واما الثاني : فلان قوله تعالى : إذ قال له ربه ، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضى من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلة والتواضع أن لا يسترسل ، ولا يعد نفسه
مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الانس ، بل يراها واحدا من العبيد الاذلاء المربوبين ، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول : أسلمت لرب العالمين.
الاسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد ، من السلم ، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلم واستسلم له ، قال تعالى
( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ ) البقرة ـ 112 ، وقال تعالى :
( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا ) الانعام ـ 79 ، ووجه الشئ ما يواجهك به ، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشئ فإسلام الانسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني ، من قدر وقضاء ، أو تشريعي من أمر أو نهى أو غير ذلك ، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها.
الاولى : من مراتب الاسلام ، القبول لظواهر الاوامر والنواهي بتلقي الشهادتين لسانا ، سواء وافقه القلب ، أو خالفه ، قال تعالى :
( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) الحجرات ـ 14 ، ويتعقب الاسلام بهذا المعنى أول مراتب الايمان وهو الاذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا ويلزمه العمل في غالب الفروع.
الثانيه : ما يلي الايمان بالمرتبة الاولى ، وهو التسليم والانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية وما يتبعها من الاعمال الصالحة وإن أمكن التخطي في بعض الموارد ، قال الله تعالى في وصف المتقين :
( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) الزخرف ـ 69 ، وقال أيضا :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ) البقرة ـ 208 ، فمن الاسلام ما يتأخر عن الايمان محققا فهو غير المرتبة الاولى من الاسلام ويتعقب هذا الاسلام المرتبة الثانية من الايمان وهو الاعتقاد التفصيلي با لحقائق الدينية ، قال تعالى :
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) الحجرات ـ 15 ، وقال
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 302 _