروع لها ، ودفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر ومحبة الله سبحانه وتعالى هو الغرض الاقصى من الدين ، وهو الواجب على كل متدين بالدين أن يجلبها من ربه بالاتباع ، قال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْسكُمُ اللّهُ ) آل عمران ـ 31 ، وقد بدأت الآيات الشريفة ـ وهي آيات القتال ـ بالنهي عن الاعتداء وان الله لا يحب المعتدين وختمت بالامر بالاحسان وأن الله يحب المحسنين ، وفي ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى

الجهاد الذى يأمر به القرآن :
  كان القرآن يامر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 65 _
  سبحانه وتعالى ، كما قال سبحانه وتعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) ، إلى قوله : ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) الكافرون ـ 6 ، وقال تعالى : ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) المزمل ـ 10 ، وقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ) النساء ـ 77 ، كأن هذة الآية تشير إلى قوله سبحانه وتعالى : ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ) البقرة ـ 110.
  ثم نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) الحج ـ 40 ، ومن الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر وغيرها ، وكذا قوله : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الانفال ـ 40 ، وكذا قوله تعالى : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) البقرة ـ 190.
  ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب ، قال تعالى : ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة ـ 29.
  ومنها آيات القتال مع المشركين عامة ، وهم غير أهل الكتاب كقوله تعالى : ( فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) التوبة ـ 5 ، وكقوله تعالى : ( قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) التوبة ـ 36.
  ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى : ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ) التوبة ـ 123.
  وجملة الامر أن القرآن يذكر أن الاسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة وهو القيم على إصلاح الانسانية في حيوتها كما قال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 66 _
  الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )الروم ـ 30 ، فإقامته والتحفظ عليه أهم حقوق الانسانية المشروعة كما قال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) الشورى ـ 13 ، ثم يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري ، قال تعالى : ( ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) الحج ـ 40 ، فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع ، ونظيره قوله تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ) البقرة ـ 251 ، وقال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الانفال : ( ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) الانفال ـ 8 ، ثم قال تعالى : بعد عدة آيات : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) الانفال ـ 24 ، فسمى الجهاد والقتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم ، ومعناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الاسلام أو كان قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الانسانية في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الانسانية وموت الفطرة ، وفي القتال وهو دفاع عن حقها إعادة لحياتها وإحيائها بعد الموت.
  ومن هناك يستشعر الفطن اللبيب : إنه ينبغي أن يكون للاسلام حكم دفاعي في تطهير الارض من لوث مطلق الشرك وإخلاص الايمان لله سبحانه وتعالى فان هذا القتال الذى تذكره الآيات المذكورة إنما هو لاماتة الشرك الظاهر من الوثنية ، أو لاعلاء كلمة الحق على كلمة اهل الكتاب بحملهم على اعطاء الجزية ، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحق فهم وان كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك ، والدفاع عن حق الانسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق.
  والقرآن وإن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على اعدائهم لا يتم أمره إلا بانجاز الامر بهذه المرتبة ، من القتال وهوالقتال لاقامة الاخلاص في التوحيد ، قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 67 _
  لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) الصف ـ 9 ، وأظهر منه قوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) الانبياء ـ 105 ، وأصرح منه قوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) النور ـ 55 ، فقوله تعالى : يعبدونني يعني به عبادة الاخلاص بحقيقة الايمان بقرينة قوله تعالى : لا يشركون بي شيئا ، مع أنه تعالى يعد بعض الايمان شركا ، قال تعالى : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف ـ 106 ، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الارض وتخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقا.
  وربما يتوهم المتوهم : أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالاسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله : ليستخلفنهم في الارض ، فإن الاستخلاف إنما هو بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه ايماء إلى القتال.
  على أن قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ) المائدة ـ 54 ، ـ على ما سيجئ في محله ـ يشير إلى دعوة حقة ، ونهضة دينية ستقع عن أمر إلهي ويؤيد أن هذه الواقعة الموعودة انما تقع عن دعوة جهاد.
  وبما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الاسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الانبياء السالفين فان دينهم إنما كان يعتمد في سيره وتقدمه على الدعوة والهداية ، دون الاكراه على الايمان بالقتال المستتبع للقتل والسبي والغارات ، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف والدم وآخرون بدين الاجبار والاكراه !.
  وذلك أن القرآن يبين أن الاسلام مبني على قضاء الفطرة الانسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الانسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت إليه ، وهي تقضى بأن التوحيد هو الاساس الذي يجب بناء القوانين الفردية والاجتماعية عليه ، وأن الدفاع

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 68 _
  عن هذا الاصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حق مشروع للانسانية يجب استيفائه بأى وسيلة ممكنة ، وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال ، فبدأ بالدعوة المجردة والصبر على الاذى في جنب الله ، ثم الدفاع عن بيضة الاسلام ونفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم ، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الانسانية وكلمة التوحيد ولم يبدأ بشيء من القتال الا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنة النبوية ، قال تعالى : ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل ـ 125 ، والآية مطلقة ، وقال تعالى : ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) الانفال ـ 42.
  وأما ما ذكروه من استلزامه الاكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء الانسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الافراد بعد البيان واقامة الحجة البالغة عليهم ، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فان المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت ولو انجر إلى القتال حتى يطيع وينقاد طوعا أو كرها.
  على ان الكره انما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل ، ثم التعليم والتربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري وكلمة التوحيد طوعا.
  وأما ما ذكروه : ان سائر الانبياء جروا على مجرد الدعوة والهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح وهود وصالح ( عليهم السلام ) فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كل جانب ، وكذلك كان عيسى ( عليه السلام ) أيام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإنما انتشرت دعوته وقبلت حجته في زمان طر والنسخ على شريعته وكان ذلك أيام طلوع الاسلام.
  على أن جمعا من الانبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة ، والقرآن يذكر طرفا منه ، قال تعالى : ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) آل عمران ـ 147 ، وقال تعالى ـ يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة ـ :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 69 _
  ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ، إلى أن قال : ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) إلى أن قال تعالى : ( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) المائدة ـ 24 ، وقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) البقرة ـ 246 ، إلى آخر قصة طالوت وجالوت.
  وقال تعالى في قصة سليمان وملكة سبأ : ( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ـ إلى أن قال تعالى ـ : ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) النمل ـ 37 ، ولم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله : ( فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا ) (إلخ) إلا قتالا ابتدائيا عن دعوة ابتدائية.

( بحث اجتماعي )
  لاريب أن الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الانسان وسائر الاجتماعات المختلفة النوعية التي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنما هو مبني على أساس الاحتياج الفطري الموجود فيها الذي يراد به حفظ الوجود والبقاء.
  وكما أن الفطرة والجبلة اعطتها حق التصرف في كل ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود والبقاء كالانسان يتصرف في الجماد والنبات والحيوان حتى في الانسان بأي وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقا في ذلك وإن زاحم حقوق غيره من الحيوان وكمال غيره من النبات والجماد ، وكأنواع الحيوان في تصرفاتها في غيرها وإذعانها بأن لها حقا في ذلك كذلك أعطتها حق الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان لا يتم حق التصرف بدون حق الدفاع فالدار دار التزاحم ، والناموس ناموس التنازع في البقاء ، فكل نوع يحفظ وجوده وبقائه بالشعور والحركة يرى لنفسه حق الدفاع عن حقوقه بالفطرة ويذعن بأن ذلك مباح له كما يذعن بإباحه تصرفه المذكور ، ويدل على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان : من انها تتوسل عند التنازع بأدواتها البدنية الصالحة لان تستعمل في الدفاع كالقرون والانياب والمخالب والاظلاف والشوك والمنقار وغير ذلك ، وبعضها الذي لم يتسلح بشيء من هذه الاسلحة الطبيعية القوية

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 70 _
  تستريح إلى الفرار إو الاستتار اوالخمود كبعض الصيد والسلحفاة وبعض الحشرات ، وبعضها الذي يقدر على إعمال الحيل والمكائد ربما اخذ بها في الدفاع كالقرد والدب والثعلب وأمثالها.
  والانسان من بين بالشعور الفكري الذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرف للانتفاع ، وله فطرة كسائر الانواع ، ولفطرته قضاوة وحكم ، ومن حكمها أن للانسان حقا في التصرف ، وحقا في الدفاع عن حقه الفطري ، وهذا الحق الذي يذعن به الانسان بفطرته هو الذي يبعثه نحو المقاتلة والمقارعة في جميع الموارد التي يهم بها فيها في الاجتماع الانساني دون حكم الاستخدام الذي يحكم به حكما اوليا فطريا فيستخدم به كل ما يمكنه ان يستخدمه في طريق منافعه الحيوية فإن هذا الحكم معدل بالاجتماع إذ الانسان إذا احس بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثم علم بأن سائر الافراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطر إلى المصالحة والموافقة على التمدن والعدل الاجتماعي بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه ويعدله الاجتماع بتعديله .
  ومن هنا يعلم : ان الانسان لا يستند في شيء من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام والاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإن هذا حكم مطلق نسخه الانسان بنفسه عند أول وروده في الاجتماع واعترف بإنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره إلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه ، بل إنما يستند في ذلك إلى حق الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقا ثم يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه.
  فكل قتال دفاع في الحقيقة حتى أن الفاتحين من الملوك والمتغلبين من الدول يفرضون لانفسهم نوعا من الحق كحق الحاكمية ولياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الارض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس وسفك الدماء وفساد الارض وإهلاك الحرث والنسل.
  فقد تبين : أن الدفاع عن حقوق الانسانية حق مشروع فطري مباح الاستيفاء للانسان نعم لما كان هذا حقا مطلوبا لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الاهميه فلا يقدم على الدفاع إلا إذا كان ما يفوت الانسان بالدفاع من المنافع هو دون الحق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 71 _
  الضائع المستنقذ في الاهمية الحيوية ، وقد أثبت القرآن أن أهم حقوق الانسانية هو التوحيد والقوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الانساني على أن أهم حقوقها هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الانساني التي تحفظ منافع الافراد في حياتهم.
  ( بحث روائي )
  في المجمع عن ابن عباس في قوله تعالى : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) الآية ، نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفا واربعمأه فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدى بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه ويعود العام القابل ويخلو له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم ، وكره رسول الله قتالهم في الشهر احرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية.
  أقول : وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عن ابن عباس وغيره.
  وفي المجمع أيضا عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت : ( اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ فنسخت هذه ) الآية.
  أقول : وهذا اجتهاد منهما وقد عرفت أن الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل تعميم الحكم بعد خصوصه.
  وفي المجمع في قوله تعالى : ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله سبحانه : أن الفتنة في الدين ـ وهو الشرك ـ إعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان غير جائز.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 72 _
  اقول : وقد عرفت : ان ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة انها نزلت دفعة واحدة.
  وفي الدر المنثور في قوله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) الآية ، بطرق عن قتادة ، قال : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله .
  قال : حتى يقال : لا إله إلا الله ، عليها قاتل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واليها دعا ، وذكر لنا : ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يقول : إن الله أمرني ان أقاتل الناس حتى : يقولوا : لا إله إلا الله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ، قال : وإن الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله يقاتل حتى يقول : لا إله إلا الله.
  اقول : قوله : وإن الظالم من قول قتادة ، استفاد ذلك من قول النبي وهي استفادة حسنة ، وروي نظير ذلك عن عكرمة وفي الدر المنثور أيضا أخرج البخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر : إنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فما يمنعك ان تخرج ؟ قال : يمنعني : أن الله حرم دم أخي : قالا : ألم يقل الله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ؟ قال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون ان تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
  اقول : وقد أخطأ في معنى الفتنة وأخطأ السائلان ، وقد مر بيانه ، وانما المورد من مصاديق الفساد في الارض أو الاقتتال عن بغي ولا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه .
  وفي المجمع في قوله تعالى :( اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) قال أي شرك ، قال : وهو المروي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ).
  وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ) عن العلاء بن الفضيل ، قال : سئلته عن المشركين أيبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام ؟ قال إذا كان المشركون ابتدئوهم باستحلاهم ، ـ رأى المسلمون بما انهم يظهرون عليهم فيه ، وذلك قوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 73 _
  وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير والنحاس في ناسخه عن جابر بن عبد الله قال : لم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى ، ويغزو فإذا حضره قام حتى ينسلخ .
  وفي الكافي عن معاوية بن عمار قال : سئلت أبا عبد الله عن رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم فقال( عليه السلام ) لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد قال قلت : فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق ؟ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقام عليه الحد في الحرم لانه لم ير للحرم حرمة ، وقد قال الله : عز وجل : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) ـ فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان إلا على الظالمين.
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى :( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ، قال : لوان رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق ، أليس الله يقول : ( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ، يعني المقتصدين !
  وروى الصدوق عن ثابت بن أنس ، قال : قال رسول الله : طاعة السلطان واجبة ، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله ، ودخل في نهيه يقول الله :( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) .
  وفي الدر المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران ، قال كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا سبحان الله : يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب ، صاحب رسول الله : فقال : يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الانصار ، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد اعز الاسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيه ، يرد علينا ما قلنا : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الاقامة في الاموال وإصلاحها وتركنا .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 74 _
  الغزو.
  اقول : واختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيد ما ذكرناه : أن الآية مطلقة تشمل جانبي الافراط والتفريط في الانفاق جميعا بل تعم الانفاق وغيره.
  ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 75 _
  سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )
  ( بيان )
  نزلت الآيات في حجة الوداع ، آخر حجة حجها رسول الله ، وفيها تشريع حج التمتع.
  قوله تعالى : ( وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) ، تمام الشئ هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشئ يكون الشئ هو هو ، ويترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالاتمام هو ضم تمام الشئ إليه بعد الشروع في بعض أجزائه ، والكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشئ ترتب عليه من الاثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لو لا الكمال ، فانضمام أجزاء الانسان بعضها إلى بعض هو تمامه ، وكونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا كماله ، وربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشئ داخلا فيه اهتماما بأمره وشأنه ، والمراد بإتمام الحج والعمرة هو المعنى الاول الحقيقي والدليل عليه قوله تعالى بعده : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ، فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه وضمه إلى أجزائه الماتي بها بعد الشروع ولا معنى يصحح تفريعه على الاتمام بمعنى الاكمال وهو ظاهر .
  والحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) وكان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الامة شريعة باقية إلى يوم القيامة.
  ويبتدي هذا العمل بالاحرام والوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام ، وفيها التضحية بمنى ورمى الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة وفيها أمور مفروضة أخر ، وهو على ثلاثة أقسام : حج الافراد ، وحج القران ، وحج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله.