قلت : الجواب محذوف ، لأجل الوجازة ، وهو قوله ( خمدت ). فإن قلت : فعلى هذا فبم يتعلّق قوله : ( ذهب الله بنورهم ) ؟
  قلت : هو كلام مستأنف راجع إلى بيان حال الممثل ، وتقدير الكلام هكذا : فلَمّا أضاءَت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسّرين على فوات الضوء ، خائبين بعد الكدح من إيقاد النار.
  فحال المنافقين كحال هؤلاء ، أشعلوا ناراً ليستضيئوا بنورها لكن ( ذَهَب الله بنورهم وتَرَكَهُمْ في ظُلمات لا يُبصرون ) .
  وبكلمة موجزة : ما ذكرنا من الجمل هو المفهوم من الآية ، والاِيجاز بلا تعقيد من شؤون البلاغة. (1)
  فقوله سبحانه : ( ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ) بمعنى أنّ ذلك كان نتيجة نفاقهم وتمرّدهم وبالتالي تبدّد قابليتهم للاهتداء بنور الحقّ ( فَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُون ) أي في أهوائهم وسوء اختيارهم يتخبّطون في ظلمات الضلال ، لا يبصرون طريق الحقّ والرشاد.
  ترى أنّ التمثيل يحتوي على معاني عالية وكثيرة بعبارات موجزة ، ولو حاول القرآن أن يبيّن تلك المعاني عن غير طريق التمثيل يلزم عليه بسط الكلام كما بسطناه ، وهذا من فوائد المثل ، حيث يؤدي معاني كثيرة بعبارات موجزة.
  ثمّ إنّه سبحانه يصفهم بأنّهم لما عطّلوا آذانهم فهم صمّ ، وعطّلوا ألسنتهم فهم بكم ، وعطّلوا عيونهم فهم عمي ، قال : ( صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون ) .
  والمراد من التعطيل أنّهم لم يكونوا ينتفعون بهذه الأدوات التي بها تعرف

--------------------
(1) لاحظ الكشاف : 1 / 153.

الأمثال في القرآن الكريم _ 77_

  الحقائق ، فما كانوا يسمعون آيات الله بجدٍّ ، ولا ينظرون إلى الدلائل الساطعة للنبوة إلاّ من خلال الشك. (1)
  إلى هنا تمّ استعراض حال المنافقين بحال من أوقد ناراً للاستضاءة ، ولكن باءت مساعيه بالفشل.
  وممّا يدل على أنّ المنافقين آمنوا بالله ورسوله في بدء الأمر ثمّ طغى عليهم وصف النفاق ، قوله سبحانه : ( ذلِكَ بأَنّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِـعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُون ). (2)
  وممّا يدل على أنّ الإسلام نور ينوّر القلوب والأنفس قوله سبحانه : ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلاِسْلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ ). (3)
  أمّا الظلمة التي تحيط بهم بعد النفاق وتجعلهم صمـّاً بكماً عمياً ، فالمراد ظلمات الضلال التي لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد ، يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلياوَُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُون ). (4)
  وبذلك ظهر أنّ تفسير الظلمة التي يستعقبها إطفاء النور بظلمة القبر وحياة البرزخ ومابعدها من مواقف الحساب والجزاء غير سديد ، وإن كان هناك ظلمة للمنافق لكنّها من نتائج الظلمة الدنيوية.

--------------------
(1) انظر مجمع البيان : 1 / 54 ، آلاء الرحمن : 1 / 73.
(2) المنافقون : 3.
(3) الزمر : 22.
(4) البقرة : 257.

الأمثال في القرآن الكريم _ 78_

  فاستشهاد صاحب المنار على كون المراد هو ظلمة القبر والبرزخ بقوله سبحانه : ( يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ لِلَّذينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً ... ) (1) ليس بأمر صحيح ، والآية ناظرة إلى حياتهم الدنيوية التي يكتنفها الإيمان والنور ، ثمّ تحيط بهم الظلمة والضلالة ، ولا نظر للآية لما بعد الموت.
  سؤال وإجابة
  إنّ مقتضى البلاغة هو الاِتيان بصيغة الجمع حفظاً للتطابق بين المشبّه والمشبّه به ، مع أنّه سبحانه أفرد المشبّه به ( كالذي استوقد ناراً ) وجمع المشبّه أعني قوله : ( مثلهم ) ( ذهب الله بنورهم ) ، فما هو الوجه ؟
  أجاب عنه صاحب المنار بقوله : إنّ العرب تستعمل لفظ ( الذي )في الجمع كلفظي ( ما )و ( مَن )ومنه قوله تعالى : ( وَخُضْتُمْ كَالّذِي خَاضُوا ) (2) وإن شاع في ( الذي )الافراد ، لأنّ له جمعاً ، وقد روعي في قوله ( استوقد ) لفظه ، وفي قوله ( ذهب الله بنورهم ) معناه ، والفصيح فيه مراعاة التلفظ أوّلاً ، ومراعاة المعنى آخراً ، والتفنّن في إرجاع الضمائر ضرب من استعمال البلغاء. (3)
  ولنا مع هذا الكلام وقفة ، وهي أنّ ما ذكره مبني على أنّ قوله سبحانه : ( ذَهَبَ الله بنورهِمْ وَتَرَكهم في ظُلماتٍ لا يُبصرون ) في تتمة المثل ، وأجزاء المشبه به ، ولكنّك قد عرفت خلافه ، وانّ المثل تمّ في قوله : ( فلمّا أضاءت

--------------------
(1) الحديد : 13.
(2) التوبة : 69.
(3) تفسير المنار : 1 / 169.

الأمثال في القرآن الكريم _ 79_

   ما حوله ) ، وذلك بحذف جواب ( لمّـا )، لكونه معلوماً في الجملة التالية ،وهو عبارة عن إخماد ناره فبقى في الظلام خائفاً متحيّراً.
  وإلاّ فلو كان قوله ( ذهب الله بنورهم ) من أجزاء المشبّه به ، وراجعاً إلى مَن استوقد ناراً ، يلزم أن تكون الجملة التالية أعني قوله : ( صمّ بكمٌ عُمىٌ ) كذلك ، أي من أوصاف المستوقد ، مع أنّها من أوصاف المنافق دون أدنى ريب ، ولو أردنا أن نصيغ المشبه والمشبه به بعبارة مفصّلة ، فنقول :
  لمشبه به : الذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله أطفأت ناره ، والمشبه : المنافقون الذين استضاءوا بنور الإسلام فترة ثمّ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
  وأمّا وجه الافراد ، فهو أنّه إذا كان التشبيه بين الأعيان فيلزم المطابقة ، لأنّ عين كلّ واحد منهم غير أعيان الآخر ، ولذلك إنّما يكون التشبيه بين الأعيان إذا روعي التطابق في الجمع والإفراد ، يقول سبحانه : ( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) (1) ، وقوله : ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ). (2)
  أمّا إذا كان التشبيه بين الأفعال فلا يشترطون التطابق لوحدة الفعل من حيث الماهية والخصوصيات ، يقال في المثل : ما أفعالكم كفعل الكلب. أي ما أفعالكم إلاّ كفعل الكلب.
  وربما يقال : إنّ الموصول ( الذي )بمعنى الجمع ، قال سبحانه : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (3) (4)

--------------------
(1) المنافقون : 4.
(2) الحاقة : 7.
(3) الزمر : 33.
(4) انظر التبيان في تفسير القرآن : 1 / 86.

الأمثال في القرآن الكريم _ 80 _

سورة البقرة 2

  التمثيل الثاني
  قال سبحانه : ( أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِير ) . (1)
  تفسير الآيات
  لصيّب : المطر ، وكلّ نازل من علوّ إلى أسفل ، يقال فيه : صاب يصوب ، وهو عطف على قوله ( كَمَثَلِ الّذي استوقَدَ ناراً ) ، ولما كان المثل الثاني أيضاً مثلاً للمنافقين ، فمقتضى القاعدة أن يقول ( وكصيّب)مكان ( أو كصيّب ) ولكن ربّما يستعمل ( أو)بمعنى ( و)قال الشاعر :

نال الخلافة أو كانت له iiقدرا      كما أتى ربّه موسى على قدر
  ويحتمل أن يكون ( أو) للتخيير ، بأن مَثل المنافقين بموقد النار ، أو بمن وقع في المطر.

--------------------
(1) البقرة : 19 ـ 20.

الأمثال في القرآن الكريم _ 81 _
  والرعد : هو الصوت الذي يُسمَع في السحاب أحياناً عند تجمعه.
  والبرق : هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالباً ، وربما لمع في الاَُفق حيث لا سحاب ، وأسباب هذه الظواهر اتحاد شحنات السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات.
  والصاعقة : نار عظيمة تنزل أحياناً أثناء المطر والبرق ، وسببها تفريغ الشحنات التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض.
  والإحاطة بالشيء : الاِحداق به من جميع الجهات.
  والخطف : السلب والأخذ بسرعة ، ومنه نهي عن الخطفة بمعنى النهبة.
  قوله : ( وَإذا أَظلَم ) بمعنى إذا خفت ضوء البرق.
  إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآيات ، فلنرجع إلى بيان حقيقة التمثيل الوارد في الآية ، ليتضح من خلالها حال المنافقين ، فانّ حال المشبه يعرف من حال المشبه به ، فالمهم هو التعرّف على المشبه به.
  والإمعان في الآيات يثبت بأنّ التمثيل يبتدأ من قوله ( أو كصيّبٍ من السَّماء ) وينتهي بقوله : ( وَإذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ).
  وأمّا قوله : ( وَاللهُ محيطٌ بِالكافرين ) جملة معترضة جيء بها في أثناء التمثيل ، وقوله بعد انتهاء التمثيل : ( وَلَو شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) يرجع إلى المشبه.
  هذا ما يرجع إلى مفردات الآيات وكيفية انسجامها ، والمهمّ هو ترسيم ذلك المشهد الرهيب.
  فلنفترض أنّ قوماً كانوا يسيرون في الفلوات وسط أجواء سادها الظلام

الأمثال في القرآن الكريم _ 82 _
  الدامس ، فإذا بصيّب من السماء يتساقط عليهم بغزارة ، فيه رعود قاصفة وبروق لامعة تكاد تخطف الأبصار من شدتها وصواعق مخيفة ، فتولاّهم الرعب والفزع والهلع ممّا حدا بهم إلى أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم خشية الموت للحيلولة دون سماع ذلك الصوت المخيف ، فعندئذٍ وقفوا حيارى لا يدرون أين يولّون وجوهم ، فإذا ببصيص من البرق أضاء لهم الطريق فمشوا فيه هنيئة ، فلما استتر ضوء البرق أحاطت بهم الظلمة مرة أخرى وسكنوا عن المشي.
  ونستخلص من هذا المشهد أنّ الهول والرعب والفزع والحيرة قد استولى على هؤلاء القوم لا يدرون ماذا يفعلون ، وهذه الحالة برمَّتها تصدق على المنافقين ، ويمكن تقريب ذلك ببيانين :
  البيان الأوّل : التطبيق المفرق لكلّ ما جاء من المفردات في المشبه به ، كالصيّب والظلمات والرعد والبرق ، على المشبَّه ، وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً أفضلها ما ذكره الطبرسي تحت عنوان الوجه الثالث.
  وقال : إنّه مثل للإسلام ، لأنّ فيه الحياة كما في الغيث الحياة ، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر ، وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل ، وبما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم ، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم ، وما فيه من الصواعق كما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. ويقوى ذلك ما روي عن الحسن ( عليه السلام ) انّه قال : ( مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه ). (1)
  وربّما يقرّر هذا الوجه بشكل آخر ، وهو ما أفاده المحقّق محمد جواد

--------------------
(1) مجمع البيان : 1 / 57.

الأمثال في القرآن الكريم _ 83 _
  البلاغي ( المتوفّى 1352 ه‍ ) فقال : الإسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيّب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الأرض بالعدل والصلاح والأمن وحسن الاجتماع ، ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل الله ونيل السعادة ، وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة ، فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنّهم ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من ) أجل ( الصواعق حذر الموت ) وخوفاً من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها ، وسفهاً لعقولهم أين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم والله محيط بالكافرين. (1)
  وهذان التقريران يرجعان إلى التطبيق المفرّق كما عرفت.
  البيان الثاني : التطبيق المركّب ، وهو إنّ الغاية من وراء هذا التمثيل أُمور ثلاثة ترجع إلى بيان حالة المنافقين.
  وقبل أن نستوعب البحث عنها نذكر نص كلام الزمخشري في هذا الصدد.
  قال الزمخشري : والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به وهو القول الفصل والمذهب الجزل. (2)
  إذا عرفت ذلك ، فإليك البحث في الأمور الثلاثة :

--------------------
(1) آلاء الرحمن : 1 / 74.
(2) الكشاف : 1 / 162 ـ 163.

الأمثال في القرآن الكريم _ 84 _
  الأوّل : إحاطة الرعب والهلع بالمنافقين إثر انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ودخول القبائل فيه وتنامي شوكته ، مما أوجد رعباً في قلوبهم وفزعاً في نفوسهم المضطربة ، ويجدون ذلك بلاءً أحاط بهم كالقوم الذين يصيبهم الصيّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق وإليه أشار قوله سبحانه : ( أو كصيّب من السماء فيه رعد وبرق ).
  الثاني : انّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمّا كان يخبرهم عن المستقبل المظلم للكافرين والمدبرين عن الإسلام والإيمان خصوصاً بعد الموت صار ذلك كالصاعقة النازلة على رؤوسهم فكانوا يهربون من سماع آيات الله ويحذرون من صواعق براهينه الساطعة ، مع أنّ هذا هو منتهى الحماقة ، لأنّ صمّ الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَجْعَلُون أَصابعهُمْ في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَر المَوت وَالله مُحيطٌ بِالكافِرين ).
  الثالث : كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدعوهم إلى أصل الدين ويتلوا عليهم الآيات البيّنة ويقيم لهم الحجج القيّمة ، فعنئذٍ يظهر لهم الحق ، فربّما كانوا يعزمون على اتّباعه والسير وراء أفكاره ، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً ، إذ سرعان ما يعودون إلى تقليد الآباء ، وظلمة الشهوات والشبهات ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَكادُ الْبَرقُ يَخْطَفُ أَبْصارهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشوا فِيهِ وَإذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ).
   إلى هنا تمّ التطبيق المركب لكن في مقاطع ثلاثة.
  ثمّ إنّه سبحانه أعقب التمثيل بقوله : ( وَلَو شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأَبْصارِهِم إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدير ) أي انّه سبحانه قادر أن يجعلهم صمّـاً وعمياًحتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تجدي هداية هادٍ.
  وذهاب سمعهم وأبصارهم نتيجة أعمالهم الطالحة التي توصد باب التوفيق

الأمثال في القرآن الكريم _ 85 _
  أمامهم فيصيرون صمّـاً وبكماً وعمياً.
  ثمّ إنّ الآيات القرآنية تفسر تلك الحالة النفسانية التي كانت تسود المنافقين في مهجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث كانوا في حيطة وحذر من أن تنزل عليهم سورة تكشف نواياهم ، كما يشير إليه قوله سبحانه : ( يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أَن تُنَزَّل عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُون ). (1)
  ومن جانب آخر يشاهدون تنامي قدرة الإسلام وتزايد شوكته على وجه يستطيع أن يقطع دابرهم من أديم الأرض ، يقول سبحانه : ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلاّ قَلِيلاً * مَلْعُونينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلاً ). (2)
  هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التمثيل الوارد في حق المنافقين ، ولكن المهمَّ تطبيق هذا التمثيل على منافقي عصرنا ، فدراسة حال المنافقين في عصرنا هذا من أهم وظيفة المفسّر ، فانّ حقيقة النفاق واحدة ، ترجع إلى إظهار الإيمان وإبطان الكفر لغاية الاِضرار بالاِسلام والمسلمين ، وهم يقيمون في خوف ورعب ، وفي الوقت نفسه صم بكم عمي فهم لا يرجعون.

--------------------
(1) التوبة : 64.
(2) الأحزاب : 60 ـ 61.

الأمثال في القرآن الكريم _ 86 _
سورة البقرة 3

  التمثيل الثالث
  قال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ وَأَمّا الّذينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إلاّ الْفاسِقِينَ * الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرضِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون ). (1)
  تفسير الآيات
  الحياء تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويُذمّ ، يقال : فلان يستحي أن يفعل كذا ، أي أنّ نفسه تنقبض عن فعله.
  فعلى هذا فالحياء من مقولة الانفعال ، فكيف يمكن نسبته إلى الله سبحانه مع أنّه لا يجوز عليه التغيّر والخوف والذم ؟
  الجواب : إنّ إسناد الحياء كإسناد الغضب والرضا إلى الله سبحانه ، فإنّها جميعاً تسند إلى الله سبحانه متجردة عن آثار المادة ، ويؤخذ بنتائجها ، وقد اشتهر قولهم : ( خذوا الغايات واتركوا المبادئ)فالحياء يصدُّ الإنسان عن إبراز ما يضمره

--------------------
(1) البقرة : 26 ـ 27.

الأمثال في القرآن الكريم _ 87 _
  من الكلام ، والله سبحانه ينفي النتيجة ، أي لا يمنعه شيء عن إبراز ما هو حق ، قال سبحانه : ( فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوَْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِ مِنَ الحَقّ ). (1)
  وأمّا ضرب المثل فقد مرّ الكلام فيه ، وقلنا : إنّ لاستخدام كلمة ( ضرب المثل)في التمثيل بالأمثال وجوهاً :
  منها : أنّ ضرب المثل في الكلام يذكر لحال ما يناسبها ، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفياً ، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم ، وهو حدوث أثر خاص فيها ، كأن ضرب المثل يقرع به أذن السامع
  قرعاً ينفذ أثره في قلبه ، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلاّ بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه. (2)
  البعوضة : حيوان حقير يشبه خرطومه خرطوم الفيل ، أجوف وله قوّة ماصة تسحب الدم ، وقد منح الله سبحانه هذا الحيوان قوة هضم ودفع كما منحه أُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته ،
  وتتمتع بحساسية فائقة ، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر ، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات، وقد اكتشف علماء الحيوان موَخراً انّ البعوضة قادرة على تشخيص
  فريستها من مسافة تقرب عن 65 كيلومتراً.
  قال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) في حقّها : ( كيف ولو اجتمع جميع حيوانها ، مناطيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلدة أُممها
  وأكياسها ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت

--------------------
(1) الأحزاب : 53.
(2) تفسير المراغى : 1 / 70.

الأمثال في القرآن الكريم _ 88 _
  كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيّـرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها ) . (1)
  يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير :
  ( إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين ، فأراد الله سبحانه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته ) . (2)
  إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآية ، وأمّا تفسير الآية برمّتها فقد نقل المفسرون في سبب نزولها وجـهين :
  الأوّل : أنّ الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين ، أعني قوله : ( مثلهم كمَثل الذي استوقد ناراً ) وقوله : ( أو كصيّب من السماء ) قال المنافقون : الله أعلى
  وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
  الثاني : أنّه سبحانه لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره ، فأنزل الله هذه الآية. (3)
  ولا يخفى ضعف الوجه الأوّل ، فإنّ المنافقين لم ينكروا ضرب المثل ، وإنّما أنكروا المثلين اللّذين مثّل بهما سبحانه حال المنافقين ، وعند ذلك لا يكون التمثيل بالبعوضة جواباً لردّ استنكارهم ، لأنّهم
  أنكروا المثلين اللّذين وردا

--------------------
(1) نهج البلاغة : الخطبة 186.
(2) مجمع البيان : 1 / 67.
(3) مجمع البيان : 1 / 67.

الأمثال في القرآن الكريم _ 89_
  في حقهما ، فلا يكون عدم استحيائه سبحانه من التمثيل بالبعوضة ردّاً على اعتراضهم.
  وأمّا الثاني ، فقد ورد ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في مكة المكرمة ، لأنّ الأوّل ورد في سورة الحج ، وهي سورة مكية ، والآخر ورد في سورة العنكبوت ، وهي أيضاً كذلك، وهذه الآية نزلت
  في المدينة ، فكيف تكون الآية النازلة في مهجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جواباً على اعتراض المشركين في موطنه ؟
  وعلى كلّ تقدير فالآية بصدد بيان أنّ الملاك في صحة التمثيل ليس ثقل ما مثّل به أو كبره ، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالإبل والفيل كمال ، وإنّما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة
  غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً. وبعبارة أخرى : إذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره بحقيرها ولما يراد التنفير بما اعتادت النفوس النفور منها ، فالملاك هو كون المثل مفيداً لما يريد المتكلم
  تحقيقه ، من غير فرق بين حقير الأشياء وكبيرها ، وهو سبحانه يشير إلى ذلك المعنى بقوله : ( إِنَّ الله لا يَسْتَحْيي أن يضربَ مثلاً ما بَعوضة ) ( بل ) فوقها في الصغر كالجراثيم التي لا
  ترى إلاّ بالمجهر ، كما تقول : فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه أي مما فوقه في القلة.
  ولو أُريد ما فوقه في الكثرة يقول مكانه ( فضلاً عن الدرهم والدرهمين ) فما في كلام بعض المستشرقين من أنّ الصحيح أن يقول ( فما دونه ) غير تام ، للفرق بين قوله : ( فما فوقه)وقوله ( فضلاً ) والأوّل بقرينة المقام بمعنى فما فوقه في الصغر
  والحقارة لا بمعنى ( فضلاً ).
  وربما تفسر الآية بأنّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها في

الأمثال في القرآن الكريم _ 90 _
  الكبر ، ولكن الأوّل هو الاَوفق لمقصود المتكلم. كما يقال عند لوم المتجرى : بأنّك تقترف جريمة لأجل دينار بل فوقه ، أي نصف دينار ، والمراد من الفوقية هو الفوقية في الحقارة.
  وقد أورد الزمخشري على نفسه سؤالاً ، وهو : كيف يضرب الله المثل لما دون البعوضة وهي في النهاية في الصغر ؟ ثمّ أجاب :
  إنّ جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات ، وقد ضربه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مثلاً للدنيا ، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها ربما رأيت في تضاعيف الكتب
  العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلاّ تحركها فإذا سكنت ، فالسكون يواريها ، ثمّ إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها ، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة ،
  وتفاصيل خلقتها ، ويبصر بصرها ، ويطلع على ضميرها ، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر سبحان الذي خلق الأزواج كلّها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون.
  وقال البيضاوي : لما كانت الآيات السابقة متضمنة لاَنواع من التمثيل عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في
  العظم والصغر ، والخسة والشرف ، دون الممثل ، فانّ التمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ، ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه
  ، فانّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأنّ من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل
  الحقير بالحقير كما يمثل العظيم

الأمثال في القرآن الكريم _ 91 _
  بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كلّ عظيم ، كما مثل في الإنجيل على الصدور بالنخالة ، والقلوب القاسية ، بالحصاة ، ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير ، وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأعز من مخ البعوض. (1)
  وربّما يتصور أنّ التمثيل بالاَشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء ، وعلى هذا فالقرآن المشتمل على النمل والذباب والعنكبوت والنحل لا يكون فصيحاً فضلاً عن كونه معجزاً.
  وأجاب عنه صدر المتألهين الشيرازي ( المتوفّى عام 1050 ه‍ ) بقوله : إنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها ، إذا شرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة ، والشرف والخساسة ، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال ، لأنّ الغرض الأصلي منه إيضاح المعنى المعقول ، وإزالة الخفاء عند إبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه ، فانّ العقل الإنساني مادام تعلقه بهذه القوى الحسيّة لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداً عن مزاحمة الوهم ومحاكاته ، لأنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.
  ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية ، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم ، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم ، وصحف الأوائل ومسفوراتهم ، تتميماً للتخيّل بالحس ، فهناك يضاعف في التمثيل ، حيث يمثل أوّلاً المعقول بالمتخيل ، ثمّ يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل. (2)
  ثمّ إنّه سبحانه يذكر أنّ الناس أمام الأمثال على قسمين :

--------------------
(1) تفسير البيضاوي : 1 / 43.
(2) تفسير القرآن الكريم : 2 / 192 ـ 193.

الأمثال في القرآن الكريم _ 92 _
  أ : المؤمنون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( فَأَمّا الّذين آمَنُوا فَيَعْلَمُون انّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ ) .
  ب : الكافرون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( وَأَمّا الّذين كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مثَلاً ) ، والظاهر أنّ قولهم ( أراد اللّهُ ) كان على سبيل الاستهزاء بادّعاء الرسول أنّ المثل وحي منزل من الله ، وإلاّ فانّ الكافرين والمنافقين كانوا ينكرون الوحي أصلاً.
  ولا غرو في أن يكون شيء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أخرى ، وما هذا إلاّ لأجل اختلاف القابليات ، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الإلهية سبب الهداية ، وأمّا الطائفة الأخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.
  ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله سبحانه : ( يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين ) من كلامه سبحانه ، ولا صلة له بكلام المنكرين ، بل تم كلامه بقوله : ( بها مثلاً ) وهو انّ الأمثال تؤثر في قوم دون قوم.
  ثمّ إنّه يعلّل إضلال غير المؤمنين بفسقهم ويقول : ( وَما يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفاسقين ) ، والفسق : عبارة عن خروج النواة من التمر ، وفي الاصطلاح : من خرج عن طاعة الله ، سواء أكان مسلما متجرياً أو كافراً فاسقاً.
  قد أطنب المفسرون الكلام في مفاد الجملة الاَخيرة أعني : ( يُضِلُّ به كثيراً وَيَهْدي بهِ كَثيراً ) فربما يتوهم أنّ الآية بصدد الإشارة إلى الجبر ، فحاولوا تفسير الآية بشكل يتلاءم مع الاختيار ، وقد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ المواعظ الشافية والكلمات الحِكَمية لها تأثير معاكس فيؤثر في القلوب المستعدة تأثيراً إيجابياً وفي العقول المنتكسة تأثيراً سلبياً.

الأمثال في القرآن الكريم _ 93
   هذا هو تفسير الآية.
  وربّما يحتمل أنّ الآية ليست بصدد بيان ضرب المثل بالبعوضة كضربه بالعنكبوت والذباب ، بل الآية خارجة عن نطاق ضرب المثل بالمعنى المصطلح ، وإنّما الآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية والجلالية ، والآية بصدد بيان أنّ الله سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والأرض ، أو صغيراً وحقيراً كالبعوضة والذباب ، فمعنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.
  ويدل على ذلك أنّه سبحانه استدل على جلاله وكماله بخلق السماوات والأرض وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الّذي جَعَلَ لَكُمُ الاََرضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) . (1)
  يلاحظ على تلك النظرية بأمرين :
  أوّلاً : لو كان المراد من ضرب المثل وصفه سبحانه بالقدرة العظيمة لكان اللازم أن يأتي بالآية بعد هاتين الآيتين مع أنّه فصل بينهما بآيات ثلاث تركّز على إعجاز القرآن والتحدّي به ، ثمّ التركيز على الجنة وثمارها كما هو معلوم لمن راجع المصحف الكريم.
  وثانياً : انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد جاء قوله : ( فَأَمّا الّذينَ آمنوا فيعلمون انّه الحق من ربّهم ) في سورة الرعد بعد تشبيه الحق والباطل بمثل

--------------------
(1) البقرة 21 ـ 22.

الأمثال في القرآن الكريم _ 94_
  رائع يأتي البحث عنه إن شاء الله ، قال سبحانه : ( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِها ... ) إلى أن قال : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ ) ثمّ قال : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ انّمَا أُنزل إِلَيكَ مِن ربِّكَ الحقُّ كَمَن هو أعمى إِنّما يَتَذَكّرُ أُولُوا الألباب * الّذين يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ولاَ يَنْقُضُونَ المِيثاقَ ). (1)
  تجد أنّ الآيات في سورتي البقرة والرعد كسبيكة واحدة يفسر بعضها البعض ، ففي سورة البقرة ذكر ضرب المثل بالبعوضة ، كما ضرب في سورة الرعد مثلاً للحق والباطل.
  ففي سورة البقرة قال سبحانه : ( وَأَمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم ).
  وفي سورة الرعد قال سبحانه : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنّ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبّكَ الحَقُّ كمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألباب ).
  وفي سورة البقرة قال : ( وَما يُضِلُّ بهِ إلاّ الفاسِقينَ ) ، وفسَّره بقوله : ( الّذين ينقضون عهد الله من بَعْدِ ميثاقِهِ ... ) الخ.
  وفي سورة الرعد ، فسّر أُولي الألباب بقوله : ( الّذينَ يُوفُونَ بعَهدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ المِيثاق ). (2)
  فبمقارنة هذه الآيات يعلم أنّ المراد من ضرب المثل هو المعنى المعروف أي التمثيل بالبعوضة لتحقير معبوداتهم أو ما يشبه ذلك.
  نعم ما نقلناه عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ربّما يؤيد ذلك الوجه كما مرّ ، فتدبّر.

--------------------
(1) الرعد : 17 ـ 20.
(2) الرعد : 20.

الأمثال في القرآن الكريم _ 95 _
سورة البقرة 4

  التمثيل الرابع
   ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَانَّ مِنَ الحِجارَة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُون ). (1)
  تفسير الآية
  جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل ، وقد كانوا يجادلون موسى ( عليه السلام ) بغية التملّص من ذبحها ، ولكن قاموا بذبحها وما كادوا يفعلون.
  وكان ذبح البقرة لأجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل ، فصاروا يتدارأون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة ، فرجعوا في أمرهم إلى موسى ( عليه السلام ) ، وشاء الله أن يظهر حقيقة الأمر بنحو معجز ، فقال لهم موسى ( عليه السلام ) : ( انّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، فلمّـا ذبحوها ـ بعد مجادلات طويلة ـ أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.
  قال سبحانه : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يحيي اللهُ المَوتى وَيُريكُمْ آياتِهِ

--------------------
(1) البقرة : 74.

الأمثال في القرآن الكريم _ 96 _
  لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ). (1)
  ومع رؤية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسى ( عليه السلام ) ، لكن ـ وللأسف ـ قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة ويقول :
  ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ).
  وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال : إنَّ قُلوبهُمْ ( كالحِجارَة أَوْ أَشَدّ قَسوَة ) أي : بل أشدّ قسوة ، فكلمة (أو )موضوعة مكان بل.
  ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة ، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية ، أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى سائر الأعضاء ، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية ، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو ، لأنّه مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية ، وأوّل عضو يتأثر بالاَُمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع ، فلامنافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة ، ومع ذلك يصحّ نسبة الإدراك إلى القلب.
  ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّ قسوة من الحجارة ، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة :
  الأوّل : ( وَانّ مِنَ الحِجارة لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه الاََنْهار ).
  الثاني : ( وَانَّ مِنْها لما يَشَّقّق فيَخرج مِنْهُ الماء ).

--------------------
(1) البقرة : 73.

الأمثال في القرآن الكريم _97 _
   الثالث : ( وَإنّ مِنْها لما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ).
  أمّا الأوّل : أي تفجّر الأنهار من الحجارة ، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.
  وأمّا الثاني : كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الأنهار.
  وأمّا الثالث : كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الأودية المنخفضة من خشية الله.
  ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي ، وهي الهبوط من خشية الله.
  وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر ، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله ، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لأمره ونهيه.
  ومن عجيب الأمر أنّ بني إسرائيل رأوا باُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه ، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر ، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الاَسباط.
  ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية الله ، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الإنسان بأدواته الحسية.
  يقول صدر المتألهين : إنّ الكون بجميع أجزائه يسّبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور ، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

الأمثال في القرآن الكريم _98_
  وعلى هذا الشعور تسّبح الموجودات كلّها ، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزّهه عن كلّ نقص وعيب.
  ثمّ يقول : إنّ العلم والشعور والإدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود ، ابتداء من (واجب الوجود )إلى النباتات والجمادات ، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة ، و ... و ... ولا يخلو موجود من ذلك أبداً ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا ـ بعض الأحيان ـ لضعفها وضآلتها.
  على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية ، واقتربت إلى التجرد ، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً ، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية ، وتعمّقت فيها ، ضعفت فيها هذه الصفات ، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة ، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك ، ولكنّها ليست كذلك ـ كما نتوهم ـ إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف ، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة . (1)
  وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها ، بل هناك آيات تؤكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرّة.
  يقول سبحانه : ( تُسَبّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ). (2)
  وبما أنّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمّته في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ، فلنقتصر على ذلك ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.

--------------------
(1) الأسفار : 1\118 و 6\139 ، 140.
(2) الإسراء : 44.

الأمثال في القرآن الكريم _99_
سورة البقرة 5

  التمثيل الخامس
  ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِداءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ). (1)
  تفسير الآية
  النعيق : صوت الراعي لغنمه زجراً ، يقال : نعق الراعي بالغنم ، ينعق نعيقاً ، إذا صاح بها زجراً.
  والنداء : مصدر نادى ينادي مناداة ، وهو أخص من الدعاء ، ففيه الجهر بالصوت ونحوه ، بخلاف الدعاء.
  وفي تفسير الآية وجوه :
  الأوّل : انّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم ، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلاّ إذا كان الناعق أصم ، ويكون معنى الآية : انّ الذين كفروا الذين لا يتفكرون في الدعوة الإلهية ، كمثل الأصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولاً إلاّ دعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى.
  وجه التشبيه : انّ الناعق أصم كما أنّ هؤلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.

--------------------
(1) البقرة : 171.

الأمثال في القرآن الكريم _100 _
   وفي هذا المعنى المشبه هو الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلاّ صوتاً ودعوة فارغة من المعنى.
  والمشبه به : هو الناعق الأصم الذي ينعق بالغنم ، ولكن لا يسمع من نعاقه إلاّ دعاءً ونداءً.
  وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية ، ولكنّه بعيد من حيث المعنى ، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك ، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلاّ صوتاً ونداءً ؟
  الثاني : انّ المشبه هو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والمشبه به هو الناعق للغنم ، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلاّ دعاءً ونداءً ما ، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير ان تعقل شيئاً ، فهم ـ الكافرون ـ صمّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم ، وبكم لا يتكلمون بما ينفع ، وعمي لا يبصرون ، فهم لا يعقلون شيئاً ، لأنّ الطرق المؤدية إلى التعقل موصدة عليهم.
  ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أخرى يعود إليه ، فانّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى ، إلاّ انّ الأوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده ، وهي قوله : ( صمّ بكمٌ عميٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون ) ، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب. (1)

--------------------
(1) الميزان : 1 / 420.