ابراهيم (ع) التطهير من عبادة الاصنام الا أنه (ع) علله بالضلال فأنتج سؤال التطهير من جميع الضلال من عبادة الاصنام ومن أي شرك حتى المعاصي ، فإن كل معصية شرك كما مر بيانه في قوله تعالى : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ) فاتحة الكتاب ـ 6 .
  وقوله ( عليه السلام ) وفي هذا دلالة على أنه لا يكون الائمة والامة المسلمة ، إلخ أي إنهما واحد ، وهما من ذرية إبراهيم كما مر بيانه.
  فان قلت : لو كان المراد بالامة في هذه الآيات ونظائرها كقوله تعالى ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) آل عمران ـ 110 ، عدة معدودة من الامة دون الباقين كان لازمه المجاز في الكلام من غير موجب يصحح ذلك ولا مجوز لنسبة ذلك إلى كلامه تعالى ، على أن كون خطابات القرآن متوجهة إلى جميع الامة ممن آمن بالنبي ضروري لا يحتاج إلى إقامة حجة.
  قلت : إطلاق أمة محمد وإرادة جميع من آمن بدعوته من الاستعمالات المستحدثة بعد نزول القرآن وانتشار الدعوة الاسلامية وإلا فالامة بمعنى القوم كما قال تعالى ( عَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ) هود ـ 48 ، وربما اطلق على الواحدة كقوله تعالى ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ ) النحل ـ 120 ، وعلى هذا فمعناها من حيث السعة والضيق يتبع موردها الذي استعمل فيه لفظها ، أو اريد فيه معناها.
  فقوله تعالى : ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك الآية ـ والمقام مقام الدعاء بالبيان الذي تقدم ـ لا يراد به إلا عدة معدودة ممن آمن بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكذا قوله : كنتم خير امة خرجت للناس وهو في مقام الامتنان وتعظيم القدر وترفيع الشأن لا يشمل جميع الامة ، وكيف يشمل فراعنة هذه الامة دجاجلتها الذين لم يجدوا للدين أثرا إلا عفوه ومحوه ، ولا لاوليائه عظما إلا كسروه وسيجئ تمام البيان في الآية إنشاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل ) : ( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) البقرة ـ 47 ، فإن منهم قارون ولا يشمله الآية قطعا ، كما أن قوله تعالى : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان ـ 30 ، لا يعم جميع هذه الامة وفيهم أولياء القرآن ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 298 _

  واما قوله تعالى : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) البقرة ـ 134 ، فالخطاب فيه متوجة إلى جميع الامة ممن آمن بالنبي ، أو من بعث إليه.
  ( بحث علمي )
  إذا رجعنا إلى قصة ابراهيم ( عليه السلام ) وسيره بولده وحرمته إلى أرض مكة ، وإسكانهما هناك ، وما جرى عليهما من الامر ، حتى آل الامر ، إلى ذبح إسماعيل وفدائه من جانب الله وبنائهما البيت ، وجدنا القصة دورة كاملة من السير العبودي الذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربه ، ومن أرض البعد إلى حظيرة القرب بالاعراض عن زخارف الدنيا ، وملاذها ، وأمانيها من جاه ، ومال ، ونساء وأولاد ، والانقلاع والتخلص عن وسائس الشياطين ، وتكديرهم صفو الاخلاص والاقبال والتوجه إلى مقام الرب ودار الكبرياء.
  فها هي وقائع متفرقة مترتبة تسلسلت وتألفت قصة تاريخية تحكي عن سير عبودي من العبد إلى الله سبحانه وتشمل من أدب السير والطلب والحضور ورسوم الحب والوله والاخلاص على ما كلما زدت في تدبره إمعانا زادك استنارة ولمعانا.
  ثم : إن الله سبحانه أمر خليله إبراهيم ، أن يشرع للناس عمل الحج ، كما قال ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) إلى آخر الآيات الحج ـ 27 ، وما شرعه ( عليه السلام ) وان لم يكن معلوما لنا بجميع خصوصياته ، لكنه كان شعارا دينيا عند العرب في الجاهلية إلى أن بعث الله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وشرع فيه ما شرع ولم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلا بالتكميل كما يدل عليه قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) الانعام ـ 161 ، وقوله تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ) الشورى ـ 13.
  وكيف كان فما شرعه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من نسك الحج المشتمل على الاحرام والوقوف

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 299 _

  بعرفات ومبيت المشعر والتضحية ورمى الجمرات والسعى بين الصفا والمروة والطواف والصلوة بالمقام تحكي قصة إبراهيم ، وتمثل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم ويا لها من مواقف طاهرة إلهية القائد إليها جذبة الربوبية والسائق نحوها ذلة العبودية.
  والعبادات المشروعة ـ على مشرعيها أفضل السلام ـ صور لمواقف الكملين من الانبياء من ربهم ، وتماثيل تحكي عن مواردهم ومصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب والزلفى ، كما قال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) الاحزاب ـ 21 ، وهذا أصل.
  وفي الاخبار المبينة لحكم العبادات وأسرار جعلها وتشريعها شواهد كثيرة على هذا المعنى ، يعثر عليها المتتبع البصير.
  ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ـ 130 ، ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ـ 131 ، ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ـ 132 ، ( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ـ 133 ، ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ـ 134.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 300 _

  ( بيان )
  قوله تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، الرغبة ، إذا عديت بعن أفادت معنى الاعراض والنفرة ، وإذا عديت بفي أفادت : معنى الشوق والميل ، وسفه يأتي متعديا ولازما ، ولذلك ذكر بعضهم أن قوله : نفسه مفعول لقوله : سفه ، وذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول ، والمعنى على أي حال : أن الاعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس ، وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث أن العقل ما عبد به الرحمن.
  قوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا ، الاصطفاء أخذ صفوة الشئ وتمييزه عن غيره إذا اختلطا ، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية وهو أن يجري العبد في جميع شؤونه على ما يقتضيه مملوكيته وعبوديته من التسليم الصرف لربه ، وهو التحقق بالدين في جميع الشؤون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في امور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضيه الله لعبده في جميع اموره كما قال الله تعالى : ( إن الدين عند الله الاسلام ) آل عمران ـ 19 ، فظهر : أن مقام الاصطفاء هو مقام الاسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى : ( إذ قال له ربه أسلم ، قال أسلمت لرب العالمين ) الآية فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله : اصطفيناه ، فيكون المعنى أن إصطفائه إنما كان حين قال له ربه : أسلم ، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى : ( إذ قال له ربه أسلم : قال أسلمت لرب العالمين ، بمنزله التفسير لقوله : اصطفيناه.
  وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله : إذ قال له ربه أسلم ، ولم يقل إذ قلنا له أسلم ، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم : قال أسلمت لرب العالمين ، ولم يقل : قال أسلمت لك اما الاول ، فالنكتة فيه : الاشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب ، فأفاد : أن القصة من مسامرات الانس وخصائص الخلوة.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 301 _

  واما الثاني : فلان قوله تعالى : إذ قال له ربه ، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضى من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلة والتواضع أن لا يسترسل ، ولا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الانس ، بل يراها واحدا من العبيد الاذلاء المربوبين ، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول : أسلمت لرب العالمين.
  الاسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد ، من السلم ، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلم واستسلم له ، قال تعالى ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ ) البقرة ـ 112 ، وقال تعالى : ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا ) الانعام ـ 79 ، ووجه الشئ ما يواجهك به ، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشئ فإسلام الانسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني ، من قدر وقضاء ، أو تشريعي من أمر أو نهى أو غير ذلك ، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها.
  الاولى : من مراتب الاسلام ، القبول لظواهر الاوامر والنواهي بتلقي الشهادتين لسانا ، سواء وافقه القلب ، أو خالفه ، قال تعالى : ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) الحجرات ـ 14 ، ويتعقب الاسلام بهذا المعنى أول مراتب الايمان وهو الاذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا ويلزمه العمل في غالب الفروع.
  الثانيه : ما يلي الايمان بالمرتبة الاولى ، وهو التسليم والانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية وما يتبعها من الاعمال الصالحة وإن أمكن التخطي في بعض الموارد ، قال الله تعالى في وصف المتقين : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) الزخرف ـ 69 ، وقال أيضا : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ) البقرة ـ 208 ، فمن الاسلام ما يتأخر عن الايمان محققا فهو غير المرتبة الاولى من الاسلام ويتعقب هذا الاسلام المرتبة الثانية من الايمان وهو الاعتقاد التفصيلي با لحقائق الدينية ، قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) الحجرات ـ 15 ، وقال

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 302 _
  أيضا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) : ( وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ) الصف ـ 11 ، وفيه إرشاد المؤمنين إلى الايمان ، فالايمان غير الايمان.
  الثالثة : ما يلي الايمان بالمرتبة الثانية فإن النفس إذا أنست بالايمان المذكور وتخلقت بأخلاقه تمكنت منها وانقادت لها سائر القوى البهيمية والسبعية ، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة ، وصار الانسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه ، ولم يجد في باطنه وسره ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره ، قال الله سبحانه : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) النساء ـ 65 ، ويتعقب هذه المرتبة من الاسلام المرتبة الثالثة من الايمان ، قال الله تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) إلى أن قال : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) المؤمنون ـ 3 ، ومنه قوله تعالى : ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) إلى غير ذلك ، وربما عدت المرتبتان الثانية والثالثة مرتبة واحدة.
  والاخلاق الفاضلة من الرضاء والتسليم ، والحسبة والصبر في الله ، وتمام الزهد والورع ، والحب والبغض في الله من لوازم هذه مرتبة.
  الرابعة : ما يلي ، المرتبة الثالثة من الايمان فإن حال الانسان وهو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه ، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام ، وهو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبه ويرتضيه ، والامر في ملك رب العالمين لخلقة أعظم من ذلك وأعظم وإنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشئ من الاشياء لا ذاتا ولا صفة ، ولا فعلا على ما يليق بكبريائه جلت كبريائه.
  فالانسان ـ وهو في المرتبة السابقة من التسليم ـ ربما أخذته العناية الربانية فاشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شئ سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه ، وهذا معنى وهبي ، وإفاضة إلهية لا تأثير لارادة الانسان فيه ، ولعل قوله تعالى : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا ، الآية ، إشارة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 303 _
  إلى هذه المرتبة من الاسلام فان قوله تعالى : إذ قال له ربه أسلم ، ( قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني ، فإبراهيم كان مسلما باختياره ، إجابة لدعوة ربه وامتثالا لامره ، وقد كان هذا من الاوامر المتوجهة إليه ( عليه السلام ) في مبادئ حاله ، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الاسلام وإرائة المناسك سؤال لامر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالاسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الاسلام ويتعقب الاسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الايمان وهو استيعاب هذا الحال لجميع الاحوال والافعال ، قال تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ) يونس ـ 62 ، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشئ دون الله ، ولا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع ، ولا يخافوا محذورا محتملا ، وإلا فلا معنى لكونهم بحيث ، لا يخوفهم شئ ولا يحزنهم أمر ، فهذا النوع من الايمان بعد الاسلام المذكور فافهم.
  قوله تعالى : وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، الصلاح ، وهو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الانسان وربما نسب إلى نفسه وذاته ، قال تعالى : ( فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ) الكهف ـ 110 ، وقال تعالى : ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) النور ـ 32.
  وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير انه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه.
  فمنها : أنه صالح لوجه الله ، قال تعالى : ( صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ ) الرعد ـ 22 ، وقال تعالى : ( وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ ) البقرة ـ 272.
  ومنها : أنه صالح لان يثاب عليه ، قال تعالى : ( ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ) القصص ـ 80.
  ومنها : أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر ـ 10 ، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 304 _
  إليه : أن صلاح العمل معنى تهيؤه ولياقته لان يلبس لباس الكرامة ويكون عونا وممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى ، قال تعالى : ( وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ) الحج ـ 37 ، وقال تعالى : ( كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الاسراء ـ 20 ، فعطائه تعالى بمنزلة الصورة ، وصلاح العمل بمنزله المادة.
  وأما صلاح النفس والذات فقد قال تعالى : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء ـ 69 ، وقال تعالى : ( وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ) الانبياء ـ 86 ، وقال تعالى حكاية عن سليمان : ( وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) النمل ـ 19 ، وقال تعالى : ( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا إلى قوله وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الانبياء ـ 75 ، وليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الالهية الواسعة لكل شئ ولا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الاعراف ـ 156 ، إذ هؤلاء القوم وهم الصالحون ، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين ، ومن الرحمة ما يختص ببعض دون بعض ، قال تعالى ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ) البقرة ـ 105 ، وليس المراد أيضا مطلق كرامة الولاية ، وهو تولي الحق سبحانه أمر عبده ، فإن الصالحين وإن شرفوا بذلك وكانوا من الاولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) فاتحة الكتاب ـ 6 وسيجئ في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم وبين النبيين ، والصديقين ، والشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم.
  نعم الاثر الخاص بالصلاح هو الادخال في الرحمة ، وهو الامن العام من العذاب كما ورد المعنيان معا في الجنة ، قال تعالى : ( فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) الجاثية ـ 30 ، أي في الجنة ، وقال تعالى : ( يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان ـ 55 ، أي في الجنة.
  وأنت إذا تدبرت قوله تعالى : ( وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ) الانبياء ـ 75 ، وقوله : ( وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) الانبياء ـ 72 ـ حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 305 _
  العبد ـ ثم تأملت أنه تعالى قصر الاجر والشكر على ما بحذاء العمل والسعي قضيت بأن الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل والارادة وربما تبين به معنى قوله تعالى : ( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا ) وهو ما بالعمل ـ وقوله : ( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ـ وهو أمر غير ما بالعمل على ما سيجئ بيانه إنشاء الله في تفسير قوله تعالى : ( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا ) ق ـ 35.
  ثم إنك إذا تأملت حال إبراهيم ومكانته في أنه كان نبيا مرسلا وأحد اولي العزم من الانبياء ، وأنه إمام ، وأنه مقتدى عدة ممن بعده من الانبياء والمرسلين وأنه من الصالحين بنص قوله تعالى : ( وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) الانبياء ـ 72 ، الظاهر في الصلاح المعجل على ان من هو دونه في الفضل من الانبياء أكرم بهذا الصلاح المعجل وهو (ع) مع ذلك كله يسأل اللحوق بالصالحين الظاهر في أن هناك قوما من الصالحين سبقوه وهو يسال اللحوق بهم فيما سبقوه إليه ، وأجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى : ( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) البقره ـ 130 ، وقال تعالى : ( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) العنكبوت ـ 27 ، وقال تعالى : ( وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) النحل ـ 122 ، فإذا تأملت ذلك حق التأمل قضيت بأن الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض ولم تستبعد لو قرع سمعك أن إبراهيم (ع) سأل اللحوق بمحمد (ص) وآله الطاهرين (ع) فاجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنه (ع) يسأل اللحوق بالصالحين ومحمد (ص) يدعيه لنفسه ، قال تعالى : ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الاعراف ـ 196 فإن ظاهر الآية أن رسول الله (ص) يدعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أن رسول الله (ص) هو المتحقق بالصلاح الذي يدعيه بموجب الآية لنفسه وإبراهيم كان يسأل الله اللحوق بعده من الصالحين يسبقونه في الصلاح فهو هو.
  قوله تعالى : ووصى بها إبراهيم بنيه ، إي وصى بالملة.
  قوله تعالى : فلا تموتن ، النهي عن الموت وهو أمر غير اختياري للانسان ، والتكليف إنما يتعلق بأمر اختياري انما هو لرجوعه إلى أمر يتعلق بالاختيار ، والتقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الاسلام ، أي داوموا وألزموا الاسلام لئلا يقع

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 306 _
  موتكم إلا في هذا الحال ، وفي الآية إشارة إلى أن الدين هو الاسلام كما قال تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) آل عمران ـ 19.
  قوله تعالى : وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق ، في الكلام إطلاق لفظ الاب على الجد والعم والوالد من غير مصحح للتغليب ، وحجة فيما سيأتي إنشاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالاب.
  قوله تعالى : إلها واحدا ، في هذا الايجاز بعد الاطناب بقوله : إلهك وإله آبائك ( إلخ ) دفع لامكان إبهام اللفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتخذه الوثنيون من الآلهة الكثيرة.
  قوله تعالى : ونحن له مسلمون ، بيان للعبادة وأنها ليست عبادة كيفما اتفقت بل عبادة على نهج الاسلام وفي الكلام جملة أن دين إبراهيم هو الاسلام والموروث منه في بني إبراهيم كإسحق ويعقوب وإسمعيل ، وفي بني إسرائيل ، وفي بني إسمعيل من آل إبراهيم جميعا هو الاسلام لا غير ، وهو الذي أتى به إبراهيم من ربه فلا حجة لاحد في تركه والدعوة إلى غيره.
  ( بحث روائي )
  في الكافي عن سماعة عن الصادق (ع) الايمان من الاسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم ولا يكون في الكعبة ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم.
  وفيه عن سماعة أيضا عن الصادق (ع) قال : الاسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله ، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس ، والايمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الاسلام.
  أقول : وفي هذا المضمون روايات أخر وهي تدل على ما مر بيانه من المرتبة الاولى من الاسلام والايمان.
  وفيه عن البرقي عن علي ( عليه السلام ) : قال الاسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين ، وفيه عن كاهل عن الصادق لو أن قوما عبدوا الله ـ وحده لا شريك له ـ وأقاموا الصلوة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 307 _
  وآتوا الزكوة ، وحجوا البيت ، وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشئ صنعه الله أو صنعه رسول الله ألا صنع بخلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين الحديث.
  أقول : والحديثان يشيران إلى المرتبة الثالثة من الاسلام والايمان.
  وفي البحار عن إرشاد الديلمي ـ وذكر سندين لهذا الحديث ، وهو من أحاديث المعراج ـ وفيه : قال الله سبحانه : يا أحمد هل تدري أي عيش أهني وأي حيوة أبقي ؟ قال : اللهم لا ، قال : أما العيش الهنئ فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ، ولا يجهل حقي ، يطلب رضائي في ليله ونهاره ، وأما الحياة الباقية ، فهي التى يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا ، وتصغر في عينه ، وتعظم الآخرة عنده ، ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ، ويعظم حق نعمتي ، ويذكر عملي به ، ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيئة أو معصية ، وينقي قلبه عن كل ما أكره ، ويبغض الشيطان ووساوسه ، ولا يجعل لابليس على قلبه سلطانا وسبيلا ، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه وفراغه واشتغاله وهمه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبتي من خلقي وأفتح عين قلبه وسمعه ، حتى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي ، و اضيق عليه الدنيا ، وابغض إليه ما فيها من اللذات ، واحذره من الدنيا وما فيها كما يحذر الراعى على غنمه مراتع الهلكة ، فإذا كان هكذا يفر من الناس فرارا ، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن ، يا أحمد ولازيننه بالهيبة والعظمة فهذا هو العيش الهنئ والحياة الباقية ، وهذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمة ثلاث خصال اعرفه شكرا لا يخالطه الجهل ، وذكرا لا يخالطه النسيان ، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين ، فإذا أحبني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا أخفى عليه خاصة خلقي واناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ، ومجالسته معهم ، واسمعه كلامي وكلام ملائكتي واعرفه السر الذي سترته عن خلقي ، وألبسه الحياء ، حتى يستحيي منه الخلق كلهم ، ويمشي على الارض مغفورا له ، واجعل قلبه واعيا وبصيرا ولا أخفي عليه شيئا من جنة ولا نار ، وأعرفه ما يمر على الناس في القيمة من الهول والشدة وما أحاسب به الاغنياء والفقراء والجهال والعلماء ، وأنومه في قبره ، وأنزل عليه منكرا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 308 _
  ونكيرا حتى يسألاه ، ولا يرى غم الموت ، وظلمة القبر واللحد ، وهول المطلع ، ثم أنصب له ميزانه ، وأنشر ديوانه ، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرأه منشورا ، ثم لا أجعل بيني وبينه وترجمانا فهذه صفات المحبين ، يا أحمد اجعل همك هما واحدا واجعل لسانك لسانا واحدا واجعل بدنك حيا لا يغفل ابدا من يغفل عني لم ابال في أي واد هلك.
  وفي البحار عن الكافي و المعاني ونوادر الراوندي بأسانيد مختلفة عن الصادق والكاظم ( عليه السلام ) ـ و اللفظ المنقول هيهنا للكافي ـ قال : استقبل رسول الله : حارثة بن مالك بن النعمان الانصاري فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني ؟ فقال : يا رسول الله مؤمن حقا ، فقال له رسول الله : لكل شئ حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي ، وأظمات هواجرى ، وكأني انظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب ، وكأني انظر إلى اهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني اسمع عواء اهل النار في النار ، فقال رسول الله (ص) : عبد نور الله قلبه أبصرت فاثبت.
  اقول : والروايتان تحومان حوم المرتبة الرابعة من الاسلام والايمان المذكورتين وفي خصوصيات معناهما روايات كثيرة متفرقة سنورد جملة منها في تضاعيف الكتاب إنشاء الله تعالى والآيات تؤيدها على ما سيجئ بيانها ، واعلم ان لكل مرتبة من مراتب الاسلام والايمان معنى من الكفر والشرك يقابله ، ومن المعلوم ايضا ان الاسلام والايمان كلما دق معناهما ولطف مسلكهما ، صعب التخلص مما يقابلهما من معنى الكفر أو الشرك ، ومن المعلوم ايضا ان كل مرتبة من مراتب الاسلام والايمان الدانية ، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية ، وظهور آثارهما فيها ، وهذان أصلان.
  ويتفرع عليهما : أن للآيات القرآنية بواطن تنطبق على موارد لا تنطبق عليها ظواهرها وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله.
  وفي تفسير القمي في قوله تعالى : ولدينا مزيد ، قال ( عليه السلام ) النظر إلى رحمة الله.
  وفي المجمع عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يقول الله : اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
  اقول : والروايتان قد اتضح معناهما عند بيان معنى الصلاح ، والله الهادي.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 309 _
  وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : ( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ) الآية ، عن الباقر (ع) انها جرت في القائم.
  اقول : قال في الصافي : لعل مراده انها في قائم آل محمد فكل قائم منهم يقول : ذلك حين موته لبنيه ، ويجيبونه بما أجابوا به.
  ( وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ـ 135 ، ( قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ـ 136 ، ( فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ـ 137 ، ( صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ) ـ 138 ، ( قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ) ـ 139 ، ( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ـ 140 ، ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ـ 141.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 310 _
  ( بيان )
  قوله تعالى : وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ، لما بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كان هو الاسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا ، استنتج من ذلك أن الاختلافات والانشعابات التي يدعو إليها فرق المنتحلين من اليهود والنصارى ، امور إخترعتها هوساتهم ، ولعبت بها أيديهم لكونهم في شقاق ، فتقطعوا بذلك طوائف وأحزابا دينية ، وصبغوا دين الله سبحانه ـ وهو دين التوحيد ودين الوحدة ، بصبغة الاهواء والاغراض والمطامع ، مع أن الدين واحد كما أن الاله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم ، وبه فليتمسك المسلمون وليتركوا شقاق أهل الكتاب.
  فإن من طبيعة هذه الحيوة الارضية الدنيوية التغير والتحول في عين الجرى والاستمرار كنفس الطبيعة التي هي كالمادة لها ويوجب ذلك أن تتغير الرسوم والآداب والشعائر القومية بين طوائف الملل وشعباتها ، وربما يوجب ذلك تغييرا وانحرافا في المراسم الدينية ، وربما يوجب دخول ما ليس من الدين في الدين ، أو خروج ما هو منه والاغراض والغايات الدنيوية ربما تحل محل الاغراض الدينية الالهية ( وهي بلية الدين ) ، وعند ذلك ينصبغ الدين بصبغة القومية فيدعو إلى هدف دون هدفه الاصلي ويؤدب الناس غير أدبه الحقيقي ، فلا يلبث حتى يعود المنكر ( وهو ما ليس من الدين ) معروفا يتعصب له الناس لموافقته هوساتهم وشهواتهم والمعروف منكرا ليس له حام يحميه ولا واق يقيه ويؤل الامر إلى ما نشاهده اليوم من.
  وبالجملة فقوله تعالى : وقالوا كونوا هودا أو نصارى ، إجمال تفصيل معناه وقالت اليهود كونوا هودا تهتد ، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا ، كل ذلك لتشعبهم وشقاقهم.
  قوله تعالى : قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ، جواب عن قولهم أي قل ، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 311 ـ
  أنبياؤكم ، إبراهيم ، فمن دونه ، وما كان صاحب هذه الملة وهو إبراهيم من المشركين ولو كان في ملته هذه الانشعابات ، وهي الضمائم التي ضمها إليها المبتدعون ، من الاختلافات لكان مشركا بذلك ، فإن ما ليس من دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه ، بل إلى غيره وهو الشرك ، فهذا دين التوحيد الذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله تعالى.
  قوله تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا ، لما حكى ما يأمره به اليهود والنصارى من اتباع مذهبهم ، ذكر ما هو عنده من الحق ( والحق يقول ) وهو الشهادة على الايمان بالله والايمان بما عند الانبياء ، من غير فرق بينهم ، وهو الاسلام وخص الايمان بالله بالذكر وقدمه وأخرجه من بين ما انزل على الانبياء لان الايمان الله فطري ، لا يحتاج إلى بينة النبوة ، ودليل الرسالة.
  ثم ذكر سبحانه ما انزل إلينا وهو القرآن أو المعارف القرآنية وما انزل إلى إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب ، ثم ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصهما بالذكر لان المخاطبة مع اليهود والنصارى وهم يدعون إليهما فقط ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم ، ليشمل الشهادة جميع الانبياء فيستقيم قوله بعد ذلك : لا نفرق بين أحد منهم.
  واختلاف التعبير في الكلام ، حيث عبر عما عندنا وعند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالانزال وعما عند موسى وعيسى والنبيين بالايتاء وهو الاعطاء ، لعل الوجه فيه أن الاصل في التعبير هو الايتاء ، كما قال تعالى بعد ذكر إبراهيم ، ومن بعده ومن قبله من الانبياء في سورة الانعام : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) الانعام ـ 89 ، لكن لفظ الايتاء ليس بصريح في الوحي والانزال كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) لقمان ـ 12 ، وقال : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) الجاثية ـ 16 ، ولما كان كل من اليهود والنصارى يعدون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط من إهل ملتهم ، فاليهود من اليهود ، والنصاري من النصارى ، واعتقادهم أن الملة الحق من النصرانية ، أو اليهودية ، هي ما أوتيه موسى وعيسى ، فلو كان قيل : وما اوتي إبراهيم وإسماعيل

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 312 _
  لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملة بالوحي والانزال وإحتمل أن يكون ما أوتوه ، هو الذي أوتيه موسى وعيسى ( عليهما السلام ) نسب إليهم بحكم التبعية كما نسب إيتائه إلى بني اسرائيل ، فلذلك خص إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الانزال وأما النبيون قبل أبراهيم فليس لهم فيهم كلاحتى يوهم قوله : وما أوتي النبيون شيئا يجب دفعه.
  قوله تعالى : والاسباط ، الاسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل والسبط كالقبيلة الجماعة يجتمعون على أب واحد ، وقد كانوا اثنتي عشرة أسباطا أمما وكل واحدة منهم تنتهي إلى واحد من أولاد يعقوب وكانوا اثنى عشر ، فخلف كل واحد منهم أمة من الناس.
  فإن كان المراد بالاسباط الامم والاقوام فنسبة الانزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم ، وإن كان المراد بالاسباط الاشخاص كانوا أنبياء أنزل إليهم الوحي وليسوا بإخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء ، ونظير الآية قوله تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى ) النساء ـ 163.
  قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، الاتيان بلفظ المثل مع كون أصل المعنى ، فإن آمنوا بما آمنتم به ، لقطع عرق الخصام والجدال ، فإنه لو قيل لهم أن آمنوا بما آمنا به أمكن أن يقولوا كما قالوا ، بل نؤمن بما أنزل علينا ونكفر بما ورائه ، لكن لو قيل لهم ، إنا آمنا بما لا يشتمل إلا على الحق فآمنوا على الحق مثله ، لم يجدوا طريقا للمراء والمكابرة ، فإن الذي بيدهم لا يشتمل على صفوة الحق.
  قوله تعالى : في شقاق ، الشقاق النفاق والمنازعة والمشاجرة والافتراق.
  قوله تعالى : فسيكفيكهم الله ، وعد لرسول الله بالنصرة عليهم ، وقد أنجز وعده وسيتم هذه النعمة للامة الاسلامية إذا شاء ، واعلم : ان الآية معترضة بين الآيتين السابقة واللاحقة.
  قوله تعالى : صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ، الصبغة بناء نوع من الصبغ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 313 _
  أي هذا الايمان المذكور صبغة إلهية لنا ، وهي أحسن الصبغ لا صبغة اليهودية والنصرانية بالتفرق في الدين ، وعدم إقامته.
  قوله تعالى : ونحن له عابدون ، في موضع الحال ، وهو كبيان العلة لقوله : صبغة الله ومن أحسن.
  قوله تعالى : قل أتحاجوننا في الله ، إنكار ، لمحاجة أهل الكتاب ، المسلمين في الله سبحانه وقد بين وجه الانكار ، وكون محاجتهم لغوا وباطلا ، بقوله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ، وبيانه : أن محاجة كل تابعين في متبوعهما ومخاصمتهما فيه انما تكون لاحد أمور ثلاثه : اما لاختصاص كل من التابعين بمتبوع دون متبوع الآخر ، فيريدان بالمحاجة كل تفضيل متبوعه وربه على الآخر ، كالمحاجة بين وثني ومسلم ، واما لكون كل واحد منهما أو احدهما يريد مزيد الاختصاص به ، وابطال نسبة رفيقه ، أو قربه اوما يشبه ذلك ، بعد كون المتبوع واحدا ، واما لكون أحدهما ذا خصائص وخصال لا ينبغي أن ينتسب إلى هذا المتبوع وفعاله ذاك الفعال ، وخصاله تلك الخصال لكونه موجبا ، لهتكه أو سقوطه أو غير ذلك ، فهذه علل المحاجة والمخاصمة بين كل تابعين ، والمسلمون وأهل الكتاب انما يعبدون الها واحدا ، وأعمال كل من الطائفتين لا تزاحم الاخرى شيئا والمسلمون مخلصون في دينهم لله ، فلا سبب يمكن أن يتشبث به أهل الكتاب في محاجتهم ، ولذلك أنكر عليهم محاجتهم اولا ثم نفى واحدا واحدا من اسبابها الثلاثة ، ثانيا.
  قوله تعالى : أم تقولون ان ابراهيم إلى قوله كانوا هودا أو نصارى ، وهو قول كل من الفريقين ، ان ابراهيم ومن ذكر بعده منهم ، ولازم ذلك كونهم هودا أو نصارى أو قولهم صريحا انهم كانوا هودا أو نصارى ، كما يفيده ظاهر قوله تعالى ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) آل عمران ـ 65.
  قوله تعالى : قل أأنتم أعلم أم الله ، فإن الله اخبرنا واخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابيهما بعد ابراهيم ومن ذكر معه.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 314 _
  قوله تعالى : ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ، أي كتم ما تحمل شهادة أن الله أخبر بكون تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذكر معه ، فالشهادة المذكورة في الآية شهادة تحمل ، أو المعنى كتم شهادة الله على كون هؤلاء قبل التوراة والانجيل ، فالشهادة شهادة أداء ، المتعين هو المعنى الاول.
  قوله تعالى : تلك أمة قد خلت ، أي ان الغور في الاشخاص وأنهم ممن كانوا لا ينفع حالكم ، ولا يضركم السكوت عن المحاجة والمجادلة فيهم ، والواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غدا عنه ، وتكرار الآية مرتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجة التى لا تنفع لحالهم شيئا ، وخصوصا مع علمهم بأن إبراهيم كان قبل اليهودية والنصرانية ، وإلا فالبحث عن حال الانبياء ، والرسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم وفضائل نفوسهم الشريفة مما ندب إليه القرآن حيث يقص قصصهم ويأمر بالتدبر فيها.
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي في قوله تعالى قل : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) الآية ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال إن الحنيفية في الاسلام.
  وعن الباقر ( عليه السلام ) ما أبقت الحنيفية شيئا ، حتى أن منها قص الشارب وقلم الاظفار والختان.
  وفي تفسير القمي ، أنزل الله على إبراهيم الحنيفية ، وهي الطهارة ، وهي عشرة : خمسة في الرأس وخمسة في البدن ، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر والسواك والخلال ، وأما التي في البدن فأخذ الشعر من البدن والختان وقلم الاظفار والغسل من الجنابة ، والطهور بالماء وهي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
  اقول : طم الشعر ، جزه ، وتوفيره وفي معنى الرواية أو ما يقرب منه احاديث كثيرة جدا روتها الفريقان في كتبهم.
  وفي الكافي وتفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى ، قولوا آمنا بالله

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 315 _
  الآية ، قال إنما عنى بها عليا وفاطمة والحسن والحسين وجرت بعدهم في الائمة الحديث.
  اقول : ويستفاد ذلك من وقوع الخطاب في ذيل دعوة إبراهيم ومن ذريتنا أمة مسلمة لك الآية ولا ينافي ذلك توجيه الخطاب إلى عامة المسلمين وكونهم مكلفين بذلك ، فإن لهذه الخطابات عموما وخصوصا بحسب مراتب معناها على ما مر في الكلام على الاسلام والايمان ومراتبهما.
  وفي تفسير القمي عن أحدهما ، وفي المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى صبغة الله الآية ، قال الصبغة هي الاسلام.
  اقول : وهو الظاهر من سياق الآيات.
  وفي الكافي والمعاني عن الصادق ( عليه السلام ) قال صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق.
  اقول : وهو من باطن الآية على ما سنبين معناه ونبين أيضا معنى الولاية ومعنى الميثاق إنشاء الله العزيز.
  ( سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ـ 142 ، ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) ـ 143 ، ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 316 _
  فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) ـ 144 ، ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ـ 145 ، ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ـ 146 ، ( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) ـ 147 ، ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ـ 148 ، ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ـ 149 ، ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ـ 150 ، ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ـ 151.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 317 _
  ( بيان )
  الآيات مترتبة متسقة منتظمة في سياقها على ما يعطيه التدبر فيها وهي تنبئي عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغى إلى قول من يقول إن فيها تقدما وتأخرا أو إن فيها ناسخا ومنسوخا ، وربما رووا فيها شيئا من الروايات ، ولا يعبا بشئ منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات.
  قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، هذا تمهيد ثانيا لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة وتعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس وهم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس ومشركوا العرب الراصدون لكل امر جديد يحتمل الجدال والخصام ، وقد مهد لذلك اولا بما ذكره الله تعالى من قصص ابراهيم وانواع كرامته على الله سبحانه وكرامة ابنه اسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكة وللنبي والامة المسلمة وبنائهما البيت والامر بتطهيره للعبادة ، ومن المعلوم ان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من اعظم الحوادث الدينية واهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة وأخذ الاسلام في تحقيق اصوله ونشر معارفه وبث حقائقه ، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع ، لانهم كانوا يرون انه يبطل واحدا من اعظم مفاخرهم الدينية وهو القبلة واتباع غيرهم لهم فيها وتقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني ، على ان ذلك تقدم باهر في دين المسلمين ، لجمعه وجوههم في عباداتهم ومناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر وشتات الكلمة في الباطن واستقبال الكعبة اشد تأثيرا واقوى من امثال الطهارة والدعاء وغيرهما في نفوس المسلمين ، عند اليهود ومشركي العرب وخاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن ، فقد كانوا امة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة ولا لغير الحس وقعا ، إذا جائهم حكم من احكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه وإذا جاءهم امر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال والهجرة والسجدة وخضوع القول وغيرها قابلوه بالانكار وقاوموا عليه ودونه أشد المقاومة.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 318 _
  وبالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة وعلم رسوله ما ينبغي أن يجابوا ويقطع به قولهم.
  أما اعتراضهم : فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت ، ما كان به شئ من هذا الشرف الذاتي ما وجهه ؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ مشرعه ، واليهود ما كانت تعتقد النسخ ( كما تقدم في آية النسخ ) وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط والخروج من الهداية إلى الضلال وهو تعالى وان لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض ، إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك.
  وأما الجواب : فهو ان جعل بيت من البيوت كالكعبة ، أو بناء من الابنية أو الاجسام كبيت المقدس ، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه ولا يجوز إلغائه ، بل جميع الاجسام والابنية وجميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الانسان في أنها لا تقتضي حكما ولا يستوجب تشريعا على السواء وكلها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء ، وما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم وكمالهم الفردي والنوعي ، فلا يحكم إلا ليهدى به ولا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم وصلاحهم.
  قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس ، أراد بهم اليهود والمشركين من العرب ولذلك عبر عنهم بالناس وإنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم وثقوب رأيهم في أمر التشريع ، والسفاهة عدم استقامة العقل وتزلزل الرأي.
  قوله تعالى : ما وليهم ، تولية الشئ أو المكان جعله قدام الوجه وأمامه كالاستقبال ، قال تعالى فلنولينك قبلة ترضيها الآية ، والتولية عن الشئ صرف الوجه عنه كالاستدبار ونحوه ، والمعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها وهو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي والمسلمون أيام إقامته بمكة وعدة شهور بعد هجرته إلى المدينة وإنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع ان اليهود أقدم في الصلوة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 319 _
  إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب وأوجب للاعتراض ، وإنما قيل ما وليهم عن قبلتهم ولم يقل ما ولى النبي والمسلمين لما ذكرنا من الوجه ، فلو قيل ما ولى النبي والمسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه وكان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه.
  قوله تعالى : قل لله المشرق والمغرب ، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيتين لسائر الجهات الاصليه والفرعية كالشمال والجنوب وما بين كل جهتين من الجهات الاربعة الاصلية ، والمشرق والمغرب جهتان إضافيتان تتعينان بشروق الشمس أو النجوم وغروبهما ، يعمان جميع نقاط الارض غير نقطتين موهومتين هما نقطتا الشمال والجنوب الحقيقيتان ، ولعل هذا هو الوجه في وضع المشرق والمغرب موضع الجهات.
  قوله تعالى : يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، تنكير الصراط لان الصراط يختلف باختلاف الامم في استعداداتها للهداية إلى الكمال والسعادة.
  قوله تعالى : وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ، الظاهر أن المراد كما سنحول القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمة وسطا ( هو كما ترى ) ، وأما المراد بكونهم أمة وسطا شهداء على الناس فالوسط هو المتخلل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف ، وهذ الامة بالنسبة إلى الناس ـ وهم أهل الكتاب والمشركون ـ على هذا الوصف فإن بعضهم ـ وهم المشركون والوثنيون ـ إلى تقوية جانب الجسم محضا لا يريدون إلا الحيوة الدنيا والاستكمال بملاذها وخارفها وزينتها ، لا يرجون بعثا ولا نشورا ، ولا يعبأون بشئ من الفضائل المعنوية والروحية ، وبعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون إلا إلى الرهبانية ورفض الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادية لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لاجله الانسان ، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بابطال سببها واؤلئك اصحاب الجسم ابطلوا النتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليها ، لكن الله سبحانه جعل هذه الامة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل يقوي كلا من الجانبين ـ جانب الجسم وجانب الروح ـ على ما يليق به ويندب إلى جمع الفضيلتين فإن الانسان مجموع الروح والجسم لا روح محضا ولا جسم محضا ، ومحتاج

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 320 _
  في حيوته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين والسعادتين المادية والمعنوية ، فهذه الامة هي الوسط العدل الذي به يقاس ويوزن كل من طرفي الافراط والتفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الاطراف والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو المثال الاكمل من هذه الامة ـ هو شهيد على نفس الامة فهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ميزان يوزن به حال الآحاد من الامة ، والامة ميزان يوزن به حال الناس ومرجع يرجع إليه طرفا الافراط والتفريط ، هذا ما قرره بعض المفسرين في معنى الآية وهو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية فإن كون الامة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان ، وميزانا يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين ، أو يشاهد الطرفين ، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر ، على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الامة إذ لا يترتب شهادة الرسول على الامة على جعل الامة وسطا ، كما يترتب الغاية على المغيى والغرض على ذيه.
  على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية ، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه ، واللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى ، قال تعالى ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا ) النساء ـ 41 ، وقال تعالى ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) النحل ـ 84 ، ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ) الزمر ـ 69 ، والشهادة فيها مطلقة وظاهر الجميع على اطلاقها هو الشهادة على اعمال الامم ، وعلى تبليغ الرسل أيضا ، كما يومي إليه قوله تعالى ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الاعراف ـ 6 ، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة يوم القيمة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى ـ حكاية عن عيسى ( عليه السلام ) ـ ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) المائدة ـ 117 ، وقوله تعالى ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) النساء ـ 159 ، ومن الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا ، والقوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الافعال والاعمال فقط ، وذلك التحمل أيضا ، إنما يكون في شئ يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما ولا غائبا عنه وأما حقائق الاعمال والمعاني النفسانية من الكفر والايمان والفوز والخسران ، وبالجملة كل خفي عن الحس ومستبطن عند الانسان ـ وهي التي تكسب

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 321 _
  القلوب ، وعليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى ( وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) البقرة ـ 225 ـ فهي مما ليس في وسع الانسان إحصائها والاحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره ويكشف ذلك له بيده ، ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى ( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف ـ 86 ، فإن عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعا ـ وقد شهد الله تعالى في حقه بأنه من الشهداء ـ كما مر في الآيتين السابقتين ، فهو شهيد بالحق وعالم بالحقيقة.
  والحاصل أن هذه الشهادة ليست هي كون الامة على دين جامع للكمال الجسماني والروحاني فإن ذلك على أنه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة.
  بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء ، ورد وقبول ، وانقياد وتمرد ، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شئ ، حتى من أعضاء الانسان ، يوم يقول الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا .
  ومن المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الامة ، إذ ليست إلا كرامة خاصة للاولياء الطاهرين منهم ، وأما من دونهم من المتوسطين في السعادة ، والعدول من أهل الايمان فليس لهم ذلك ، فضلا عن الاجلاف الجافية ، والفراعنة ، الطاغية من الامة ، وستعرف في قوله تعالى ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء ـ 69 ، ان أقل ما يتصف به الشهداء ـ وهم شهداء الاعمال ـ أنهم تحت ولاية الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم ، وقد مر إجمالا في قوله تعالى ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ) فاتحة الكتاب ـ 7.
  فالمراد بكون الامة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم ، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين ، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم ، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه ، فكون الامة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس ويشهد الرسول عليهم.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 322 _
  فان قلت : قوله تعالى ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ ) الحديد ـ 19 ، يدل على كون عامة المؤمنين شهداء.
  قلت : قوله عند ربهم ، يدل على أنه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة ، ولم ينالوه في الدنيا ، نظير ذلك قوله تعالى ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الطور ـ 21 ، على ان الآية مطلقة تدل على كون جميع المؤمنين من جميع الامم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الامة فلا ينفع المستدل شيئا.
  فان قلت : جعل هذه الامة امة وسطا بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الاعمال ولا كون الرسول شهيدا على هؤلاء الشهداء فالاشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق.
  قلت : معنى الشهادة غاية متفرعة في الآية على جعل الامة وسطا فلا محالة تكون الوسطية معنى يستتبع الشهادة والشهداء ، وقد قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الحج ـ 78 ، جعل تعالى كون الرسول شهيدا عليهم وكونهم شهداء على الناس غاية متفرعة على الاجتباء ونفي الحرج عنهم في الدين ثم عرف الدين بأنه هو الملة التي كانت لابيكم إبراهيم الذي هو سميكم المسلمين من قبل ، وذلك حين دعا لكم ربه وقال : ( وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) فاستجاب الله دعوته وجعلكم مسلمين ، تسلمون له الحكم والامر من غير عصيان واستنكاف ، ولذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين ، فلا يشق عليكم شئ منه ولا يحرج ، فأنتم المجتبون المهديون إلى الصراط ، المسلمون لربهم الحكم والامر ، وقد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ، أي تتوسطوا بين الرسول وبين الناس فتتصلوا من جهة إليهم ، وعند ذلك يتحقق مصداق دعائه ( عليه السلام ) فيكم وفي الرسول

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 323 _
  حيث قال ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) البقرة ـ 129 ، فتكونون أمة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب والحكمة ، ومزكين بتزكيته ، والتزكية التطهير من قذرات القلوب ، وتخليصها للعبودية ، وهو معنى الاسلام كما مر بيانه ، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديتكم ، وللرسول في ذلك القدم الاول والهداية والتربية ، فله التقدم على الجميع ، ولكم التوسط باللحوق به ، والناس في جانب وفي أول الآية وآخرها قرائن تدل على المعنى الذي استفدناه منها غير خفية على المتدبر فيها نبينها في محله انشاء الله.
  فقد تبين بما قدمناه : اولا ، أن كون الامة وسطا مستتبع للغايتين جميعا ، وأن قوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا الاية جميعا لازم كونهم وسطا.
  وثانيا : أن كون الامة وسطا إنما هو بتخللها بين الرسول وبين الناس ، لا بتخللها بين طرفي الافراط والتفريط ، وجانبي تقوية الروح وتقوية الجسم في الناس.
وثالثا : أن الاية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيم ( عليه السلام ) وان الشهادة من شئون الامة المسلمة.
  واعلم : أن الشهادة على الاعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختص بالشهداء من الناس ، بل كل ما له تعلق ما بالعمل كالملائكة والزمان والمكان والدين والكتاب والجوارح والحواس والقلب فله فيه شهادة.
  ويستفاد منها أن الذي يحضر منها يوم القيامة هو الذي في هذه النشأة الدنيوية وأن لها نحوا من الحيوة الشاعرة بها ، تتحمل بها خصوصيات الاعمال ، وترتسم هي فيها ، وليس من اللازم ان تكون الحيوة التي في كل شئ ، سنخا واحدا كحيوة جنس الحيوان ، ذات خواص وآثار كخواصها وآثارها ، حتى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحيوة في نحو واحد ، هذا إجمال القول في هذا المقام وأما تفصيل القول في كل واحد واحد منها فموكول إلى محله اللائق به.
  قوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 324 _
  ينقلب على عقبية ، المراد بقوله لنعلم : اما علم الرسل والانبياء مثلا ، لان العظماء يتكلمون عنهم وعن اتباعهم ، كقول الامير ، قتلنا فلانا وسجنا فلانا ، وإنما قتله وسجنه اتباعه لانفسه ، واما العلم العيني الفعلي منه تعالى الحاصل مع الخلقة والايجاد ، دون العلم قبل الايجاد.
  والانقلاب على العقبين كناية عن الاعراض ، فان الانسان ـ وهو منتصب على عقبيه ـ إذا انقلب من جهة إلى جهة ، انقلب على عقبيه ، فجعل كناية عن الاعراض نظير قوله ( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ) الانفال ـ 16 ، وظاهر الآية انه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين : من تغيير القبلة ونسخها ، ومن جهة الصلوات التي صلوها إلى القبلة ، ما شأنها ؟
  ويظهر من ذلك ان المراد بالقبلة التي كان رسول الله عليها ، هو بيت المقدس دون الكعبة ، فلا دليل على جعل بيت المقدس قبلة مرتين ، وجعل الكعبة قبلة مرتين ، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر.
  وبالجملة كان من المترقب ان يختلج في صدور المؤمنين : أولا ، انه لما كان من المقدر ان يستقر القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب ، أولا : في جعل بيت المقدس قبلة ؟ فبين سبحانه ان هذه الاحكام والتشريعات ليست إلا لاجل مصالح تعود إلى تربية الناس وتكميلهم ، وتمحيص المؤمنين من غيرهم ، وتمييز المطيعين من العاصين ، والمنقادين من المتمردين ، والسبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقكم أيضا هذا السبب بعينه ، فالمراد بقوله الا لنعلم من يتبع الرسول ، الا لنميز من يتبعك ، والعدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرسالة في هذا التميز ، والمراد بجعل القبلة السابقة : جعلها في حق المسلمين ، وان كان المراد أصل جعل بيت المقدس قبلة فالمراد مطلق الرسول ، والكلام على رسله من غير التفات ، غير انه بعيد من الكلام بعض البعد.
  وثانيا : ان الصلوات التي كان المسلمون صلوها إلى بيت المقدس كيف حالها ، وقد صليت إلى غير القبلة ؟ والجواب : ان القبلة قبله ما لم تنسخ ، وان الله سبحانه إذا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 325 _
  نسخ حكما رفعه من حين النسخ ، لا من أصله ، لرأفته ورحمته بالمؤمنين ، وهذا ما أشار إليه بقوله : وما كان الله ليضيع اعمالكم ، ان الله بالناس لرؤوف رحيم. والفرق بين الرأفة والرحمة ، بعد اشتراكهما في أصل المعنى ، ان الرأفة يختص بالمبتلى المفتاق ، والرحمة أعلم.
  قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها ، الآية تدل على ان رسول الله قبل نزول آية القبلة ـ وهي هذه الآية ـ كان يقلب وجهه في آفاق السماء ، وان ذلك كان انتظارا منه ، أو توقعا لنزول الوحي في أمر القبلة ، لما كان يحب ان يكرمه الله تعالى بقبلة تختص به ، لا انه كان لا يرتضى بيت المقدس قبلة ، وحاشا رسول الله من ذلك ، كما قال تعالى : فلنولينك قبلة ترضيها ، فان الرضا بشئ لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيرون المسلمين في تبعية قبلتهم ، ويتفاخرون بذلك عليهم ، فحزن رسول الله ذلك ، فخرج في سواد الليل يقلب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه ، وكشف همه فنزلت الآية ، ولو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجة له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على اليهود ، وليس ولم يكن لرسول الله ولا للمسلمين عارفي استقبال قبلتهم ، إذ ليس للعبد إلا الاطاعة والقبول ، لكن نزلت بقبلة جديدة ، فقطع تعييرهم وتفاخرهم ، مضافا إلى تعيين التكليف ، فكانت حجة ورضى.
  قوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره. الشطر البعض ، وشطر المسجد الحرام هو الكعبة ، وفي قوله تعالى شطر المسجد الحرام دون ان يقال : فول وجهك الكعبة ، أو يقال : فول وجهك البيت الحرام ، محاذاة للحكم في القبلة السابقة فانها كانت شطر المسجد الاقصى ، وهي الصخرة المعروفة هناك ، فبدلت من شطر المسجد الحرام ـ وهي الكعبة ـ على ان اضافة الشطر إلى المسجد وتوصيف المسجد ، بالحرام يعطي مزايا للحكم تفوت لو قيل : الكعبة أو البيت الحرام.
  وتخصيص رسول الله بالحكم أولا بقوله فول وجهك ، ثم تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله وحيث ما كنتم يؤيد ان القبلة حولت ، ورسول الله قائم يصلي في

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 326 _
  المسجد ـ والمسلمون معه ـ فاختص الامر به ، أولا في شخص صلوته ثم عقب الحكم العام الشامل له ولغيره ، ولجميع الاوقات والامكنة.
  قوله تعالى : وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم ، وذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أو كون قبلة هذا النبي الصادق هو شطر المسجد الحرام ، وايا ما كان فقوله : اوتوا الكتاب ، يدل على اشتمال كتابهم على حقية هذا التشريع ، اما مطابقة أو تضمنا ، وما الله بغافل عما يعملون من كتمان الحق ، واحتكار ما عندهم من العلم.
  قوله تعالى : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ ) آية ، تقريع لهم بالعناد واللجاج ، وان ابائهم عن القبول ليس لخفاء الحق عليهم ، وعدم تبينه لهم ، فانهم عالمون بأنه حق علما لا يخالطه شك ، بل الباعث لهم على بث الاعتراض وإثارة الفتنة عنادهم في الدين وجحودهم للحق ، فلا ينفعهم حجة ، ولا يقطع إنكارهم آية فلو أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم وجحودهم ، وما أنت بتابع قبلتهم ، لانك على بينة من ربك ويمكن أن يكون قوله : وما أنت نهيا في صورة خبر ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض ، وهم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدس أينما كانوا ، والنصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا ، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض ، ولا ذاك يقبل قبلة هذا اتباعا للهوى.
  قوله تعالى : ولئن اتبعت اهوائهم من بعد ما جائك من العلم ، تهديد للنبي ، والمعنى متوجه إلى امته ، وإشارة إلى انهم في هذا التمرد إنما يتبعون أهوائهم وانهم بذلك ظالمون.
  قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ، الضمير في قوله يعرفونه ، راجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون الكتاب ، والدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الابناء ، فان ذلك إنما يحسن في الانسان ، ولا يقال في الكتاب ، ان فلانا يعرفه أو يعلمه ، كما يعرف ابنه ، على ان سياق الكلام ـ وهو في رسول الله ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 327 _
  وما اوحي إليه من أمر القبلة ، اجنبي عن موضوع الكتاب الذي اوتيه أهل الكتاب ، فالمعنى ان أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبنائهم ، وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون.
  وعلي هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه ، فقد أخذ رسول الله غائبا ، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حاضرا ، والخطاب معه ، وذلك لتوضيح : ان امره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واضح ظاهر عند أهل الكتاب ، ومثل هذا النظم كمثل كلام من يكلم جماعة لكنه يخص واحدا منهم بالمخاطبة إظهارا لفضله ، فيخاطبه ويسمع غيره ، فإذا بلغ إلى ما يخص شخص المخاطب من الفضل والكرامة ، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة ، ثم بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانيا إلى ما كان فيه أولا من توجيه الخطاب إليه وبهذا يظهر نكتة الالتفات.
  قوله تعالى : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ، تأكيد للبيان السابق وتشديد في النهى عن الامتراء ، وهو الشك والارتياب ، وظاهر الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعناه للامة.
  قوله تعالى : ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، الوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة ، و هذارجوع إلى تلخيص البيان السابق ، وتبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبله ، والاكثار من الكلام فيه ، والمعنى ان كل قوم فلهم قبلة مشرعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم وليس حكما تكوينيا ذاتيا لا يقبل التغيير والتحويل ، فلا يهم لكم البحث والمشاجرة فيه ، فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق ، فان الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه ، وأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ان الله على كل شئ قدير.
  واعلم ان الآية كما انها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين ، وفيها اشارة إلى القدر والقضاء ، وجعل الاحكام والاداب لتحقيقها وسيجئ تمام بيانه فيما يخص به من المقام إنشاء الله.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 328 _
  قوله تعالى : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، ذكر بعض المفسرين أن المعنى ومن أي مكان خرجت ، وفي أي بقعة حللت فول وجهك وذكر بعضهم أن المعنى ومن حيث خرجت من البلاد ، ويمكن أن يكون المراد بقوله ومن حيث خرجت ، مكة ، التي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما قال تعالى ( مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ) محمد ـ 13 ، ويكون المعنى أن استقبال البيت حكم ثابت لك في مكة وغيرها من البلاد والبقاع وفي قوله وأنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون تأكيد و تشديد.
  قوله تعالى : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، تكرار الجملة الاولى بلفظها لعله للدلالة على ثبوت حكمها على أي حال ، فهو كقول القائل ، اتق الله إذا قمت واتق الله إذا قعدت ، واتق الله إذا نطقت ، واتق الله إذا سكت ، يريد : التزم التقوى عند كل واحدة من هذه الاحوال ولتكن معك ، ولو قيل اتق الله إذا قمت وإذا قعدت وإذا نطقت وإذا سكت فاتت هذه النكتة ، والمعنى استقبل شطر المسجد الحرام من التي خرجت منها وحيث ما كنتم من الارض فولوا وجوهكم شطره.
  قوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الذي فيه أشد التأكيد على ملازمة الامتثال والتحذر عن الخلاف :
  احديها : أن اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أن النبي الموعود تكون قبلته الكعبة دون بيت المقدس ، كما قال تعالى : وإن الذين إوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم الآية ، وفي ترك هذا الحكم الحجة لليهود على المسلمين بأن النبي ليس هو النبي الموعود لكن التزام هذا الحكم والعمل به يقطع حجتهم إلا الذين ظلموا منهم ، وهو استثناء منقطع ، أي لكن الذين ظلموا منهم باتباع الاهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لانهم ظالمون باتباع الاهواء ، والله لا يهدي القوم الظالمين و اخشوني.
  وثانيتها : أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم ، وسنبين معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) المائدة ـ 4 .

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 329 _
  وثالثتها : رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم ، وقد مر معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) فاتحة الكتاب ـ 6.
  وذكر بعض المفسرين أن اشتمال هذه الآية ـ وهي آية تحويل القبلة ـ على قوله وليتم نعمته عليكم ولعلكم تهتدون ، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكة على هاتين الجملتين ، إذ قال تعالى ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) الفتح ـ 2 يدل على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكة.
  بيان ذلك أن الكعبة كانت مشغولة في صدر الاسلام بأصنام المشركين وأوثانهم وكان السلطان معهم ، والاسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره وقدرته ، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدس ، لكونه قبلة لليهود ، الذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الاسلام ، ثم لما ظهر أمر الاسلام بهجرة رسول الله إلى المدينة ، وقرب زمان الفتح وتوقع تطهيرالبيت من أرجاس الاصنام جاء الامر بتحويل القبلة وهي النعمة العظيمة التي اختص به المسلمون ، ووعد في آية التحويل إتمام النعمة والهداية وهو خلوص الكعبة من أدناس الاوثان ، وتعينها لان تكون قبله يعبد الله إليها ، ويكون المسلمون هم المختصون بها ، وهي المختصة بهم ، فهي بشارة بفتح مكة ، ثم لما ذكر فتح مكة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة والبشارة بقوله ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما الآية.
  وهذا الكلام وإن كان بظاهره وجيها لكنه خال عن التدبر ، فإن ظاهر الآيات لا يساعد عليه ، إذ الدال على وعد إتمام النعمة في هذه الآية : ( وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ، الآية إنما هو لام الغاية ، وآية سورة الفتح التي أخذها انجازا لهذا الوعد ومصداقا لهذه البشارة أعني قوله تعالى : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ، مشتملة على هذه اللام بعينها ، فالآيتان جميعا مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النعمة ، على أن آية الحج مشتملة على وعد إتمام النعمة لجميع المسلمين ، وآية الفتح على ذلك لرسول الله خاصة فالسياق في الآيتين مختلف.
  ولو كان هناك آية تحكي عن انجاز الوعد الذي تشتمل عليه الآيتان لكان هو قوله

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 330 _
  تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) المائدة ـ 4 ، وسيجئ الكلام في معنى النعمة و تشخيص هذه النعمة التي يمتن بها الله سبحانه في الآية.
  ونظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النعمة قوله تعالى ( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) المائدة ـ 6 ، وقوله تعالى ( كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) النحل ـ 81 ، وسيجئ إنشاء الله شئ من الكلام المناسب لهذا المقام في ذيل هذه الآيات.
  قوله تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ، ظاهر الآية إن الكاف للتشبيه وما مصدرية ، فالمعنى : أنعمنا عليكم بأن جعلنا لكم البيت الذي بناه إبراهيم ودعا له بما دعا من الخيرات والبركات قبلة كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم مستجيبين لدعوة إبراهيم ، إذ قال هو وابنه إسمعيل ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وفيهم امتنان عليهم بالارسال كالامتنان بجعل الكعبة قبلة ، ومن هنا يظهر أن المخاطب بقوله فيكم رسولا منكم ، هو الامة المسلمة ، وهو أولياء الدين من الامة خاصة بحسب الحقيقة ، والمسلمون جميعا من آل إسمعيل ، ـ وهم عرب مضر ـ بحسب الظاهر ، وجميع العرب بل جميع المسلمين بحسب الحكم.
  قوله تعالى : يتلوا عليكم آياتنا ، ظاهرة آيات القرآن لمكان قوله يتلوا ، فإن العناية في التلاوة إلى اللفظ دون المعنى ، والتزكية هي التطهير ، وهو إزالة الادناس والقذارات ، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة كالشرك والكفر ، وإزالة الملكات الرذيلة من الاخلاق كالكبر والشح ، وإزالة الاعمال والافعال الشنيعة كالقتل والزنا وشرب الخمر وتعليم الكتاب والحكمة وتعليم ما لم يكونوا يعلمونه يشمل جميع المعارف الاصلية والفرعية.
  واعلم : أن الآيات الشريفة تشتمل على موارد من الالتفات ، فيه تعالى بالغيبة ولتكلم وحده ومع الغير ، وفي غيره تعالى أيضا بالغيبة والخطاب والتكلم ، والنكتة فيها غير خفية على المتدبر البصير.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 331 _
  ( بحث روائي )
  في المجمع عن القمي في تفسيره في قوله تعالى سيقول السفهاء الآية ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال تحولت القبلة إلى الكعبة ، بعد ما صلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمكة ثلث عشرة سنة إلى بيت المقدس ، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ، قال ثم وجهه الله إلى مكة ، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون على رسول الله يقولون أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا ، فاغتم رسول الله من ذلك غما شديدا ، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ، ينتظر من الله في ذلك أمرا ، فلما أصبح وحضر وقت صلوة الظهر كان في مسجد بنى سالم ، وقد صلى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) فكان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، فقالت اليهود والسفهاء ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟
  اقول : والروايات الواردة من طرق العامة والخاصة كثيرة مودعة في جوامع الحديث قريبة المضامين ، وقد اختلف في تاريخ الواقعة ، واكثرها ـ وهو الاصح ـ أنها كانت في رجب السنة الثانية من الهجرة الشهر السابع عشر منها وسيجئ بعض ما يتعلق بالمقام في بحث على حده إنشاالله.
  وعن طرق أهل السنة والجماعة في شهادة هذه الامة على الناس ، وشهادة النبي عليهم أن الامم يوم القيمة يجحدون تبليغ الانبياء فيطالب الله الانبياء بالبينة على انهم قد بلغوا ـ وهو أعلم ـ فيؤتي بأمة محمد ، فيشهدون ، فتقول الامم من أين عرفتم ؟ فيقولون عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد ، ويسئل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد.
  اقول : ما يشتمل عليه هذا الخبر ـ وهو مؤيد بأخبار أخر نقلها السيوطي في الدر المنثور وغيره ـ من تزكية رسول الله لامته ، وتعديله إياهم ، لعله يراد به تعديله لبعضهم دون جميعهم ، وإلافهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب والسنة ، وكيف

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 332 _
  تصحح أو تصوب هذه الفجائع التي لا تكاد توجد ، ولا أنموذجة منها في واحدة من الامم الماضية ؟ وكيف يزكى ويعدل فراعنة هذه الامة وطواغيتها ؟ فهل ذلك إلا طعن في الدين الحنيف ولعب بحقائق هذه الملة البيضاء ، على أن الحديث مشتمل على إمضاء الشهادة النظرية دون شهادة التحمل.
  وفي المناقب في هذا المعنى عن الباقر ( عليه السلام ) ولا يكون شهداء على الناس إلا الائمة والرسل ، وأما الامة فغير جايز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل.
  وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) الآية ، فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع اهل القبلة من الموحدين أفترى إن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الامم الماضية ؟ كلا ! لم يعن الله مثل هذا من خلقة ، يعني الامة التي وجبت لها دعوة إبراهيم كنتم خير أمة ، أخرجت للناس وهم الامة الوسطى وهخير امة أخرجت للناس ، اقول : وقد مر بيان ذلك في ذيل الآية بالاستفادة من الكتاب.
  وفي قرب الاسناد عن الصادق ( عليه السلام ) عن أبيه عن النبي قال مما أعطى الله أمتي وفضلهم على سائر الامم أعطاهم ثلث خصال لم يعطها إلا نبي ـ إلى أن قال ـ وكان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه ، وإن الله تبارك وتعالى جعل امتي شهيدا على الخلق ، حيث يقول ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس الحديث.   اقول : والحديث لا ينافي ما مر ، فان المراد بالامة الامة المسلمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم.
  وفي تفسير العياشي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : في حديث يصف فيه يوم القيامة ، قال ( عليه السلام ) يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق ، فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، فيقام الرسول فيسئل فذلك قوله لمحمد فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، وهو الشهيد على الشهداء ، والشهداء هم الرسل.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 333 _
  وفي التهذيب عن أبي بصير عن أحدهما ( عليهما السلام ) ، قال قلت له أمره أن يصلي إلى بيت المقدس ؟ قال نعم ألا ترى أن الله تبارك وتعالى يقول وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ممن ينقلب على عقبيه الآية.
  أقول : مقتضى الحديث كون قوله تعالى التي كنت عليها وصفا للقبلة ، والمراد بها بيت المقدس ، وأنه القبلة التي كان رسول الله عليها ، وهو الذي يؤيده سياق الآيات كما تقدم.
  ومن هنا يتأيد ما في بعض الاخبار عن العسكري ( عليه السلام ) : أن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفيه باتباع القبلة التي كرهها ، ومحمد يأمر بها ، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليبين من يتبع محمدا فيما يكرهه ـ فهو مصدقه وموافقه الحديث ، وبه يتضح أيضا فساد ما قيل : إن قوله تعالى التي كنت عليها مفعول ثان لجعلنا ، والمعنى : وما جعلنا القبلة ، هي الكعبة التي كنت عليها قبل بيت المقدس ، واستدل عليها بقوله تعالى إلا لنعلم من يتبع الرسول ، وهو فاسد ، ظهر فساده مما تقدم .
  وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قلت له ألا تخبرني عن الايمان ، أقول هو وعمل أم قول بلا عمل ؟ فقال الايمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل ، مفروض من الله ، مبين في كتابه ، واضح نوره ثابت حجته ، يشهد له بها الكتاب ويدعو إليه ، ولما أن صرف الله نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس قال المسلمون : للنبي أرأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس ، ما حالنا فيها وما حال من مضى من أمواتنا ، وهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ، فسمى الصلوة إيمانا ، فمن اتقى الله حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض الله عليه لقي الله مستكملا لايمانه من أهل الجنة ، ومن خان في شئ منها أو تعدى ما أمر الله فيها لقي الله ناقص الايمان.
  اقول : ورواه الكليني أيضا ، واشتماله على نزول قوله ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) الآية ، بعد تغيير القبلة لا ينافي ما تقدم من البيان.
  وفي الفقيه أن النبي صلى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهرا بالمدينة ، ثم عيرته اليهود فقالوا إنك تابع لقبلتنا ، فاغتم لذلك غما شديدا ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 334 _
  فلما كان في بعض الليل خرج يقلب وجهه في آفاق السماء ، فلما أصبح صلى الغداة ، فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) الآية ، ثم أخذ بيد النبي فحول وجهه إلى الكعبة ، وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال ، فكان أول صلوتة إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجدا بالمدينة وقد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبله ، فكان أول صلوتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
  أقول : وروى القمي نحوا من ذلك ، وأن النبي كان في مسجد بني سالم.
  وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية ، قال استقبل القبلة ، ولا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلوتك ، فان الله يقول لنبيه في الفريضة فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.
  اقول : والاخبار في نزول الآية في الفريضة واختصاصها بها كثيرة مستفيضة.
  وفي تفسير القمي عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ )الآية ، قال نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى ، يقول الله تبارك وتعالى : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ يعني يعرفون رسول الله كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ) لان الله عزوجل قد أنزل عليهم في التوراة والانجيل والزبور صفة محمد وصفة أصحابه ومهاجرته ، وهو قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا ـ يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل ، وهذه صفة رسول الله في التوراة وصفة أصحابه ، فلما بعثه الله عزوجل عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله : فلما جائهم ما عرفوا كفروا به.
  اقول : وروى نحوا منه في الكافي عن علي ( عليه السلام )
  وفي أخبار كثيرة من طرق الشيعة أن قوله تعالى ، أينما تكونوا يأت بكم الله

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 335 _
  جميعا الآية في أصحاب القائم ، وفي بعضها أنه من التطبيق والجرى.
  وفي الحديث من طرق العامة في قوله تعالى : ولاتم نعمتي عليكم ، عن علي تمام النعمة الموت على الاسلام.
  وفي الحديث من طرقهم أيضا تمام النعمة دخول الجنة.
  ( بحث علمي )
  تشريع القبلة في الاسلام ، واعتبار الاستقبال في الصلوة ـ وهى عبادة عامة بين المسلمين ـ وكذا في الذبائح ، وغير ذلك مما يبتلى به عموم الناس أحوج الناس إلى البحث عن جهة القبلة وتعيينها وقد كان ذلك منهم في اول الامر بالظن والحسبان ونوع من التخمين ، ثم استنهض الحاجة العمومية الرياضيين من علمائهم أن يقربوه من التحقيق ، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد وطولها ، واستخرجوا انحراف مكة عن نقطة الجنوب في البلد ، أي انحراف الخط الموصول بين البلد ومكة عن الخط الموصول بين البلد ونقطة الجنوب ( خط نصف النهار ) بحساب الجيوب والمثلثات ثم عينوا ذلك في كل بلدة من بلاد الاسلام ، بالدائرة الهندية المعروفة المعينة لخط نصف النهار ، ثم درجات الانحراف وخط القبلة.
  ثم استعملوا لتسريع العمل وسهولته الآلة المغناطيسية المعروفة بالحك ، فإنها بعقربتها تعين جهة الشمال والجنوب ، فتنوب عن الدائرة الهندية في تعيين نقطة الجنوب وبالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخص جهة القبلة.
  لكن هذا السعي منهم ـ شكر الله تعالى سعيهم ـ لم يخل من النقص والاشتباه من الجهتين جميعا ، أما من جهة الاولى : فإن المتأخرين من الرياضيين عثروا على ان المتقدمين اشتبه عليهم الامر في تشخيص الطول ، واختل بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة ، وذلك ان طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد ـ وهو ضبط ارتفاع القطب الشمالي ـ كان اقرب إلى التحقيق ، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول ، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماوية مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشمس حسا عندهم ، وهو التقدير بالساعة ، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيرا