أخذ محبّو الخليفة يتناقلون بأوسع نطاق تعاليل عمر في منع التدوين ، فصارت تعاليله تتّحد معها تعاليل الآخرين الناهين من الصحابة ، وفي هذا ما يشير بوضوح إلى حقيقة سياسيّة لا تخفى على البصير ، تومىَ إلى كون الخليفة ـ وأنصاره ـ وراءها!
  لقد دعا عمر بن الخطّاب إلى ترك تدوين السنّة الشريفة خوفاً من اختلاطها بالقرآن ، أو أنّ الناس سيأخذون بالحديث ويتركون القرآن.
  ونفس التعليل ـ أو التعاليل ـ تراها ترد في حديث أبي هريرة ، وفي المحكيّ عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدريّ وأبي موسى الاَشعريّ:
  روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال : خرج علينا رسول الله ونحن نكتب الاَحاديث ، فقال : ما هذا الذي تكتبوه ؟
  قلنا : أحاديث سمعناها منك.
  فقال : أكتاباً غيرَ كتاب الله تريدون؟! ما أضلّ الاَُممَ من قبلكم إلاّ ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله.
  فقال أبو هريرة : أنتحدّث عنك يا رسول الله ؟
  فقال : نعم ، تحدّثوا عنّي ولا حرج ، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار (1)
  وعن إبراهيم التيمّيّ ، قال : بلغ ابنَ مسعود أنّ عندنا كتاباً يعجبون به ، فلميزل معهم حتّى أتوه به ، فمحاه ، ثمّ قال: إنّما هلك أهل الكتاب قبلكم أنّهم أقبلوا على كتب علمائهم وتركوا كتاب الله (2).
  وفي نقل آخر عنه: أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم ، تركوا التوراة

------------------
(1) مسند أحمد 3: 1(2) 13 ، تقييد العلم: 33.
(2) سنن الدارميّ 1: 122 ، تقييد العلم: 56 و 53 و 55.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 209 _

  والاِنجيل حتّى درسا وذهب ما فيهما من الفرائض والاَحكام (1).
  وعن أبي نضرة أنّه قال : قيل لاَبي سعيد الخُدريّ: لو اكتتبنا الحديث!
  فقال : لا نكتبكم ، خذوا عنا كما أخذنا عن نبيّنا (ص) (2).
  وروى عنه أيضاً: قلت لاَبي سعيد الخدريّ: ألا نكتب ما نسمع منك ؟ قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف ؟! إنّ نبيّكم كان يحدّثنا فنحفظ (3).
  وقال أيضاً: قلت لاَبي سعيد الخدريّ: إنّك تحدّثنا عن رسول الله حديثاً عجيباً ، وإنّا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص.
  قال : أردتم أن تجعلوه قرآناً ؟! لا ، ولكن خذوا عنّا كما أخذنا عن رسول الله (4).
  وعن أبي موسى الاَشعريّ قال : إنّ بني إسرائيل كتبوا كتاباً واتّبعوه ، وتركوا التوراة (5).
  فلاحظ اشتراك التعليل في جميع هذه النصوص وأنّ النهي قد انحصر عندهم في التشبّه ببني إسرائيل الذين اتّبعوا كتب علمائهم وتركوا التوراة! وهو بعينه ما قاله الخليفة عمر بن الخطّاب!! وأنّهم قد نسبوا نفس التعليل إلى عليّبن أبي طالب وابن عبّاس ، ممّا يؤكّد أنّ هناك اتّجاهاً يتبنّى رأي الخليفة ويدعمه ، في حين بسطنا القول سابقاً في تعليل الخليفة للمنع وأكدنا على أنّه ضعيف .
  وعلى هذا فلا معنى لتعارض أحاديث الاِذن مع أحاديث النهي حتّى نقوم بموازنة بينهما (6) ، وإن كان فيما قالوه تأكيد لرؤيتنا ، لاَنَّ قولهم ـ لو صحّ ـ من

------------------
(1) شرح النهج 12: 101 102 ، خطبة 223 ، تقييد العلم: 56.
(2) تقييد العلم: 36 ـ 37.
(3) تقييد العلم: 37.
(4) تقييد العلم: 38.
(5) تقييد العلم: 56.
(6) كما فعل الدكتور صبحي الصالح في علوم الحديث: 11 ، والدكتور عجاج الخطيب في السنّة قبل التدوين: 306 ـ 309 ، و 316 ، والسيّد محمّد رضا الجلاليّ في تدوين السنّة الشريفة: 302 ـ 314 وغيرهم.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 210 _

  كون التدوين قد شُرِّعَ للنابهين من الصحابة والمنع لعمومهم ، فهذا يخالفه فعل الخليفة عمربن الخطّاب وتعامله مع فحول الصحابة في قضيّة التدوين وغيرها ، إذ أصدر أمراً لهم في أن يأتوه بمدوّناتهم ولم يستثن أحداً منهم ، ولمنسمع أو نقرأ قبوله لمدوّنة أحد النابهين !
  وكذا ما قالوه بأنَّ المنع جاء في العصر الاِسلاميّ الاَوّل ـ حين نزول القرآن ـ فإنَّه (ص) منعهم كي لا يختلط القرآن بالسنّة ، لكن حينما نزل القرآن جميعاً وعرفه الصحابة سمح الرسول لهم في كتابة حديثه ، وهذا المدّعى يوضّح بأنَّ المنع قد رُفِعَ أواخر عهد رسول الله (ص) ومشروعيّة تدوين الحديث ، على ما أكدّنا من أنَّ المنع لم يكن شرعيّاً بل هو قرار شخصيّ من الخليفة ، إذ لو صحّ قوله (ص): (لا تكتبوا عنّي) أو (ومَن كتب عنّي غيرالقرآن فليمحه) وصدور ذلك في عهده الشريف لعلمه الاَصحاب ، وللزم أن يكون هو الدليل الاَوّل للشيخين في منعهما عن الحديث! مع أنّهما لم يحتجّا بمنع النبيّ (ص) عن التدوين ، وكفى بهذا دليلاً على بطلان دعوى نهي النبيّ عن التدوين.
  ولو صحّ الحديث السابق فلماذا دوّن أبو بكر أحاديثه الخمسمائة ، خلافاً لاَمره (ص) ؟! وكيف يستشير عمر الصحابة في أمر التدوين ، إذا كان قد ورد النهي فيه ؟! بل كيف يسوغ أن يتخلّف عن رأيهم وهم يشيرون عليه بالتدوين ؟! بل كيف يشيرون عليه بالتدوين إذا كانوا قد سمعوا المنع من النبيّ (ص) ؟!
ألا يعني قول عمر: (من كان عنده شيء فليمْحُه) أو (لا يبقينّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني) على وجود مصاحف وكتب قد دوّنت قبل عهده ؟ على أنّ التعليل الوارد في كلماتهم لا يقوم دليلاً على مدّعاهم ، لاَنّ الاَُمم السابقة إنّما ضلّوا لاَنّهم عكفوا على كتب أحبارهم ورهبانهم وتركوا التوراة والاِنجيل ، ولم يكن سبب ضلالهم العكوف على أقوال وكتابات أنبيائهم ، وشتّان بين كتب الاَحبار والرهبان والاَساقفة وبين كلمات وسنن وأقوال تكتب عن سيّد الخلائق محمّد (ص) ، إذ المدوّن أو المطلوب تدوينه هو أحاديث النبيّ وسنّته لا غير ، مع أنّ علماء الاَُمم السابقة كانوا قد انحرفوا فغيّروا نصوص ومفاهيم كتبهم ، وهذا بعكس علماء أُمّة محمّد (ص) المحافظين على الدين

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 211 _

  المفسّرين للقرآن المدوّنين لآثار النبيّ (ص) وأحكامه.
  نعم ، يصحّ هذا التعليل للمنع عن تدوين آرائهم الخاصّة وفتاواهم الشخصيّة وما توصّلوا إليه من اجتهادات مختلفة ، فإنّ المنع عن تأليف مثل هذه الكتب قد يكون فيه المبرّر المعقول ، باعتبار أنّ مثل هذه الكتب فيها الصحيح والخطأ والغثّ والسمين وربّما أُلِّف كتاب من شخص منحرف عن الدين ، وبذلك تختلط الاَحكام على الاَجيال القادمة من المسلمين ، وأمّا تدوين المسموعات عن النبيّ والآثار النبويّة المباركة فلا يتلائم منعه مع التعليل المذكور.
  ولعلّ هذا الاَمر فات على البعض من الذين فسَرَّوا المنع بسبب كتب العلماء ، إلى المنع عن كتابة السنّة المباركة ، غفلةً منهم عن أنّ الدليل لايفي ولايقوم بالمدَّعى ، وصادف ذلك منع الخليفة عمر بن الخطّاب ، فاستقرّ الاَمر في نفوسهم ، وظلّ المنع يسري إلى الاَجيال الآتية حتّى ارتفع ذلك المنع في زمن عمر بن عبد العزيز.
  وعلى كلّ حال ، فإنّ الاَدلّة تُخبر عن مشروعيّة التدوين في عهده (ص) وتُخبر عن أنّ المنع جاء متأخّراً وتحت ظروف خاصّة ، وقد تأكّد كذلك أنّ من الصحابة والتابعين من كان يريد ترسيخ نهي الخليفة في قلوب المسلمين ، حتّى صار التدوين عندهم مكروهاً لكراهيّة الخليفة عمر بن الخطّاب له ، ثمّ صار هذا المكروه عندهم حسناً لما نَدَب الخليفة عمر بن عبد العزيز إليه!
  قال الزهريّ: كنّا نكره كتابة العلم ، حتّى أكْرَهَنا هؤلاء الاَُمراء ، فرأينا أن لا نمنعه أحداً من المسلمين (1).
  وفي سنن الدارميّ: حتّى أكرهنا السلطان على ذلك (2).
  وفي آخر: استكتبني الملوك فأكتَبْتُهُم ، فاستحييت الله إذ كتبتها للملوك ولا أكتبها لغيرهم (3).

------------------
(1) تقييد العلم: 107 ، الطبقات الكبرى 2: 389 ، البداية والنهاية 9: 341.
(2) سنن الدارميّ 1: 110.
(3) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ 1: 77.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 212 _

  قال أبو مليح : كنّا لا نطمع أن نكتب عند الزهريّ حتّى أكره هشامٌ الزهريَّ ، فكتب لبنيه ، فكتب الناس الحديث (1).
  وقد بسطنا الكلام على هذا في كتابنا (وضوء النبيّ| المدخل) ، ووضّحنا دور الحكّام في تدوين السنّة الشريفة ، وبيّنّا سرّ عنايتهم بهذا الجانب ، وأكدّنا على أنّ العوز العلميّ الذي كانوا يعانون منه هو الذي دعاهم إلى المنع ثمّ دعاهم إلى التدوين ، لاَنّ الصحابة كانوا يعارضونهم بالاَحاديث ، فما لا محيص عنه هو منع التحديث والتدوين لسدّ هذا الفراغ ولكي لا يظهر الضعف العلميّ أمام تيّار فكريّ قويّ يعارض آراء الحكومة بما يرويه عن النبيّ (ص).
  وتطوّر الاَمر وتوسّع حتّى قنّن نهج الاجتهاد حجّيّة الاِجماع ـ كي يلزموا الناس بما أجمعت عليه الاَُمّة بأمر الخليفة ـ وقرّروا أنّ إفتاء اللجنة الخاصّة التي وضعها الخلفاء يقوم مقام جميع الصحابة ، ويعتبر ذلك إجماعاً لايجوز تخطّيه ولاخرقه.
  قال الدكتور الوافي المهدي عن عصر الصحابة: (... وفي هذا العصر ظهر مصدر جديد من مصادر التشريع الاِسلاميّ لم يعرف في العهد التأسيسيّ للتشريع ألاَ وهو الاِجماع ، فإنّ أبا بكر كان يشرّع فيما لا نصّ فيه من كتاب ولاسنّة عن طريق جمعيّة تشريعيّة .
  وكذلك الاَمر بالنسبة لاَوّل خلافة عمر ، وكان ما يصدر عن تلك الجمعيّة التشريعيّة من أحكام يعتبر صادراً عنهم جميعاً (2)‌.
  وقد شكّل بالفعل الخليفة عمر بن الخطّاب لجنة علميّة لاِدارة شؤون المسلمين ولسدّ احتياجاتهم وطلباتهم الشرعيّة ، وأناط بمن يثق به منصب الاِفتاء حتّى يتفرّغ لاَُمور أُخرى.
  روى عليّ بن رباح اللخميّ ، قال : إنّ عمر خطب الناس ، فقال : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأتِ أُبيّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأتِ معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيدبن ثابت ، ومن

------------------
(1) حلية الاَولياء 3: 363 ، البداية والنهاية 9: 345 كما في الرواية التاريخيّة: 107.
(2) الاجتهاد في الشريعة الاِسلاميّة: 46 عن خلاصة تاريخ التشريع الاِسلاميّ : 41.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 213 _

  أراد أن يسأل عن المال فليأتِني، فإنّي له خازن (1).
  هذا النصّ يؤكّد على أنّ الخليفة احتاج إلى تأسيس مركز لدرء الخطر عن نفسه ، ولتأصيل ما يذهب إليه من رأي واستحسان.
  ومن المفيد التذكير هنا بأنّ اتّخاذ الرأي كمنهج في الاَحكام لميكن عمر هو أوّل من اعتمده ، بل سبقه إلى ذلك الخليفة أبو بكر ، إذ عرفت تخطّيه عن قتل الرجل المتنسِّك لِما رأى من خشوعه وعُلِمَ إعلانه عن مبدأ الرأي والاجتهاد في أوّل حكومته حين قال : (ولّيت عليكم ولست بخيركم ، فإن أصبت فأعينوني ، وإن أخطأت فقوّموني) ، وكذا قوله عن فعل خالد : إنّه تأوّل فأخطأ (2) .
  وكذا اعتذار خالد لاَبي بكر : يا خليفة رسول الله! إنّي تأوّلت وأخطأت (3).

  هذه النصوص تؤكد ـ من جهة أُخرى ـ على أنّ مصطلح الرأي والتأويل راح يأخذ مجاله بين أقوال الصحابة وأفعالهم ، ولذلك كان الاِمام عليّ (ع) أيّامَ خلافته يحاول معالجة وسدّ هذه الثغرة التي فُتحت على الفقه والتاريخ والدين الاِسلاميّ ، ويبيّن سبب ذلك ، ويصنّف الناس المختلفين في الاَحكام ، ويبرهن على بطلان منهجهم ودعاواهم المطلقة العنان ، وإليك بعض النصوص عنه (ع) في الرأي ، تتَّضح المسألة بمزيد من الجلاء.
  قال ـ من كلام له في ذمّ اختلاف العلماء في الفُتيا ـ:
  (تَرِد على أحدهم القضيّة في حكم من الاَحكام ، فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترِد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الاِمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً ، وإلـههم واحد! ونبيّهم

------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3: 272.
(2) الاِصابة 3: 357.
(3) راجع تاريخ الطبريّ وغيره.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 214 _

  واحد! وكتابهم واحد!
  أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف ، فأطاعوه ؟!
  أم نهاهم عنه فعصَوه ؟!
  أم أنزل الله دِيناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ؟!
  أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ؟!
  أم أنزل الله سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول (ص) عن تبليغه وأدائه ؟! والله سبحانه يقول : (مَا فرّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْء) (1)وقال : (تِبْياناً لكلِّ شيء) (2) ، وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضُه بعضاً ، وأنّه لا اختلاف فيه ، فقال سبحانه : (ولَو كانَ مِن عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً) (3) وأنّ القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تُكشف الظلمات إلاّ به (4).
  ومن كلام له (ع) في صفة من يتصدّى لحكم الاَُمّة وهو ليس له بأهل:
  (... ورجلٌ قَمَشَ جَهْلاً ، مُوضِعٌ في جُهَّالِ الاَُمَّةِ ، عَادٍ في أغْبَاشِ الفِتْنَةِ ، عَمٍ بِمَا في عَقْدِ الهُدْنَةِ ، قَدْ سَمَّاهُ أشْبَاهُ النَّاسِ عَاِلماً وَلَيْسَ بِهِ ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ ، ما قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ ، حَتَّى إذا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ واكْتَثَرَ مِن غَيْرِ طَائِلٍ جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلى غَيْرِهِ ، فَإنْ نَزَلَتْ بِهِ إحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأ لَهَا حَشْواً رَثّاً من رَأْيِهِ ، ثُمَ قَطَعَ بِهِ ، فَهُو مِنْ لَبْسِ الشبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبوتِ: لا يَدْري أصَابَ أمْ أخْطأ: فَإنْ أصَابَ خَافَ أنْ يَكونَ قَدْ أخْطأ ، وإنْ أخْطأ رَجَا أنْ يَكُونَ قَدْ أصَابَ.
  جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالات ، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَات ، لَمْ يَعَضَّ عَلى العِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ ، يَذْرُو الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الهَشِيمَ ، لا مَلِيٌّ واللهِ بإصدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ ، ولا أهْلٌ لِمَا قُرِّظ بِهِ ، لا يَحَْسبُ العِلْمَ في شَيءٍ ممّا أنْكَرَهُ ، ولا يَرَى أنَّ مِنْ وَراءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ ، وإنْ أظْلَمَ عليه أمْرٌ

------------------
(1) الاَنعام : 38 .
(2) النحل : 89 .
(3) النساء : 82 .
(4) نهج البلاغة 1: 50 خطبة 17.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 215 _

  اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ ، وَتَعَجُّ مِنْهُ المَواريثُ. إلى الله أشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعيشُونَ جُهَّالاً ، وَيَمُوتُونَ ضُلاَّلاً) (1).
  وقوله: (إنّما بَدْءُ وقوعِ الفِتَنِ أهواءٌ تُتَّبع ، وأحْكامٌ تُبْتَدَع ، يُخالَفُ فيها كتاب الله ، وَيَتولّى عليها رجالٌ رِجالاً على غَيْرِ دينِ اللهِ، فَلَو أنَّ الباطِلَ خَلَصَ مَنْ مِزاجِ الحَقِّ لَمْ يَخْفَ على المُرْتادِينَ ، وَلو أنَّ الحَقَّ خَلَصَ من لَبْسِ الباطِلِ انْقَطَعَتْ عنه ألْسُنُ المُعانِدين ، ولكنْ يؤخَذُ مِن هذا ضِغْثٌ ومِنْ هذا ضِغْث فَيُمْزَجان ! فَهُنالِكَ يَسْتَولي الشَّيْطانُ على أوْلِيائِهِ ، ويَنْجو الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الحُسْنى )(2).
 نعم ، إنّ الرأي والتأويل كانا المفردتين الاَُوليين اللتين دخلتا في الشريعة وقد حدث الخلط بينهما ، فعنَوا بالرأي : التأويل ، وبهما (الرأي والتأويل) : الاجتهاد ، أمّا مصطلح القياس والاستحسان والمصالح وغيرها فإنّما هي مصطلحات حادثة لم يرد ذكرها إلاّ في نادر من العبارات ، ولمتستعمل بوسعتها الاصطلاحيّة اليوم ، وإن كانت بذورها موجودة عمليّاً وتطبيقيّاً في ذلك العصر.
  حتّى بلغ الاَمر بالتابعين أن يفسّروا لفظ التأويل بالتغيير ، ولايتحرّجوا عمّا لهذه الكلمة من مفهوم ومعنى ، حتّى صارت سائدة مقبولة ، إلى حدّ أنّهم قد طلبوا من الاِمام الحسين وألحّوا عليه لكي يُؤوِّل قضاء الله ، وعنوا بكلامهم أن يغيّره بانصرافه عن الذهاب إلى العراق.
  فقد جاء عن عمر بن عليّ أنّه قال للحسين(ع): (فلولا تأوّلت وبايعت)؟! أي تأوّلت قضاء الله بقتلك ، ببيعتك ليزيد (3).
  فمصطلح الاجتهاد معادل للتأويل وهذا المفهوم أخذ يتغّير مفهومه يوماً بعد يوم حتّى وصل إلى أوسع دوائره في العهدين الاَمويّ والعبّاسيّ.
  ولم يكن ابن عوف فيما طرحه يوم الشورى من تقييد عثمان والمسلمين بسيرة الشيخين قادراً على إيقاف مدّ الرأي والتأويل الذي كان قد انتشر واتّسع بعد تأصيله من قبل الشيخين ، ولم تكن محاولته حصر الاجتهاد

------------------
(1) نهج البلاغة 1: 95 خطبة 49.
(2) نهج البلاغة 1: 95 خطبة 50.
(3) اللهوف في قتلى الطفوف: 12.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 216 _

  فيما فعله الخليفتان وحظره على سواهما من الصحابة بالتي تلقى أُذناً صاغية ، لاَنّ باب الرأي والتأوّل كان قد انفتح على مصراعَيه وتعذّر على من يريد إغلاقه أن يغلقه ... وغدا كلّ يريد لرأيه واجتهاده أن يُقابَل بالقبول كما فعل الشيخان من قبل .
  إنّ ابن عوف في اشتراطه هذا قد أراد أن يسلب عثمان حقّ التشريع والاجتهاد بالرأي على الرغم من سابقته في الاِسلام وكونه صهر الرسول (ص) وخليفة المسلمين القادم ، فتراه يأخذ العهد منه أمام المسلمين على الالتزام بالكتاب والسنّة وسيرة الشيخين على السواء.
  المهم هو : أن التخطيط السياسيّ الدينيّ الذي رسمه الشيخان في حصر دائرة الشرعيّة بهما دون سواهما قد أُريد له أن يجعل أقوالهما في عداد شرعيّة السنّة ، بَيْدَ أنّ الواقع ما كان يرى وجهاً مقبولاً لهذا الحصر والتخصيص ، وهذا هو الذي جعل الاَمر على غير ما أُريد له أن يكون .
  ومن الذين كانوا يدركون سياسة الشيخين وابن عوف في الشريعة ، ويعرفون ما كان يريد هؤلاء بفعلهما وتأكيدهما على الرأي ـ الذي يدور في إطار تصحيح ما أفتى به عمر وأبو بكر ـ ... هو الاِمام عليّ بن أبي طالب الذي رفض تسلّم الخلافة بالشرط المذكور ـ لكي لا يصحّح بفعله اجتهاداتهما المخالفة في بعض الاَحيان للكتاب والسنّة ـ ذلك أنّ قبول هذا الشرط يعني إضفاء الشرعيّة على هذه الفكرة المستحدثة وهو ما لا يريده علي بن ابي طالب ولايرتضيه.
  إنّ رفض عليّ للشرط المذكور ، وامتناع ابن عوف تسليم الخلافة له ، ليؤكّدان على مخالفة سيرة الشيخين واجتهادهما للكتاب والسنّة ، لاَنّ إيمان عليّ وفهمه وفقهه ممّا لا يرتاب فيه أحد ، بعد أن تواتر عن رسول الله (ص) في عليّ أنّه أعلم الصحابة وأفقههم وأقضاهم وأنّ الحقّ يدور معه حيثما دار.
  ويوضّح موقف الشورى هذا ارتسام معالم النهجين بوضوح ، فأُولئك يدعون عليّاً أو الخليفة الجديد إلى الالتزام والتمسّك بنهج الاجتهاد والرأي ، وعليّ (ع) ومن سار بسيرته يدعو إلى التمسّك بالتعبّد المحض ـ بكتاب الله وسنّة النبيّ (ص) ـ وإن ابتعد بفعله هذا عن الخلافة الفعليّة للمسلمين .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 217 _

  صرّح الخليفة أبو بكر بأنّه يعتمد الرأي والتأويل في تفسير معنى الكلالة ، مع وجود آية في الذكر الحكيم تبيّن الحكم في الكلالة ، فقال لمّا سئل عن الكلالة: (سأقول فيها برأي ، فإن يك صواباً فمن الله وإن يك خطأ فمنّي ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه ، أراه ما خلا الولد والوالد).
  وأنت ترى مخالفة هذا الرأي لصريح القرآن في قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ ، قُل اللهُ يُفتيكم في الكَلالة إنِ امرؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ وَلَهُ أخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَركَ وَهُوَ يَرِثُها إنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فإنْ كانَتا اثنتَينِ فَلَهُما الثُّلثانِ ممّا تَرَكَ وإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالاً ونِساءً فللذّكرِ مِثْلُ حَظّ الاَُنثيينِ يبيّن اللهُ لَكُم أنْ تَضِلّوا واللهُ بكلِّ شيءٍ عَلِيمٌ) (1).
  وقوله: (وإنْ كَانَ رَجُلٌ يُوَرثُ كَلالةً ...) (2).
  نعم ، إنّهم علّلوا استعمال الرأي عند الصحابة بأنّه تفسير للنصوص ، وأضاف الدكتور مدكور إلى ما قاله سابقاً وهو يشير إلى مراحل الرأي:
  (ثمّ أُطلقت كلمة (رأي) بعد ذلك على ما يقابل النصوص التي اختصّت بكلمة (علم) ، ثمّ نجد من الاَصوليّين من يفسّر الرأي بالقياس وحده ، ومنهم من يجعله شاملاً كافّةَ ما يقابِل الكتاب والسنّة والاِجماع.
  والرأي بهذا المفهوم الاَخير يكون أخصّ من الاجتهاد إذ هو نوع منه ، وهو ما قلنا إنّهم سمّوه (الاجتهاد بالرأي) في مقابلة (الاجتهاد في دائرة تفسير النصّ).
  ويكون المراد بالرأي : التعقّل والتفكير بوسيلة من الوسائل التي أرشد الشرع إلى الاهتداء بها في استنباط حكم ما لا نصّ فيه ، أمّا الاجتهاد فيشمل استنباط الحكم من النصّ الظنّيّ ، كما يشمل الاجتهاد للتوفيق بين النصوص المتعارضة في الظاهر ، كما يشمل الاجتهاد بالرأي الذي قلناه .

------------------
(1) النساء: 176.
(2) النساء: 12.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 218 _

  ولمّا كان الرأي يعتمد على أنّ الشريعة معقولة المعنى كان مجاله الغالب في الاَُمور العاديّة التي يُقصد منها تحقيق مصالح دنيويّة ، أمّا ما لايُدرَك لها معنى خاصّ كأُصول العبادات فإنّ الشأن فيها الاتّباع لا إعمال الرأي) (1).
  وقال الدكتور الردينيّ في (المناهج الاَُصوليّة):
  (وقد رأينا الصحابيّ الجليل إمام أهل الرأي عمربن الخطّاب ، يخصّص عموم الآية الكريمة في سورة الاَنفال من قوله تعالى (واعْلَمُوا أنّما غَنِمْتُمْ مِن شَيءٍ فأنّ للهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ ولِذي القُرْبى ، واليتامَى ، والمَساكِين ، وابنِ السّبيل) (2).
  ـ فالآية الكريمة تقرّر أنّ خُمْس الغنائم لِمَن ذُكروا فيها ، وأربعة أخماس الغنيمة عملاً بمفهوم الآية.
  ـ وقد تأيّد هذا بعمل الرسول (ص) في خيبر ، إذ قسّم أربعة أخماس الغنيمة من منقول وعقار بين الغانِمين.
  ـ وهكذا كان حقّ الغانمين في كل ما يُغنم ثابتاً بالقرآن والسنّة العمليّة.
  ـ لكن عمر بن الخطّاب اجتهد برأيه في الآية ، وخالف ما تفيده بظاهرها وعمومها من شمول حقّ الغانمين لكلّ ما يغنم من عقار أو منقول ، فخصّص عموم الآية وجعله قاصراً على المنقول دون العقار ، كما علمت ، ودليل التخصيص هو (المصلحة العامّة) كما يشهد بذلك استدلاله وحواره مع مخالفيه من الصحابة.
  ـ بل قد حمل عمر بن الخطّاب مخالفيه على أن يفهموا نصوص الشريعة كلّها في ضوء المصلحة العامّة.

------------------
(1) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 343.
(2) الاَنفال : 41 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 219 _

  ـ ولم يكن من دليل لعمر بن الخطّاب في اجتهاده برأيه ، يستند إليه في تخصيص عموم الآية إلاّ (المصلحة العامّة) أو(روح الشريعة) ، إذ لم يثبت أنّه استند إلى دليل خاصّ في المسألة بعينها .
  والواقع أنّ تطبيق النصّ رُوعي فيه ظروف الدلالة ومصلحتها العامّة آنذاك ، وللظروف أثر في تكييف هذا التطبيق المنبثق عن فهم الآية الكريمة ، وتحديد مراد الشارع منها في ظلّ ذاك الظرف ، لسبب بسيط هو أنّ مآل هذا التطبيق في مثل تلك الظروف ذو أثر بالغ على المصلحة العامّة نفسها ، فوجب إذاً تحديد مراد الشارع من نصّ الآية لاعلى أساس منطقها اللغويّ فحسب ، بل وعلى أساس ما تقتضيه الاَُصول العامّة في التشريع ، وإلاّ فما معنى قول عمر وهو يصرّ على هذا الفهم بقوله : هذا (رأيي) ؟!
  ـ ثمّ يعلّل هذا (الرأي) بما يُسنده من مقصد أساسيّ في الشريعة وهو (المصلحة العامّة) ، يقول : وقد رأيت أن أحبس الاَرضين بِعُلوجها ، وأضع على فيئِها الخراج ، وفي رقابهم الجزية يؤدّونها فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرّيّة ، ولمن يأتي بعدهم .
  ثمّ قال :
  (فالتأويل عند الصحابة إذاً من صُلب الرأي ، لاَنّه استند إلى (المصلحة العامّة) في صَرف الآية عن عمومها الواضح ، والمستفاد من ذات الصيغة إلى قصر حكمها على بعض ما يتناوله ، وهو هنا المنقول دون العقار ، كما ذكرنا) (1).
  اتّضح إذَن أنّ الاَخذ بالرأي عند الخلفاء خضع لظروف خاصّة ـ سياسيّة

------------------
(1) المناهج الاَُصوليّة: 171.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 220 _

  كانت أم اجتماعيّة ـ وأنّ موقف أبي بكر في عدم إجراء الحدّ على خالد ، وقوله بالكلالة ، وسهم ذي القربى ، ونحلة الزهراء ، ومنعه كتابة العلم ، وحرقه للاَحاديث ، وتخلُّفه عن سَرِيّة أُسامة وغيرها ... كلّ ذلك ممّا ينبىَ عن هذا المعنى.
  وعلى هذا فعلى الباحث أن يقف عند النصوص التي ترجّح رأي الخليفة: فإن كان فيها ما يوافق القرآن أو قد استُقي حكمه من السنّة ، أُخِذ به ، وإن كان القول قد ابتنى على الرأي فيطرحه لعدم جواز الاَخذ بالرأي مع إمكان الوقوف على السنّة النبويّة والذكر الحكيم.
  وهناك أُمور كثيرة ينبغي البحث في أطرافها ، منها ما نسبوه إلى الرسول (ص) من أنّه قد منع من تدوين حديثه ، أو ما حُكي عنه (ص) من أنّ للمجتهد إن أخطأ أجرٌ وإن أصاب أجران ، وغيرها من الروايات التي نُقلت في مشروعيّة الاجتهاد عن معاذ وغيره.
  إنّ الغالب في هذه الاَُمور هو تحكيم رأي الحاكم كما عرفنا من قبل ، والمنع عن التدوين ـ بعد ما عرفت دور الشيخين فيه ـ يوضّح أنّ القرار قرار حكوميّ وذلك لمعرفتنا بإذن الرسول في تدوين حديثه (ص) ، ووجود مدَوّنات عند الصحابة عن النبيّ ، وغيرها من الاَدلّة ، فلا ضرورة لدراسة أحاديث المنع ـ بعد هذا ـ والجدّ في الجمع بينها.

  والموقف من أحاديث (الاجتهاد) ينبغي أن يكون مماثلاً بعد أن وضحت جهود الخلفاء في التهيئة لقضيّة الاجتهاد وفي إشاعتها والتأكيد عليها ، من أجل إضفاء الشرعيّة على كونهم مجتهدين لا يصحّ الاعتراض على ما يُصدرونه من فتاوى وأحكام.
  إنّ ذلك يتطلّب وقفة عند تلك الاَحاديث التي تروى في هذا السياق للتثبُّت من صدورها عن رسول الله (ص) وعدمه.
  أتراها تصحّ جميع التأويلات المطروحة في الفقه ؟

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 221 _

  أحقّاً أنّ (اختلاف أُمّتي رحمة) (1)بالمعنى الذي أُريد لهذا الحديث أن يُفسّر به ؟
  ولو صحّ ذلك فكيف نفسّر قوله : (لا تختلفوا فتهلكوا) ، وقوله: (ستفترق أُمّتي إلى نيف وسبعين فرقه ، فرقة ناجية والباقين في النار) ؟ ولماذا نرى الاختلاف في الاَحكام بين المسلمين إلى هذا الحدّ وكتابُهم واحد ونبيّهم واحد ؟
  فهذا يسدل يديه والآخر يقبضهما ، والثاني يُفْرِج بين رجلَيه في الصلاة والآخر يجمع بينهما ، وثالث يجعل يديه ما فوق السرّة ، وغيره يجعلها علىالجانب الاَيمن ، وهذا يجهر بالبسملة والآخر لا ينطق بها مجهورة ، وهذا يقول بالتأمين وذلك لا يقول به ، والعجيب أنّهم جميعاً ينسبون أفعالهم على ـ ما فيها من تضارب ظاهر ـ إلى رسول الله! أفيكون رسول الله (ص) قد قالها جميعاً وفعلها جميعاً وصحّ عنه ذلك ، كما يقولون ؟! أم أنّ فعله كان واحداً في كلّ من هذه الحالات ؟ وإذا كان ذلك كذلك ... فمن أين جاء هذا الاختلاف الذي لايمكن دفعه وإنكاره ؟
  أترانا مكلّفين في شريعة الله أن نقف على الرأي الواحد ، أم أنّا قد أُمرنا بالاختلاف ؟
  ولِمَ ظهرت رؤيتان في الشريعة ، إحداهما تدعو إلى التعدّديّة في الرأي ، والاَُخرى تنادي بالوحدويّة ؟
  فلو كانت التعدّديّة هي مطلوب الشارع ، فلم يحصر النبيُّ الفِرقةَ الناجية من أُمّته بواحدة من الثلاث والسبعين ، ويقول عن الباقي: إنّها في النار ؟! وإذا كانت الوحدويّة هي مطلوب الشارع فِلَم تُصحّح التعدّديّة وتُلتزم ؟!
  وهل يصحّ ما قيل في اختلاف الاَُمّة باعتباره رحمة ؟ فما معنى تأكيد الله سبحانه إذَن على وحدة الكلمة ؟ وهل أمرنا الله بالوحدة أم بالفرقة ؟ ولو كانت الفرقة مطلوب الشارع فما يعني قوله تعالى : (ولَو كانَ مِن عِنْدِ غَيرِ اللهِ

------------------
(1) الجامع الصغير 1: 48|288.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 222 _

  لَوجَدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً) (1)؟!
  وكذا قوله : (إنّ هذا صِراطي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعوا الُّسبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ، ذلكُمْ وَصّاكُمْ بهِ لَعّلكُمْ تَتَّقُونَ) (2).
  لتوضيح كلّ ذلك ننقل الحوار الذي دار بين الخليفة عمربن الخطّاب وابن عبّاس:
  أخرج المتّقي الهنديّ ، عن إبراهيم التيميّ أنّه قال:
  خلا عمر بن الخطّاب ذات يوم فجعل يحدّث نفسه ، فأرسل إلى ابن عبّاس فقال: كيف تختلف هذه الاَُمّة ، وكتابها واحد ، ونبيّها واحد ، وقِبلتها واحدة ؟!
  قال ابن عبّاس: يا أمير المؤمنين! إنّا أُنزِل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما نزل ، وأنّه يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن لا يعرفون فيم نزل ، فيكون لكلّ قوم رأي ، فإذا كان لكلّ قوم رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا ، فَزَبره عمر وانتهره ، وانصرف ابن عبّاس .
  ثمّ دعاه بعدُ ، فعرف الذي قال ، ثمّ قال : إيهاً أَعِدْ (3) ، هذا الحديث ونظائره ممّا يشكّل قاعدة لتمحيص كثير من النصوص والاَفكار الموروثة ، خاصّة فيما يتّصل بأحاديث الخلاف بين المسلمين ، الاَمر الذي يفتح الطريق أمام الباحث الموضوعيّ لدراسة ملابسات هذه الاَحاديث ، ويجعله يتأثّم من التسليم بها على علاّتها دونما احتياط وتحرّج في الدين ، لاَنّ في دراسة ملابسات التشريع وما يتعلّق بزمن صدور النصّ ومعرفة خلفيّات المسائل وكيفيّة تبنّي الخلفاء لها ، تجعلنا أكثر تمييزاً للصحيح من غيره وكشفاً عن حقائق تاريخيّة يُفيد منها المسلم في بناء مواقفه الشرعيّة في الموضوع ، وهذه الخطوة تجعلنا من الذين تعبّدوا بقول سيّد المرسلين (رحم الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم يسمعها).

------------------
(1) النساء: 82.
(2) الاَنعام: 153.
(3) كنز العمّال 2: 333 ح 4167.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 223 _

  وهناك رأى آخر تتبنّاه مدرسة الاجتهاد ، وهو ما نقل عن عمربن عبدالعزيز أنّه قال : ما أُحبّ أنّ أصحاب رسول الله لا يختلفون ، لاَنّه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق (1).
  وقريب منه ما ورد عن القاسم بن محمّد. وهذا رأي كما تراه يميل إلى الدعة والراحة ، ولو على حساب التهاون بدين الله ، وإلاّ فإنّ من البديهيّ أنّ الله لم يُرد التناقض والتضادّ ، ولو صحّ ما علّل به ابن عبدالعزيز ، لكان بإمكان الباري سبحانه وتعالى أن يجعل الاَحكام كلّها على نحو التخيير ، أو لقال : خذ ما سهل من الاَحكام ودع العسير.

  فيجب إذن البحث عن الحكم الواحد في الفقه ، وكما قال الشاطبيّ: (إنّ الشريعة يلزم أن ترجع إلى قولٍ واحد في فروعها ، مهما كَثُر الخلاف ، كما أنّها في أُصولها كذلك ترجع إلى قول واحد ، بمعنى أنّه لا يوجد فيها ما يُفهم منه قولان متناقضان ، وإنّما أدلّتها سالمة من التعارض في ذاتها ، رغم وجود التعارض) (2).
  وإذا دقّقنا الروايات التي ترشد إلى عرض السُّنَّة على الكتاب ، وضرورة متابعة ضوابط خاصّة لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه ، والنصوص الواردة في وجوب التثبّت من صدق الجائي بالخبر ووثاقته وو ... كلّ هذه الروايات والموازين المتّفق عليها بين المسلمين تؤيّد الرؤيا القائلة بوحدة الحكم الشرعيّ والفقه الاِسلاميّ ، وتردّ الرأي الذاهب إلى الاجتهاد بالرأي ، والتعدّد والاختلاف (3) ، وكذا لا مناص من القول بضرورة دراسة النصوص الصادرة في الصدر

------------------
(1) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 14(2) 143.
(2) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 141 عن الموافقات للشاطبيّ.
(3) إذ قال ابن عبد البرّ وبعد نقله حديث عرض السنّة على القرآن : (إنَّ هذه الاَلفاظ لاتصحّ عنه (ص) عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه ...) جامع بيان العلم وفضله 2:191 ، وانظر عارضة الاَحوذيّ 10 : 132 ، وقال في مكان آخر : إنَّ هذا الحديث وضعه الزنادقة والخوارج ، وفي حجّيّة السنّة : 474 بحث في تضعيف أحاديث العرض يمكنك مراجعته .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 224 _

  الاَوّل الاِسلاميّ ، وأن لا نسكت عن دراستها بحجّة أنّ عائشة (أُمّ المؤمنين) قالت بهذا الرأي مثلاً ، أو أنّ عمر (خليفة المسلمين) ذهب إلى ذلك الرأي ، أو أن هذا الحديث رواه أبو هريرة واتّفق الشيخان على صحته! أو... إنّ غيرة المسلم على دينه وحرصه على أن يكون أخذُه هذا الدينَ أخذاً سليماً قويّاً لا وهن فيه ولا شبهة معه (خُذُوا مَا آتَيْناكُم بِقُوَّة) (1)ـ وإنّ خصال التقوى والصدق والاِنصاف والاستمساك بالحقائق الواقعيّة ... كلّ ذلك يدفع المسلم لاَن لا يتساهل في البحث عن المصادر النقيّة التي يأخذ منها معرفته ، ويقوده لاَن لا يأخذ بعض القضايا الموروثة على أنّها مسلّمات نهائيّة لاتقبل الحوار والنقاش ، ميزانه في ذلك كتاب الله عزّ وجلّ الذي هو الفرقان بين الحقّ والباطل ، وبين الاَصيل والدخيل ، وهو المائز بين ما هو معنىً دينيّ إلـهيّ خالص وبين ما هو غير دينيّ أُقْحِم في ظروف تاريخيّة في الدين.
  وهذا ـ كما ترى ـ يتطلّب منّا شيئاً من الشجاعة الدينيّة والجرأة التوحيديّة التي لاتنشد غير المعاني الاَصيلة الصافية صفاء الحقّ ، المستقيمة استقامة نأْيَها عن سخط الله وعذابه.
  والذي يجب الاِشارة إليه هنا هو إضفاء بعض الناس هالة من القدسيّة على السلف ولزوم ترك مناقشة أقوالهم وأفعالهم ، لاَنّهم رجال ذهبوا ، لهم مالهم وعليهم ما عليهم ، فلا يصحّ لنا الدخول فيما كانوا فيه!!
  نعم ، يصحّ هذا الكلام عنهم لو اعتبرناهم رجال عاديّين ليس لهم دور في الشريعة ، لكنّ حقيقة الحال غير هذا ، لاَنّ غالب قضايانا الشرعيّة أُخذت عنهم ولهم دور فعال في الشريعة ، فلا محالة من الوقوف على نصوصهم ، وسيرتهم وسلوكهم ، لاَنّه ممّا يرتبط بحياتنا العلميّة والعمليّة الشرعيّة.
  مع تأكيدنا في لزوم ابتناء الدراسات على الاَُصول الثابتة العلميّة كالقرآن والسنّة والعقل.
  ومن هنا نرى في النصوص الواردة عن أهل بيت النبيّ (ص) تأكيدهم

------------------
(1) البقرة: 63.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 225 _

  على اتّخاذ كتاب الله ميزاناً يُرَدّ إليه ما اختُلِف فيه ، ودعوتهم المسلمين لاَن يتحرّروا من عقدة الخوف من إخضاع كلّ شيء للقرآن العظيم على أنّه الحاكم المهيمن الناطق بكلمة الفصل والحقّ ... الذي ينبغي طرح كلّ ما يخالفه ولاينسجم معه ، وأنّ أحاديث أهل البيت التي قالوها لتعليم المسلمين وإمدادهم بالوعي الدينيّ المتبصّر صريحة في أنّ ما خالف كتابَ الله فهو زُخرف مكذوب.
  ودعوتنا هذه التي نريد أن نخلُص إليها لا تتصادم مع ما قيل عن الشيخين ـ مثلاً ـ من عزوفهما عن كثير ، من الملذّات ، وفيما أسْدَوه من خدمات لتوسيع رقعة الاِسلام والانتشار في الآفاق، فهذا أمر محفوظ ... بَيْد أنّ ما ينبغي التفطّن له هو أنّ التقشّف والفتوحات وحمل هموم الحرب والسلم شيء ، وقضايا الشريعة الاِلـهيّة في خصائصها ونقاوة مصادرها شيء آخر مختلف ، كما هو بيّن لمن يميّز الاَُمور ويملك ذهنيّة دقيقة لا تخلط الفرع بالاَصل ، ولاتُدخل ملابسات الظروف الاجتماعيّة التاريخيّة في صُلب مضامين الدين.
  إنّ المنع من تناقل حديث رسول الله ـ مع إصرار الصحابة على ضرورة التدوين ، كما مرّ في خبر عروة بن الزبير (1)ـ ثمّ مخالفة الخليفة لرأيهم مع ملاحظة كونه قد رسم أُصول الشورى في الخلافة من بعده ... لاَمر عظيم ، ينبىَ عن كون التدوين أمراً ثقافيّاً حضاريّاً يرتبط بالسياسة لايمكن للخليفة تجاهله ، وعليه فإنّ قضيّة منع تدوين السنّة الشريفة لم تكن قضيّة ثقافيّة خالصة كما علّلها الخليفة بأنّها وليدة الخوف من اختلاط السنّة بالقرآن والخوف من تأثّر المسلمين بالاَُمم السابقة.
  فالمسألة هنا ترتبط بالعلم ، كما اتّضحت شواهد عديدة على ذلك ، وأنّ الخليفة لم يكن يملك الرؤية العامّة للاَحكام ولم يكن على إحاطة تامّة ببيانات رسول الله (ص).
  وأمّا مقدرتهم في الجوانب الاَُخرى فالاَمر يتعلّق بالمقدرة العسكريّة والحنكة السياسيّة ، والمعروف ـ عند أهل الخبرة ـ أنّ من له الحنكة السياسيّة

------------------
(1) تقييد العلم: 50 ، جامع بيان العلم وفضله 1: 64 ، كنز العمّال 5: 339.