نتج من خلال البحث والتتبّع أنّ المنع من التدوين مرّ بمراحل ثلاث:
  الاَُولى: فترة الشيخين.
  الثانية: من سار على نهجهما ، كعثمان ومعاوية.
  الثالثة: بعد معاويّة ، حتّى عصر التدوين الحكوميّ.
  المرحلة الاَُولى :
  كان المنع في عهد الشيخين لعدم حفظهما واستيعابهما جميع أحاديث رسول الله (ص) ، ولمّا كان مقام الخلافة يستوجب العلم بما حكم به الرسول ، والخليفة لم يختصّ به (ص) كي يعرف جميع الاَحكام الصادرة عنه ، ولميثُبت عن رسولالله معرفته بوجوه التفسير والتأويل في القرآن ... كان من الطبيعيّ أن يحدث التخالف بين فتاواه ، وبين أقوال رسول الله وحكم التنزيل.
  وهذا الاَمر لو كان قد فُسح المجال ليتّضح للناس مثلما هو عليه اليوم لاَحدث مشكلة كبيرة ، خاصّة وأنّ الخليفة كان في صدد معارك عسكريّة وفتوح للبلدان المتاخمة لبلاد المسلمين ، فلذلك رأى من اللازم عليه اعتبار رأيه وإن خالف النصّ لكي يكون معذوراً فيما يذهب إليه ولمصالح قد ارتضاها! فتراه يقول : (ذلك على ما قَضَينا ، وهذا على ما قضينا).
  وقد تزايدت القضايا والوقائع التي ينبغي بيان حكمها ، على أثر اتّساع رقعة الدولة الفتيّة بالفتوحات ومن خلال التعامل مع أقوام شتّى دخلوا في الاِسلام ، ولم يكن وضع الخليفة العلميّ بالذي يهيئوه للاِجابة الشرعيّة عن الحاجات المستجدّة ، لعدم إحاطته بأحاديث رسول الله (ص) واستيعابه للموقف الشرعيّ الذي كان النبيّ (ص) قد كشف عنه من نصوص ، ذلك أنّ

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 342 _

  عمر بن الخطّاب لم يكن متفرّغاً لملازمة الرسول والاَخذ عنه ، بل كان يتناوب هو وأخ له من الاَنصار للاَخذ عنه (ص) ، فعن عمر ـ كما أخبر البخاريّ ـ أنّه قال : كنت أنا وجارٌ لي من الاَنصار في بني أُميّة بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنّا نتناوب النزول للاَخذ عن رسول الله ، ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك (1) ، وكان البيع والشراء في الاَسواق ممّا يشغله ويلهيه عن ملازمة رسول الله (ص) والاستمداد منه ، لقوله : (وكان يلهيني الصفق في الاَسواق) ، وقال له أُبيّ: وكان يلهيك الصَّفْق في الاَسواق ، فكان هذا أحد أسباب قلّة التلقي عن رسول الله.
  بَيْدَ أنّ الوقائع المستجدّة تحتاج إلى حلول فوريّة يلزم استقاؤها من القرآن والسنّة ، وبما أنّ الخليفة لم يكن عارفاً بجميع السنّة ووجوه التأويل ، فإنّه واجَهَ مشكلة في ذلك مستعصية إذ إنّه لو أفتى بشيءٍ يخالف القرآن أو السنّة كان في حرجٍ أمام الصحابة الذين سيعلنون عن الموقف الشرعيّ السليم في الواقعة كما سمعوه من رسول الله.
  لذلك تراه يبدأ السؤال عن حكم الرسول ـ كي لا يُحرَج لاحقاً ـ أو تراه يخضع لما يذكّره به الصحابة من أقوال النبيّ وأحاديثه دون نقاش.
  لكنَّ استمرار حالة سؤاله الصحابة عن حكم الوقائع والحوادث المتتابعة ، وافتراض كون الاَحكام مستنبطة من النصوص ... من شأنه إيقاع الخليفة في حرج آخر كلّما دعت الحاجة إلى موقف شرعيّ كاشف عن حكم الله جلّ جلاله ، ومن شأن استمرار هذه الحالة أيضاً أن تفوّت على الخليفة كثيراً من الفرص.
  ومن هنا وجد من الضروريّ له خروجاً من الحرج وفوات الفرص أن يصير إلى تشريع الاجتهاد والعمل بالرأي ، لاِعذاره وإعذار من يسير على نهجه من المسلمين.
  ولذلك صار عند المسلمين اتّجاهان:
  الاَوّل: لا يرتضي الحكم والاستنباط إلاّ على ضوء النصّ الشرعيّ من

------------------
(1) البخاريّ كتاب العلم 1: 33 باب 27.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 343 _

  قرآن وسنّة.
  الثاني: يرى الاجتهاد فيما لا نصّ فيه وما فيه نصّ ، ويذهب إلى اعتبار ما يراه من المصلحة.
  فالمصلحة هي الوسيلة الاَقوى التي اتّخذها الحكّام ، فهم لايقولون بشيء إلاّ بادّعاء أنّ المصلحة في فعله ، ولا ينهون عن شيء إلاّ بتصوّر أنّ المصلحة في تركه ، لكنّ السؤال الذي لا مفرّ منه هو: هل مشروعيّة هذه المصلحة مُنْتَزعة من النصّ أم لا ؟
  إنّ أصحاب نهج التعبّد المحض لو أخذوا بالاَحكام الثانويّة فإنّهم يكونون قد أخذوا بها على ضوء النصوص ولفترة محدودة بمقدار الضرورة ، لااجتهاداً من عند أنفسهم.
  وأمّا المصلحة في نهج الخلفاء فإنّها تؤخذ من فعل الخليفة وما رآه مصلحة بحيث تكون حكماً دائميّاً لا وقتيّاً ، وهذا فارق عظيم بين الحالتين.
  نعم ، إنّ الاجتهاد له مطّاطيّة وانسيابيّة ، ولا يمكن لاَحد الحدّ من سيره ، وإنَّ راكبه كما وصفه الاِمام عليّ بن أبي طالب في خطبة الشِّقشقيّة: (كراكِبِ الصَّعْبة ...) لا يمكن لاَحد أن يلجمه والاِمساك بزمامه .
  المرحلة الثانية :
  كان عثمان يميل إلى مواصلة سنّة الشيخين ، لكنّه في الوقت نفسه يرى لنفسه الاَهليّة في الاِفتاء والاجتهاد كالشيخين ، لما يراه من مصلحة ورأي ، لاَنّ تحديد إفتائه وحديثه (بما عُمِل في زمن الشيخين) ـ كما هو المصرّح به في خطبته الاَُولى ـ كان يؤذيه ، لسابقته في الاِسلام ومصاهرته الرسول ، ولكونه ليس بأقلّ شأناً من عمر وأبي بكر ، فكيف يجوز للناس أن يعترضوا عليه لمخالفته بعض اجتهادات الشيخين وهو قد شاهدهم بالاَمس قد سكتوا عن اجتهادات عمر المخالفة لسنّة رسول الله ؟! بل إنّهم قد ارتضوا تلك الاجتهادات وجعلوها نهجَ حياة ، يضاهي ويوازن سنّة رسول الله ، بل يعارضها في موارد كثيرة ، وهو في بعضها أجسر فيما شرّعه من عثمان وأجرأ.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 344 _

  فكان عثمان يردّد هذا السؤال مع نفسه:
  كيف يحقّ لعمر أن يشرّع أو ينهى لمصلحة كان يقدّرها ـ كما في صلاة التراويح ومتعة النساء ـ ولا يحقّ لي ذلك ؟!
  ولماذا يجب أن أكون تابعاً لسياستهما ولا أكون مجتهداً متبوعاً ؟!
  وقد جاء هذا الكلام صريحاً في قوله للمعترضين : (ألا فقد ـ والله ـ عبتم عَلَيّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله) ، ثمّ يقول : (أما والله لاََنا أعزّ نَفَراً وأقربُ ناصراً وأكثر عدداً وأقْمَنُ إن قلت هلمّ ، أُتِيَ إليّ ، ولقد أعددتُ لكم أقرانكم ، وأفضلت عليكم فضولاً وكشّرت لكم عن نابي...) (1).
  وقد شاهدتَ ابن عوف وعرفت أنّه لم يقدر أن يلزم عثمان بما أعطاه من العهد والميثاق للسير على طِباق مسيرة أبي بكر وعمر ، ومن هنا اعتصم ابن عوف بالصمت في آخر الحوار الذي دار بينه وبين عثمان حول الصلاة في منى ، فقال ابن عوف: ألم تصلِّ مع رسول الله ركعتين ؟
  قال عثمان : بلى.
  فقال ابن عوف: ألم تصلّ مع أبي بكر ركعتين ؟
  قال : بلى.
  قال ابن عوف: ألم تصلّ في الستّ الاَوائل في خلافتك ركعتين ؟
  قال : بلى.
  فقال ابن عوف: إذن كيف تصلّي اليوم أربعاً ؟!
  فقال عثمان : رأيٌ رأيته!
  فعثمان ما فعل في هذه المفردة إلاّ ما جرّ إليه الاجتهاد.
  وتجاوز الحدود جاء تبعاً له ، فلم يمكن لاَحد الاَخذ بلجامه والاعتراض على اجتهادات الآخرين ، لاَنّ خليفة المسلمين قد فعل ذلك ، فإن ورد اعتراض على اجتهادات الآخرين فإنّه يَرِدُ قبله على خليفة المسلمين لاَنّه فعل ذلك ، فإن كان الاجتهاد شرعيّاً فاجتهاد عثمان وغيره شرعيّ كذلك ، وإن لم يكن شرعيّاً ،

------------------
(1) تاريخ الطبريّ 4 : 338 ـ 339.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 345 _

  فَلِمَ فعل الشيخان ذلك ؟!
  ومرّةً أُخرى ... فإنّ المنع عن تدوين السنّة الشريفة وإقلال الحديث عن رسول الله هو الذي أوجد الاجتهاد عند الشيخين ، واجتهاد الشيخين هو الذي حدا بعثمان أن يجتهد كذلك ويُحْدِث الاَحكام طبق ما يراه من مصلحة ، والخلفاء بعد هؤلاء ـ إلاّ عليّ بن أبي طالب ـ قد وجدوا في الاجتهاد والمصلحة بُغيتهم ، وأنّه خير غطاء يمكن الاحتماء به لتصحيح آرائهم.
  وأمّا عليّ بن أبي طالب فقد عارض فكر هذا الاتّجاه ، وكلماته في النهج وغيره توضّح ذلك وتجلّيه بما لا يَدَع مجالاً للشكّ ، وإليك نصّين عنه في أيّام خلافته يوضّحان معالم الاختلاف وجذور المسألة.
  الاَوّل قوله (ع): (... وإنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تُتَّبع وأحكام تُبَْتدع ، يُخالَف فيها حكم الله ، يَتولّى فيها رجالٌ رجالاً ، ألا إنّ الحقّ لو خَلَصَ لَميَكن اختلاف ، ولو أنّ الباطل خَلَصَ لم يَخْفَ على ذي حِجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضِغثٌ ومن هذا ضِغثٌ ، فيمزَجان فيجعلان معاً ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، إنّي سمعتُ رسولَ الله يقول : كيف أنتم إذا لَبِسَتْكُم فتنة يربو فيها الصغير ويَهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ويتّخذونها سنّة ، فإذا غُيِّرَ منها شيء قيل : قد غُيّرت السنّة وقد أتى الناس منكراً؟! ثمّ تشتدّ البليّة وتسبى الذرّيّة ، وتدقّهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب ، وكما تدقّ الرحا بثِفالها (1) ، ويتفقّهون لغير الله ويتعلّمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة.
  ثمّ أقبل بوجهه ، وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته ، فقال: قد عملتِ الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله متعمّدِين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيِّرِين لسنّته ، ولو حملتُ الناس على تركها وحوَّلْتُها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله لتفرّق عنّي جندي ، حتّى أبقى وحدي ، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرضَ إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة

------------------
(1) الثفال بالكسر جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق ، ويسمى الحجر الاَسفل: ثفالاً بها.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 346 _

  رسول الله ، أرأيتم لو أمرتُ بمقام إبراهيم فردَدْتُه إلى الموضع الذي وضعه فيه رسولُ الله (1) ، ورددتُ فدك إلى ورثة فاطمة (2) ، ورددتُ صاع رسول الله كما كان (3) وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله لاَقوام لم تُمْضَ لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد (4) ، ورددت قضايا من الجور قضي بها (5) ، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حقّ فرددتُهن إلى أزواجهن (6) واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والاَحكام ، وسبيت ذراري بني تَغْلِب (7) ، ورددت ما قسّم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا (8) ، وأعطيت كما كان رسول الله يعطي بالسويّة ، ولم أجعلها دُولة بين الاَغنياء ، وألقيت المساحة (9) وسوّيت بين المناكح (10) ، وأنفذت خُمْس الرسول كما أنزل عزّ وجلّ وفَرَضه (11) ،

------------------
(1) انظر الغدير وغيره:
(2) قصّة فدك مشهورة لا حاجة لبيانها وللاَعلام فيها كتب كثيرة.
(3) انظر الخلاف للشيخ الطوسيّ لتعرف حقيقة الاَمر.
(4) كأنّهم غصبوها وأدخلوها في المسجد.
(5) كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الاِرث و ...
(6) كمن طلّق زوجته بغير شهود وعلى غير طهر ، وقد يكون فيه إشارة إلى قوله بعد بيعته : ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج ... إلخ ، وانظر نهج البلاغة 1:42 خ 14.
(7) لاَنّ عمر رفع الجزية عنهم فهم ليسوا بأهل ذمّة ، فيحلّ سبيُ ذراريهم ، قال محي السنّة البغويّ: روي أنّ عمر بن الخطّاب رام نصارى العرب على الجزية ، فقالوا : نحن عرب لانؤدّي ما يؤدّي العجم ، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض ، بعنوان الصدقة ، فقال عمر: هذا فرض الله على المسلمين.
  قالوا : فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية ، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة.
(8) إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من وضعه الخراج على أرباب الزراعة والصناعة والتجارة لاَهل العلم والولاة والجند ، بمنزلة الزكاة المفروضة ، ودوّن دواوين ، فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء.
(9) راجع تفصيل هذا الاَمر في كتاب الشافي للسيّد المرتضى .
(10) ربّما كان إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من منع غير القرشيّ الزواج من القرشيّة ، ومنعه العجم من التزوّج من العرب.
(11) إشارة إلى منع عمر أهل البيت خُمْسَهم .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 347 _

  ورددت مسجد رسول الله إلى ما كان عليه (1) ، وسددت ما فُتح فيه من الاَبواب (2) ، وفتحت ما سُدّ منه ، وحرّمت المسح على الخُفّين (3) ، وحَدَدتُ على النبيذ ، وأمرت بإحلال المُتْعَتين (4) ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات (5) ، وألزمتُ الناس الجهرَ ببسم الله الرحمن الرحيم (6) ، وأخرجت مَن أُدخِل بعد رسول الله في مسجده ممّن كان رسولُ الله أخرجه ، وأدخلت مَن أُخرج بعد رسول الله ممّن كان رسول الله أدخله (7) ، وحملتُ الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة (8) ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها (9) ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها (10) ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم (11) ، ورددت سبايا فارس وسائر الاَُمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ... إذن لتفرّقوا عنّي.
  والله لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة ، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي : يا أهل الاِسلام! غُيِّرت سنّة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان

------------------
(1) يعني أخرجت منه ما زاده عليه غصباً.
(2) إشارة إلى ما نزل به جبرئيل من الله تعالى بسد الاَبواب إلاّ باب عليّ.
(3) إشارة إلى ما أجازه عمر في المسح على الخفّين ، ومخالفة عائشة وابن عبّاس وعليّ وغيرهم له في هذا.
(4) يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.
(5) لِما كبّر النبيّ في رواية حذيفة وزيد بن أرقم وغيرهما.
(6) لكونهم قد أكّدوا على إخفاتها.
(7) يحتمل أن يكون المراد إشارة إلى الصحابة المخالفين الذين أُخرجوا من المسجد في حيث إنّهم كانوا مقرّبين عند رسول الله ، وإنّه (ع) يخرج من أخرجه رسول الله ، كالحكمبن العاص وغيرهم.
(8) كما مرّت عليك الاجتهادات المخالفة للقرآن وما قالوه في الطلاق ثلاثاً.
(9) أي من أجناسها التسعة ، وهي : الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والاِبل والغنم والبقر .
(10) وذلك لمخالفتهم هذه الاَحكام ، وقد وضّحنا حكم الوضوء منه في كتابنا (وضوء النبيّ).
(11) وهم الذين أجلاهم عمر عن مواطنهم .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 348 _

  تطوعاً! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري. ما لقيت من هذه الاَُمّة من الفُرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار!! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عزّ وجلّ (إنْ كُنتم آمنتم باللهِ وما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يومَ الفرقانِ يومَ التقى الجَمْعان) (1) ، فنحن والله عنى بذي القربى الذين قَرَننا الله بنفسه وبرسوله (ص) فقال تعالى (فللّهِ وللرّسُولِ ولذي القُرْبى واليَتامىوالمَساكين وابنِ السَّبيلِ كَيْلا يَكْونَ دُولةً بينَ الاَغنياءِ مِنكم ، وما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوه ومَا نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا واتّقوا اللهَ إنّ اللهَ شديدُ العِقاب...) (2).
  الثاني: روى الطوسيّ في (التهذيب) عن الصادق قول أمير المؤمنين لمّا قدِم الكوفة وأمر الحسنَ بن عليّ أن ينادي في الناس: (لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة) ، فنادى في الناس الحسنُ بن عليّ بما أمره به أميرُ المؤمنين ، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن عليّ صاحوا: واعُمَراه ! واعمراه! فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين قال له : ما هذا الصوت ؟
  فقال : يا أمير المؤمنين! الناس يصيحون : واعمراه! واعمراه! فقال أميرالمؤمنين : قل لهم : صلّوا (3).
  عرفنا من مجمل الخبرين السابقين عدّة أُمور:
  (1) أنّ هناك سُنَناً قد شُرّعت من قبل الخلفاء لا يرتضيها عليّ ، لمخالفتها مع سنّة رسول الله (ص).
  (2) سعى عليّ لرفعها لكنّه لم يقدر على كثير منها ، لقوّة التيّار المدافع عن عمر ، والمتابع لاجتهاداته وآرائه.
  (3) أنّ الخلاف بين عليّ وعمر ليس على موضوع الخلافة وحده ، بل على الفقه والشريعة كذلك ، بل يمكن ترجيح جانب الفقه ـ في بعض الاَحيان ـ وهذا ما نقوله كذلك في منعه للتدوين!

------------------
(1) الاَنفال : 41 .
(2) انظر روضة الكافي: 8: 58 ح 21. والآية : 7 من سورة الحشر.
(3) تهذيب الاَحكام 3: 70|ح 27.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 349 _

  فالقائلون بحجّيّة الرأي واجتهادات الصحابة كانوا يعارضون التحديث عن رسول الله وتدوين سنّته ، ويرجّحون اجتهادات الشيخين على كلّ شيء.
  وأمّا أنصار مدرسة التعبّد المحض فكانوا يقفون أمام تهديدات هؤلاء ، موضّحين فقه رسول الله ، وناقلين حديثه للناس ، ولو وضعت الصمصامة على أعناقهم!
  وجاء عن عليّ أنّه قال لمّا طُعِن : أمّا وصيّتي إيّاكم ، فالله عزَّ وجلَّ لاتشركوا به شيئاً ، ومحمّد لا تضيّعوا سنّته ، أقيموا هذين العمودين ... (1) وعن ابن كثير ، عن أبيه ، قال : أتيت أبا ذرّ ، وهو جالس عند الجمرة الوسطى ، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ، ثمّ قال : أوَلَمْ تُنهَ عن الفُتيا ؟! فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت عَلَيَّ ؟! لو وضعتم الصمصامة على هذه ، وأشار إلى قفاه ، ثمّ ظننت أنّي أُنِفُذ كلمةً سمعتُها من رسول الله قبل أن تجيزوا عَلَيَّ ، لاَنفذتها (2).
  انظر إلى أبي ذرّ كيف يُصِرّ على تبليغ ما سمعه من رسول الله ، وإن وُضِعَت الصمصامة على عنقه! وانظر إلى عدوله عن لفظ السائل (الفيتا) إلى لفظ (سمعتها من رسول الله) لتعلم التفاوت بين الاتّجاهين.
  إنّها المسؤوليّة التي يتحسّسها أبو ذرّ وغيره من أتباع نهج التعبّد المحض ، فيجدّون في تبليغ سنّة رسول الله حتّى آخر نفس ، لقوله: (ثمّ طننتُ أنّي أُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله قبل أن تجيزوا عَلَيّ ، لاَنفذتها).
  كيف لا يقول ذلك ، وهو قد سمع رسول الله في أكثر من مشهد وموقف أنّه يتخوّف على أُمّته من الضلال والابتعاد عن الصراط والاَخذ بسنن الآخرين بُغضاً لعليّ ؟!
  عن حسن الكنانيّ: قال سمعت أبا ذرّ وهو آخِذٌ بباب الكعبة: أيّها الناس ،

------------------
(1) المعجم الكبير لللطبرانيّ 1 : 96 .
(2) تذكرة الحفّاظ 1: 18 وفيه: وعلى رأسه فتى من قريش ، فقال: أما نهاك أميرالمؤمنين عن الفتيا ؟ وفي فتح الباري ، قال ابن حجر: إنّ الذي خاطبه رجل من قريش ، والذي نهاه عثمان.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 350 _

  مَن عرفني فقد عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذرّ ، سمعت رسولَ الله يقول: مَثَلُ أهل بيتي كسفينةِ نوح : مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق (1).
  وجاء عنه قوله: أيّتها الاَُمّة المتحيّرة بعد نبيّها ، أمّا لو قدّمتم مَن قدّم الله ، وأخّرتم من أخّر الله ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لاَكلتم من فوق رؤوسكم ، ومن تحت أقدامكم ، ولما عال وليُّ الله ، ولا طاشَ سهمٌ من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، إلاّ وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأمّا إذ فعلتم ما فعلتم ، فذوقوا وَبالَ أمركم ، وسيعلم الذين ظَلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون (2).
  وعن الاِمام أمير المؤمنين عليّ في أبي ذرّ: (إنّك خِفْتَهم في دينك وخافوك في دنياهم).
  وهذا النصّ وما سبقه ممّا يكشف عن تحيّر الاَُمّة الممتحَنة ، وأنّهم لايدرون بكلام أي الاتّجاهين يأخذون!
  هذا النصّ والذي سبقه يكشفان عن تحيّر الاَُمّة الممتحنة بسبب تقديمهم المتأخّر وتأخيرهم المتقدّم.
  ذلك أنّ الصحابة قد تصدّروا الاتّجاهين:
  فأبو ذرّ ومن يماثله من أنصار التعبّد المحض يؤكّدون لزوم الاَخذ بسنّة رسول الله الموجودة عند أهل بيته ، لكثرة النصوص المسموعة والمنقولة عن مكانة عليّبن أبي طالب ، فعليّ قد دوّن كلام رسول الله في حياته(ص) ، وله صحيفة وكتاب الجامعة والجفر فيها جميع ما سمعه من رسول الله، وكان يخلو بالنبيّ في اليوم مرّتين صباحاً ومساءً ، وقد صرّح بأنّه يعرف الآية أين نزلت وفيمن نزلت و...
  وهناك من الصحابة من يأخذ بكلام عمر ، ولا يرتضي التدوين عن رسول الله ، بل يشرّع الاجتهاد قبال كلامه (ص) ، معلّلاً بأنّه قد عرف روح

------------------
(1) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوريّ 2: 343.
(2) تاريخ اليعقوبيّ 2: 171.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 351 _

  التشريع!
  وقد مرّ عليك قول ابن عبّاس: مالي لا أسمع الناس يُلَبُّون ؟!
  فقلت [أي الراوي]: يخافون معاوية .
  فخرج ابن عبّاس من فُسطاطه فقال: لبّيك اللّهمّ لبّيك ، وإن رغم أنف معاوية ، اللّهمّ العنهم ، فقد تركوا السنّة من بغض عليّ (1).
  وعن عكرمة قال: صلّيت خلف شيخ بمكّة ، فكبّر اثنتين وعشرين تكبيرة ، فقلت لابن عبّاس: إنّه أحمق!
  فقال ابن عبّاس: ثكلتك أُمّك سنَّهُ أبي القاسم (2).
  إن سرقة معاوية البسملة من السورة! ، وبيعه سِقايةً من ذهب ـ أو ورق ـ بأكثر من وزنه ، واعتراض أبي الدرداء عليه ، وحكايته حديثاً عن الرسول في عدمجواز ذلك ، وقول معاوية له : لا أرى بأساً بذلك .
  فقال له أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية ؟! أنا أُخبره عن رسول الله وهو يخبرني عن رأيه! لا أُساكِنُك بأرضٍ أنت فيها (3)..
  كلّ هذه النصوص وما مرّ يُوضّح تخالف النهجين في الاَُصول والمفاهيم.
  المرحلة الثالثة :
  وهي مرحلة الخلفاء الذين حكموا بعد معاوية إلى عصر التدوين الحكوميّ ، فإنّ هدف هؤلاء قد تماثَل مع أهداف الخلفاء الذين قبلهم والذين بعدهم ، فهؤلاء قد استغلّوا الاَفكار السائدة في العصر الاَولّ وما ذهب إليه السلف من مشروعيّة الرأي للصحابة ، بُغية الحدّ من نشاط الطالبيّين ـ وهم

------------------
(1) سنن النسائيّ5: 253 ، سنن البيهقيّ5: 113 ، الاعتصام بحبل الله المتين 1:360.
(2) صحيح البخاريّ 1: 199 كتاب الصلاة باب التكبير إذا قام من السجود.
(3) موطّأ مالك 2: 634 كتاب البيوع (16) باب بيع الذهب بالفضّة ، البيهقيّ 5:280 ، الرسالة للشافعيّ بتحقيق أحمد محمّد شاكر فقرة : 1228.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 352 _

  المخالفون لهم على مرّ القرون ـ وبغية التعرّف عليهم ، وقد عرفت أنّ الخليفة الاَمويّ عمر بن عبد العزيز قد أمر ابن شهاب الزهريّ بتدوين السنّة النبويّة ، مؤكّداً الاَخذ بسنّة الشيخين. وجاء عن ابن شهاب قوله: كنّا نكره تدوين السنّة حتّى اكرَهَنا السلطان على ذلك.
  ولم يخفَ عليك أنّ هؤلاء الاَُمراء كانوا من أبناء أبي سفيان والحَكَمبن العاص ومن الذين لم يدخلوا الاِسلام إلاّ مُكْرَهين!
  ألم يَقُل أبو سفيان : فوالذي يحلف به أبو سفيان ، لا جنّة ولا نار (1)!
  أَوَلَيسَ معاوية هو القائل استخفافاً برسول الله (ص) (... وإنّ ابن أبي كبشة لَيُصاحُ به كلّ يوم خَمْسَ مرّات: أشهد أن محمّداً رسول الله ، فأيّ عمل يبقى ؟! وأيّ ذِكر يدوم بعد هذا ، لا أباً لك ؟! لا والله إلاّ دفناً دفنا (2).
  أو لم يشتهر إنشاد يزيد بن معاوية شعر ابن الزبعرى في إنكاره النبوّة:
  لَعِبَتْ هاشمُ بالمُلْكِ فلاخبرٌ جاءَ ، ولا وَحْيٌ نَزَلْ !
  وكيف يمكن أن يخفى ما جاء عن أبي سعيد الخدريّ من أنّه جذب ثوب مروانبن الحكم لمّا أراد أن يرتقي المنبر ليخطب قبل الصلاة في العيدين ، وقوله له : غيّرتم والله! وجواب مروان له : أبا سعيد! قد ذهب ما تعلم ، فقال : ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم! فقال مروان : إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلتها قبل الصلاة (3).
  قال الاِمام محمّد عبده: (إنّ عموم البلوى بالاَكاذيب حقّ على الناس في دولة الاَمويّين! فكثر الناقلون وقلّ الصادقون ، وامتنع كثير من أجلّة الصحابة عن الحديث ، إلاّ لمن يثقون بحفظه).
  والخلفاء العبّاسيّون ليسوا بأقلّ وطئاً على الشريعة من الاَمويّين ، فقد استخدموا الشريعة لمصلحة الحكم والنظام ، وقد وقفتَ على نصوصهم مع

------------------
(1) الاستيعاب 4:679 ، الاَغاني 6:356 ، مروج الذهب 2:343 ، شرح نهج البلاغة 2:45.
(2) الاَخبار الموفّقيّات للزبير بن بكار: 576 ـ 577 ، مروج الذهب 3: 454 ، النصائح الكافية :116 ، شرح النهج 9: 338.
(3) صحيح البخاريّ 2: 22 باب الخروج إلى المصلى بغير منبر.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 353 _

  مالكبن أنس وطلب المنصور منه أن يدوّن السنّة حتّى يجمع الناس على ذلك ، ودعوته أبا حنيفة للخوض في نقاش مع صادق أهل البيت.. (1)وغيرها من النصوص التي تؤكّد التخالف الفكريّ والاَُصول المبتناة عند الطرفين.
  إنّ هؤلاء قد اتّخذوا الاختلاف الفقهيّ وسيلة للتعرّف على الطالبيّين ، فزادت لاَجله الاَحاديث المتناقضة والمرجِّحة لبعض المذاهب في الشريعة الاِسلاميّة (2).
  قال الاَُستاذ أحمد أمين: (... ومن الغريب أنّنا لو اتّخذنا رسماً بيانيّاً للحديث لكان بشكل هَرَم ، طرفُه المدبَّب هو عهد الرسول (ص) ، ثمّ يأخذ في السعة على مرّ الزمان حتّى يصل إلى القاعدة ، فهي أبعد ما تكون عن عهد الرسول ، مع أنّ المعقول كان العكس ، فصحابة الرسول أعرف الناس بحديثه ، ثمّ يقلّ الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا.
  ولكنّا نرى أنّ أحاديث العهد الاَمويّ أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين ، وأحاديث العصر العبّاسيّ أكثر من أحاديث العهد الاَمويّ) (3).
  ثمّ علّل ذلك بنشاط حركة الهجرة في طلب الحديث ودور اليهود والنصارى في مسخ الشريعة ، متناسياً دور السلطة وأهدافها السياسيّة.
  لكنّي أتساءل: هل يمكن لليهود ـ وهم الذين يعطُون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ـ ممارسة دورهم الهدّام بعيداً عن أيّ دعم أو تغاضٍ من قبل السلطة الحاكمة ؟ وبنظري أنّ العوامل السياسيّة والذهاب إلى مشروعيّة رأي الجميع كان من العوامل المهمّة في هذا المجال ، وقد توقّع حدوثه الخليفة الاَوّل ، يوم قال أبو بكر: والناس بعدكم أشدّ اختلافاً.
  وما جاء عن رسول الله وتخوّفه على مستقبل الشريعة إنّما يرشد إلى ضرورة التزام سنّته ، ولزوم الاَخذ بقول العترة من آله كما صرّح (ص) في حديث الثقلين.
  اتّضح من كلّ ما سبق أنّ هذه الاَفكار وغيرها قد حدثت من جرّاء المنع

------------------
(1) انظر الحوار وتعليقنا عليه في (وضوء النبيّ): 349 ـ 353.
(2) بسطنا القول في هذه المسألة في كتاب (وضوء النبيّ).
(3) ضحى الاِسلام 2: 128 ـ 129.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 354 _

  عن تدوين السنّة الشريفة والقول بحجّيّة رأي الصحابة وغيرها من العوامل السياسيّة.
  وقد قيل عن الاختلاف: إنّه يبدأ بمليمتر واحد حتّى ينتهي إلى كيلومتر ، بل وإلى ما لا نهاية ، حسب تعبير علماء الهندسة ، وقد شاهدنا هذه الحقيقة عياناً في محنة النصّ النبويّ ، وما جرى على الشريعة ، وأنّ السنّة قد وصل بها الاَمر إلى أنّها أصبحت لا تعرف إلاّ بفعل الصحابة بل يجعل كلام الصحابيّ وفعله مخصِّصاً للقرآن!
  وهذه بعض النصوص عن أهل البيت ، ترى فيها جواب الكثير من الشبهات المطروحة ، مؤكِّدة على عدم مشروعيّة الاَخذ بالرأي .
  فمن رسالة طويلة للاِمام الصادق إلى أصحابه ، من جملتها:
  أيّتها العصابة المرحومة المفلحة! إنّ الله أتمّ لكم ما آتاكم من الخير.
  واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ، ولا رأي ، ولا مقاييس ، قد أنزل اللهُ القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء ، وجعل للقرآن وَتَعَلُّمِ القرآن أهلاً ، لا يَسَعُ أهلُ عِلْمِ القرآنِ الذي آتاهم الله علمه أن يأخذوا في دينهم بهوى ولا رأي ولا مقاييس ، وهم أهل الذكر الذين أمرالله الاَُمّة بسؤالهم إلى أن قال :
  وقد عَهِد إليهم رسولُ الله قبل موته ، فقالوا: نحن بعدما قبض الله عزّ وجلّ رسوله يَسَعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد قبض الله ورسوله! وبعد عهده الذي عهده إلينا ، وأمرنا به ، مخالفاً لله ولرسوله ، فما أحد أجرأ على الله ، ولا أبين ضلالة ممّن أخذ بذلك ، وزعم أنّ ذلك يَسَعه.
  والله إنّ لله على خلقه أن يطيعوه ، ويتّبعوا أمره في حياة محمّد (ص) وبعد موته.
  هل يستطيع أُولئك أعداء الله أن يزعُموا أنّ أحداً ممّن أسلم مع محمّد أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه ؟ فإن قال: نعم ، فقد كذب على الله وضلّ ضلالاً بعيداً ، وإن قال: لا ، لم يكن لاَحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه ، فقد أقرّ بالحجّة على نفسه ، وهو ممّن يزعم.
  وكما أنّه لم يكن لاَحد من الناس مع محمّد أن يأخذ بهواه ، ولا رأيه ، ولا مقاييسه ، خلافاً لاَمر محمّد ، كذلك لم يكن

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 355 _

  لاَحد بعد محمّد أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه ، ثمّ قال:
  واتَّبعوا آثار رسول الله وسنّته ، فخُذوا بها ، ولا تتّبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلّوا ، فإن أضلّ الناس عند الله من اتّبع هواه ورأيه بغير هدى من الله.
  وقال: أيّتها العصابة ، عليكم بآثار رسول الله وسنّته وآثار الاَئمّة الهداة من أهل بيت رسول الله من بعده وسنّتهم ، فإنّه مَن أخذ بذلك فقد اهتدى ، ومَن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ ، لاَنّهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم (1).
  وعن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين أنّه قال في كلام طويل ، منه: إنّ المؤمن أخذ دينه عن ربّه ، ولم يأخذ عن رأيه (2).
  وعنه عن رسول الله: قال الله عزّ وجلّ: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي ، وما عرفني من شبّهني بخلقي (3).
  قال معاوية بن ميسرة بن شريح: شهدت أبا عبد الله (الصادق) في مسجد الخيف ، وهو في حلقة ، فيها نحو من مائتي رجل ، وفيهم عبداللهبن شبرمة فقال له : يا أبا عبد الله! إنّا نقضي بالعراق فنقضي بالكتاب والسنّة ، ثمّ ترِد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي إلى أن قال فقال أبو عبد الله: فأيّ رجل كان عليّبن أبي طالب ؟ فأطراه ابن شبرمة وقال فيه قولاً عظيماً ، فقال أبو عبدالله: فإنّ عليّاً أبى أن يُدخل في دين الله الرأيَ ، وأن يقول في شيء من دينالله بالرأي والمقاييس إلى أن قال : لو علم ابن شبرمة من أين هلك الناس ما دان بالمقاييس ولاعمل بها (4).
  وعن الباقر (ع): يا زرارة! إيّاك وأصحابَ القياس في الدِّين ، فإنّهم تركوا علم ما وُكّلوا به ، وتكلّفوا ما قد كفوه ، يتأوَّلون الاَخبار ، ويكذبون على الله عزّ

------------------
(1) الكافي 8: 50 وعنه في الوسائل 27: 37. وقد ردّ الاِمام الصادق ما طرحته مدرسة الاجتهاد من آراء حول اجتهاد الرسول واختلاف أُمّتي رحمة و... ، في كلام طويل له ، راجع المحكم والمتشابه: 91 ، والوسائل 27 : 52 .
(2) أمالي الصدوق: 287|4 ، معاني الاَخبار: 185|1 ، كما في الوسائل 27: 44 ـ 45.
(3) علل الشرائع :59|1 وعنه في الوسائل 27: 45.
(4) المحاسن: 210|77 كما في الوسائل 27: 51.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 356 _

  وجلّ [لقولهم بالظنّ فقال سبحانه (قُلْ ءآللهُ أذِنَ لَكُمْ أمَ علىاللهِ تَفْتَرون) (1)]؟! وكأنّي بالرجل منهم يُنادى مِن بين يديه ، فيجيب مِن خلفه ، وينادى من خلفه ، فيجيب من بين يديه ، قد تاهوا وتحيّروا في الاَرض والدِّين (2)؟.
  وعن الصادق: احتفِظُوا بكتبكم ، فإنّكم سوف تحتاجون إليها ، وقوله: اكتبوا ، فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا.
  قوله : اكتب وبُثّ علمك في إخوانك ، فإن مِتّ فأورثْ كتبك بنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمانُ هَرَج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم.
  وما سواها من الاَخبار الكثيرة التي تركناها مخافة الاِطالة ، وكلّها تصبّ في مصبّ واحد مفاده ضرورة التدوين واتّباع المدوّنين من خلّص أصحاب النبيّ (ص) ، وضرورة التعبّد المحض ، ونبذ الرأي والاجتهاد والفتيا طبق الاَُصول التي لميأتِ بها النبيّ (ص) وإنَّما تولّدت في أزمان متأخّرة وتحت ظروف خاصّة.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 357 _

  نخرج من كلّ ما مرَّ بأنّ السبب الحقيقيّ الكامن وراء منع التدوين: لميكن لطمس فضائل أهل البيت حَسْبُ ، بل هو خلُق جوٍّ فقهيّ جديد يستطيع الخليفة من خلاله أن يتكيّف لسدّ العجز الفقهيّ الذي يجده ، ويتّضح هذا الاستنتاج عبر ملاحظة المقدّمات الآتية:
  أ ـ عرفنا سابقاً أنّ أوّل بادرة لمنع التدوين ظهرت على لسان عمربن الخطّاب قبيل وفاة النبيّ ، وذلك لمّا طلب (ص) أن يأتوه بالقلم والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً ، وقول عمر في جواب طلب النبيّ (ص): إنّ الرجل لَيهجر! حسبنا كتاب الله.
  فإنّ هذا المنع من التدوين وإن كان في ـ لحظة ما ـ موقفاً خاصّاً اضطرّ فيه الخليفة أن يمنع من التدوين لتوجيه أمر الخلافة بعد الرسول الوجهة التي يريد ، إلاّ أنّ ذلك المنع قد اعتمد على ضرب قدسيّة النبيّ (ص) وجلالة قدره ، وتجريح عصمته ، ممّا فتح له الباب على مصراعيه لكي يُدلي بدلوه ، وأن يفرض رأيه فرضاً على الصحابة ومن في الدار وأنّه قد أجاب نساء النبيّ لمّا قلن : ائتوا رسولَ الله بحاجته ، فقال عمر لهنّ : اسكُتْنَ فإنّكنّ صواحبه: إذا مرِض عصرتُنّ أعينكن ، وإذا صحّ أخذتنّ بعنقه ، فقال النبيّ: هنّ خير منكم) (1).
  والنصّ يكشف عن أنّ النبيّ لم يقبل بفعل عمر ، بل كان(ص) يريد التأكيد على مقولته السابقة في حجّة الوداع واستخلافه في الاَُمّة ثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر.
  إنّ عمر بن الخطّاب كان يتخوّف من تأكيد رسول الله على هذا الاَمر ، فنسب إلى قدسيّة رسول الله الهُجر ـ وحاشاه ـ كي يقلّل من أهمّيّة مقولته (ص) ، أو حتّى كتابته ـ لو قُدّر أن يكتبها النبيّ (ص) ـ إذ يضعف

------------------
(1) كنز العمّال 5: 644|14133 الطبقات الكبرى 2: 244.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 358 _

  الاحتجاج بكتابته (ص) بعد أن طرح احتمال الهجر في حقّه ، وهذا ما جعل رسول الله (ص) ينصرف عن الكتابة بقوله (قوموا ولا تنازعوا عندي فإنّه لاينبغي عند النبيّ التنازع) فالمنع عن التدوين هنا جاء لمنع التصريح بخلافة العترة.
  وأمّا المنع عن التدوين لاحقاً فقد جاء على أثر اختلاف آرائه مع أقوال رسول الله ، ومعنى هذا أنّ المنع كان له بُعدان:
  (1) بُعد سياسيّ.
  (2) بُعد تشريعيّ.
  ونحن نرجّح أنّ يكون سبب المنع مضافاً إلى ما قاله الاِخوة الاَعلام في السبب السابع هو تأسيس الخليفة لفكرة (رأيٌ رأيتُه) ، والسماح بتعدّديّة الآراء ليسدّ به العجز الفقهيّ الذي كان يوقّعه في حرج شديد .
  إنّ الناس كانوا يعلمون أنّ المشرِّع هو الله ورسوله ، فكانوا لايريدون أخذ الاَحكام إلاّ ممّن اختصّ بالنبيّ ، وعلم جميع أسرار التنزيل والتأويل ، ومن جهة أُخرى: كانت القضايا تُلزم الخليفة أن يفتي طبق الرأي ، بعيداً عن النصوص ، فاضطرّ للاجتهاد ، ثمّ السماح للآخرين بالاجتهاد لكي يُعْذَر هو في اجتهاده فلا يظلّ وحيداً منفرداً فيما ابتدعه ، ثمّ جدّ في حصر الاِفتاء بنفسه وبسابقه لكنّ عثمان لم يرتضِ ذلك كما رأيت.
  ب ـ عرفت أنّ الشيخين لم يدّعيا أنّهما قد عرفا جميع المسائل الصادرة عن رسول الله ، بل إنّهما كانا يُفتيان طبق الرأي ، فجاء عن أبي بكر في الكلالة: (إن أصبتُ فمن الله ، وإن أخطاتُ فمنّي ومن الشيطان) ، وكانا يسألان الصحابه عمّا خفي عليهما من أحكام الرسول ، ثمّ إنّهما أخذا بكلام الصحابة وأقرّا ذلك حتّى لتلك المرأة التي خطّأته بكونها أفقه منه!
  والاَحكام التي خَفِيت عليهما لم تكن قليلة ، ولا تنحصر في مسألة ومسألتين حتّى يمكن البحث عن مخرج من مخارج التأويل ، في حين أنّك عرفت وجود حكم تلك المسائل عند الآخرين من الصحابة ، فتارة كان حكم رسول الله عند معاذ ، وأُخرى عند حذيفة ، وثالثة عند ابن مسعود ، ورابعة عند

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 359 _

  عليّ... وهكذا.
  ومن هنا يظهر أنّ قول الخليفة عمربن الخطّاب لمن جمعهم من الصحابة: (فنحن أعلم بها منكم ، آخذ منكم وأردّ عليكم) ، وقول عروةبن الزبير لابن عبّاس: هما واللهِ كانا أعلم بسنّة رسول الله وأشيع لها منك ، وغيرها... إنّما كان لتثبيت الموقع العلميّ للشيخين في الدولة ، ولاِلزام أخذ الآخرين بما يحكمان به ولو عن رأي واجتهاد بدعوى أنّهما أعلم بمصالح المسلمين من غيرهم.
  وقد عرفت أن الناس لمّا أتوا عمر بصحفهم كانوا يَرجُون أن يرى عمر أقومها وأعدلها ، ولم يكونوا يريدون بفعلهم هذا أن يكون الرأي الاَخير بيد الخليفة ، وأن يرى أنّ رأيه هو الصواب.
  ففكرة الاَعلميّة قد طُرحت بعد استقرار الاَُمور للخليفة ، بعد أن قطع منع التدوين والتحديث شوطاً كبيراً .
  وهذان المَسْرَبان هما اللذان مكّنا الخليفة أن يدّعي لنفسه ما شاء من العلم بتعضيد من تخويف الصحابة وإسكاتهم ، وكان إذنه للصحابة بالاجتهاد ـ في بدء الاَمر ـ وخضوعه لاجتهاداتهم وآرائهم في الشريعة كان الخطوة الاَُولى لتصحيح ما ذهب إليه، لاَنّ بين أُولئك الصحابة من هو أقلّ شأناً من الخليفة علماً وسابقة في الاَمر كأبي هريرة وسمرةبن جندب وغيرهما فتصحيح عمل هؤلاء يصحّح عمل الخليفة بطريق أولى ، إذ إنّه ليسبأقلّ من هؤلاء إن لم يرجّح عليهم! على أنّ الخليفة في مجالسه الفقهيّة كان هو الرابح الاَوّل والاَخير ، إذ إنّ فتح باب الآراء والاجتهادات للصحابة والاَخذ بها ـ كخطوة أُولى ـ له جانب آخر من المنفعة للحكومة القائمة ، تلك المنفعة المتجلّية في حالة إخطاء الصحابة وتخِطئة بعضهم البعض ، فإنّ ذلك يخلق أقوى المبرّرات وأعقل التوجيهات لاَخطاء عمر الفقهيّة ، إذ لايمكنهم الاحتجاج عليه بأنّه أخطأ في حين أنّهم شاركوه في الخطأ حين صار الاِفتاء طبق الرأي والاجتهاد.
  ولا يمكننا أن ننسى دور المنع في التدوين ، وخلوّ الصحف عند الصحابة ، فإنّه ممّا أحدث فراغاً في التشريع لا يُسدّ إلاّ بالاجتهاد ، والاجتهاد هو ما يريده الخليفة ويستهدفه من وراء برنامجه المنعيّ.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 360 _

  ج ـ وقفتَ سابقاً على نصوص لبعض الصحابة كانوا يمتحنون فيها الخليفة الثاني ، ويستفزّونه لتنبيهه على أخطائه لا لانتقاصه ، وكانوا يسألونه عن حكم مسألة واحدة في أوقات شتّى ، ليوقفوه على التناقض الموجود في أجوبته ، ممّا ينبىَ عن أنّ الخلاف كان في إطار المسائل الفقهيّة.
  وكان الخليفة يضجر من تصرفات هؤلاء الصحابة ، فيقول لمن سأله عن مسألة كان قد علم جوابها سابقاً من رسول الله: تبّتْ يداك! عمدتَ فسألتني عن مسألة سألتَ فيها رسول الله كيما أخالفه ؟!
  فظاهرة تخطئة الخليفة تراها واضحة في عهد عمر دون غيره من الخلفاء ، ممّا يؤكّد أنّه فتح باب (رأيٌ رأيتُه) بحيث لم يمكنه أن يسدَّه .
  إنّ العالِم بالاَحكام لا يهاب من السؤال بل يعجبه أن يُسأل ليجيب ، وقد جاء عن عليّبن أبي طالب قوله (سَلُوني قبل أن تَفْقِدوني) ، أمّا الذي ليس له أثر عن رسول الله فتراه يتخوّف من السؤال ، ويضرب ضبيع بن عُسل ويتّهمه بالزندقة لكثرة أسئلته (1)!
  د ـ نظراً لتوسّع رقعة الدولة الاِسلاميّة وكثرة المسائل المستجدّة ، ولزوم رسم الحلول لها على ضوء الكتاب والسنّة ، وقصور الخليفة عن الاِحاطة بتلك النصوص الصادرة عن رسول الله فيها ، وإمكان حدوث التخالف بين مرويّاته ومرويّات الآخرين عن الرسول ... رأى من الضروريّ تقوية رؤيته السابقة ـ الرأي ـ على عهد الرسول وتحكيم شرعيّة الاجتهاد! والحدّ من التحديث ، لاَنّ في التحديث والتدوين توعية للناس وتنبيهاً على أغلاطه.
  وأنّ سماحه للصحابة بالاجتهاد لا التحديث ـ في أُخريات حياته ـ إنّما كان لتبرير فعله ، وكذا أمرُه الصحابة بالاِقلال من الحديث ففيه إشارة إلى أنّ الخليفة لايستسيغ سماع المسائل التي لا يعرفها ، وبهذا يخرج المنع من إطاره الخاصّ ليدلّل على أنّه أبعد ممّا قيل عنه ، وأنّه لم يتعلّق بأمر الخلافة والاِمامة فقط!

------------------
(1) انظر حقيقة البدعة للغامديّ 1 : 114 عن الاِصابة ّ 165 والدارميّ ح 146 والبدع لابن وضّاح: 69 ودرّ التعارض 7:172.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 361 _

  هـ ـ اشتهر عن عمر أنّه حدّث بفضائل عليّ وأهل البيت ، وبرّر إبعاده أهل البيت عن الخلافة بكراهة قريش اجتماع النبوّة والخلافة فيهم.
  فالتحديث بفضائل عليّ ـ بعد تسلّم عمر للخلافة ـ لا يضرّه بقدر ما كان يضرّه نشر فقه النصوص والحديث عن رسول الله ، لاَنّ فيهما ما يجهر بتخالف اجتهاداته مع التنزيل وسنّة رسول الله وبالتالي إلى نقض أُموره وانقضاض المسلمين عليه ، فالتضعيف لو قُدّر له أنّ يسري في كيان الدولة لجاء من ها هنا!
  نعم ، إنّ الخليفة بعد تسلّمه الخلافة كان لا يعجبه أن يسمع تفصيل وشرح فضائل عليّ وأهل بيته لاَنّ انتشارها وذيوع أمرها من شأنه أن يهزّ مكانة الخليفة ويضعضع موقعه القياديّ ، ومن شأنه أيضاً أن يقوّي الخصم ويكشف عن شرعيّته ، وكذا منعه للتدوين في رزيّة الخميس كان ناظراً إلى هذا المعنى ، بَيْد أنّ هذا كان سبباً مهمّاً ، إلى جوار ما لاقاه من مشكلة في الاِفتاء... ممّا حمله على العمل بسياسة المنع.
  ولاَجله نراه يمنع من الحديث عموماً كي يكون في مأمن من العواقب السياسيّة الفقهيّة ، إنّ إبعاد الاِمام عليّ عن إمامة الفقه والسياسة كان من الاَهداف الاَساسيّة في دولة الخلفاء ، وقد ورد هذا صريحاً في كلام ابن عبّاس: (لو قدّمتم مَن قدّم الله... ما عالت فريضة)، لاَنّ التوعية الفقهيّة لا يقلّ شأنها عن التوعية السياسيّة ، وإنّ تعرّف الناس على قدرة الاِمام عليّ في الاَحكام وضعفِ الطرف الآخر ، سيؤدّي ـ بلاريب ـ إلى التشكيك في مقدرة الخليفة العلميّة ، فيسقط أحد جناحَي الخلافة بسقوط ما يفترض في الخليفة من القدرة العلميّة.
  فالمنع من التدوين عموماً والاِقلال من التحديث ، ثمّ فتح باب الاجتهاد بالرأي والقياس وغيرها.. كلّ ذلك يوضّح أنّ للمنع من التدوين سبباً آخر أهمّ ممّا قاله الاَعلام في السبب السابع.
  و ـ أنّ النصوص الواردة عن الصحابة ـ المعارضين لفقه عمر ـ يغلب عليها الجانب الفقهيّ أكثر من بيان الخلاف الاِداريّ والحكوميّ ، وبمعنى أوضح: يغلب فيها فهم الاَحكام الشرعيّة ، على ما جاء في الاِمامة والفضائل!
  وقد مرّ عليك كلام ابن عبّاس: أقول لهم: قال رسول الله ، ويقولون قال:

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 362 _

  أبو بكر وعمر! وقول ابن عمر: (أفسنّة عمر نتّبع أم سنّة رسول الله؟!) وقول الآخر.
  (لا أترك سنّة أبي القاسم لقول أحد) ، أو: (فَعَلها أبو القاسم وهو خير من عمر) ، فالنصوص تؤكّد أن أوجّ الخلاف كان في بيان الاَحكام وما وُضِع من أُصول ، كأصل الاجتهاد في الشريعه والقياس و ...
  فالمنع من نقل فضائل أهل البيت وأدلّة الاِمامة مع المنع عن نقل الفقه والاَحاديث النبويّة ، بل كلّ ما يوثّق مدرسة أهل البيت كانت ضمن المخطّط الكلّيّ للخلفاء ، ولتأكيد الموضوع إليك هذا النصّ.
  عن عبدالرحمن بن يزيد قال : قدِم علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة 82 وهو وليّ عهد ، فمرّ بالمدينة ، فدخل عليه الناس ، فسلّموا عليه ، وركب إلى مشاهد النبيّ (ص) التي صلّى فيها ، وحيث أُصيب أصحابه بأُحد ، ومعه أبانبن عثمان وعمرو بن عثمان وأبو بكر بن عبد الله ، فأتوا به قُباء ، ومسجد الفَضِيخ ومَشْربة أمّ إبراهيم وأُحد ، وكلّ ذلك يسألهم ويخبرونه عمّا كان .
  ثمّ أمر أبانَ بن عثمان أن يكتب له سيرة النبيّ (ص) ومغازيه ، فقال أبان: هي عندي ، قد أخذتها مُصحّحة عمّن أثق به .
  فأمر بنسخها ، وألقى فيها إلى عشرة من الكتّاب ، فكتبوها في رقٍّ ، فلمّا صارت إليه ، فإذا فيها ذكر الاَنصار في العقبتين ، وذكر الاَنصار في بدر.
  فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل ، فإمّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم ، وإمّا أن يكونوا ليس هكذا.
  فقال أبان بن عثمان: أيّها الاَمير ، لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم من خذلانه أن نقول بالحقّ: هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.
  قال: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لاَمير المؤمنين ، لعلّه يخالفه ، فأمر بذلك الكتاب فَخُرِّق ، وقال: أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت فإن يوافقه ، فما أيسر نسخه.
  فرجع سليمان بن عبد الملك ، فأخبر عبد الملك بالذي كان من قول أبان ، فقال عبد الملك: وما حجّتك أن تقِدم بكتاب ليس لنا فيه فضل ؟! تُعرِّفُ أهلَ الشام أُموراً لا نريد أن يعرفوها .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 363 _

  قال سليمان : فلذلك يا أمير المؤمنين أمرت بتخريق ما كنت نسخته حتّى أستطلع رأي أمير المؤمنين ، فصوّب رأيه (1).

------------------
(1) الموفّقيّات للزبير بن بكّار : 332 333 ، وللخبر ذيل راجعه.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 364 _

  تلخّص ممّا سبق أمران :
  الاَوّل : أنّ النهي عن كتابة الحديث لم يكن نهياً شرعيّاً ، ولم يصحّ ما نُسب من الروايات ـ الناهية عن التدوين ـ إلى رسول الله (ص) ، بل إنّ قرار النهي والمنع كان نابعاً من موقفٍ سياسيّ اتّخذه الخليفة عمربن الخطّاب ومِن بعده الخلفاء.
  ومن الطبيعيّ أن تنقل روايات عن رسول الله في المنع لتصحيح مواقف الخليفة.
  إذ لو ثبت المنع عن رسول الله وعُرف هذا بين المسلمين لما دوَّن أبوبكر خمسمائة حديث ، ولما تلقّى عمّن ائتمنه ووثق به! ولما كتب إلى عمروبن العاص وأنس بن مالك بأحاديث رسول الله في الصدقة وغيرها ، ولما جمع عمربن الخطّاب الصحابة ليستشيرهم في التدوين ، ولَمَا أشاروا عليه بذلك ، ولَما قال عمر: (ومَن دوّن فليأتِني به).
  كلّ هذه النصوص فيها إشارة إلى مشروعيّة التدوين ، وسنقدّم ـ باذن الله دراسة مفصّلة عن فقه الصحابة المدوِّنين للسنّة ، والاَنصار ، والصحابة الذين شهدوا مع عليّبن أبي طالب حروبه ، كي نرى تخالف فقه هؤلاء مع فقه النهج الحاكم المانع للتدوين ، ولنؤكّد على أنّ المدوّنين الشاهدين مع عليّ حروبه من الصحابة وقسم كبير من الاَنصار كانوا من أنصار التعبّد المحض.
  فالخليفة الثاني بعد أن علم بوجود مدوّنات عن رسول الله عند الصحابة طلب منهم أن يأتوه بها ، والناس كانوا يظنّون أنّه يريد الاَخذ بأعدلها وأقومها ، فلمّا أتوه بها أمر بحرقها ، وقد فوجئوا بهذا القرار!
  والمتدبِّر في نصوص المانعين عن رسول الله يدرك أنّ المنع إنّما حَدَث بعد مشروعيّة التدوين ، أي أنّ رسول الله منع عن التدوين ـ طبق ادّعائهم ـ بعد

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 366 _

  أن كان قد سمح لهم بالتدوين أوّلاً ، لقوله: (ومَن كتب فَلْيَمْحُه) (1).
  وهذا ينقض ما قاله الدكتور صبحي الصالح وغيره من أنّ رسول الله نهى عن التدوين في أوَّل الدعوة ، خوفاً من اختلاط الحديث بالقرآن ، لكن لمّا دُوّن القرآن سمح بتدوين حديثه (2) ومرّةً أُخرى ... فإنّ قرار المنع كان قراراً حكوميّاً لم يكتسب شرعيّته من السنّة ، لِما مرّ عليك من النصوص عن رسول الله ، وأنّه جعل فداء أسرى بدر تعليم عشرة من المسلمين الكتابة ، وتأكيده (ص) على نشر أحاديثه ، فكلام الدكتور صبحي الصالح وغيره يقرِّرُ أنّ التدوين جاء بعد المنع ، لكنّ الخبر السابق يؤكّد عكسه بجلاء!
  وهكذا توصّلنا إلى أنّ المنع كان له بُعدان ، الاَوّل: سياسيّ ، والثاني : فقهيّ ، وقد وقفت على تفصيله ، وكان الاختلاف في الحديث عن رسول الله من نتائج هذا القرار ، مضافاً إلى العوامل المذهبيّة و ...
  وبذلك لم يصحّ ما ذهب إليه جولد تسيهر من أنّ أحاديث النهي عن الكتابة وضَعَها أهلُ الرأي وأنّ الاَحاديث التي تثبت الحديث وضعها أهل الحديث (3)ع.
  وإن كنّا لا ننكر دور دعاة الرأي ـ على عهد رسول الله والخلفاء ـ في أحاديث النهي ، أمّا ظاهرة التحديث والتدوين فقد عمل به كبار الصحابة وشرّعه رسول الله ، وليس هو ممّا وضعه أهل الحديث كما ادّعاه جولدتسيهر.
  ومن هذا المنطلق لا أرى ضرورة لاَن يقوم بعض الكتّاب بالجمع بين أحاديث الحظر وأحاديث الاِباحة ، لاعتقادي بكون الاَمر سياسيّاً ، وقد وقفت على تفاصيله ، وهو أهمّ ممّا قيل في وجوه الجمع بينها كالقول : بأنّ بعض الاَحاديث مرفوعة والاَُخرى موقوفة ، ويلزم ترجيح المرفوعة على الموقوفة... وما شابه ذلك من وجوه الجمع.

------------------
(1) في حديث أبي سعيد الخدريّ: تقييد العلم: 30 ـ 31 ، مسلم 4: 2298 كتاب الزهد ، باب 16 ، أحمد 3: 21 و 39.
(2) علوم الحديث ومصطلحه: 7 ـ 9 ، السنّة قبل التدوين: 53.
(3) انظر دراسات في الحديث النبويّ: 82.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 367 _

  أمّا ما جاء من نهي الصحابة والتابعين عن الكتابة وعدم رغبتهم فيها.. فَمَردّه إلى ما انطبع في نفوسهم من النهي ، وكون أقوالهم قد صدرت عن رأي ، فكانوا لايرتضون تثبيتها بالكتابة حرصاً على عدم اختلاطها بالمرويّات عن رسول الله (ص).
  نعم ، إنّهم كانوا يسجّلون آراءهم لاَنفسهم كي لا يحصل الاختلاف بين ما قالوه اليوم مع ما قالوه بالاَمس ، مع أنّ نشر تلك الصحف كان لايُرضيهم فيجدّون لحرقها ، فقد جاء عن الشعبيّ: أنّ مروان أجلس لزيد بن ثابت رجلاً وراء الستر ، ثمّ دعاه فجلس ليسأله وهم يكتبون ، فنظر إليهم زيد ، فقال: يامروان عذراً ، إنّما أقول برأي (1).
  قال الدكتور محمد عجاج الخطيب:
  وقد ازدادت كراهة التابعين للكتابة عندما اشتهرت آراؤهم الشخصيّة ، فخافوا أن يدوّنها طلاّبهم مع الحديث ، وتُحمل عنهم فيدخله الالتباس.
  ويمكننا أن نستنبط أنّ من كره الكتابة وأصرّ ، إنّما كره أن يدّون رأيه ، وفي هذا يقول أُستاذنا الدكتور يوسف العش: (وأمّا من ورد عنهم الامتناع عن الاِكتاب من هذا الجيل ، فيؤول امتناعهم بما لا يخالف ما انتهينا إليه ، فهم جميعاً فقهاء وليسبينهم محدّث ليس فقيه ، والفقيه يجمع بين الحديث والرأي ، فيخاف تقييد رأيه واجتهاده إلى جانب أحاديث الرسول) ، ثمّ يوضّح هذا بأمثلة تثبت ماذهب إليه ، فيقول : إنّنا نجد في الواقع أخباراً تروي كراهتهم لكتابة الرأي ، كاعتذار زيد بن ثابت عن أن يكتب عنه مروان ، وجاء رجل إلى سعيدبن المسيب ـ وهو من الفقهاء والذين روي امتناعهم عن الاِكتاب ـ فسألة عن شيء ، فأملاه عليه ثمّ سألة عن رأيه فأجابه ، فكتب الرجل. فقال رجل من جلساء سعيد : أيكتب يا أبا محمّد رأيك ؟
  فقال سعيد للرجل : ناِولْينها ، فناوله الصحيفة فخرّقها (2).
  وقيل لجابر بن زيد : إنّهم يكتبون رأيك! قال: تكتبون ما عسى أن أرجع

------------------
(1) الطبقات الكبرى 2: 361.
(2) انظر تمام الخبر في جامع بيان العلم وفضله 2: 144.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 368 _

  عنه غداً ؟! (1).
  وقال الدكتور صبحي الصالح:
  وممّا زاد من كراهة القوم للكتاب أنّ آراءهم الشخصيّة بدأت تشتهر ، فكانوا يخشون إذا كتب الناس عنهم الاَحاديث أن يكتبوا إلى جانبها هاتيك الآراء.
  ولدينا من الاَخبار ما يؤكّد هذا ويثبته ، ولعلّ من أوضحه في عصر كبار التابعين مارووا من أنّه قيل لجابر بن زيد: إنّهم يكتبون رأيك ... (2) وروي عن ابن عوف أنّه قال: إنّي أرى هذه الكتب ، ياأباإسماعيل! ستُضلّ الناس (3).
  فمن المحتمل أن يكون رجوع الخليفة عمربن الخطّاب عمّا كتبه في الجَدّة كان من هذا الباب ، وكذا ما جاء عن الصحابة والتابعين ، وأمرهم أولادهم بمحو كتبهم وإماتتها بالماء ، إنّما جاءت لاَنّ هذه الكتب كتبت عن رأي ، لالِما صحّ عندهم من حديث عن رسول الله!
  وقال الدكتور محمّد عجاج الخطيب:
  (وكلّ هذه الاَقوال رُوِيت من علماء ، حَدَّث المؤرِّخون عنهم أنَّهم كرهوا إكتاب الناس ، وهي تدلّ دلالة صريحة على أنّ الكراهة ليست في كتابة العلم (أي الحديث) ، بل في كتابة الرأي. وأنّ الاَخبار التي وردت في النهي دون تخصيص إنّما تقصد الرأي خاصة ...) إلى أن يقول: ويقوّي هذا الرأي عندنا ما ورد عن هؤلاء التابعين من أخبار يحثّون فيها على الكتابة ، ويسمحون لطلاّبهم أن يكتبوا عنهم في الحديث (4).
  عرفت بهذا أنّ ما كُتب عن زيد كان آراءه الشخصيّة ، ولهذا كرهها زيد ، وكذا الحال بالنسبة لكراهة سعيد بن المسيِّب وغيره ، والمراجع لكتب الرجال

------------------
(1) جامع بيان العلم وفضله 2: 31 وكلام الدكتور محمّد عجاج الخطيب في (السنّة قبل التدوين): 323 و 324.
(2) علوم الحديث للدكتور صبحي الصالح: 34.
(3) تقييد العلم: 57 والتصدير للدكتور يوسف العش: 21.
(4) السنّة قبل التدوين: 324.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 369 _

  والحديث يقف على نصوص كثيرة في هذا السياق (1).
  من المؤكَّد إذن أنّ عمل هؤلاء الصحابة ليس دليلاً على كراهيّة تدوين السنّة النبويّة من قبل النبيّ (ص).
  ولا يسعني هنا إلاّ أن أُشير إلى قضيّة أُخرى وهي ما جاء في كتاب تقييد العلم وغيره من : أنّ الصحابة كانوا يكتبون حديث الرسول كي يحفظوه ، ولمّا حفظوه مَحَوه ، فهذا الخبر لو جُمع إلى ما قيل عن الصحابة من أنّهم كانوا يُفتون في كثير من الاَحيان بالرأي ، لوصلنا إلى نتيجة نجد فيها اختلاط الرأي بالحديث بحيث لا يمكن التمييز بينهما ، ولاَجله ترى الكثير من المأثور النبويّ ما هو إلاّ كلام الصحابيّ.
  تلخّص ممّا مرّ أنّ الشيخين كانا وراء منع التدوين ، وأنّ المنع كان موقفاً شخصيّاً فرضته الظروف عليهما ولم يكتسب شرعيّته من النصوص ، إذ قال الشيخ محمّد أبو زهو في كتابه (الحديث والمحدِّثون) عن النهي: (... وقد كان هذا رأياً من عمر (2)).
  قال يحيى بن جعدة : إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب في الاَمصار: (مَن كان عنده منها شيء فليمحه)!
  إنّ تعابير (أراد) و(بدا له) و(ثمّ كتب في الاَمصار) تدلّ بوضوح على أنّ إقدام الخليفة عمربن الخطّاب كان بدافع من رغبته الشخصيّة وإرادته الخاصّة ، كما في دلائل (التوثيق المبكّر): أنّ هؤلاء الذين كانوا قد وقفوا في معارضة كتابة الحديث كانت لهم أسبابهم الشخصيّة في ذلك ، بل وحتّى الفاروق الذي كان يُعدّ من أشدّ معارضي الكتابة لم ينقل أو يستشهد بأيّ حديث للنبيّ (ص) يؤيّد وجهة نظره المعارضة للتسجيل (3).
  وكذا قول القاسم بن محمّد بن أبي بكر: إنّ عمر بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب ، فاستنكَرَها وكرهها ، يدلّ على أنّ الكراهة جاءت من عمر

------------------
(1) انظر مثلاً جامع بيان العلم وفضله 1: 74 وتقييد العلم: 64.
(2) الحديث والمحدّثون: 126.
(3) التوثيق المبكّر: 239 كما في تدوين السنّة الشريفة: 288.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 370 _

  لامن النبيّ ، وأنّ الخليفة استنكرها قبل أن يراها ، ومسألة كهذه جديرة بالتأمّل!
  وعليه فسياسة الخليفة عمربن الخطّاب كانت منع الحديث عموماً بما فيه من الفضائل والاَحكام ، وقد صدرت عن رأيه الشخصيّ ، ولم تكسب شرعيّتها من رسول الله ، وأنّ إعراضنا عن الجمع بين الروايات الناهية والآذِنة كان لهذا السبب.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 371 _

  انكشفت لنا حتّى الآن أنَّ منع التدوين والتحديث ـ الذي جرَّ إلى فتح باب الاجتهاد والرأي ـ قد مرَّ بمراحل أساسيّة ، وأشواط معيّنة ، ولم يكن تعبّداً متلقٍ عن النبيّ (ص) ، وكانت أهمّ تلك المراحل هي:
   (1) شيوع ظاهرة كثرة الحديث
  لمّا كثرت اجتهادات الشيخين ـ ومن على نمطهما الفكريّ من الصحابة ـ وظهر التخالف بين أقوال المجتهدين وسنّة رسول الله (ص) ، كان من البديهيّ أن يكثر التحديث عن النبيّ باعتباره أمراً ضروريّاً للوصول إلى الحكم الشرعيّ الصحيح بأنقى صوره ، ولكون تلك الاجتهادات قد تميّزت تمييزاً واضحاً عن مسيرة التحديث بشكل عامّ ، حيث ألف الصحابة التحديث وكانت مسألة طبيعيّة عندهم ، فمن المحتمل ـ بعد هذا ـ أن يكون قول الخليفة الاَوّل (إنَّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً) إشارة إلى تعدّد الاتّجاهات في عهده ، وتبنّي كلّ واحد من الصحابة وجهة نظر خاصّة ، وهذا هو ممّا يسبب توسيع رقعة الاختلاف بين المسلمين فيما بعد ، وعليه فالتحديث كان تيّاراً قويّاً استحكم وجوده على لسان الخليفة الثاني عمربن الخطّاب ، لقوله لهم : (أكثرتم الحديث عن رسول الله) ، وفي الطبقات الكبرى: (إنَّ الاَحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطّاب) ، وفي تقييد العلم: إنَّ عمر بلغه أنّه قد ظهر في أيد الناس كتب ... وما سواها الكثير.
  (2) منع أبي بكر من التحديث وإحراقه مدوّنته
  بعد أن كثر التحديث عن رسول الله وصار مدّاً عارماً ، أمر الخليفة أبوبكر

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 372 _

  الصحابة بعدم التحديث عن النبيّ ، فقال : (لا تحدّثوا عن رسول الله (ص) شيئاً فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله...) ثمّ أعقب ذلك بحرق مدوّنته الحديثيّة ، حينما قال لابنته عائشة: (أي بُنيّة! هلمّي الاَحاديث التي عندكِ) فلمّا جاءته بها (دعا بنار فحرقها) إلى آخر الخبر.
   (3) أمر عمر الصحابة بالاِقلال من الحديث
  نظراً لاستمرار ظاهرة التحديث والاِكثار منه ـ على عهد الخليفة عمربن الخطّاب ـ وعدم انصياع الصحابة المحدّثين لما كان يتوخّاه أبو بكر ، فراح الخليفة عمر يواصل سيرة أبي بكر بإلحاح أكثر وإصرار متزايد ، فشايع وفد الصحابة إلى الكوفة ـ إلى موضع صرار قرب المدينة ـ لاَجل أن يقول لهم (أقلّوا الرواية عن رسول الله (ص) وأن شريككم) ، وقوله (أقلّوا الرواية عن رسول الله إلاّ فيما يعمل به) أو (ظاهراً) و ...
  (4) جمع عمر مدوّنات الصحابة وإحراقها
  إنَّ النهي عن التحديث وإحراق الخليفة الاَوّل لمدوّنته لم يقابل ـ من قبل الصحابة ـ بما يسرّ الشيخين ، فقد بقيت هناك مدوّنات عند كثير من الصحابة ، ومع وجود المدوّنات والمدوّنين لا يتأتّى للخليفة ما يريده ، فكان أن اتّخذ عمربن الخطّاب خطوة جمع فيها المدوّنات وقوله لهم: (فلا يبقيّن عندهم كتاباً إلاّ أتوني به) وقد كانوا يظنّون أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، لكنّهم فوجئوا بإحراقه لها لقول الراوي: (فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار).
  وقد كان هذا الاِحراق بسبب كون النصوص المدوّنة بمنزلة الوثائق الرسميّة ـ لتخطئة الخليفة ـ بِيَدِ الصحابة ، والخليفة لا يريد أن تبقى هذه الوثائق بيدهم لئلاّ تكون عليه أُمور لا يحمد عقباها.
  ولاَنَّ التدوين المكتوب في الصدر الاَوّل وبقلم صحابيّ له من القيمة ما

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 373 _

  يجعله قادراً على نقض رأي الخليفة ، بخلاف التحديث إذ يمكن معارضة الحديث بحديث آخر يوضع في الآن وعلى البديهة ، أمّا المدوّنة فلايمكن رسم بديله على البديهة ، ولاَجله نراهم يسمحون بالتحديث ويمنعون التدوين!
  واحتمل بعض الكتّاب أن يكون السماح بالتحديث والمنع من التدوين جاء لاعتقاد فرقة من اليهود بالكتابة خلافاً لاَُخرى داعية إلى الحفظ.
  وبما أنَّ كعب الاَحبار ووهب بن منبّه كانا ممّن يستشار منهما ، فمن المحتمل أن يكون الخليفة قد تأثّر برأيهما في السماح بالتحديث والمنع من التدوين ، لاَنّه كان يحتاج إلى تحديد بعض النقول عن رسول الله ، والتفكيك بينهما خير علاج للقضيّة ، فجاء عن عمر أنّه سأل كعب الاَحبار عن الشعر فأجابه: بأنَّ قوماً من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة ، وفي آخر عن وهب أنّه قال : إنَّ موسى قال : يا ربّ ! إنّي أجد في التوراة أُمّة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها وكان من قبلهم يقرؤون في كتبهم نظراً ولايحفظونها فاجعلهم أُمّتي ، قال : تلك أُمّة محمّد (1).
  وجاء في (الفكر الدينيّ الاِسرائيليّ) للدكتور حسن ظأظأ: 79 عن التلمود حيطين 60|ب ـ تمورا ـ 14ب (أنَّ الاَُمّة التي تروي مشافهة ليسلك الحقّ في إثباتها بالكتابة) (2).
  (5) حبسه بعض الصحابة وأمره الجميع بترك التحديث والتدوين
  مع كلّ الخطوات المتواصلة ، والتدابير المتضافرة ، بقى بعض كبار الصحابة يحدّث ويروي ما سمعه عن رسول الله (ص) غير عابىَ برأي الخليفة.
  وحيال هذه الحالة لم يقف عمر مكتوف الاَيدي ، بل أصدر قرارات صارمة تمنع منعاً باتّاً عن التحديث والتدوين ، وذلك في قوله في خطبة له

------------------
(1) الخبران الآنفان في البداية والنهاية 6 : 62 ، ونزهة المجالس 2 : 199 .
(2) انظر بحوث مع أهل السنّة والسلفيّة للروحانيّ : 97 ، تاريخ التشريع الاِسلاميّ للفضليّ :40 ، والصحيح من سيرة النبيّ للعامليّ .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 374 _

  أوردها ابن شبّة في منع عمر للصحابة من التحديث: (إنَّ حديثكم هو شرّ الحديث ، وإنّ كلامكم شرّ الكلام ، من قام منكم فليقم بكتاب الله وإلاّ فليجلس) (1)ذف ، وفي مثل تهديداته لناقلي حديث رسول الله ، كما مرَّ في قضيّة عمّاربن ياسر وأبي موسى الاَشعريّ وغيرهما وعباراته التهديديّة في المنع لهم.
  واستكمالاً للمنع أقدم الخليفة عمر بن الخطّاب في حبس الصحابة المحدّثين في المدينة المنوّرة كي يكونوا تحت نظره وإشرافه ولئلاّ يحدّثوا بما يخالف رأيه ، فجاء النصّ يقول:
  إنَّ عمر بن الخطّاب حبس بعض أصحاب النبيّ ... وفي آخر عن عبد الرحمن بن عوف قوله : (ما مات عمربن الخطّاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله من الآفاق... وقال: أقيموا عندي ، لا والله لاتفارقوني ما عشتُ ، فما فارقوه حتّى مات) وغيرها من النصوص المتقدّمة.
  (6) حصر العمل بكتاب الله
  وكبديل عن الحديث النبويّ ، أو كتعليل للمنع ، طرح الخليفتان مفهوم (بيننا وبينكم كتاب الله) و(حسبنا كتاب الله) و (لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً) لما فيه من تهرّب من التعبّد بنصوص السنّة وجعل العمل في دائرة أوسع وهو القرآن الكريم الذي يعتقد به الجميع ويقدّسونه.
  (7) سماح الخليفة عمر للصحابة بالاجتهاد والقياس
  لمّا رأى الخليفة كثرة المسائل الواردة عليه ـ التي لا يرى نصوص شرعيّة فيها ـ رأى من الضرورة السماح بالاجتهاد لنفسه وللصحابة ، وليكون القياس والمصلحة وغيرهما مبانٍ أساسيّة في التشريع الاِسلاميّ.

------------------
(1) أخبار المدينة المنوّرة 3 : 800 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 375 _

  (8) محاولة حصر الاجتهاد
  ثمّ إنَّ الاجتهاد ـ بوسعته هذه ـ أخذ مأخذه عند الصحابة ، فتضاربت الآراء واختلفت ، وصار من الصعب ترجيح رأي على آخر ، وهذا هو الذي دعا الخليفة أن يصعد المنبر ويحذّر الصحابة من اختلافهم ، وهو أيضاً جعله أن يقول لمن جمعهم عنده: (نحن أعلم منكم ، نأخذ عنكم ونردّ عليكم) وغيرها.
  إنَّ التأكيد على سيرة الشيخين في الشورى ، وسماح عثمان ومعاوية في الاكتفاء بالاَحاديث التي عُمِل بها في عهد عمر لا غير ، وقرار الخليفة عمربن عبدالعزيز حصره التدوين (بسنّة صاحبيه ، أمّا غيرهما فنرجئهما) وغيرها من النصوص آنفة الذكر.
  تدلّ هذه المراحل على أنَّ أرائهما أصبحت سنّة يُعمَل بها ، وأنَّ اجتهادهما صار أصلاً ثالثاً في التشريع الاِسلاميّ لم يكن يدّعياها ـ الشيخان ـ من قبل.
  وبهذا يتبيّن أنّ ما ذهب إليه إسماعيل أدهم وتوفيق صدقي ورشيد رضا(1) ومنكرو السنّة في الباكستان القائلين بلزوم الاكتفاء بالقرآن ، إنّما كان كلامهم نتيجة حتميّة لمنع الشيخين من تدوين حديث رسول الله.
  واستبان لك كذلك عدم صحّة ما علّل به الشيخان في المنع ، وما علّله به الآخرون من الكتّاب ، شيعةً وسنّة ، مستشرقين ومسلمين ، ذلك لاَنّ المنع جاء لظروف خاصّة طرأت على الخلافة الاِسلاميّة ولقناعات سابقة ودوافع شخصيّة عند الخليفة عمر بن الخطّاب.
  الثاني : ارتسام نهجين في الشريعة يخالف كلّ منهما الآخر في الاَُصول والمباني.
  فالبعض: يذهب إلى مشروعيّة الاَخذ بالرأي والظنّ ، المقابل للدليل القطعيّ ، ويقول بحجّيّة اجتهادات عمر بن الخطّاب في سهم المؤلّفة قلوبهم ،

------------------
(1) انظر دراسات في الحديث النبويّ للدكتور الاَعظميّ: 32.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 376 _

  وغيرهما من القضايا والاَحكام.
  والبعض الآخر من الصحابة لا يرتضي مثل هذه الاجتهادات ، إلاّ إذا كانت مستنبطة من النصّ قرآناً أو سنّةً. وهؤلاء يعتقدون أنّ رسول الله كان من المتعبّدين بالنصوص ، وأنّه كان لا يقول بالرأي والظنّ ، بل ينتظر الوحي ليفصل في الوقائع ويبتّ في الاَحكام ، وقد قال سبحانه وتعالى عنه: (ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى )(1) ، وقال جلّ جلاله: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناسِ بما أراكَ الله )(2).
  أمّا قوله تعالى: (وَما كانَ لمُؤمنٍ وَلا مُؤمنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورسولُه أمراً أنْ يكونَ لَهُمُ الِخيَرَةُ مِن أمَرِهِمْ )(3) ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى فعل أُولئك المجتهدين الذين يريدون التعرّف على المصلحة وهم بحضرة رسول الله ـ المبلِّغ عن الله ـ ، وسبحانه وتعالى أراد بقوله التصريح بعدم جواز عمل هؤلاء ، لاَنّه (جلّ وعلا) قد أكمل شريعته في كتابه وكلّف رسوله بتبيين أحكامه للناس ، وقد صرّح بهذا المطلب واستدلّ بهذه الآية عبد الله بن عبّاس حبر الاَُمّة في ردّ الخليفة عمر بن الخطّاب في موضوع الاِمامة أيضاً.
  فالاجتهاد والاَخذ بالظنّ في الاَُمور ليس لهما دليل قطعيّ من الوحي ، بل هو تعدٍّ على صاحب الشريعة ، وإفتاء بغير ما أنزل الله لقوله (قُلْ ءآللهُ أذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلى اللهِ تَفْتَروُن )(4)؟!
  نعم ، كان هؤلاء الصحابة لا يجوّزون الاَخذ بالرأي ، لمعرفتهم بوجود من يعرف التنزيل والتأويل بينهم ومن خصّه الله بالفهم والعلم ، ولمعرفتهم بجواز ترك الاَخذ باجتهاد الصحابيّ ، لاَنّ كلامه مجرّد رأي شخصيّ يمكن تركه ، وليست له قيمة إلزاميّة في الشريعة الاِلـهيّة ، كما هو ثابت ومعروف عند الجميع.

------------------
(1) النجم: 3 ـ 4.
(2) النساء: 105.
(3) الاَحزاب : 36 .
(4) يونس: 59.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 377 _

  إنّ ترجيح رأي الشيخين على كلام رسول الله ، أو الاَخذ بقولهما دون البحث عن تطابقه مع القرآن والسنّة ، ممّا لا يثبت أمام الحقائق ، وكذا القول بأنّ الخليفة أعلم من غيره بمقصود الشارع!
  نعم ، إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان يريد تحقيق أمر ضروريّ في التشريع ألا وهو: عدم تخطئة اجتهاداته بعد وفاته ، بل لزوم جعل ما قاله من ضمن الشريعة وهذا هو الذي دعا ابنَ عوف لاَخذ العهد من عثمان عليه لقوله (على كتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين) أو (إلاّ ما سُنَّ على عهد الشيخين)، لاَنّ المخالفة لتلك الاجتهادات تعني تقوية الجناح المخالف لنهج الخليفة!
  وعثمان حينما قبل بالشرط المذكور ، كان يريد العمل بمقتضاه ، لكنّه تخطّى ذلك في السنوات الستّ الاَواخر من عهده ، لِما كان يرى في نفسه من الاَهليّة ومن المضاهاة للشيخين!
  أمّا الاِمام عليّ بن أبي طالب فإنّه لم يرتضِ الاجتهاد قِبال النصّ ، ولميرتضِ الشرط الاَخير المقترَح من قبل ابن عوف (أي سيرة الشيخين) ، واقتصر قبوله على الاَصلين الاَوّلين: كتاب الله وسنّة نبيّه (1).
  وبذلك تميّز في الشريعة نهجان متباينان: نهج يمثّله الاِمام عليّبن أبي طالب وأتباعه كعبد الله بن العبّاس وعمّار بن ياسر وأبي ذرّ وسلمان و ... ومن بعدهم الحسنبن عليّ ، والحسين بن عليّ ، وعليّ بن الحسين ، وجعفر الصادق ، وموسى الكاظم ... وباقي أئمّة أهل بيت النبيّ (ص).
  والنهج الآخر يمثّله : الخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان بن عفّان ، ومعاوية بن أبي سفيان وأتباعهم كعمروبن العاص وابنه وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وسمرةبن جندب ، وهشام بن عبد الملك ، وأبو جعفر المنصور ، وهارون الرشيد... وسواهم من حكّام بني أُميّة وبني العبّاس.
  أجل ، إنّ الذين قالوا بالرأي قد استخدموا الاجتهاد والتأويل للخروج من إحراجات صارخة ، منها أنّهم عمدوا إلى الاجتهاد والتأويل ليعذروا

------------------
(1) انظر بحار الاَنوار 31 : 371 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 378 _

  عبدالرحمن بن ملجم قاتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مع العلم أنّ ابن ملجم ليس من الصحابة ، ومع هذا يبحثون له عن هذا المخرج!
  ومن أجل أن يعذروا يزيدَ في قتله الحسين!
  ويعذروا أبا العادية لقتله عماراً!
  ويعذروا معاويةَ لسمّه الحسن ، ومن قبله عثمان لحرقه المصاحف وعمرَ لحرقه الحديث وأبا بكر في تأويلاته لقتل مالك والزنا بزوجته!
  ونتيجةً لما قَنّن الخلفاء ظهرت فكرة جواز تقديم المفضول مع وجود الفاضل ، فمعاوية مفضول ، ويزيد مفضول ، ومروان بن الحكم مفضول وأولاده مفضولون ، لكنّ المصلحة تدعو إلى القول بتقديم المفضول على الفاضل!!

  وقد وضّح الاِمام عليّ ما لقي بنو هاشم من القرشيّين فقال: إنّ الله لمّا قَبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالاَمر ، ودُفِعنا عن حقٍّ نحن أحقّ به من الناس كافّة ، فرأيتُ أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالاِسلام ، والدين يمخض مخضَ الوطب ، يُفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلّ خلاف (1).
  وفي رسالته (ع) إلى أخيه عقيل:
  (... ألا وإنّ العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعَها على حرب رسول الله قبل اليوم...) (2).
  وفي كلام آخر يقول الاِمام: (اللّهمّ إنّي أستعينك على قريش ومَن أعانهم ، فإنّهم قطعوا رحمي وأَكفأوا إنائي ، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنتُ أولى به من غيري ، وقالوا إنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحقّ أن تمنعه ، فاصبر مغموماً أو مت متأسّفاً ، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلاّ أهل

------------------
(1) شرح النهج 1: 249.
(2) انظرها في نهج البلاغة 3: 67.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 379 _

  بيتي...) (1)؟.
  وقال: (حتّى إذا قَبَض الله رسوله رجع قوم على الاَعقاب ، وغالَتْهُم السبُل ، واتّكلوا على الولائج ، ووصلوا غيرَ الرحِم ، وهجروا السببَ الذي أُمِروا بمودّته ونَقَلوا البناء من رصّ أساسه فبنَوه في غير موضعه ... (2).
   نصّ آخر
  وجاء في كلام الباقر لبعض أصحابه:
  (يا فلان! ما لقينا من ظلم قريش إيّانا ، وتظاهُرِهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس ؟!
  إنّ رسول الله قُبض وقد أخبر أنّنا أولى الناس بالناس ، فتمالاَتْ قريش حتّى أخرجت الاَمر عن معدنه ، واحتجّت على الاَنصار بحقّنا وحجّتنا ، ثمّ تداولَتها قريش واحداً بعد واحد ، حتّى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا. ولم يزل صاحب الاَمر في صعود كؤود حتّى قُتل .
  فبويع الحسن ابنه وعُوهد ، ثمّ غُدِر به وأُسْلِم ، ووثب عليه أهل العراق ، حتّى طُعِن بخنجر في جنبه ، ونهبت عسكره ، وعولجت خلاخيل أُمّهات أولاده ، فوادعَ معاويةَ وحقنَ دمه ودماء أهل بيته ، وهم قليل حقّ قليل .
  ثمّ بايع الحسينَ (ع) من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثمّ غَدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه.
  ثمّ لم نَزَل أهلَ البيت نُستذل ونُستضام ، ونُقصى ونمتهن ، ونُحرم ونُقتل ، ونخاف ولانأمن على دمائنا ودماء أوليائنا... إلى أن قال: ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كلّ بلدة ، فحدّثوهم بالاَحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورَوَوا عنّا ما لمنَقُلْه ، وما لم نفعله ، ليبغّضونا إلى الناس.

------------------
(1) نهج البلاغة 2: 227 خ 212.
(2) نهج البلاغة 2: 49 خ 146 (في الملاحم).

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 380 _

  وكان عظُم ذلك وأكثره زمن معاوية بعد موت الحسن (ع) ، فقلّت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقطّعت الاَيدي والاَرجل على الظنّة ، وكلّ من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ، أو نُهِب ماله ، أو هُدِمت داره ، ثمّ لم يَزَل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيداللهبن زياد ، قاتل الحسين.
  ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة ، وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة ، حتّى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال : شيعة عليّ! وحتّى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ولعلّه يكون وَرِعاً صدوقاً يحدّث بأحاديث عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ، ولاكانت ولاوقعت ، وهو يحسب أنّها حقٌّ لكثرة من قَد رواها ممّن لم يُعرف بالكذب ، ولابقلّة ورع) (1).
  وفى كلام للاِمام عليّ يشير فيه إلى عدم عمل الاَُمّة بكتاب الله وسنّة رسوله ، بل غلبت الاتّجاهات عليهم فقال: ...فيا عجبي وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتصون إثر نبيّ ولايقتدون بعمل وصيّ ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعنَّون عن عيب ، يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، المعروف عندهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المهمّات على آرائهم ، كأنَّ كلّ امرىٍَ منهم إمام نفسه ، قد أخد منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات ... (2)
  وقوله : إنَّ الكتاب لمعي ما فارقته منذ صحبته ، فلو كنّا مع رسول الله... إلى أن يقول : ولكنّا إنَّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الاِسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل ،(3) ومن خطبة له بعد انصرافه من صفّين جاء فيها: ... والناس في فتن انجذم ـ أي انقطع ـ فيها حبل الدين ، وتزعزعت سوارى ـ أي عمود ـ اليقين ، واختلف

------------------
(1) شرح نهج البلاغة 11: 43 ـ 44.
(2) نهج البلاغة 1 : 154 ضمن خ 84 .
(3) نهج البلاغة 2 : 3 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 381 _

  النجر ـ أي الاَُصول ـ وتشتّت الاَمر ، وضاق المخرج ، وعمي المصدر ، فالهدى خامل ، والعمى شامل ، عُصِي الرحمنَّ ، ونُصِر الشيطان ، وخُذِل الاِيمان ، فانهارت دعائمه ، وتنكَّرت معالمه ، ودرست سبله ، وعفَّت ... (1) ومن كلام آخر له : ... ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر ، وأتوسّمكم بحلية المفترين ، سترني عنكم جلباب الدين ، وبصّرنيكم صدق النيّة ، أقمت لكم على سنن الحقّ في جوار المضلّة حيث تلتفّون ولا دليل وتحتفرون ولاتميهون ... (2)
  دلائل ومؤشّرات
  نعم ، إنّ قريشاً قد جدّت في مقاطعة بني هاشم في بدء الدعوة ، لكنّ الهاشميّين صمدوا ثلاث سنين في شِعب أبي طالب وتحمّلوا حصار العرب.
  ثمّ أجمعت العرب أن تشترك في قتل النبيّ ، فلا يقوى الهاشميون علىالمطالبة بدمه ، ومن أجل هذا قال رسول الله عن الهاشميّين مادحاً لهم : (إنهّم لم يفارقوني في جاهليّة ولا إسلام وإنّما نحن وهم شيء واحد) ، وشبك بين أصابعه (3)شك.
  فالهاشميّون لم يتركوا رسول الله ولم يُسْلّموه بل إنّهم كانوا درعاً له ووقاء ، وكانوا يدافعون عنه (ص) حتّى آخر لحظة ، من حياته الشريفة.
  فمثلما اجتمعت العرب على محمّد (ص) تحاربه ، فإنّها قد اجتمعت على أهل بيته تضادّهم وتستأصلهم من بعده ، وإنّ ما بدأوا بالاِعلان عنه في عهد الرسول هو الذي اتّسع ورسخ لاحقاً ، ذلك أنّ غير أهل البيت قالوا بمشروعيّة الرأي ، وجواز التعرّف على المصلحة ، وإدراك ملاكات الاَحكام ، والنهي عن التدوين وغيرها من المستحدثات.
  وأنت تعلم أنّ هذا كلّه قد طبّق عمليّاً فيما بعد ، فولاية العهد غدت

------------------
(1) نهج البلاغة 1 : 23 .
(2) نهج البلاغة 1 : 34 .
(3) سنن النسائيّ 7: 131 ، سنن أبي داود 3: 146|2980.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 382 _

  شرعيّة ـ بعد قولهم بأنّ رسول الله لم يستخلف أحداً ـ استناداً إلى فعل أبي بكر في الاستخلاف.
  وصار التدوين مكروهاً مقيتاً لكراهة عمر له وجائزاً لتدوين ابن عبدالعزيز له .
  وصِيرَ إلى القول بعدم اجتماع النبوّة والاِمامة وإنّ رسول الله لميورّث اتّباعاً لِما ذهب إليه الشيخان.
  ومن الطريف هنا أن ننقل كلام الاِمام عليّ لعمّه العبّاس حينما بويع عثمان ، إذ قال له العبّاس: ألم أقل لك ؟
  فقال له (عليّ): يا عمّ! إنّه قد خَفِي عليك أمر. أما سمعتَ قوله (أي قول عمر) على المنبر: ما كان الله ليجمع لاَهل هذا البيت الخلافة والنبوّة ؟! فأردت أن يكذّب نفسَه بلسانه ، فيعلم الناسُ أنّ قوله بالاَمس كان كذباً باطلاً وأنّا نصلح للخلافة ؟! فسكت العبّاس (1).
  فلو كان حقّاً أنّ رسول الله لا يورّث فلمَ قال أبو بكر: (لقد دفعت آلة رسول الله وسيفه وبغلته إلى عليّ) ؟ (2)ولماذا طالبت زوجات النبيّ الخليفةَ أبا بكر بإرثهنّ ؟ إنّها تساؤلات تتطلّب الاِجابة ، وفينظرنا أنّ التصوّرات الخاطئة هي التي آلت إلى اعتقادات خاطئة سارية إلى اليوم في تاريخ المسلمين وحياتهم.
  لا أدري كيف لا يُتعجَّب من إيتاء الكتاب والحكمة والمُلك لآل إبراهيم ونتعجّب من أن يُؤتى آل محمّد مثلما أوتي آل إبراهيم ؟! قال الحقّ سبحانه وتعالى : (أمْ يَحْسُدون الناسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً )(3).
  قال عليّ بن أبي طالب: والله ما تنقم قريش إلاّ أنّ الله اختارنا عليهم ، فادخلهم في حيّزنا.

------------------
(1) علل الشرائع: 171 ، باب 134 حديث 1 ، وعنه في بحار الاَنوار 31: 355.
(2) انظر شرح نهج البلاغة 16: 240 مثلاً.
(3) النساء: 54.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 383 _

  وقد مرّ عليك رسالة معاوية لمحمّد بن أبي بكر: (...فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه وخالَفه ، وعلى ذلك اتّفقا واتّسقا ...).
  إنّ ما أُريد التأكيد عليه هو أنّ الفقه قد مُنِيَ ـ بمحنة انفعاله ـ بالدوافع السياسيّة ، وأنّ الاَحكام الدينيّة صارت لا تُعرَفُ ، لخلفيّات خاصّة أملتها السلطات ـ والخلفاء أصحاب الرأي ـ.
  وننقل هنا نصّاً عن (الاعتصام) رواه عن ابن العربيّ ـ وهويكشف عمّا ذكرناه ـ قال ابن العربيّ: كان شيخنا أبو بكر الفهريّ يرفع يدَيه عند الركوع ، وعند رفع الرأس منه ، وهو مذهب مالك والشافعيّ ، وتفعله الشيعة ، فحضر عندي يوماً في مَحْرَس أبي الشَّعْراء بالشَّعْر موضع تدريسي ، عند صلاة الظهر ودخل المسجد من المحرس المذكور ، فتقدّم إلى الصفّ الاَوّل ، وأنا في مؤخّره قاعداً على طاقات البحر ، أتنسّم الريح من شدّة الحرّ ، ومعي في صفّ واحدٍ (أبو تمنة) رئيس البحر وقائده ، في نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ، ويتطلّع على المراكب.
  فلمّا رفع الشيخ الفهريّ يدَيه في الركوع وفي رفع الرأس منه ، قال أبو تمنة وأصحابه: ألا ترى إلى هذا المشرقيّ كيف دخل مسجدنا ؟! قوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم أحد!!
  فطار قلبي من بين جوانحي وقلت: سبحان الله! هذا الطرطوشيّ فقيه ، فقالوا لي: ولِمَ يرفع يديه ؟ فقلت: كذلك كان النبيّ (ص) يفعل ، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه.
  وجعلت أُسكّتهم وأُسكّنهم ، حتّى فرغ من صلاته ، وقمت له إلى المسكن من المحرس ، ورأى تغيّر وجهي فأنكره ، وسألني فأعلمته ، فضحك ، وقال: من أين لي أن أُقتل على سُنَّةٍ ؟!
  فقلت: ويحلّ لك هذا؟ فإنّك بين قوم إن أقمتَ بها قاموا عليك ، وربّما ذهب دمُك.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 384 _

  فقال: دع هذا الكلام ، وخُذ في غيره (1).
  فابن العربيّ قد دعا أُستاذه الشيخ الفهريّ إلى التقيّة ، بَيْدَ أنّ الاَُستاذ كان يحبّ القتل على السنّة!
  والجدير هنا نقل كلام الخليفة عمر بن الخطّاب قوله: إنّ ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله (ص) ، وإنّ الوحي قد انقطع ، وإنّما آخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيراً آمنّاه وقرّبناه ، وليس إلينا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته .
  ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولمنصدّقه وإن قال إنّ سريرتي حسنة (2).
  ومن أمثله الانفعال بالدوافع السياسيّة ما نراه في موقف البخاريّ في اختياره الروايات والرواة ، فالبخاريّ ـ ومثله مسلم ـ قد رويا عن مروانبن الحكم وأبي سفيان ومعاوية وعمرو بن العاص والمغيره بن شعبة وعبداللهبن عمروبن العاص والنعمان بن بشير ، ولكنّهما لم يرويا عن الحسن والحسين سِبْطَي رسول الله (ص) ، ولم ينقلا عن الصادق على رغم معاصرتهما له .
  وأكثر من روى عنهم البخاريّ: أبو هريرة ، وعائشة ، وعمرّبن الخطّاب ، وعبداللهبن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
  فإنّه روى عن أبي هريرة أربعمائة وستّة وأربعين حديثاً .
  وعن عبد الله بن عمر مائتين وسبعين حديثاً .
  وعن عائشة أربعمائة واثنين وأربعين حديثاً ، ولم يروِ عن فاطمة الزهراء بنت الرسول إلاّ حديثاً واحداً! ولم يروِ عن عليّ إلاّ تسعة وعشرين حديثاً! ترى ... لماذا تقلّ نسبة أحاديث عليّ عن أحاديث أبي هريرة في صحيحه ؟ فإنّه روى عن أبي هريرة 446 ، في حين لم يروِ عن عليّ بن أبي طالب إلاّ 29 حديثاً ؟!
  أكان أبو هريرة أو عبد الله بن عمرو بن العاص أخصّ من عليّ برسول

------------------
(1) الاعتصام 1: 358.
(2) السنّة قبل التدوين للدكتور عجاج الخطيب: 403 عن الكفاية: 78.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 385 _

  الله ؟! أم كان عليّ من الصحابة الذين وصفهم أبو هريرة بكثرة الاشتغال بالتجارة عن التلقّي عن رسول الله.
  كلا ، إنّ الاَمر لَيرجع إلى غير ذلك ، إنّه تحكيم الروح القرشيّة في الشريعة.
  فعن المقداد أنّه قال لعبد الرحمن بن عوف يوم الشورى:ياعبدالرحمن! أما والله لقد تركتَه ـ أي تركتَ عليّاً ـ وأنّه من الذين يَقْضُون بالحقّ وبه يَعْدِلون .
  فقال: يا مقداد! والله لقد اجتهدتُ للمسلمين!
  فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أُتيَ إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم! إنيّ لاَعجب من قريش أنّهم تركوا رجلاً ما أقول إنّ أحداً أعلم ولا أقضى منه بالعدل ، أما والله لو أجد عليه أعواناً!
  فقال عبد الرحمن: يا مقداد! إتّق الله فإنّي خائف عليك الفتنة!
  فقال رجل للمقداد: رحمك الله ، مَن أهل هذا البيت ؟ ومن هو الرجل ؟
  فقال المقداد: أهل البيت بنو عبد المطّلب ، والرجل عليّ بن أبي طالب (1) ، وجاء عن رسول الله أنّه قال في خطبة الوداع: يا أيّها الناس! خذوا العطاء ما كان عطاء ، فإذا تجاحَفَت قريش على المُلك وكان على دين أحدكم فدَعُوه (2).

  وبعد هذا كلّه فإنّ ترك التحديث والاَخذ بالقرآن بمفرده كان الحدّ الفاصل بين الاتّجاهين ، لقوله: (فلا تحدّثوا عن رسول الله ، فمَن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله)!
  ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد كانت تذهب إلى مشروعيّة اجتهاد الرسول. وأمّا مدرسة التعبّد المحض فتنكره، لكونه مبنيّاً على الظنّ ، وشتّان مابين

------------------
(1) تاريخ الطبريّ 5: 38 ، الكامل في التاريخ 3: 37 (ذكر قصّة الشورى).
(2) رواه أبو داود 3: 137 حديث رقم 2958.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 386 _

  الفرض والتخمين وبين الجزم واليقين!
  ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد تقول إنّ رسول الله (ص) لم يوص من بعده ، وأمّا مدرسة أهل البيت فتنصّ على وصيّة رسول الله (ص) لعليّ وأهل بيته من بعده .
  ومنها: أنّ قريشاً ومدرسة الاجتهاد منعت من تدوين سنّة رسول الله. وأمّا مدرسة أهل البيت فقد دوّنت ذلك ودعت إليه رغم كلّ الظروف.
  ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد قالت: حسبنا كتاب الله ولا ألبس بكتاب الله شيئاً) وأمّا مدرسة أهل البيت فتقول عن القرآن إنّه حمّال ذو وجوه ، ولايمكن فهم حقائقه وتفصيله إلاّ عن طريق السنّة وتفسير من خصّه الله بالعلم.
  ومنها: أنّ مدرسة الاجتهاد لا ترتضي عرض كلام الصحابيّ على القرآن ، بل ترى قوله وعمله مخصِّصاً للقرآن ، وأمّا مدرسة أهل بيت فتدعو إلى لزوم عرض كلامهم على القرآن وطرح ما خالف القرآن فجاء عنه (ع): (إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني عنه في كتاب الله) أو قوله: (فاعرضوا كلامي على كتاب الله ، فما وافقه فخذوا به وما خالفه فاطرحوه).
  ومنها : أنَّ مدرسة الاجتهاد قالت بالتصويب في الاَحكام الشرعيّة ، لاعتقادهم بعدالة الصحابة ، أمّا مدرسة أهل البيت فهي مخطِّئَة لما عرفت.
  ومنها : أنَّ مدرسة الاجتهاد نفت العدالة في كثير من الاَحكام الشرعيّة ، كالقضاء و ... حتّى العبادات ، فإنَّهم قد جوَّزوا الصلاة خلف كلّ برٍّ وفاجر ، أمّا مدرسة أهل البيت فلم ترضَ ذلك ، وغيرها.