اعتاد شيعة آل البيت وكما قلنا كتابة أقوال أئمّتهم في كتب ، حتّى عُدُّوا بعملهم هذا من أوائل المدوّنين في الفقه الاِسلاميّ ، قال الاَُستاذ مصطفى عبدالرزاق عند ذكره من دون الفقه : ... وعلى كلّ حال فإنّ ذلك لايخلو من دلالة على أنّ النزوح إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة ، لاَنّ اعتقادهم العصمة في أئمّتهم ، أو ما يشبه العصمة كان حريّاً أن يسوقهم إلى الحثّ على تدوين أقضيتهم ، وفتاواهم (1).
والاَمر كما قاله الاَُستاذ وخصوصاً على عهد الاِمامين الباقر والصادق ، أي بعد انتهاء الحكم الاَمويّ وابتداء الحكم العبّاسيّ الذي روّج أو ادّعى سياسة الانفتاح في أوّليّات سنينه ، وبتعبير آخر: في فترة الشيخوخة الاَمويّة والطفولة العبّاسيّة.
فالاِمامان قد استفادوا من هذه الفرصة خصوصاً لمّا رأوا إقبال قبائل بني أسد ، ومخارق ، وطيّ وسليم ، وغطفان ، وغفار ، والاَزد ، وخزاعة ، وخثعم ، ومخزوم ، وبني ضبّة ، وبني الحارث ، وبني عبد المطّلب عليهم وإرسال فلذّات أكبادها إليهم للتعليم (2).
وقد عدّ المزّيّ في ترجمة الاِمام الصادق من تهذيب الكمال: سفيانبن عيينة ومالكبن أنس وسفيان الثوري والنعمان بن ثابت ـ أبو حنيفة ـ وسليمانبن بلال ، وشعبة بن الحجّاج وعبد الله بن ميمون ، وعبدالملكبن عبدالعزيزبن جريح ، وآخرون (3)ممّن أخذ عن الصادق.
------------------
(1) الاِمام الصادق والمذاهب الاَربعة 3: 497 عن تمهيد لتاريخ الفلسفة الاِسلاميّ :252.
(2) انظر جعفر بن محمّد ، سيّد الاَهل.
(3) انظر تهذيب الكمال 5: 75 ـ 76.
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 444 _
ونقل عن أبي العبّاس بن عقدة بسنده إلى الحسن بن زياد قوله : سمعت أبا حنيفة وسئل عن أفقه مَن رأيت ؟ فقال : ما رأيت أحداً أفقه من جعفربن محمّد ، لمّا أقدمه المنصور الحيرة ، بعث إلَيَّ فقال : يا أبا حنيفة! إنّ الناس قد فتنوا بجعفر فهيىَ له مسائلك ، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه ، فلمّا بَصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لاَبي جعفر فسلّمت ، وإذَن لي ... (1)الخبر.
وقال الشيخ محمّد أبو زهرة في مقدّمة كتابه الاِمام الصادق ـ الذي ألّفه بعد كتب سبعة أُلّفت عن أئمّة المسلمين ، وهم أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعيّ ، وابن حنبل ، وابن تيميّة ، وابن حزم ، وزيد ـ قال : أمّا بعد فإنّنا قد اعتزمنا بعون الله وتوفيقه أن نكتب في الاِمام الصادق ، وقد كتبنا عن سبعة من الاَئمّة الكرام ، وما أخّرنا الكتابة عنه (أي الاِمام الصادق) لاَنّه دُونَ أحدهم ، بل إنّ له فضل السبق على أكثرهم ، وله على الاَكابر منهم فضل خاصّ ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه ويراه أعلم الناس باختلاف الناس (2) ، وأوسع الفقهاء إحاطة ، وكان الاِمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً ، ومن كان له فضل الاَُستاذيّة على أبي حنيفة ومالك فحسب ذلك فضلاً ، ولا يمكن أن يؤخّر عن نقص ، ولايقدّم غيره عليه عن فضل ، وهو فوق هذا حفيذ زين العابدين الذي كان سيّد أهل المدينة في عصره ، فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً ، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزهريّ وكثيرون من التابعين ، وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه ، فهو ممّن جمع الله تعالى له الشرف الذاتيّ ، والشرف الاِضافيّ بكريم النسب ، والقرابة الهاشميّة ، والعزّة المحمّديّة... (3).
وفي حلية الاَولياء: لقد أخذ عن الصادق جماعة من التابعين ، منهم يحيىبن سعيد الاَنصاريّ ، وأيّوب السختيانيّ ، وأبو عمرو بن العلا ، ويزيدبن
------------------
(1) تهذيب الكمال 5: 79 ولتفصيل هذا الخبر راجع (وضوء النبيّ: 349 ـ 352).
(2) وللشيخ أبي زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الاِسلاميّة: 693 تعليقة على مطارحة أبي حنيفة مع الصادق فراجع.
(3) الاِمام الصادق : 2 ـ 3.
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 445 _
عبدالله المعاديّ ، وشعبة بن القاسم ، ومالك بن أنس ، وسفيانبن عيينة وغيرهم ...
بلى ، إنّ الاَحاديث المتلقاة من أئمّة أهل البيت من قبل أصحابة قد دوّنت في صحف ، وكان سهم الاِمامين الصادق والباقر هو الاَكبر ، وقد أُطلق على هذه المجاميع تارة اسم (نسخة) وأُخرى (كتاب) وثالثاً (أصل) ورابعاً (رسالة) وغيرها.
روى السيّد رضي الدين عليّ بن طاووس في مهج الدعوات ، بإسناده عن أبي الوضّاح محمّد بن عبد الله بن زيد النهشليّ ، عن أبيه أنّه قال: كان جماعة من أصحاب أبي الحسن (الكاظم) من أهل بيعته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال ، فإذا نطق أبو الحسن بكلمة أو أفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوه منه في ذلك (1).
وقال الشيخ البهائيّ في مشرق الشمسين: قد بلغنا عن مشايخنا (قدس سرّهم) أنّه كان في دأب أصحاب الاَُصول أنّهم إذا سمعوا عن أحد من الاَئمّة حديثاً بادروا إلى إثباته في أُصولهم لئلاّ يعرض لهم نسيان لبعضه أو كلّه بتمادي الاَيّام (2).
وقال المحقّق الداماد في الراشحة التاسعة والعشرين من رواشحه : يقال قد كان من دأب أصحاب الاَُصول أنّهم إذا سمعوا من أحدهم (ع) حديثاً بادروا إلى ضبطه في أُصولهم من غير تأخير (3).
قال الاَُستاذ عبد الحليم الجنديّ:
كان أوّل المستفيدين بالتدوين الباكر أُولئك الذين يلوذون بالاَئمّة من أهل البيت فيتعلّمون شفاهاً أو تحريراً ، أي من فم لفم أو بالكتابة ، فما تناقلته كتب الشيعة من الحديث ، هو التراث النبويّ ـ في صميمه ـ بلغ الشيعة في
يسر طوع لعلمهم الازدهار ، في حين لم يجمع أهل السنّة هذا التراث إلاّ بعد أن انكبّ عليه علماؤهم قرناً ونصف قرن حتّى حصلوا ما دوّنوه في المدوّنات الاَُولى ، ثمّ ظلّوا قروناً أُخرى ، يجوبون الفيافي والقفار في كلّ الاَماصر ... إلى أن يقول : وإذا لاحظنا أنّ من الرواة من قيل إنّه روى عشرات الآلاف من الحديث عن الاِمام ، تجلّت كفاية التراث الموثوق به عند الشيعة لحاجات الاَُمّة.
وإذا لاحظنا توثيق الشافعيّ ومالك وأبي حنيفة ويحيىبن معين وأبي حاتم والذهبيّ للاِمام الصادق ـ وهم واضعوا شروط المحدّثين وقواعد قبول الرواية وصحّة السند ـ فمن الحقّ التقرير بأنّ حسبنا أن نقتصر على التفتيش عن رواة السنّة عن الاِمام الصادق.
والشيعة يكفيهم أن يصلوا بالحديث إلى الامام ، لا يطلبون إسناداً قبل الاِمام جعفر ، بل لا يطلبون إسناداً قبل الاَئمّة عموماً ، لاَنّ الاِمام بين أن يكون يروي عن الاِمام الذي أوصى له ، وبين أن يكون قرأ الحديث في كتب آبائه ، إلى ذلك ، فإنّ ما يقوله سنّة عندهم ، فهو ممحّص من كلّ وجه ، فليست روايته للحديث مجرّد شهادة به ، بل هي إعلان لصحّته.
وإذا كان ما رواه الصادق ، رواية الباقر ، ورواية السجّاد عن الحسين من الحسين أو عن عليّ عن النبيّ ، فهذا يصحّح الحديث على كلّ منهج ، فالثلاثة الاَخيرون من الصحابة المقدّمين ، يروون عن صاحب الرسالة ، إذ يروي الحسن والحسين عن عليّ عنه (ص).
ولامرية كان منهج عليّ ومن تابعه في التدوين خيراً كبيراً للمسلمين ، منع المساوىَ المنسوبة إلى بعض
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 447 _
الروايات ، وأقفل الباب دون افتراء الزنادقة والوضّاعين ، فالسبق في التدوين فضيلة الشيعة ، ولمّا أجمع العلماء بعد زمان طويل على الالتجاء إليه كانوا يسلّمون بهذه الفضيلة بالاِجماع لعليّ وبنيه ، والسنّة شارحة للكتاب العزيز ، وهو مكتوب بإملاء صاحب الرسالة فهي كمثله حقيقة بالكتابة .
إنّما كان المحدّثون من أهل السنّة في القرون الاَُولى مضطرّين لسماع لفظ الحديث من الاَشياخ ، أو عرضه عليهم ، لاَنّ السنن لم تكن مدّونة فكانت الرحلة إلى أقطار العلم لتلقّي الحديث على العلماء ، وسيلتهم الاَكيدة (1).
وقال الشيخ المفيد في الاِرشاد: إنّ أصحاب الحديث قد جمعوا الرواة عن الصادق من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل من أصحابه (2).
قال الشيخ الطبرسيّ في إعلام الورى: ولم ينقل عن أحد من سائر العلوم ما نقل عنه ، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات فكانوا أربعة آلاف رجل (3).
وقال في القسم الثالث: وروى عن الصادق من أهل العلم أربعة آلاف إنسان ، وصنّف في جواباته في المسائل أربعمائة كتاب تسمّى الاَُصول رواها أصحابه وأصحاب ابنه موسى الكاظم (4).
وقال الشيخ محمّد بن عليّ الفتّال: وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف (5).
قال ابن شهرآشوب في المناقب: نقل عن الصادق من العلوم ما لاينقل
------------------
(1) الاِمام جعفر الصادق لعبد الحليم الجنديّ: 203 ـ 204.
(2) الاِرشاد 2 : 179 وعنه في معالم العلماء لابن شهر آشوب 4 : 247 .
(3) إعلام الورى : 284 .
(4) إعلام الورى : 410 .
(5) روضة الواعظين : 207 .
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 448 _
عن أحد وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الثقات على اختلافهم في الآراء فكانوا أربعة آلاف (1).
وقال المحقّق الحلّيّ في المعتبر: فإنّه انتشر عنه من العلوم الجمّة ما بهر به العقول وروى عنه جماعة من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل ، وكتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لاَربعمائة مصنِّف سمُّوها أُصولاً (2).
وقال الشهيد في الذكرى: إنّ أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق كتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لاَربعمائة مصنِّف ودون من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والشام والحجاز وخراسان (3).
وقال الشيخ حسين والد العلاّمة البهائيّ: ودون العامّة والخاصّة ممّن تبرّز بعلمه من العلماء والفقهاء أربعة آلاف.
وعنه في درايته : قد كتب من أجوبة مسائل الاِمام الصادق فقط ، أربعمائة مصنَّف لاَربعمائة مصنِّف ، تسمّى الاَُصول في أنواع العلوم (4).
وقال المحقّق الداماد في الراشحة التاسعة والعشرين: والمشهور أنّ الاَُصول الاَربعمائة مصنَّف لاَربعمائة مصنِّف من رجال أبي عبد الله الصادق ، بل وفي مجالس السماع والرواية عنه ، ورجاله زهاء أربعة آلاف رجل ، وكتبهم ومصنّفاتهم كثيرة إلاّ أنّ ما استقرّ الاَمر على اعتبارها والتعويل عليها وتسميتها بالاَُصول هذه الاَربعمائة (5).
وقال الشهيد الثاني في شرح الدراية: استقرّ أمر المتقدّمين على أربعمائة مصنَّف لاَبعمائة مصنِّف سمّوها أُصولاً ، فكان اعتمادهم عليها ، ثمّ تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الاَُصول ، وألحقها جماعة في كتب خاصّة ، تقريباً على المتناول ، وأحسن ما جمع منها (الكافي) و(التهذيب) و (الاستبصار)
و (من لايحضره الفقيه) .
وقد جاءت أسماء بعض أصحاب هذه المدوّنات في كتاب الرجال لعبداللهبن جبلة الكنانيّ المتوفّى سنة 219 و (مشيخة) الحسنبن محبوب المتوفّى سنة 224 ، و (الرجال) للحسن بن فضّال المتوفّى 224 ، و (الرجال) لولده عليّبن الحسن و (الرجال) لمحمّد بن خالد البرقيّ و (الرجال) لولده أحمدبن محمّد بن خالد الذي توفّي سنة 274 و (الرجال) لاَحمد العقيقيّ المتوفّى 280 وغيرهم.
قال الشيخ الطوسيّ في مقدّمة الفهرست (... وانّي لا أضمن الاستيفاء ، لاَنّ تصانيف أصحابنا وأُصولهم تكاد لا تنضبط لكثرة انتشار أصحابنا في البلدان) .
ونقل السيّد الاَمين في أعيان الشيعة عن الحافظ أحمد بن عقدة الزيديّ الكوفيّ أنّه أفرد كتاباً فيمن روى عنه ، جمع فيه أربعة آلاف رجل وذكر مصنّفاتهم ، ولم يذكر جميع من روى عنه .
فهذه المزايا هي التي دعت الشيعة أن تهتمّ بأُصولها قراءة ورواية وحفظاً وتصحيحاً ، لاَنّ فقهها وحديثها قد استقي منها .
قال محمّد بن عليّ بن بابويه في مقدّمة كتاب (من لا يحضره الفقيه): (... ولم أقصد فيه قصد المصنّفين إلى إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به ، وأحكم بصحّته ، وأعتقد أنّه حجّة بيني وبين ربّي عزّ وجلّ.
وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة ، عليها المعوّل ، وإليها المرجع ، مثل : كتاب حريز بن عبد الله السجستانيّ ، وكتاب عبيدالله بن عليّ الحلبيّ ، وكتب عليّ بن مهزيار الاَهوازيّ ، وكتب الحسين بن سعيد ، ونوادر أحمدبن محمّدبن عيسى ، وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله ، وجامع شيخنا محمّدبن الحسن بن الوليد ، ونوادر محمّد بن أبي عمير ، وكتاب المحاسن لاَحمدبن أبي عبد الله البرقيّ ، ورسالة أبي إليّ ، وغيرها من الاَُصول والمصنّفات ، التي طرقي إليها معروفة في فهرست الكتب التي رويتها عن مشايخي وأسلافي وبالغت في ذلك جهدي ، مستعيناً بالله ومتوكّلاً عليه ، ومستغفراً من التقصير (1).
وقال المحقّق الحلّيّ في المعتبر:
روى عن الصادق (ع) من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل ، وبرز بتعليمه من الفقهاء الاَفاضل جمّ غفير ، كزرارة بن أعين وإخوته: ـ بكير ، وحمران ـ وجميلبن صالح ، وجميل بن درّاج ، ومحمّد بن مسلم ، وبريدبن معاوية ، والهشامين ، وأبي بصير ، وعبد الله ، ومحمّد وعمران الحلبيَّين ، وعبدالله بن سنان ، وأبي الصباح الكنانيّ ، وغيرهم من الفضلاء ، حتّى كُتبت من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لاَربعمائة مُصنِّف ، سمّوها أُصولاً.
ثمّ قال : كان من تلامذة الجواد (ع) فضلاء ، كالحسين بن سعيد وأخيه ،
------------------
(1) من لا يحضره الفقيه 1: 2 ـ 5.
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 452 _
وأحمدبن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ ، وأحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ ، وشاذان أبي الفضل القمّيّ ، وأيّوب بن نوح بن درّاج ، وأحمدبن محمّدبن عيسى ، وغيرهم ممّن يطول تعدادهم ، وكتبهم الآن منقولة بين الاَصحاب ، دالّة على العلم الغزير.
ثمّ قال : اجتزأت بإيراد كلام من اشتهر علمه وفضله ، وعُرف تقدّمه في نقد الاَخبار ، وصحّة الاختبار ، وجودة الاعتبار.
واقتصرت من كتب هؤلاء الاَفاضل على ما بان فيه اجتهادهم وعرف به اهتمامهم وعليه اعتمادهم فممّن اخترت نقله : الحسن بن محبوب ، وأحمدبن محمّدبن أبينصر ، والحسين بن سعيد ، والفضل بن شاذان ، ويونسبن عبدالرحمن ، ومن المتأخّرين: أبو جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه ، ومحمّدبن يعقوب الكلينيّ... (1) قال ابن إدريس الحلّيّ في مستطرفات السرائر ، باب الزيادات ، فيما انتزعه واستطرفه من كتب المشيخة المصنّفين والرواة المحصّلين... ـ إلى أن يقول ـ:
ومن ذلك : ما استطرفناه من كتاب نوادر أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ ، صاحب الرضا (ع).
ومن ذلك : ما أورده أبان بن تغلب ، صاحب الباقر والصادق (ع) في كتابه .
ومن ذلك : ما استطرفناه من كتاب جميل بن درّاج.
ومن ذلك : ما استطرفناه من كتاب السياريّ ، واسمه أبو عبد الله ، صاحب موسى الرضا (ع).
ومن ذلك : ما استطرفناه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا عليبن محمّد ، الهاديّ (ع) والاَجوبة عن ذلك.
ومن ذلك : ما استطرفناه ، من كتاب المشيخة ، تصنيف الحسنبن
------------------
(1) المعتبر 1 : 7 .
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 453 _
محبوب السرّاد صاحب الرضا (ع) ، وهو ثقة عند أصحابنا ، جليل القدر ، كثير الرواية ، أحدُ الاَركان الاَربعة في عصره ، وكتاب المشيخة كتابٌ معتمدٌ.
ومن ذلك : ما استطرفناه ، من كتاب نوادر المصنّف ، تصنيف محمّدبن عليّبن محبوب.
وكان هذا الكتاب بخطّ شيخنا أبي جعفر ، الطوسيّ ، فنقلت هذه الاَحاديث من خطّه.
ومن ذلك : ما استطرفناه ، من كتاب (من لا يحضره الفقيه) ، لابن بابويه .
ومن ذلك : ما استطرفناه ، من كتاب (قُرب الاِسْناد) تصنيف محمّدبن عبدالله بن جعفر الحميريّ.
وما استطرفناه ، من كتاب جعفر بن محمّد بن سنان الدهقان.
ومن ذلك : ما استطرفناه ، من كتاب (تهذيب الاَحكام).
ومن ذلك : ما استطرفناه ، من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين.
ومن ذلك : ما استطرفناه ، من كتاب أبي القاسم ابن قولويه.
وممّا استطرفناه ، من كتاب (أنْس العالم) ، تصنيف الصفوانيّ.
وممّا استطرفناه ، من كتاب (المحاسن) ، تصنيف أحمد بن أبي عبدالله؛ البرقيّ.
ومن ذلك : ما استطرفناه من كتاب (العيون والمحاسن) تصنيف المُفيد. انتهى (1).
قال الشيخ البهائيّ في (الوجيزة):
(جميع أحادينا ـ إلاّ ما ندرـ ينتهي إلى أئمّتنا الاثني عشر (ع) ، وهم ينتهون فيها إلى النبيّ (ص) ، فإنّ علومهم مقتبسة من قلب المشكاة ، وما تضمّنته كتب الخاصّة من الاَحاديث المرويّة من أئمّتهم ، تزيد على ما في الصحاح الستّة للعامّة بكثير ، كما يظهر لمن تتبّع كتب الفريقين.
------------------
(1) السرائر (ص 471 ـ 493) ، وقد طبع باسم (مستطرفات السرائر).
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 454 _
وقد روى راوٍ واحد ـ وهو أبان بن تغلب ـ عن إمام واحدٍ ـ أعني الصادق ـ ثلاثين ألف حديث.
وقد كان جَمَعَ قدماء محدّثينا ما وصل إليهم من كلام أئمّتنا (ع) في أربعمائة كتاب فسمّي (الاَُصول).
ثمّ تصدّى جماعة من المتأخّرين شكر الله سعيهم لجمع تلك الكتب وترتيبها ، تقليلاً للانتشار ، وتسهيلاً على طالبي تلك الاَخبار ، فألّفوا كتباً مضبوطة ، مهذّبة مشتملة على الاَسانيد المتّصلة بأصحاب العصمة (ع) كالكافي ومن لايحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار ومدينة العلم والخصال والاَمالي وعيون الاَخبار وغيرها (1).
وقد صرّح الشيخ حسن في المنتقى والمعالم بأنّ أحاديث الكتب الاَربعة وأمثالها محفوفة بالقرائن وأنّها منقولة من الاَُصول والكتب المجمع عليها بغير تغيير (2).
قال الكفعميّ في الجنّة الواقية:
(هذا كتاب محتوٍ على عوذ ، ودعوات ، وتسابيح ، وزيارات ... إلى أن يقول: مأخوذة من كتب معتمد على صحّتها مأمون بالتمسّك بوثقى عروتها (3).
وقد شهد عليّ بن إبراهيم القمّيّ بثبوت أحاديث تفسيره وأنّها مرويّة عن الثقات عن الاَئمّة (4).
وذكر السيّد رضي الدين ابن طاووس في كتبه ما يدلّ على أنّ أكثر الكتب المذكورة وغيرها من أمثالها من أُصول أصحاب الاَئمّة كانت عنده ونقل منها شيئاً كثيراً (5) ، وكذا الشهيد في الذكرى والكفعميّ في المصباح قد صرّحا بأنّ
------------------
(1) الوجيزة: 6 ـ 7 وعنه في خاتمة الوسائل 30 : 200 وله كلام في مشرق الشمسين: 269 ـ 270 فراجع.
(2) منتقى الجمّان 1: 27.
(3) الجنّة الواقية: 3 ـ 4.
(4) تفسير القمّيّ 1 : 4 ، كما في خاتمة الوسائل 30: 202.
(5) انظر خاتمة الوسائل 30 : 213 .
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 455 _
كثيراً من أُصول القدماء وكتبهم كانت موجودة ، عندهم (1).
حتّى وصل الاَمر بالشيخ الحرّ العامليّ أن يقول في الفائدة الرابعة من خاتمة كتابه (وسائل الشيعة) وهو بصدد عدّ مصادر الكتاب: ... وغير ذلك ، وأمّا ما نقلوا منه ولم يصرّحوا باسمه ، فكثير جدّاً ، مذكور في كتب الرجال ، يزيد على ستّة آلاف وستمائة كتاب على ما ضبطناه (2).
وعلى كلّ حال فقد نبغ جماعة من تلامذة الاَئمّة وخصوصاً في زمن الصادقين في شتّى العلوم ودوّنوا ما تلقّوه عنهم في كتب وقد أشار علماء الرجال والتراجم إلى مصنّفاتهم كابن النديم والكشّيّ والنجاشيّ وغيرهم.
فألّف هشام بن الحكم كتاباً في الاَلفاظ ، والردّ على الزنادقة ، وفي التوحيد ، والاِمامة والجبر والقدر ، والردّ على الثنويّة والردّ على أرسطاطاليس وغيره من فلاسفة اليونان ورسائل كثيرة في الفقه والاَُصول.
وألّف زرارة بن أعين كتاباً في الاستطاعة والجبر وغيرها.
ومحمّد بن عمر في التوحيد والاِمامة والفقه.
ويعقوب بن إسحاق السكِّيت في إصلاح المنطق وكتاب في الاَلفاظ والاَضداد ، والاَلفاظ المشتركة بين معان متعدّدة.
وألّف محمّد بن النعمان البجليّ ـ مؤمن الطاق ـ كتباً في الاِمامة والمعرفة ، وإثبات الوصيّة ، والاَوامر والنواهي ، المناظرات وغيرها.
وغيرهم من أصحاب الاَئمّة غيرها فإنّ مؤلّفات هؤلاء تعدّ بالمئات إن لمنقل بالاَُلوف وقد أخذ المحمّدون الثلاثة ـ الكلينيّ والصدوق والطوسيّ ـ كتبهم الاَربعة منها وإن كان لكلّ واحد من الاَخيرين كتب أُخرى في التفسير والتاريخ والحديث و ...
وقد كان جلّ الرواة عن الاَئمّة في غاية العدالة والوثاقة ، وموضع احترام جميع المسلمين بشتّى طوائفهم ، حتّى أنَّ أصحاب الصحاح الستّة خرَّجوا
------------------
(1) انظر خاتمة الوسائل 30 : 213 أيضاً .
(2) وسائل الشيعة 30: 165 الخاتمة.
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 456 _
لكثير منهم في كتبهم ، ونصّ الرجاليّون أو بعضهم على وثاقتهم ومكانتهم العلميّة ، مع قولهم (فيه تشيّع شنيع) و(صدوق ولكنّ مذهبه مذهب الشيعة) أو (شيعيّ المذهب) أو ما يشاكلها من العبارات (1).
فقد ذكر محمّد بن يعقوب الكلينيّ ـ صاحب الكافي ـ غالبَ أصحاب التراجم ، وأمّا جامعو تلك الروايات ومدوّنوها فهم أيضاً من الجلالة بمكان كابن ماكولا (2) ، وابن الاَثير (3) ، والصفديّ (4) ، وابن حجر (5) ، وغيرهم من المحدثين واللغويين كالفيروزآبادي (6)والزبيدي (7)و... في كتبهم.
وادّعى الاَُستاذ ثامر العميديّ عدم وجود جرح واحد من الاَعلام في الكلينيّ بقوله:
لم أقف على عالم من علماء الرجال من أهل السنّة قد مسّ الكلينيّ بجرح قطّ لا مفسّراً ولا غير مفسّر ـ ، أقول: لميتعرّض أحدهم إليه بسوء قطّ مع ما عرفت عنهم مع الاَسف من تجريح رجال الشيعة لمجرّد تشيّعهم ، وهذه حقيقة لاينكرها أحد من الباحثين ، وهذا يدلّ على اتّفاقهم على أن لثقة الاِسلام الكلينيّ مكانة بين علماء الاِسلام لايمسّها أحد بسوء إلاّ كذب وافتضح أمره بين العلماء (8).
بل عدّه ابن الاَثير من المجدّدين الاِماميّة على رأس المائة الثالثة (9).
------------------
(1) وقد ذكر السيّد عبد الحسين شرف الدين في المراجعات أسماء أكثر من مائة منهم ، فراجع.
(2) الاِكمال 4: 575.
(3) الكامل 8: 364.
(4) الوافي بالوفيّات 5: 226.
(5) لسان الميزان 5: 433.
(6) القاموس المحيط 4: 363.
(7) تاج العروس 9: 322.
(8) دفاع عن الكافي 1: 38.
(9) جامع الاَُصول 12: 220.
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 457 _
أمّا محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ ـ صاحب من لايحضره الفقيه ـ فهو صاحب التصانيف الكثيرة ، يضرب بحفظه المثل (1) ، وهو من أُسرة علميّة جليلة القدر في الفضل ، قال ابن أبي طيّ عن بيتهم : بيت العلم والجلالة (2) ، كان أبوه من كبار علماء الشيعة ومصنّفيهم (3) ، جليل القدر ، حافظ للاَحاديث بصير بالرجال ، ناقد للاَخبار ، لم ير في القمّيّين مثله في حفظه وكثرة علمه له نحو من ثلاثمائة مصنّف (4) ، وهو الذي أمات فتنة الحسينبن منصور الحلاّج بقم (5)سمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث (6)وروى عنه جمع منهم الشيخ المفيد (7).
والشيخ المفيد هو تلميذ الصدوق وأُستاذ الطوسيّ (لقِّب بابن المعلِّم ، صاحب التصانيف البديعة ، وهي مائتا مصنَّف) (8) ، (انتهت إليه رئاسة أصحابه من الشيعة الاِماميّة والكلام ، والآثار في صناعة الكلام على مذاهب الصحابة ، دقيق الفطنة ، ماضي الخاطر) (9)(كان لابن المعلِّم مجلس نظر بداره بدرب رباح يحضره كافّة العلماء) (10)(ويناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهيّة) (11).
(كان صاحب فنون وبحوث وكلام ، واعتزال ، وأدب ، ذكره ابن أبي طيّ في (تاريخ الاِماميّة) فأطنب وأسهب ، وقال: كان أوحد في جميع فنون العلم:
الاَصلين ، والفقه ، والاَخبار ، ومعرفة الرجال والتفسير ، والنحو ، والشعر ، وكان قويّ النفس ، كثير البرّ ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، يلبس الخشن من الثياب...) (1)
أمّا الشيخ محمّد بن الحسن الطوسيّ فهو شيخ الطائفة في زمانه صاحب التصانيف ، له كتابين عُدَّا من الكتب الاَربعة عند الشيعة الاِماميّة.
(1) تهذيب الاَحكام ، (2) الاستبصار فيما اختلف من الاَخبار (أخذ الكلام وأُصول القوم عن الشيخ المفيد رأس الاِماميّة ، ولزمه وبرع ، وعمل التفسير ، وأملى أحاديث ونوادر في مجلّدين ، عامّتها عن شيخه المفيد) (2).
وعدّ السبكيّ (3)والسيوطيّ (4)والكاتب الچلبيّ في كشف الظنون الشيخ الطوسيّ من الشافعيّة ويحتمل أن يكون قد التبس عليهم عرضة لاَقوال أهل السنّة والجماعة في الفقه والتفسير.
قال الشيخ محمّد أبو زهرة ـ في كتابه الاِمام الصادق ـ عن الشيخ الطوسيّ: كان عالماً على المنهاجين الاِماميّ والسنّيّ.
وقال الاَُستاذ عبد الحليم الجنديّ: الطوسيّ حجّة في المذهب الاِماميّ وفي مذاهب أهل السنّة (5).
كان هذا مجمل الحديث عن حياة أصحاب الكتب الاَربعة ، وتراهم ينقلون مرويّاتهم عن الاَُصول الاَربعمائة ، وأُولئك قد دوّنوا أُصولهم عن أئمّة أهل البيت ، والاَئمّة نقلوا الاَخبار عن كتاب عليّ وكتاب عليّ هو إملاء رسول الله ونهج عليّ ،
إذاً نهج التدوين والتحديث مترابط عند الشيعة لا خدش فيه وهذا ما يؤكّد أصالته.
وممّا يجب الاِشارة إليه هو:
أنّ الاَُصول الاَربعمائة لم تكن جامعة لكلّ ما تحدّث به الاَئمّة في الفقه وغيره من المواضيع المختلفة ، بل بقي قسم منها في صدور الحفّاظ من الرواة لاَحاديث أهل البيت ، كما أنّ الكتب الاَربعة التي ألّفها المحمّدون الثلاثة لمتستوعب جميع الاَحاديث التي رواها أصحاب الاَئمّة ولم يدوّنوا منها إلاّ ما صحّ عندهم من أحاديث الاَُصول وغيرها ، ولم يثبت أنّهم توصّلوا إلى جميع الاَُصول الاَربعمائة.
قال السيّد الاَمينيّ في أعيانه: إنّ الاَُصول الاَربعمائة قد بقي بعضها إلى العصور المتأخّرة في خزائن الكتب عند علماء الشيعة كالحرّ العامليّ والمجلسيّ والمعاصر الميرزا حسين النوريّ وغيرهم ، وتلف أكثرها ولكنّ مضامينها محفوظة في مجاميع كتب الحديث لاَنّ علماءنا من أوائل المائة الرابعة إلى النصف الاَوّل من القرن الخامس قد أخذوا كتبهم منها ومن غيرها ممّا جمع فيها.
وأنقل هنا كلام الاَُستاذ عبد الحليم في كتابه الاِمام جعفر الصادق ، وهو في معرض كلامه عن التدوين:
... لكنّ عليّاً دوّن وخلّف في شيعته طريقة التدوين ، فلقد كان على ثقة من طريقته ، وهو الذي يقول فيه الرسول (عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ولن يفترقا حتّى يردا عَلَيَّ الحوض) إلى أن يقول:
وبالتدوين الفقهيّ استقرّ المذهب في صدر الحفظة والنقلة ، ممّن يملي إلى بنيه ، فبنيهم ، وبخاصّة زين العابدين ، وزيد والباقر والصادق ، ثمّ عملت مجالس الاِمام الصادق في نشره كمثل عمل التدوين في استقراره وأدرك الاَئمّة الذين تتلمذوا له وتلاميذهم أُموراً ترفع مجلس الصادق فوق المجالس ، سواء مجالس أهل السنّة أو أهل البيت ، ثمّ عدّوا أشياءً في ذلك (1).
وكان الاَُستاذ قد قال قبل ذلك قوله : إنّ التلمذة للاِمام الصادق قد سربلت
------------------
(1) الاِمام جعفر الصادق لعبد الحليم الجنديّ: 186.
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 460 _
بالمجد فقه المذاهب الاَربعة لاَهل السنّة ، أمّا الاِمام الصادق فمجده لايقبل الزيادة ولاالنقصان فالاِمام مبلِّغ للناس كافَّة علم جدِّه عليه الصلاة والسلام ، والاِمامة مرتبة وتلمذة أئمّة السنّة له تشوق منهم لمقاربة صاحب المرتبة (1).
وقال في مكان آخر: إنّما كان مالك يجد ريح الرسول في مجلس ابن بنته ، ويحسّ ، أو يكاد يلمس ، شيئاً مادّيّاً يتسلسل من الجدّ لحفيده ، أو أشياء غيرمادّيّة تملك اللبّ والعقل ، فالرؤية متعة والسماع نعمة ، والجوار ـ مجرد الجوار ـ تأديب وتربيب ، وفي كلّ أُولئك طرائق قاصدة إلى الجنّة. وصاحب المجلس طهر كلّه ، لا يتحدّث عن جدّه إلاّ على الطهارة... (2) وفي مكان آخر قال : في هذا المجلس تتلمذ للاِمام جعفر وروى عنه ـ كما يقول أرباب الاِحصاءات ـ أربعة آلاف من الرواة وكتب عنه أربعمائة كاتب كلّهم يقول : قال جعفر بن محمّد.
فأيّ مجلس كان ذلك المجلس! تتراءى فيه أشياء من رسول الله (ص) بعضها مادّيّ يجري في أصلاب رجل بعد رجل ، وبعضه معنويّ يتراءى في معانيه وفحوى مقولاته ، لكلّ هؤلاء.
ليس بالمجلس لجاجة ولا حجاج عقيم يقول للتلاميذ: من عرف شيئاً قلّ كلامه فيه وإنّما سمّي البليغ لاَنّه يبلغ حاجته بأدنى سعيه ... (3) وبهذا أختم الحديث عن مكانة المجاميع الحديثيّة عند الشيعة الاِماميّة ونظراتهم لها ، فهم لا ينظرون إلى الكتب الاَربعة أنّها منزلة من عند الله سبحانه أو أنّ مَن روى عنه الكلينيّ أو الطوسيّ أو الصدوق فقد جاوز القنطرة ، ولايرون كلّ ما فيها صحيحاً ، فمرويّات الكتب الاَربعة كغيرها تخضع لاَُصول الجرح والتعديل والنقد والاستدلال ولم تحط بهالة كما أُحيطت الصحاح عند العامّة.
فالحديث إذا لم يكن جامعاً للشرائط المعتبرة لا قيمة له وإن ذكره مشايخ المحدّثين كالكلينيّ أو الطوسيّ ، بل يلزم أن يقترن بما يؤكّد صدروه عن
------------------
(1) الاِمام جعفر الصادق: 163.
(2) الاِمام جعفر الصادق: 160.
(3) الاِمام جعفر الصادق: 160.
منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 461 _
المعصوم بقرائن حاليّة أو مقاليّة ممّا يوجب الوثوق به ، كوجوده في كثير من الاَُصول الاَربعمائة أو على أقلّ تقدير في أصل أو أصلين منها ، بأسانيد متعدّدة معتبرة ، أو وجوده في أحد الكتب المعروضة على الاَئمّة ككتاب عبيدالله الحلبيّ الذي عرضه على الاِمام الصادق فقال فيه: ليس لهؤلاء مثله.
وكتابَي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان اللذين عُرِضا على الاِمام الحسن العسكريّ.
أو وجوده في الاَُصول المعتمدة عند السلف المعاصرين للاَئمّة ككتاب الصلاة لحريز بن عبد الله ، وكتب ابن سعيد وعليّ بن مهزيار وغيرها ، حتّى وإن كانت من كتب غير الاِماميّة ككتاب جعفر بن غياث القاضي وكتب الحسينبن عبدالله السعديّ وكتاب القبلة لعليّ بن الحسن الطاطريّ (1). وقفة أُخرى مع كتاب عليّ
سـبق أن قلنـا إنّ لكتـاب علـيّ الجامعيّـة ، وإنّ مسـائلـه لا تنحصـر فـي الاِرثوالقضـاء فقد اسـتشـهـد الاَئمّـة به في جميـع شـؤون الحيـاة والفقه كما في:
سـؤ (2)… والوضـوء من غسـل الجنابـة (3)وأحكـام الجنـائـز ، ووقت فضيلة الظهـر والعصـر والتشـهد في الصـلاة (4)وحكم المحرم يمـوت كيف يصـنـع به (5)والصـلاة في وبر كلّ شـيء حـرام لحمـه (6)والتشـهد في
------------------
(1) انظر الفائدة الرابعة من خاتمة المستدرك للمحدّث النوريّ 3 : 482 .
(2) التهذيب 1: 227 ح 655|38 و 9: 86 ح 364|9 ، وانظر الكافي 3: 9 ح4.
(3) التهذيب 1: 339 ح 398.
(4) التهذيب 2: 23 ح 64|15 ، الاستبصار 1: 261 ح 27 ، منتهى المطلب 1: 207 ، الوسائل 4: 144 ح 4754|14 و 147 ح 4766|26.
(5) وفيه أربع روايات الاَُولى عن عبد الله بن سنان (انظر التهذيب 5: 383 ح 1337 |250) والثانية عن ابن مريم (انظر فروع الكافي 4: 368 ح 3) والثالثة والرابعة عنعبدالرحمن ابن أبي عبدالله (انظر تهذيب الاَحكام 1: 329 ح 963|136) وفروع الكافي 3: 175 ح 6 والاستبصار 1: 472 ح 1826|7.
(6) فروع الكافي 3: 397 ح 1 ، تهذيب الاَحكام 2: 209 ح 818|26 ، الاستبصار 1:383 ح1 ، عوالي اللئالىَ 3:74 ح 34.
والزنا (1) والكبائر (2) وأكل مال اليتيم (3) وعقاب المعاصي (4) والجدّ في العبادة (5) وابتلاء المؤمن (6) ومثل الدنيا (7) وحسن الظنّ بالله (8) وحرمة الجار (9) والخلق (10) وأصحاب السبت (11) وطلب العلم (12) ودية الاَسنان (13) وغيرها من الكثير الكثير من تشقيقات المسائل والعلوم.
وما ذكرناه ما هو إلاّ نماذج متنوّعة من كتاب عليّ ولم يكن بالجرد الدقيق لتلك المرويّات في مصنّفات الشيعة الاِماميّة ، قد جئنا بها لاِيضاح التخالف الموجود بين المدرستين في الفقه ، والخلاف بين المسلمين صار فيه بعد أن كان في أمر الخلافة ، مشيرين إلى أنّ مدرسة التعبّد المحض كانت تتمسّك بكتاب عليّ كي تبرهن على أصالتها واستقائها من رسول الله والوحي ، ومن هذا