اورد الدكتور عبدالكريم بن علي بن محمد النّملة في كتابة (مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف دراسة نظرية تطبيقية) المطبوع في الرياض سنة 1415 هـ مكتبة الرشد ، بعض الاَمثلة التطبيقية لذلك ، وذلك بعد ان عرّف المخالفة لغة و أنّها تعني المضادة ، والعصيان ، و عدم الاتفاق ، والتغيير (1) والمقصود من الصحابي لغة واصطلاحاً (2) اورد آراء علماء الاسلام في ذلك وانقسامهم فيه إلى مذهبين:
  المذهب الاَول: تعتقد أنّ الحديث يبقى على حجيته و لا تؤثر عليه مخالفة الصحابي له ، لا من قريب و لا من بعيد ، فلا يترك العمل من أجل تلك المخالفة (3).
  المذهب الثاني: يرى لزوم الاَخذ بقول الصحابي و سقوط الاحتجاج بالحديث النبوي (4)
  ثمّ ذكر الدكتور (الاَمثلة التطبيقية على مخالفة الصحابي للحديث الذي رواه مخالفة كلية و بيان أثر الاختلاف في ذلك) فقال:
  بعد أن عرفنا مذهبي العلماء في هذه المسألة الاَصولية و أدلة أصحاب كل مذهب لابدّ من ذكر بعض الاَمثلة التطبيقية التي خالف فيها الصحابي الحديث الذي رواه مخالفة كلية و ذلك زيادة في إيضاح المسألة ، و لكي يتصور القاريء تلك المسألة في ذهنه أكثر تصويراً فأقول ـ و باللّه التوفيق: ـ

------------------
(1) انظر مخالفة الصحابي : 22 ـ 29.
(2) انظر مخالفة الصحابي : 30 ـ 86.
(3) انظر مخالفة الصحابي : 87 ـ 105.
(4) انظر مخالفة الصحابي : 106 ـ 123.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 294 _

  ما أخرجه البخاري في صحيحه ، و مسلم في صحيحه ، وأبو داود في سننه ، والترمذى في سننه ، و النسائى في سننه ، وابن ماجه في سننه ، والدارمي في سننه ، والاِمام مالك في الموطأ و الاِمام أحمد في المسند عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي (ص) ـ قال : (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهنّ بالتراب).
  هذا الحديث رواه عن النبي(ص) أبو هريره ـ كما رأيت ـ ولم يعمل به ، بل خالفه و غسل الاِناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات ، فقد أخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار ، و الدار قطني في سننه ، و ابن الجوزي في العلل المتناهية أن أبا هريرة كان يغسل الاِناء ثلاث مرات.
  فهنا خالف الصحابي ـ و هو أبو هريرة ـ الحديث الذي رواه.
  فذهب أصحاب المذهب الاَول ـ و هم الجمهور ـ إلى أنه يجب غسل الاِناء من ولوغ الكلب سبع مرات و احتجوا بالحديث ، ولم يلتفتوا إلى مخالفة أبي هريرة له ـ تبعاً لقاعدتهم .
  أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم لما رأوا أن أبا هريرة قد خالف ما رواه تمسكوا بقاعدتهم ـ وهي: أنه إذا خالف الصحابي ما رواه فيوَخذ بتلك المخالفة دون الحديث ـ لذلك ذهبوا إلى أنه يكفي غسل الاِناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات ، ولم يعملوا بالحديث الذى رواه.
  واختلف بعض أصحاب المذهب الثاني في الحديث هل يكون منسوخاً أم يحمل على أن التسبيع ندب ؟ على أقوال ثلاثة:
  القول الاَول: أن الحديث منسوخ و هو رأي الكمال بن الهمام في (التحرير) ، و وافقه على ذلك أمير بادشاه في ( تيسير التحرير ) ، و ابن أمير الحاج في (التقرير و التحبير).
  القول الثاني: أن الحديث لم ينسخ ، ولكن يحمل على الاستحباب ، أي: أنّ الغسل ثلاث مرات واجب ، و الغسل سبع مرات مستحب ، ذهب إلى ذلك السمرقندى في (بذل النظر) ، و السمرقندي في (الميزان).

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 295 _

  القول الثالث: أن الحديث يحتمل أنه منسوخ ، و أنه على الندب ذهب إلى ذلك السرخسي في (أصوله) ، و النسفي في (كشف الاَسرار).
  ثم قال الدكتور: الراجح في هذه المسألة ـ هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الاَول ـ و هو أنه يغسل الاِناء من ولوغ الكلب سبع مرات ـ لوجوه:
  الوجه الاَول: ثبوت حديث أبي هريرة السابي (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً) و صحته ، ولم يثبت شيء يصلح لمعارضته .
  الوجه الثانى: أن غسل الاِناء سبعاً ثبت عن رسول اللّه(ص) عن طريق آخر فقد أخرج مسلم في (صحيحه) ، و أبو داود في (سننه) ، و النسائي في (سننه) وابن ماجه في (سننه) ، والدارمي في (سننه) ، و أحمد في (المسند) عن عبد اللّه بن مغفل أنّ رسول اللّه (ص) قال: (إذا ولغ الكلب في الاِناء فاغسلوه سبع مرات ، و عفروه الثامنة بالتراب).
  فإذا فرضنا ـ مع الفرض الممتنع ـ أن مخالفة الصحابي تؤثر في الحديث الذي رواه ، فإنها لا يمكن أن تؤثر في مروي غيره.
  الوجه الثالث: أن ما قاله أصحاب المذهب الثاني ـ أو بعضهم و هو: أنه يغسل الاِناء ثلاث مرات ، استناداً إلى ما روى عن أبي هريرة من أنه كان يغسل الاِناء ثلاث مرات ، و في ذلك مخالفة للحديث الذي رواه هذا لا يصلح أن يكون مستنداً يعتمد عليه ، و ذلك لاَن الرواية اختلفت عن أبي هريرة : فقد روى عنه أنه أفتى بغسل الاِناء سبع مرات ، و روى عنه أنه أفتى بغسله ثلاث مرات ... إلى أن يقول الدكتور:

  ما أخرجه أبو داود في (سننه) ، و الترمذي في (سننه) ، و الدارمي في (سننه) ، والدار قطني في (سننه) ، و الحاكم في (المستدرك) ، و الاِمام أحمد في (المسند) والطحاوي في (شرح معاني الآثار) عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن النبي (ص) قال: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل).
  فهذا الحديث قد روته عن رسول اللّه (ص) ـ عائشة كما رأيت ـ و لكنها لم تعمل به ، بل خالفته ، حيث إنها ـ رضي اللّه عنها ـ زوجت بنت أخيها حفصة

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 296 _

  بنت عبد الرحمن بن أبي بكر على ابن اختها: المنذر بن الزبير ، و كان أخوها ـ عبد الرحمن ـ غائباً في الشام.
  فهنا: اختلف العلماء تجاه ذلك:
  فذهب أصحاب المذهب الاَول ـ و هم الذين يأخذون بالرواية ، دون مخالفة الصحابي له ـ إلى العمل بمقتصى الحديث و هو أنه لا يجوز أن تزوج المرأة نفسها ، فلا يجوز النكاح بغير ولم يلتفتوا إلى مخالفة عائشة لهذا الحديث الذي روته و هم الجمهور.
  أما أصحاب المذهب الثاني فقد ذهبوا إلى الاَخذ بمخالفة عائشة و العمل بذلك ، و ترك الاحتجاج بالحديث ، لذلك يقولون: يجوز أن تزوج المرأة نفسها .
  قال عبد العزيز البخاري في (كشف الاَسرار) ـ مبيناً وجهة نظر الحنفية في ذلك ـ: (فلمّا رأت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن تزويجها بنت أخيها غير أمره جائز و رأت ذلك العقد مستقيماً حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح و ثبوته استحال أن يكون ترى ذلك مع صحة ما روت).
  ثم ذكر وجه دلالة آخر لذلك قائلاً: (فلما أنكحت فقد جوزت نكاح المرأة نفسها دلالة ، لاَن العقد لما انعقد بعبارة غير المتزوجة من النساء فلاَن ينعقد بعبارتها أولى فيكون فيه عمل بخلاف ما روت).
  و ذكر وجه دلالة ثالث من ذلك إذ قال: (لما أنكحت فقد اعتقدت جواز نكاحها بغير إذن وليها بالطريق الاَولى ، لاَن من لا يملك النكاح لا يملك إلا نكاح بالطريق الاَولى و من ملك الاِنكاح ملك النكاح بالطريق الاَولى).
  و ذكر بعض الحنفية كالسرخسي في (أصوله) ، والنسفي في (كشف الاَسرار) بأن الحديث منسوخ ، و ذلك ، لكون الراوية له ـ و هي عائشة ـ قد عملت بخلافه، تبعاً لقاعدتهم.
  و قد نص على ذلك الاِمام أحمد في رواية حرب بن إسماعيل ، فقال: (لا يصح الحديث عن عائشة ، لاَنها زوجت بنات أختها ، والحديث عنها).
  و قال ـ أيضاً ـ في رواية المروذي: (لا يصح الحديث ، لاَنها فعلت بخلافه).

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 297 _

  ثم علق الدكتور على الكلام السابق بقوله: الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور ، لاَمرين: ـ
  الاَمر الاَول: ما أخرجه البخاري في (صحيحه) ، و أبوداود في (سننه) ، والترمذي في (سننه) ، وابن ماجه في (سننه) والاِمام أحمد في (المسند) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي (ص) قال: (لا نكاح إلا بولي) ورواه ـ أيضاً ابن عباس ، وأبو موسى الاَشعري ، و هو صحيح قال المروذي: (سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث فقالا: صحيح) وهذا نص في المسألة.
  الاَمر الثاني: أن مخالفة عائشة لحديث (أيما امرأة...) ليس صريحاً المخالفة.
  ولو سلمنا صراحة المخالفة ، فإن فعل عائشة أو غيرها لا يمكن ـ بأي حال من الاَحوال ـ أن يقوى على اسقاط حديث قد ثبت ولم يشك فيه أي إمام من أئمة الحديث الذين يعتمد على أقوالهم ، والله أعلم.

  ما أخرجه البخاري في (صحيحه) ، ومسلم في (صحيحه) ، و أبو داود في (سننه) ، والترمذي في (سننه) ، والنسائي في (سننه) ، وابن ماجه في (سننه) ، والاِمام مالك في (الموطأ) ، والاِمام أحمد في (المسند) ، عن الزهري عن سالم عن أبيه ـ عبدالله بن عمر ـ قال: (رأيت رسول الله (ص) إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه ، و إذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع ، ولا يفعل ذلك في السجود).
  فهذا الحديث قد رواه عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله (ص) و لم يعمل به ، بل خالفه ، و لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة فقط ، فقد أخرج بن أبيشيبة ، في (المصنف) : أن مجاهداً قال : (ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح) ، وأخرجه الطحاوي في (شرح معاني الآثار) ، بسند صحيح .
  فهنا : هذا الصحابي ـ و هو ابن عمر ـ خالف حديثاً قد رواه ، فاختلف العلماء في ذلك:

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 298 _

  فذهب أصحاب المذهب الاَول ـ و هم القائلون بأن مخالفة الصحابي لما رواه لا يسقط الاحتجاج به ـ إلى الاَخذ بمقتضى الحديث و هو: رفع اليدين عند الافتتاح وعند الركوع ، وعند الرفع من الركوع و هذا مذهب الجمهور.
  أما أصحاب المذهب الثاني ـ و هم القائلون بأن مخالفة الصحابي لما رواه يسقط الاحتجاج به ، ومن ثم نعمل بعمل الصحابي ونترك الحديث ـ فإنهم عملوا بفعل عبدالله بن عمر وهو: رفع اليدين عند الافتتاح ـ فقط ـ وتركوا العمل بالحديث ، وهم أكثر الحنفية.
  قال الجصاص في (الفصول): (فدل تركه الرفع بعد روايته عن النبي (ص) ـ على أنه عرف نسخ الحديث ، إذ لولا ذلك لما تركه، لاَنه غير جائز أن يظن بصحابي مثله مخالفة سنة النبي (ص) رواها عنه مما لا احتمال فيه للتأويل).
  وجزم أكثر الحنفية بمثل ما قاله أبو بكر الجصاص ـ وهو: أنه بمخالفة ابن عمر له علم أن الحديث الذي تركه ـ و هو من روايته ـ قد ثبت نسخه ـ من هؤلاء: أبو زيد الدبوسي في (الاَسرار في الاَصول والفروع ، والسجستاني في (الغنية في الاَصول) ، والسرخسي في (أصوله) ، والكمال بن الهمام في (التحرير) ، وعبدالعزيز البخاري في (كشف الاَسرار) ، وأمير بادشاه في (تيسير التحرير) ، وابن أمير الحاج في (التقرير والتحبير) ، والنسفي في (كشف الاَسرار) ، وملاجيون في (نور الاَنوار شرح المنار).
  و بعض الحنفية قالوا بأن الحديث الذي رواه ابن عمر قد سقط الاحتجاج به لما خالفه راويه ، ولم يذكروا أنه منسوخ كالبزدوي في (أصوله) ، والخبازي في (المغني).
  ثم قال الدكتور عبدالكريم بن نملة : الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو: أن رفع اليدين عند تكبيرة الاِحرام ، وعند الركوع وعند الرفع منه وذلك لاَمور: ـ
  الاَمر الاَول: أن الحجة فيما فعله النبي (ص) وليست في فعل واحد من الصحابة: ابن عمر أو غيره ـ كما قلنا أثناء تقريرنا للقاعدة الاَصولية هناك ـ .
  الاَمر الثاني: أن الحديث قد عمل بمقتضاه أصحاب النبي (ص) قال

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 299 _

  الحسن: (رأيت أصحاب النبي(ص) يرفعون أيديهم إذا كبروا ، وإذا ركعوا ، وإذا رفعوا رؤوسهم كأنها المراوح).
  وقال البخاري: قال ابن المديني ـ وكان أعلم أهل زمانه ـ : (حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم لهذا الحديث).
  الاَمر الثالث: أن قول مجاهد ـ و هو : أنه لم ير ابن عمر يرفع يديه الا في أوّل ما يفتتح ـ معارض بما ذكر طاووس أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روى عنه عن النبي (ص).
  ومعارض بما قاله الاِمام أحمد ـ و قد سئل عن الرفع ـ : (إي لعمري ، و من يشك في هذا! كان ابن عمر إذا رأى من لم يرفع حصبه ، و أمره أن يرفع).
  و نرجح رواية طاووس و الاِمام أحمد على رواية مجاهد، لاَنه يوافق الحديث الذي رواه ابن عمر ، وكون الراوي يوافق ما رواه هو الذي يؤيده العقل والنظر والله أعلم.
  و لا تلتفت إلى ما قاله عبد العزيز البخاري في (كشف الاَسرار) من أن ابن عمر كان يرفع يديه في الافتتاح والركوع والرفع منه قبل العلم بنسخ الحديث الذي رواه ، فلما علم به ترك الحديث ، وفعل ما ذكر عنه من أنه لا يرفع إلا في الافتتاح وذلك لاَن هذا الكلام ـ أعني كلام عبد العزيز البخاري ـ مجرد احتمال يحتاج إلى دليل وبرهان ، وما دام أنه لا دليل على احتماله فنتوقف فيه ، ونعمل بما لا يحتمل شيئاً وهو ما ثبت عن رسول الله (ص) وعمل به جل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهو رفع اليدين في الجميع ، والله أعلم.
  هذه بعض الاَمثلة التطبيقية على تلك القاعدة الاَصولية ، ومن أراد الاستزادة والتفصيل في تلك الاَمثلة السابقة ، أو أمثلة أخرى فليراجع كتب الفقه إن شاء (1).

------------------
(1) انظر مخالفة الصحابي للحديث النبوي: 124 ـ 145

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 300 _

  جئنا بهذه النماذج للتأكيد على أنّ الحكّام يهمّهم في الغالب منح رأيهم الشرعيّة ، أكثر من التقييد بما قاله الله والتعبّد بنصوص الوحي.
  ولو تبصّر الباحث في فقه عثمان ومعاوية ومن سار على نهجهما لوجده ـ في آرائه المستجدّة ـ امتداداً لنهج الخليفة عمر بن الخطّاب.
  وإذا حَدَث أن شذّوا في بعض الاَحيان عن سنّة الشيخين ـ كما في إتمام الصلاة بمنى وتقديم الخطبة عند عثمان ، وإحداث الاَذان وتقديم الخطبة في العيدين ، عند معاوية ـ فلا يعني هذا تخالف رأيهم مع رأي عمر وأبي بكر في كلّ شيء ، بل يدلّ على تبنّيهم رأياً جديداً مبتنياً على قاعدة أنّ للخليفة حقّ التشريع بما يراه مصحلة ورجحاناً ، ومن الطبيعيّ أن تكون قناعتهم هي الراجحة على نظر من سبقهم.
  فالخليفة عثمانبن عفّان ومعاوية بن أبي سفيان يسيران ـ بنحو عامّ ـ على نهج من سبقهما ، وأنّ أخذهما بالرأي والاجتهاد جاء امتداداً لرأي الشيخين اللذين سنّا هذا في الشريعة.
  وبذلك تبلور عند المسلمين اتّجاهان ، أحدهما يأخذ بالنصوص الشرعيّة ولا يرتضي رأي أحد بديلاً عن حكم الله ورسوله ، حتّى رسول الله فإنّه كان عبده ورسوله ولا يقول في الاَحكام برأي ولا قياس ولكنّه (بِمَا أراك الله) (1)‌و(ما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى )(2).
  ومعنى هذا أنّه كان متعبّداً بما ينزل عليه من الوحي ولا يفتي برأيه ، وهذا المفهوم التعبّديّ قد ورد في كلمات الاَئمّة من ولده ، إذ كلّهم يؤكّدون أنّ قولهم لميكن عن رأي ، وإنّما هو حكمٌ توارَثوه كابراً عن كابر عن رسول الله (ص) ، وفي مقابل هذا الاتّجاه برز بأخَرَةٍ اتّجاه آخر هو ما سمّيناه: اتّجاه الاجتهاد والرأي ، أو المصلحة ، أو غيرها.

------------------
(1) النساء : 105 .
(2) النجم : 3 ـ 4 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 301 _

  وقد تبنّى هذا الاتّجاه في جذوره الاَساسيّة بعض الصحابة على عهد رسول الله ، إذ اتّضح لك موقف أبا بكر وعمر في قضيّة المتنسّك وأنّهما لميقتلاه لصلاته وخشوعه ، وغيرهم من الصحابة الذين صاموا الدهر مع وجود نهي عن رسول الله فيه و ... فهؤلاء قد دعوا إلى مشروعيّة الرأي والخليفة عمربن الخطّاب حكَّم فكرتهم لما أحسّه من العوز إلى النصوص ، فالسماح بالقياس والاجتهاد ثمّ صعود عمر المنبر واعتراضه على الصحابة لاختلافهم في الآراء يعني أنّهما كانا يريدان حصر الرأي وحجّيّته بهما ، دون غيرهما ، ويُلزمان الصحابة بالتعبّد بما يقولانه ، بيد أنّهما لم يوفَّقا في ذلك ، لاَنّ القول بمشروعيّة الرأي والاجتهاد له اتّساع ومطّاطيّة وانسياب ، ولا يمكن لاَحد حكره على نفسه .
  إنّ القول بمشروعيّة تعدّديّة الرأي هو ما أوقع الاَُمّة في الاختلاف ، وقد وضّح أبوبكر هذه الحقيقة بقوله: (والناس أشدّ اختلافاً من بعدكم) ، ومثله ما قاله الخليفة لعمر كما في رواية البيهقيّ ـ آنفة الذكر ـ : (شكا إليه الحكم بين الناس...).
  أمّا الاِمام عليّ بن أبي طالب فقد وضّح الاَمر بأجلى صوره في الخطبة الشِّقشقيّة حيث يقول : (... يَكْثُرُ العثارُ فيها والاعتذار منها ، فصاحِبُها كراكبِ الصَّعْبة: إنْ أشْنَقَ لها خَرَم ، وإن أسْلَسَ لها تَقَحّم ، فَمُنِيَ الناس لعمرُ الله بخبطٍ وشماس ...).
  ولو تدبّرنا كلام رسول الله (ص) يوم الخميس: (أئتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً) وقوله (ص) في حديث الثقلين: (ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) مع الاَحاديث الواردة عن أهل البيت ونهيهم عن الاَخذ بالرأي ، وكون الرأي بنظرهم ابتعاداً عن السنّة ، لعرفنا أنّ أمر التدوين ومنعه كانا أمرين مرتبطينِ بالشريعة ، لكن سخّرهما الخلفاء لخدمة مصالحهم وآرائهم ، فمنعوا التدوين والتحديث حينما رأوا ضرورة في ذلك ، وفتحوه أيضاً عندما أرادوا ذلك.
  فالاَُمّة الممتحنة كلّما ابتعدت عن أهل البيت زادت بُعداً عن الحقّ

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 302 _

  وضياعاً عن جادّة الصواب ، وهذا ما كان يتخوّف منه رسول الله على أُمّته لاَنّ الابتعاد عنهم سياسيّاً وعدم إشراكهم في أمر الولاية والخلافة سيبعد الاَُمّة عن سنّة رسول الله ، وهو ممّا يؤدّي إلى الانحراف عن الجادّة ، لاَنّ عدمترشيحهم للخلافة وتنصيبهم لها لا يُسقط أمر الرسول وإخباره (إنّي مخلّف فيكم الثقلين) ، لاَنّ المأمور به هو الاَخذ منهم ، أي أنّكم لو لم تأخذوا بأقوال هؤلاء الاَئمّة في الشريعة لضللتم عن الدرب وابتعدتم عن السنّة.
  وقد أكّد رسول الله على هذا الاَمر موضّحاً كونهم هُداة الاَُمّة والمبيّنين لما اختلف فيه الناس من بعده .
  وذلك في مثل قوله (ص): أنا المنذر وعليّ الهادي وبك ياعليّ يهتدي المهتدون من بعدي) (1).
  وقوله: (من أراد أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويسكن جنّة الخُلد التي وعدني ربّي ، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب ، فإنّه لن يُخرجكم من هدى ، ولنيُدخلكم في ضلالة) (2).
  وفي نصوص أُخرى عنه (ص) تؤكّد لزوم أخذ الاَحكام عنهم لاغير ، فجاء عنه (ص) قوله : إنَّما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه بعضاً ، وإنَّما نزل كتاب الله يصدّق بعضه بعضاً ولا يكذّب بعضه بعضاً ، ما علمتم فيه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه (3).
  وفي آخر : مهلاً يا قوم ! بهذا هلكت الاَُمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إنَّ القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضاً ، بل يصدّق بعضه بعضاً ، فما عرفتم فاعملوا ، وما جهلتم منه فردّوه إلى

------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3: 130 ، لسان الميزان 2: 199 رقم 904 ، حلية الاَولياء 1: 64 ، تاريخ دمشق 2: 417 رقم 915 ـ 916 ، كنز العمّال 11 : 612 ، الاستيعاب|القسم الثالث: 1114 رقم 1855.
(2) كنز العمّال 11: 611|32960 ، الكافي 1: 209.
(3) كنز العمّال 1 : 192 ح 970 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 303 _

  عالمه (1)‌.
  وعن أُبيّ بن كعب أنّه قال لمّا سئل ما المخرج من هذا ؟ ـ حينما وقع الناس في عثمان ـ قال : كتاب الله وسنّة نبيّه ، ما استبان لكم فاعملوا به ، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه (2).
  وقد جاء ما مرَّ في ذيل حديث الصادق ـ المنقول عن تفسير العيّاشيّ ـ آنف الذكر.
  إنّ المنع من الاِتيان بالدواة إلى رسول الله ، ثمّ المنع من تدوين السنّة والتحديث بأحاديث النبيّ (ص) ، والقول بـ (حسبنا كتاب الله) وأخيراً الذهاب إلى مشروعيّة الرأي والقياس وجواز تعدّد الآراء في الشريعة وكون كلام الصحابيّ يخصّص القرآن والسنّة ... كلّها مراحل مرّت بها الاَُمّة فابتعدت بها عن الجادّة وعمّا رسمه الوحي في شريعته.
  كان هذا مجمل محنة النصّ النبويّ وسلطة الرأي على الشريعة. ولو أردنا التوسّع في مثله لخرجنا عمّا نريد الاِشارة إليه.
  إنّ الحكومة كانت تصحّح جميع الآراء ، وتأخذ بأقوال جميع الصحابة ... إلاّ فقه عليّ بن ابي طالب وأتباعه المتعبّدين المدوّنينة ، فإنّه بزعمها أجنبيّ عن الاِسلام ومنفيّ من فقه المسلمين!
  ولو تطلّعنا إلى تراثنا الفقهيّ الحديثيّ لرأينا غلبة روح العصبيّة عليه ، فأحاديث عليّ لا تتجاوز العشرات في المجاميع الحديثيّة ولم يبنوا عليها الاَحكام إلاّ عند اضطرارهم لذلك ، بل إنّهم ليخافون ويقصرون في نقل جميع مرويّات عليّ (ع) وأحكامه التي استلمها فَمَاً لِفَمٍ عن رسول الله (ص) ، وأمّا أحاديث أبي هريرة وابن عمر وعائشة فتدور عليها رحى الشريعة ، وهي بالاَلوف!
  ترى ... لِمَ أُريد لهذا الاختلال أن يكون ؟! ألاَِنّ أبا هريرة وابن عمر

------------------
(1) كنز العمّال 1 : 193 ح 978 .
(2) حجّيّة السنّة : 358 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 304 _

  وعائشة كانوا أقدم إسلاماً وأكثر علماً ، وأقرب إلى رسول الله من عليّ ؟!
  ولِمَ لا يروي مالك في موطّئه عن عليّ الاَحاديث ؟!
  ولماذا لا نرى في فقه المسلمين ما يشير إلى أحكام أهل البيت في حين نرى هؤلاء الفقهاء يذكرون شواذّ آراء المذاهب الفقهيّة البائدة.
  فما يعني كلّ هذا ؟! ولماذا نجد بقايا فكر العصبيّة موجوداً في تراثنا ، ومن أجله يُمنع الباحثون من التعرّف على أُمور فيها إيضاح للحقائق ، ولو أقدم أحد على أمر كهذا لرمي ببثّ الفرقة بين المسلمين ؟!
  إنّا لنعجب كلّ العجب ويحقّ لنا أن نتساءل : متى كان تبيين الحقائق وتوضيح المجهولات يعني الفرقة والفتنة ؟!

  وإليك هذا النصّ كي تقف على منهج الحكّام في الاَحكام ، فقد جاء في مقدّمة (تحفة الاَحوذيّ) عن شعيب بن جرير أنّه طلب من سفيان الثوريّ أن يحدّثه بحديث السنّة ، فقال :
  اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم ، القرآن كلام غير مخلوق ـ إلى أن يقول ـ : ياشعيب! لا ينفعك ما كتبت حتّى ترى المسح على الخفّين ، وحتّى ترى أنّ إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر ، وحتّى تؤمن بالقَدَر ، وحتّى ترى الصلاة خلف كلّ بَرّ وفاجر ، والصبر تحت لواء السلطان جائراً أو عادلاً.
  فقلت : يا أبا عبد الله ! الصلاة كلّها ؟
  قال : لا ، ولكن صلاة الجمعة والعيدين ، صلِّ خلف من أدركت ، أمّا سائر ذلك فأنت مخيّر ، لا تصلّي إلاّ من تثق به وتعلم أنّه من أهل السنّة (1).
  وها أنت ترى أنّ إخفاء (بسم الله الرحمن الرحيم) ، والمسح على الخفّين والصلاة خلف كلّ بَرّ وفاجر ... كلّها ممّا وضعته السياسة الحكوميّة ، وأنت تعرف أنّ مدرسة أهل البيت ترى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من

------------------
(1) تحفة الاَحوذيّ في شرح جامع الترمذيّ (المقدّمة): 352.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 305 _

  علامات المؤمن ، وقد أيّد موقفهم هذا عدد كبير من الصحابة ، ولو لمنحذر الخروج عن صُلب البحث لاَشرنا إلى أسمائهم ونصوصهم. لكنّ المهمّ هو أنْ تعرف أنّ كلّ المفردات المذكورة مخالفة لفقه عليّ وابن عبّاس وأعيان الصحابة ، وموافقة لفقهاء السلطة والحكومة ، وكفى بهذا دليلاً ومؤشّراً.
  كانت هذه بعض أُصول السياسة ، والآن لنوضّح سرّ التأكيد على سيرة الخليفة عمربن الخطّاب وكونه قد أخاف الناس في الحديث عن النبيّ!
  جاء في بعض النصوص المنسوبة إلى النبيّ (ص): (اقتدوا بالذين من بعدي: أبا بكر وعمر).
  وفي هذا النصّ مؤشّرات تدلّ على أنّه قد جُعِل في أوائل خلافة عثمان ، لاَنّا قد عرفنا أنّ عمر بن الخطّاب وعبدالرحمنبن عوف كانا يتخوّفان من أمرين.
  الاَوّل: تصدّر من لا يرتضي اجتهاد (الشيخين).
  الثاني: سريان الاجتهاد بحيث لا يمكن حدّه ، إذ إنّ تعدّد مراكز الاِفتاء والقول بحجّيّة رأي الجميع لو أُطلق له العنان وخصوصاً في تلك البرهة من تاريخ الاِسلام لما أمكن لاَحد الوقوف بوجهه ومن أجله نرى ابن عوف يعترض على عثمان لاِتيانه بأُمور لم تكن على عهد الشيخين ، ويطلب منه أن يقف عند اجتهاداتهما ولايتعدّاها إلى غيرها!!
  لكنّ عثمان لم يستجب لطلبه ولم يرتضِ قوله ، لاَنّه كان لا يرى نفسه أقلّ شأناً منهما ليكون متّبعاً لهما مقتفياً أثرهما في الاجتهاد ، ولم يكن هناك ما يرجّح رأيهما على رأيه ، فإذا كان كلّ من أبي بكر وعمر قد ارتبط برسول الله (ص) عن طريق المصاهرة ، فزوّج كلّ منهما ابنته لرسول الله... فإنّ عثمان قد ارتبط برسول الله برباطين ، وتزوّج ابنتيه ، وهو (ذو النورين)!
  بلى ، إنّ عثمان كان يتساءل مع نفسه: لو كان الاجتهاد مشروعاً فلمَ لاأجتهد أنا في الاَحكام كذلك ؟ وكيف يحقّ لهم أن يلزموني بأن أتّبع رأي الشيخين وأقتفي آثارهما وأراهم لم يتعبّدوا بقول الرسول ويجتهدان أمامه ؟! وإذا لم يكن الاجتهاد جائزاً فلم يُبيحون لاَُولئك الاجتهاد ويحضرونه عليّ ؟
  وهذه الموازنة أيضاً كانت محلّ اختلاف الاَنظار ، فابن عوف ومن على

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 306 _

  طرازه الفكريّ كانوا يتصوّرون إمكان حصر دائرة الاجتهاد والرأي بسيرة الشيخين ، فألزموا عثمان بها وطالبوه بالوفاء بما التزم به ، في حين كان موقف عليبن أبي طالب (ع) خلاف ذلك ، فإنّه أدرك خطأ الموازنة المتوخّاة ، وأنّ الاجتهاد باب مفتوح لا ينحصر بواحد دون آخر ، ولذلك قال لابن عوف (دقّ الله بينكما عطر منشم) ، فقد أخبر باختلافهما .
  أخرجه مخرج الدعاء ، لعلمه بثاقب بصيرته لما سيؤول إليه الاَمر ، وقد حدث ذلك بالفعل .
  غير أنّ الاَمويّين أضافوا اسم عثمان إلى قائمة من يجب طاعته واتّباع سيرته من الخلفاء ، لما رأيت من النصوص الكثيرة التي فيها أسماء الخلفاء الثلاثة: (أبي بكر ، وعمر ، وعثمان) دون عليّ بن ابي طالب ، ولميدرج اسم علي (ع) رابعاً إلاّ في أواخر العهد العبّاسيّ الاَوّل ، فقد أدرجوا اسمه ضمن قائمة الخلفاء ، لاَنّهم رأوا أنّه لا محيص عن إدراج اسمه ضمن من سبق خصوصاً في أوائل الحكومة العبّاسيّة وحاجتها إلى معارضة كلّ ما يمتّ للاَمويّين بصلة ، وعليّ من بني هاشم ، فاتّخذوه ذريعة لهم .
  وكذلك صدور روايات (الخلفاء الراشدين من بعدي) كانت من آثار هذه الفترة من تاريخ الاِسلام.
  فالاختصاص بالثلاثة (أبي بكر ، وعمر ، وعثمان) كان من إبداعات العهد الاَمويّ! وأمّا : (اقتدوا بالذين من بعدي) وأمثاله فقد صدرت بعد الشورى ، وأيّام التأكيد على سيرة الشيخين!

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 307 _

  ما رجّحه ابن عبد العزيز في التدوين
  نعم ، إنّ السياسة كان لها الاَثر الاَكبر في هذه النصوص وفي غيرها ، من أمثال (العشرة المبشّرة) أو (عدالة الصحابة) ، كلّ هذه النصوص توضّح مسلك تعدّديّة الرأي الذي بذر بذرته الخليفتان (أبو بكر وعمر) عند منعهما للحديث والتدوين.
  إنّ شيوع ظاهرة الاَخذ بالاَحاديث عند بعض الصحابة ، والرأي عند الآخر واختلاطهما عند فريق ثالث ... كلّ ذلك جعل سنّة النبيّ (ص) تختلط بالاَثر عن الصحابيّ ، فتداخلت الاَُمور ، واختلط الحابل بالنابل ، والصحيح بالسقيم ،والسنّة بالسيرة العامّة.
  ثمّ جاء عمربن عبد العزيز ليحكّم سيرة الشيخين لتكون شريعة ماضية للمسلمين .
  جاء فيما كتبه عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنّة ماضية أو حديث عمرة فاكتبه ، فإنّي خشيت دروس العلم وذهاب العلماء (1).
  وفي حديث آخر: وحديث عمر (2).
  وفي ثالث : أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبدالرحمن والقاسمبن محمّد فكتبه له (3).
  وجاء في (تاريخ الخلفاء) عن حاطب بن خليفة البُرْجُميّ: شهدتُ عمربن عبدالعزيز يخطُب وهو خليفة ، فقال في خُطبته : ألا وإنّ ما سنّ رسول الله وصاحباه فهو دِين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما فإنّا نُرجئه (4))؟!

------------------
(1) تقييد العلم: 105 و 106 ، سنن الدارميّ 1: 126 ، صحيح البخاريّ 1: 36 ، التاريخ الصغير: 105.
(2) سنن الدارميّ 1: 126.
(3) الجرح والتعديل 1: 21.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 241 ، كنز العمّال 1 : 332 ، وعنه في الصحيح للسيّد جعفر مرتضى 8:11.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 308 _

  وفي (تقييد العلم): كتب عمر بن عبد العزيز إلى المدينة انظروا ، في حديث عفّان إلى أهل المدينة: أن انظروا ما كان في حديث رسول الله فاكتبوه فإنّي خفت. وفي حديث عفّان: فإنّي قد خفت دروس العلم وذهاب العلماء (1)
  وجاء فيما كتبه عمر بن عبد العزيز لبعض ولاته ( ... فإنَّ السنّة إنَّما سنّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمّق ، فارض لنفسك ما رضى به القوم لاَنفسهم ، فإنَّهم على علم وقفوا ، وببصر نافذ كفوا ، وهم على كشف الاَُمور كانوا أقوى ، وتفضيل ما كانوا فيه أولى ، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ، ولاَن قلتم (إنّما حدث بعدهم) ما أحدثه إلاّ من اتّبع غيرسبيلهم ، ورغب بنفسه عنهم ، فإنَّهم هم السابقون ، فقد تكلّموا فيه بما يكفي ، ووصفوا منه ما يشفي ، فما دونهم من مقصّر وما فوقهم من محسر ، وقد قصّر قوم دونهم فجفوا ، وطمح عنهم قوم فغلوا ، وإنَّهم بين ذلك على هدى مستقم ...) (2).
  وفي كلام آخر له : سنّ رسول الله وولاة الاَمر بعده سنناً ، الاَخذ بها تصديق بكتاب الله واستعمال لطاعة الله ، وقوّة على دين الله ، ليس لاَحد تغييرها ولاتبديلها ولا النظر في رأي من خالفها ، ومن اقتدى بها مهتد ، ومن انتصر بها منصور ، ومن خالفها واتّبع غير سبيل المؤمنين... (3).
  ثمّ إنّ الخليفة عمر بن عبد العزيز جعل ما دوّنه ابن حزم سنّة للاَمصار ، وقد علمت أنّ ما دوّنه كان يضمّ في مطاويه اجتهادات الخلفاء ، وما روته عمرة والقاسمبن محمّد عن عائشة وغيرهما ، وهو ما أرادته السلطة من تثبيت فقه هؤلاء!

------------------
(1) تقييد العلم: 106 ، تاريخ دمشق 3: 175.
(2) حقيقة البدعة وأحكامها ، للغامديّ 1 : 74 عن سنن أبي داود ، كتاب السنّة ، باب لزوم السنّة ، وبنحوه في البدع لابن وضّاح : 30 .
(3) أخرجه الآجريّ في الشريعة : 48 ، وعبد الله بن أحمد في كتاب السنّة 1 : 357 كما في حقيقة البدعة 1 : 397 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 309 _

  وفي هذا الصدد ورد عن ابن شهاب الزهريّ قولُه: أمرنا عمربن عبدالعزيز بجمع السُّنَن ، فكتبناها دفتراً دفتراً ، فبعث إلى كلّ أرض له عليها سلطان دفتراً (1).
  وقد مرّت عليك نصوص عنه بأنّ تدوين العلم كان من أجل طلب الاَُمراء.
  مع الوقوف على دور السلطة في العهد العبّاسيّ في تأصيل المذاهب الاَربعة ، وبهذا عرفنا أنّ عمل عمر بن عبد العزيز في السنّة لم يكن لجمع سنّة رسول الله فقط ، بل لتأصيل ما صدر عن الخلفاء من اجتهادات وآراء كذلك ، أي أنّه قد أصّل مدرسة الخلفاء (الاجتهاد والرأي) بعد أن انفصل فقههم عن منابعه وأُصوله وضاع العلم عن الاَُمّة مدّة قرن أو أزيد!
  والمعلوم أنّ التدوين في ظروف تغلب عليها العصبيّة والقَبَليّة ـ خصوصاً بعدما شاع الوضع على لسان رسول الله ـ ليس ممّا يمكن الاطمئنان إليه.
  هذا ، ولا يخفى أنّ وجود بعض الاَحاديث ممّا لا يرتضيه الاتّجاه الحكوميّ العامّ لا يعني خلوص نيّة من تصدّى لاَمر التدوين وطموحهم إلى حفظ الشريعة ، بل هو مؤشّر على امتداد النهجين في عهدهم ، ووجود من يدافع عن سنّة رسول الله ، لاَنّ التحريف الحكوميّ لا يُمكنه الصمود أمام التيّار الفكريّ الضخم الاَصيل ، ذلك أنّ تعثّر النهج الحاكم ، وخلطه بين الاَوراق هو ما تكشفه الروايات الاَُخرى والقرآن الكريم ، ويقف أمامه أتقياء الصحابة والمنطق السليم.
  ولذلك نرى ضخامة وأصالة نهج التعبّد في الصحاح والمسانيد التي دوّنها أتباع الرأي والاجتهاد ، وقد اتّخذت تلك المرويّات طريقها في فقه المسلمين على رغم كلّ الظروف والملابسات ، وأنّ شمولها واتّساعها لاَغلب أبواب الفقه ينبىَ عن وجود نهجين فكريّين : أحدهما يدعو إلى الرأي ويفتي طبق اجتهاد الصحابة ، والآخر : يعمل بالنصوص وما جاء في كتاب الله وسنّة نبيّه لاغير.

------------------
(1) جامع بيان العلم وفضله 1: 76.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 310 _

  جاء في (تقييد العلم) : أخبرنا صالح بن كيسان ، قال : اجتمعت أنا والزهريّ ، ونحن نطلب العلم ، فقلنا : نكتب السنن ، فكتبنا ما جاء عن النبيّ (ص) ، ثمّ قال : نكتب ما جاء عن أصحابه ، فإنّه سنّة.
  فقلت أنا: ليس بسنّة فلا نكتبه.
  قال : فكتب ولم أكتب ، فأنجح وضيّعت (1).
  قال أبو زهرة : وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم كما أنّها من السنّة (2).
  وقال موسى جار الله : ونحن فقهاء أهل السنّة والجماعة ، نعتبر سيرة الشيخين: الصدّيق والفاروق أُصولاً تعادل سنن النبيّ الشارع في إثبات الاَحكام الشرعيّة في حياة الاَُمّة وإدارة الدولة ، ونقول إنَّ الخلافة الراشدة معصومة عصمة الرسالة المعصومة (3).
  كيف لا يكون ذلك والحكومة وراء نهج الخلفاء ، تثبّت ما يريدون ، وتترك جانباً ما لا يرغبون فيه ؟! وإليك هذا النصّ:
  نقل أبو بكر الصنعانيّ: أتينا مالك بن أنس ، فحدّثَنا عن ربيعة الرأي ـ وهو أُستاذ مالك ومعلّمه ـ فكنّا نستزيده ، فقال لنا ذات يوم : ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق ؟
  فأتينا ربيعة ، فقلنا : كيف يُحيط بك مالك ولم تُحِط أنت بنفسك ؟!
  فقال: أما علمتم أنّ مثقالاً من دولة خير من حِمل علم (4).
  وهذا يكشف عن مواقف النهجين وامتدادهما في العصر الاَمويّ والعبّاسيّ ، واختلاط النصوص بحيث يعسر تمييز صحيح الحديث من سقيمه ، وهو ما أراده هؤلاء الخلفاء للعصور اللاحقة!

------------------
(1) جامع بيان العلم وفضله 1: 76 ـ 77 ، تقييد العلم: 106 ـ 107.
(2) ابن حنبل : 251 ، ومالك : 290 .
(3) الوشيعة : 77 .
(4) انظر طبقات الفقهاء لاَبي إسحاق: 67 ، تاريخ بغداد 8: 424 وللمزيد انظر: الاِحكام لابن حزم 1: 246 وما بعده.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 311 _

  إنّ التصريح بأسماء عشرة من الصحابة على أنّهم من أهل الجنّة يخالف الواقع العمليّ لسيرتهم ، إذ كيف يمكننا أن نصحّح الخبر مع أنّ طلحة والزبير يقاتلان عليّاً وهو يومئذٍ الخليفة الشرعيّ ، والكلّ من أهل الجنّة ؟! في حين نعلم أنّ الحقّ واحدٌ ، فإن كان عليّ مع الحقّ فطلحة والزبير على الباطل ، وإن كانا على الحقّ ، فعليّ على الباطل!
  ولو قبلنا خبر (العشرة المبشّرة) ، فكيف نفعل بما رواه البخاريّ عن رسول الله من قوله: إذا التقى المسلِمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار.
  فقلت: يا رسول الله! هذا القاتل.. فما بال المقتول ؟!
  قال: إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه .
  إنّ هذا لَيجعل الباحث في حيرة ، لا يدري أيصدّق: كونهما من أهل الجنّة ، أم أنّهما من أهل النار ؟
  وما هي وظيفة الصحابيّ؟ هل يقاتل الفئة التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله ، أم ينبغي له اتّباع من غلب ، كما في قول ابن عمر ؟!
  وإذا كان كلّ واحد من العشرة له أن يفعل ما يشاء وكيفما يشاء ، باعتباره من أصحاب الجنّة ، فلماذا لم يدركوا هم هذه الحقيقة ويترك بعضهم البعض الآخر ، وإذا كان هذا المنطق هو الصحيح ، فلماذا نرفض الفوضويّة في التفكير ؟ وهل هذا الكلام إلاّ عين الاستهانة بدماء وأموال وأعراض المسلمين ؟!
  ولماذا نرى عمر بن عبد العزيز يؤكّد على أبي بكر عمرو بن حزم أن يكتب ما كان من حديث رسول الله وسنّة صاحبيه ، أو في حديث آخر: عمرة ، وفي ثالث: عمر ؟!
  فما يعني في خطبته : (إلاّ ما سَنّ رسول الله وصاحباه ، فهو ديِن نأخذ به وننتهي إليه ، أمّا ما سنّ سواهما فإنّا نُرجئه ...) ؟!
  لماذا أرجأ عمر بن عبد العزيز سنّة عثمان وعليّ ؟ ألم يكونا من الخلفاء الراشدين ، ورسول الله أكّد على الاَخذ بقولهم : (عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 312 _

  الراشدين من بعدي) ؟! وهل السنّة المتداولة اليوم هي سنّة الرسول ، أم سنّة الصحابة ؟ هذه تساؤلات بل تناقضات ، يلزم البحث عنها في الفقه والتاريخ ، وينبغي ألاّ تؤخذ النصوص على علاّتها.
  أمّا أُصول الجرح والتعديل فقد رُسمت بعد رسول الله ومن قبل الحاكم وتحت رعايتهم وإشرافهم أيضاً مع الاَخد بنظر الاعتبار غلبة روح العصبيّة على تلك الاَُصول والمعاني ، فنسبة الضلال وفساد العقيدة والكذب وما شابهه إلى شيعة عليّ جاءت لتخالف مرويّات هؤلاء مع أُولئك فكريّاً ، وقد تركت تلك الاَُصول آثارها في سيرتنا وسلوكنا بحيث لا يمكن التحرّر منها والابتعاد عنها ، فلامحيص من المكوث عندها ودراسة جذورها تاريخيّاً وفقهيّاً ، مع إيماننا بأنّ دراسة مثل هذه القضايا تفتح للباحث آفاقاً جديدة للمعرفة لميكن قد تذوّق صدقها ودقّتها من قبل ، وهو ما ندعو إليه الباحثين ونؤكّد عليه في بحوثنا ودراساتنا ، وستقف في ثنايا هذا البحث وكذا في بحثنا عن (السنّة بعد الرسول) على أنّ السنّة المتداولة اليوم لم تكن سنّة رسول الله ، بل هي سنّة الرجال في كمّ ضخم من أبوابها ومفرداتها.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 313 _

  إنّ الاَئمّة من أهل البيت كانوا يشيرون إلى هذه الحقيقة تصريحاً وتلويحاً ، في نصوص كثيرة ، إليك بعضها لتقف على رؤيتهم المميّزة لها عن مدرسة أهل الرأي.
  عن الباقر أنّه قال لجابر : يا جابر! لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نُفتيهم بآثارٍ من رسول الله (ص) وأُصول عنهم ، نتوارثها كابر عن كابر ، نَكْنِزُها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم (1).
  وسأل رجلٌ الصادقَ عن مسألةٍ فأجابه فيها ، فقال الرجل: أرايت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟
  فقال له : مَه! ما أجبتك فيه شيء فهو عن رسول الله ، لسنا من (أرأيت) في شيء (2).
  عن سعيد الاَعرج قال ، قلت لاَبي عبد الله (الصادق) إنّ من عندنا ممّن يتفقّه يقولون يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنّة نقول فيه برأينا .
  فقال أبو عبد الله: كذبوا ليس شيء إلاّ قد جاء في الكتاب وجاءت به السنّة (3).
  وعن أبي جعفر (الباقر) أنّه سئل عن مسألة فأجاب فيها ، فقال الرجل: إنّ الفقهاء لايقولون هذا ، فقال : ويحك ! وهل رأيت فقيهاً قطّ ، إنّ الفقيه حقّ الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة المتمسّك بسنّة النبيّ (ص) (4).
  وفي رواية أُخرى عنه (ع): ما أحد أكذب على الله وعلى رسوله ممّن كذّبنا أهل البيت أو كذب علينا ، لاَنّا إنّما نحدِّث عن رسول الله (ص) وعن الله ،

------------------
(1) بصائر الدرجات: 300 و 299.
(2) الكافي 1: 58.
(3) مستدرك وسائل الشيعة 17: 258 ، اختصاص المفيد: 281.
(4) الكافي 1: 70.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 314 _

  فإذا كُذِّبنا فقد كُذِّب الله ورسوله (1).
  وعن الباقر أنّه قال : لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا (وفي آخر: فلولا ذلك كنّا كهؤلاء الناس) (2)ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه فبيّنها لنا (3).
  وفي خبر آخر عنه (ع): أنّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل فعلّمه رسول الله (ص) عليّاً وعلّمنا والله الحديث (4).
  وعن أبي شيبة ، قال : سمعت الصادق يقول: ضلّ ابن شبرمة ، عندنا الجامعة إملاء رسول الله وخطّ عليّ بيده ، إنّ الجامعة لم تدع لاَحد كلاماً ، فيها علم الحلال والحرام ، إنّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحقّ إلاّ بُعداً ، إنّ دين الله لا يصاب بالقياس (5).
  وعن الصادق أنّه قال : إنّ الله بعث محمّداً فختم به الاَنبياء فلا نبيَّ بعده ، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده ـ إلى أن قال ـ فجعله النبيّ (ص) علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس ـ فهم الشهداء على أهل كلّ زمان ـ حتّى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الاَمر ، وطلب علومهم ، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه تأويلها ، ولمينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوا عن أهله فضلّوا وأضلّوا (6).
  وجاء عن النبيّ قوله: مَن أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك (7).

------------------
(1) جامع أحاديث الشيعة 1: 181.
(2) بصائر الدرجات: 301.
(3) بصائر الدرجات: 299.
(4) جامع أحاديث الشيعة 1: 184 عن الكافي.
(5) الكافي 1: 57.
(6) جامع أحاديث الشيعة 1: 220 عن تفسير العيّاشيّ.
(7) جامع أحاديث الشيعة 1: 153.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 315 _

  وعن محمّد بن حكيم قال قلت للصادق : إنّ قوماً من أصحابنا قد تفقّهوا وأصابوا علماً ورووا أحاديث فيرد عليهم الشيء فيقولون فيه برأيهم ، فقال: لا ، وهل هلك من مضى إلاّ بهذا وأشباهه (1)؟!
  وقد ورد كلّ هذا وغيره في كنز العمّال عن رسول الله (ص) أنّه قال : تعمل هذه الاَُمّة برهة بكتاب الله ، ثمّ تعمل برهة بسنّة رسول الله ، ثمّ تعمل برهة بالرأي فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا (2).
  عن ابن أبي عمير ، عن غير واحد ، عن أبي عبد الله (الصادق) قال : لعنالله أصحاب القياس فإنّهم غيّروا كلام الله وسنّة رسوله واتّهموا الصادقين عليهما السلام في دين الله (3).
  وقد جاء هذا الكلام بنحو آخر عن الباقر ، وذلك حينما ذكر له عن عبيدة السلمانيّ أنّه روى عن عليّ بيع أُمّهات الاَولاد ، فقال الباقر: كذبوا على عبيدة أو كذب عبيدة على عليّ ، فما حدّثناكم به عن عليّ فهو قوله ، وما أنكرناه فهو افتراء عليه ، ونحن نعلم أنّ القياس ليس من دين عليّ ، وإنّما يقيس من لايعلم الكتاب والسنّة ، فلا تضلّنّكم روايتهم ، فإنّهم لايَدَعُون أن يضلّوا ... (4) وعن أبي بصير ، قال : قلت للصادق : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتابالله ولاسنّة فننظر فيها ؟ قال : لا ، أمّا أنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله عزّ وجلّ (5).
  وعن عليّ بن الحسين: أنّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ولا يصاب إلاّ بالتسليم ، فمن سُلّم لنا سَلِمَ ومن اقتدى بنا هُدي ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه شيئاً ممّا نقوله أو نقضي به حرجاً كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم

------------------
(1) المحاسن: 212.
(2) كنزل العمّال 1: 180|915.
(3) أمالي المفيد: 52.
(4) مستدرك وسائل الشيعة 17: 254.
(5) الكافي 1: 56.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 316 _

  وهو لايعلم (1).
  وجاء عن رسول الله: إيّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم أعيتهم السنن أن يحفظوها فقالوا في الحلال والحرام برأيهم ، فأحلّوا ما حرّم الله وحرّموا ما أحلّالله فضلّوا وأضلّوا (2).
  وعن عليّ أنّه قال : يا معشر شيعتنا المنتحلين مودّتنا! إيّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم أعداء السنن ، تفلّتت منهم الاَحاديث أن يحفظوها وأعيتهم السنّة أن يعوها ـ إلى أن يقول ـ فسُئلوا عمّا لا يعلمون فأنفوا أن يعترفوا بإنّهم لايعلمون فعارضوا الدين بآرائهم فضلّوا وأضلّوا (3).
  وعن حبيب قال : قال لنا أبو عبد الله ما أحد أحبّ إليّ منكم ، إنّ الناس سلكوا سبلاً شتّى ، منهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برآيه ، وإنّكم أخذتم بأمر له أصل (4).
  وقد يكون هذا هو معنى آخر لما قاله أمير المؤمنين عليّ عن الناس بعد رسول الله (ص) ، فعن أبي إسحاق السبيعيّ أنّه قال : سمعت أميرالمؤمنين يقول : إنّ الناس آلُوا بعد رسول الله إلى ثلاثة : آلُوا إلى عالم هدى من الله قد أغناهالله بما علم من علم عن علم غيره ، وجاهل مدّع للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدنيا وفتن غيره ، ومتعلِّم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة ، ثمّ هلك من ادّعى وخاب من افترى (5).
  وعن الصادق: إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس ، وإنّ الناس لَيحتاجون إلينا ، وإنّ عندنا كتباً إملاء رسول الله وخطّ عليّ ، صحيفة فيها كلّ حلال وحرام ، وإنّكم لتأتونا بالاَمر فنعرف إذا أخذتم به ونعرف إذا تركتموه (6).

------------------
(1) انظر جامع أحاديث الشيعة 1: 334.
(2) مستدرك وسائل الشيعة 17: 256.
(3) مستدرك وسائل الشيعة 17: 309.
(4) المحاسن: 156.
(5) الكافي 1: 33.
(6) الكافي 1: 241242 ح 6 ، وبصائر الدرجات: 154.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 317 _

  هذا وقد كان الاِمام عليّ قد صنّف الاَحاديث الموجودة بيد الناس ، وبيّن سبب الاختلاف فيها بقوله:
  إن في أيدي الناس حقّاً وباطلاً ، وصِدقاً وكَذِباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعامّاً وخاصّاً ، ومُحكماً ومُتشابهاً ، وحِفْظاً ووَهْماً.
  ولقد كُذِب على رسول الله صلّىالله عليه وآله على عَهْدِه ، حتّى قامَ خطيباً فقال : أيّها الناس! قد كثرت عَلَيّ الكذّابة ، فمن كذب عَلَيّ مُتَعمِّداً فَليَتَبَوّأ مقعده من النار ، ثُمّ كُذِب عليه من بعدِه ، وإنّما أتاكُم الحَديثُ من أربعة ليس لهم خامس:
  رجل منافِق يُظهر الاِيمان ، مُتَصنّع بالاِسلام لايَتَأثّم ولايَتَحَرّج أن يكذب على رَسول الله مُتَعَمِّداً ، فلو عَلِمَ الناسُ أنّه مُنافِق كَذّاب لَمْ يَقْبَلوا منه ولَم يُصدّقوه ، ولكنّهُم قالوا: هذا قَدْ صَحِبَ رسول الله ورآه وسَمِعَ مَنْهُ وأخَذَ عَنْه وَهُمْ لايَعْرِفونَ حالَهُ! وَقَدْ أخبَره الله عَن المُنافِقين بِما أخْبَرَه ووصَفَهُمْ بِما وصَفَهُمْ فَقال عزّ وجلّ (وإذا رأيْتَهُمْ تُعْجِبْكَ أجْسَامُهُمْ وإن يقُولوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهمْ) (1)ثمَّ بَقوا ، بَعْدَهُ فتقرَّبوا إلى أئمّة الضَلالَةِ والدُّعاة إلى النار بالزور والكَذِبِ والبُهْتان ، فولّوهُم الاَعمال وحَملوهُم على رِقابِ الناس وأكَلوا بِهِمُ الدنيا ، وإنّما الناس مع المُلوكِ والدنيا ، إلاّ مَن عصمه الله ، فهذا أحد الاَربعة.
  ورَجُلٌ سَمِعَ من رسول الله شيئاً فَلَمْ يَحْمِلْهُ علىوجْهِهِ ووَهَمَ فيه ولَمْ يَتَعَمّدْ كذباً ، فَهُو في يَدِهِ يَقولُ به ويَعْمَل بِهِ ويَرويهِ فَيَقُولُ: أنا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسول الله ، فَلَو عَلِم المُسْلِمون أنّهُ وَهَمَ لَمْيَقْبَلوه ، وَلَو عَلِمَ هو أنّه وَهَمَ لَرَفَضَهُ .
  ورَجُلٌ ثالِث سَمِعَ من رسول الله شَيْئاً أمَرَ بِهِ ثُمَّ نَهى

------------------
(1) المنافقون : 4 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 318 _

  عَنْه وهو لا يَعْلَمْ ، أو سَمِعَهُ يَنْهى عَنْ شَيء ثُمَّ أمَرَ بِهِ وهو لايَعْلَم فَحَفِظَ المَنْسوخَ ولَمْ يَحْفَظْ الناسِخ ، ولَو عَلِمَ أنّه مَنْسوخ لَرَفَضَهُ ، ولَوْ عَلِمَ المُسْلِمونَ إذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أنّه مَنْسوخ لَرَفَضُوهُ.
  وآخر رابِع لَمْ يكذِبْ على رسول الله ، مُبْغِضٌ للكَذِبِ ، خوفاً مِنَ الله وتَعْظيماً لرسول الله ، لَمْينسه بَلْ حَفِظَ ما سَمِعَ على وجْهِهِ.
  فَجاءَ بِهِ كما سَمِعَ لَمْ يَزِدْ فيه ولَمْيَنْقُص عنه ، وعَلِمَ الناسِخَ مِنَ المَنْسوخ ، فَعَمِل بالناسِخِ وَرَفَضَ المَنْسوخَ ، فإنَّ أمْرَ النّبيّ (ص) مِثْلَ القُرآنِ ناسِخٌ ومَنْسوخ ، وخاصٌّ وعامٌّ ، ومُحْكَمٌ ومُتَشابِهِ ، قَْد كانَ يَكون من رسول الله الكَلام لَهُ وَجْهان: كلامٌ عامٌّ ، وكَلامٌ خاصٌّ مِثْلُ القُرآن ، وقال الله عزّ وجلّ في كتابه (ما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا) (1)فَيَشْتَبِه على مَنْ لَمْ يَعْرِف وَلَمْيَدْر ما عَنى الله بِهِ ورَسُولَهُ ، وَلَيْسَ كُل أصْحاب رسول الله كان يَسْأَله عَنْ الشيء فَيَفْهَم ، ومنهم مَنْ يَسْأله ولايَسْتَفْهِمْهُ حتّى إنْ كانوا لَيُحِبّون أنْ يُجيء الاَعرابيّ والطارىَ فَيَسأل رسول الله حتّى يَسْمَعوا.
  وقَدْ كُنْتُ أدْخُلُ على رسول الله كُلّ يَومٍ دَخْلَةً وكُلّ لَيْلَةٍ دَخْلةً ، فَيخليني فيها أدورُ مَعَهُ حَيثُ دَارَ ، وَقَدْ عَلِمَ أصْحابَ رسول اللهه أنّه لَمْ يصنع ذلِكَ بأحد غيري ، فربّما كانَ في بَيْتي يأتيني رسول الله أكثر مِنْ ذلك في بيتي ، وكنت إذا دَخَلْتُ عَليهِ بَعْضَ منازله أخلاني وأقام عنّي نِساءه فلايبقى عنده غَيْري.
  وإذا أتاني للخَلوَةِ مَعي في مَنْزلي ، لَمْ تَقُم عَنّي فاطمة ، ولا أحدٌ مِنْ بَنيَّ ، وَكُنْتُ إذا سألته أجابَني ، وإذا

------------------
(1) الحشر : 7 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 319 _

  سَكَتُّ عَنْه وفُنِيَتْ مَسائِلي ابْتدأني ، فما نَزَلتْ على رسول الله آية من القرآن إلاّ أقْرأنيها وأملاها عَلَيَّ فَكَتَبْتُها بِخَطّي ، وعَلّمْني تأويلها وتَفْسيرها ، وناسخها ومَنْسوخِها ، ومُحْكَمها ومُتَشابهها ، وخاصّها وعامّها ـ إلى أن يقول ـ ولاعلماً أملاه عَلَيَّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولاكتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً ، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملاَ قلبي علماً وفهماً وحكماً ونوراً (1).
  بهذا التقسيم المنهجيّ الموضوعيّ يوقفنا الاِمام عليّ على رأي مدرسة أهل البيت في تلقّي الصحابة ، وواقع روايتهم عن النبيّ ، ومكانته من رسول الله ، ودور قريش في الشريعة. وإليك نصّاً آخر في هذا السياق عن نهج البلاغة ـ والحديث طويل منه: (... فَانظُروا إلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهم ، حِينَ بَعَثَ إليهم رَسُولاً فَعَقَدَ بِمِلّتهِ طَاعَتَهُمْ ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوتِهِ أُلْفَتَهُمْ ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهم جنَاحَ كَرَامَتها ، وَأسَالت لَهُمْ جَدَاولَ نَعِيمهَا ، وَالْتَفَّتِ المْلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائد بَرَكَتها ، فَأصْبحُوا في نِعمتها غَرِقِينَ ، وفِي خُضْرَة عَيْشهَا فَكهينَ ؟! قَدْ تَرَبَّعَتِ الاَُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِرٍ ، وآوَتْهُمُ الحَالُ إلَى كَنفِ عِزٍّ غَالبٍ ، وَتَعطَّفَتِ الاَُمُورُ عَلَيْهِم فِي ذُرَى مُلْكِ ثَابتٍ ، فَهُمْ حُكَّامٌ على العَالَمينَ ، وَمُلُوكٌ فِي أطْرافِ الاَرَضينَ: يَمْلكُونَ الاَُمُورَ علَى مَنْ كَانَ يَمْلكُهَا عَلَيهمْ ، وَيُمْضُونَ الاَحْكَامَ فِيَمْن كَانَ يُمضيها فيهمْ ، لا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ ، وَلاتُقْرَعُ لَهمْ صَفَاةٌ!

------------------
(1) الكافي 1: 62 وكذا في نهج البلاغة ، وكتاب سليم بن قيس.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 320 _

  ألا وَإنَّكمْ قَدْ نَفَضتمْ أيْديَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ ، وَثَلَمْتُمْ حِصْنَاللهِ المَضْرُوبَ عَلَيْكُم بِأَحْكَامِ الجاهليَّةِ ، وإن اللهَ سُبْحَانُه قَدِ امْتنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هِذِه الاَُمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الاَُلْفَةِ الَّتي يَنْتَقلُونَ في ظلِّهَا ، وَيَأْوونَ إلَى كَنَفِهَا ، بِنِعْمَةٍ لا يَعْرفُ أحَدٌ مِنَ المخلُوقين لَهَا قِيمةً ، لاَنّهَا أرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ ، وَأجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.
  واعْلَمُوا أنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الهجرَة أعْرَاباً ، وَبَعْدَ المُوَالاةِ أحْزَاباً ، مَا تَتَعلَّقُونَ مِنَ الاِسْلاَمِ إلاّ بِاسْمِهِ ، ولاتَعِرفُونَ مِنَ الاِيمَانِ إلاّ رسْمَهُ!
  تَقُولُونَ: (النَّارَ وَلا العَارَ) ، كأنَّكُمْ تُرِيدُونَ أنْ تُكفئُوا الاِسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ انْتهِاكاً لحَرِيِمِه ، ونقْضَاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً في أرْضِهِ ، وَأمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ ، وإنَّكُمْ إنْ لَجَأتُمْ إلَى غَيْرهِ حَارَبَكُمْ أهْلُ الكُفْرِ ، ثُمَّ لاَ جَبْرَائِيلُ وَلامِيكَائيِلُ وَلامُهَاجِرُونَ وَلا أنْصَارٌ يَنصُرُونكُمْ ، إلاّ المُقَارَعَةُ بالسَّيْفِ حتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنكُمْ.
  وإنَّ عنْدكُمُ الاَمثَالَ مِنْ بأسِ اللهِ وقَوَارعِهِ ، وَأيّامِهِ وَوَقَائِعِه ، فَلاتَسْتَبْطئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأخْذِهِ ، وَتَهاوُناً بِبَطْشِهِ ، وَيأساً مِنْ بأسِهِ، فإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ القَرْنَ المَاضِي بَيْنَ أيْدِيكُمْ إلاّ لِتَرْكِهِمُ الاَمْرَ بالمعرُوف والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ ، فَلَعَنَاللهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ المَعَاصِي ، وَالحُلَمَاء لَترْك التَّنَاهي.
  وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الاِسْلاَمِ ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ ، وأَمتُّمْ أَحْكَامَهُ ، ألا وَقَدْ أَمَرَنِي اللهُ بِقِتَالِ أهْلِ البَغي والنَّكْثِ والفَسَادِ فِي الاَرْضِ: فَأمَّا النَّاكِثُون فَقَدْ قَاَتلْتُ ، وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ ، وأمَّا المارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ ، وَأمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبهِ ، وَرَجَّةَ صَدْرِهِ وَبَقيتْ بَقِيْةٌ مِنْ أهْلِ البَغْيِ ، وَلَئنْ أَذِنَ اللهُ فِي الكَرَّة عَلَيْهم لاَُدِيلنَّ

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 321 _

  مِنْهم إلاّ مَا يَتَشَذَّرُ في أطْرَافِ البِلادِ تَشَذُّراً.
  أنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلاَكِلِ العَرَبِ ، وَكَسَرْتُ نَوَاجمِ قُرونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ ، وقدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رسول اللهللهِ( بِالقَرَابِةِ القَرِيَبةِ وَالَمنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ ، وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وأَنَا وَلَدٌ ، يَضُمُّني إلَى صَدْرِهِ ، وَيَكْنفُنِي فِي فِرَاشِهِ ، وَيُمسُّنِي جَسَدَهُ ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ ، وَكَاَن يَمْضُغُ الشَّيء ثُمَّ يُلْقِمُنِيِه ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ، وَلا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ ، وَلقَدْ قَرَنَاللهُ بِهِ صلى الله عليه وآله ، مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِه، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المْكَارِمِ ، وَمَحَاسِنِ أخْلاَقِ الْعَالَمِ ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أثَرَ أُمّهِ ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أخْلاَقِه عَلَماً ، وَيَأْمُرُني بالاقْتدَاء بِه ، وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحرَاء ، فَأرَاهُ وَلا يَرَاهُ غَيْري ، وَلَمْيُجْمَعْ بَيْتٌ واحِدٌ يَوْمَئذٍ فِي الاِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُوِل الله صلى الله عليه وآله ، وَخَدِيَجةَ ، وَأنَا ثَالِثُهُمَا ، أرَى نُورَ الوَحْي والرِّسَالَةِ ، وأشُمُّ رِيحَ النُّبُوُّةِ.
  وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَان حِينَ نَزَلَ الوَحْيُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا هذِهِ الرَّنَّةُ ؟ فَقَالَ : (هذَا الشَّيْطَانُ أيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ ، إنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ ، وَتَرَىمَا أرَى ، إلاّ أنّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ ، وَلكنّكَ وَزِيرٌ ، وَإنّكَ لَعَلَى خَيْرٍ).
  وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلى الله عليه وآله ، لَمَّا أتَاهُ المَلاَُ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمّدُ ، إنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آباؤُكَ وَلاَأَحَدٌ مِنْ بَيْتكَ ، وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إنْ [أَنْتَج أجَبْتَنَا إلَيْه وَأرَيْتَنَاهُ عَلمنَا أنَّكَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ ، وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ .
  فَقَالَ صلى الله عليه وآله : وَمَا تَسْأَلُونَ ؟ قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هِذِه الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقهَا وَتَقفَ بَيْنَ يَدَيْكَ .
  فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّ اللهَ

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 322 _

  عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ ، فَإنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ ذلِكَ أتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالحَقِّ ؟ قَالُوا: نَعَمْ ، قَالَ: فَإنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ ، وَإنِّي لاَعْلَمُ أنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ إلى خَيْرِ ، وإنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطرَحُ فِي القَليب ، وَمَنْ يُحَزِّبُ الاَحْزَابَ ، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآله : ياأيَّتُهَا الشَّجَرَةُ! إنْ كُنتِ تُؤمنِينَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ وَتَعْلمين أنِّي رسول اللهللهِ فَانْقَلعِي بِعُرُوِقك حَتَّى تَقِفي بَيْنَ يَدَيَّ بإذْنِ اللهِ ، وَالَّذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لاَنْقَلَعتْ بِعُرُوقهَا وَجَاءَتْ وَلَها دَوِيٌّ شَدِيدٌ ، وَقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَة الطَّيْرِ ، حَتَّى وَقَفَتْ بين يديْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مُرَفْرفَةً ، وألْقَتْ بِغُصنَها الاَعْلَى عَلَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وَبِبَعْضِ أغْصَانِهَا عَلَىمَنْكبِيِ وَكنْتُ عَنْ يَميِنِه صلى الله عليه وآله وسلم ، فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إلَىذلكَ قَالوُا عُلُوَّاً وَاُسْتكْبَاراً: فَمُرْها فَلْيأتِكَ نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا ، فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأقْبَلَ إلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إقْبَالٍ وَأَشَدِّهِ دَوِيِّاً ، فَكَادَتْ تَلتَفُّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقَالُوا كُفْراً وَعُتُوَّاً: فَمُرْ هَذا النِّصْفَ فَلْيرْجِعِ إلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ ، فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَرَجَعَ ، فَقُلْتُ أَنَا: لاَإلهَإلاَّاللهُ ، فَإنِّي أوَّلُ مُؤْمِن بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، وَأوَّلُ مَنْ أقَرَّ بأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالى تَصْديقاً بِنُبُوَّتِكَ وَإجْلاَلاً لِكَلِمَتكَ ، فَقَالَ القَوْمُ كُلُّهُمِّ : بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ! عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فيهِ ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ في أَمْرِكَ إلاّ مِثُلُ هذَا ؟! (يَعْنُونَني) وَإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لاَتَأُخُذُهُمْ في اللهِ لَوْمَةُ لاَئمٍ : سِيماهم سيماءُ الصِّدِّيقينَ ، وَكَلامُهُمْ كَلاَمُ الاَبْرَارِ ، عُمَّارُ اللَّيْلِ وَمَنَارُ النَّهارِ ، مُتَمَسِّكُوَن بِحَبْلِ الْقُرآنَ ، يُحْيُونَ سُنَنَاللهِ وَسُنَنَ رَسُولِهِ ، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَ يَعْلُونَ وَلاَيَغُلُّونَ ، وَلاَيُفْسِدُونَ : قُلُوبُهُمْ في الجْنَانِ ، وَأجْسادُهُمْ في العْمََلِ (1)
  نعم لقد وصل الاَمر بالاَُمّة إلى هذا الحدّ ، وهو كما قال الدهلويّ في

------------------
(1) نهج البلاغة .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 323 _

  رسالته: (ولمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولّوها بغيراستحقاق ولااستقلال بعلم الفتاوى والاَحكام ، فاضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم ، وكان بقي من العلماء من الطراز الاَوّل ، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا ، فرأى أهل تلك الاَعصار غيرالعلماء إقبال الاَُمّة عليهم مع إعراضهم ، فاشتروا طلب العلم توصّلاً إلى نيل العزّ ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين ، وبعد أن كانوا أعزّة بالاِعراض عن السلاطين أذلّة بالاِقبال عليهم ، إلاّ من وفّقه الله...) (1)

------------------
(1) رسالة الاِنصاف .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 324 _

  كان النبيّ (ص) يتخوّف من سلطة القبليّة في الشريعة ، والتي نهى عنها القرآن الكريم.
  وكان رسول الله (ص) يؤكّد أنّ عليّ بن أبي طالب هو الوحيد الذي يعرِف تفسير وتأويل الآيات والاَحاديث كلّها ، وأنّه بعيد عن الروح القبليّة والآراء الارتجاليّة.
  روى ربعيّ عن عليّ أنّه قال : لمّا كان يوم الحديبيّة خرج إلينا ناس من المشركين ، فيهم سُهيل بن عمرو وأُناس من رؤساء المشركين ، فقالوا: يارسول الله! خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأقاربنا وليسلهم فقه في الدين ، وإنّما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا ، فاردُدْهم إلينا.
  قال رسول الله: فإنْ لم يكن لهم فقه في الدين سنفقّههم ، يامعشر قريش! لتنتَهُنَّ أو ليبعثنّ عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن الله قلبه للاِيمان.
  قالوا : من هو يا رسول الله ؟ وقال أبو بكر : من هو يا رسول الله ؟ وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟
  قال : هو خاصف النعل ، وكان قد أعطى عليّاً نعله يَخْصِفها (1).
  والنصوص الحديثيّة والتاريخيّة تؤكّد أنّ الرسول (ص) كان يعلم أنّ الخلاف بين أُمّته من بعده واقع لا محالة ، إذ أخبره جبرئيل بذلك ، فعنه (ص): أتاني جبرائيل فقال: يا محمّد! أُمّتك مختلفة من بعدك (2).
  وأخرج الحكيم الترمذيّ عن عمر بن الخطّاب ، قال : أتاني جبرئيل آنفاً ، فقال : أتاني رسول الله (ص) وأنا أعرف الحزن في وجهه فأخذ بلحيتي ، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أتاني جبرئيل آنفاً ، فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، قلت : أجل ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فَمِمَّ ذلك يا جبرئيل ؟ فقال : إنَّ أُمَّتك مفتتنة

------------------
(1) كنز العمّال 13: 173|36518 و 107|36351 و 115|36372.
(2) الفتح الربّانيّ : 1 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 325 _

  بعدك بقليل من الدهر غير كثير.
  قلت : فتنة كفر أو فتنة ضلالة.
  قال : كلّ ذلك سيكون .
  قلت : ومن أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله.
  قال : بكتاب الله يضلّون ، وأوّل ذلك من قبل قرَّائهم وأُمرائهم ، يمنع الاَُمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون ، وتتّبع القرّاء أهواء الاَُمراء فيمدّونهم في الغيّ ثمّ لا يقصرون .
  قلت : يا جبرئيل ، فَبِمَ يسلم من سلم منهم .
  قال : بالكفِّ والصبر ، إن أُعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه (1).
إن ابتلاء الاَُمّة وامتحانها كان يدور مدار أخذهم بأقوال أهل بيت الرسول وعدمه ، فعن خالد بن عرفطة قال ، قال رسول الله: إنّكم ستُبْتَلَون في أهل بيتي من بعدي (2).
  أو قوله في حديث الثقلين: ... أيّها الناس! إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسولٌ إلَيَّ فأُجيب ، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين ، أوّلهما: كتاب الله ، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثِّ على كتاب الله ورغّب فيه. ثمّ قال: وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي .
  وجاء عنه (ص): (لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه ، وأهلي أحبّ إليه من أهله ، وعترتي أحبّ إليه من عترته ، وذرّيّتي أحبّ إليه من ذرّيّته) (3).
  وكذا قوله (... وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتّى يرِدا عَلَيّ الحوض ،

------------------
(1) انظر الدرّ المنثور للسيوطيّ 3 : 155 عن الترمذيّ .
(2) كنز العمّال 11: 124|30877.
(3) كنز العمّال 1: 41|93.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 326 _

  فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (1).
  وقد علّق صاحب (الفتح الربّانيّ) على الحديث السابق بقوله:...أي إن ائتمرتم بأوامر كتابه وانتهيتم بنواهيه واهتديتم بهدى عترته واقتديتم بسيرته ، اهتديتم فلم تضلّوا (2).
  وفي (تحفة الاَحوذيّ) عند شرحه لقوله(ص): (فانظروا كيف تخلفوني فيهما): النظر بمعنى التأمّل والتفكّر ، أي تأمّلوا واستعملوا الرويّة في استخلافي إيّاكم ، هل تكونون خَلَف صِدْق أو خَلَف سوء (3)؟!
  وقال الزرقانيّ في (شرح المواهب):
  أمّا الكتاب ، فلاَنّه معدِن العلوم الدينيّة والاَسرار والحِكَم الشرعيّة ، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق.
  وأمّا العترة فلاَنّ العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين، فطيِب العنصر يؤدّي إلى حسن الاَخلاق ، ومحاسنها تؤدّي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته ، لهذا أكّد رسول الله في عدّة مواطن على لزوم اتّباع أهل بيته وأنّهم أولى الناس برعاية شؤون الاَُمّة ، ولهذا جعل مَثَلهم كَمَثل سفينة نوح ، مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق (4).
  وقال صاحب (التاج الجامع للاَُصول) في شرح الحديث السابق: يقول النبيّ: أحسِنوا خلافتي فيهما باحترامهما والعمل بكتاب الله وما يراه أهل العلم من آل البيت أكثر من غيرهم (5).
  وقال النوويّ وهو يعلّق على الثقلين: سمّي ثقلين لعِظَمهما وكِبَر شأنهما ، وقيل لثقل العمل بهما (6).

------------------
(1) مجمع الزوائد 9: 193 ، الفتح الربّانيّ 22: 105 ، كنز العمّال 1: 173|873.
(2) الفتح الربّانيّ في ترتيب مسند أحمد 22: 104.
(3) تحفة الاَحوذيّ في شرح جامع الترمذيّ 10: 290.
(4) شرح المواهب 2: 8.
(5) التاج الجامع للاَُّصول 1: 48.
(6) النووي شرح مسلم 15: 189 كتاب الفضائل| فضائل عليّ.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 327 _

  وقال الحسين بن محمّد بن عبد الله الطيبيّ في (الكاشف عن حقائق السنّة النبويّة): قوله (ص): (إنّي تارك فيكم) إشارة إلى أنّهما بمنزلة التوأمين الخَلَفين عن رسول الله (ص) (1).
  وقال نور الدين السمهوديّ في (جواهر العقدين): ...والحاصل أنّه لمّا كان كلّ من القرآن العظيم والعترة الطاهرة معدِناً للعلوم الدينيّة والاَسرار والحكم النفسيّة الشرعيّة وكنوز دقائقها واستخراج حقائقها أطلق (ص) عليهما الثقلين ، ويرشد لذلك حثّه في بعض الطرق السالفة على الاقتداء والتمسّك والتعلم من أهل بيته (2).
  وقال ابن حجر في (الصواعق): (سمّى رسولُ الله القرآنَ وعترتَه الثّقلين ،   لاَنّ الثقل كلُّ نفيس خطير مَصُون ، وهذان كذلك، إذ كلّ منهما معدن للعلوم اللدنيّة ، والاَسرار والحكم العلّيّة ، والاَحكام الشرعيّة ، ولذا حثّ(ص) على الاقتداء والتمسّك بهم ، والتعلّم منهم ، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهلَ البيت ، وقيل: سُمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما .
  وقال الاَزهريّ في (تهذيب اللغة) وابن منظور في (لسان العرب) والزَّبيديّ في (تاج العروس) وابن الاَثير في نهايته والسيوطيّ في (الدرّ المنثور) وغيرهم في شرح الحديث: سُمّيا ثقلين لاَنّ الاَخذ بهما ثقيل ، والعمل بهما ثقيل .
  وقال شهاب الدين الخفاجيّ في (نسيم الرياض) وهو يعدّد الاَقوال في تفسير حديث الثقلين: والثقلين ، تثنية الثقل ، وهو ما يثقل ضدّ الخفّة ، وهما الاِنس والجانّ.
  فسمّاهما ثقلين تعظيماً لشأنهما ، وإنّ عمارة الدين بهما ، كما تَعْمُر الدنيا بالاِنس والجنّ ، ولرجحان قدرهما ، لاَنّ الرجحان في الميزان بثقل ما فيها ، أو لاَنّه يثقل رعاية حقوقهما .

------------------
(1) جامع أحاديث الشيعة (المقدّمة) 1: 79 ـ 83عنه.
(2) الصواعق المحرقة .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 328 _

  السابع: كون كلّ منهما مصوناً عن الخطأ والخطل وعن السهو والزلل وطهارتها عن الدنس والرجس وعن الباطل والكذب ، ويؤيّده بعض فقرات الحديث ويناسبه المعنى اللغويّ ، لاَنّ الثقل في اللغة كما تقدّم الشيء النفيس المصون.
  أمّا طهارة الكتاب المبين وصيانته عمّا ذكره فمعلوم ، فإنّه من عند الله العليم ، وهو لديه لَعليّ حكيم فلايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
  وأمّا طهارة العترة الطيّبة فبما أذهب اللهُ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، لايقولون الباطل ولا يعملونه ولايأمرون به ، وهم الصادقون الذين أمر الله المؤمنين أن يكونوا معهم ، فلولا ذلك لم يجعلهم أقران الكتاب ، فإنّه لا يمسّه إلاّ المطهرون (1).
  ولابن حجر المكّيّ بعد نقله دعاءً من الاِمام السجّاد كلام في (الصواعق) قال: فإلى من يفزع خلف هذه الاَُمّة وقد دَرَست أعلام هذه الملّة ودانت الاَُمّة بالفُرقة والاختلاف ، يكفّر بعضهم بعضاً والله يقول (وَلاتَكُونوا كالِّذينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَائَهمُ البَيِّناتُ) (2)؟! فمَن الموقوف به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكم إلاّ أعدال الكتاب وأبناء أئمّة الهدى ومصابيح الدجى ، الذين احتجّ الله بهم على عباده ولم يَدَع الخلقَ سُدى من غيرحجّة ؟! هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجسَ وطهّرهم تطهيرا وبرّأهم من الآفات وافترض مودّتهم في الكتاب (3)؟! لقد استبان بما سبق أنّ رسول الله كان يعني بتأكيده على العترة هو الاَخذ

------------------
(1) جامع أحاديث الشيعة 1: 83 عن نسيم الرياض 3: 409.
(2) آل عمران : 105 .
(3) جامع أحاديث الشيعة 1: 84 عن الصواعق: 150.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 329 _

  عنهم في العقيدة والفقه وفي كلّ مجالات الحياة ، لاَنّهم آله وذرّيّته العارفون بسنّته ، وكان يتخوّف من عاقبة الاَُمّة وانحرافها عن طريقه وسنّته ، لاَنّ الخلافة وما تتلوها من أُمور العصبيّة والقبليّة ستؤثّر ـ لا محالة ـ على الاَحكام ، وتبعد الناس عن أهل البيت وبالتالي يكون الابتعاد عن المصدر الصحيح للتشريع الاِسلاميّ ـ السنّة النبويّة ـ ، كما حدَث بالفعل ، وهذا هو بعينه ما كان يتخوّف منه رسول الله (ص) على أُمّته.
  ولو أمعنت النظر في نصوص النبيّ والاَئمّة من ولده لرأيت التأكيد على جملة (الضلال) ، التي تعني الابتعاد عن جادّة الصراط.
  ففي يوم الخميس قال: (ائتوني بدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً).
  وقوله في حجّة الوداع: (...ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا) ، وقوله لمّا أتى إليه عمر بجوامع من التوراة : والذي نفسي بيده ، لو أنّ موسى أصبح فيكم ثمّ اتبعتموه وتركتموني لضللتم) (1)وغيرها ، وقد جاء هذا المفهوم في كلام أهل بيته ، وعن ابنته فاطمة الزهراء صريحاً في خطبها وكلماتها.
  وقد قال الشيخ محمّد الحنفيّ في شرح الجامع الصغير ، وفي حاشية شرح العزيزيّ 2:417 ، وحديث العيبة (عيبة علميّ) أي وعاء علمي الحافظّ له ، فإنَّه مدينة العلم ، ولذا كانت الصحابة تحتاج إليه في تلك المشكلات ، ولذا كان يسأله سيّدنا معاوية في زمن الواقعة عن المشكلات فيجيبه فتقول له الجماعة: ما لك تجيب عدوّنا ؟ فيقول: أما يكفيكم أنّه يحتاج إلينا ؟
  ووقع له فكّ مشكلات مع سيّدنا عمر ، فقال: ما أبقاني الله أن أدرك قوماً ليسفيهم أبو الحسن ، أو كما قال ، فقد طلب أن لا يعيش بعده ، ثمّ ذكر قضايا فيها حديث اللطم والذي أخرجه الطبريّ في الرياض النضرة.
  وقال المناويّ في فيض القدير 4:356 عن حديث العيبة: والعيبة ما

------------------
(1) الاَسماء المبهمة للخطيب: 8 ـ 189 رقم (95) ، مجمع الزوائد 1: 74 ، وجمع الفوائد 12: 30 ، المصنّف لعبد الرزّاق 10: 313 ، دلائل النبوّة لاَبي نعيم 1: 50 ، أُسد الغابة 3: 127.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 330 _

  يحرز الرجل فيه نفائسه ، قال ابن دريد: وهذا من كلامه الموجز الذي لميسبق ضرب المثل به في إرادة اختصاصه بأُموره الباطنيّة التي لايطّلع عليها أحد غيره ، وذلك غاية في مدح عليّ.
  وعليه فقد اتّضح لك بعض أُصول الاختلاف بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الخلفاء ، وأنّ الاَُصول الفكريّة كانت الخلاف الكبير بينهما ، وأنّ العترة طلبوا الخلافة لكي يحقّقوا أهداف الشريعة وسنّة رسول الله (ص) ، إذ الخلافة في نفسها ليس لها أدنى سبيل إلى نفوسهم وليس لهم أدنى ميل إليها ، قال ابن عبّاس: دخلت على أمير المؤمنين عليّ (ع) بذي قار ، وهو يخصِف نَعْله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت: لا قيمة لها ، فقال (ع): (والله لَهِيَ أحبُّ إليّ من إمرتكم ، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً )(1).
  هذا ، وأنّ العترة من أهل البيت لا يرتضون العمل بما يُنقل عنهم إلاّ بعد عرضه على الكتاب ، فإن وافقَ القرآن وأحرز تطابقه معه يؤخذ به ، وإن خالفه يُطرح ويُضرب به عرض الحائط ـ حسب تعبيرهم ـ كلّ ذلك حرصاً منهم على إيضاح الضوابط التي يؤخذ أو يردّ على أساسها الحديث ، وليس حسن الظنّ بالصحابة وما شاكله من الاَُمور التي يمكن الاعتماد عليها وبناء الشريعة وفقهها مع ما قدّمنا من أُمور وأدلّة.
  وهذا هو معنى الوحدويّة في الفكر والاَُصول ، فكلام العترة يفسّر القرآن ، والقرآن يشيد بطهارة العترة ،فـ (عليٌّ مع القرآن ، والقرآنُ مع عليّ) وأنّك لاترى في كلام العترة تخالفاً مع القرآن وكذا العكس!
  وهذا بعكس فقه الخلفاء الذين لم يرتضوا عرض فقه الرجال على القرآن ، وربّما كانوا يعدّون ذلك من عمل الزنادقة (2)! لمعرفتهم بوجود تبايُن ـ في كثير من الاَحيان بين القرآن واجتهادات الصحابة ، بل يجعلون فقه الصحابة وعملهم مخصِّصاً حتّى للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الريب حبّاً أعمى ،

------------------
(1) نهج البلاغة: 76|الخطبة 33.
(2) قد مرّ عليك كلام ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله ، وراجع مقدّمة مصنّف ابن أبي شيبة.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 331 _

  إذ قال الشيخ محمّد أبو زهرة: (إنَّ الاَحناف والحنابلة اعتبروا عمل الصحابيّ مخصّصاً لكتاب ، معلّلين بأنَّ الصحابيّ العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب إلاّ لدليل فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلاً على التخصيص وإنَّ قوله بمنزلة عمله) (1) ، وهذا من أعجب العجب.

  عقيب ما قدّمنا لا يمكننا إلاّ التصريح بدور الخليفة عمر بن الخطّاب في تحكيم فقه الاَمويّين ، لاَنّه ثبّت مواطىَ أقدامهم بإمضائه إمارة الشام لمعاوية بعد أخيه يزيد ، واقتراحه على أبي بكر بأن يترك ما بيد أبي سفيان من الصدقات ليضمن ولاءَهُ ، وأن يعيّن ابنه يزيد بن أبي سفيان قائداً لجيش الشام ، وقوله عن معاوية : تذكرون كسرى وعندكم معاوية (2) ، أو قوله لما ذُكر معاوية عند عمر ما مضمونه: دعوا فتى قريش وابن سيّدها ، إنّه لمن يضحك في الغضب ولاينال منه إلاّ على الرضا ، ومن لا يؤخذ ما فوق رأسه إلاّ من تحت قدميه (3).
  والنصوص الاَُخرى التي تؤكّد على أنّ معاوية لمّا ولّي جاءته رسالة من أبيه وأُخرى من أُمّه ، قال له أبوه فيها: يا بنيّ! إنّ هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا فرفعهم سبقهم وقصُر بنا تأخيرنا ، فصاروا قادة وسادة ، وصرنا أتباعاً ، وقد ولّوك جسيماً من أُمورهم فلا تخالفهم ، فإنّك تجري إلى أمد ، فنافِس فإنْ بلغته أورثته عقلك!
  وقالت له أُمّه في رسالتها: والله يا بنيّ ، إنّه قلّ أنْ تَلِدَ حرّةٌ مثلك ، وإنّ هذا الرجل (أي عمر) قد استنهضك في هذا الاَمر ، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت (4)؟.
  وجاء ، فيما دار بين معاوية وعمر لمّا قدِم الشامَ ، قول معاوية لعمر:

------------------
(1) أبو حنيفة ، لاَبي زهرة : 304 .
(2) الطبريّ 6: 184 ، الاستيعاب 3|396 ط جديد.
(3) كنز العمّال 13: 587 ، البداية والنهاية 8: 125 ، الاستيعاب 8: 397.
(4) البداية والنهاية 8: 118.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 332 _

  فَمُرْني يا أمير المؤمنين بما شئت ، فقال: لا آمرك ولا أنهاك (1).
  بهذه السياسة: (مُرْني أمتثل) و(علّمني أمتثل) استطاع معاوية أن يستولي على قلب الخليفة عمر بن الخطّاب ، وقد كان عمر قد ولّى جمعاً من بني أُميّة على بعض الولايات ، فولّى عمرو بن العاص فلسطين والاَُردن ، وولّى الوليدبن عقبة صدقات بني تغلب ، وكان من المقرّبين إليه (2).
  وولّى يعلى بن منبّه على بعض بلاد اليمن (3) ، وجعل المغيرةبن شعبة أميراً على الكوفة ، وولّى عبدَاللهبن أبي سرح ـ أخا عثمان من الرضاعة ـ علىصعيد مصر ـ وفي عهد عثمان ضمّت إليه مصر كلّها ـ.
  إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد اعتمد على نحو واضح على الاَمويّين في توليته الولايات والاَعمال ، وفي الوقت نفسه أعرض عن تولية بني هاشم وكما صرّح هو نفسه لابن عبّاس ـ لمّا أراد توليته على حمص بعد موت واليها ـ فقال له:
  يا ابن عبّاس ! إنّي خشيت أن يأتي عَلَيّ الذي هو آت (أي الموت) وأنت على عملك فتقول: هلمَّ إلينا ولا هلمّ إليكم دون غيركم (4).
  ونحوه تصريح ابن عوف لعليّ ـ وفيه تطبيق لسياسة الشيخين ـ: أُبايعك على شرط أن لا تجعل أحداً من بني هاشم على رقاب الناس.
  ولمّا كثرت الاعتراضات على الخليفة لتوليته معاوية الشام ، قال للناس: لاتذكروا معاوية إلاّ بخير ، فإنّي سمعت رسول الله يقول: اللّهمّ اهدِه (5).
  ولا أدري هل كان هذا الحديث قد وضع من قبل الاَمويّين لتصحيح ما صدر عن معاوية أيّام ولايته وملوكيّته ؟ أم أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب أراد دفع اعتراض الناس بقوله ذلك ؟ وهل طلب الهداية من ربّ العالمين يتّفق مع ما

------------------
(1) الطبريّ 6: 184 ، البداية والنهاية 8: 125.
(2) الطبريّ 5: 59 ، البداية والنهاية 8: 214.
(3) الاستيعاب 3: 664.
(4) مروج الذهب 2: 353 454.
(5) البداية والنهاية 8: 123.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 333 _

  جاء عن النبيّ (ص) في لعنه ولعن أبيه وأخيه ؟ وعلى كلّ حال فإنَّ معاوية استفاد من دعم عمر له لتقوية مكانته ، ويؤيّد ذلك قوله لصعصعةبن صوحان: إنّ لي في الاِسلام لقدماً وإن كان غيري أحسن قدماً مني لكنّه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب ، فلو كان غيري أقوى منّي لم يكن عند عمر هوادة لي ولغيري ، ولا حدث ما ينبغي له أن اعتزل عملي ، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلَيَّ فاعتزلت عمله ، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلاّ وهو خير فمهلاً فإنّ دون ما أنتم فيه وما...).
  وقوله لمحمّد بن أبي بكر لمّا كتب إليه برسالة يذكر فيها فضائل عليّ ، منها قوله : ...فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعليّ وهو وارث رسول الله ووصيّه وأبو ولده وأوّل الناس اتّباعاً وأقربهم به عهداً ...) إلى آخره.
  فكتب إليه جواباً على رسالته (... فكان احتجاجك عَلَيّ وفخرك بفضل غيرك لابفضلك ، فاحمد الله ربّاً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك.
  قد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نعرف حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا وفضله مميّزاً علينا ، فلمّا اختار الله نبيّه ما عنده ، وأتمّ له وعده ، وأظهر دعوته ، وأبلج حجّته ، وقبضه الله إليه ، كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه ، وخالفه على أمره على ذلك اتّفقا واتّسقا ـ إلى أن يقول:
  أبوك مهّد له مهاده ، وبيّن ملكه وشاده ، فإن يك ما نحن فيه صواباً ، فأبوك أوّله ، وإن يكن جوراً فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه ، فبهديه أخذنا ، وبفعله اقتدينا ، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، ولسلّمنا إليه ، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فاحتذينا مثاله ، واقتدينا بفعاله ، فعب أباك بما بدا لك أو دع والسلام على من أناب ورجع من غوايته وتاب (1).
  وجاء في رسالة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان إلى ابن عمر ، لمّا اعترض عليه في قتله الحسين بن عليّ نحوه .

------------------
(1) جمهرة رسائل العرب 1: 477 عن مروج الذهب 2: 600 ، شرح النهج 1: 284.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 334 _

  فهذا كلّه يؤكّد دور الخليفة عمر بن الخطّاب في تقوية فقه الاَمويّين من خلال فسح المجال لعثمان ومعاوية وأمثالهما من النهج المخالف لنهج التعبّد المحض ، لكي يبنوا فقهاً جديداً وأُسساً مستحدثة في التشريع الاِسلاميّ.
  مع حجّيّة قول الصحابيّ :
  قال الاِمام الغزاليّ في (المستصفى) ، في معرض حديثه عن حجّيّة قول الصحابيّ ، بعد أن أورد الآراء فيها ، وإنّ البعض ذهب إلى أنّ مذهب الصحابيّ حجّة مطلقاً ، وذهب آخرون إلى أنّه حجّة وإن خالف القياس ، وثالث قال إنّه حجّة إذا كان من أقوال أبي بكر وعمر خاصّة ، لقوله (ص): (اقتدُوا بالذين من بعدي) ورابع: قال إنّه حجّة في قول الخلفاء الراشدين ، إن اتّفقوا؟ ثمّ عمد الغزاليّ لتفنيد الاَقوال جميعاً ، فقال:
  إنّ من يجوز عليه الغلط والسهو ، ولم تثبت عصمته فلا حجّة في قوله ، فكيف يُحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ ؟!
  وكيف يُدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة ؟! وكيف يُتصوّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف ؟!
  وكيف يختلف المعصومان ؟! كيف ، وقد اتّفقت الصحابة على مخالفة رأي الصحابة؟! فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتّبع اجتهاد نفسه ، فانتفاء الاَدلّة على العصمة ، ووقوع الاختلاف بينهم ، وتصريحهم بجواز مخالفتهم ، فيه ، ثلاثة أدلّة قاطعة.
  وقال الاَُستاذ أبو زهرة: والحقّ أنّ قول الصحابيّ ليس بحجّة ، فإنّ الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الاَُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً (ص) ، وليس لنا إلاّ رسول واحد.
  والصحابة من بعده مكلّفون على السواء باتّباع شرعه في الكتاب والسنّة ، فمن قال بأنّه تقوم الحجّة في دين الله لغيرهما فقد قال في دين الله ما لايثبت ،

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 335 _

  وأثبت شرعاً ما لم يأمر الله به (1).
  وللدكتور حسين الحاجّ حسن كلام طريف بهذا الصدد ، نصّه:
  فصحابة النبيّ بشر مثل غيرهم من الناس ، والدنيا ومباهجها تغري بعضهم ، وتؤثّر في سلوكهم القيم الاجتماعيّة ، والذي قال : إنّهم ملائكة معصومون من الذنوب فهو ... ، إلى أن يقول:
  فمن سوء حظّ أبي جهل أنّه قُتل في معركة بدر في صفّ المشركين ، ولو أنّ الصدفة ساعدته كما ساعدت غيره فنجا من تلك المعركة ، ثمّ بقي إلى يوم الفتح فأسلم ، لصار من عداد الصحابة أو القوّاد الذين ادّعوا أنّهم رفعوا راية الاِسلام.
  إنّها مسألة صدفة ، والصدفة تلعب بمقدّرات الرجال لعباً هائلاً .
  وهذا أمر نشاهد مصداقه يجري أمام أعيننا كلّ يوم ، إذ نرى الكثير من أمثال أبي جهل أوصلتهم الصدف إلى أعلى المراتب ، والمحدِّثون والاِخباريّون من حولهم يحيطونهم بهالة من العظمة... (2).
  وقال ابن حزم بعد نقله قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمنّا باللهِ وبالرسولِ وأطَعْنا ثُمّ يتولّى فريقٌ منهم مِن بعدِ ذلك وما أولئكَ بالمُؤمنين* وإذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ ليحكمَ بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضُون* وإن يَكُنْ لَهُمُ الحقُّ يأتُوا إليِه مُذْعِنين* أفي قُلوبِهم مَرَضٌ أم ارتابوا أم يَخافون أن يَحيفَ اللهُ عليهم ورسولهُ ، بل أولئك هُمُ الظالمون* إنّما كانَ قولَ المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُم أن يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأُولئك هُمُ المُفْلِحون* ومَن يُطِع اللهَ ورسولَه ويَخْشَ اللهَ ويَتَّقْهِ فأُولئكَ هُمُ الفائزون* وأقْسَمُوا باللهِ جَهْدَ أيْمانِهمْ لَئن أمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنّ قُلْ لا تُقْسموا طاعةٌ معروفةٌ إنّ الله خبيرٌ بما تعملون* قُلْ أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرّسُول ، فإن تَوَلِّوا فإنّما عليهِ ما حُمِّلَ وعليكم ما حُمِّلْتُم وإنْ تُطيعوه تَهْتَدوا وما على الرّسُولِ إلاّ البلاغُ المُبِينُ) (3):
  قال عليّ: هذه الآيات محكمات لم تَدَع لاَحد علقة

------------------
(1) ص 102.
(2) نقد الحديث للدكتور حسين الحاجّ حسن 1: 351 ـ 350.
(3) سورة النور: 47 ـ 54.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 336 _

  يشغب بها ، قد بيّن الله فيها صفَة فعل أهل زماننا، فإنّهم يقولون : نحن المؤمنون بالله ورسوله ، ونحن طائعون لهما ، ثمّ يتولّى طائفة منهم بعد هذا الاِقرار ، فيخالفون ما وردهم عن الله عزّ وجلّ ورسوله (ص)! أُولئك بنصّ حُكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين. وإذا دُعُوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول يخالف كلّ ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك ، فِمن قائل : ليس عليه العمل ، ومن قائل : هذا خصوص ، ومن قائل : هذا متروك ، ومن قائل : أبى هذا فلان ، ومن قائل: القياس غير هذا .
  حتّى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئاً يوافق ما قلّدوا فيه طاروا به كلّ مَطار ، وأتوا إليه مذعنين كما وصف إليه حرفاً حرفاً ، فيا ويلهم ما بالهم ؟! أفي قلوبهم مرض وريب ؟! أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله (ص) ؟! ألا إنّهم هُمُ الظالمون ، كما سمّاهم الله ربّ العالمين ، فبعداً للقوم الظالمين (1)!
  ثمّ عَمَد ابن حزم ليبرّر ما فعله كبار الصحابة في مخالفاتهم لحديث رسول الله ، وعدَّها مدخولة عليهم ، لما رسم في نفسه من هالة لاَُولئك الرجال ، فقال : وقال أبو محمّد : وقد قال بعضهم: قد صحّ ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير ممّا بلغهم من حديث النبيّ (ص) ، فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مُْسَتْخِفّيِنَ به ، وهذا كفر من فاعله ، أو يكونوا تركوه لفضلِ علمٍ كان عندهم ، فهذا أولى أن يُظنّ بهم.
  قال عليّ: وهذا يبطل من وجوه ، أحدها أنّه لو قال قائل : لعلّ الحديث تركه من تركه منهم فيه داخلة ، قيل له : ولعلّ الرواية التي رويت بأنّ فلاناً الصاحب ترك حديثاً كذا

------------------
(1) الاِحكام في أُصول الاَحكام 1: 100 ـ 101.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 337 _

  هي المدخولة ، وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبيّ (ص) أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها ، وأيضاً فإنّ قوماً منهم تركوا بعض الحديث ، وقوماً منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء.
  وفلان فرّق بين من قال : لابدّ من أنّه كان عند من تركه علمٌ من أجله تركه ، وبين من قال : لابُدّ من أنّه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به .
  وكلّ دعوى عَرِيتْ من برهان فهي ساقطة ، وقد قدّمنا أنّه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحقّ ، سواء تركه مخطئاً معذوراً ، أو تركه عاصياً موزوراً ، ولاتكترث بمن عمل به كائناً من كان ، وسواء عمل به أو تركه وفرض على كلّ من سمعه أن تعمل به على كلّ حال.
  وأيضاً فإنّ الاَحاديث التي روي أنّه تركها بعض من سلف ليست ـ في أكثر الاَمر ـ التي ترك هؤلاء المحتجّون بترك من سلف لما تركوا منها ، بل ترك هؤلاء ما أخذ به أُولئك ، وأخذ هؤلاء بما تركه أُولئك ، فلا حجّة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث ، لاَنّهم أوّل مخالف لهم في ذلك ، وأوّل مبطل لذلك الترك ، ولا أسوأ من احتجاج امرىَ بما يبطل على من لا يحقّق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتجّ به له أو أشدّ.
  وأيضاً : فلو صحّ ما افترَوه ، من أنّه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علمٌ من أجله ترك ما ترك من الحديث ونعوذ بالله العظيم من ذلك ، ونعيذ كلّ من يظنّ به خيراً من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الاَُمّة المقدّسة لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعوناً بلعنة الله عزّ وجلّ. قال الله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنِ البيّناتِ والهُدَى مِن بعدِ ما بَيَّناهُ

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 338 _

  للنّاسِ في الكِتابِ أُولئِكَ يلْعَنُهُم اللهُ ويَلْعَنُهمُ اللاّعِنُون) (1) فنحن نقول: لعن الله كلّ من كان عنده علم من الله تعالى ورسوله( وكتمه عن الناس كائناً من كان.
  ومن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم فقد نسبهم إلى الاِدخال في الدين وكيد الشريعة ، وهذا أشدّ ما يكون من الكفر.
  وقد عارضت بنحو من هذا الكلام الليثبن حرفش العبديّ في مجلس القاضي عبدالرحمن بن أحمد ابن بشر ، وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيّين ، فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة ، بل صمتوا كلّهم ، إلاّ قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي ، وذلك أنّي قلت له: لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صحّ عنه لكان أفسق الناس ، وذلك أنّك تصفه بأنّه أبدى إلى الناس المعلولَ والمتروك والمنسوخ من روايته ، وكتمهم المستعملَ والسالم والناسخ ، حتّى مات ولميُبْدِه إلى أحد.
  وهذه صفة من يقصد إفساد الاِسلام والتدليس على أهله ، وقد أعاذه الله من ذلك ، بل كان عندنا أحد الاَئمّة الناصحين لهذه الملّة ، ولكنه أصاب وأخطأ ، واجتهد فوفّق وحرم ، كسائر العلماء ولا فرق ـ أو كلاماً هذا معناه ـ وقد افترض الله تعالى التبليغ على كلّ عالم ، وقد قال عليه السلام مخبراً: (إنّ مَن كتم علماً عنده فسئل عنه أُلجم يوم القيامة بلِجام من نار) (2)... إلى آخره.
  وهذا يوضّح أنّ التعدّديّة في الرأي تخالف وحدويّة العقيدة ، وأنّ القول بعدالة الصحابة على الاِطلاق يخالف ما فعله عمر مع سعد بن عبادة وقوله فيه: اقتلوا سعداً ، قتل الله سعداً! وكذلك ضربُه تميماً الداريّ ، وتخوينه عمروبن العاص في سرقته مال الفيء ، وطعنه في دين خالد بن الوليد والحكم بوجوب

------------------
(1) سورة البقرة: 159.
(2) الاِحكام لابن حزم 2: 251.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 339 _

  قتله ، كلّ هذا يُفهم أنّ القول بعدالة الصحابة لم يكن على عهد عمر وأبي بكر ، وحتّى على عهد عثمان ، بل إنّه قد حدث لاحقاً ، وليس له رصيد ، ولميُدْعَم من السنّة ، إذ كلّ ما نقل عنه (ص) في هذا الشأن هو عرضة للترديد والردّ ، ومثله ما رُسم من هالة للصحابة وعدّهم بمنزلة المعصوم والمخصِّصين للقرآن ، نعم ، إنّه فعل الخلفاء وأنصارهم!
  كلّ هذه المباني المخترعة والاَُصول الخاطئة كان سببها ـ بل من أهمّ عوامل بنائها ـ منع التحديث والتدوين ، ذلك المنع الذي فسح المجال لسلطة الرأي أن تتحكّم على النصوص.
  جاء عن سليمان بن عبد القويّ الحنبليّ المتوفى في 716 قوله في شرح الاَربعين:
  إنّ أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض الروايات والنصوص ، وبعض الناس يزعم أنّ السبب في ذلك عمر بن الخطّاب ، لاَنّ الصحابة استأذنوه في تدوين السنّة فمنعهم مع علمه بقول النبيّ (ص) (اكتبوا لاَبي شاة) وقوله (قيّدوا العلم بالكتابة).
  فلو ترك الصحابة يدّون كلّ واحد منهم ما سمع من النبيّ لانضبطت السنّة فلميبق بين آخر الاَُمّة وبين النبيّ إلاّ الصحابيّ الذي دوّنت روايته ، لاَنّ تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم كما تتواتر عن البخاريّ (1).
  وقال الشيخ محمّد أبو زهرة: إنَّ امتناع بعض الصحابة عن كتابة الحديث ومنعهم منها لم يكن سببه نهي النبيّ (ص) عن كتابة الحديث ، بدليل أنَّ الآثار الواردة عنهم في المنع أو الامتناع من كتابة الحديث لم ينقل فيها التعليل بذلك ، وإنَّما كانوا يعلّلون بمخافة أن تشتغل الناس بها عن كتاب الله أو غيرذلك من الاَغراض (2) .
  وبذلك اندثر الكثير من سنّة رسول الله (ص) ، ونُسب إليه أكثر من ذلك ،

------------------
(1) نقل الاَُستاذ أسد حيدر عنه هذا الكلام في كتابه الاِمام الصادق والمذاهب الاَربعة ، فراجع.
(2) الحديث والمحدّثون : 234 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 340 _

  واختلط الاَثر النبويّ أيّما اختلاط بالرأي والاجتهاد ، حتّى ألزم البخاريّ نفسه أن ينتقي كتابه من بين ستمائة ألف حديث ، وقريب منه فعل مسلم والنسائيّ وسواهما.
  كان هذا مجمل الحديث عن محنة النصّ النبويّ ، وما أعقب المنع من آثار على الشريعة ، بسطنا القول فيه ليتعرّف القارىَ على ملابسات التشريع وبعض أسباب الاختلاف بين المسلمين.
  ولم نكن نتوخّى فيه إلاّ بيان الحقيقة التي خفيت على المسلمين أحقاباً طويلة ، وفُرض عليها الحصار قُرابة أربعة عشر قرناً من الزمان