من الطبيعيّ أنّ استمرار ظاهرة تخطئة الخليفة ممّا يؤدّي إلى تضعيف مركزه ويقلّل من مكانته الاجتماعيّة عند المسلمين ، وسيؤثّر مآلاً على قوام الخلافة الاِسلاميّة ، لاَنَّ الخليفة قد رأى الصحابة ـ وخصوصاً المحدّثين منهم ـ قد جدّوا في تخطئته مرّة بعد مرّة ، وأنّ المواقف المخطِّئة في بعض الاَحيان ، والمشكّكة في أحيان أُخرى لو كتب لها أن تستمرّ لاَسفرت عن تجرّؤ الصحابة على الوقوف أمام شخصيّة الخليفة نفسه.
  فكان من المحتّم عليه ـ والحالة هذه ـ أن يطرح نهجاً جديداً يتلافى فيه ظاهرة التخطئة والتصحيح التي يقوم بها الصحابة ، ويغلق أمامها المنافذ ، ولتكون من بعدُ المبرّر لاَعماله ، والمصحِّح لاجتهاداته ، إذ إنّ مقايسة فتاوى الخليفة بما في القرآن وأحاديث رسول الله (ص) ، ثمّ بيان وجوه الخلاف بينهما وبين أُصول التشريع سيسوق الناس للتعريض به ، والوقوف أمام آرائه وما يشرِّعه من رأي ، وهو يعني تضعيف مكانته عندهم ، ويجعله في موضع المستسلم لقبول ما سيطرحه المخالفون له ، فرأى من الضرورة تقوية ما كان يذهب إليه من تعرّف المصلحة على عهد الرسول ، وتقوية فكرة الاجتهاد وتعميمها للصحابة ، كي يُعذر في فتاواه ، ومن هنا ظهرت رؤيتان عند الخليفة ، ومن ثمّ عند بعض المسلمين.
  الاَُولى: القول بالمصلحة .
  الثانية: القول بحجّيّة اجتهاد الصحابيّ.
  وستقف لاحقاً على السير التاريخيّ لهاتين الرؤيتين ومدى قربهما أو بعدهما عن الواقع .
  وقبل ذلك ننقل كلام الاِمام محمّد عبده عن المصلحة عند الصحابة وأنّهم (كانوا إذا رأوا المصلحة في شيء يحكمون به وإن خالف السنّة ،

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 128 _

  كأنّهم يرون أنّ الاَصل هو الاَخذ بما فيه المصلحة لابجزئيّات الاَحكام وفروعها) (1).
  وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف : وكانوا إذا لم يجدوا نصّاً في القرآن أو السنّة يدلُّ على حكم ما عرض لهم من الوقائع استنبطوا حكمه ، وكانوا في اجتهادهم يعتمدون على مَلَكتهم التشريعيّة التي تكوّنت لهم من مشافهة الرسول ، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامّة.
  فتارة كانوا يقيسون ما لا نصّ فيه على ما فيه نصّ ، وتارة كانوا يشرِّعون ما تقضي به المصلحة أو دفع المفسدة ولم يتقيَّدوا بقيدٍ في المصلحة الواجب مراعاتها ، وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نصَّ فيه فسيحاً مجاله ، وفيه متّسعٌ لحاجات الناس ومصالحهم (2).
  وممّا يدلّ على صحّة قول عبده وخلاّف هو فتاوى عمر نفسه والتي مرّ قسم منها ، والقارىَ يعرف مدى نسبة اجتهاد الخليفة التي اصطدمت مع واقع التشريع.
  فمن المحتمل أن تكون هذه المواقف المخطِّئة للخليفة من قبل الصحابة سبباً آخر من أسباب منع عمر بن الخطّاب من التحديث عن رسول الله وتدوين سنّته .
  وعلى كلّ حال ، فإنَّ المحصّل الذي لا ريب فيه هو امتداد الاتّجاهين في الشريعة عند المسلمين حتّى بعد وفاة رسول الله:
  الاَوّل: يأخذ بالنصوص ويتعبّد بها ، والذي سمّيناه (التعبُّد المحض).
  والثاني: يأخذ بقول الرجال ويذهب إلى حجّيّة اجتهادات الصحابة المدركين لروح التشريع ، حتّى توسّعت خطواتهم ولم تقف عند حدود بعد وفاة النبيّ الذي كان يكبح من جماح هذا الاتّجاه .
  ولم تختصّ اجتهاداتهم فيما لانصّ فيه بل تعدّتها إلى ما فيه نصّ صريح ، وقد سمّينا هذا النهج نهج

------------------
(1) تفسير المنار 4: 31 لمحمّد رشيد رضا.
(2) خلاصة تاريخ التشريع الاِسلاميّ:40.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 129 _

  قال الدكتور محمّد سلاّم مدكور : ... وهكذا من تتبّع تصرّفات الصحابة وعلى رأسهم الخليفة عمر الذي طالما بدّل بعض الاَحكام إلى ما يرى أنّه مصلحة ، مع تفسيره للنصوص تفسيراً يتّفق مع المصلحة ، وقد درج التابعون على ذلك فأفتَوا بجواز تسعير السلع مع نهي الرسول عن ذلك ، وقالوا : إنّ الناس قد فَجَروا بما أصابهم من الجشع (1).
  وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف : ... (في عهد الصحابة) لما تعدّد رجال التشريع منهم ، وقع بينهم اختلاف في بعض الاَحكام وصدرت عنهم فيالواقعة الواحدة فتاوى مختلفة ، وإنّ هذا الاختلاف كان لابُدّ أن يقع بينهم ، لاَنّ فهم المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر ، ولاَنّ السنّة لميكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء ، وربّما وقف بعضهم على ما لايقف عليه الآخر ، لاَنّ المصالح التي تستنبط لاَجلها الاَحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع ، فلهذه الاَسباب اختلفت فتاواهم وأحكامهم في بعض الوقائع والقضايا.
  ولمّا آلت السلطة التشريعيّة في القرن الثاني الهجريّ إلى طبقة الاَئمّة المجتهدين اتّسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع ، ولم تقف أسباب اختلافهم عند الاَسباب الثلاثة التي بني عليها اختلاف الصحابة ، بل جاوزتها إلى أسباب تتّصل بمصادر التشريع وبالنزعة التشريعيّة وبالمبادىَ اللغويّة التيتطبّقُ في فهم النصوص.
  وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط ، بل كان (الاختلاف أيضاً في أُسس التشريع وخُططه ، وصار لكلّ فريق منهم مذهب خاصّ يتكوّن من أحكام فرعيّة استنبطت بخطّةٍ تشريعيّة خاصّة) (2).
  وهذا يدلّ على أنّ تعدّد مراكز الاِفتاء قد أدّى ويؤدّي إلى الاختلاف في الرأي والاجتهاد ، وقد يكون هذا الاختلاف عند الصحابة ، فيما بينهم ، أو بينهم

------------------
(1) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 303.
(2) خلاصة تاريخ التشريع الاِسلامىي ، لخلاّف: 72.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 130 _

  وبين الخليفة.
  وقد وضَّح الدكتور مدكور هذه الحقيقة بعبارة أُخرى فقال: ... واجتهاد الصحابة لم يقف عند القياس وإنَّما شمل كلّ وجوه الرأي ، عمدتهم في ذلك البديهة والفطرة وما لمسوه من روح التشريع ، مع وعي كامل للاَساس العقليّ الذي يقوم عليه الرأي ، والدور الذي يؤدّيه في إظهار الاَحكام الشرعيّة ، فاجتهدوا وهم على بيّنة من أمرهم.
  وكانت اجتهاداتهم متنوّعة ، فمنها ما يعتمد على القياس ، ومنها ما يعتمد على المصلحة ، وهكذا بالنسبة للمصادر العقليّة التي عرفت فيما بعد بأسماء اصطلاحيّة.
  ثمّ يقول: ... ومن الطبيعيّ أنّ الاجتهاد بالرأي يترتّب عليه اختلاف وجهة النظر ، والتفاوت في الفتاوى والاَحكام ، ولمّا تفرّق الفقهاء مع هذا في الاَقاليم كانوا نواة الاتّجاهات المختلفة التي نشأت عنها مدرسة الحديث ومدرسة الرأي (1).
  وقال الدكتور ديب البغا في معرض بيانه لوجوه أدلّة النافين لحجّيّة قول الصحابيّ:
  إنّ الصحابة قد اختلفوا في مسائل ، وذهب كلُّ واحد خلاف مذهب الآخر ، كما في مسائل (الجدّ مع الاِخوة) وقول القائل (أنتِ عَلَيّ حرام) وغيرها ، فلو كان مذهب الصحابيّ حجّة على التابعين ، لكانت حجج الله متناقضة مختلفة ولميكن اتّباعُ التابعيِّ للبعض أولى من البعض الآخر (2).
  فالذهاب إلى مشروعيّة الاجتهاد ، يعني شرعيّة تعدّد الآراء ، وكذا اختلافها!!
  فعمربن الخطّاب حينما رأى ضرورة استخدام الاجتهاد كمنطلق ومبرّر في فهم الشريعة ، كان عليه أن يسمح للآخرين في الاِفتاء كذلك ، حتّى يصحّ

------------------
(1) مناهج الاجتهاد في الاسلام: 79 ـ 80.
(2) أثر الاَدلة المختلف فيها في الفقه الاِسلاميّ ، للدكتور مصطفى ديب البغا:247.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 131 _

  اجتهاده ، وكي يجد في كلام الآخرين ما يؤيّد كلامه ويفسّره ، أو أن يُحترم رأيه ويسكت عنه على أقلّ تقدير.
  إنّ أمره قرظةَ بالاِقلال في الحديث ثمّ تجويز الاجتهاد للصحابة ، ممّا يبرهن على أنّ الخليفة كان يريد نقل مدار التشريع وتعديته من النصوص الشرعيّة إلى الاَخذ بآراء الرجال وقد أشار بعض الصحابة إلى خطأ هذه الفكرة وإلى أنّ الحقّ لا يُعرف بالرجال ، فجاء عن الاِمام عليّ: أنّك لملبوس عليك ، إنَّ الحقّ والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال ، اعرف الحقّ تعرف أهله.
  فالخليفة ـ وبتوسيع وتحكيم دائرة الاجتهاد ـ كان يريد أن يعطي لنفسه مكانة فيالتشريع ، من خلال السماح بالاجتهاد لغيره.
  فالمدبّر السياسيّ في عهد الخلافة الراشدة ليعلم أنّه لا يمكنه أن يطبّق ما يريده لو جرّد عن الدور التشريعيّ ، وممّا لا محيص عنه أن يجعل الحقّ لنفسه أكثر من غيره ، لاَنّه الاَجدر بمزاولة التشريع لكونه متصدّياً لمنصب الخلافة.
  وقد تدرّج الخليفة وانفرد بسلّم الفتيا فعلاً ، فصار بعد برهة من الزمان يطلق العنان لنفسه ـ خاصّة في الاِفتاء ـ بالرأي والاجتهاد وتعرّف المصلحة ويحكرها على نفسه ويحظره على باقي المسلمين أو يحدّ منه ، أو يجعل رأيه ونظره هو الراجح المطلق أو الاَرجح الذي لا يُجارى .
  من هنا انطلقَ ليحدّد معالم ما رسمه في الاجتهاد سابقاً كي يجعل النصيب الاَوفر له ، فتراه يجيب عن المسائل بمفرده دون أن يستشير أحداً من الصحابة ولم يرتضِ قبول رأي آخر يعارض رأيه ، وصار داعياً إلى اتّباع رأيه وسيرته بعد أن كان سائلاً وباحثاً عن سنّة رسول الله ، وأصرَّ على الاَخذ برأيه وإن خالف سنّة رسول الله والذكر الحكيم؛ لاَنّه أعلم منهم بأحكام الله وسنّة رسوله ـ على حدّ قوله لمن جمعهم من الصحابة ـ فقال لهم : (لا تفارقوني ، فإنّي أعلم منكم ، آخذُ منكم وأردُّ عليكم).
  وفوق ذلك أنَّ الخليفة لم يكتفِ بهذا المقدار ، بل تراه لا يسمح لعماربن ياسر وغيره من الصحابة أن يذكّروه بما فعله أيّام رسول الله.
  أخرج النسائيّ: أنّ رجلاً أتى عمر ، فقال : إنّي اجنبت فلم أجد ماءً ؟

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 132 _

  فقال : لا تصلِ.
  فقال له عمّار: أما تذكر ، أنّا كنا في سريةٍ فأجنبنا ، فأمّا أنت فلم تُصَلِّ ، وأمّا أنا فإنّي تمعكت فصلَّيت ، ثمّ أتيتُ النبيّ (ص) فذكرت ذلك له ، فقال : إنّما يكفيك ، وضرب شعبة بكفّه ضربةً ونفخ فيها ، ثمّ دلك إحداهما بالاَُخرى ثمّ مسح بهما وجهه.
  فقال عمر : شيئاً لا أدري ما هو.
  فقال : إن شئت ، لا حدّثته (1).
  وفي رواية أُخرى: كنّا عند عمر فأتاه رجل فقال : يا أمير المؤمنين! إنّما نمكث الشهر والشهرين ولا نجد الماء!
  فقال عمر : أمّا أنا فلم أكن لاَُصلّي حتّى أجد الماء.
  فقال عمّار : يا أمير المؤمنين! تذكر حيث كنّا بمكان كذا ، ونحن نرعى الاِبل ، فتعلم أنّا أجنبنا ؟
  قال : نعم.
  قال : فإنّي تمرّغت في التراب ، فأتيت النبيّ (ص) فحدّثته فضحك وقال: كان الصعيد كافيك ، وضرب بكفّيه الاَرض ثمّ نفخ فيها ثمّ مسح بهما وجهه وبعض ذراعيه.
  قال : اتَّقِ الله يا عمّار.
  قال : يا أمير المؤمنين ! إن شئت لم أذكره ما عشت ، أو حييت.
  قال : كلاّ والله ، ولكن نولِّيك من ذلك ما تولَّيت (2).
  يوضِّح هذا النصّ أنّ الخليفة لم يكن يرى التيمّم للجُنب ، بل يسمح لهبترك الصلاة إذا تعذّر الماء!

------------------
(1) سنن النسائيّ 1: 169 (الحاشية) ، وكذا البيهقيّ1: 209 ، وأحمد 4:19 ، مصنّف عبدالرزاق 1:239 ح 215 ، إلاّ أنّهم ذكروا وجهه وكفّيه.
(2) مسند أحمد 1: 319 ، سنن أبي داود 1: 88|322 ، سنن النسائيّ 1:168 ، السنن الكبرى 1:209.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 133 _

  قال العينيّ : فيه [يعني الحديث] أنّ عمر (رض) لميكن يرى للجنب التيمّم ، لقول عمّار له : فأمّا أنت فلم تصلِّ!
  وقال : إنّه جعل آية التيمّم مختصّة بالحدث الاَصغر ، وأدّى اجتهاده إلى أنّ الجنب لا يتيمّم (1).
  قال ابن حجر : هذا مذهب مشهور عن عمر (2).
  وأخرج البخاريّ ، عن الاَعمش ، عن شقيق ، قال:
  كنت جالساً مع عبد الله ، وأبي موسى الاَشعريّ ، فقال له أبو موسى : لو أنّ رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً أما كان يتيمّم ويصلّي ؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة: (فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّباً) (3)؟!
  فقال عبد الله: لو رخّص لهم في هذا لاَوشكوا إذا يرِد عليهم الماء أن يتيمّموا الصعيد.
  قلت : وإنّما كرهتم هذا لذا ؟
  قال : نعم.
  فقال : أبو موسى : ألم تسمع قول عمّار لعمر ؟! بعثني رسول الله... الخبر (4).
  النصوص السابقة أكّدت على أنّ الخليفة كان وراء هذا الحكم الشرعيّ وغيره من الاَحكام ، وأنت ترى مخالفته الواضحة لما نزل به القرآن وبَيَّنَهُ رسول الله ، ولذلك احتجّ عمّار ، وأبو موسى ، واستغرب فقهاء المسلمين هذا الحكم الذي أسّسه الخليفة عمر ، ومن هنا يعلم أنّه لا يصحّ القول بأنّ مثل هذه الفتاوى والآراء مقرّرة من قبل الشرع وأنّ للصحابة حقّ الاجتهاد المطلق ، ولهم الاِفتاء طبق ما عرفوه من روح التشريع واعتبار ذلك هو الدين لا غير!

------------------
(1) عمدة القاري 4: 19.
(2) فتح الباري 1: 352.
(3) المائدة : 6 .
(4) صحيح البخاريّ 1: 69 ، سنن أبي داود 1: 87|321 ، سنن الدارقطنيّ 1: 179|15.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 134 _

  فلو صحَّ هذا الفرض لما صحَّ للخليفة عمر أن يلزم عمّاراً السكوت ويواجهه بلهجة فيها شيء من العنف والتحذير ، إذ حسب هذا القول يقتضي أن يكون عمّار قد عرف الحكم الشرعيّ من النصّ ومن روح التشريع مضافاً إلى ما سمعه من النبيّ (ص) ، ولا يجوز للخليفة بعد هذا الاعتراض عليه ، بل يلزمه احترام رأيه كصحابيّ يدرك روح التشريع.
  ونفس الاَمر يقال عن الصحابة: فلو جاز اجتهاد الجميع ، لما صحّ لعمّار أن ينكر على الخليفة عمر ذلك ، وكذا أبو موسى الاَشعريّ وغيرهما من الصحابة الذين لم يوافقوا الخليفة في الفتوى.
  وليتني أعرف: هل خفي على الخليفة عمر ما رواه الصحابيّ الجليل عمرانبن الحصين:
  أنّ رسول الله (ص) رأى رجلاً معتزلاً لم يُصَلِّ في القوم ، فقال(ص): يافلان! ما منعك أن تصلّي في القوم ؟
  قال : يا رسول الله! أصابتني جنابة ، ولا ماء.
  فقال (ص): عليك بالصعيد ، فإنّه يكفيك (1).
  وقوله (ص) في مورد آخر: عليك بالتراب (2).
  وفي حديث ثالث : أعلّمك التيمّم ، مثل ما علّمني جبرئيل ، فأتيته ... (3).
  أم هل خفي عليه ما رواه أبو هريرة وأبو ذرّ وغيرهم في التيمّم ؟
  وكذلك ما وصل إلينا من أخبار المحافظة على الصلاة وأنّها لاتترك بحال ؟
  كلّ هذه النصوص تحكم بخطأ ما ذهب إليه الخليفة وأنّه لميكن أعرف من غيره بالاَحكام الشرعيّة ـ كما ادّعى ذلك لنفسه متأخّراً ، أو أنّه لميختصّ

------------------
(1) سنن الدارميّ 1: 189 ـ 190 ، صحيح البخاريّ 1: 96 ، سنن النسائيّ 1: 171 ، السنن الكبرى 1:216 ، تيسير الوصول 3: 115.
(2) السنن الكبرى 1: 216 ـ 217.
(3) تاريخ بغداد 8: 377.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 135 _

  بعقليّة متميّزة عن غيره كما ادّعته الدكتورة نادية العمريّ وغيرها.
  مع العلم أنّ رأي الخليفة عمر بن الخطّاب لم يقتصر على الفاقد للماء حتّى يمكن القول بالاستثناء وقبول ما عَلَّل به الآخرون ، فالخليفة يؤكّد على لزوم اتّباع آرائه وإن حصل بينها الاختلاف في الواقعة الواحدة.
  فعن مسعود الثقفيّ أنّه قال :
  شهدتُ عمر بن الخطّاب (رض) ... أشرك الاِخوة من الاَب والاَُمّ مع الاِخوة من الاَُمّ في الثلث.
  فقال له رجل : قضيت في هذا عامَ أوّل بغير هذا!
  قال : كيف قضيت ؟
  قال : جعلته للاِخوة من الاَُمّ ولم تجعل للاِخوة من الاَب والاَُمّ شيئاً.
  قال : تلك على ما قضينا ، وهذا على ما قضينا (1).
  وفي لفظ آخر : تلك على ما قضينا يومئذٍ ، وهذه على ما قضينا اليوم (2).
  فهذه النصوص تؤكّد على أنّ الخليفة يجدُّ في رسم أُصول فقهه واعتبارها المقياس الاَوّل والاَخير في الاَخذ به .
  وهي رؤية أملتها الظروف عليه ودَعَتْه إلى القول بها ، ثمّ امتدّت بعده حتّى بلغ الاَمر ببعض المسلمين أن يقول : إنّ قول الصحابيّ وفعله يُخصّص كلام الله!
  قال الدكتور مدكور : وأيّاً ما كان فمن الثابت أنّه لا يوجد حكم تشريعيّ في هذا العهد [أي عهد الرسالة] إلاّ ومصدره الوحي ، ولم يقُل أحد غير ذلك سوى من أجازوا للرسول الاجتهاد (3).
  ثمّ نَقَلَ عن المدخل إلى علم أُصول الفقه ، للدواليبيّ: أنّ الرسول قد جعل الاجتهاد أصلاً ثالثاً للاَحكام في عصره (4) ، ثمّ نفى الدكتور سلاّم هذا الرأي ،

------------------
(1) السنن الكبرى 6 : 255.
(2) السنن الكبرى 6 : 255 وكذا الدارميّ.
(3) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 356.
(4) مناهج الاجتهاد في الاِسلام عن علم أُصول الفقه للدواليبيّ: 11.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 136 _

  وذهب إلى عدم كونه مصدراً للتشريع في عهده (ص) (1).
  نعم ، قد علّل ، أتباع مدرسة الخلافة وأنصارها ، ما ذهب إليه الخليفة عمربن الخطّاب من اجتهادات تخالف القرآن والسنّة المطهّرة ، وذكروا وجوهاً في ذلك ، منها ماقاله الدكتور سلاّم : (... ولم ينهض عنده [أي المستشكل القادح] حجّة لقادح خفيٍّ رآه فيه [أي عند عمر] حتّى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة ، واضمحلّ وَهْم القادح فأخذا به) (2)وغيرها من وجوه التعليل التي ذكرها المؤرّخون والفقهاء.
  إنّ دعوة الخليفة المسلمين إلى اتّباع قوله ، كانت حاجة سياسيّة فرضها الواقع الاجتماعيّ عليه ، وكذا منعه للتدوين وللتحديث ، إذ لم يصدر نصّ شرعيّ عن رسول الله فيه .
  لاَنّه لو ثبت ذلك عنه (ص) لذكَّر الخليفة عمربن الخطّاب المسلمين به واستعان بقوله (ص) ـ في منعه للحديث والتدوين ـ ولمينسب المنع لنفسه وحده لئلا يتحمّل وزره.
  إنّ الخليفة عمر وبتقويته لفكرة الرأي لم يكن قصده مخالفة سنّة رسول الله وتخطئتها ، بل إنّ الظروف هي التي ألزمت الخليفة أن يقول بالرأي وإن خالف النصّ ، انطلاقاً من الخلفيّات التي ذكرنا بعضها ، وعلى ذلك يمكننا أن نعدّ مواقفه السابقة مع رسول الله من هذا الباب ، إذ كان في الجاهليّة على شيء من ذلك ، فكان يريد تطبيق ممارسة صلاحيّاته ـ التي يرتأيها لنفسه ـ بأوسع نطاق في الاِسلام ومع رسول الله ، ولكنّ الفرق بين العصرين واضح بيّن.
  نعم ، إنّ البعض قد نفى أن يكون اجتهاد الخليفة من هذا القبيل ، حيث إنّه كان من الذين قد تعبّدوا بسنّة الرسول ، ثمّ مثّلوا لذلك ببعض النصوص ، كقوله وهو واقف على الركن: إنّي لاَعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولو لم أرَ حبيبي (ص) قبَّلك واستلمك ما استلمتك ولا قبّلتك (3).
  وقال يعلى بن أُميّة: طُفت مع عمر بن الخطّاب ، فلمّا كنت عند الركن

------------------
(1) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 356.
(2) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 154.
(3) السنّة قبل التدوين عن مسند أحمد 1: 197 و213.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 137 _

  الذي يلي الباب ممّا يلي الحجر ، أخذت بيده ليستلم ، فقال: أما طُفتَ مع رسول الله (ص) ؟
  قلت : بلى.
  قال : فهل رأيته (ص) يستلمه ؟
  قلت : لا.
  قال : فانفذ عنك فإنّ لك في رسول الله أُسوة حسنة (1).
  لكنّ مثل هذه النصوص لا تفي بالمدّعى بعدما عرفت عن حجم الاجتهاد فكراً وتطبيقاً عند الخليفة عمر ، وإنّما تكون هذه النصوص واضحة الدلالة على أنّ الخليفة لا يعني برأيه وباجتهاده تعمّد مخالفة النصّ ، وإنّما تعني شيئاً آخر ، فإذا لحظت هذا وأقواله في ضرورة التمسّك بالاَحاديث ونبذ الاجتهاد ، ثمّ لحظت اجتهاداته وتوسّعه في الاستنباط حتّى مع وجود النصّ ، إذا لحظت هاتين المسألتين علمتَ أنّ الظروف هي التي حدت به أن يتّخذ موقفاً انجرّ في نهاية المطاف إلى مخالفة السنّة النبويّة ، من حيث يشعر أو لا يشعر بذلك.
  لاَنّ استمرار ظاهرة التخطئة عند المسلمين تؤدّي لا محالة إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة إحداهما عن الاَُخرى ، وهذا يعني خروج المسلمين عمّا اعتادوا عليه في عهد رسول الله من الاَخذ عن شخص واحد والخدش في مكانته الروحيّة ، ونظراً للمصلحة العامّة ـ كما يقولون ـ ذهبوا إلى القول بالمصلحة وحجّيّة الرأي واجتهادات الصحابة ، وخصوصاً اجتهادات الشيخين ، لاَنّهم قد عرفوا ملاكات الاَحكام وروح التشريع ، كما طرحها المبرّرون لآراء واجتهادات الشيخين ـ زاعمين أن اجتهادات أمثال هؤلاء جديرة بالامتثال ـ ثمّ رووا أحاديث عن رسول الله في ذلك.
  ثمّ إنّ المسلمين كانوا قد عرفوا أنّ الاَحكام المُستجدّة يلزم أن يستنبطوها من النصوص الشرعيّة وما جاء عن رسول الله ، ولا يجوز لاَحد القول فيها بالرأي والاجتهاد ، وحيث إنّ الخليفة لم يحفظ جميع تلك النصوص

------------------
(1) السنّة قبل التدوين: 86 عن مسند أحمد 1: 265.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 138 _

  الصادرة عن رسول الله (ص) أو لا يعرف تفسيرها ، فتراه يشرّع القياس ليكون المبرّر لما يذهب إليه وليقال في تبريره إنّ كلامه مأخوذ من الاَصل الفلاني والآية الفلانيّة.
  وبذلك صار الاجتهاد أمراً مألوفاً عند المسلمين ولا يختصّ بالخليفة لاَنّه قد عمّ جميع الصحابة ، مع الاَخذ بنظر الاعتبار أنّ البعض منهم: كان يفتي طبق الرأي والاجتهاد ، والآخر : طبق النصّ ولا يرضى بالتحديث إلاّ عن كتاب الله وسنّة رسوله ، وإن اجتهد هؤلاء فكان في إطار الاستنباط الصحيح المتين من الكتاب والسنّة بمعنى سلوك السُّبُل الكفيلة بالدلالة على ما أراده الله ورسوله ، وهذا ليس من الرأي بشيء.
  بلى ، إنّها كانت خطوة سياسيّة اتّخذها لكي لا يجرؤ أحد على مخالفة فتاواه ، بل ليسلّم الجميع لما يذهب إليه.
  عن أبي موسى الاَشعريّ: أنّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل: رُويدك ببعض فُتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك بعدك ، حتّى يفتيه ، فسألته.
  فقال عمر: قد علمت أنّ النبيّ قد فعله وأصحابه ، ولكنّي كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الاَراك ، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم (1).
  إنّ هذا النصّ وأمثاله ممّا يؤكّد فكرة خضوع الاَحكام الشرعيّة لرأي الخليفة ، إذ ترى أبا موسى الاَشعري ـ وهو من كبار الصحابة ـ لا يمكنه أن يفتي بالمتعة ، لاَنّه لا يدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك! بل يجب عليه التروّي حتّى يأتي أمر الخليفة وقراره الاَخير فيه!!
  وقد أنكر عمر بن الخطّاب على البعض لاِفتائه من عند نفسه بقوله : كيف تفتي الناس ولست أمير ؟ وَلِيَ حارَّها مَن وَلِيَ قارّها (2)
  ونحن ، بعد وقوفنا على ملابسات التشريع ، يمكننا القول: إنّ الذهاب

------------------
(1) صحيح مسلم 2 : 896|157 ، مسند أحمد 1: 50 ، سنن النسائيّ 5: 153 ، السنن الكبرى5 : 20 ، تيسير الوصول 1: 340|30 ، سنن ابن ماجة 3: 992|2979.
(2) الصحيح من سيرة النبيّ الاَعظم 1 : 79 عن مصادر متعدّدة .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 139 _

  إلى حجّيّة كلام الصحابيّ ، واستغلال مفهوم اجتهاد النبيّ وإنّه قد أخطأ في فداء أسرى بدر ، والصلاةِ على المنافق ، وقوله: إنّما أنا بشر إذا أمرتُكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتُكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر أُخطىَ وأُصيب (1) وغيرها.... كلّها رؤىً قد رُسمت لتصحيح اجتهادات الخليفة ، ولرسم المبرِّر لما يذهب إليه .
  فسؤال الصحابة الخليفة عن الحكم الشرعيّ وبالعكس ، يعني طلب الجميع الوقوف على ما حكم به الله ورسوله ، فلو كان اجتهاد الخليفة عمربن الخطّاب عندهم حجّة ، لاَخذوا به ولَما ذكّروه بما قاله الرسول (ص) وما فعله ، ولَمَا تراجع هو عمّا أفتى به في كثير من المواطن! وهذا دليل على أن سيرة الشيخين لم تكن حجّة عند المسلمين في الصدر الاِسلاميّ الاَوّل ـ وعلى التحديد قبل تأسيس الشورى ـ حيث وقفت على تخطئة الصحابة للخليفة عمر ، وتخطئة الواحد منهم للآخر.
  فلو صحّ ما نُسب إلى رسول الله من أنّه أكّد على لزوم اتّباع سنّة الشيخين بقوله: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ...) ، فَلِم نرى الصحابة لايأخذون بأمر الرسول حيث خالفوا رأي الشيخين من بعده ؟
  قال الدكتور ديب البغا ، وهو بصدد بيان أدلّة النافين لحجّيّة مذهب الصحابيّ: (... أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كلّ واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر ، فلم ينكر أبو بكر وعمر (2)رضي الله عنهما على مخالفيهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا على كلّ مجتهد في مسائل الاجتهاد أن يتّبع اجتهاد نفسه ، ولو كان مذهب الصحابيّ حجّة لما كان كذلك ، ولكان يجب على كلّ واحد منهم اتّباع الآخر ، وهو محال) (3).
  إنّ الناس كانوا يريدون الوقوف على سنّة رسول الله لا سنّة الشيخين ، والخليفة ـ كما عرفت ـ لا يعرفها جميعاً ، ومن هنا بدأ يواجه مشكلة جدّيّة

------------------
(1) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 349.
(2) بل أنكر عمر على الكثير منهم وهدّدهم وعاقب كما مرّ ، ويأتيك أكثر من ذلك.
(3) أثر الاَدلة المختلف فيها في الفقه الاِسلاميّ ، للدكتور مصطفى ديب البغا: 347.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 140 _

  ينبغي له أن يضع الحلّ لها ، لاَنّ المحدّثين من الصحابة وبنقلهم الاَحاديث عن رسول الله سيوقفون الناس على وهن رأي الخليفة وبُعده عن الشريعة ، وإنّ هذه الظاهرة والتوعيّة ـ بطبيعة الحال وحسب نظر الخليفة ستمسُّ كيان الخلافة والدولة الاِسلاميّة الفتيّة ، وتؤدّي إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة إحداهما عن الاَُخرى ، وهو ممّا لا يخدم الوضع العامّ ولا قرار الخليفة.
  فلابدّ له والحال هذه من رسم خطّة واتّخاذ نهج للخروج ممّا هو فيه ، فذهب أوّلاً إلى القول بحجّيّة الرأي والقياس ، بعد أن كان معارضاً لهما ، لاَنّه رأى فيها ما يطيّب النفس ويُقنع السائل.
  وقد وقفت على نصوص للصحابة يتّخذون فيها التمثيل والتشبيه أُسلوباً لاِقناع الخليفة عمربن الخطّاب وفقاً لرأيه وفهمه ، منها : ما قاله أبو عبيدة بن الجرّاح للخليفة في قتل المسلم بالذمّيّ : أرأيت لو قتل عبداً له أكنت قاتله ؟! فصمت عمر ، أو تمثيل زيد بن ثابت في الاِرث بالشجرة ، وغيرها.
  فالقياس والتمثيل هو المنفذ العقليّ الذي اتَّخذه البعض نهجاً في معرفة الاَحكام ، والصحابة قد اتَّخذوه لاِقناع الخليفة عمر ، واتّخذه الخيلفة عمر أيضاً لاِقناع الناس برأيه مركّزاً على القياس بشكل خاصّ ، فجاء في كتاب عمربن الخطّاب إلى شريح.
  إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقض به ، ولا تلتفت إلى غيره ، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ رسول الله ، فإن أتاك ما ليس فيكتاب الله ولميسنّ رسول الله (ص) فاقض بما أجمع عليه الناس ، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سُنّة رسول الله ولم يتكلّم فيه أحد قبل ، فإن شئت أن تجتهد برأيك فتقدّم ، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر ، وما أرى التأخّر إلاّ خيراً لك (1).
  وفي كتاب الخليفة عمر لاَبي موسى الاَشعريّ:
  فاعرف الاَشباه والاَمثال ثمّ قس الاَُمور بعضها ببعض ، أقربها إلى الله وأشبهها بالحقّ فاتّبعه ، واعمد إليه (2).

------------------
(1) أعلام الموقّعين.
(2) سنن الدارقطنيّ 4: 206 ـ 207 ، شرح النهج 11: 91.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 141 _

  هذا وقد شكّ ابن حزم في صدور هذه الرسالة من عمر إلى واليه أبي موسى الاَشعريّ ، لكنّه قَبِل صدور الرسالة لشريح وإن كان له فيها بعض الكلام (1).
  قالت الدكتورة نادية شريف العمريّ: وقد استعمل عمر بن الخطّاب مصطلح القياس في رسالته إلى أبي موسى الاَشعريّ ، إلاّ أنّ تلك الاصطلاحات والقواعد لم تكن شائعة بمسمّياتها تلك (2).
  وهذا كلام صحيح ، إذ إنَّ القياس بمفهومه الاصطلاحيّ لم يظهر إلاّ في زمان متأخّر عن الخلافة الراشدة ، لكنَّ بذوره وجذوره الاَوّليّة كانت قد ظهرت نتائجها بشكل واضح عند الخليفتين عموماً وعند الثاني منهما بشكل خاصّ ، وذلك ما لا يستطيع إنكاره إلاّ مكابر ، فسواء صحّ استعماله لكلمة القياس أم لميصحّ ، فإنَّ الثابت أنّه استفاد وعمل وطبّق القياس وغيره في فقهه.
  والذي أشكلناه على منهجيّة الشيخين ومن حذا حذوهما من الصحابة في التفكير ، لم يكن ليخفى على جمّ غفير من الصحابة ، فقد تصدّى الكثير منهم في موارد عدّة للاجتهادات والاَقيسة والمصالح التي بُدّلت وغيّرت على أساسها الاَحكام ، أو مُنع من تطبيق بعضها أو زِيد فيها أحكام أُخرى .
  وهناك من عيون الصحابة من لم يكتف بالمخالفة والتغليط والتصحيح في مورد أو أكثر ، بل أطلقوا قاعدة عامّة نصَّ عليها الكتاب وجاءت بها سُنّة النبيّ ، مفادها عدم جواز إعمال الرأي في الاَحكام ، لاَنّ الاِتيان بحكم جديد لميُسْتَقَ من القرآن والسنّة يعني نقص الشريعة وعدم إبلاغ النبيّ (ص) للرسالة ، وهذا ما لا يقول به مسلم ... يستلزم القول بمعرفة الصحابة حكماً عامّاً خفي على المشرّع وجهه ، وهذا يعني كذلك اختصاص بعضهم بطائفة الاَحكام أخْفَوها عن الآخرين ، ومعناه: أن النبيّ (ص) لم يبلِّغها للآخرين ـ والعياذ بالله ـ أو أنّ بعض الصحابة قد وقف على وجه تشريع الحكم وغايته من قبل الله

------------------
(1) انظر مناظرات في أُصول الشريعة بين ابن حزم والباجيّ ، للدكتور تركي: 398 عن الاَحكام.
(2) اجتهاد الرسول ، للدكتورة نادية: 326.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 142 _

  تعالى ، في حين أن رسول الله لم يبيّنها لهم وهو المبيّن لاَحكام الله.
  إنّ القول بمعرفة الصحابة لغايات الاَحكام ومصالحها ومفاسدها المبتناة عليها ، كانت من النقاط التي رُسمت لتصحيح الرأي والاجتهاد.
  لاَنّا نعلم أنّ العقول الناقصة من الرجال لا تستطيع الاِحاطة بجميع مصالح ومفاسد الاَحكام ، ومن هنا لم يجعل سبحانه وتعالى لاَحدٍ حقّ الجعل والتشريع ، واختصّ ذلك بذاته المقدّسة ، لاَنّه العالم المحيط بالمصالح والمفاسد.
  إذاً لم يبق إلاّ أن يقال: إنّ الشريعة المحمّديّة متكاملة الاَحكام ، دقيقة الاِحكام ، ليس فيها حكم إلاّ وقد استبان بنحو من أنحاء الدلالة التي أرشد إليها النبيّ مَنْ اختصّه بالعلم ، فكان على الراسخين في العلم أن يُبَيّنوه للناس ويستنبطوه من الكتاب والسنّة وفق ما أراده الله ، لا بما اعتقدوا فيه من المصالح وإرادته العقول غير الكاملة.
  وهذه الحقيقة صرّح بها الكثير من لامعي الصحابة ، فخذ على سبيل المثال: الاِمام عليّ بن أبي طالب وابن مسعود ، فإنّهما قد أوضحا هذه الحقيقة وأشارا إلى أنّ فهم الرجال يعجز عن إدراك الحكم الاِلهيّ وغايته ، لا أنّ الحكم ليس موجوداً في الكتاب.
  جاء عن عليّ بن أبي طالب: ما من شيء إلاّ وعلمه في القرآن ، ولكنّ رأيالرجال يعجز عنه (1).
  وعن عبد الله بن مسعود: ما من شيء إلاّ [بُيِّنَ] لنا في القرآن حكمه ولكنّ فهمنا يقصر عن إدراكه ، فلذلك قال تعالى (لِتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم) (2).
  إنّ قول عليّ بن أبي طالب وابن مسعود صريح الدلالة على أن الاَحكام موجودة في كتاب الله وأنّ رسوله (ص) مكلّف بتبيين ذلك للناس ، وقد أمر سبحانه المؤمنين بالرجوع إليه (ص) ، بقوله (فإنْ تنازعتم في شيءٍ فُردّوه

------------------
(1) انظر حجّيّة السنّة: 329 عن الحجّة للمقدسيّ ، وفي الكافي 1: 60 ح6 عن الصادق (ع): ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال.
(2) حجّيّة السنّة: 329 عن ابن أبي حاتم ، والآية : 44 من سورة النحل.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 143 _

  إلى الله والرسول) (1).
  نعم ، إنّ الآية تؤكّد بصراحة ووضوح أن حكم كلّ ما تنازع فيه المؤمنون موجود في كتاب ربّ العالمين وسنّة سيّد المرسلين ، فلو لم يكن كذلك لما أمر سبحانه الناس بالردّ إليهما ، إذ من الممتنع عقلاً أن يأمر الله بالردّ عند النزاع إلى من لايوجد عنده فصل النزاع!
  بَيْدَ أنّنا لا نريد أن نذهب إلى ما ذهب إليه إسماعيل أدهم واحمد توفيق شوقي وغيرهما من الداعين إلى الاقتصار على القرآن ومنكري السنّة الآمرين بلزوم اتّباع القرآن وحده!
  بل نريد التنويه إلى أنّ الصحابيّ الواعي الذي عايش النبيّ (ص) يمكنه أن يقف على حكم الله في كتابه ويهتدي إلى الصواب فيه ، وإذا أعياه رجع إلى السنّة ، وليس هناك حكم لا يمكن استنباطه من الكتاب والسنّة حتّى يصل الاَمر إلى القياس والقول بحجّيّة الرأي.
  إنّ عدم وقوف الصحابيّ على الدليل ليس دليلاً على العدم ، إذ يمكن وجود الحكم المتنازع فيه عند الآخرين ، وقد وقفت على نماذج من ذلك ورجوع الخليفة وغيره إليهما ، فكيف يقول الخليفة عمر: (ولم يسنّ رسول الله فاقض بما أجمع عليه الناس) ؟! وهل كلّ ما لا نعرفه من حكم الله ورسوله هو ممّا لم يسنّ ، حتّى يصحّ القول: فإن شئت أن تجتهد برأيك فتقدّم ، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر ؟!
  ألم يكن ذلك هو الرأي المنهيّ عنه في الروايات؟   أما خالف الخليفة بقوله هذا ما قاله في نصّ آخر:
  أيها الناس! اتّهموا الرأي على الدين ، فلقد رأيتُني أرُدُ أمر رسول الله (ص) برأيي اجتهاداً فوالله ما آلُو عن الحقّ ، وذلك يوم أبي جندل والكتاب بين رسول الله (ص) وأهل مكّة فقال : (اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم) فقالوا : ترانا قد صدّقناك بما تقول ؟ ولكنَّك تكتب باسمك اللّهمّ ، فرضي رسول الله (ص)

------------------
(1) النساء: 59.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 144 _

  وأبيت ، حتّى قال لي رسول الله (ص) : (تراني أرضى وتأبى أنت) قال:فرضيت (1).
  ألا ترى أن يكون القائل بالرأي هو ممّن تنقصه المعرفة بالسنّة ، لقول عمر: (أصبح أهل الرأي أعداء السنن ، أعيتهم أن يَعُوها وتفلّتت منهم أن يردوها ، فاستَبَقُوها بالرأي) (2).
  ما يعني هذا التهافت بين نصوص الصحابة ؟ فتارة نراه يحمي الرأي ويشرّعه أمام نصّ رسول الله وكلامه ويقف أمام إتيان الصحابة بالدواة إليه (ص) ويقول: إنّه ليهجر ، وأُخرى نسمعه يقول بما مرّ أعلاه ؟!
  أتكون هذه النصوص معبّرة عن مرحلتين مرّ بهما الخليفة ، فتارة يتّخذ الرأي وثانية يخالفه ؟
  وماذا سيفعل القائس ـ على رأي عمر ـ إذا اشتبهت عليه الوجوه ولايدري أيّها أحبّ إلى الله.
  ولو صحّ القياس في شريعة السماء فلِمَ لا يوجب الشرع جلد القاذف بالكفر دون القاذف بالزنا ؟!
  ولماذا نراهم يفرّقون بين حكم خروج المني ودم الحيض في إعادة الصلاة ، وكلاهما ممّا يوجب الغسل فيه ، وكذا تفريقهم بين المذي والبول والمني في الغسل ومخرجها واحد ؟!
  وحرّموا النظر إلى شعر المرأة وأباحوا النظر إلى وجهها ، وسوّوا بين قاتل الصيد عمداً وخطأً ، وفرّقوا بينهما في قاتل النفس (3).
  ألا يكون القياس مبتنياً على الظنّ ، والشارع قد نهى عن اتّباعه بقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ) (4)؟! ولقوله عزّ وجلّ: (إن يتّبعون إلاّ

------------------
(1) المعجم الكبير للطبرانيّ 1 : 72 ، وانظر : جامع بيان العلم وفضله.
(2) شرح النهج 11: 102.
(3) مناظرات في الشريعة الاِسلاميّة بين ابن حزم والباجيّ: 416 عن الاَحكام لابن حزم.
(4) الاِسراء : 36 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 145 _

  الظّنّ وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئاً) (1).
  أليس القياس مُبْتنياً على اختلاف الاَنظار في تعليل الاَحكام ، والشرع لاتناقض بين أحكامه ؟
  قال الوافي المهدي: وقد استعمل الصحابة (رضي الله عنهم) القياس ، فقد قاسوا خلافة أبي بكر لرسول الله بعد موته على إنابته في الصلاة حين مرض الرسول مرضه الاَخير ، قائلين : (رضيه رسول الله لاَمر ديننا ، أفلا يرضاه لاَمر دُنيانا) ؟! وقد قاس أبو بكر الزكاة على الصلاة وقال: لاَُقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة ، وقاس أبو بكر كذلك العهد على العقد حينما عهد إلى عمر بالخلافة من بعده ...) (2).
  إن التفصيل في مثل هذه الاَُمور يستدعي مزيداً من الوقوف عندها ، لكنّا نكتفي بهذا القدر ليكون القارىَ على صورة من الاتّجاهات الفكريّة السائدة في الصدر الاِسلاميّ الاَوّل ، وليتعرّف على جذور بعض الاَُصول عند النهجين.

  هذا وأنّ الاِمام الصادق كان قد بيّن سبب لجوء الشيخين ـ ومن حذا حذوهما ـ إلى الرأي والقياس ، فقد وردت عنه عدّة روايات في هذا السياق ، منها:
  ما حكاه القاضي نعمان بن محمّد بن منصور المغربيّ ـ قاضي مصر:
  (أنّ سائلاً سأله فقال: يا ابن رسول الله ، من أين اختلفت هذه الاَُمّة فيما اختلفت فيه من القضايا والاَحكام [من الاِحلال والاِحرام] ودينهم واحد ، ونبيّهم واحد ؟
  فقال عليه السلام: هل علمت أنّهم اختلفوا في ذلك أيّام حياة رسول الله (ص) ؟

------------------
(1) النجم : 28 .
(2) الاجتهاد في الشريعة الاِسلامية: 63.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 146 _

  فقال : لا ، وكيف يختلفون وهم يردّون إليه ما جهلوه واختلفوا فيه ؟!
  فقال : وكذلك ، لو أقاموا فيه بعده مَن أمَرهم بالاَخذ عنه لم يختلفوا ، ولكنَّهم أقاموا فيه مَن لم يعرف كلّ ما ورد عليه ، فَرَدُّوه إلى الصحابة ، يسألونهم عنه ، فاختلفوا في الجواب ، فكان سبب الاختلاف ، ولو كان الجواب عن واحد والقصد في السؤال عن واحد كما كان ذلك لرسول الله (ص) لميكن الاختلاف) (1) .
  وجاء في تفسير العيّاشيّ ، والخبر طويل نقتطف منه هذا المقطع: (فظنّ هؤلاء الذي يدّعون أنّهم فقهاء علماء ، قد أثبتوا جميع الفقه والدين ممّا تحتاج إليه الاَُمّة!!
  وليس كلّ علم رسول الله عَلِموُه ، ولا صار إليهم من رسول الله (ص) ولاعرفوه.
  وذلك أنّ الشيء من الحلال والحرام والاَحكام ، يَرِدُ عليهم فيسألون عنه ، ولايكون عندهم فيه أثر من رسول الله (ص) ، ويستحيُون أن ينسبهم الناس إلى الجهل ، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبون ، فيطلب العلم من معدنه ، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله ، وتركوا الآثار ودانوا بالبدع ، وقد قال رسول الله: (كلّ بدعة ضلالة) ، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن الشيء من دين الله فلميكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولي الاَمر منهم ، لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد ...) (2).
  وأخرج القاضي نعمان بسنده عن محمّد بن قيس ، عن أبيه قال : كنّا عند الاَعمش فتذاكرنا الاختلاف ، فقال : أنا أعلم من أين وقع الاختلاف.
  قلت : من أين وقع ؟

------------------
(1) شرح الاَخبار ، للقاضي نعمان 1: 90.
(2) تفسير العيّاشيّ 2 : 33 (1) 332 وعنه في وسائل الشيعة 27 : 61 ، والبرهان 2: 476|6 وبحار الاَنوار 5 : 297 ، وفي كتاب (اختلاف أُصول المذهب) للقاضي نعمان ، طبعه بدار الاَندلس بيروت 1973م (... وقد سئل أبو عبد الله جعفر بن محمّد عن علّة اختلاف الناس بعد رسول الله وكيف يختلفون بعد رسول الله...).

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 147 _

  قال : ليس هذا موضع ذكر ذلك.
  قال : فأتيته بعد ذلك فخلوت به ، فقلت : ذكرنا الاختلاف الواقع ، وذكرت أنّك تعلم من أين وقع ، فسألتك عن ذلك ، فقلت : ليس هذا موضع ذلك ، وقد جئتك خالياً ، فأخبرني من أين وقع الاختلاف.
  قال : نعم ، وَليَ أمر هذه الاَُمة مَنْ لم يكن عنده علم ، فَسُئل فسأل الناس فاختلفوا (1).

  وقد أشار ابن حزم وغيره من الاَعلام إلى أنّ الحياة وضنك العيش كانا لايسمحان للصحابة بالاستزادة من علم الرسول ، فقال:
  (وقد علم كلّ أحد أنّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حوالَي رسول الله بالمدينة مُجتمعين ، وكانوا ذَوي معايشَ يطلبونها ، وفي ضنك من القُوت شديد ـ قد جاء ذلك منصوصاً ـ وأنّ النبيّ وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم فكانوا بين متحرّف في الاَسواق ، وبين من هو قائم على نخله ، ويحضر رسول الله في كلّ وقت منهم الطائفة ، إذا وجدوا أدنى فراغ ممّا هم بسبيله .
  هذا ما لايستطيع أحد أن ينكره ، وقد ذكر ذلك أبو هريرة ، فقال : إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفق بالاَسواق ، وإن إخواني من الاَنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم ، وكنتُ امرءاً مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني ، وقد أقرّ بذلك عمر فقال : فاتَني هذا من حديث رسول الله ، ألهاني الصَّفق في الاَسواق ...) (2).
  وجاء عنه أنّه كان يتناوب النُّزول إلى رسول الله للاستزادة منه مع أخ له نِزاريّ ، فيومٌ كان هو ينزل لاَخذ الاَحكام ، أمّا اليومُ الآخر فكان حصّة الآخر النِّزاريّ.

------------------
(1) شرح الاَخبار للقاضي نعمان 1: 196.
(2) الاِحكام في أُصول الاَحكام ، لابن حزم 2: 254.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 148 _

  وبهذا عرفت أنّ النصوص وضّحت أمراً آخر غير ما هو في مخيلتنا ، وهو أنّ الشيخين كانا يهتمّان بأمر التجارة أكثر من الاستزادة من علم الرسول ، وفي قبال ذلك نرى وجود صحابة قد دعا لهم رسول الله (ص) بالعلم والفهم كقوله لابن مسعود : إنَّك غلام مُعَلَّم ، ودعائه لمعاذ وابن عبّاس بقوله : اللّهمّ فقّهه في الدين ، وغيرهم فمن أُولئك عليّ بن أبي طالب فَقَد نصَّ في أكثر من مرّة على أنّه عرف جميع علم الرسول واختصّ به ، وأنّه كان يخلو برسول الله في اليوم مرّتين صباحاً ومساء وكان يُناجيه ، حتّى جاء عنه : سَلُوني عن كتاب الله ، فإنّه ليس من آية إلاّ وقد عرفتُ بِلَيلٍ نَزَلت أم بنهار ، في سهل أم في جبل.
  ولتأكيد الموضوع خُذْ نصوصاً أُخرى:
  أخرج البخاريّ ، عن عُبَيد بن عُمَير : أنّ أبا موسى استأذن على عمر ثلاثاً ، فكأنّه وجده مشغولاً ، فرجع ، فقال عمر : ألم تسمع صوت عبداللهبن قيس ـ يعني به أبا موسى ـ ؟ ائذنوا له ، فدعي به فقال : ما حَمَلك على ما صنعت ؟
  قال : إنّا كنّا نؤمر بهذا.
  قال : لَتُقِيمَنّ على هذا بيِّنةً أو لاَفعلنّ ـ وفي لفظ آخر : لاَُوجِعَنّ ظهرَك وبطنك فخرج ، فانطلق على مجلس من الاَنصار ، فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلاّ أصغرنا.
  فقام أبو سعيد : فقال: كنّا نُؤمر بهذا.
  فقال عمر : خفي عليّ هذا من أمر رسول الله (ص) ، ألهاني عنه الصَّفق بالاَسواق (1).
  وعلَّق النوويّ على كلام أبي سعيد بقوله : فمعناه أنّ هذا الحديث مشهور بيننا ، معروف لكبارنا وصغارنا ، حتّى أنّ أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله.
  وقد أنزل سُبحانه آيات في ذلك منها قوله تعالى : (فَلاَ تَدْخُلُوها حتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) (2)و (إلاّ أن يُؤْذَنَ) (3).

------------------
(1) مسند أحمد 4: 400 ، صحيح البخاريّ 9: 133.
(2) النور: 28 .
(3) الاَحزاب: 53.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 149 _

  وأنّ الاستئذان قبل أنْ يكون أمراً إلهيّاً فهو خُلُق إنسانيّ.
وليتني أعرف سبب تهديد أبي موسى بالضرب ، وهل التثبُّت في الحديث يستوجب ذلك ؟
  فلو لم يشهد أبو سعيد الخدريّ بنهي النبيّ (ص) ، وأنّه لم يدخل عليه إلاّ بعد الاستئذان ، فماذا كان يفعل بأبي موسى ؟!
  أَلا يشكّك هذا الموقف من الخليفة ، فيما قيل عن عدالة الصحابة ؟
  فلو كان أبو موسى صحابيّاً عدلاً ، فما معنى التثبُّت ؟
  ولماذا لا يتأنَّى الخليفة في إصدار أحكامه على الصحابة ولايتثبَّت فيما يقول ؟
  ولو تَنَزَّلنْا وقبلنا أنّ الخليفة كان يريد التثبُّت في هذا الخبر ، فأيّ معنىً للخبر الآتي ؟!
  نقل الدواليبيّ في المدخل إلى علم أُصول الفقه ، عن أبي عبيدبن سلاّم في كتاب (الاَموال) فقال : (أتى أعرابيّ عمرَ ، فقال : يا أمير المؤمنين! بلادنا قاتَلْنا عليها في الجاهليّة وأسلمنا عليها في الاِسلام ، علامَ تحميها ؟
  قال: فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه ، وكان إذا كربه أمر فَتَل شاربه ونفخ (1) ، فلمّا رأى الاَعرابيّ ما به جعل يردّد ذلك عليه.
  فقال ـ عمر متمسكّاً في ذلك بفكرة المصلحة وحدها ، من غير بحث عن سند من نصّ قرآنيّ أو سُنّة نبويّة ـ : (المال مال الله والعباد عباد الله ، واللهِ لولا ما أحمل عليه في سبيل الله...) (2).
  وأخرج الحاكم في المستدرك والبيهقيّ في السُّنن والقُرطبيّ في تفسيره

------------------
(1) في المعجم الكبير 1: 66 رقم الحديث 54 ، وتاريخ المدينة المنورة 3: 839. واللفظ للاَوّل : (عن زيد بن أسلم ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير: إنّ عمر بن الخطّاب كان إذا غضب فتل شاربه ونفخ).
(2) الاجتهاد في الشريعة الاِسلاميّة للوافي المهدي: 74 عن المدخل إلى علم أُصول الفقه: ص 100 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 150 _

  عن بجالة : أنّ عمر بن الخطّاب مرّ بغلام وهو يقرأ في المصحف: (النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أُمّهاتهم ، وهو أب لهم).
  فقال : يا غلام حُكَّها!
  فقال : هذا مصحف أُبيّ.
  فَذَهَبَ إليه فسأله.
  فقال له أُبيّ : إنّه كان يُلهيني القرآن ، ويُلهيك الصَّفْق بالاَسواق ، وأغلظ لعمر (1).
  وفي كنز العمّال: قرأ أُبيّ بن كعب (ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنّه كان فاحشةً ومَقْتاً وساءَ سبيلا ، إلاّ من تاب فإنّ الله كان غفوراً رحيما) ، فذُكِر لعمر فأتاه ، فسأله عنها فقال : أخذتُها من فِي رسول الله ، وليس لك عمل إلاّ الصَّفْق بالبقيع (2).
  وفي نصّ ثالث : أنّ عمر سمع رجلاً يقرأ بالواو ، فقال: مَنْ أقرأك ؟
  قال أُبيّ.
  فدعاه ، فقال أُبيّ: أقْرَأنِيه رسولُ الله ، وإنّك لتَبيعُ القرظ بالبقيع ، فقال: صدقت ، وإن شئت قلت : شهدنا (3).
  وعن إبي إدريس الخولانيّ ، قال: كان أُبيّ يقرأ : (إذ جَعَل الذين كفروا في قُلوبِهمُ الحَميّةَ حميّة الجاهليّة ، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام ، فأنزلَ اللهُ سكِينَتَهُ على رسولهِ) فبلغ ذلك عمر ، فاشتدّ ، فبعث إليه ، فدخل عليه ، فدعا ناساً من أصحابه ، فيهم : زيد بن ثابت ، فقال : من يقرأ منكم سورة الفتح ؟
  فقرأ زيد على قراءتنا اليوم ، فغلّظ له عمر.
  فقال أُبيّ: أأتكلم ؟
  قال : تكلّم.

------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3: 305 ، السنن الكبرى 7: 69 ، تفسير القرطبيّ 14: 125 ـ 126.
(2) الدرّ المنثور 4: 179 ، كنز العمّال 2: 568|4744.
(3) الكشّاف 2: 304 ، المستدرك على الصحيحين 3: 305 ، الدرّ المنثور 3: 269.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 151 _

  قال: لقد علمتَ أنّي كنت أدخل على النبيّ ويُقرئني وأنت بالباب ، فإذا أحببت أن أقري الناس على ما أقرأني أقرأتُ ، وإلاّ لم أقرأ حرفاً ما حييت!
  قال: بل أَقْرِىَ الناس (1).
  وفي لفظ آخر: قال أُبيّ: واللهِ يا عمر إنّك تعلم أنّي كنت أحضر وتَغيبون ، وأُدعى وتُحْجَبون ويُصنع لي ، واللهِ لئن أحببتَ لاَلزمنّ بيتي ، فلا أُحدّث أحداً بشيء (2) .
  قد يتصوّر القارىَ ـ عند وقوفه على الاَخبار السابقة ـ أنّ أُبيّ بن كعب هو ممَّن يقول بتحريف القرآن ، لاَنّ قراءته تخالف قراءتنا اليوم ، وأنّ عمربن الخطّاب جاء لِيُصَحِّح له قراءته ، لكنّ حقيقة الاَمر ليست كذلك ، حيث جاء في صحيح البخاريّ ، كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب أُبيّ بن كعب ، أنَّ النبيّ قرأ عليه القرآن ، فعن أنس بن مالك قال : قال النبيّ لاَُبي : إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك (لم يكن الذين كفروا ...) قال: وسمّاني ؟ قال : نعم ، فبكى.
  و إنّ توضيحنا لمثله قد يخرجنا عمّا نريد من الاستشهاد به وهو: أنّ علم الخليفة لميكن كما حاول البعض تصويره ، إذ كان يقضي أغلب أوقاته في السوق والبقيع ، ولميختصّ بالنبيّ ، بل كان يتناوب النُّزول إليه (ص) يوماً فيوماً ، وثبت عنه القول: (وكان يلهيني الصَّفق بالاَسواق) أو قول أُبيّ له (وكان يُلهيك الصَّفق في الاَسواق) ، وفي ثالث (إنّك تَبِيع القَرَْظَ بالبقيع).
  إنّ التصريح بهذا الرأي لا يعني الاِزراء بالخليفة ، بل هو تبيان للحالة التي كان يعيشها الخليفة والمسلمون في الصدر الاَوَّل بعيداً عمّا رُسِمَ لهم متأخِّراً من هالة ، والكلام عن أُبيّ وقراءته ، له مجال آخَر.
  إنَّ ما أُثِرَ عن الخليفة من حنكة في فتوحاته ولياقاته العسكريّة شيء ، وبيان دوره في منع تدوين حديث رسول الله وأمره بحرق المدوّنات شيء آخر (3).

------------------
(1) الدرّ المنثور 6: 79.
(2) تفسير القرآن العظيم 4: 314.
(3) انظر تاريخ التمدّن الاِسلاميّ لجرجي زيدان ـ (حرق مكتبة الاِسكندريّة).

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 152 _

  ونحن في الوقت الذي نُشِيد بالفتوحات الاِسلاميّة لا نرتضي ما أصدره من أوامر في الاِقلال من الحديث أو منع تدوينه!
  نعم ، قد خلط الكثير من الاَعلام بين هاتين الناحيتين ، فإنّك إذا اعترضت على دوره في الاِفتاء أجابوك بفتوحاته ، إنّ هذا ليدلُّ على تفكير غائم تنقصه الدقّة والتمييز.
  إنّ اللياقة الشخصيّة في الاِدارة العسكريّة ، لا تعني بالضرورة القُدرة على امتلاك ناصية الاِفتاء.
  والدفاع عن حياض الدولة وتوسيع رقعة الخلافة ، هي ممّا يطلبه الخليفة وممّا يعود عليه بالنَّفع كما يعود على المسلمين ولا علاقة لهذا بالتكوين الثقافيّ للشخصيّة ، فقد أطبق التاريخ على سموّ ورفعة موقف المعتصم حين استغاثت باسمه امرأة من المسلمين ، لكنّ ذلك لم يمنع التاريخ من أن يشهد بأنّ المعتصم كان قليل الثقافة لا يملك رصيداً من العلم والفقه.
  إلى هنا برزت أسماء آخرين من الذين خالفوا فقه عمر وآرائه في الصدر الاَوّل الاِسلاميّ ، هم:
  13 ـ عمّار بن ياسر.
  14 ـ أبو سعيد الخدريّ والاَنصار.
  15 ـ أُبيّ بن كعب.