تأليف
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره
المجلد الثاني
منشورات



بسم الله الرحمن الرحيم
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
( بيان )
  سياق الايات الثلاث يدل أولا على انها جميعا نازلة معا فإن قوله تعالى :
  أياما معدودات ، في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله : الصيام في لآية الاولى ، وقوله تعالى : شهر رمضان ، في الآية الثالثة إما خبر لمبتدا محذوف وهو الضمير الراجع إلى قوله أياما معدودات ، والتقدير هي شهر رمضان أو مبتدء لخبر محذوف ، والتقدير شهر رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 5 _

  ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) ، في الآية الاولى وعلى أي تقدير هو بيان وإيضاح للأيام المعدودات التي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعا كلام واحد مسوق لغرض واحد وهو بيان فرض صوم شهر رمضان .
  وسياق الايات يدل ثانيا على أن شطرا من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزله التوطئة والتمهيد بالنسبة إلى شطر آخر ، أعني : أن الآيتين الاوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس والحصول على اطمينانها واستقرارها عن القلق والاضطراب ، إذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه التخلف والتأبي عن القبول ، لكون ما يأي من الحكم أو الخبر ثقيلا شاقا بطبعه على المخاطب ، ولذلك ترى الآيتين الاوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة ، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب ، ويحصل به تطيب النفس ، وتنكسر به سورة الجماح والاستكبار ، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف والتسهيل ، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل والأجل .
  ولذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) أردفه بقوله : ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الامم السابقة عليكم ولستم أنتم متفردين فيه ، على أن في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإيمانكم وهو التقوي التي هي خير زاد لمن آمن بالله واليوم الآخر ، وأنتم المؤمنون وهو قوله تعالى : لعلكم تتقون ، على أن هذا العمل الذي فيه رجاء التقوى لكم ولمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم ولا أكثرها بل إنما هو في أيام قلائل معينة معدودة ، وهو قوله تعالى : أياما معدودات ، فإن في تنكير ، أياما ، دلالة على التحقير ، وفي التوصيف بالعدل إشهار بهوان الأمر كما في قوله تعالى : ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ) يوسف ـ 30 ، على أنا راعينا جانب من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام ، فعليه أن يبدلة من فدية لا تشقه ولا يستثقلها ، وهو طعام مسكين وهو قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 6 _

  إلى قوله ، فدية طعام مسكين ، وإذا كان هذا العمل مشتملا على خيركم ومراعي فيه ما أمكن من التخفيف والتسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع والرغبة من غير كره وتثاقل وتثبط ، فإن من تطوع خيرا فهو خير له من ان يأتي به عن كره وهو قوله تعالى : فمن تطوع خيرا فهو خير له الخ ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة وتمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الخ ، وعلي هذا فقوله تعالى في الآية الاولى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) ، إخبار عن تحقق الكتابة وليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) البقرة الآية ـ 178 ، وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ) البقرة ـ 180 ، فإن بين القصاص في القتلي والوصية للوالدين والأقربين وبين الصيام فرقا ، وهو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين ويلائم الشح الغريزي الذي في الطباع ان ترى القاتل حيا سالما يعيش ولا يعبا بما جنى من القتل ، وكذلك حس الشفقة والرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين والأقربين ، وخاصة عند الموت والفراق الدائم ، فهذان أعني القصاص ، والوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع ، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الانباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدمة وتوطئة بيان بخلاف حكم الصيام ، فإنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها ومعظم ما تميل إليها وهو الاكل والشرب والجماع ، ولذلك فهو ثقيل على الطبع ، كريه عند النفس ، يحتاج في توجيه حكمه إلى المخاطبين ، وهم عامة الناس من المكلفين إلى تمهيد وتوطئة تطيب بها نفوسهم وتحن بسببها إلى قبوله وأخذه طباعهم ، ولهذا السبب كان قوله : كتب عليكم القصاص ، وقوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ، إنشاء للحكم من غير حاجة الى تمهيد مقدمة بخلاف قوله : كتب عليكم الصيام فإنه إخبار عن الحكم وتمهيد لإنشائه بقوله : فمن شهد منكم ، بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع .
  قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ) ، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم وهو الايمان ، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم وإن كان على خلاف مشتهياتهم وعاداتهم ، وقد صدرت آية القصاص بذلك أيضا لما سمعت

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 7 _

  أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإن كان سائر الطوائف من المليين وغيرهم يرون القصاص .
  قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) اه ، الكتابة معروفة المعنى ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله : ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة ـ 21 ، وقوله تعالى : ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس ـ 12 ، وقوله تعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) المائدة ـ 45 ، والصيام والصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل : كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك ، وربما يقال : انه الكف عما تشتهيه النفس وتتوق إليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن امور مخصوصة ، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية ، والمراد بالذين من قبلكم الامم الماضية ممن سبق ظهور الاسلام من امم الانبياء كامه موسى وعيسى وغيرهم ، فإن هذا المعنى هو المعهود من اطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما اطلقت ، وليس قوله : ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) ، في مقام الاطلاق من حيث الاشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع امم الانبياء كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف ، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث اصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته .
  والمراد بالذين من قبلكم ، الامم السابقة من المليين في الجملة ، ولم يعين القرآن من هم ، غير أن ظاهر قوله : كما كتب ، أن هؤلاء من أهل الملة وقد فرض عليهم ذلك ، ولا يوجد في التوراة والانجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه ، بل الكتابان إنما يمدحانه ويعظمان أمره ، لكنهم يصومون أياما معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة : كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن والصوم عن الأكل والشرب ، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام ، بل الصوم عبادة مأثوره عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم والرومانيين ، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم ، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 8 _

  إليه الانسان بفطرته كما سيجئ .
  وربما يقال : إن المراد بالذين من قبلكم اليهود والنصارى أو السابقين من الانبياء استنادا إلى روايات لا تخلو عن ضعف .
  قوله تعالى : ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، كان أهل الاوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو لإطفاء نإئرة غضبها إذا أجرموا جرما أو عصوا معصية ، وأذا أرادوا إنجاح حاجة وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الرب ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد ، وإن الله سبحانه أمنع جانبا من أن يتصور في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذي ، وبالجملة هو سبحانه برئ من كل نقص ، فما تعطيه العبادات من الاثر الجميل ، أي عبادة كانت وأي أثر كان ، إنما يرجع إلى العبد دون الرب تعالى وتقدس ، كما ان المعاصي أيضا كذلك ، قال تعالى : ( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) الإسراء ـ 7 ، هذا هو الذي يشير إليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي الى الانسان الذي لا شأن له إلا الفقر والحاجة ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر ـ 15 ، ويشير إليه في خصوص الصيام بقوله : لعلكم تتقون ، وكون التقوي مرجو الحصول بالصيام مما لا ريب فيه فإن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة والرفعة ، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانية فأول ما يلزمه أن يتنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدس عن الاخلاد إلى الارض ، وبالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك وتعالى فهذه تقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات ، وأقرب من ذلك وأمس لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة ان يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها ، وتتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إلى الله سبحانه ، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع وأطوع .
  قوله تعالى : أياما معدودات ، منصوب على الظرفية بتقدير ، في ومتعلق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 9 _
  بقوله الصيام ، وقد مر أن تنكير أيام واتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة والمشقة تشجيعا للمكلف ، وقد مر ان قوله : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ( الخ ) بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان .
  وقد ذكر بعض المفسرين : أن المراد بالايام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء ، وقال بعضهم : والثلاث الايام هي الايام البيض من كل شهر وصوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله والمسلمون يصومونها ، ثم نزل قوله تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) الخ ، فنسخ ذلك واستقر الفرض على صوم شهر رمضان ، واستندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنة والجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف وتعارض .
  والذي يظهر به بطلان هذا القول أولا : ان الصيام كما قيل : عبادة عامة شاملة ، ولو كان الامر كما يقولون لضبطه التاريخ ولم يختلف في ثبوته ثم في نسخه أحد وليس كذلك ، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيدا من الإعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرية رسول الله وأهل بيته بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم في وقعة الطف ثم تبركوا باليوم فاتخذوه عيدا وشرعوا صومه تبركا به ووضعوا له فضائل وبركات ، ودسوا أحاديث تدل على أنه كان عيدا إسلاميا بل من الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية واليهود والنصارى منذ بعث موسى وعيسى ، وكل ذلك لم يكن ، وليس اليوم ذا شأن ملي حتى يصير عيدا مليا قوميا مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس ، ولا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفرحتى يصير يوما إسلاميا كيوم المبعث ويوم مولد النبي ، ولا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيدا دينيا كمثل عيد الفطر وعيد الاضحى فما باله عزيزا بلا سبب ؟ .
  وثانيا : ان الآية الثالثة من الآيات اعني قوله : شهر رمضان الخ ، تأبى بسياقها ان تكون نازلة وحدها وناسخا لما قبلها فان ظاهر السياق ان قوله شهر رمضان خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدء لخبر محذوف كما مر ذكره فيكون بيانا للايام المعدودات

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 10 _
  ويكون جميع الآيات الثلث كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد وهو فرض صيام شهر رمضان ، وأما جعل قوله : شهر رمضان مبتدئا خبره قوله : الذى انزل فيه القرآن فانه وان اوجب استقلال الآيه وصلاحيتها لان تنزل وحدها غير أنها لا تصلح حينئذ لان تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافات بينها وبين سابقتها ، مع ان النسخ مشروط بالتنافى والتباين .
  وأضعف من هذا القول قول آخرين ـ على ما يظهر منهم ـ : ان الآية الثانية اعني قوله تعالى : اياما معدودات إلخ ، ناسخة للآية الاولى اعني قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) إلخ ، وذلك أن الصوم كان مكتوبا على النصارى ثم زادوا فيه ونقصوا بعد عيسى ( عليه السلام ) حتى استقر على خمسين يوما ، ثم شرعه الله في حق المسلمين بالآية الاولى فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والناس يصومونها في صدر الاسلام حتى نزل قوله تعالى : أياما معدودات إلخ ، فنسخ الحكم واستقر الحكم على غيره .
  وهذا القول أوهن من سابقه وأظهر بطلانا ، ويرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الاشكال ، وكون الآية الثانية من متممات الآية الاولى اظهر واجلي ، وما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن وسياق الآية .
  قوله تعالى : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ، الفاء للتفريع والجملة متفرعة على قوله : كتب عليكم ، وقوله : معدودات ، أي إن الصيام مكتوب مفروض ، والعدد مأخوذ في الفرض ، وكما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد ، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الايام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض والسفر ، فإنه لا يرفع اليد عن صيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من الصيام عددا ، وهذا هو الذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله : ولتكملوا العدة ، فقوله تعالى : أياما معدودات ، كما يفيد معنى التحقير كما مر يفيد كون العدد ركنا مأخوذا في الفرض والحكم .
  ثم إن المرض خلاف الصحة والسفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 11 _
  نكشف لسفره عن داره التي يأوي إليها ويكن فيها ، وكأن قوله تعالى : أو على سفر ، ولم يقل : مسافرا للاشارة إلى اعتبار فعليه التلبس حالا دون الماضي والمستقبل .
  وقد قال قوم ـ وهم المعظم من علماء أهل ا لسنة والجماعة ـ إن المدلول عليه بقوله تعالى : فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ، هو الرخصة دون العزيمة فالمريض والمسافر مخيران بين الصيام والافطار ، وقد عرفت أن ظاهر قوله تعالى : فعدة من ايام أخر هو عزيمة الافطار دون الرخصة ، وهو المروي عن أئمة اهل البيت ، وهو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير ، فهم محجوجون ، بقوله تعالى : فعدة من أيام أخر .
  وقد قدروا لذلك في الآية تقديرا فقالوا : ان التقدير فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام اخر .
  ويرد عليه أولا : أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة ولا قرينة من نفس الكلام عليه .
  وثانيا : أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فإن المقام كما ذكروه مقام التشريع ، وقولنا : فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر غاية ما يدل عليه أن الافطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الاعم من الوجوب والاستحباب والاباحة ، وأما كونه جائزا بمعنى عدم كونه الزاميا فلا دليل عليه من الكلام ألبتة بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرع الحكيم وهو ظاهر .
  قوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) ، الا طاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل ، ولازمه وقوع العل بجهد ومشقة ، والفدية هي البدل وهي هنا بدل مالي وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكينا جائعا من أوسط ما يطعم الانسان ، وحكم الفدية أيضا فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر لمكان قوله : وعلى الذين ، الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة والتخيير .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 12 _
   وقد ذكر بعضهم : ان الجملة تفيد الرخصة ثم نسخت فهو سبحانه وتعالى خير المطيقين للصوم من الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بطعام مسكين ، لان الناس كانوا يومئذ غير متعودين بالصوم ثم نسخ ذلك بقوله : فمن شهد منكم الشهر ، فليصمه وقد ذكر بعض هؤلاء : أنه نسخ حكم غير العاجزين ، واما مثل الشيخ الهرم والحامل والمرضع فبقي على حاله ، من جواز الفديه .
  ولعمري إنه ليس إلا لعبا بالقرآن وجعله لآياته عضين ، وأنت إذا تأملت الآيات الثلاث وجدتها كلاما موضوعا على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق البيان ، ثم إذا نزلت هذا الكلام على وحدته واتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختل السياق ، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضا ، وينقض آخره أوله فتاره يقول كتب عليكم الصيام واخرى يقول يجوز على القادرين منكم الافطار والفدية ، واخرى يقول : يجب عليكم جميعا الصيام إذا شهدتم الشهر ، فينسخ حكم الفدية عن القادرين ويبقى حكم غير القادرين على حالة ، ولم يكن في الآية حكم غيرالقادرين ، اللهم إلا أن يقال : إن قوله : يطيقون ، كان دالا على القدرة قبل النسخ فصار يدل بعد النسخ على عدم القدرة ، وبالجملة يجب على هذا ان يكون قوله : وعلى الذين يطيقونه في وسط الآيات ناسخا لقوله : كتب عليكم الصيام ، في أولها لمكان التنافي ، ويبقى الكلا وجهه تقييده بالاطاقة من غير سبب ظاهر ، ثم قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه في آخر الآيات ناسخا لقوله : وعلى الذين يطيقونه في وسطها ، ويبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين ، مع كون الناسخ مطلقا شاملا للقادر والعاجز جميعا ، وكون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاءه وهذا من أفحش الفساد .
  وإذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله : شهر رمضان إلخ لقوله : أياما معدودات الخ ، ونسخ قوله : اياما معدودات الخ ، لقوله كتب عليكم الصيام ، وتأملت معنى الآيات شاهدت عجبا .
  قوله تعالى : ( فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) ، التطوع تفعل من الطوع مقابل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 13 _
  الكره وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة ، ومعنى باب التفعل الاخذ والقبول فمعنى التطوع التلبس في إتيان الفعل بالرضا والرغبة من غير كره واستثقال سواء كان فعلا إلزاميا أو غير إلزامي ، وإما اختصاص التطوع استعمالا بالمستحبات والمندوبات فمما حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية ان الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب واما الواجب ففيه شوب كره لمكان الالزام الذي فيه .
  وبالجملة التطوع كما قيل : لا دلاله فيه مادة وهيئه على الندب وعلى هذا فالفاء للتفريع والجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق ، والمعنى والله أعلم : الصوم مكتوب عليكم مرعيا فيه خيركم وصلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الامم التي قبلكم ، والتخفيف والتسهيل لكم فأتوا به طوعا لاكرها ، فإن من أتى بالخير طوعا كان خيرا له من ان يأتي به كرها .
  ومن هنا يظهر : ان قوله : فمن تطوع خيرا من قبيل وضع السبب موضع المسبب أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيرا مكان كون التطوع بالصوم خيرا نظير قوله تعالى : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُون ) اي فاصبر ولا تحزن فانهم لا يكذبونك .
  وربما يقال : ان الجملة اعني قوله تعالى : فمن تطوع خيرا فهو خير له ، مرتبطة بالجملة التي تتلوها اعني قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، والمعنى أن من تطوع خيرا من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيرا له .
  ويرد عليه : عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع ، فأنه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول ، مع ان قوله : فمن تطوع خيرا ، لا دلاله له على التطوع بالزيادة فإن التطوع بالخير غير التطوع بالزيادة .
  قوله تعالى : ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، جملة متممة لسابقتها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 14 _
  والمعنى بحسب التقدير ـ كما مر ـ تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير خير والصوم خير لكم ، فالتطوع به خير على خير .
  وربما يقال : ان الجملة اعني قوله : وأن تصوموا خير لكم ، خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب ، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم على الافطار والقضاء .
  ويرد عليه : عدم الدليل عليه أو لا ، واختلاف الجملتين اعني قوله : فمن كان منكم الخ ، وقوله : وأن تصوموا خير لكم ، بالغيبة والخطاب ثانيا ، وأن الجملة الاولى مسوقه لبيان الترخيص والتخيير ، بل ظاهر قوله : فعدة من أيام أخر ، تعين الصوم في أيام أخر كما مر ثالثا ، وأن الجملة الاولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم والافطار حتى يكون قوله : وأن تصوموا خير لكم بيانا لاحد طرفي التخيير بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدة من أيام أخر وحينئذ لا سبيل إلى استفاده ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله : وأن تصوموا خير لكم ، من غير قرينة ظاهرة رابعا ، وأن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام ـ كما مر سابقا ـ مقام ملاك التشريع وأن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله : ( فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) البقرة ـ 54 ، وقوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الجمعة ـ 9 ، وقوله تعالى ( تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الصف ـ 11 ، والآيات في ذلك كثيرة خامسا : قوله تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى ) ، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان وشوال ولم يذكر اسم شيء من الشهور في القرآن الا شهر رمضان .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 15 _
  والنزول هو الورود على المحل من العلو ، والفرق بين الانزال والتنزيل أن الانزال دفعي والتنزيل تدريجي ، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باعتبار كونه مقروا كما قال تعالى ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) : الزخرف ـ 3 ، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى ابعاضه .
  والآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان ، وقد قال تعالى : ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) : الاسراء ـ 106 ، وهو ظاهر في نزوله تدريجا في مجموع مدة الدعوة وهي ثلث وعشرون سنة تقريبا ، والمتواتر من التاريخ يدل على ذلك ، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الايتين .
  وربما أجيب عنه : بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نجوما وعلى مكث في مدة ثلث وعشرين سنة ـ مجموع مدة الدعوة ـ وهذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات .
  وقد أورد عليه : بأن تعقيب قوله تعالى : أنزل فيه القرآن بقوله : هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدة سنين .
  وأجيب : بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال وفارقا أذا التبس حق بباطل لا ينافي بقائه مدة على حال الشأنية من غير فعليه التأثير حتى يحل أجله ويحين حينه ، ولهذا نظائر وأمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت وخرجت من القوة إلى الفعل .
  والحق ان حكم القوانين والدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم ان تتقدم على مقام التخاطب ولو زمانا يسيرا ، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى : ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ) المجادلة ـ 1 ، وقوله تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) الجمعة ـ 11 ، وقوله تعالى : ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) الاحزاب ـ 23 ، على أن في القرآن ناسخا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 16 _
  ومنسوخا ، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول .
  وربما أجيب عن إلاشكال : إن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن أول ما نزل منه نزل فيه ، ويرد عليه : أن المشهور عندهم إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما بعث بالقرآن ، وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان اكثر من ثلثين يوما وكيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن ، على أن أول سورة اقرإ باسم ربك ، يشهد على أنها أول سورة نزلت وأنها نزلت بمصاحبة البعثة ، وكذا سورة المدثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة وكيف كان فمن المستبعد جدا أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان ، على أن قوله تعالى : أنزل فيه القرآن ، غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه ولا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) الدخان ـ 3 ، وقوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : القدر ـ 1 ، فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدل على ذلك .
  والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) : البقرة ـ 185 وقوله تعالى : ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَة ) : الدخان ـ 3 ، و قوله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : القدر ـ 1 ، واعتبار الدفعة أما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى : ( كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء ) يونس ـ 24 ، فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هيهنا معطوف إلى اخذه مجموعا واحدا ، ولذلك عبر عنه بالانزال دون التنزيل ، وكقوله تعالى : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) ص ـ 29 ، وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالانزال دون التنزيل ، وهذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 17 _
  هود ـ 1 ، فإن هذا الاحكام مقابل التفصيل ، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة فالاحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه ، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرء عليه بعد كونه محكما غير مفصل .
  وأوضح منه قوله تعالى : ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) الاعراف ـ 53 ، وقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ـ إلى أن قال : بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يونس ـ 39 فإن الآيات الشريفة وخاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على إن التفصيل أمر طار على الكتاب فنفس الكتاب شيء والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر ، وأنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشئ يؤل إليه هذا التفصيل وغافلين عنه ، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص وفيها إشعاربأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب .
  وأوضح منه قوله تعالى : ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف ـ 4 ، فإنه ظاهر في إن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا ، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإلا فإنه ـ وهو في أم الكتاب ـ عند الله ، علي لا يصعد إليه العقول ، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين وفي هذا المساق أيضا قوله تعالى :
  ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة ـ 80 ، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وإن التنزيل بعده ، وأما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الاغيار وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف ، بام

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 18_
  الكتاب وفي سورة البروج ، باللوح المحفوظ ، حيث قال تعالى : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) البروج ـ 22 ، وهذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه ، ومن المعلوم إن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الذي هو نحو من التبدل ، فالكتاب المبين الذي هو اصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل ، وإنما هذا بمنزله اللباس لذاك .
  ثم إن هذا المعنى اعني : كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين ـ ونحن نسميه بحقيقة الكتاب ـ بمنزلة اللباس من المتلبس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لان يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، إلى غير ذلك وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لان يحمل قوله : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، وقوله : إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، وقوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية .
  وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى : ( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه ـ 114 ، وقوله تعالى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) القيامة ـ 19 ، فإن الآيات ظاهره في إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان له علم بما سينزل عليه فنهى عن الاستعجال بالقرائة قبل قضاء الوحي ، وسيأتي توضيحه في المقام اللائق به ـ إنشاء الله تعالى ـ .
  وبالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها : على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدى الافكار المتلوثة بألواث الهوسات وقذارات المادة ، وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه ، وسيجئ بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) آل عمران ـ 7

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 19 _
  فهذا ما يهدي إليه التدبر ويدل عليه الآيات ، نعم أرباب الحديث ، والغالب من المتكلمين والحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا اصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالة على كون القرآن هدى ورحمة ونورا وروحا ومواقع النجوم وكتابا مبينا ، وفي لوح محفوظ ، ونازلا من عند الله ، وفي صحف مطهره إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا .
  ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان :
  قال ما محصله : إنه لا ريب أن بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان مقارنا لنزول أول ما نزل من القرآن وأمره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالتبليغ والانذار ، ولا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) الدخان ـ 2 ، ولا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) البقرة ـ 185 .
  وجملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها ، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح ان يقال : أنزلناه في ليلة ( على ان القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة والانجيل والزبور باصطلاح القرآن )
  قال : وذلك : أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) إلخ ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان ، نزل والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه : قوله تعالى : إقرأ باسم ربك الذي خلق الخ ، ولما تلقى الوحى خطر بباله أن يسإله : كيف يذكر اسم ربه فتراءى له وعلمه بقوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين إلى آخر سورة الحمد ، ثم علمه كيفية الصلوة ثم غاب عن نظره فصحا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس ، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى إليه قوله تعالى :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 20 _
  ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ ) المدثر 1 ـ 2 .
  قال : فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر : وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب فهذه الاخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت .
  قال : وهناك روايات أخرى في تأييد هذه الاخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان : أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله ، وهذه أوهام خرافية دست في الاخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب ، وثانيا أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الانسان فيه ، انتهى ملخصا .
  ولست أدرى أي جملة من جمل كلامه ـ على فساده بتمام اجزائه ـ تقبل الاصلاح حتى تنطبق على الحق والحقية بوجه؟ فقد اتسع الخرق على الراتق .
  ففيه أولا أن هذا التقول العجيب الذي تقوله في البعثة ونزول القرآن أول ما نزل وأنه صلى عليه وآله وسلم نزل عليه : إقرأ بأسم ربك ، وهو في الطريق ، ثم نزلت عليه سورة الحمد ثم علم الصلوة ، ثم دخل البيت ونام تعبانا ، ثم نزلت عليه سورة المدثر صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ ، كل ذلك تقول لا دليل عليه لا آية محكمة ولا سنة قائمة ، وإنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجئ .
  وثانيا : أنه ذكر ان من المسلم أن البعثة ونزول القرآن والامر بالتبليغ مقارنة زمانا ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر ، ولا يسعه ، أن يستند في ذلك إلى كتاب ولا سنة ، وليس من المسلم ذلك ، أما السنة فلان لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شيء من جوامع الحديث مطلقا إذ لا شيء من كتب الحديث مما ألفته العامة أو الخاصة إلا وتأليفه متأخر عن عصر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قرنين فصاعدا فهذا في السنة ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 21 _
  والتاريخ ـ على خلوه من هذه التفاصيل ـ حاله أسوأ والدس الذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضا .
  وأما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح وأجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره وتكذيب ما تقوله ظاهرة فإن سورة اقرأ باسم ربك ـ وهي أول سورة نزلت على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على ما ذكره أهل النقل ، ويشهد به الآيات الخمس التي في صدرها ولم يذكر أحد أنها نزلت قطعات ولا أقل من احتمال نزولها دفعة ـ مشتملة على أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يصلي بمرئى من القوم وأنه كان منهم من ينهاه عن الصلوة ويذكر امره في نادي القوم ( ولا ندري كيف كانت هذه الصلوة التي كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتقرب بها إلى ربه في بادئ أمره إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة ) قال تعالى فيها : ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ) العلق ـ 18 ، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهي مصليا عن الصلوة ، ويذكر أمره في النادي ، ولا ينتهي عن فعاله ، وقد كان هذا المصلي هو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بدليل قوله تعالى بعد ذلك : ( كَلَّا لَا تُطِعْهُ ) العلق ـ 19 .
  فقد دلت السورة على أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن ، وقد كان على الهدى وربما أمر بالتقوى ، وهذا ه والنبوة ولم يسم امره ذلك انذارا ، فكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيا وكان يصلي ولما ينزل عليه قرآن ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ولما يؤمر بالتبليغ .
  وأما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان ، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أن يقال : قل بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين إلخ ، أويقال : بسم الله الرحمن الرحيم قل : الحمد لله رب العالمين إلخ ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى : مالك يوم الدين ، لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الاليق ببلاغة القرآن الشريف .
  نعم وقع في سورة الحجر ـ وهي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 22_
  وسيجئ بيانه ـ قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) الحجر ـ 87 ، والمراد بالسبع المثاني سورة الحمد وقد قوبل بها القرآن العظيم وفيه تمام التجليل لشأنها والتعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن وجزئا منه بدليل قولة تعالى : ( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ) الزمر ـ 23 الآية .
  ومع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر والسورة مشتملة أيضا على قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ... ) الحجر ـ 95 الآيات ، ويدل ذلك على ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد كف عن إلانذار مدة ثم أمر به ثانيا بقولة تعالى : فاصدع .
  وأما سورة المدثر وما تشتمل عليه من قوله : ( قُمْ فَأَنذِرْ ) المدثر ـ 2 ، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فانذر ، حال قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) الآية ، لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ) المدثر ـ 11إلى آخر الايات ، وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر : وأعرض عن المشركين الخ ، وإن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة .
  وثالثا : أن قوله : إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوما على رسول الله اخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها ، وان المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة ، وبالبيت المعمور كرة الارض خطأ وفرية .
  أما اولا : فلانه لا شيء من ظاهر الكتاب يخالف هذه الاخبار على ما عرفت .
  واما ثانيا : فلان الاخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت .
  واما ثالثا : فلان قوله : إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسيرشنيع ـ وإنه اضحوكة ـ وليت شعري : ما هو الوجه المصحح ـ على قوله ـ لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا؟ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير والتحول ؟ فهو عالم الحركات ، سيال الذات ، متغير الصفات ! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا ؟ فالواقع خلافه ! أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه ؟ كما يدل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 23 _
  عليه : قوله تعالى : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة ـ 79 ، فإدراك المدركين فيه على السواء ! .
  وبعد اللتيا والتي : لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية ، فإن حاصل توجيهه : أن معنى : أنزل فيه القرآن : كأنما أنزل فيه القرآن ، ومعنى : إنا أنزلناه في ليلة : كأنا أنزلناه في ليلة ، وهذا شيء لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق ! .
  ولو جاز لقائل أن يقول : نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال : إن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة ، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مر بيانه سابقا .
  وفي كلامه جهات اخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام .
  قوله تعالى :هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، الناس ، وهم الطبقة الدانية من الانسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح ، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم كما قال تعالى : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) الروم ـ 30 ، وقال تعالى : ( وتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت ـ 43 ، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الامور المعنوية بالبينة والبرهان ، ولا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم وهاد يهديهم والقرآن هدى لهم ونعم الهدى ، وأما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل ، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الالهية والركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات وشواهد من الهدى والفرقان في حقهم فهو يهديهم إليه ويميز لهم الحق ويبين لهم كيف يميز ، قال تعالى : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) المائدة ـ 16 .
  ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبينات من الهدى ، وهو التقابل بين العام والخاص فالهدى لبعض والبينات من الهدى لبعض آخر .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 24 _
  قوله تعالى : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته ، وشهادة الشهر إنما هو ببلوغه والعلم به ، ويكون بالبعض كما يكون بالكل. وأما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الانسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الاوقات بحسب القرائن ، ولا قرينة في الآية .
  قوله تعالى : ( وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ، ايراد هذه الجملة في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار .
  قوله تعالى : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ ) ، كأنه بيان لمجموع حكم الاستثناء : وهو الافطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر ، وصيام عدة من أيام اخر لمكان وجوب اكمال العدة ، واللام في قوله : لتكملوا العدة ، للغاية ، وهو عطف على قوله : يريد ، لكونه مشتملا على معنى الغاية ، والتقدير وانما أمرناكم بالافطار والقضاء لنخفف عنكم ولتكملوا العدة ، ولعل ايراد قوله : ولتكملوا العدة هو الموجب لا سقاط معنى قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، عن هذه الآية مع تفهم حكمه بنفى العسر وذكره في الآية السابقة .
  قوله تعالى : ( وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية (1) أنهما لبيان الغاية غاية اصل الصيام دون حكم الاستثناء فإن تقييد قوله : شهر رمضان بقوله : الذي انزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من العلية وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية إلى ان التلبس بالصوم لاظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم القرآن واعلن ربوبيته وعبوديتهم ، وشكر له بما هداهم إلى الحق ، وفرق لهم بكتابه بين الحق والباطل ، ولما كان الصوم انما يتصف بكونه شكرا لنعمه إذا كان مشتملا على حقيقة معنى الصوم وهو الاخلاص لله سبحانه في التنزه عن الواث الطبيعة والكف عن اعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم والكف سواء اشتمل على اخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى وتعظيمه فرق بين التكبير

--------------------
(1) المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح ( منه ) .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 25 _
  والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير فقال : ( وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) كما قال : في اول الآيات : لعلكم تتقون .

( بحث روائي )
  في الحديث القدسي ، قال الله تعالى : الصوم لي وأنا اجزي به .
  أقول : وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير ، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي ، وغيره كالصلوة والحج وغيرهما متألف من الاثبات أو لا يخلو من الاثبات ، والفعل الوجودي لا يتمحض في إظهار عبودية العبد ولا ربوبية الرب سبحانه ، لانه لا يخلو عن شوب النقص المادي وآفة المحدودية وإثبات الانية ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الاخلاد إلى الارض والتنزه بالكف عن شهوات النفس فان النفي لا 26 نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمرا بين العبد والرب لا يطلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى ، وقوله أنا اجزي به ، إن كان بصيغة المعلوم كان دالا على انه لا يوسط في إعطاء الاجر بينه وبين الصائم أحدا كما أن العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربه في الاطلاع عليه أحد نظير ما ورد : ان الصدقة إنما يأخذها الله من غير توسيطه أحدا ، قال تعالى ؟ ( وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) التوبة ـ 104 ، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أن أجر الصائم القرب منه تعالى .
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : كان رسول الله أول ما بعث يصوم حتى يقال : ما يفطر ، ويفطر حتى يقال ، ما يصوم ، ثم ترك ذلك وصام يوما وأفطر يوما وهو صوم داود ، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الايام الغر ، ثم ترك ذلك وفرقها في كل عشرة يوما خميسين بينهما اربعاء فقبض ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يعمل ذلك .
  وعن عنبسة العابد ، قال : قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة ايام من كل شهر .
  أقول : والاخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الذي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 26 _
  كان يصومه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما عدا صوم رمضان. وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) ، قال هي للمؤمنين خاصة وعن جميل قال : سئلت الصادق ( عليه السلام ) عن قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) .
  قال : فقال : هذه كلها يجمع الضلال والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة .
  وفي الفقيه عن حفص قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) ، يقول إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الامم قبلنا فقلت له : فقول الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ، قال : إنما فرض الله شهر رمضان على الانبياء دون الامم ففضل الله هذه الامة وجعل صيامه فرضا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى امته .
  اقول : والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمد في سنده ، وقد روي هذا المعنى مرسلا عن العالم ( عليه السلام ) وكأن الروايتين واحدة ، وعلى أي حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى كما ( كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) ، الانبياء خاصة ولو كان كذلك ، والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب ، كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم .
  وفي الكافي عمن سأل الصادق ( عليه السلام ) عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شيء واحد ؟ فقال : القرآن جملة الكتاب ، والفرقان الحكم الواجب العمل به .
  وفي الجوامع عنه ( عليه السلام ) : الفرقان كل آية محكمة في الكتاب ، وفي تفسيري العياشي والقمى عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الفرقان هو كل أمر محكم في القرآن ، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الانبياء .
  أقول : واللفظ يساعد على ذلك ، وفي بعض الاخبار أن رمضان اسم من اسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال : جاء رمضان وذهب ، بل شهر رمضان الحديث ، وهو واحد غريب في بابه ، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضا من المفسرين .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 27 _
  والاخبار الواردة في عد أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان ، على أن لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبي وعن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) بحيث يستبعد جدا نسبة التجريد إلى الراوي .
  وفي تفسير العياشي عن الصباح بن نباتة قال : قلت : لابي عبد الله ( عليه السلام ) إن ابن أبي يعفور ، أمرني أن اسألك عن مسائل فقال : وما هي ؟ قلت : يقول لك : إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن اسافر ؟ قال : إن الله يقول : فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه .
  أقول : وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابي بالاخذ بالاطلاق .
  وفي الكافي عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال : فأما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال : قوم يصوم ، وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام وإن شاء أفطر ، وأما نحن فنقول : يفطر في الحالين جميعا فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإن الله عز وجل يقول : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) .
  أقول : ورواه العياشي أيضا .
  وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال ( عليه السلام ) : ما أبينها لمن عقلها ، قال : من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر .
  أقول : والاخبار عن أئمة أهل البيت في تعين الافطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك ، وقد عرفت دلالة الآية عليه .
  وفي تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير قال : سألته عن قول الله ، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ، قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض .
  وفي تفسيره أيضا عن الباقر ( عليه السلام ) في الآية ، قال : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني) _ 28 _
  وفي تفسيره أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) قال : المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير .
  أقول : والروايات فيه كثيرة عنهم ( عليهم السلام ) والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيام السنة غير ايام شهر رمضان ممن لا يقدر على عدة ايام اخر فإن المريض في قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا ، لا يشمله وهو ظاهر ، والعطاش مرض العطش .
  وفي تفسيره أيضا عن سعيد عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إن في الفطر تكبيرا ، قلت : ما التكبير إلا في يوم النحر ، قال : فيه تكبير ولكنه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد .
  وفي الكافي عن سعيد النقاش قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) لي في ليلة الفطر تكبيرة ولكنه مسنون ، قال : قلت : واين هو ؟ قال : في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلوة الفجر وفي صلوة العيد ثم يقطع ، قال : قلت : كيف أقول ! قال : تقول الله اكبر ، الله اكبر ، لا إله إلا الله والله الكبر ، الله اكبر على ما هدانا ، وهو قول الله ولتكملوا العدة يعني الصلوة ولتكبروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول : الله اكبر ، لا إله إلا الله والله اكبر ، ولله الحمد ، قال : وفي رواية التكبير الآخر أربع مرات .
  أقول : اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب ، وقوله ( عليه السلام ) : يعني الصلوة لعله يريد : أن المعنى ولتكملوا العدة أي عدة أيام الصوم بصلوة العيد ولتكبروا الله مع الصلوات على ما هديكم ، وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله : ولتكبروا الله على ما هديكم ، فإنه استفادة حكم استحبابي من مورد الوجوب نظير ما مر في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الاولى منه هذا ، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الاخيرة يؤيد ما قيل : إن قوله : ولتكبروا الله على ما هديكم ، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عدي بعلي .
  وفي تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قلت له ، جعلت