القبيحة ، ومصدر كل شر ، وفي المقابل أنّ الإيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كلّ خير وبركة ، فكلّ وصف سوء وقبيح يلزم الإنسان ويلحقه ، فإنّما يأتيه من قبل عدم الإيمان بالآخرة ، كما أنّ كلّ وصف حسن يلزم الإنسان ينشأ من الإيمان بها ، وبذلك ظهر معنى قوله : ( لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَة مَثَل السَّوء ) الذي يدلّ بالملازمة للذين يؤمنون بالآخرة لهم مثل الحسن.
وأمّا قوله سبحانه : ( وَللهِ المَثَلُ الأعلى ) فمعناه أنّه منزّه من أن يوصف بصفات مذمومة وقبيحة كالظلم ، قال سبحانه : ( ولا يَظلم رَبُّك أَحداً ) ،
(1) وفي الوقت نفسه فهو موصوف بصفات محمودة.
فكلّ وصف يستكرهه الطبع أو يردعه العقل فلا سبيل له إليه ، فهو قدرة لا عجز فيها ، وحياة لا موت معها إلى غير ذلك من الصفات الحميدة ، بخلاف ما يقبله الطبع فهو موصوف به.
وقد أشار إلى ذلك في غير واحد من الآيات أيضاً ، قال : ( وَلَهُ المَثَلُ الأعلى فِي السَّماواتِ وَالأرْضِ ) (2) وقال : ( لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى )
(3) ، فالأمثال منها دانية ومنها عالية فإنّما يثبت له العالي بل الأعلى.
(4)
ومنه يعلم أنّ الأمثال إذا كان جمع مثْل ـ بالسكون ـ فالله سبحانه منزّه من المثْل والأمثال ، وأمّا إذا كان جمع مثَل ـ بالفتح ـ بمعنى الوصف الذي يحمد به سبحانه ، فله الأمثال العليا ، والأسماء الحسنى كما مرّ .
--------------------
(1) الكهف : 49.
(2) الروم : 27.
(3) طه : 8 ـ
(4) لاحظ : الميزان : 12 / 249.
الأمثال في القرآن الكريم
10
الثانيا : المَثَلَ في الاصطلاح
المَثَلُ : قسم من الحكم ، يرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها ، ثمّ يتداولها الناس في غير واحد من الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.
فالكلمة الحكيمة على قسمين : سائر منتشر بين الناس ودارج على الألسن فهو المثل ، وإلا فهي كلمة حكيمة لها قيمتها الخاصة وإن لم تكن سائرة ، فما ربما يقال : ( المثل السائر ) فالوصف قيد توضيحي لا احترازي ، لأنّ الانتشار والتداول داخل في مفهوم المثل ، ويظهر ذلك من أبي هلال العسكري ( المتوفّى حوالى 400 ه ) ، حيث قال : جعل كل حكمة سائرة ، مَثَلاً ، وقد يأتي القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به إلاّ أنّه لا يتفق أن يسير فلا يكون مَثَلاً. (1)
وكلامه هذا ينم ( انّ الشيوع والانتشار وكثرة الدوران على الألسن هو الفارق بين الحكمة والمثل ، فالقول الصائب الصادر عن تجربة يسمّى حكمة إذا لم يتداول ، ومثلاً إذا كثر استعماله وشاع أداؤه في المناسبات المختلفة ).
ولأجل ذلك يقول الشاعر :
ما أنت إلا مثل iiسائر يعرفه الجاهل والخابر |
أمّا تسمية ذلك الشيء بالمثال ، فهو لأجل المناسبة والمشابهة بين الموردين على وجه يُصبح مثالاً لكل ما هو على غراره.
--------------------
(1) جمهرة أمثال العرب : 1\(5
الأمثال في القرآن الكريم
_ 11 _
قال ابن السكيت ( المتوفّى عام 244 ه ) : المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ ، شبّهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره. (1)
بما انّ وجه الشبه والمناسبة التي صارت سبباً لإلقاء هذه الحكمة غير مختصة بمورد دون مورد ، وإن وردت في مورد خاص يكون المثل آية وعلامة أو علماً للمناسبة الجامعة بين مصاديق مختلفة.
يقول المبرّد : فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأوّل ، كقول كعب بن زهير :
كانت مواعيد عرقوب لها مَثَلاً ومـا مـواعيدها إلاّ iiالأباطيل |
مواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد (2).
وعلى ذلك فالمثل السائر كقوله : ( في الصيف ضيعتِ اللبن ) علم لكل من ضيَّع الفرصة وأهدرها ، كما أن قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لا ينتطح فيها عنزان ) علم لكلّ أمر ليس له شأن يعتد به. (3)
كما أنّ قول أبي الشهداء الحسين بن علي ( عليهما السلام ) : ( لو ترك القطا ليلاً لنام ) الذي تمثل به الإمام ( عليه السلام ) في جواب أُخته زينب ( عليها السلام ) ، علم لكل من لا يُترك بحال أو من حُمل على مكروه من غير إرادة ، إلى غير ذلك من الأمثال الدارجة.
--------------------
(1) مجمع الأمثال : 1 / (6)
(2) مجمع الأمثال : 1 / (6)
(3) مجمع الأمثال : 2 / 225.
الأمثال في القرآن الكريم
_ 12 _
الثالث : فوائد الأمثال السائرة
ذكر غير واحد من الاُدباء فوائد جمة للمثل السائر :
(1) قال ابن المقفّع ( المتوفّـى عام 143 ه ) : إذا جعـل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق ، وآنق للسمع ، وأوسع لشعوب الحديث.
(2) وقال إبراهيم النظّام ( المتوفّـى عام 231 ه ) : يجتمـع في المثل أربعـة لا تجتمع في غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة.
وقال غيرهما : سُمِّيت الحِكَم القائم صدقها في العقول أمثالاً ، لانتصاب صورها في العقول مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب، (1)
وقد نقل ابن قيم الجوزية ( المتوفّى عام 751 ه ) كلام النظّام بشكل كامل ، وقال :
وقد ضرب الله ورسوله الأمثال للناس لتقريب المراد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع ، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثّل به فقد يكون أقرب إلى تعقّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره ، فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير.
ففي الأمثال من تأنّس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره ، وكلّما ظهرت الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً ، فالأمثال شواهد المعنى المراد ، وهي خاصية العقل ولبّه وثمرته. (2)
--------------------
(1) مجمع الأمثال : 1 / (6)
(2) أعلام الموقعين : 1 / 291 ـ وما ذكره من الفائدة مشترك بين المثل السائر الذي هو موضوع كلامنا ، والتمثيل الذي شاع في القرآن ، وسيوافيك الفرق بين المثل السائر والتمثيل.
الأمثال في القرآن الكريم
_ 13 _
وقال عبد القاهر الجرجاني ( المتوفّى عام 471 ه ) : إعلم أنّ مما اتّفق العقلاء عليه انّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني ، أو أُبرزت هي باختصار في معرضه ، ونُقلت عن صورها الاَصلية إلى صورته كساها أُبّهة ، وكسبها منقبة ، ورفع من أقدارها ، وشبّ من نارها ، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها ، ودعا القلوب إليها ، واستثار من أقاصى الأفئدة صبابة وكلفاً ، وقسر الطّباع على أن تُعطيها محبة وشغفاً.
فإن كان ذمّاً : كان مسه أوجع ، وميسمه ألذع ، ووقعه أشدّ ، وحدّه أحد.
وإن كان حجاجاً : كان برهانه أنور ، وسلطانه أقهر ، وبيانه أبهر.
إن كان افتخاراً : كان شأوه أمدّ ، وشرفه أجد (1) ولسانه ألد.
إن كان اعتذاراً : كان إلى القبول أقرب ، وللقلوب أخلب ، وللسخائم أسلّ ، ولغَرْب الغضب أفلّ ، وفي عُقد العقود أنفث ، وحسن الرجوع أبعث.
وإن كان وعظاً : كان أشفى للصدر ، وأدعى إلى الفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، وأجدر أن يجلى الغياية (2) ويُبصّـر الغاية ، ويبريَ العليل ، ويشفي الغليل. (3)
(4) وقال أبو السعود ( المتوفّى عام 982 ه ) : إنّ التمثيل ليس إلاّ إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهور ، وتحلية المعقول بحلية المحسوس ، وتصوير أوابد المعاني بهيئة المأنوس ، لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل ، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفيّة ، وفهم الدّقائق الأبيّة ، كي يتابعه فيما يقتضيه ،
--------------------
(1) من الجد : الحظ ، يقال : هو أجدّ منك ، أي أحظ.
(2) الغياية : كل ما أظلك من فوق رأسك.
(3) أسرار البلاغة : 10 (1) 10 (2)
الأمثال في القرآن الكريم
_ 14 _
ويشايعه إلى ما لا يرتضيه ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية والكلمات النبوية ، وذاعت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء.
إن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقا الاستعصاء عليه ، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبىّ ، وقمع سورة الجامح الأبيّ ، كيف لا ، وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية ، وإبرازها لها في معرض المحسوسات الجلية ، وإبداء للمنكر في صورة المعروف ، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف. (1)
ولعلّ في هذه الكلمات غنى وكفاية فلا نطيل الكلام ، غير انّه يجب التنبيه على نكتة ، وهي أن السيوطي نقل في ( المزهر ) عن أبي عبيد أنّه قال :
الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق بكناية. (2)
ولا يخفى أنّ الأمثال ليست من خصائص العرب فحسب ، بل لكلّ قوم أمثال وحكم يقرّبون بها مقاصدهم إلى إفهام المخاطبين ويبلغون بها حاجاتهم ، وربما يشترك مَثَلٌ واحد بين أقوام مختلفة ، ويصبح من الأمثال العالمية ، وربما تبلغ روعة المثل بمكان يقف الشاعر أمامه مبهوراً فيصب مضمونه في قالب شعري.
روى الطبري عن مهلّب بن أبي صفرة ، قال : دعا المهلَّب حبيباً ومن حضره من ولده ، ودعا بسهام فحزمت ، وقال : أترونكم كاسريها مجتمعة ؟ قالوا : لا ، قال : أفترونكم كاسريها متفرقة ؟ قالوا : نعم ، قال : فهكذا الجماعة. (3)
وليس المهلب أوّل من ساق هذا المثل على لسانه ، فقد سبقه غيره إليه.
--------------------
(1) هامش تفسير الفخر الرازي : 1 / 156 ، المطبعة الخيرية ، ط الاُولى ، مصر ـ 1308 هـ .
(2) المزهر : 1 / 288.
(3) تاريخ الطبري : حوادث سنة 82 هـ.
الأمثال في القرآن الكريم
_ 15 _
روى أبو هلال العسكري في جمهرته ، عن قيس بن عاصم التميمي ( المتوفّـى عام 20 ه ) الأبيات التالية التي تعرب بأنّ المثل صبّ في قالب الشعر أيضاً :
بصلاح ذات البين طول iiبقائكم إن مُدّ في عمري وإن لم iiيُمدد حـتى تـلين قلوبكم وجلودكم لـمسوّد مـنكم وغـير iiمسوّد إنّ الـقداح إذا جـمعن iiفرامها بـالكسر ذو حنق وبطش iiباليد عزّت فلم تكسر وإن هي بُدّدت فـالوهن والتكسير للمتبدّد (1)ii |
وقد نقل المسعودي في ترجمة عبد الملك بن مروان ، وقال :
كان الوليد متحنّناً على إخوته ، مراعياً سائر ما أوصاه به عبد الملك ، وكان كثير الإنشاد لأبيات قالها عبد الملك حين كتب وصيته ، منها :
بصلاح ذات البين طول iiبقائكم إن مُدّ في عمري وإن لم iiيُمدد حـتى تـلين قلوبكم وجلودكم لـمسوّد مـنكم وغـير iiمسوّد إنّ الـقداح إذا جـمعن iiفرامها بـالكسر ذو حنق وبطش iiباليد عزّت فلم تكسر وإن هي بُدّدت فـالوهن والتكسير للمتبدّد ii |
--------------------
(1) جمهرة الأمثال : 1 / 48.
(2) مروج الذهب : أخبار الوليد بن عبد الملك.
الأمثال في القرآن الكريم
_ 16 _
الكتب المؤلّفة في الأمثال العربية
وقد أُلّفت في الأمثال العربية قديمها وحديثها كتباً كثيرة ، وأجمع كتاب في هذا المضمار هو ما ألّفه أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الميداني ( المتوفّى عام 518 ه ) وأسماه ب ( مجمع الأمثال ) لاِحتوائه على عظيم ما ورد منها وهي ستة آلاف ونيف .
(1)
الرابع : الأمثال القرآنية
دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن مشتمل على الأمثال ، وأنّه سبحانه ضرب بها مثلاً للناس للتفكير والعبرة ، قال سبحانه :
( لَوْ أَنْزَلْنا هذا الْقُرآنَ عَلى جَبلٍ لَرَأيْتَهُ خاشِعاً مُتَصدّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْربُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفكَّرون ).
(2)
إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على وجود الأمثال في القرآن ، وانّ الروح الأمين نزل بها ، وكان مَثَلاً حين النزول على قلب سيد المرسلين ، هذا هو المستفاد من الآيات.
ومن جانب آخر أنّ المثل عبارة عن كلام أُلْقيَ في واقعة لمناسبة اقتضت إلقاء ذلك الكلام ، ثمّ تداولت عبر الزمان في الوقائع التي هي على غرارها ، كما هو الحال في عامة الأمثال العالمية.
--------------------
(1) مجمع الأمثال : 1 / (5
(2) الحشر : 21 ـ
الأمثال في القرآن الكريم
_ 17_
وعلى هذا فالمثل بهذا المعنى غير موجود في القرآن الكريم ، لما ذكرنا من أنّ قوام الأمثال هو تداولها على الألسن وسريانها بين الشعوب ، وهذه الميزة غير متوفرة في الآيات القرآنية.
كيف وقد أسماه سبحانه مثلاً عند النزول قبل أن يعيها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويقرأها للناس ويدور على الألسن ، فلا مناص من تفسير المثل في القرآن بمعنى آخر ، وهو التمثيل القياسي الذي تعرّض إليه علماء البلاغة في علم البيان وهو قائم بالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز ، وقد سمّاه القزويني ( في تلخيص المفتاح ) المجاز المركب وقال :
إنّه اللفظ المركب المستعمل فيما شُبّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه ، ثمّ مثّل بما كتب يزيد بن وليد إلى مروان بن محمد حين تلكأ عن بيعته : أمّا بعد ، فإنّي أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر أخرى ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت ، والسلام. (1)
فلهذا التمثيل من المكانة ما ليس له لو قصد المعنى بلفظه الخاص ، حتى أنّه لو قال مثلاً : بلغني تلكّؤك عن بيعتي ، فإذا أتاك كتابي هذا فبايع أو لا ، لم يكن لهذا اللفظ من المعنى بالتمثيل ، ما لهذا.
فعامة ما ورد في القرآن الكريم من الأمثال فهو من قبيل التمثيل لا المثال المصطلح.
ثمّ إنّ الفرق بين التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز أمر واضح لا حاجة لإطناب الكلام فيه ، وقد بيّنه علماء البلاغة في علم البيان ، كما طرحه أخيراً
--------------------
(1) الإيضاح : 304 ، التلخيص : 322 ـ
الأمثال في القرآن الكريم
_ 18_
علماء الأصول في مباحث الألفاظ ، ولأجل ذلك نضرب الصفح عنه ونحيل القارئ الكريم إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.
ويظهر من بعضهم أنّ التمثيل من معاني المثل ، قال الآلوسي : المثل مأخوذ من المثول ـ وهو الانتصاب ـ ومنه الحديث ( من أحبّ أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوّأ مقعده من النار ) ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إمّا على تشبيه بلا شبيه أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها ، أو حكمة وموعظة نافعة ، أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز. (1)
ولولا قوله ( الشائع ) لانطبقت العبارة على التمثيل القياسي،
( وقد امتازت صيغة المثل القرآني بأنّها لم تنقل عن حادثة معينة ، أو واقعة متخيلة ، أعيدت مكرورة تمثيلاً ، وضرب موردها تنظيراً ، وإنّما ابتدع المثل القرآني ابتداعاً دون حذو احتذاه ، وبلا مورد سبقه فهو تعبير فني جديد ابتكره القرآن حتى عاد صبغة متفردة في الأداء والتركيب والإشارة ).
( وعلى هذا فالمثل في القرآن الكريم ليس من قبيل المثل الاصطلاحي ، أو من سنخ ما يعادله لفظاً ومعنى ، الفقر بالأمثال بمضمونه ، بل هو نوع آخر أسماه القرآن مثلاً من قبل أن نعرف علوم الأدب ( المثل ) ، ومن قبل أن تسمّي به نوعاً من الكلام المنثور وتضعه مصطلحاً له ، بل من قبل أن يعرف الأدباء ( المثل ) بتعريفهم ). (2)
--------------------
(1) روح المعاني : 1 / 163 ـ
(2) الصورة الفنية في المثل القرآني : 72 ، نقلاً عن كتاب المثل لمنير القاضي.
الأمثال في القرآن الكريم
_ 19 _
الخامس : أقسام التمثيل
قد عرفت أنّ التمثيل عبارة عن إعطاء منزلة شيء لشيء عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو المجاز أو غير ذلك ، فهو على أقسام :
(1) التمثيل الرمزي : وهو ما ينقل عن لسان الطيور والنباتات والأحجار بصورة الرمز والتعمية ويكون كناية عن معاني دقيقة ، وهذا النوع من التمثيل يعجّ به كتاب ( كليلة ودمنة ) لابن المقفع ، وقد استخدم هذا الأسلوب الشاعر العارف العطار النيشابوري في كتابه ( منطق الطير ).
ويظهر من الكتاب الأوّل أنّه كان رائجاً في العهود الغابرة قبل الإسلام ، وقد ذكر المؤرّخون أنّ طبيباً إيرانياً يدعى ( برزويه ) وقف على كتاب ( كليلة ودمنة ) في الهند مكتوباً باللغة السنسكريتية ونقلها إلى اللغة البهلوية ، وأهداه إلى بلاط أنوشيروان الساساني ، وقد كان الكتاب محفوظاً بلغته البهلوية إلى أن وقف عليه عبد الله بن المقفع ( 10 (6) 143 ه ) فنقله إلى اللغة العربية ، ثمّ نقله الكاتب المعروف نصر الله بن محمد بن عبد الحميد في القرن السادس إلى اللغة الفارسية وهو الدارج اليوم في الأوساط العلمية.
نعم نقله الكاتب حسين واعظ الكاشفي إلى الفارسية أيضاً في القرن التاسع ومن حسن الحظ توفر كلتا الترجمتين.
وقام الشاعر ( رودكي ) بنظم ، ما ترجمه ابن المقفع ، باللغة الفارسية،
ويظهر من غير واحد من معاجم التاريخ أنّه تطرق بعض ما في هذا الكتاب من الأمثلة إلى الأوساط العربية في عصر الرسالة أو بعده ، وقد نقل أنّ عليّاً ( عليه السلام ) قال : ( إنّما اُكلت يوم اُكل الثور الأبيض ) وهو من أمثال ذلك الكتاب.
الأمثال في القرآن الكريم
_ 20 _
وهناك محاولة تروم إلى أنّ القصص القرآنية كلّها من هذا القبيل أي رمز لحقائق علوية دون أن يكون لها واقعية وراء الذهن ، وبذلك يفسرون قصة آدم مع الشيطان ، وغلبة الشيطان عليه ، أو قصة هابيل وقابيل وقتل قابيل أخاه ، أو تكلم النملة مع سليمان ( عليه السلام ) ، وغيرها من القصص ، وهذه المحاولة تضادّ صريح القرآن الكريم ، فانّه يصرّح بأنّها قصص تحكي عن حقائق غيبيّة لم يكن يعرفها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا غيره ، قال سبحانه : ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاَُولى الألْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤمِنُون ). (1)
فالآية صريحة في أنّ ما جاء في القصص ليس أمراً مفترىً ، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن بأجمعه هو الحقّ الذي لا يدانيه الباطل.
(2) التمثيل القصصي : وهو بيان أحوال الأمم الماضية بغية أخذ العبر للتشابه الموجود. يقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللهُ مَثلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امرأةَ نُوحٍ وَامرأةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وقِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلِين ). (2)
والقصص الواردة في أحوال الأمم الغابرة التي يعبر عنها بقصص القرآن ، هي تشبيه مصرّح ، وتشبيه كامن والغاية هي أخذ العبرة.
(3) التمثيل الطبيعي : وهو عبارة عن تشبيه غير الملموس بالملموس ، والمتوهم بالمشاهد ، شريطة أن يكون المشبه به من الأمور التكوينية ، قال سبحانه : ( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ مِمّا
--------------------
(1) يوسف : 11(1)
(2) التحريم : 10.
الأمثال في القرآن الكريم
_ 21 _