فداك ما يتحدث به عندنا أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صام تسعة وعشرين أكثر مما صام ثلثين أحق هذا ؟ قال ما خلق الله من هذا حرفا فما صام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا ثلاثين لان الله يقول : ولتكملوا العدة فكان رسول الله ينقصه .
  اقول : قوله : فكان رسول الله في مقام الاستفهام الانكاري ، والرواية تدل على ما قدمناه : أن ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان .
  وفي محاسن البرقي عن بعض أصحابنا رفعه في قوله : ولتكبروا الله على ما هداكم قال : التكبير التعظيم ، والهداية الولاية .
  اقول : وقوله : والهداية الولاية من باب الجرى وبيان المصداق : ويمكن أن يكون من قبيل ما يسمى تأويلا كما ورد في بعض الروايات أن اليسر هو الولاية ، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله.
  وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبد الله ، قال : سئلته عن قول الله عز وجل : شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ، وإنما انزل في عشرين بين أوله وآخره فقال إبو عبد الله : نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة ، ثم قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نزلت صحف ابراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وانزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وانزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان .
  اقول : ما رواه ( عليه السلام ) عن النبي رواه السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن وائلة بن الاسقع عن النبي .
  وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عن ليلة القدر فقال اخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل سنة ؟ فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن .
  وفي الدر المنثور عن ابن عباس ، قال : شهر رمضان والليلة المباركة وليلة القدر فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثم نزل على محمد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 30 _

  ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد ذلك في الامر والنهي وفي الحروب رسلا رسلا .
  اقول : وروي هذا المعنى عن غيره أيضا كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنه إنما استفاد ذلك من الآيات القرآنية كقوله تعالى : ( وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) آل عمران ـ 58 ، وفي قوله تعالى : ( وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) الطور ـ 5 ، وقوله تعالى : ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة ـ 79 ، وقوله تعالى : ( وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ) السجدة ـ 12 ، وجميع ذلك ظاهر إلا ما ذكره في مواقع وانه السماء الاولى وموطن القرآن فإن فيه خفاء ، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك ، وقد ورد من طرق أهل البيت أن البيت المعمور في السماء ، وسيجئ الكلام فيه في محله إنشاء الله تعالى ، ومما يجب أن يعلم ان الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه ، والكلام على الاشارة والرمز شائع فيه ، ولا سيما في امثال هذه الحقائق : من اللوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور ، فمما يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن .
   ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) ـ 186 .
( بيان )
  قوله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ، أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرق اسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة ونحوها ، وفيه دلالة على كمال العناية ، بالامر ، ثم قوله : عبادي ، ولم يقل : الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية ، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال : فإني قريب ولم يقل : فقل إنه قريب ، ثم التأكيد بإن ثم الاتيان بالصفة دون الفعل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 31 _
  الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب ودوامه ، ثم الدلالة على تجدد الاجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما ، ثم تقييده الجواب أعني قوله : أجيب دعوة الداع بقوله : إذا دعان ، وهذا القيد لا يزيد على قوله : دعوة الداع المقيد به شيئا بل هو عينه ، وفيه دلالة على أن دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن ـ 60 ، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها ، مع كون الآية قد كرر فيها ـ على إيجازها ـ ضمير المتكلم سبع مرات ، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف .
  والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي ، والسؤال جلب فائدة أو در من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره ، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره .
  ثم إن العبودية كما مر سابقا هي المملوكية ولا كل مملوكية بل مملوكية الانسان فالعبد هو من الانسان أو كل ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى .
  وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجد مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنه تعالى يملك عباده ملكا طلقا محيطا بهم لا يستقلون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والافعال وساير ما ينسب إليهم من الازواج والاولاد والمال والجاه وغيرها ، فكل ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الانحاء كما في قولنا : نفسه ، وبدنه ، وسمعه ، وبصره ، وفعله ، واثره ، وهى أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا : زوجه وماله وجاهه وحقه وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار ـ إنما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أياما كان وتمليكه فالله عز اسمه ، هو الذي اضاف نفوسهم واعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس ، وهو الذي جعل لهم السمع والابصار والافئدة ، وهو الذي خلق كل شيء وقدره تقديرا .
  فهو سبحانه الحائل بين الشئ ونفسه ، وهو الحائل بين الشئ وبين كل ما يقارنه : من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو اقرب إلى خلقه من كل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 32_
  شئ مفروض فهو سبحانه قريب على الاطلاق كما قال تعالى : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ) الواقعة ـ 85 ، وقال تعالى : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق ـ 16 ، وقال تعالى : ( أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) الانفال ـ 24 ، والقلب هو النفس المدركة .
  وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكا حقيقيا وكونهم عبادا له هو الموجب لكونه تعالى قريبا منهم على الاطلاق واقرب إليهم من كل شيء عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي ان لله سبحانه ان يجيب اي دعاء دعى به احد من خلقه ويرفع بالاعطاء والتصرف حاجته التي سأله فيها فان الملك عام ، والسلطان والاحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود : ان الله لما خلق الاشياء وقدر التقادير تم الامر ، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء ، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لان الامر مفروغ عنه ، ولا كما يقوله جماعة من هذه الامة : ان لا صنع لله في افعال عباده وهم القدرية الذين سماهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مجوس هذه الامة فيما رواه الفريقان من قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : القدرية مجوس هذه الامة .
  بل الملك لله سبحانه على الاطلاق ولا يملك شيء شيئا الا بتمليك منه سبحانه واذن فما شائه وملكه واذن في وقوعه ، يقع ، وما لم يشأ ولم يملك ولم يأذن فيه لا يقع وان بذل في طريق وقوعه كل جهد وعناية ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر ـ 15 .
  فقد تبين : ان قوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، كما يشتمل على الحكم اعني اجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عبادا لله تعالى هو الموجب لقربه منهم ، وقربه منهم هو الموجب لاجابته المطلقة لدعائهم ، واطلاق الاجابة يستلزم اطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به فانه مجيبه الا ان ههنا امرا وهو انه تعالى قيد قوله : اجيب دعوة الداع بقوله إذا دعان ، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشيء يدل على اشتراط الحقيقة دون التجوز والشبه ، فان قولنا : اصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو اكرم العالم إذا كان عالما يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة ، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 33 _
  يجب الاصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقق بعلمه وعمل بما علم كان هو الذي يجب إكرامه فقوله تعالى إذا دعان ، يدل على أن وعد الاجابة المطلقة ، إنما هو إذا كان الداعي داعيا بحسب الحقيقة مريدا بحسب العلم الفطري والغريزي مواطئا لسانه قلبه ، فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة ، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقا أو كذبا جدا أو هزلا حقيقة أو مجازا ، ولذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالا ، قال تعالى : ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) ابراهيم ـ 34 ، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر ، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لسانا فطريا وجوديا ، وقال تعالى : ( يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) الرحمن ـ 29 ، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح .
  فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الاجابة ، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الاجابة فقد فقد أحد امرين وهما اللذان ذكرهما بقوله : دعوة الداع إذا دعان .
  فإما أن يكون لم يتحقق هناك دعاء ، وانما التبس الامر على الداعي التباسا كان يدعو الانسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الامر مثل ان يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميت ، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الانبياء لاعيدت حياته ولكنه على يأس من ذلك ، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه .
  وإما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلق بالاسباب العادية أو بامور وهمية توهمها كافية في امره أو مؤثرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره ، لا من يعمل بشركة الاسباب والاوهام ، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم .
  فهذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية ، وبه يظهر معاني سائر الآيات

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 34 _
  النازلة في هذا الباب كقوله تعالى : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) الفرقان ـ 77 ، وقوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) الانعام ـ 41 ، وقوله تعالى : (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِن أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ) الانعام ـ 64 ، فالآيات دالة على أن للانسان دعاء غريزيا وسؤالا فطريا يسأل به ربه ، غير انه إذا كان في رخاء ورفاه تعلقت نفسه بالاسباب فأشركها لربه ، فالتبس عليه الامر وزعم أنه لا يدعو ربه ولا يسأل عنه ، مع انه لا يسأل غيره فإنه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى ، ولما وقع الشدة وطارت الاسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبين له ان لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلا الله ، فعاد إلى توحيده الفطري ونسي كل سبب من الاسباب ، ووجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته وقضى حاجته واظله بالرخاء ، ثم إذا تلبس به ثانيا عاد إلى ما كان عليه أولا من الشرك والنسيان .
  وكقوله تعالى : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) المؤمن ـ 60 ، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالاجابة وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها : عن عبادتي أي عن دعائي ، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث انها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار انما هو على ترك العبادة رأسا لا على ترك بعض اقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك .
  وبذلك يظهر معنى آيات اخر من هذا الباب كقوله تعالى : ( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن ـ 14 ، وقوله تعالى : ( إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) الاعراف ـ 56 ، وقوله تعالى : ( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) الانبياء ـ 90 ، وقوله تعالى : ( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الاعراف ـ 55 ، وقوله تعالى : ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا *قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) مريم ـ 4 ، وقوله تعالى : ( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) الشورى ـ 26 ، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة ، وهي تشتمل على

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 35 _
  اركان الدعاء وآداب الداعي ، وعمدتها الاخلاص في دعائه تعالى وهو مواطات القلب اللسان والانقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى ، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والاصرار والذكر وصالح العمل والايمان وأدب الحضور وغير ذلك مما تشتمل عليه الروايات .
  قوله تعالى : ( فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ) ، تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام : ان الله تعالى قريب من عباده ، لا يحول بينه وبين دعائهم شيء ، وهو ذو عناية بهم وبما يسئلونه منه ، فهو يدعوهم إلى دعائه ، وصفته هذه الصفة ، فليستجيبوا له في هذه الدعوة ، وليقبلوا إليه ، وليؤمنوا به في هذا النعت ، وليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه .

( بحث روائي )
  عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيما رواه الفريقان : الدعاء سلاح المؤمن ، وفي عدة الداعي في الحديث القدسي : يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك .
  وفي المكارم عنه ( عليه السلام ) الدعاء افضل من قرائة القرآن لان الله عز وجل قال : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) ، وروي ذلك عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) .
  وفي عدة الداعي في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : أوحى الله إلى بعض انبيائه في بعض وحيه : وعزتي وجلالي لاقطعن امل كل آمل امل غيري بالاياس ولاكسونه ثوب المذلة في الناس ولابعدنه من فرجي وفضلي ، ايأمل عبدي في الشدائد غيري ، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد ، بيدي مفاتيح الابواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني ؟ الحديث .
  وفي عدة الداعي ايضا عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : قال الله : ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني الا قطعت اسباب السموات واسباب الارض من دونه فان سئلني لم أعطه وان دعاني لم أجبه ، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي الا ضمنت السموات والارض

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 36 _
  رزقه ، فإن دعاني اجبته وان سألني اعطيته وان استغفرني غفرت له .
  اقول : وما اشتمل عليه الحديثان هو الاخلاص في الدعاء وليس إبطالا لسببية الاسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الاشياء وبين حوائجها الوجودية لا عللا فياضة مستقلة دون الله سبحانه ، وللانسان شعور باطني بذلك فانه يشعر بفطرته ان لحاجته سببا معطيا لا يتخلف عنه فعله ، ويشعر ايضا ان كل ما يتوجه إليه من الاسباب الظاهرية يمكن ان يتخلف عنه اثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتدئ عنه كل امر ، والركن الذي يعتمد عليه ويركن إليه كل حاجة في تحققها ووجودها غير هذه الاسباب ولازم ذلك ان لا يركن الركون التام إلى شيء من هذه الاسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي ويعتصم بذلك السبب الظاهري ، والانسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجه والتفات فإذا سئل أو طلب شيئا من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك انه سئل ربه واتصل حاجته ، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الاسباب إلى ربه فاستفاض منه ، وإذا طلب ذلك من سبب من الاسباب فليس ذلك من شعور فطري باطني وانما هو امر صوره له تخيله لعلل اوجبت هذا التخيل من غير شعور باطني بالحاجة ، وهذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر .
  ونظير ذلك : ان الانسان كثيرا ما يحب شيئا ويهتم به حتى إذا وقع وجده ضارا بما هو أنفع منه واهم واحب فترك الاول وأخذ بالثاني ، وربما هرب من شيء حتى إذا صادفه وجده أنفع وخيرا مما كان يتحفظ به فأخذ الاول وترك الثاني ، فالصبي المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحة ، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحه فيسأل الدواء وان كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه ، فللانسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري والشعور الباطني وله نظام آخر بحسب تخيله والنظام الفطري لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط ، واما النظام التخيلي فكثيرا ما يقع فيه الخطاء والسهو ، فربما سأل الانسان أو طلب بحسب الصورة الخيالية شيئا ، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه ، فعلى هذا ينبغي أن يقرر معنى الاحاديث ، وهو اللائح من قول علي ( عليه السلام ) فيما سيأتي : أن العطية على قدر النية الحديث .
  وفي عدة الداعي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ادعوا الله وانتم موقنون بالاجابة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 37 _
   وفي الحديث القدسي : أنا عند ظن عبدي بي ، فلا يظن بي إلا خيرا .
  اقول : وذلك ان الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم الؤال في الحقيقة ، كما مر ، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون .
  وفي العدة أيضا عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إفزعوا إلى الله في حوائجكم ، والجأوا إليه في ملماتكم ، وتضرعوا إليه وادعوه ، فإن الدعاء مخ العبادة ، وما من مؤمن يدعو الله الا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة ، واما أن يكفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم .
  وفي نهج البلاغة : في وصية له ( عليه السلام ) لابنه الحسين ( عليه السلام ) : ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما اذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئابيب رحمته ، فلا يقنطنك إبطاء إجابته ، فإن العطية على قدر النية ، وربما اخرت عنك الاجابة ليكون ذلك أعظم لاجر السائل ، واجزل لعطاء الامل ، وربما سألت الشئ فلا تؤتاه واوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته ، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، وينفي عنك وباله ، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له .
  اقول : قوله : فإن العطية على قدر النية يريد ( عليه السلام ) به : ان الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه ، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه ، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي احسن جملة واجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسأله والاجابة .
  وقد بين ( عليه السلام ) بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهرا كالابطاء في الاجابة ، وتبديل المسؤول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا ، أو بما هو خير منه في الآخرة ، أو صرفه إلى شيء آخر أصلح منه بحال السائل ، فإن السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة ولو اوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لان السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الاجابة على بطؤ ، وكذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك و يزعم ان فيه سعادته

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 38_
  وانما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لادنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا .
  وفي عدة الداعي عن الباقر ( عليه السلام ) ما بسط عبد يده إلى الله عز وجل إلا استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه ، وفي خبر آخر على وجهه وصدره .
  اقول : وقد روي في الدر المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان ، وجابر ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وابن أبي مغيث عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ثماني روايات ، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لانكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللا بأنه من التجسيم إذ رفع اليدين إلى السماء ايماء إلى أنه تعالى فيها ـ تعالى عن ذلك وتقدس .
  وهو قول فاسد ، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي والتوجه الباطني إلى موطن الصورة ، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم ، كما هو ظاهر في الصلوة والصوم والحج وغير ذلك وأجزائها وشرائطها ، ولو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية ، ومنها الدعاء ، وهو تمثيل التوجه القلبي والمسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط ، ويسأل حاجتة بالذلة والضراعة ، وقد روى الشيخ في المجالس وألاخبار مسندا عن محمد وزيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين ( عليه السلام ) عن النبي ، وفي عدة الداعي مرسلا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين .
  وفي البحار عن علي ( عليه السلام ) أنه سمع رجلا يقول : اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ، قال ( عليه السلام ) : أراك تتعوذ من مالك وولدك ، يقول الله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ولكن قل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن .
  اقول : وهذاباب آخر في تشخيص معنى اللفظ وله نظائر في الروايات ، وفيها : أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه ، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسيرمعنى الجزء والكثير وغير ذلك .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 39 _
  وفي عدة الداعي عن الصادق ( عليه السلام ) : إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه .
  وفي العدة أيضا عن علي ( عليه السلام ) لا يقبل الله دعاء قلب لاه ، اقول : وفي هذا المعنى روايات أخر ، والسر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللهو .
  وفي دعوات الراوندي : في التوراة يقول الله عز وجل للعبد : إنك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من اجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك ، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة .
  اقول : وذلك أن من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات ، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لاجل ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم ، وإذا كان هو نفسه ظالما لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبدا عوقب بما يريده على غيره ، وإن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة ، قال تعالى : ( وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً ) الاسراء ـ 11 .
  وفي عدة الداعي : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لابي ذر :
  يا ابا ذر ألا اعلمك كلمات ينفعك الله عز وجل بهن ؟ قلت بلى يا رسول الله ، قال لى الله عليه واله وسلم : احفظ الله يحفظك الله ، احفظ الله تجده امامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ولو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه .
  اقول : قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة : يعني : ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب دعائك في الشدة ولا ينساك ، وذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الاسباب في الرخاء ، ثم إذا دعا ربه في الشدة كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة وعلى تقديرها ، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال وعلى جميع التقادير ، فهو لم يدع ربه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر ، ففي مكارم الاخلاق عن الصادق ( عليه السلام ) قال ( عليه السلام ) من تقدم في الدعاء أستجيب له إذا نزل البلاء ، وقيل : صوت معروف ، ولم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 40 _
  يحجب عن السماء ، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة : ان ذا الصوت لا نعرفه الحديث ، وهو المستفاد من اطلاق قوله تعالى : ( نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة ـ 67 ، ولا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع ، فإن مطلق الشدة غير الانقطاع التام .
  وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وإذا سئلت فأسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، ارشاد إلى التعلق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الاسباب العادية التي بين أيدينا انما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها الا الطريقية والوساطة في الايصال ، والامر بيد الله تعالى ، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب ، وإن كان أبي الله ان يجري الامور الا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الاسباب الا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى الغاء الاسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه ، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب ، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكل ذلك اسباب ؟
  واعتبر ذلك بالانسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باذنه فمن يسأل ربه بإلغاء الاسباب كان كمن سأل الانسان أن يناوله شيئا من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير أذن ، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلق قلبه بيد الانسان في اعطائه أو بعينه في نظرها أو باذنه في سمعها وهو غافل معرض عن الانسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل ، وليس ذلك تقييدا للقدرة الالهية غير المتناهية ولا سلبا للاختيار الواجبي ، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الانسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه ، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل ، إذ من الضروري أن الانسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون الاباليد ، والرؤية والسمع هما اللذان يكونان بالعين والاذن لا مطلقا ، كذلك الواجب تعالى قادر على الاطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الاسباب فزيد مثلا وهو فعل لله هو الانسان الذي ولده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا ، لو تخلف واحد من هذه العلل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 41 _
  والشرائط لم يكن هو هو ، فهو في ايجاده يتوقف على تحقق جميعها ، والمتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك .
  وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، تفريع على قوله : وإذا سألت فاسأل الله ، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله : وإذا سألت وسببه ، والمعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الاسباب فيها حقيقة ، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى ، وأما هو تعالى : فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيته نافذة وكل يوم هو في شأن ، ولذلك عقب الجملة بقوله : ولو أن الخلق كلهم جهدوا الخ.
  ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضا : ان الدعاء من القدر .
  اقول : وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء : ان الحاجة المدعو لها اما ان تكون مقضية مقدرة اولا ، وهي على الاول واجبة وعلى الثاني ممتنعة ، وعلى أي حال لا معني لتأثير الدعاء ، والجواب : أن فرض تقدير وجود الشئ لا يوجب استغنائه عن اسباب وجوده ، والدعاء من اسباب وجود الشئ فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه ، وهذا هو المراد بقولهم : ان الدعاء من القدر ، وفي هذا المعنى روايات اخر .
  ففي البحار عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لايرد القضاء الا الدعاء .
  وعن الصادق ( عليه السلام ) : الدعاء يرد القضاء بعد ماأبرم ابراما .
  وعن أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) : عليكم بالدعاء فإن الدعاء والطلب إلى الله عز وجل يرد البلاء ، وقد قدر وقضى فلم يبق الا امضائه فإذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفا .
  وعن الصادق ( عليه السلام ) ان الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أبرم ابراما ـ فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله الا بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه الا أوشك أن يفتح لصاحبه .
  اقول : وفيها اشارة إلى الاصرار وهو من محققات الدعاء ، فان كثرة الاتيان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 42 _
  بالقصد يوجب صفائه .
  وعن اسماعيل بن همام عن أبي الحسن ( عليه السلام ) : دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية .
  اقول : وفيها اشارة إلى اخفاء الدعاء واسراره فإنه أحفظ لاخلاص الطلب .
  وفي المكارم عن الصادق ( عليه السلام ) : لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلي على محمد وآل محمد
  وعن الصادق ( عليه السلام ) ايضا ، من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا أستجيب له .
  وعن الصادق ( عليه السلام ) أيضا ـ وقد قال لرجل من اصحابه أني لاجد آيتين في كتاب الله اطلبهما فلا اجدهما ـ قال : فقال : وماهما ؟ قلت : ادعوني استجب لكم فندعوه فلا نرى اجابة ، قال افترى الله اخلف وعده؟ قلت : لا ، قال : فمه ؟ قلت : لا ادري قال : لكني أخبرك من أطاع الله فيما امر به ثم دعاه من جهه الدعاء اجابه ، قلت : وما جهة الدعاء ؟ قال : تبدأ فتحمد الله وتمجده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلي على محمد وآله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها ، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء ، ثم قال : وما الآية الاخرى ؟ قلت : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وأرانى أنفق ولا أرى خلفا ، قال : ا فترى الله اخلف وعده ؟ قلت : لا ، قال : فمه ؟ قلت : لا أدرى ، قال : لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وانفق في حقه لم ينفق درهما الا اخلف الله عليه .
  اقول : والوجه في هذه الاحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء والمسألة .
  وفي الدر المنثور عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ان الله إذا اراد ان يستجيب لعبد اذن له في الدعاء وعن ابن عمر ايضا عنه صلى عليه وآله وسلم : من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له ابواب الرحمة ، وفي رواية من فتح له في الدعاء منكم فتحت له ابواب الجنة .
  اقول : وهذه المعنى مروي من طرق ائمة اهل البيت ايضا : من أعطي الدعاء أعطي الاجابة ، ومعناه واضح مما مر .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 43 _
  وفي الدر المنثور أيضا عن معاذ بن جبل عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال .
  اقول : وذلك ان الجهل بمقام الحق وسلطان الربوبية والركون إلى الاسباب يوجب الاذعان بحقيقة التأثير للاسباب وقصر المعلولات على عللها المعهودة واسبابها العادية حتى ان الانسان ربما زال عن الاذعان بحقيقة التأثير للاسباب لكن يبقى الاذعان بتعين الطرق ووساطة الاسباب المتوسطة فإنا نرى ان الحركة والسير يوجب الاقتراب من المقصد ثم إذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بان السير واسطة والله سبحانه وتعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة وانه لو لا السير لم يكن قرب ولا اقتراب ، وبالجملة ان المسببات لا تتخلف عن اسبابها وان لم يكن للاسباب الا الوساطة دون التأثير ، وهذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله سبحانه فإنه لا يلائم السلطنة التامة الالهية ، وهذا التوهم هو الذي اوجب ان نعتقد استحالة تخلف المسببات عن اسبابها العادية كالثقل والانجذاب عن الجسم ، والقرب عن الحركة ، والشبع عن الاكل ، والرى عن الشرب ، وهكذا ، وقد مر في البحث عن الاعجاز ان ناموس العلية والمعلولية ، وبعبارة أخرى توسط الاسباب بين الله سبحانه وبين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على اسبابها العادية بل البحث العقلي النظري ، والكتاب والسنة تثبت اصل التوسط وتبطل الانحصار ، نعم المحالات العقلية لا مطمع فيها .
  إذا عرفت هذا علمت : ان العلم بالله يوجب الاذعان بان ما ليس بمحال ذاتي من كل ما تحيله العادة فإن الدعاء مستجاب فيه كما ان العمدة من معجزات الانبياء راجعة إلى استجابة الدعوة .
  وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى :
  فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي يعلمون اني اقدر ان أعطيهم ما يسألوني .
  وفي المجمع ، قال : وروي عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) انه قال : وليؤمنوا بي اي وليتحققوا اني قادر على اعطائهم ما سألوه لعلهم يرشدون ، اي لعلهم يصيبون الحق ، أي يهتدون إليه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 44 _
  ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفى عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) ـ 187 .
( بيان )
  قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ) ، الاحلال بمعنى الاجازة ، وأصله من الحل مقابل العقد ، والرفث هوالتصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره ، من الالفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء ، وقد كني به هيهنا عن عمل الجماع وهو من أدب القرآن الكريم وكذا سائر الالفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمس واللمس والاتيان والقرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية ، وكذا لفظ الوطئ والجماع وغيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية وإن اخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إلى التصريح ، كما ان الفاظ الفرج والغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل ، وتعدية الرفث بألى لتضمينه معنى الافضاء على ما قيل .
  قوله تعالى : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) ، الظاهر من اللباس معناه المعروف ، وهو ما يستر به الانسان بدنة ، والجملتان من قبيل الاستعارة فإن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور وإشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباسا يواري به سوأته ويستر به عورته .
  وهذه استعارة لطيفة ، وتزيد لطفا بانضمامها إلى قوله : احل لكم ليلة الصيام

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 45 _
  الرفث إلى نسائكم ، فإن الانسان يستر عورته عن غيره باللباس ، وأما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقى به صاحبه عن الرفث إلى غيره ، واما الرفث إليه فلا لانه لباسه المتصل بنفسه المباشر له .
  قوله تعالى : ( عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ) ، الاختيان والخيانة بمعنى ، وفيه معنى النقص على ما قيل وفي قوله : انكم تختانون ، دلالة على معنى الاستمرار ، فتدل الآية على ان هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سرا بالخيانة لانفسهم ، ولو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة والعفو ، وهما وان لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما ، وخاصة إذا اجتمعا ، ظاهران في ذلك .
  وعلي هذا فالآية دالة على ان حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام ، والآية بنزولها شرعت الحلية ونسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين ، ويشعر به أو يدل عليه قوله : أحل لكم ، وقوله : كنتم تختانون ، وقوله : فتاب عليكم وعفا عنكم ، وقوله : فالآن باشروهن ، إذ لو لا حرمة سابقة كان حق الكلام ان يقال : فلا جناح عليكم ان تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى ، وهو ظاهر .
  وربما يقال : ان الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الاكل والشرب ، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق اهل السنة والجماعة ، ان المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم وسمعوا قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) الآية ، فهموا منه التساوي في الاحكام من جميع الجهات ، وقد كانت النصارى كما قيل : إنما ينكحون ويأكلون ويشربون في اول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون ، غير ان ذلك صعب عليهم ، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سرا مع كونهم يرونه معصيه وخيانة لانفسهم ، والشيوخ ربما اجهدهم الكف عن الاكل والشرب بعد النوم ، وربما اخذ بعضهم النوم فحرم عليه الاكل والشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت ان النكاح والاكل والشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان ، وظهر بذلك : ان مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى : كما كتب على الذين من قبلكم التشبيه في اصل فرض الصوم لا في

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 46 _
  خصوصياته ، واما قوله تعالى : أحل لكم ، فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) المائدة ـ 96 ، إذ من المعلوم ان صيد البحر لم يكن محرما على المحرمين قبل نزول الآية ، وكذا قوله تعالى ( عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ) ، انما يعني به انهم كانوا يخونون بحسب زعمهم وحسبانهم ذلك خيانة ومعصية ولذا قال : تختانون انفسكم ولم يقل : تختانون الله كما قال : ( لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ) الانفال ـ 27 ، مع احتمال ان يراد بالاختيان النقص ، والمعنى علم الله انكم كنتم تنقصون انفسكم حظوظها من المشتهيات من نكاح وغيره ، وكذا قوله تعالى : فتاب عليكم وعفا عنكم ، غير صريح في كون النكاح معصية محرمة هذا .
  وفيه ما عرفت : ان ذلك خلاف ظاهر الآية فإن قوله تعالى : أحل لكم ، وقوله : كنتم تختانون انفسكم ، وقوله : فتاب عليكم وعفا عنكم ، وان لم تكن صريحة في النسخ غيران لها كمال الظهور في ذلك ، مضافا إلى قوله تعالى : فالآن باشروهن ( الخ ) ، إذ لو لم يكن هناك الا جواز مستمر قبل نزول الآية وبعدها لم يكن لهذا التعبير وجه ظاهر ، واما عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة فانها لم تبين سائر احكام الصوم ايضا مثل حرمة النكاح والاكل والشرب في نهار الصيام ، ومن المعلوم ان رسول الله كان قد بينه للمسلمين قبل نزول هذه الآية فلعله كان قد بين هذا الحكم فيما بينه من الاحكام ، والآية تنسخ ما بينه الرسول وان لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك .
  فإن قلت : قوله تعالى : هن لباس لكم وانتم لباس لهن ، يدل على سبب تشريع جواز الرفث فلا بد ان لا يعم الناسخ والمنسوخ لبشاعة ان يعلل النسخ بما يعم الناسخ والمنسوخ معا وان قلنا : ان هذه التعليلات الواقعة في موارد الاحكام حكم ومصالح لا علل ، ولا يلزم في الحكمة ان تكون جامعة ومانعة كالعلل فلو كان الرفث محرما قبل نزول الآية ثم نسخ بالآية المحللة لم يصلح تعليل نسخ التحريم بأن الرجال لباس للنساء وهن لباس لهم .
  قلت : اولا انه منقوض بتقييد قوله : أحل لكم بقوله : ليلة الصيام مع ان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 47 _
  حكم اللباس جار في النهار كالليل وهو محرم في النهار ، وثانيا : ان القيود المأخوذة في الآية من قوله : ليلة الصيام ، وقوله : هن لباس لكم ، وقوله : انكم كنتم تختانون انفسكم ، تدل على علل ثلاث مترتبة يترتب عليها الحكم المنسوخ والناسخ فكون احد الزوجين لباسا للآخر يوجب ان يجوز الرفث بينهما مطلقا ، ثم حكم الصيام المشار إليه بقوله : ليله الصيام ، والصيام هو الكف والامساك عن مشتهيات النفس من الاكل والشرب والنكاح يوجب تقييد جواز الرفث وصرفه إلى غير مورد الصيام ، ثم صعوبة كف النفس عن النكاح شهرا كاملا عليهم ووقوعهم في معصية مستمرة وخيانة جارية يوجب تسهيلا ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلا ، وبذلك يعود اطلاق حكم اللباس المقيد بالصيام إلى بعض اطلاقه وهو ان يعمل به ليلا لا نهارا ، والمعنى والله اعلم : ان اطلاق حكم اللباس الذي قيدناه بالصيام ليلا ونهارا وحرمناه عليكم حللناه لكم لما علمنا انكم تختانون انفسكم فيه واردنا التخفيف عنكم رأفة ورحمة ، واعدنا اطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام وقصرنا حكم الصيام على النهار فأتموا الصيام إلى الليل .
  والحاصل : ان قوله تعالى : هن لباس لكم وانتم لباس لهن ، وان كان علة أو حكمة لاحلال اصل الرفث الا ان الغرض في الآية ليس متوجها إليه بل الغرض فيها بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام وهو مجموع قوله : هن لباس لكم إلى قوله : وعفا عنكم ، وهذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ ولا يعم المنسوخ قطعا .
  قوله تعالى : ( فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ) ، امر واقع بعد الحضر فيدل على الجواز ، وقد سبقه قوله تعالى : في أول الآية احل لكم والمعنى فمن الآن تجوز لكم مباشرتهن ، والابتغاء هو الطلب ، والمراد بابتغاء ماكتب الله هو طلب الولد الذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الانساني من طريق المباشرة ، وفطرهم على طلبه بما أودع فيهم من شهوه النكاح والمباشرة ، وسخرهم بذلك على هذا العمل فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم وأن لم يقصدوا ظاهرا إلا ركوب الشهوة ونيل اللذة كما انه تعالى كتب لهم بقاء الحياة والنمو بالاكل والشرب وهو المطلوب الفطري وان لم يقصدوا بالاكل والشرب إلا الحصول على لذة الذوق والشبع والري ، فإنما هو تسخير إلهي .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 48 _
   واما ما قيل : ان المراد بما كتب الله لهم الحل والرخصة فإن الله يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه ، فيبعده : ان الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحلية والرخصة .
  قوله تعالى : ( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) ، الفجر فجران ، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل وبذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله ، وعمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الافق الشرقي إذا بلغت فاصلة الشمس من دائره الافق إلى ثمانية عشر درجة تحت الافق ، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضا مستطيلا على الافق كالخيط الابيض الممدود عليه وهو الفجر الثاني ويسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه ويخبر به من قدوم النهار واتصاله بطلوع الشمس .
  ومن هنا يعلم ان المراد بالخيط الابيض هو الفجر الصادق ، وان كلمة من ، بيانية وان قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الاسود من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الافق من الفجر ، المجاور لما يمتد معترضا معه من سواد الليل بخيط ابيض يتبين من الخيط الاسود .
  ومن هنا يعلم أيضا : ان المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق فإن ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط ابيض ولا خيط اسود .
  قوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ) ، لما دل التحديد بالفجر على وجوب الصيام إلى الليل بعد تبينه استغنى عن ذكره ايثارا للايجاز بل تعرض لتحديده بإتمامه إلى الليل ، وفي قوله : اتموا دلاله على انه واحد بسيط وعبادة واحدة تامة من غير ان تكون مركبة من أمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة ، وهذا هو الفرق بين التمام والكمال حيث ان الاول انتهاء وجود ما لا يتألف من اجزاء ذوات آثار والثاني انتهاء وجود ما لكل من اجزائه اثر مستقل وحده ، قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) المائدة ـ 3 ، فإن الدين مجموع الصلوة والصوم والحج وغيرها التي لكل منها اثر يستقل به ، بخلاف النعمة على ما سيجئ بيانه إنشاء الله في الكلام على الآية .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 49 _
   قوله تعالى : ( وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) ، العكوف والاعتكاف هو اللزوم والاعتكاف بالمكان الاقامة فيه ملازما له ، والاعتكاف عبادة خاصة من احكامها لزوم المسجد وعدم الخروج منه الا لعذر والصيام معه ، ولذلك صح ان يتوهم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى : ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد .
  قوله تعالى : ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) ، أصل الحد هو المنع واليه يرجع جميع استعمالاته واشتقاقاته كحد السيف وحد الفجور وحد الدار والحديد إلى غير ذلك ، والنهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها والتعدي إليها ، أي لا تقترفوا هذه المعاصي التي هي الاكل والشرب والمباشرة أو لا تتعدوا عن هذه الاحكام والحرمات الالهية التي بينها لكم وهي احكام الصوم بإضاعتها وترك التقوى فيها .
( بحث روائي )
  في تفسير القمي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : كان الاكل والنكاح محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرم عليه الافطار ، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان ، وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له خوات بن جبير الانصاري اخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه اصحابه وبقي في اثنى عشر رجلا فقتل على باب الشعب ، وكان اخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا ، وكان صائما مع رسول الله في الخندق ، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم طعام ؟ فقالوا : لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطات عليه اهله بالطعام فنام قبل ان يفطر ، فلما انتبه قال لاهله ، قد حرم على الاكل في هذه الليلة فلما اصبح حضر حفر الخندق فاغمى عليه فرآه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرق له وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية ، فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل من شهر رمضان ، والاكل بعد النوم إلى طلوع الفجر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 50 _
  لقوله : حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ، قال : هو بياض النهار من سواد الليل .
  اقول : وقوله : يعني إلى قوله : وكان رجل ، من كلام الراوي ، وهذا المعنى مروي بروايات أخرى ، رواها الكليني والعياشي وغيرهما ، وفي جميعها ان سبب نزول قوله : وكلوا واشربوا ( الخ ) إنما هو قصة خوات بن جبير الانصاري وان سبب نزول قوله : أحل لكم ( الخ ) ، ماكان يفعله الشبان من المسلمين .
  وفي الدر المنثور عن عدة من اصحاب التفسير والرواية عن البراء بن عازب قال : كان اصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا كان الرجل صائما فحضر الافطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الانصاري كان صائما فكان يومه ذاك يعمل في ارضه فلما حضر الافطار اتى امرأته فقال : هل عندك طعام ؟ قالت : لا ولكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجائت امرأته فلما رأته نائما قالت : خيبة لك ، أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنزلت هذه الآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث ، إلى قوله : من الفجر ففرحوا بها فرحا شديدا .
  اقول : وروي بطرق أخر القصة وفي بعضها أبو قبيس بن صرمة وفي بعضها صرمه بن مالك الانصاري على اختلاف ما في القصة .
  وفي الدر المنثور أيضا : واخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس : ان المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء ـ حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله احل لكم ليلة الصيام ، إلى قوله : فالآن باشروهن يعني انكحوهن .
  اقول : والروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة وفي أكثرها اسم من عمر ، وهي متحدة في ان حكم النكاح بالليل كحكم الاكل والشرب وأنها جميعا كانت محللة قبل النوم محرمة بعده ، وظاهر ما أوردناه من الرواية الاولى ان النكاح كان محرما في شهر رمضان بالليل والنهار جميعا بخلاف الاكل والشرب فقد كانا محللين في اول الليل قبل النوم محرمين بعده ، وسياق الآية يساعده فإن النكاح لو كان مثل الاكل والشرب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 51 _
  محللا قبل النوم محرما بعده كان الواجب في اللفظ ان يقيد بالغاية كما صنع ذلك بقوله : كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض الخ ، وقد قال تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث ، ولم يأت بقيد يدل على الغاية ، وكذا ما اشتمل عليه بعض الروايات : ان الخيانة ما كانت تختص بالنكاح بل كانوا يختانون في الاكل والشرب أيضا لا يوافق ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله : علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم ( الخ ) ، قبل قوله : كلوا واشربوا .
  وفي الدر المنثور أيضا : ان رسول الله قال : الفجر فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه ، واما المستطيل الذي يأخذ الافق فإنه يحل الصلوة ويحرم الطعام .
  اقول : والروايات في هذا المعنى مستفيضة من طرق العامة والخاصة وكذا الروايات في الاعتكاف وحرمة الجماع فيه
  ( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ـ 188 .
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) ، المراد بالاكل الاخذ أو مطلق التصرف مجازا ، والمصحح لهذا الاطلاق المجازي كون الاكل أقرب الافعال الطبيعية التي يحتاج الانسان إلى فعلها وأقدمها فالانسان أول ما ينشاء وجوده يدرك حاجته إلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس والمسكن والنكاح ونحو ذلك ، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه ، ولذلك كان تسمية التصرف والاخذ ، وخاصة في مورد الاموال ، أكلا لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات .
  والمال ما يتعلق به الرغبات من الملك ، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 52 _
  إليه القلب ، والبين هو الفصل الذي يضاف إلى شيئين فأزيد ، والباطل يقابل الحق الذي هو الامر الثابت بنحو من الثبوت .
  وفي تقييد الحكم ، أعني قوله : ولا تأكلوا اموالكم ، بقوله : بينكم ، دلالة على ان جميع الاموال لجميع الناس وإنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا كان باطلا ، فالآية كالشارحة لاطلاق قوله تعالى : خلق لكم ما في الارض جميعا وفي إضافته الاموال إلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الانساني من اعتبار أصل الملك واحترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الارض على ما يذكره النقل والتاريخ ، وقد ذكر هذا الاصل في القرآن بلفظ الملك والمال ولام الملك والاستخلاف وغيرها في أزيد من مأة مورد ولا حاجه إلى إيرادها في هذا الموضع ، وكذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع والتجارة ونحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) البقره ـ 275 ، و قوله تعالى : ( لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ ) النساء ـ 29 ، وقوله تعالى : ( تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ) التوبة ـ 24 ، وغيرها ، والسنة المتواترة تؤيده .
  قوله تعالى : ( وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا ) ، الادلاء هو ارسال الدلو في البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي ، وهو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده ، والفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشئ ، والجملة معطوفة على قوله : تأكلوا ، فالفعل مجزوم بالنهي ، ويمكن ان يكون الواو بمعنى مع والفعل منصوبا بأن المقدرة ، التقدير مع ان تأكلوا فتكون الآيه بجملتها كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد ، وهو النهي عن تصالح الراشي والمرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما وتقسيمها لانفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها إليه واخذ الراشي فريقا آخر منها بالاثم وهما يعلمان ان ذلك باطل غير حق .
  ( بحث روائي )
  في الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) في الآية كانت تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 53 _
  الله عن ذلك .
  وفي الكافي ايضا عن ابي بصير قال : قلت لابي عبد الله ( عليه السلام ) : قول الله عز وجل في كتابه : ( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ) ، قال يا أبا بصير إن الله عز وجل قد علم ان في الامة حكاما يجورون ، اما إنه لم يعن حكام أهل العدل ولكنه عنى حكام اهل الجور ، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام اهل العدل فأبى عليك إلا ان يرافعك إلى حكام اهل الجور ليقضوا له لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عز وجل : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ ) .
  وفي المجمع قال : روي عن ابي جعفر ( عليه السلام ) : يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الاموال .
  اقول : وهذه مصاديق والآية مطلقة .

( بحث علمي اجتماعي )
  كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة ، ومنها النبات والحيوان والانسان ، فإنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن ان ينتفع به في إبقاء وجوده لحفظ وجوده وبقائه ، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال ، ولا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه ، فهذه انواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها ونشؤها وتوليد مثلها ، وكذلك اقسام الحيوان والانسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه ولو انتفاعا خياليا أو عقليا ، فهذا مما لا شبهة فيه .
  وهذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية ، والحيوان والانسان بالشعور الغريزي ان التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية والانتفاع في حفظ الوجود والبقاء لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى ان الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين ( فهذا حاصل الامر وملاكه ) ولذلك فالفاعل من الانسان اوما ندرك ملاك أفعاله فإنه يمنع عن المداخلة في أمره والتصرف فيما يريد هو التصرف فيه ، وهذا اصل الاختصاص الذي