( بيان )
  قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا يعطي السياق ، أن المراد بالقائلين بهذه المقالة هم اليهود والنصارى : اقالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، فإن وجه الكلام مع أهل الكتاب ، وإنما قال أهل الكتاب هذه الكلمة أعني قولهم : اتخذ الله ولدا أول ما قالوها تشريفا لانبيائهم كما قالوا : نحن أبناء الله وأحبائه ثم تلبست بلباس الجد والحقيقة فرد الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين فأضرب عن قولهم بقوله : بل له ما في السموات إلخ ، ويشتمل على برهانين ينفي كل منهما الولادة وتحقق الولد منه سبحانه ، فإن اتخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي بعض أجزاء وجوده ، ويفصله عن نفسه فيصيره بتربية تدريجية فردا من نوعه مماثلا لنفسه ، وهو سبحانه منزه عن المثل ، بل كل شئ مما في السموات والارض مملوك له ، قائم الذات به ، قانت ذليل عند ذلة وجودية ، فكيف يكون شئ من الاشياء ولدا له مماثلا نوعيا بالنسبه إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والارض ، إنما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق ، فلا يشبه شئ من خلقه خلقا سابقا ، ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج ، والتوصل بالاسباب إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج ، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتخاذ الولد ؟ وتحققه يحتاج إلى تربية وتدريج ، فقوله : له ما في السموات والارض كل له قانتون برهان تام ، وقوله : بديع السموات والارض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون برهان آخر تام ، هذا. ويستفاد من الآيتين :
  اولا : شمول حكم العبادة لجميع المخلوقات مما في السموات والارض.
  وثانيا : ان فعله تعالى غير تدريجي ، ويستدرج من هنا ، ان كل موجود تدريجي فله وجه غير تدريجي ، به يصدر عنه تعالى كما قال تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس ـ 82 ، وقال تعالى : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر ـ 50 ، وتفصيل القول في هذه الحقيقة القرآنية ، سيأتي إنشاء الله في ذيل قوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا ) يس ـ 82 ، فانتظر.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 262 _

  قوله تعالى : سبحانه مصدر بمعنى التسبيح وهو لا يستعمل إلا مضافا وهو مفعول مطلق لفعل محذوف أي سبحته تسبيحا ، فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الضمير المفعول وأقيم مقامه ، وفي الكلمة تأديب إلهي بالتنزيه فيما يذكر فيه ما لا يليق بساحة قدسة تعالى و تقدس.
  قوله تعالى : كل له قانتون ، القنوت العبادة والتذلل.
  قوله تعالى : بديع السموات ، بداعة الشئ كونه لا يماثل غيره مما يعرف ويؤنس به.
  قوله تعالى : فيكون ، تفريع على قول كن وليس في مورد الجزاء حتى يجزم.
  ( بحث روائي )
  في الكافي والبصائر ، عن سدير الصيرفي ، قال : سمعت عمران بن أعين يسأل أبا جعفر ( عليه السلام ) عن قول الله تعالى : بديع السموات والارض ، فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ان الله عزوجل ابتدع الاشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله ، فابتدع السموات والارضين ولم يكن قبلهن سموات ولا أرضون أما تسمع لقوله : وكان عرشه على الماء ؟ .
  اقول : وفي الرواية إستفادة اخرى لطيفة ، وهي ان المراد ان لا مراد بالماء في قوله تعالى : وكان عرشه على الماء غير المصداق الذي عندنا من الماء بدليل ان الخلقة مستوية على البداعة وكانت السلطنة الالهية قبل خلق هذه السموات والارض مستقرة مستوية على الماء فهو غير الماء وسيجئ تتمة الكلام في قوله تعالى : ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) هود ـ 7.
  ( بحث علمي وفلسفي )
  دل التجارب على افتراق كل موجودين في الشخصيات وان كانت متحدة في

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 263 _

  الكليات حتى الموجودان اللذان لا يميز الحس جهة الفرقة بينهما فالحس المسلح يدرك ذلك منهما ، والبرهان الفلسفي أيضا يوجب ذلك ، فإن المفروضين من الموجودين لو لم يتميز أحدهما عن الآخر بشئ خارج عن ذاته ، كان سبب الكثرة المفروضة غير خارج من ذاتهما فيكون الذات صرفة غير مخلوطة ، وصرف الشئ لا يتثنى ولا يتكرر ، فكان ما هو المفروض كثيرا واحدا غير كثير هف ، موجود مغاير الذات لموجود آخر ، فكل موجود فهو بديع الوجود على غير مثال سابق ولا معهود ، والله سبحانه هو المبتدع بديع السموات والارض.
  ( وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ـ 118 ، ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) ـ 119.
  ( بيان )
  قوله تعالى : وقال الذين لا يعلمون هم المشركون غير أهل الكتاب ويدل عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى : وقالت اليهود ليست النصارى على شئ ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ ، وهم يتلون الكتاب كذلك ، قال الذين لا يعلمون مثل قولهم الآية ، ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين والكفار من العرب ، وفي هذه الآية ألحق المشركين والكفار بهم ، فقال : وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية ، كذلك قال الذين من قبلهم ـ وهم أهل الكتاب واليهود من بينهم ـ حيث اقترحوا بمثل هذه الاقاويل على نبي الله موسى ( عليه السلام ) ، فهم والكفار متشابهون في أفكارهم وآرائهم ، يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 264 _

  تشابهت قلوبهم.
  قوله تعالى : قد بينا الايات لقوم يوقنون جواب عن قول الذين لا يعلمون إلخ ، والمراد ان الايات التي يطالبون بها مأتية مبينة ، ولكن لا ينتفع بها إلا قوم يوقنون بآيات الله ، وأما هؤلاء الذين لا يعلمون ، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل ، مؤفة بآفات العصبية والعناد ، وما تغني الايات عن قوم لا يعلمون. ومن هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم ، ثم أيد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاشعار بأنه مرسل من عند الله بالحق بشيرا ونذيرا ، فلتطب به نفسه ، وليعلم ان هؤلاء أصحاب الجحيم ، مكتوب عليهم ذلك ، لا مطمع في هدايتهم ونجاتهم.
  قوله تعالى : ولا تسئل عن أصحاب الجحيم ، يجري مجرى قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) البقرة ـ 6.
  ( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ) ـ 120 ، ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ـ 121 ، ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ـ 122 ، ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ) ـ 123.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 265 _

  ( بيان )
  قوله تعالى : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصاري ، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم ، وهو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرقها وتشتتها ، فكأنه بعد هذه الخطابات والتوبيخات هم يرجع إلى رسوله ويقول له : هؤلاء ليسوا براضين عنك ، حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بأرائهم ، ثم أمره بالرد عليهم بقوله : قل ان هدى الله هو الهدى أي ان الاتباع إنما هو لغرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله والحق الذي يجب أن يتبع وغيره ـ وهو ملتكم ـ ليس بالهدى ، فهي أهوائكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها بإسم الملة ، ففي قوله : قل ان هدى الله إلخ ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل ، ثم اضيف إلى الله فأفاد صحة الحصر في قوله : ان هدى الله هو الهدى على طريق قصرالقلب ، وأفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى ، وأفاد ذلك كونها أهوائا لهم ، واستلزم ذلك كون ما عند النبي علما ، وكون ما عندهم جهلا ، واتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله : ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم ، ما لك من الله من ولي ولا نصير ، فانظر إلى ما في هذا الكلام من اصول البرهان العريقة ، ووجوه البلاغة على إيجازه ، وسلاسة البيان وصفائه.
  قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله : أولئك يؤمنون به جوابا للسؤال المقدر الذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى إلخ ، وهو انهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم ، فمن ذا الذي يؤمن منهم ؟ وهل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو ؟ فأجيب بأن الذين آتيناهم الكتاب والحال أنهم يتلونه حق تلاوته ، أؤلئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك ، أو ان أؤلئك يؤمنون بالكتاب ، كتاب الله المنزل أيا ما كان ، أو ان أؤلئك يؤمنون بالكتاب الذي هو القرآن ، عليهذا : فالقصر في قوله : أؤلئك يؤمنون به قصر افراد والضمير في قوله : به على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام ، والمراد بالذين اوتوا الكتاب قوم من اليهود والنصارى ليسوا متبعين للهوى من أهل

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 266 _
  الحق منهم ، وبالكتاب التوراة والانجيل ، وان كان المراد بهم المؤمنين برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبالكتاب القرآن ، فالمعنى : ان الذين آتيناهم القرآن ، وهم يتلونه حق تلاوته أؤلئك يؤمنون بالقرآن ، لا هؤلاء المتبعون لاهوائهم ، فالقصر حينئذ قصر قلب.
  قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا ، إلى آخر الآيتين ارجاع ختم الكلام إلى بدئه ، وآخره إلى اوله ، وعنده يختتم شطر من خطابات بني اسرائيل.
  ( بحث روائي )
  في إرشاد الديلمي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ، قال : يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، وينتهون بنواهيه ، ما هو والله حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سورة ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه ، قال الله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته.
  وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قول الله عزوجل : يتلونه حق تلاوته قال ( عليه السلام ) الوقوف عند الجنة والنار.
  اقول : والمراد به التدبر.
  وفي الكافي عنه ( عليه السلام ) : في الآية قال ( عليه السلام ) هم الائمة.
  أقول : وهو من باب الجرى والانطباق على المصداق الكامل.
  إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 267 _
  للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ـ 124.
  ( بيان )
  شروع بجمل من قصص إبراهيم ( عليه السلام ) وهو كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج ، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الاسلامي بمراتبها : من اصول المعارف ، والاخلاق ، والاحكام الفرعية الفقهية جملا ، والآيات مشتملة على قصة اختصاصه تعالى أياه بالامامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة.
  فقوله تعالى : وإذ إبتلى ابراهيم ربه إلخ ، اشارة إلى قصة اعطائه الامامة وحبائه بها ، والقصة إنما وقعت في أواخر عهد إبراهيم ( عليه السلام ) بعد كبره وتولد إسماعيل ، وإسحق له وإسكانه إسماعيل وأمه بمكة ، كما تنبه به بعضهم أيضا ، والدليل على ذلك قوله ( عليه السلام ) على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له : إني جاعلك للناس إماما ، قال ومن ذريتي ، فإنه ( عليه السلام ) قبل مجئ الملائكة ببشارة إسماعيل وإسحق ، ما كان يعلم ولا يظن أن سيكون له ذرية من بعده حتى أنه بعد ما بشرته الملائكة بالاولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى : ( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ) الحجر ـ 55 ، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصة بشارته أيضا إذ قال تعالى : ( وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) هود ـ 73 ، وكلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا أهله يعلم أن سيرزق ذرية ، وقوله ( عليه السلام ) : ومن ذريتي ، بعد

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 268 _
  قوله تعالى : إني جاعلك للناس إماما ، قول من يعتقد لنفسه ذرية ، وكيف يسع من له ادنى دربة بأدب الكلام وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول : ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدى هذا المعنى فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.
  على أن قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : إني جاعلك للناس إماما ، يدل على أن هذه الامامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه الا أنواع البلاء التي ابتلى عليه السلابها في حيوته ، وقد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل قال تعالى : ( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ، إلى ان قال : إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ) الصافات ـ 106.
  والقضية انما وقعت في كبر إبراهيم ، كما حكى الله تعالى عنه من قوله : ( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء ) ابراهيم ـ 41.
  ولنرجع إلى الفاظ الآية فقوله : واذ ابتلى ابراهيم ربه ، الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول : ابتليته وبلوته بكذا أي امتحنته واختبرته ، إذا قدمت إليه أمرا أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانية الكامنة عنده كالاطاعة والشجاعة والسخاء والعفة والعلم والوفاء أو مقابلاتها ، ولذلك لا يكون الابتلاء إلا بعمل فإن الفعل هو الذى يظهر به الصفات الكامنة من الانسان دون القول الذي يحتمل الصدق والكذب قال تعالى : ( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ) القلم ـ 17 ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ) البقرة ـ 249.
  فتعلق الابتلاء ، في الاية بالكلمات ان كان المراد بها الاقوال إنما هو من جهة تعلقها با لعمل وحكايتها عن العهود والاوامر المتعلقة بالفعل كقوله تعالى ( وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ) البقرة ـ 83 ، أي عاشروهم معاشرة جميلة وقوله :

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 269 _
  بكلمات فأتمهن ، الكلمات وهي جمع كلمة وإن أطلقت في القرآن على العين الخارجي دون اللفظ والقول ، كقوله تعالى : ( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران ـ 45 ، إلا أن ذلك بعناية إطلاق القول كما قال تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) آل عمران ـ 59.
  وجميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن اريد بها القول كقوله تعالى ( وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) الانعام ـ 34 ، وقوله : ( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) يونس ـ 64 ، وقوله : ( يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) الانفال ـ 7 ، وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) يونس ـ 96 ، وقوله : ( وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ) الزمر ـ 71 ، وقوله : ( وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) المؤمن ـ 6 ، وقوله : ( وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى ـ 14 ، وقوله : ( وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) التوبة ـ 41 ، وقوله : ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) ص ـ 84 ، وقوله : ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) النحل ـ 40 ، فهذه ونظائرها أريد بها القول بعناية أن القول توجيه ما يريد المتكلم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الاخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الانشاء ولذلك ربما تتصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ) الانعام ـ 115 ، وقوله تعالى : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ ) الاعراف ـ 136 كأن الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد ، لم تتم ، حتى تلبس لباس العمل وتعود صدقا.
  وهذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله ، فإن الحقائق الواقعية لها حكم ، وللعنايات الكلامية اللفظية حكم آخر ، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه ، أو غيرهم بعد خفائه ، أو يريد تحميله على أحد قول وكلام له لاشتماله على غرض القول والكلام وتضمنه غاية الخبر والنبأ ، والامر والنهي ، وإطلاق القول والكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤديه القول والكلمة ، تقول : لافعلن كذا وكذا ، لقول قلته وكلمة قدمتها ، ولم

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 270 _
  تقل قولا ، ولا قدمت كلمة ، وإنما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة ، ومنه قول عنترة :
وقولي كلما جشأت وجاشت      مكانك تحمدى أو iiتستريحي
  يريد بالقول توطين نفسه على الثبات والعزم ، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل ، وبالاستراحة إغلب.
  إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المراد بقوله تعالى ، بكلمات ، قضايا ابتلى بها وعهود إلهية اريدت منه ، كابتلائه بالكواكب والاصنام ، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبين في الكلام ما هي الكلمات لان الغرض غير متعلق بذلك ، نعم قوله : قال إني جاعلك للناس إماما ، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على انها كانت أمورا تثبت بها لياقته ، ( عليه السلام ) لمقام الامامة.
  فهذه هي الكلمات وأما إتمامهن فإن كان الضمير في قوله تعالى : أتمهن راجعا إلى إبراهيم كان معنى إتمامهن إتيانه ( عليه السلام ) ما أريد منه ، وامتثاله لما أمر به ، وإن كان الضمير راجعا إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما اريد منه ، ومساعدته على ذلك ، وأما ما ذكره بعضهم : أن المراد بالكلمات قوله تعالى : قال إني جاعلك للناس إماما ، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام.
  قوله تعالى : إني جاعلك للناس اماما ، أي مقتدى يقتدى بك الناس ، وتبعونك في أقوالك وأفعالك ، فالامام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس ، ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة ، لان النبي يقتدي به امته في دينهم ، قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) النساء ـ 63 ، لكنه في غاية السقوط.
  اما اولا : فلان قوله : إماما ، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله : جاعلك واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي ، وانما يعمل إذا كان

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 271 _
  بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله ، إني جاعلك للناس إماما ، وعدله ( عليه السلام ) بالامامة في ما سيأتي ، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة ، فقد كان (ع) نبيا قبل تقلده الامامة فليست الامامة في الآية بمعنى النبوة ( ذكره بعض المفسرين ).
  واما ثانيا : فلانا بينا في صدر الكلام : أن قصة الامامة ، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم ( عليه السلام ) بعد مجئ البشارة له بإسحق وإسماعيل ، وإنما جائت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط وإهلاكهم ، وقد كان إبراهيم حينئذ نبيا مرسلا ، فقد كان نبيا قبل أن يكون إماما ، فإمامته غير نبوته.
  ومنشأ هذا التفسير وما يشابهه الابتذال الطاري على معاني الالفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرر الاستعمال بمرور الزمن ومن جملة تلك الالفاظ لفظ الامامة ، ففسره قوم : بالنبوة والتقدم والمطاعية مطلقا ، وفسره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية ، أو الرئاسة في امور الدين والدنيا ـ وكل ذلك لم يكن ـ فإن النبوة معناها : تحمل النبأ من جانب الله ، والرسالة معناها تحمل التبليغ ، والمطاعية والاطاعة قبول الانسان ما يراه أو يأمره غيره وهو من لوازم النبوة والرسالة ، والخلافة نحو من النيابة ، وكذلك والوصاية ، والرئاسة نحو من المطاعية وهو مصدرية الحكم في الاجتماع وكل هذه المعاني غير معنى الامامة التي هي كون الانسان بحيث يقتدى به غيره بأن يطبق أفعاله وأقواله على أفعاله وأقواله بنحو التبعية ، ولا معنى لان يقال لنبي من الانبياء مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا ، أو مطاعا فيما تبلغه بنبوتك ، أو رئيسا تأمر وتنهى في الدين ، أو وصيا ، أو خليفة في الارض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.
  وليست الامامة تخالف الكلمات السابقة وتختص بموردها بمجرد العناية اللفظية فقط ، إذ لا يصح أن يقال لنبي ـ من لوازم نبوته كونه مطاعا بعد نبوته ـ إني جاعلك مطاعا للناس بعد ما جعلتك كذلك ، ولا يصح ان يقال له ما يؤل إليه معناه وان اختلف بمجرد عناية لفظية ، فإن المحذور هو المحذور ، وهذه المواهب الالهية ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية ، بل دونها حقائق من المعارف

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 272 _
  الحقيقية ، فلمعنى الامامة حقيقة وراء هذه الحقائق.
  والذي نجده في كلامه تعالى : إنه كلما تعرض لمعنى الامامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير ، قال تعالى في قصص إبراهيم ( عليه السلام ) : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) الانبياء ـ 73 ، وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) السجدة ـ 24 ، فوصفها بالهداية وصف تعريف ، ثم قيدها بالامر ، فبين أن الامامة ليست مطلق الهداية ، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله ، وهذا الامر هو الذي بين حقيقته في قوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس ـ 83 ، وقوله : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر ـ 50 ، وسنبين في الايتين ان الامر الالهي وهو الذي تسميه الاية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق ، يواجهون به الله سبحانه ، طاهر مطهر من قيود الزمان والمكان ، خال من التغير والتبدل وهو المراد بكلمة ـ كن الذي ليس إلا وجود الشئ العيني ، وهو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الاشياء فيه التغير والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان ، وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله إنشاء الله العزيز.
  وبالجملة فالامام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالامامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم ، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إرائة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة ، قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء ) ابراهيم ـ 4 ، وقال تعالى : في مؤمن آل فرعون ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَاد ) مؤمن ـ 38 ، وقال تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة ـ 122 ، وسيتضح لك هذا المعنى مزيد اتضاح.
  ثم انه تعالى بين سبب موهبة الامامة بقوله : ( لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 273 _
  الاية فبين ان الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله ـ وقد أطلق الصبر ـ فهو في كل ما يبتلي ويمتحن به عبد في عبوديته ، وكونهم قبل ذلك موقنين ، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيم ( عليه السلام ) قوله : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام ـ 75 ، والآية كما ترى تعطي بظاهرها : أن إرائة الملكوت لابراهيم كانت مقدمة لافاضة اليقين عليه ، ويتبين به أن اليقين لا ينفك عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر ـ 6 وقوله تعالى : ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ـ إلى أن قال ـ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) المطففين ـ 21 ، وهذه الآيات تدل على ان المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم بحجاب قلبي وهو المعصية والجهل والريب والشك ، فهم أهل اليقين بالله ، وهم يشهدون عليين كما يشهدون الجحيم.
  وبالجملة فالامام يجب أن يكون إنسانا ذايقين مكشوفا له عالم الملكوت ـ متحققا بكلمات من الله سبحانه ـ وقد مر أن الملكوت هو الامر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم ، فقوله تعالى : يهدون بأمرنا ، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية ـ وهو القلوب والاعمال ـ فللامام باطنه وحقيقتة ، ووجهه الامري حاضر عنده غير غائب عنه ، ومن المعلوم أن القلوب والاعمال كسائر الاشياء في كونها ذات وجهين ، فالامام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد ، خيرها وشرها ، وهو المهيمن على السبيلين جميعا ، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة. وقال تعالى أيضا : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) الاسراء ـ 71 ، وسيجئ تفسيره بالامام الحق دون كتاب الاعمال ، على ما يظن من ظاهرها ، فالامام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر ، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحيوة الدنيا وباطنها ، والآية مع ذلك تفيد أن الامام لا يخلو عنه زمان من الازمنة ، وعصر من الاعصار ، لمكان قوله تعالى كل اناس ، على ما سيجئ في تفسير الآية من تقريبه.
  ثم إن هذا المعنى أعني الامامة ، على شرافته وعظمته ، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه ، إذ الذي ربما تلبس ذاته بالظلم والشقاء ، فإنما سعادته بهداية من غيره ، وقد قال الله تعالى : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ) يونس ـ 35.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 274 _
  وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحق وبين غير المهتدي إلا بغيره ، أعني المهتدي بغيره ، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحق مهتديا بنفسه ، أن المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحق البتة.
  ويستنتج من هنا أمران : أحدهما : أن الامام يجب أن يكون معصوما عن الضلال و المعصية ، والا كان غير مهتد بنفسه ، كما مر كما ، يدل عليه أيضا قوله تعالى : ( ووَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) الانبياء ـ 73 فأفعال الامام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي ، وتسديد رباني والدليل عليه قوله تعالى : ( فعل الخيرات ) بناء على أن المصدر المضاف يدل على الوقوع ، ففرق بين مثل قولنا : وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدل على التحقق والوقوع ، بخلاف قوله ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) فهو يدل على أن ما فعلوه من الخيرات إنما هو بوحى باطني وتأييد سماوي ، الثاني : عكس الامر الاول وهو أن من ليس بمعصوم فلا يكون اماما هاديا إلى الحق البتة.
  وبهذا البيان يظهر : ان المراد بالظالمين في قوله تعالى ، ( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) مطلق من صدر عنه ظلم ما ، من شرك أو معصية ، وان كان منه في برهة من عمره ، ثم تاب وصلح .
  وقد سئل بعض أساتيذنا رحمة الله عليه : عن تقريب دلالة على عصمة الامام.
  فأجاب : أن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام : من كان ظالما في جميع عمره ، ومن لم يكن ظالما في جميع عمره ، ومن هو ظالم في أول عمره دون آخره ، ومن هو بالعكس هذا ، وإبراهيم ( عليه السلام ) أجل شأنا من أن يسئل الامامة للقسم الاول والرابع من ذريته ، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما ، وهو الذي يكون ظالما في أول عمره دون آخره ، فبقي الآخر ، وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره إنتهى وقد ظهر مما تقدم من البيان أمور :
  الاول : أن الامامة لمجعولة.
  الثاني : أن الامام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 275 ـ
  الثالث : أن الارض وفيه الناس ، لا تخلو عن إمام حق.
  الرابع : أن الامام يجب أن يكون مؤيدا من عند الله تعالى.
  الخامس : أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الامام.
  السادس : أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في امور معاشهم ومعادهم.
  السابع : أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس ، فهذه سبعة مسائل هي امهات مسائل الامامة ، تعطيها الآية الشريفة بما ينضم إليها من الآيات والله الهادي.
  فان قلت : لو كانت الامامة هي الهداية بأمر الله تعالى ، وهي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ) الآية كان جميع الانبياء أئمة قطعا ، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحى ، من غير أن يكون مكتسبا من الغير ، بتعليم أو إرشاد ونحوهما ، حينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الامامة ، وعاد الاشكال إلى أنفسكم.
  قلت : الذي يتحصل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق وهي الامامة تستلزم الاهتداء بالحق ، وأما العكس وهو أن يكون كل من اهتدى بالحق هاديا لغيره بالحق ، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماما ، فلم يتبين بعد ، وقد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحق ، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحق في قوله تعالى : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الانعام ـ 90 ، وسياق الآيات كما ترى يعطي أن هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغير ويتخلف ، وأن هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمته ، بل عن ذرية إبراهيم منهم خاصة ، كما يدل

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 276 _
  عليه قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الزخرف ـ 28 ، فأعلم قومه ببرائته في الحال وأخبرهم بهدايته في المستقبل ، وهي الهداية بأمر الله حقا ، لا الهداية التي يعطيها النظر والاعتبار ، فإنها كانت حاصلة مدلولا عليها بقوله : إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني ، ثم أخبر الله : أنه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم ، وهذا أحد الموارد التي أطلق القرآن الكلمة فيها على الامر الخارجي دون القول ، كقوله تعالى : ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا ) الفتح ـ 26.
  وقد تبين بما ذكر : أن الامامة في ولد إبراهيم بعده ، وفي قوله تعالى : ( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) إشاره إلى ذلك ، فإن إبراهيم ( عليه السلام ) إنما كان سئل الامامة لبعض ذريته لا لجميعهم ، فاجيب : بنفيها عن الظالمين من ولده ، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفيا لها عن الجميع ، ففيه إجابة لما سئله مع بيان أنها عهد ، وعهده تعالى لا ينال الظالمين.
  قوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين ، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الالهي ، فهي من الاستعارة بالكناية.
  ( بحث روائي )
  في الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : إن الله عزوجل اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، وأن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما ، فلما جمع له الاشياء قال : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) قال ( عليه السلام ) : فمن عظمها في عين إبراهيم قال : ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال : لا يكون السفيه إمام التقي.
  أقول : وروي هذا المعنى أيضا عنه بطريق آخر وعن الباقر ( عليه السلام ) بطريق آخر ، ورواه المفيد عن الصادق ( عليه السلام )

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 277 _
  قوله : إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، يستفاد ذلك من قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ ـ إلى قوله ـ مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) الانبياء ـ 56 ، وهو اتخاذ بالعبودية في أول أمر إبراهيم.
  واعلم ان اتخاذه تعالى أحدا من الناس عبدا غير كونه في نفسه عبدا ، فإن العبدية من الوازم الايجاد والخلقة ، لا ينفك عن مخلوق ذي فهم وشعور ، ولا يقبل الجعل والاتخاذ وهو كون الانسان مثلا مملوك الوجود لربه ، مخلوقا مصنوعا له ، سواء جرى في حيوته على ما يستدعيه مملوكيته الذاتية ، واستسلم لربوبية ربه العزيز ، أو لم يجر على ذلك ، قال تعالى : ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) مريم ـ 94 ، وإن كان إذا لم يجر على رسوم العبودية وسنن الرقية استكبارا في الارض وعتوا كان من الحري أن لا يسمى عبدا بالنظر إلى الغايات ، فإن العبد هو الذي أسلم وجه لربه ، وأعطاه تدبير نفسه ، فينبغي أن لا يسمى بالعبد إلا من كان عبدا في نفسه وعبدا في عمله ، فهو العبد حقيقة ، قال تعالى : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ) الفرقان ـ 63 ، وعلي هذا فاتخاذه تعالى إنسانا عبدا ـ وهو قبول كونه عبدا والاقبال عليه بالربوبية ـ هو الولاية وهو تولي أمره كما يتولى الرب أمر عبده ، والعبودية مفتاح للولاية ، كما يدل عليه قوله تعالى : ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الاعراف ـ 196 ، أي اللائقين للولاية ، فأنه تعالى سمى النبي في آيات من كتابه بالعبد ، قال تعالى : ( الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) الكهف ـ 1 ، وقال تعالى : ( يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) الحديد ـ 9 ، وقال تعالى : ( قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ) الجن ـ 19 ، فقد ظهر أن الاتخاذ للعبودية هو الولاية.
  وقوله ( عليه السلام ) : وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، الفرق بين النبي الرسول على ما يظهر من الروايات المروية عن أئمة أهل البيت : أن النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحي به إليه ، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلمة ، والذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب ، قال تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ) مريم ـ 42 ، فظاهر الآية أنه ( عليه السلام ) كان صديقا نبيا حين يخاطب أباه بذلك ، فيكون هذا تصديقا لما أخبر به ابراهيم ( عليه السلام ) في أول وروده على قومه : ( إِنَّنِي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 278 _
  بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) الزخرف ـ 27 ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ ) هود ـ 69 ، والقصة ـ وهي تتضمن مشاهدة الملك وتكليمه ـ واقعة في حال كبر إبراهيم ( عليه السلام ) بعد مفارق أباه وقومه.
  وقوله ( عليه السلام ) : إن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، يستفاد ذلك من قوله تعالى : ( واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ) النساء ـ 125 ، فإن ظاهره انه إنما اتخذه خليلا لهذه الملة الحنيفية التي شرعها بأمر ربه إذ المقام مقام بيان شرف ملة إبراهيم الحنيف التي تشرف بسببها إبراهيم ( عليه السلام ) بالخلة والخليل أخص من الصديق فإن أحد المتحابين يسمى صديقا إذا صدق في معاشرته ومصاحبته ثم يصير خليلا إذا قصر حوائجه على صديقه ، والخلة الفقر والحاجة.
  وقوله ( عليه السلام ) : وان الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه اماما ، الخ يظهر معناه مما تقدم من البيان.
  وقوله : قال لا يكون السفيه امام التقى اشارة إلى قوله تعالى ، ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) البقره ـ 131 ، فقد سمى الله سبحانه الرغبة عن ملة ابراهيم وهو الظلم سفها ، وقابلها بالاصطفاء ، وفصر الاصطفاء بالاسلام ، كما يظهر بالتدبر في قوله : ( إذ قال له ربه أسلم ) ثم جعل الاسلام والتقوى واحدا أو في مجرى واحد في قوله : ( اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) آل عمران ـ 102 ، فافهم ذلك.
  وعن المفيد عن درست وهشام عنهم (ع) قال : قد كان ابراهيم نبيا وليس بإمام ، حتى قال الله تبارك وتعالى : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) فقال الله تبارك وتعالى : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، من عببد صنما أو وثنا أو مثالا ، لا يكون اماما.
  أقول : وقد ظهر معناه مما مر.
  وفي أمالي الشيخ مسندا ، وعن مناقب ابن المغازلي مرغوعا عن ابن مسعود عن

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 279 _
  النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الآية عن قول الله لابراهيم : من سجد لصنم دوني لا أجعله اماما ، قال (ع) وانتهت الدعوة إلى والى أخي علي ، لم يسجد أحدنا لصنم قط.
  وفي الدر المنثور : أخرج وكيع وابن مردويه عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عن الني في قوله : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال : لا طاعة الا في المعروف.
  وفي الدر اللمنثور أيضا : أخرج عبد بن حميد عن عمران بن حصين سمعت النبي يقول : لا طاعة لمخلوق في معصية الله.
  أقول : معانيها ظاهرة مما مر .
  وفي تفسير العياشي ، بأسانيد عن صفوان الجمال قال : كنا بمكة فجرى الحديث في قول الله : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) قال : فأتمهن بمحمد وعلي والائمة من ولد علي في قول الله : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ).
  اقول : والرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الامامة كما فسرت بها في قوله تعالى : ( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) الآية فيكون معنى الاية : ( واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات ، هن امامته ، وامامة اسحق وذريته ، واتمهن بإمامة محمد ، والائمة من أهل بيته من ولد اسمعيل ثم بين الامر بقوله : قال إني جاعلك للناس اماما إلى آخر الآية.
  ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) ـ 125 ، ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 280 _
  مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) ـ 126 ، ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ـ 127 ، ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ـ 128 ، ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) ـ 129.
  ( بيان )
  قوله تعالى : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ، إشارة إلى تشريع الحج والامن في البيت ، والمثابة هي المرجع ، من ثاب يثوب إذا رجع.
  قوله تعالى : واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى كإنه عطف على قوله : جعلنا البيت مثابة ، بحسب المعنى ، فأن قوله : جعلنا البيت مثابة ، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى وإذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت وحجوا إليه ، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي وربما قيل إن الكلام على تقدير القول ، والتقدير : وقلنا اتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ، والمصلى اسم مكان من الصلوة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه ( عليه السلام ) مكانا للدعاء والظاهر ان قوله : جعلنا البيت مثابة إلخ بمنزلة التوطئة اشير به إلى مناط تشريع الصلوة ولذا لم يقل : وصلوا ، في مقام ابراهيم ، بل قال : واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ، فلم يعلق الامر بالصلوة في المقام ، بل علق على اتخاذ المصلى منه.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 281 _
  قوله تعالى : وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أن طهرا ، العهد هو الامر والتطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين ، والعاكفين ، والمصلين ، ونسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية ، وأصل المعنى : أن خلصا بيتي لعبادة العباد ، وذلك تطهير وإما تنظيفه من الاقذار والكثافات الطارئة من عدم مبالات الناس ، والركع السجود جمعا راكع وساجد وكان المراد به المصلون.
  قوله تعالى : وإذ قال ابراهيم رب اجعل ، هذا دعاء دعا به ابراهيم يسئل به الامن على أهل مكة والرزق وقد اجيبت دعوته ، وحاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه ولا يرده في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغى به لاغ جاهل ، وقد قال تعالى : ( وَالْحَقَّ أَقُولُ ) ص ـ 84 ، وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق ـ 14.
  وقد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعابها ، وسئلها ربه كدعائه لنفسه في بادئ أمره ، ودعائه عند مهاجرته إلى سورية ودعائه ومسئلته بقاء الذكر الخير ، ودعائه لنفسه وذريته ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات ، ودعائه لاهل مكة بعد بناء البيت ، ودعائه ومسئلته بعثة النبي من ذريته ، ومن دعواته ومسائله التي تجسم آماله وتشخص مجاهداته ومساعيه في جنب الله وفضائل نفسه المقدسة ، وبالجملة تعرف موقعه وزلفاه من الله عز اسمه ، وسائر قصصه وما مدحه به ربه ، يستنبط شرح حيوته الشريفة وسنتعرض للميسور من ذلك في سورة الانعام.
  قوله تعالى : من آمن منهم ، لما سئل ( عليه السلام ) لبلد مكة الامن ، ثم سئل لاهلة أن يرزقوا من الثمرات ، استشعر : أن الاهل سيكون منهم مؤمنون ، وكافرون ودعائه للاهل بالرزق يعم الكافر والمؤمن ، وقد تبرا من الكافرين وما يعبدونه ، قال تعالى ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) التوبة ـ 114 ، فشهد تعالى له : بالبرائة والتبري عن كل عدو لله ، حتى أبيه ، ولذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم ـ وهو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين ، على ما يحكم به ناموس الحيوة الدنيوية الاجتماعية ـ غير أنه خص مسئلته ـ والله أعلم ـ بما يحكم لسائر عباده ، ويريد في حقهم ، فاجيب (ع) بما يشمل المؤمن والكافر ، وفيه

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 282 _
  بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة وقانون الطبيعة من غير خرق للعادة ، وإبطال لظاهر حكم الطبيعة ، ولم يقل : وارزق من آمن من أهلة من الثمرات لان المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم ، ولا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع ، وقع فيه البيت ، ولو لا ذلك لم يعمر البلد ، ولا وجد أهلا يسكنونه.
  قوله تعالى : ومن كفر فامتعه قليلا ، قرء فامتعه من باب الافعال والتفعيل والامتاع والتمتيع بمعنى واحد.
  قوله تعالى : ثم اضطره إلى عذاب النار الخ ، فيه إشارة إلى مزيد اكرام البيت وتطييب لنفس ابراهيم (ع) ، كأنه قيل : ما سئلته من اكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته وزيادة ، ولا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله ، وانما ذلك اكرام لهذا البلد ، واجابة لدعوتك بأزيد مما سئلته ، فسوف يضطر إلى عذاب النار ، وبئس المصير.
  قوله تعالى : واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل ، القواعد جمع قاعدة وهي ما قعد من البناء على الارض ، واستقر عليه الباقي ، ورفع القواعد من المجاز بعد ما يوضع عليها منها ، ونسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها. وفي قوله تعالى : من البيت تلميح إلى هذه العناية المجازية.
  قوله تعالى : ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم ، دعاء لابراهيم واسمعيل ، وليس على تقدير القول ، أو ما يشبهه ، والمعنى يقولان : ربنا تقبل منا الخ ، بل هو في الحقيقة حكاية المقول نفسه ، فإن قوله : يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل حكاية الحال الماضية ، فهما يمثلان بذلك تمثيلا كأنهما يشاهدان وهما مشتغلان بالرفع ، والسامع يراهما على حالهما ذلك ثم يسمع دعائهما بألفاظهما من غير وساطة المتكلم المشير إلى موقفهما وعملهما ، وهذا كثير في القرآن ، وهو من أجمل السياقات القرآنية ـ وكلها جميل ـ وفيه من تمثيل القصة وتقريبه إلى الحس ما لا يوجد ولا شئ من نوع بداعته في التقبل بمثل القول ونحوه .
  وفي عدم ذكر متعلق التقبل ـ وهو بناء البيت ـ تواضع في مقام العبودية ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 283 _
  واستحقار لما عملا به و المعنى ربنا تقبل منا هذا العمل اليسير انك أنت السميع لدعوتنا ، العليم بما نويناه في قلوبنا.
  قوله تعالى : ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، من البديهي أن الاسلام على ما تداول بيننا من لفظه ، ويتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية ، وبه يمتاز المنتحل من غيره ، وهو الاخذ بظاهر الاعتقادات والاعمال الدينية أعم من الايمان والنفاق ، وابراهيم ( عليه السلام ) ـ وهو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم ، صاحب الملة الحنيفية ـ أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين ، وكذا ابنه اسمعيل رسول الله وذبيحه ، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك ، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك ، وهما في ما هما فيه من القربى والزلفى ، والمقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم ، وهما أعلم بمن يسالانه ، وأنه من هو ، وما شأنه ، على أن هذا الاسلام من الامور الاختيارية التي يتعلق بها الامر والنهى كما قال تعالى : ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )البقرة ـ 131 ، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للانسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك.
  فهذا الاسلام المسئول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه ، فإن الاسلام مراتب والدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى : ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ ) الآية حيث يأمرهم إبراهيم بالاسلام وقد كان مسلما ، فالمراد بهذا الاسلام المطلوب غير ما كان عنده من الاسلام الموجود ، ولهذا نظائر في القرآن.
  فهذا الاسلام هو الذي سنفسره من معناه ، وهو تمام العبودية وتسليم العبد كل ما له إلى ربه ، وهو إن كان معنى اختياريا للانسان من طريق مقدماته إلا أنه إذا اضيف إلى الانسان العادي وحاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له ـ وحاله حاله ـ كساير مقامات الولاية ومراحله العالية ، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الانسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة ، ولهذا يمكن إن يعد أمرا إلهيا خارجا عن اختيار الانسان ، ويسئل من الله سبحانه أن يفيض به ، وأن يجعل الانسان متصفا به.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 284 _
  على أن هنا نظرا أدق من ذلك ، وهو ان الذي ينسب إلى الانسان ويعد اختياريا له ، هو الافعال ، وأما الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة ، فمن الجائز أو الواجب ان ينسب إليه تعالى ، وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نسبتها إليه تعالى ، أولى من نسبتها إلى الانسان ، وعلى ذلك جرى ديدن القرآن ، كما في قوله تعالى : ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) إبراهيم ـ 40 ، وقوله تعالى : ( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) الشعراء ـ 83 ، وقوله تعالى : ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ) النمل ـ 19 ، وقوله تعالى : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) الآية ، فقد ظهر ان المراد بالاسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) الحجرات ـ 14 ، بل معنى أرقي وأعلى منه سيجئ بيانه.
  قوله تعالى : وأرنا مناسكنا وتب علينا. انك أنت التواب الرحيم ، يدل على ما مر من معنى الاسلام أيضا ، فأن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة ، كما في قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا ) الحج ـ 34 ، أو بمعنى المتعبد ، أعني الفعل المأتي به عبادة وإضافة المصدر يفيد التحقق ، فالمراد بمناسكنا هي الافعال العبادية الصادرة منهما والاعمال التي يعملانها دون الافعال ، والاعمال التي يراد صدورها منهما ، فليس قوله : أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا ، بل التسديد بارائة حقيقة الفعل الصادر منهما ، كما أشرنا إليه في قوله تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ) الانبياء ـ 73 ، وسنبينه في محله : ان هذا الوحي تسديد في الفعل ، لاتعليم للتكليف المطلوب ، وكأنه إليه الاشارة بقوله تعالى : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) ص ـ 46.
  فقد تبين ان المراد بالاسلام والبصيرة في العبادة ، غير المعنى الشائع المتعارف ، وكذلك المراد بقوله تعالى : وتب علينا ، لان إبراهيم وإسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى ، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه ، كتوبتنا من المعاصي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 285 _
  اصادرة عنا.
  فان قلت : كل ما ذكر من معنى الاسلام وإرائة المناسك والتوبة مما يليق بشأن إبراهيم واسمعيل ( عليه السلام ) ، لا يلزم ان يكون هو مراده في حق ذريته فانه لم يشرك ذريته معه ومع ابنه اسمعيل إلا في دعوة الاسلام وقد سال لهم الاسلام بلفظ آخر في جملة اخرى ، فقال : ومن ذريتنا امة مسلمة لك ولم يقل : واجعلنا ومن ذريتنا مسلمين ، أو ما يؤدي معناه فما المانع أن يكون مراده من الاسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الاسلام ، فان الظاهر من الاسلام أيضا له آثار جميلة ، وغايات نفيسة في المجتمع الانساني ، يصح أن يكون بذلك بغية لابراهيم ( عليه السلام ) يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث اكتفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الاسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء ، ويجوز التزويج ، ويملك الميراث ، وعلى هذا يكون المراد بالاسلام في قوله تعالى : ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ما يليق بشأن ابراهيم واسمعيل ، وفي قوله : ومن ذريتنا امة مسلمة لك ما هو اللائق بشأن الامة التي فيها المنافق ، وضعيف الايمان وقويه ، والجميع مسلمون.
  قلت : مقام التشريع ومقام السؤال من الله مقامان مختلفان ، لهما حكمان متغايران لا ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر ، فما اكتفى به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من امته بظاهر الشهادتين من الاسلام ، انما هو لحكمة توسعة الشوكة والحفظ لظاهر النظام الصالح ، ليكون ذلك كالقشر يحفظ به اللب الذي هو حقيقة الاسلام ، ويصان به عن مصادمة الآفات الطارئة.
  وأما مقام الدعاء والسؤال من الله سبحانه فالسلطة فيها للحقائق والغرض متعلق هناك بحق الامر ، وصريح القرب والزلفى ولا هوى للانبياء في الظاهر من جهة ما هو ظاهر ولا هوى لابراهيم ( عليه السلام ) في ذريته ولو كان له هوى لبدء فيه لابيه قبل ذريته ولم يتبرا منه لما تبين أنه عدو لله ، ولم يقل في ما حكى الله من دعائه ( وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء ـ 89 ، ولم يقل ( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء ـ 84 ، بل اكتفى بلسان ذكر في الآخرين إلى غير ذلك.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 276 _
  فليس الاسلام الذي ساله لذريته الا حقيقة الاسلام ، وفي قوله تعالى : امة مسلمة لك ، اشارة إلى ذلك فلو كان المراد مجرد صدق اسم الاسلام على الذرية لقيل : امة مسلمة ، وحذف قوله : لك هذا.
  قوله تعالى : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الخ دعوة للني ( عليه السلام ) وقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ( أنا دعوة ابراهيم ).
  ( بحث روائي )
  في الكافي عن الكتاني ، : قال سئالت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام ابراهيم في طواف الحج والعمرة ، فقال ( عليه السلام ) إن كان بالبلد صلى الركعتين عند مقام ابراهيم ، فإن الله عزوجل يقول : ( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ ) : مصلى وان كان قد ارتحل ، فلا آمره أن يرجع.
  أقول : وروى قريبا منه ، الشيخ في التهذيب ، والعياشي في تفسيره بعدة أسانيد وخصوصيات الحكم ـ وهو الصلوة عند المقام أو خلفه ، كما في بعض الروايات ليس لاحد أن يصلي ركعتي الطواف إلا خلف المقام ، الحديث ـ مستفادة من لفظة من ، ومصلى من قوله تعالى : ( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) الآية.
  وفي تفسير القمي عن الصادق (ع) في قوله تعالى : ( أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) الآية يعني ( نح عنه المشركين ).
  وفي الكافي عن الصادق (ع) قال إن الله عزوجل يقول في كتابه : طهرا بيتى للطائفين والعاكفين ، والركع السجود ، فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا وهو طاهر قد غسل عرقه ، والاذى ، وتطهر.
  أقول : وهذا المعنى مروي في روايات اخر ، واستفادة طهارة الوارد من طهارة المورد ، ربما تمت من آيات أخر ، كقوله تعالى ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) النور ـ 26 ، ونحوها.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 287 _
  وفي المجمع عن ابن عباس قال : لما أتي إبراهيم باسمعيل وهاجر ، فوضعهما بمكة واتت على ذلك مدة ، ونزلها الجرهميون ، وتزوج إسمعيل امرأه منهم ، وماتت هاجر ، واستأذن ابراهيم سارة ، فأذنت له ، وشرطت عليه أن لا ينزل ، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت اسمعيل ، فقال لامرأته أين صاحبك ؟ قالت له ليس هو هيهنا ، ذهب يتصيد ، وكان اسمعيل يخرج من الحرم يتصيد ويرجع ، فقال لها ابراهيم : هل عندك ضيافة ؟ فقالت ليس عندي شئ ، وما عندي أحد ، فقال لها ابراهيم : إذا جاء زوجك ، فاقرئيه السلام وقولي له : فليغير عتبة بابه وذهب ابراهيم فجاء اسمعيل ، ووجد ريح أبيه ، فقال لامرأاته : هل جاءك أحد ؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا ، كالمستخفه بشأنه ، قال : فما قال لك ؟ قالت : قال لى : اقرأي زوجك السلام ، وقولي له : فليغير عتبة بابه ، فطلقها وتزوج أخرى ، فلبث ابراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم استأذن سارة : أن يزور اسمعيل وأذنت له ، واشترطت عليه : أن لا ينزل فجاء ابراهيم ، حتى انتهى إلى باب اسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت : ذهب يتصيد وهو يجئ الآن إنشاء الله ، فانزل ، يرحمك الله ، قال لها : هل عندك ضيافة ؟ قالت : نعم فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لها بالبركة ، فلو جائت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا ، فقالت له انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه فوضع قدمه عليه ، فبقى أثر قدمه عليه ، فغسلت شق رأسه الايمن ثم حولت المقام إلى شقه الايسر فغسلت شق رأسه الايسر فبقي أثر قدمه عليه ، فقال لها : إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام ، وقولي له : قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسمعيل (ع) وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جائك أحد ؟ قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها ، وأطيبهم ريحا ، فقال لي كذا وكذا وقلت له : كذا وغسلت رأسه ، وهذا موضع قدميه على المقام ، فقال اسماعيل لها : ذاك ابراهيم.
  أقول : وروى القمي ، في تفسيره : ما يقرب منه.
  وفي تفسير القمي ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إن ابراهيم كان نازلا ، في بادية

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 288 _
  الشام فلما ولد له من هاجر إسمعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا ، لانه لم يكن لها ولد ، وكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه ، فشكى ابراهيم ذلك إلى الله عزوجل ، فأوحى الله إليه : ( مثل المرئة مثل الضلع العوجاء ، إن تركتها استمتعت بها ، وإن أقمتها كسرتها ) ثم أمره : إن يخرج إسمعيل وامه ، فقال : يا رب إلى أي مكان ؟ فقال إلى حرمى وأمنى ، وأول بقعة خلقتها من الارض ، وهي مكة فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر وإسمعيل وإبراهيم وكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر وزرع ونخل إلا وقال ابراهيم : يا جبرئيل إلى هيهنا ، إلى هيهنا ، فيقول جبرئيل لا امض ، امض ، حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت ، وقد كان ابراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها ، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر ، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها ، فاستظلوا تحته ، فلما سرحهم ابراهيم ووضعهم أراد الانصراف عنهم إلى سارة ، قالت له هاجر : يا ابراهيم أتدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ فقال ابراهيم : الله الذي أمرني ، أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم ثم انصرف عنهم ، فلما بلغ ، كداء ، ( وهو جبل بذي طوى ) التفت ابراهيم ، فقال : رب انى أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ، عند بيتك المحرم ، ربنا ليقيموا الصلوة ، فاجعل أفئده من الناس تهوي إليهم ، وارزقهم من الثمرات ، لعلهم يشكرون ، ثم مضى وبقيت هاجر ، فلما ارتفع النهار عطش اسمعيل ، فقامت هاجر في موضع السعي فصعدت على الصفا ، ولمع لها السراب في الوادي ، فظنت أنه ماء ، فنزلت في بطن الوادي ، وسعت فلما بلغت المروة غاب عنها اسمعيل ، عادت حتى بلغت الصفاء ، فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع ، وهي على المروة نظرت إلى اسمعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه فعادت حتى جمعت حوله رملا ، فإنه كان سائلا ، فزمته بما جعلت حوله ، فلذلك سميت زمزم وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات ، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء ، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير والوحش على ذلك المكان فأتبعتها ، حتى نظروا إلى امرأة وصبي نازلين في ذلك الموضع ، قد استظلا بشجرة ، وقد ظهر الماء لهما ، فقالوا لهاجر : من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي ؟ قالت : أنا أم ولد ابراهيم خليل الرحمن ، وهذا ابنه ، أمره الله أن ينزلنا هيهنا ، فقالوا له : أتأذنين لنا أن نكون

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 289 _
  بالقرب منكم ؟ فقالت لهم : حتى يأتي إبراهيم ، فلما زارهم إبراهيم في اليوم الثالث قالت هاجر : يا خليل الله إن هيهنا قوما من جرهم يسئلونك : أن تأذن لهم ، حتى يكونوا بالقرب منا ، أفتأذن لهم في ذلك ؟ قال ابراهيم : نعم فأذنت هاجر لهم ، فنزلوا بالقرب منهم ، وضربوا خيامهم ، فأنست هاجر واسمعيل بهم ، فلما زارهم ابراهيم في المرة الثانية نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بذلك سرورا شديدا ، فلما تحرك اسمعيل وكانت جرهم قد وهبوا لاسماعيل كل واحد منهم شاة ، وشاتين فكانت هاجر واسمعيل ، يعيشان بها فلما بلغ اسمعيل مبلغ الرجال ، أمر الله ابراهيم : ان يبني البيت إلى أن قال : فلما أمر الله ابراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه ، فبعث الله جبرئيل ، وخط له موضع البيت إلى أن قال فبنى ابراهيم البيت ، ونقل اسمعيل من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة اذرع ، ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه ابراهيم ، ووضعه في موضعه الذي هو فيه الآن ، فلما بنى جعل له بابين بابا إلى الشرق ، وبابا إلى الغرب ، والباب الذي إلى الغرب ، يسمى المستجار ، ثم ألقى عليه الشجر والاذخر ، وألقت هاجر على بابها كسائا كان معها وكانوا يكونون تحته ، فلما بنى وفرغ منه ، حج ابراهيم واسمعيل ، ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية ، لثمان من ذي الحجة فقال : يا إبراهيم قم وارتو من الماء ، لانه لم يكن بمنى وعرفات ماء ، فسميت التروية لذلك ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم ، فقال ابراهيم لما فرغ من بناء البيت : ( رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم ) الآية قال ( عليه السلام ) : من ثمرات القلوب ، أي حببهم إلى الناس ، ليستأنسوا بهم ، ويعودوا إليهم.
  أقول : هذا الذي لخصناه من أخبار القصة هو الذي تشتمل عليه الروايات الواردة في خلاصه القصة ، وقد اشتملت عدة منها ، وورد في اخبار أخرى : أن تاريخ بناء البيت يتضمن امورا خارقة للعادة ، ففي بعض الاخبار ، أن البيت أول ما وضع كان قبة من نور : نزلت على آدم ، واستقرت في البقعة التي بنى إبراهيم عليها البيت ، ولم تزل حتى وقع طوفان نوح ، فلما غرقت الدنيا رفعه الله تعالى ، ولم تغرق البقعة ، فسمى لذلك البيت العتيق.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 290 _
  وفي بعض الاخبار : أن الله أنزل قواعد البيت من الجنة.
  وفي بعضها ان الحجر الاسود نزل من الجنة ـ وكان أشد بياضا من الثلج ـ فاسودت : لما مسته إيدي الكفار.
  وفي الكافي أيضا عن إحدهما ( عليه السلام ) قال : ان الله إمر إبراهيم ببناء الكعبة ، وان يرفع قواعدها ، ويرى الناس مناسكهم ، فبنى إبراهيم واسمعيل البيت كل يوم ساقا ، حتى انتهى إلى موضع الحجر الاسود ، وقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : فنادى أبو قبيس : ان لك عندي وديعة ، فأعطاه الحجر ، فوضعه موضعه.
  وفي تفسير العياشي عن الثوري عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال سألته عن الحجر ، فقال : نزلت ثلاثة أحجار من الجنة ، الحجر الاسود استودعه إبراهيم ، ومقام إبراهيم ، وحجر بني إسرائيل.
  وفي بعض الاخبار : ان الحجر الاسود كان ملكا من الملائكة.
  أقول : ونظائر هذه المعاني كثيرة واردة في أخبار العامة والخاصة ، وهي وان كانت آحادا غير بالغة حد التواتر لفظا ، أو معنى ، لكنها ليست بعادمة النظير في أبواب المعارف الدينية ولا موجب لطرحها من رأس.
  أما ما ورد من نزول القبة على آدم ، وكذا سير إبراهيم إلى مكة بالبراق ، ونحو ذلك ، مما هو كرامة خارقة لعادة الطبيعة ، فهي امور لا دليل على استحالتها ، مضافا إلى ان الله سبحانه خص أنبيائه بكثير من هذه الآيات المعجزة ، والكرامات الخارقة ، والقرآن يثبت موارد كثيرة منها.
  وأما ما ورد من نزول قواعد البيت من الجنة ونزول الحجر الاسود من الجنة ، ونزول حجر المقام ـ ويقال : انه مدفون تحت البناء المعروف اليوم بمقام إبراهيم ـ من الجنة وما أشبه ذلك ، فذلك كما ذكرنا كثير النظائر ، وقد ورد في عدة من النباتات والفواكه وغيرها : انها من الجنة ، وكذا ما ورد : انها من جهنم ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 291 _
  ومن فورة الجحيم ، ومن هذا الباب أخبار الطينة القائلة : ان طينة السعداء من الجنة ، وان طينة الاشقياء من النار ، أو هما من عليين ، وسجين ، ومن هذا الباب أيضا ما ورد : ان جنة البرزخ في بعض الاماكن الارضية ، ونار البرزخ في بعض آخر ، وان القبر اما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، إلى غير ذلك ، مما يعثر عليه المتتبع البصير في مطاوي الاخبار ، وهي كما ذكرنا بالغة في الكثرة حدا ليس مجموعها من حيث المجموع بالذى يطرح أو يناقش في صدوره أو صحة انتسابه وإنما هو من الهيات المعارف التي سمح بها القرآن الشريف ، وانعطف إلى الجري على مسيرها الاخبار الذي يقضى به كلامه تعالى : ان الاشياء التي في هذه النشأه الطبيعية المشهودة جميعا نازلة إليها من عند الله سبحانه ، فما كانت منها خيرا جميلا ، أو وسيلة خير ، أو وعاء لخير ، فهو من الجنة ، وإليها تعود ، وما كان منها شرا ، أو وسيلة شر ، أو وعاء لشر ، فهو من النار ، وإليها ترجع ، قال تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر ـ 21 ، أفاد : ان كل شئ موجود عنده تعالى وجودا غير محدود بحد ، ولا مقدر بقدر ، وعند التنزيل ـ وهو التدريج في النزول ـ يتقدر بقدره ويتحدد بحده ، فهذا على وجه العموم ، وقد ورد بالخصوص أيضا أمثال قوله تعالى : ( وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) الزمر ـ 6 ، وقوله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ ) الحديد ـ 25 ، وقوله تعالى : ( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) الذاريات ـ 22 ، على ما سيجئ من توضيح معناها إنشاء الله العزيز ، فكل شئ نازل إلى الدنيا من عند الله سبحانه ، وقد أفاد في كلامه : أن الكل راجع إليه سبحانه ، فقال : ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) النجم ـ 42 ، وقال تعالى : ( إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ) العلق ـ 8 ، قال : ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) المؤمن ـ 3 ، وقال تعالى : ( أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى ـ 53 ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
  وأفاد : أن الاشياء ـ وهي بين بدئها وعودها ـ تجري على ما يستدعيه بدؤها ، ويحكم به حظها من السعادة والشقاء ، والخير والشر ، فقال تعالى : ( كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) أسراء ـ 84 ، وقال : ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ) البقرة ـ 148 ، وسيجئ توضيح دلالتها جميعا ، والغرض هيهنا مجرد الاشارة إلى ما يتم به البحث ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 292 _
  وهو ان هذه الاخبار الحاكية عن كون هذه الاشياء الطبيعية ، من الجنة ، أو من النار ، إذا كانت ملازمة لوجه السعادة أو الشقاوة لا تخلو عن وجه صحة ، المطابقتها لاصول قرآنية ثابتة في الجملة ، وان لم يستلزم ذلك كون كل واحد واحد صحيحا ، يصح الركون إليه ، فافهم المراد.
  وربما قال القائل : ان قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ) الآية ظاهر في انهما ، هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية ، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين ، جاؤنا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا ، وتفننوا في رواياتهم ، عن قدم البيت ، وعن حج آدم ، وعن ارتفاعه إلى السماء وقت الطوفان وعن كون الحجر الاسود من أحجار الجنة ، وقد أراد هؤلاء القصاصون أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه ، وهذه التزيينات بزخارف القول ، وان أثرت أثرها في قلوب العامة ، لكن أرباب اللب والنظر من أهل العلم يعلمون ان الشرف المعنوي الذي أفاضه الله سبحانه ، بتكريم بعض الاشياء على بعض ، فشرف البيت إنما هو بكونه بيتا لله ، منسوبا إليه ، وشرف الحجر الاسود بكونه موردا للاستلام بمنزلة يد الله سبحانه ، وأما كون الحجر في أصله ياقوتة ، أو درة ، أو غير ذلك ، فلا يوجب مزية فيه ، وشرفا حقيقا له ، و ما الفرق بين حجر أسود ، وحجر أبيض ، عند الله تعالى في سوق الحقائق ، فشرف هذا البيت بتسمية الله تعالى إياه بيته ، وجعله موضعا لضروب من عبادته ، لا تكون في غيره ـ كما تقدم ـ لا بكون أحجاره تفضل سائر الاحجار ، ولا بكون موقعه تفضل سائر المواقع ، ولا بكونه من السماء ، وعالم الضياء وكذلك شرف الانبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم ، ولافي ملابسهم ، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم ، وتخصيصهم بالنبوة ، التي هي أمر معنوي ، وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة ، وأكثر نعمة منهم.
  قال : وهذه الروايات فاسده ، في تناقضها وتعارضها في نفسها ، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها ، وفاسدة في مخالفتها لظاهر الكتاب.
  قال : وهذه الروايات خرافات إسرائيلية ، بثها زنادقة اليهود في المسلمين ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 293 _
  ليشوهوا عليهم دينهم ، وينفروا أهل الكتاب منه.
  اقول : ما ذكره لا يخلو من وجه في الجملة ، الا انه أفرط في المناقشة ، فاعترضه من خبط القول ما هو أردى وأشنع.
  أما قوله : أن هذه الروايات فاسدة أولا من جهة التناقض والتعارض وثانيا من جهة مخالفة الكتاب ، ففيه أن التناقض أو التعارض إنما يضر لو أخذ بكل واحد واحد منها ، وأما الاخذ بمجموعها من حيث المجموع ( بمعنى أن لا يطرح الجميع لعدم اشتمالها على ما يستحيل عقلا أو يمنع نقلا ) فلا يضره التعارض الموجود فيها وإنما نعني بذلك : الروايات الموصولة إلى مصادر العصمة ، كالنبى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والطاهرين من أهل بيته ، وأما غيرهم من مفسري الصحابة ، والتابعين ، فحالهم حال غيرهم من الناس وحال ما ورد من كلامهم الخالي عن التناقض ، حال كلامهم المشتمل على التناقض وبالجملة لا موجب لطرح رواية ، أو روايات ، إلا إذا خالفت الكتاب أو السنة القطعية ، أو لاحت منها لوائح الكذب والجعل ، كما لا حجية إلا للكتاب والسنة القطعية ، في اصول المعارف الدينية الالهية.
  فهناك ما هو لازم القبول ، وهو الكتاب والسنة القطعية وهناك ما هو لازم الطرح ، وهو ما يخالفهما من الآثار ، وهناك مالا دليل على رده ، ولا على قبوله ، وهو ما لا دليل من جهة العقل على استحالته ، ولا من جهة النقل أعني : الكتاب والسنة القطعية على منعه.
  وبه يظهر فساد اشكاله بعدم صحة أسانيدها ، فإن ذلك لا يوجب الطرح ما لم يخالف العقل أو النقل الصحيح.
  وأما مخالفتها لظاهر قوله : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ ) الآية فليت شعري : أن الآية الشريفة كيف تدل على نفى كون الحجر الاسود من الجنة ؟ أم كيف تدل على نفى نزول قبة على البقعة في زمن آدم ، ثم ارتفاعها في زمن نوح ؟ وهل الآية تدل على أزيد من أن هذا البيت المبني من الحجر والطين بناء ابراهيم ؟ وأي ربط له اثباتا أو نفيا بما تتضمنه الروايات التي أشرنا إليها ، نعم لا يستحسنه طبع هذا القائل ، ولا يرتضيه رأيه

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 294 _
  لعصبية مذهبية توجب نفى معنويات الحقائق عن الانبياء ، واتكاء الظواهر الدينية على اصول وأعراق معنوية ، أو لتبعية غير ارادية للعلوم الطبيعية المتقدمة اليوم ، حيث تحكم : أن كل حادثة من الحوادث الطبيعية ، أو ما يرتبط بها أي ارتباط من المعنويات يجب أن يعلل بتعليل مادي أو ما ينتهي إلى المادة ، الحاكمة في جميع شؤون الحوادث كالتعليمات الاجتماعية.
  وقد كان من الواجب : أن يتدبر في أن العلوم الطبيعية شأنها البحث عن خواص المادة وتراكيبها وارتباط الآثار الطبيعية بموضوعاتها ذاك ، الارتباط الطبيعي وكذا العلوم الاجتماعية إنما تبحث عن الروابط الاجتماعية بين الحوادث الاجتماعية فقط.
  وأما الحقائق الخارجة عن حومة المادة وميدان عملها ، المحيطة بالطبيعة وخواصها وارتباطاتها المعنوية غير المادية مع الحوادث الكونية وما اشتمل عليه عالمنا المحسوس فهي أمور خارجة عن بحث العلوم الطبيعية والاجتماعيه ، ولا يسعها أن تتكلم فيها أو تتعرض لاثباتها ، أو تقضي بنفيها العلوم الطبيعية إنما يمكنها أن تقضي أن البيت يحتاج في الطبيعة إلى أجزاء من الطين والحجر ، وإلى بان يبنيه ويعطيه بحركاته وأعماله هيئة البيت أو كيف تتكون الحجرة من الاحجار السود وكذا الابحاث الاجتماعية تعين الحوادث الاجتماعية التي أنتجت بناء ابراهيم للبيت ، وهي جمل من تاريخ حياته ، وحياة هاجر ، واسمعيل ، وتاريخ تهامة ، ونزول جرهم ، إلى غير ذلك ، وأما أنه ما نسبة هذا الحجر مثلا إلى الجنة أو النار الموعودتين فليس من وظيفة هذه العلوم أن تبحث عنه ، أو تنفى ما قيل ، أو يقال فيه ، وقد عرفت : أن القرآن الشريف هو الناطق بكون هذه الموجودات الطبيعية المادية نازلة إلى مقرها ومستقرها من عند الله سبحانه ثم راجعة إليه متوجهة نحوه ( أيما إلى جنة أيما إلى نار ) ، وهو الناطق بكون الاعمال صاعدة إلى الله ، مرفوعة نحوه ، نائلة إياه ، مع أنها حركات وأوضاع طبيعية ، تألفت تألفا اعتباريا اجتماعيا من غير حقيقة تكوينية ، قال تعالى : ( وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ) الحج ـ 37 ، والتقوى فعل ، أو صفة حاصلة من فعل ، وقال تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر ـ 10 ، فمن الواجب على الباحث الديني أن يتدبر في هذه الآيات فيعقل أن المعارف الدينية لا مساس لها مع الطبيعيات والاجتماعيات من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي على الاستقامة وانما اتكاؤها وركونها

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 295 _
  إلى حقائق ومعان وراء ذلك.
  وأما قوله : إن شرف الانبياء والمعاهد والامور المنسوبة إليهم كالبيت والحجر الاسود ليس شرفا ظاهريا بل شرف معنوي ناش عن التفضيل الالهي فكلام حق ، لكن يجب أن يفهم منه حق المعنى الذي يشتمل عليه ، فما هذا الامر المعنوي الذي يتضمن الشرافة ؟ فإن كان من المعاني التي يعطيها الاحتياجات الاجتماعية لموضوعاتها وموادها نظير الرتب والمقامات التي يتداولها الدول والملل كالرئاسة والقيادة في الانسان وغلاء القيمة في الذهب والفضة وكرامة الوالدين وحرمة القوانين والنواميس فإنما هي معان يعتبرها الاجتماعات لضرورة الاحتياج الدنيوي ، لا أثر منها في خارج الوهم والاعتبار الاجتماعي ، ومن المعلوم أن الاجتماع الكذائي لا يتعدي عالم الاجتماع الذي صنعته الحاجة الحيوية ، والله عز سلطانه أقدس ساحة من أن يتطرق إليه هذه الحاجة الطارقة على حيوة الانسان ، ومع ذلك فإذا جاز أن يتشرف النبي بهذا الشرف غير الحقيقي فليجز أن يتشرف بمثله بيت أو حجر ، وان كان هذا الشرف حقيقيا واقعيا من قبيل النسبة بين النور والظلمة ، والعلم والجهل ، والعقل والسفه بأن كان حقيقة وجود النبي غير حقيقة وجود غيره وان كانت حواسا الظاهرية لا تنال ذلك وهو اللائق بساحة قدسه من الفعل والحكم ، كما قال الله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) الدخان ـ 39 ، وسيجئ بيانه كان ذلك عائدا إلى نسبة حقيقية معنوية غير مادية إلى ما وراء الطبيعة فإذا جاز تحققها في الانبياء بنحو فليجز تحققها في غير الانبياء كالبيت والحجر ونحوهما وإن وقع التعبير عن هذه النسب الحقيقية المعنوية بما ظاهره المعاني المعروفة عند العامة التي اصطلحت عليه أهل الاجتماع.
  وليت شعري : ما ذا يصنعه هؤلاء في الآيات التي تنطق بتزيين الجنة وتشريف أهلها بالذهب والفضة ، وهما فلزان ليس لهما من الشرف إلا غلاء القيمة المستندة إلى عزة الوجود ؟ فما ذا يراد من تشريف أهل الجنة بهما ؟ وما الذي يؤثره معنى الثروة في الجنة ولا معنى للاعتبار المالي في الخارج من ظرف الاجتماع ؟ فهل لهذه البيانات الالهية والظواهر الدينية وجه غير انها حجب من الكلام وأستار وراءها أسرار ؟ فلئن جاز أمثال هذه البيانات في أمور نشأة الآخرة فليجز نظيرتها في بعض الامور نشأه الدنيا.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 296 _
  وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن أبى عبد الله ( عليه السلام ) قال : قلت له : أخبرني عن أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هم ؟ قال أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنو هاشم خاصة قلت : فما الحجة في أمة محمد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم ؟ قال : قول الله : وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسمعيل ربنا تقبل منا ، انك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم ، فلما أجاب الله ابراهيم واسمعيل وجعل من ذريتهما أمة مسلمة وبعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الامة يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وردف دعوته الاولى دعوته الاخرى فسال لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الاصنام ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم ، فقال : واجنبني وبني أن نعبد الاصنام رب انهن أضللن كثيرا من الناس ، فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ففي هذا دلالة على أنه لا يكون الائمة والامة المسلمة ، التي بعث فيها محمدا الا من ذرية ابراهيم لقوله : أجنبني وبني أن نعبد الاصنام.
  أقول : استدلاله ( عليه السلام ) في غاية الظهور ، فإن ابراهيم (ع) انما سال امة مسلمة من ذريته خاصة ، ومن المعلوم من ذيل دعوته : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم اه : أن هذه الامة المسلمة هي أمة محمد (ص) لكن لا أمة محمد بمعنى الذين بعث (ص) إليهم ولا أمة محمد بمعنى من آمن بنبوته فإن هذه الامة أعم من ذرية ابراهيم واسمعيل بل امة مسلمة هي من ذرية ابراهيم (ع) ثم سال ربه أن يجنب ويبعد ذريته وبنيه من الشرك والضلال وهي العصمة ، ومن المعلوم أن ذرية ابراهيم واسمعيل ـ وهم عرب مضر أو قريش خاصة ـ فيهم ضال ومشرك فمراده من بنيه في قوله : وبني ، أهل العصمة من ذريتة خاصه ، وهم النبي وعترته الطاهرة ، فهؤلاء هم أمة محمد (ص) في دعوة ابراهيم (ع) ، ولعل هذه النكتة هي الموجبة للعدول عن لفظ الذرية إلى لفظ البنين ، ويؤيده قوله : (ع) : فمن تبعني فإنه مني ، ومن عصاني فانك غفور رحيم الآية ، حيث أتى بفاء التفريع وأثبت من تبعه جزءا من نفسه ، وسكت عن غيرهم كأنه ينكرهم ولا يعرفهم ، هذا.
  وقوله ( عليه السلام ) : فسئل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الاصنام ، انما سئل